التكفير والجاهليّة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
التكفير والجاهليّة
متى يكون الفرد مسلماً ومتى يكون كافراً

بقلم: المستشار الشيخ/ فيصل مولوي

مقدمة

في العدد الخامس عشر من السنة السادسة المنصرمة من "مجلةالشهاب" كتب الأخ ع.

أبو عزّة مقالاً عنوانه (الحركة الإسلامية في الدوامة)؟ ثمّ كتب في العدد السابع عشر الحلقة الثانية من ذلك المقال التي تركّزت على نقد كتاب "معالم في الطريق" للأستاذ الشهيد سيد قطب وأثارت كثيراً من الردود والمناقشات، إلى أن نشر الأخ أبو عزّة في العدد الواحد والعشرين مقالة عن "التكفير والجاهلية" الذي يخلص فيه إلى أنّ سيد قطب رحمه الله يقرّر "أنّ الناس كفّار، وأنّ أوطانهم دار حرب بالنسبة للمجتمع الإسلامي الوليد الذي هو التنظيم الحركي المقترح".

ثمّ أتبع الأستاذ أبو عزّة هذا المقال بمقال آخر في العدد الثاني والعشرين يبيّن فيه آراء بعض أئمّة المسلمين في "قضيّة التكفير"، ثمّ بمقال آخير يبيّن فيه أنّ الشعوب الإسلامية لم تعطِ حكّامها حقّ التشريع برضاها ولكنّها كانت ضحيّة الاستبداد والتضليل.

وقد أثارت هذه المقالات الثلاثة الأخيرة "حول التكفير والجاهلية" ردوداً ومناقشات مختلفة بعضها أراد تبرئة الأستاذ الشهيد من تهمة تكفير الناس.

ونحن سنحاول في هذه الدراسة – بعيداً عن القضايا الجانبية الكثيرة التي أثيرت أثناء المناقشة – أنّ نحدّد بوضوح "موضوع الخلاف" إذ لا يزال يكتنفه كثير من الغموض، كما سنحاول إن شاء الله بيان رأينا الذي نأمل أن يزول معه الخلاف.

وقبل البدء بمعالجة الموضوع نرى من الضروري الإشارة – على سبيل التذكير – إلى "أنّ كلّ إنسان يُؤخذ من قوله ويردّ عليه إلاّ رسول الله " وليس هناك مسلم يعتقد في الشهيد سيد قطب العصمة من الخطأ ولا في غيره من الناس مهما بلغوا من العظمة والإخلاص أو الفهم، فالحقّ أحقّ أن يُتّبع عندما يكون واضحاً بالدليل والبرهان.

إلاّ أنّ هذا لا ينبغي ولا يجوز أن يؤثّر على الاحترام الواجب لقادة الحركة الإسلامية وعظمائها احتراماً لا يقف عند حدود "عدم الشكّ بالنوايا" أو "إحسان الظنّ بهم" إنّما يرتفع من نفوسنا إلى درجة الاطمئنان "ولا نزكّي على الله أحداً".

هذا الاطمئنان بالإضافة إلى حقّ الأخوّة في الله يجعلنا نحمل أقوالهم وأعمالهم في حياتهم وبعد مماتهم على محمل الخير كلّما أمكن ذلك.

مجلة الشهاب العدد الأول من السنة السابعة، أول جمادى الأولى 1393هـ الموافق 1 حزيران 1973م.

الفرد المسلم

متى يكون الفرد مسلماً؟ ومتى يُعتبر كافراً؟

يقول الإمام الشهيد حسن البنا: "لا نكفّر مسلماً – أقرّ بالشهادتين وعمل بمقتضاها وأدّى الفرائض – برأي أو بمعصية إلاّ إن أقرّ بكلمة الكفر أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة أو كذّب صريح القرآن أو فسّره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر".

ولقد اخترنا هذا القول للإمام الشهيد لأنّه يلخّص آراء الأكثريّة الساحقة من الأئمّة والعلماء وهو أنّه متى أقرّ إنسان بالشهادتين دخل في الإسلام، ثمّ يتأكّد إسلامه إذا عمل بمقتضى الشهادتين وأدّى الفرائض.

وليس المقصود هنا أن يعمل كلّ ما تقتضيه الشهادتان وأن يؤدّي جميع الفرائض بدون استثناء لأنّ من يكون كذلك لا يقول عاقل بكفره فضلاً عن أنّ هذا الإنسان لم يوجد ولا يمكن أن يوجد لأنّ الخطأ والتقصير من طبيعة الإنسان.

فالمقصود إذاً أن يعمل المسلم شيئاً من مقتضى الشهادتين وأن يؤدّي شيئاً من الفرائض ولو كان قليلاً لأنّ ترك جميع ما تقتضيه الشهادتان من أعمال وجميع الفرائض ينقض بشكل قطعي الإقرار بالشهادتين ويجعل الإنسان كافراً.

