التأصيل الشرعي للعمل السياسي للمسلمين في أوروبا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
التأصيل الشرعي للعمل السياسي للمسلمين في أوروبا


بقلم / المستشار الشيخ فيصل مولوي


المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :

يعيش في أوروبا الآن أكثر من ثلاثين مليون مسلم يتوزّعون إلى مجموعات ثلاثة :

1-المسلمون الأصليون وهم شعوب البوسنة وألبانيا وكوسوفا ومقدونيا وبلغاريا ، وأعداد قليلة من الشعوب الأوروبية الأخرى الذين اعتنقوا الإسلام .

2-المسلمون من أبناء البلاد الإسلامية الذين هاجروا إلى أوروبا لأسباب مختلفة ، واستقرّوا فيها بصورة دائمة ، وحصل بعضهم على جنسية أوروبية ، أما أولادهم فهم جميعاً أوروبيو الجنسية .

3-المهاجرون من البلاد الإسلامية ممّن لم يحصلوا على الجنسية الأوروبية ، وهؤلاء قد تكون إقامتهم دائمة أو مؤقتة ، وهم يشكّلون الشريحة الأقلّ عدداً والتي لا تزيد عن عشر العدد الإجمالي للمسلمين .

هؤلاء المسلمين يعودون في أصولهم إلى أعراق مختلفة ، وإلى ثقافات متنوعة ، وإلى مذاهب متعددة ، فالخلافات بينهم كثيرة ومتشعبة ، لكن وجودهم في أوروبا يفرض عليهم جميعاً ظروفاً جديدة وتحديات كبيرة لا يمكن مواجهتها إلا بتجاوز الخلافات القديمة ، مع الفهم العميق للمجتمع الأوروبي الذي يعيشون فيه ، ومع فقه متجدد يلتزم بالثوابت ويعالج الواقع .

إن المسلمين يتعرضون إلى محاولة تذويبهم تحت ستار الاندماج ، في الوقت الذي لا تزال أكثر الدول الأوروبية لا تعترف بالإسلام اعترافاً قانونياً ، ولا تعامل المجموعة الإسلامية كشريحة شرعية معترف بها ،وإن كانت جميع هذه الدول تتعامل مع المسلمين بقدر من التسامح يزيد أو ينقص .

إن هذا البحث يهدف أولاً إلى تأصيل العمل السياسي الإسلامي بشكل مطلق ، ثم إلى تأصيله بالنسبة للمسلمين في أوروبا ، مع بيان الحكم الشرعي في أهم المسائل السياسية المطروحة عليهم .

الفصل الأول : التعريف والشرح

المبحث الأول : معنى السياسة لغة :

السياسة : القيام على الشيء بما يصلحه (1) . وهي مشتقّة من السوس وهو الرئاسة . وإذا رأَّس القوم أحدهم قيل : سوَّسوه . وفي الحديث : « كَانََ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسُوسُهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ » (2) . وساس الدّابة : يسوسها سياسة قام على شؤونها وروّضها . وقد ذكرت أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تخدم الزبير – زوجها – « وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ كُنْتُ أَسُوسُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْخِدْمَةِ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ » (3) . وساس الأمر سياسة إذا دبَّره . قالت عائشة عن حديث الإفك : « ... وَكَانَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِسْطَحٌ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسُوسُهُ وَيَجْمَعُهُ ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ... » (4) .

فالسياسة في اللغة تدلّ على تدبير الأمور ، وهي تتعلّق بالفرد وبالجماعة .

فلكلّ إنسان سياسته في تدبير أموره الخاصة من إشباع حاجاته ، أو استيفاء حقوقه ، أو القيام بواجباته ، أو تدبير معاشه . ولكل جماعة سياستها في تدبير شؤونها وفي التعامل مع الجماعات الأخرى .

المبحث الثاني : معنى السياسة في الاصطلاح العام :

السياسة في الاصطلاح هي تدبير شؤون الجماعة من الناس .

-عرّفها المقريزي بأنها : ( القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال ) (5) .

