البغاء

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
البغاء

بقلم / الإمام حسن البنا

ما رأيت كلمة تضم حروفها من معانى الإيلام والإيذاء، والأضرار والبلاء ما تضمه حروف هذه الكلمة البغيضة البشعة، ولولا أن الطبيب كتب عليه أن يتناول بمشرطه الصديد والقيح، ويخوض به بين الفرث والدم ما أبحت لقلمى ككاتب أن يكتبها، ولا للسانى كواعظ أن ينطق بها، فهى كلمة قد جمعت كل معانى الحطة والأسى والإيلام والأذى فى حروف أربعة، وإن أسعد أيام مصر والأمم الشرقية هو اليوم الذى تحذف فيه هذه الكلمة من قوانينها أولاً، فتخفى بعد ذلك عن أسماع الناس وألسنتهم، ولعلها تنضمر بالإهمال حتى تموت من قاموس اللغة غير مأسوف عليها.

لقد نال خصوم الشرق من الشرق كثيرًا، ولقد عاثوا فيه الفساد، ولقد أذلوا أبناءه بكل ما عرفوا من صنوف الإذلال، ولقد حاطوهم بصنوف الرزايا والنكبات، ولا أظن أن فى ذلك كله ما هو أشد ولا أنكى من إباحة الزنا وحماية البغاء وهدر الأعراض، وما كانت النفس الشرقية العفيفة الأبية لتقبل أن يحل بينها هذا الضيف الثقيل من اللوائح والنظم، لولا أن خصوم الشرق مخادعون ختالون.

استطاعوا بدهائهم أن يخدعوا الشرقى عن دينه وعرضه، وأن يحتجوا أمامه بأن هذه البؤر لم تحفر له ولكن للأجانب عنه الذين يرون ذلك ضرورة لازمة لهم، حتى إذا سلم بأن توقد النار إلى جوار بيته ناله أولاً دخانها،

ثم اتصل به بعد ذلك شررها، ثم استشرت وامتدت فإذا بها تلتهم البيت بما فيه، وإذا بهم بعد أن استمكن لهم الأمر ونجحت الحيلة يرمون هؤلاء الشرقيين بدائهم ويعيبون عليهم ما كانوا هم أصله ومصدره ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنْكَ﴾[الحشر: 16].

لست مبالغًا حين أصارح القراء الكرام بأن هذه الكلمة إن كتبتها أو تلوتها اهتزت لها أعصابى واضطربت مفاصلى، وتمثل أمامى ما تحويه من معانى البؤس والشر والمسكنة معًا، فأسخط تارة وأشفق أخرى وأنا فى كلتا الحالين آسف حزين.

البغاء أقوى معول يهدم كيان الأسرة ويفكك رابطتها، ويأتى على بنائها من أساسه، ويبدل هناءتها آلامًا وسعادتها جحيمًا، وحبها بغضًا وانتقامًا ويعبث بحرمتها وقدسيتها وينال من كرامتها وعزتها، إنه يعطل تكوين الأسر ويحول بين الشبان والزواج، فهو فى الوقت الذى يفكك فيه الأسر القائمة ويقضى عليها بما يلقى فى نفوس أفرادها من شكوك وريب وظنون وتهم يحول دون تكوين أسر جديدة، ويمنع الشاب أن يتزوج وأن يكون أبًا رحيمًا وزوجًا مخلصًا، فهى سلاح ذو حدين يقطع روابط الأسر أولاً وأخيرًا، وماذا يبقى للأمة من قوة إذا تهدمت الأسر وانحلت روابطها وتحطمت قواها وهل الأمة إلا مجموعة أسر؟!

والبغاء دركة منحطة ومنزلة سفلى لا تليق بالإنسانية الكريمة التى شرفها الله وفضلها على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأنت ترى -عافاك الله- أن الحيوان الراقى الفصيلة يأنف هذه الإباحة فى الأعراض، ويغار الإلف منه على إلفه ويذود عن حماه، فلا يقتحمه سواه، ومن ذا الذى يستطيع أن يدخل عرين الأسد ليقرب لبؤته ثم لا تكون معركة حامية وموقعة دامية يسلم فيها الشرف الرفيع، وهل رأيت الحمام حين يحمى أنثاه فلا يحوم حولها غيره ولا تمتد إليها عين غير عينه؟