إذاً عندما يقرّ إنسان بالشهادتين ويعمل بعض مقتضاها ويؤدّي بعض فرائضها يكون مسلماً – وهذا حال أكثر المسلمين اليوم – ولا يجوز تكفيره إلاّ بأحد الأسباب التالية:

1 - إذا أقرّ بكلمة الكفر وهذا لا يفعله مسلم يقوم ببعض مقتضى الشهادتين ويؤدّي بعض الفرائض فإن فعله فقد حكم على نفسه بالكفر.

2 - إذا أنكر معلوماً من الدين بالضرورة كأن ينكر تحريم الربا أو وجوب الزكاة وغير ذلك من الأمور التي لا يختلف عليها اثنان.

3 - إذا كذّب صريح القرآن، وليس المقصود هنا أن يكذّب نسبة القرآن إلى الله فهذا ينقض أصل الشهادتين ولكن المقصود أن يكذّب في أحقّية صريح القرآن وصوابه كأن يقول مثلاً إنّ أحكام القرآن لم تعد تصلح لهذا العصر لأنّها جاءت لعصر معيّن، فهو يصدّق أنّها من عند الله ويكذّب في أنّه مأمور بها في هذا العصر كما أمر المسلمون الأوّلون، وهذه هي حال فئة من المسلمين "بالهوية" المخدوعين الذين يؤمنون بغير شريعة القرآن ويدعون لذلك ويدافعون عنه ممّا يجعلهم كافرين وإن كان بعضهم يعتقد – جهلاً – أنّه لا يزال في إطار الإسلام.

4 - إذا فسّر القرآن على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية كمن يقول إنّ قطع يد السارق مثلاً لا يُقصد به القطع الفعلي وإنّما يُقصد منعه من تكرار السرقة عن طريق السجن مثلاً فكأنّه قطع يده.

هذا التفسير يخالف أساليب اللغة العربية التي تمنع حمل الكلام على المعنى المجازي إذا أمكن حمله على المعنى الحقيقي، بالإضافة إلى أنّ هذا التفسير منقوض بفعل رسول الله الذي بيّن أنّ المقصود القطع الفعلي.

5 - إذا عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر، وهو كل عمل يعني تحقّق البنود الأربعة السابقة ولو لم يتكلّم به.

فإذا لم يعلن كفره ولكنّه أعلن إيمانه بالماركسية إيماناً عقائدياً وعمل على نشرها فقد كفر.

وإذا لم يقل إنّ الشريعة قد ذهب أوانها ولكنّه دعا إلى الحكم بغيرها فقد كفر.

ولزياد الوضوح نقول إنّ مسألة التكفير لها وجهان: الوجه الأوّل فقهي بحت، والوجه الثاني حركي.

التكفير من الناحية الفقهية

ذكرنا حدود التكفير عند الإمام البنا رحمه الله وبناءً عليها وعلى أقوال أئمّة المسلمين المستمدّة من كتاب الله وسنّة رسوله نقول إنّ الناس بالنسبة للإسلام أنواع:

1 - منهم من بلغته دعوة الإسلام ولم يؤمن بها فهو كافر.

2 - ومنهم من آمن بها صادقاً في قلبه وأقرّ بالشهادتين بلسانه وسعى للالتزام بالأحكام الشرعية، فهؤلاء مسلمون ولو كان التزامهم بالأحكام الشرعية لا يجاوز واحداً في المائة لأنّه مع وجود الإيمان فإنّ الله تعالى لا يضيع العمل الصالح مهما كان قليلاً ولأنّ رسول الله يقول: «من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنّة حقّ والنّار حقّ، أدخله الله الجنّة على ما كان عليه من عمل» رواه الشيخان.

ومعنى الحديث أنّ مجرّد الإيمان الصادق في القلب والإقرار باللسان يجعل الإنسان مسلماً ويدخله الجنّة مهما كان عمله فإن رجحت أعماله الصالحة دخل الجنّة مباشرة وإن رجحت أعماله السيّئة عُذّب بمقدار ذلك ثمّ دخل الجنّة.

وهذا ما تؤكّده كثير من الأحاديث الصحيحة التي لا نجد ضرورة لسردها حرصاً على الإيجاز.

3 - ومنهم من يقرّ بالشهادتين بلسانه ولكن قلبه غير مؤمن بهما ويظهر الالتزام ببعض الأحكام الشرعية لخداع المسلمين وهؤلاء هم المنافقون، وحكمهم يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ أمّا حكمهم في الدنيا فهم يُعتبرون مسلمين ويعاملون معاملة المسلمين مع الحذر اللازم.

أمّا لماذا وكيف نعتبرهم مسلمين ونحن نرى آثار نفاقهم ظاهرة واضحة وربّما تكون قاطعة في نظرنا فهذا ما يجيب عليه الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسيره سورة "المنافقون" حيث يقول:

".. فهذا هو الصفّ المسلم يندسّ فيه المنافقون، ويعيشون فيه – في حياة الرسول - قرابة عشر سنوات.

والرسول لا يخرجهم من الصفّ ولا يعرّفهم الله له بأسمائهم وأعيانهم إلا قُبيل وفاته، وإن كان يعرفهم في لحن القول بالالتواء والمداورة، ويعرفهم بسيماهم وما يبدو فيها من آثار الانفعالات والانطباعات.