-وعرّفها البجيرمي بأنها : ( إصلاح أمور الرعية ، وتدبير أمورهم ) (6) .

-وعرّفها أندريه هوريو بأنها : ( البحث عن الصالح والمفيد للمجتمع ) (7) وهذا يشمل أساساً المجتمع المحدد في إطار دولة معيّنة ، كما يشمل أنواعاً أخرى من المجتمعات كالأحزاب والنقابات والكنائس والجماعات وغيرها فكلّها ظاهرات ذات طابع سياسي .


المبحث الثالث : معنى السياسة في الاصطلاح الشرعي :

أطلق العلماء على السياسة عدّة أسماء اصطلاحية

-فسماها بعضهم : ” الأحكام السلطانية “ (8) .

-وسماها غيرهم : ” السياسة المدنية “ (9) .

-لكن الاصطلاح الذي ساد وانتشر هو : ( السياسة الشرعية ) وقد بدأ به ابن تيمية ثم ابن القيم ثم انتشر بين العلماء حتى أصبح في هذا العصر عنواناً لكثير من الكتب المنشورة : ( عبد الرحمن تاج ، عبد الوهاب خلاف ، يوسف القرضاوي وغيرهم ) .

وقد اختلف العلماء في تعريف السياسة الشرعية :

-فقال الغزالي وابن عابدين هي : ( استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة ) (10) .

-وعرّفها ابن نجيم بأنها : ( فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد في ذلك الفعل دليل جزئي ) (11) .

-ويفرّق ابن خلدون بين السياسة بالمعنى العام ويسمّيها السياسة العقلية ، وهي القوانين التي يفرضها العقلاء لانتظام الاجتماع البشري ، ويعتبر الملك السياسي هو : ( حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار ) .

أما السياسة الشرعية عنده فهي : ( مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها ، وهي نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، لذلك فهو يعتبر مهمّة الخلافة : ( حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية ) ويعرّفها بأنها : ( خلافة من صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ) (12) .

انطلاقاً من ذلك ، فإني أرى تعريف السياسة الشرعية بأنها :

( تدبير شؤون الجماعة وفق الأحكام الشرعية )

بهذا التعريف نكون قد نظرنا إلى حاجة كل الجماعات المسلمة إلى تدبير شؤونها وفق أحكام الشريعة الغرّاء .

فإذا كانت الجماعة المسلمة مثلاً حركة صوفية تحصر نشاطها في التعبّد والتزكية ولا تتدخّل في الحركة السياسية ، وإذا كانت حركة جهادية تحصر نشاطاتها في قتال المحتلّين ، وإذا كانت جمعية خيرية تحصر نشاطها في إغاثة المحتاجين ، فهي في هذه الحالات وفي غيرها تعمل في إطار سياسة اختارتها .

وهي لا تستطيع أن تختار أي سياسة إلاّ إذا كانت متوافقة مع أحكام الشرع . ولذلك فمن الواجب أن تخضع أي جماعة إسلامية لأحكام السياسة الشرعية .

وحتى توصف السياسة بأنها شرعية فإنها لا بد أن تستمدّ من الأحكام الشرعية ، أو على الأقلّ أن تكون متوافقة معها .

والأحكام الشرعية ليست هي ظواهر النصوص ، وإنما هي فهم علل النصوص ، ومعرفة مقاصدها ، وفهم واقع الناس ومعرفة مصالحهم ، إذ لا يمكن لمن يجهل واقع الناس أن يدبّر شؤونهم ، ولا يمكن لمن يجهل علل النصوص ومقاصدها أن تكون سياسته في تدبير شؤون الناس شرعية وصائبة .


المبحث الرابع : السياسة في العصر الحاضر :

بعد التطوّر الكبير الذي عرفته المجتمعات البشرية ، عادت السياسة إلى معناها الشامل ، وهو تدبير شؤون الجماعة ، وأصبح لها في هذا المجال آفاق واسعة نذكر منها :

1-إذا كان الجماعة تشكّل دولة بالمعنى الدستوري ، فإن تدبير شؤونها يعني أولاً إيجاد السلطة التي تقوم بذلك .