العرض هو أغلى شىء فى هذه الحياة، أغلى من المال وأغلى من الدم، فإن المال تنفقه فتعوضه، والدم تبذله فى سبيل العرض فتحمد على هذا البذل وتثاب، ولكن ما سمعنا ولا قرأنا أن عرضًا ابتذل فعوض أو شخصًا فرط فيه فلم يُلم، أو ليس الشرف والخلود طيب الأعراق وطهارة الأعراض؟ أوليس النبل والكرامة والعزة والفضيلة وما إلى ذلك من ألقاب السؤود والمجد كلها لا تستقيم لأحد أو تتم له إلا أن يكون وافر العرض طاهر الذيل؟

أدرك الحيوان الراقى هذا بفطرته فقام يحتفظ بعرضه ويعتز به ويذود عنه، فأية إنسانية هذه التى ترضى أن تكون أقل من الحيوان؟

مساكين ضحايا البغاء من رجال ونساء، إنهم رضوا بأن يكونوا كالأنعام بل هم أضل، إنهم فقدوا أنبل معانى الإنسانية وأبهج صور الفضيلة، إنهم فقدوا الطهر الرائع الجميل وتدنسوا بأقذار هذا الخلق الوبيل.

وأيهما خير للرجل البغى أن يجد أمامه امرأة حرة طاهرة قاصرة الطرف عفيفة النفس تقنع منه بالقليل وتعطيه من نفسها الكثير، وتساهمه سراءه وضراه، وتكون معه فى المبسط والمكره، ويعرف بها لذة الأسرة ومعنى الرجولة الكاملة، أم تلك الخليعة المستهترة الزائغة العين الطامحة النفس، التى تسلبه كل شىء: عرضه وماله وقلبه ودمه ثم لا تعطيه من نفسها شيئًا؟ إنها لغيره كما هى له، وهى لكل منهما على قدر ما تستلب منه.

اليوم عندك دلها وحديثها

وغدًا لغيرك جيدها والمعصم

ولو كان قائل هذا البيت حضر ذلك العصر الأغبر الذى أبيح فيه البغاء وتظرف الناس فيه بالفحشاء لعدل رأيه ولقال: إنها تكون للجميع فى ساعة واحدة.

وأيهما خير للمرأة البغى أن تجد أمامها زوجًا كريمًا رحيمًا يهب لها قلبه ويحوطها برعايته ويذود عنها غوائل السوء، وتذوق به لذة الأنس ويرفعها إلى شرف الأمومة، أم تظل سلعة فى سوق الرذيلة تتقاذفها أيدى العابثين وتتدافعها شهوات الفاجرين، حتى إذا قضى أحدهم لبانته. لقاء دراهم معدودات نبذها نبذ النواة تندب شرفها وعرضها، ولن تحصل عليه ولو بذلت ملء الأرض ذهبًا؟

هذا تدهور كبير وانحطاط خلقى ليس بعده انحطاط، وهدر لكرامة الإنسانية لا يتفق مع مطالب الأمم الحية اليقظة التى تريد تحقيق الآمال، وتحطيم شرف النفوس يجعلها لا تصلح بعد ذلك لشىء أبدًا، ولا تسمو إلى غاية نبيلة ولا تجدى فى طريق شريف.

البغاء حبالة. الجريمة وعش الشيطان لا يزال بمن يرتادون أماكنه يزين لهم أنواع الجرائم ويدفعهم إلى المنكرات والفواحش، ويحضهم على الموبقات المهلكات فيأتى بذلك على ما بقى من شعورهم إن كان ثم شىء فلا يتخرجون فى هذه المدرسة الوبيلة. إلا على أسوأ الحالات، وهل تجد دور البغاء إلا مأوى الشريرين ووكر المجرمين ومخابئ السموم ومثاوى الرذائل، ومجامع المؤامرات التى تحاك فيهم خيوط الجرائم؟

لو ذهبت أعدد لك ما يتجسم فى هذه الكلمة من المهالك لاستغرقت هذا العدد، بل وأعدادًا بعد ذلك، وإن الكتابة فى هذا المعنى لثقيلة علىّ مؤلمة لنفسى فاعفنى وقاك الله السوء، وكثير على بلد يتزعم العالم الإسلامى أن يعترف قانونه بهذا المنكر، وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم، وما أجمل أن تتعاون قوى الأمة على إنقاذها من هذا الداء الوبيل.،

والقضاء عليه بتشريع صارم حاسم يردع ويرد عادية المعتدى ويحقق أوامر الله، وإن حدًا من حدود الإسلام يقام فيه كل الكفاية لإراحة الناس من كل هذا البلاء، فهل يقيم الناس حدود الله؟

ذلك ما نسأل الله أن يرينا -فى القريب- إياه.


المصدر: جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (33)، السنة الثانية، 13رمضان 1353ه 20ديسمبر 1934م، ص(11-13).