وفي هذا المجال فإنّ جميع دول العالم اليوم تحدد في دساتيرها آلية انبثاق السلطة ، وتقسّمها إلى سلطات ثلاث لتمنع الاستبداد الذي يظهر عند تجميع السلطات في يد واحدة .

كما أن أكثر الدساتير اليوم يجعل السلطة مؤسسة جماعية بعد أن كانت سلطة فردية ، وهذا يحتاج إلى تنظيم تفصيلي يضمن فعالية المؤسسة في القيام بواجبات السلطة .

وانطلاقاً من حقّ كلّ مواطن في أن يكون له رأيه في تدبير شؤون الدولة التي ينتمي إليها ، جاء تشريع الأحزاب السياسية التي تحدد نظرتها إلى السلطات وإلى ممارسة واجباتها في تدبير شؤون الناس ، وتنشط للحصول على تأييد الجماهير لها للوصول إلى السلطة .

وحتى تستطيع هذه الأحزاب أن تنجح في مهمتها كان لا بدّ من تشريع وجودها وحماية حريتها وتمكينها من التعبير عن أهدافها ومطالبها من خلال وسائل الإعلام الحديثة .

لذلك نقول أن السياسة الشرعية في هذا العصر لا بدّ أن تتناول كلّ هذه المسائل فهي أساس الحياة السياسية اليوم ، بل لا بدّ أن نتناول هذه الموضوعات بما ذكره فقهاؤنا من أحكام تناسب زمانهم .

أو أن نغفلها بشكل كامل لأنّ فقهاءنا لم يتعرّضوا لها .

2-إذا كانت الجماعة تتألّف من شريحة معيّنة تعيش في إطار دولة تتوافق معها في المبادئ الأساسية فهي تتحرّك وفق القوانين المتعلّقة بها . وليس في حركتها إشكال ذا بال ، وذلك كالأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات وأمثالها . وكلّ منها لها أهداف محددة تسعى لتحقيقها ، ولها سياسة معيّنة تلتزم بها .

3-أما إذا كانت الجماعة تتألّف من شريحة دينية معيّنة – كالمسلمين مثلاً – وتعيش كأقلية في بلاد غير إسلامية ، فإنّ هذا الواقع يطرح عليها إشكاليات كثيرة فيما يتعلّق بتعاملها مع المجتمع ومع الدولة ، وتحتاج إلى تأصيل جديد لأنّ ظروف مثل هذا الواقع اليوم اختلفت بشكل كبير عن الظروف التي عاشها المسلمون في القرون الماضية . وهذا ما سيكون موضوع هذا البحث .

المبحث الخامس : العمل السياسي الإسلامي :

من المعروف أن الإسلام ، وهو رسالة الله تعالى التي بُعِثَ بها محمد r إلى العالمين ، هي منهج حياة كامل يبدأ برعاية الفرد وتصحيح عقيدته وتزكية أخلاقه وتنظيم عمله في عمارة الأرض ، ثمّ يصل إلى رعاية الأسرة منذ نشوئها وتنظيم العلاقات بين الزوجين ، وبينهما وبين الأولاد ، أثناء قيام الزوجية ، وبعد الفراق ، وتنظيم ما ينتج عن الزواج بعد الوفاة .

كما يتناول شؤون الجماعة ، وتنظيم أحوالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وترتيب علاقاتها مع الجماعات الإنسانية الأخرى . قال تعالى : ) ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( [ النحل : 89 ] .

انطلاقاً من هذا الأمر ، المسلَّم به عند المسلمين وعند غيرهم ، تدخل السياسة بجميع معانيها اللغوية والاصطلاحية في منهج الإسلام ، فسياسة الفرد هي أسلوب تعامله مع نفسه وربّه والآخرين ، وسياسة الجماعة هي تنظيم شؤونها . فليس هناك إسلام سياسي وإسلام غير سياسي . بل هذا إسلام واحد السياسة جزء منه .

المبحث الخامس : الموقف أو الرأي السياسي :

من طبيعة المسلم ، بل من طبيعة أي إنسان أن يكون له رأي أو موقف تجاه كل حدث يعلم به ، حتى ولو كان الحدث لا يؤثّر عليه .

عندما يسمع الإنسان باعتداء يقع على أبرياء في فلسطين أو في العراق أو في أمريكا أو أوروبا أو آسيا أو أي مكان فإنّه يتألّم ويستنكر هذا الاعتداء . إنه موقف سياسي قد لا يترتّب عليه عمل ، لكنّه يعبّر عن الفطرة عند الإنسان السوي ، ويعبرّ عن حقيقة الإسلام عند المسلمين .

الموقف أو الرأي هو الفكر السياسي لكلّ مسلم ، في أي مكان وتحت أي ظرف كان ، وهذا رسول الله r في مكة المكرّمة يعاني من المشركين كلّ أنواع التعذيب والإيذاء والضغوط ، وتقع حرب ضروس بين فارس والروم ، فيتنـزل عليه القرآن يتحدّث عن الواقعة ، ويبيّن للمؤمنين موقفهم منها .

قال تعالى : ) الم % غُلِبَتِ الرُّومُ % فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ % فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ % بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( [ الروم : 1-5 ] .

قد يكون موقف المسلم إيجابياً من الحدث ، تأييداً أو معارضة ، وقد يكون سلبيّاً يعبّر عن اللامبالاة . في جميع الحالات هذا الموقف يجب أن يكون ملتزماً بالضوابط الشرعية ، فإذا أحبّ المسلم أو أبغض فيجب أن يكون حبّه وبغضه لله .

وإذا أيَّد أو استنكر فيجب أن يكون تأييده أو استنكاره في حدود الحقّ والعدل .. وهكذا .

المبحث الخامس : العمل السياسي :

هناك فرق كبير بين أن يقدّم الإنسان رأياً سياسياً ، أو يعلن موقفاً من حدث معين ، وبين أن يكون له عمل سياسي .

فالعمل السياسي يقتضي أن يكون هناك مشروع سياسي له أهداف محددة ، وأسلوب معيّن لتحقيق هذه الأهداف ، ووسائل تساعده لتحقيق الأهداف .

قد يكون للإنسان رأي معيّن في الحاكم ، كأن يعتبره مستبداً ، أو فاشلاً في سياسته الاقتصادية ، وقد يعلن هذا الرأي ، لكن هذا لا يكفي لاعتباره عاملاً في الحقل السياسي .

أما إذا وضع مشروعاً لإزاحة هذا الحاكم ، أو للضغط عليه حتى يغير سياسته الاقتصادية ، أو لمحاولة إقناعه بذلك ، فهو في هذه الحالة يعتبر قائماً بعمل سياسي .

وهذا ما يفعله الزعماء السياسيون والأحزاب السياسية ، وربما بعض مؤسسات العمل الأهلي التي تتصدى أحياناً للعمل السياسي .

بناءً على ذلك فإنّ العمل السياسي الإسلامي في العصر الحاضر هو العمل الذي تقوم به مجموعة إسلامية ، عندما تحدد مشروعها السياسي ، وأسلوب عملها لتحقيق هذا المشروع .

الفصل الثاني : المسألة السياسية في الإسلام

الإسلام منهج حياة . وهو بهذا المعنى يعتبر رسالة دينية ( بالمعنى الضيق للدين ، أي العبادات والأخلاق ) ، ومشروعاً سياسياً ( بالاصطلاح المعاصر ) يهدف إلى إصلاح المجتمعات الإنسانية لتكون قادرة على تحقيق المهمّة التي كلّف الله بها الإنسان ، وهي الخلافة في الأرض وعمارتها .

منذ بُعث محمد رسول الله r في مكّة المكرّمة ، كان تركيزه على دعوة الناس للإيمان بالله تعالى وعبادته . لكن المشروع السياسي لم يكن غائباً عنه أبداً ، وكان له هدف واحد هو : تبليغ الدعوة .

وقد استعمل أسلوب السرية في السنوات الأولى حتى لا يستثير الخصوم ، ثمّ جهر بالدعوة واستعمل أسلوب الموعظة الحسنة والإقناع ، ثم لما تألّبت قريش عليه ولجأت إلى الضغط والحصار والتعذيب وحتى القتل ، كانت سياسته : الإصرار على الدعوة وعدم المواجهة المادية : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ... ( [ النساء : 77 ] .

وأخيراً ، وعندما يئس من استجابة قريش لدعوته توجّه إلى القبائل الأخرى ، سواء بالخروج إلى ديارها كما فعل عندما توجه إلى الطائف ، أو بالاتصال بمن يأتي إلى مكّة زائراً كما فعل مع أهل المدينة وغيرهم . وكان يطالب الجميع بالحماية حتى يستطيع تبليغ دعوته للناس . كلّ ذلك يؤكّد أن المشروع السياسي لرسول الله r وللمسلمين في مكة كان يرتكز على تبليغ الدعوة .

كانت الهجرة المباركة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة انتقالاً بالرسالة الدينية من مرحلة العقيدة والبناء الفردي ، إلى مرحلة التشريع وبناء المجتمع .

وكانت الهجرة أيضاً انتقالاً من مشروع سياسي ( هدفه تبليغ الدعوة ) إلى مشروع سياسي آخر تنوعت أهدافه ، من بناء المجتمع الإسلامي الجديد في كيان سياسي مستقل ، إلى تنظيم علاقاته مع الجماعات الأخرى ، سواء في المدينة ( اليهود والمنافقون ) ، أو في الجزيرة العربية ( قريش والقبائل الأخرى ) ، أو خارجها في بلاد الشام وفارس ، ودون أن ننسى أن تبليغ الدعوة بقي محوراً أساسياً في المشروع السياسي الإسلامي ، وهذا ما تجلى في المعاهدات والحروب والرسائل إلى الملوك مما يعتبر أعمالاً سياسية واضحة .

في المدينة المنورة أصبح المسلمون جماعة مستقلة ، تعيش في نطاق كيان سياسي لها فيه سلطة كبيرة ، وإن لم تكن مطلقة ( لوجود اليهود معهم ) .

ولم تعد الرسالة الدينية تتركّز على الدعوة للإيمان ومكارم الأخلاق والعبادات فقط ، وإنما توسّعت لتنظم حياة الجماعة الإسلامية في مرحلتها الجديدة ، فنـزلت آيات الأحكام تنظّم شؤون المجتمع الإسلامي الوليد ، ابتداءً من العائلة وما يتعلّق بها من زواج وطلاق ومواريث وغيرها ، إلى شؤون المجتمع الاقتصادية ، والعلاقات القبلية ، وصولاً إلى تنظيم علاقات السلم والحرب مع الآخرين . ولم يكن المسلمون بحاجة إلى تنظيم شؤون السلطة التي تقودهم ، فقد كان رسول الله r يجمع في شخصيته صفتين أساسيتين :

1- أنه رسول الله الذي يحمل إلى الناس رسالة الإسلامٍ .

2- وأنه في حياته ، وبصفته رسول الله فهو القائد والحاكم وصاحب السلطة السياسية .

وكان المجتمع العربي على درجة كبيرة من البدائية ، يعتمد الحياة القبلية حيث يتمتّع شيخ القبيلة بجميع السلطات .

ولأن الإسلام رسالة الله الخاتمة إلى يوم القيامة ، فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يكون فيها أحكام تفصيلية تتناول تنظيم مسائل السلطة ، واكتفت بتحديد المبادئ الأساسية التي يمكن في ضوئها صياغة التشريعات الدستورية حسب الحاجة ، وبما يتناسب مع تطوّر المجتمعات البشرية .

بعد وفاة رسول الله r ، اكتملت الرسالة الدينية : ) ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا ... ( [ المائدة : 3 ] . وانحصر دور المسلمين فيها بعد ذلك بالفهم والتعليم والاجتهاد ضمن ضوابط أصول الفقه .

أما المشروع السياسي فقد ظهر أمامه تحدّ كبير ومن نوع جديد ، هو المحافظة على الكيان السياسي الذي أوجده رسول الله r للمسلمين .

وهذا يقتضي أولاً تحديد من يخلف الرسول r في ممارسة السلطة ، وكيف يمارس هذه السلطة ، وما هو دور الأمّة في ذلك .

واستطاع المسلمون بسرعة أن يختاروا أبا بكر t خليفة لرسول الله r ، وأعلن هو كيف سيمارس السلطة : « الضعيف فيكم قويّ عندي حتى آخذ له الحقّ ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحقّ . أطيعوني ما أطعت الله فيكم ... » .

وتأكد دور الأمة في الشورى من حيث المبدأ وإن لم تتضح أحكامه التفصيلية . ثم تمّ اختيار عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب y على قاعدة الشورى ، مع اختلاف في كيفية الاختيار ، إلى أن تحوّلت السلطة بعد ذلك إلى ملك وراثي تنافست عليه القبائل المختلفة ، وضاعت عنده حقيقة الشورى .

لكن المشروع السياسي الإسلامي ، رغم تعرّضه لبعض الفشل كان أكثر نجاحاً في محاوره الأخرى ، وقد استطاع المحافظة على الكيان السياسي للأمة الإسلامية ، وعلى قيامها بواجب الدعوة ، وعلى احتكامها للشريعة الإسلامية ، وعلى تطوّر أحكامها الفقهية ، إلى أن انهارت الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وفي بداية القرن العشرين .

يتبيّن من هذا العرض أن المسألة السياسية لصيقة الصلة بالإسلام ولا يمكن فصلها عنه . وقد عبَّر عمر بن الخطاب t عن هذا الأمر أحسن تعبير حين قال : « ... ُ لاَ إِسْلاَمَ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ ، وَلاَ جَمَاعَةَ إِلاَّ بِإِمَارَةٍ وَلاَ إِمَارَةَ إِلاَّ بِطَاعَةٍ ... » (13) . فالإسلام لا يكتمل إلا بجماعة تلتزم به وتدعو إليه . ولا جماعة إلاّ بإمارة وسلطة تقودها ، ولا سلطة إلاّ إذا خضع لها الناس وأطاعوها . فالإمارة والطاعة لا تنفصل عن الإسلام ، وهي أهمّ محاور السياسة والعمل السياسي .


الفصل الثالث : التأصيل الشرعي للعمل السياسي الإسلامي

1- مشروعية العمل السياسي :

بناءً على التعريف المحدد أن السياسة هي : ( تدبير شؤون الجماعة وفق الأحكام الشرعية ) فإننا نقول : أن مشروعية العمل السياسي لم يقع حولها خلاف ، بل إن الإجماع منعقد عليها ، وذلك استناداً إلى :

- نصوص القرآن الكريم الكثيرة التي تحدّثت عن كيفية تدبير شؤون الجماعة ، ووضعت أحكاماً تفصيلية لكثير منها سواء كانت تتعلّق بالأسرة أو بالمجتمع أو بالحاكم أو بالعلاقات الدولية ، ولا أجد حاجة لذكرها فهي معروفة من الجميع .

- نصوص السنّة الصحيحة ، وهي كثيرة جداً سواء في أقوال الرسول r أو في أفعاله ، فقد مارس السياسة بجميع معانيها اللغوية والاصطلاحية ، وكان رئيس دولة يحافظ على رعيته ، ويشرِّع لهم ما يحتاجون إليه ، ويخوض بهم الحروب ، ويعقد باسمهم المعاهدات ، ويعيّن مساعديه من ولاة المناطق أو قادة الجيوش ، ويؤكّد مسؤولية الأمراء : ( فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيّته ) ويبيّن في المئات من الأحاديث الصحيحة واجبات الأمير وحقوقه ، والأخلاق التي يجب أن يتحلى بها ، من الرفق بالرعية والنصح لهم ، والعدل بينهم ، وعدم قبول الهدية منهم ، ويأمر الناس بالطاعة لأمرائهم بالمعروف ، ويبيح لهم المخالفة إذا أُمروا بمعصية ، كما يأمرهم بلزوم الجماعة وترك التفرّق .

وننقل هنا ما ذكره ابن عقيل وابن القيم حول تعريف السياسة ومشروعية العمل السياسي : { وقال ابن عقيل في الفنون : جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الجزم ، ولا يخلو من القول به إمام .

فقال شافعي : لا سياسة إلاّ ما وافق الشرع . فقال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي ، فإن أردت بقولك : ( إلاّ ما وافق الشرع ) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلاّ ما نطق به الشرع ، فغلط وتغليظ للصحابة .. وهذا موضع مزلة أقدام ، ومضلّة أفهام ، وهو مقام ضنك ومعترك صعب ، فرط فيه طائفة ، فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق ، وجرؤا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجة إلى غيرها ، وسدّوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحقّ والتنفيذ له ، وعطّلوها ، مع علمهم وعلم غيرهم قطعاً أنه حقّ مطابق للواقع ، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع .

ولعمر الله أنها لم تناف ما جاء به الرسول ، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم . والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة ، وتقصير في معرفة الواقع ، وتنـزيل أحدهما على الآخر ، فلما رأى ولاة الأمور ذلك ، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلاّ بأمر ما فهمه هؤلاء من الشريعة ، أحدثوا من أوضاع سياستهم شراً طويلاً وفساداً عريضاً ، فتفاقم الأمر وتعذّر استدراكه ، وعزّ على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك ، واستنقاذها من تلك المهالك .

وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة ، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله ، وكلا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله ، وأنزل به كتابه ، فإنّ الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات ، فإذا ظهرت أمارات العدل ، وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثمّ شرع الله ودينه ، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخصّ طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة ، فلا يجعله منها ، ولا يحكم عند وجودها وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له ، فلا يقال أن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل موافقة لما جاء به ، بل هي جزء من أجزائه ، ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصطلحكم ، وإن هي عدل الله ورسوله ، ظهر بهذه الأمارات والعلامات } (14) .

2- الحكم التكليفي بحقّ الأمراء :

أما الحكم التكليفي في ممارسة العمل السياسي في حقّ الأمراء والمسؤولين فهو فرض عين لا نعلم في ذلك خلافاً بين العلماء أو المذاهب ، لكن ظهر الخلاف بينهم حول ما إذا كانت السياسة التي يمارسها الإمام محصورة بتطبيق النصوص الشرعية فقط ، أم أنه يجوز له الاجتهاد في تفسير النصوص أو كيفية تطبيقها ، أو القيام بأعمال جديدة لم تتناولها النصوص . وقد ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن : ( للسلطان سلوك سبيل السياسة في تدبير أمور الناس وتقويم العوج ، ولا تقف السياسة على ما نطق به الشرع ) (15). وقال الحنفية : ( السياسة داخلة تحت قواعد الشرع ، وإن لم ينصّ عليها بخصوصها فإنّ مدار الشريعة – بعد قواعد الإيمان – على حسم مواد الفساد لبقاء العالم ) (16).

وقال القرافي من المالكية : ( إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع ، بل تشهد له الأدلّة وتشهد له القواعد ، ومن أهمها كثرة الفساد وانتشاره ، والمصلحة المرسلة التي قال بها مالك وجمع من العلماء ) (17).

وقال أبو الوفاء بن عقيل من الحنابلة : ( .. ولا تقف السياسة على ما نطق به الشرع ، إذ الخلفاء الراشدون قد قتلوا ومثّلوا وحرّقوا المصاحف ، ونفى عمر نصر بن حجاج خوف فتنة النساء ، واعتبروا ذلك من المصالح المرسلة ) (17).

وقد ذهب الشافعية إلى أن السياسة يجب أن تكون في حدود الشريعة لا تتعداها ، حتى قالوا : ( لا سياسة إلاّ ما وافق الشرع ) .

وقد نسبت الموسوعة الفقهية هذا الرأي إلى المذهب الشافعي وليس هذا دقيقاً .

بل إن مُحقِّقي الشافعية أخذوا بالمصالح المرسلة كغيرهم من المذاهب ، ولا يزال كتاب سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام : ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) يعتبر من أهمّ المراجع الفقهية المعتمدة في تقدير المصلحة المشروع والمفسدة المذمومة ، وفي الموازنة بين المصالح والمفاسد .


3- الحكم التكليفي بحقّ عموم المسلمين :

لم يتحدّث الفقهاء عن الحكم الشرعي في السياسة والعمل السياسي بالنسبة لعموم المسلمين ، لأن أكثرهم كانوا يحصرون هذا الأمر بالسلطان .

لكنّهم جميعاً يتحدّثون عن ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ويعتبره جمهور العلماء فرض كفاية ، بل ذكر النووي وابن حزم الإجماع على وجوبه (19) ويعتبره البعض فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة .

ومما لا شكّ فيه أن العمل السياسي يدخل تحت هذا الباب ، ابتداءً من إعلان الموقف السياسي ، إلى العمل على تحقيق مصالح الناس وإنكار المفاسد والمطالبة بإلغائها ، وصولاً إلى وضع مشروع سياسي متكامل يحقق مصالح المسلمين ويدرأ المفاسد عنهم .

وإقناع المسلمين بهذا المشروع والسعي لتحقيقه ، هو نوع من تحقيق المعروف وإزالة المنكر .

وقد كان المسلمون منذ الصدر الأول مشاركين في العمل السياسي بكلّ أنواعه ، بل كان العلماء دائماً في طليعة الأمّة في هذه المشاركة ، حتى شارك بعضهم في الثورات الشعبية بقصد إزالة المنكر ، والذين لم يشاركوا كان قصدهم عدم الوقوع في منكر أكبر ، هو تمزّق الأمّة وانفراط وحدتها ، فالجميع كانوا أصحاب مشروع سياسي بالمعنى المعاصر ، وإن اختلفت اجتهاداتهم في تفاصيل هذا المشروع .

الهوامش

  • البحث الذي قدمه فضيلته في ندوة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته المنعقدة في مدينة استانبول في تركيا بتاريخ 7-13 جمادى الآخرة سنة 1427ه ، الموافق 3-9 تموز/يوليو 2006م

1.ابن منظور : لسان العرب ج6 .

2.متفق عليه عن أبي هريرة .

3.مسند أحمد 6/352 .

4.رواه الترمذي في تفسير سورة النور .

5.المقريزي : الخطط 2/220- مكتبة المثنى – بغداد .

6.حاشية ابن عابدين 5/15 – طبعة الحلبي .

7.القانون الدستوري والمؤسسات السياسية 1/24 – اندريه هوريو – الأهلية للنشر والتوزيع – بيروت .

8.الماوردي وأبو يعلى وقد ألّف كلّ منهما كتاباً معروفاً بهذا العنوان.

9.أبو البقاء في كتابه الكليات 3/31 وزارة الثقافة دمشق.

10. حاشية ابن عابدين 5/15 طبعة الحلبي – فاتحة العلوم لأبي حامد الغزالي – طبعة القاهرة .

11.مقدمة ابن خلدون.

12.مقدمة ابن خلدون .

13. سنن الدارمي 1/69 – بيروت – دار إحياء السنة النبوية.

14. ابن القيم : الطرق الحكمية ص13 ط السنة المحمدية - القاهرة

15. الموسوعة الفقهية الكويتية – باب سياسة.

16. حاشية ابن عابدين 4/15.

17. ابن فرحون: تبصرة الحكام 2/150 ط الحلبي – القاهرة.

18. ابن مفلح: الفروع 6/115 ط عالم الكتب – بيروت.

19. شرح النووي على صحيح مسلم 2/22.

20. مجلة الرائد عدد 208- 259