ذلك كي لا يكل الله قلوب الناس للناس.

فالقلوب له وحده، وهو الذي يعلم ما فيها ويحاسب عليه، فأمّا الناس فلهم ظاهر الأمر، كي لا يأخذوا الناس بالظنّة، وكي لا يقضوا في أمورهم بالفراسة.

وحتّى حينما عرّف الله نبيّه بالنفر الذين ظلّوا على نفاقهم إلى أواخر حياته، فإنّه لم يطردهم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام ويؤدّون فرائضه، إنّما عرّفهم وعرّف بهم واحداً فقط من رجاله هو حذيفة بن اليمان ، ولم يشع ذلك بين المسلمين، حتّى أنّ عمر كان يأتي حذيفة ليطمئنّ منه على نفسه أنّ الرسول لم يسمّه له من المنافقين

وكان حذيفة يقول: يا عمر لست منهم، ولا يزيد.

وكان رسول الله قد أُمِر ألاّ يصلّي على أحد منهم مات أبداً، فكان أصحابه يعرفون عندما يرون الرسول لا يصلّي على ميت.

فلمّا قُبض كان حذيفة لا يصلّي على من عرف أنّه منهم، وكان عمر لا ينهض للصلاة على ميت حتّى ينظر فإن رأى حذيفة هناك علم أنّه ليس من المجموعة، وإلاّ لم يصلِّ هو الآخر ولم يقل شيئاً، أي لم يأمر المسلمين بعد الصلاة".

وخلاصة القول من الناحية الفقهية أنّ قلوب المسلمين أمرها إلى الله وليس لنا أن نحكم عليها أمّا الظواهر فلا تزال الأكثرية الساحقة من المسلمين اليوم "كأفراد" يقرّون بالشهادتين ويتمسّكون بكثير من أحكام الإسلام الشرعية ويقصّرون في بعضها، وهناك قلّة هي من ذراري المسلمين ولكنّها استبدلت الإسلام بعقائد أخرى إلاّ أنّ أثر هذه القلّة الكافرة في صياغة المجتمع وقوانينه وأخلاقه وحتّى في تغيير الكثير من عاداته لا يكاد يظهر معه أثر للأكثرية المسلمة لأسباب كثيرة سنذكرها في بحث "المجتمع المسلم" في عدد لاحق إن شاء الله.

نحنُ دعاة إلى الله لا قضاة..

نصنّف الناس ونُصدر عليهم الأحكام

التكفير من الناحية الحركية

أمّا من الناحية الحركية فإنّنا نتساءل:

1 - إذا تحقّق لنا كفر إنسان من الناس أو نفاقه وفقاً للقواعد السابقة فهل يجب علينا أن نصارحه بحقيقة أمره – ونحن نريد دعوته للإسلام – أو نفضحه أمام الناس؟

2 - بالنسبة للدعاة اليوم هل يجوز لهم أن يصنّفوا الناس هكذا فلان كافر، فلان منافق.. إلخ أم يجب عليهم أن يبيّنوا الأفكار والأعمال التي تؤدّي بأصحابها إلى الكفر أو النفاق دون أن ينزلوها على أشخاص بعينهم؟

3 - كان رسول الله يدعو كفّاراً للإسلام ونحن اليوم ندعو "مسلمين" بعضهم مرتدّ وبعضهم منافق وبعضهم جاهل و... فهل هذا الفرق بين المدعوين يترك أثراً على أسلوبنا في الدعوة أم لا؟

4 - هل نحن دعاة أم قضاة؟

جواباً على التساؤل الأوّل نقول:

الكافر نوعان:

‌أ - نوع يبتهج بكفره ويراه دليلاً على أنّه متحضّر أو تقدّمي فهذا لا يهمّه مواجهته بكفره فإذا كان هناك مجال لدعوته عن طريق الحوار والمناقشة فهو حسن، وإلاّ فإنّ فضحه أمام الناس واجب شرعي ليحذّروه ويعاملوه معاملة الكافر.

‌ب - ونوع لا يريد أن يكون كافراً ولكنّه وقع في الكفر نتيجة الجهل أو التضليل فاقتنع مثلاً أنّ الإسلام لا علاقة له بأنظمة الحياة وأنّه مجرّد صلة بين الإنسان وربّه على سبيل المثال، وربّما التزم بهذه الصلة العبادية ثمّ تبنّى نظاماً لحياته غير الإسلام ودعا إليه.

إنّ هذا النوع أكثر عدداً من النوع الأوّل بكثير نظراً لأنّ وسائل الإعلام كلّها تشجّع هذه الفكرة وتدعو إليها، وإن كان من الصعب أن يستقرّ الإنسان على هذا التفكير، وكثير من هؤلاء يتحوّلون مع الزمن إلى الكفر بالإسلام كلّه أو الإيمان به كلّه.

إنّ علاقتنا مع هذا النوع من الناس ينبغي أن يحكمها قول الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وقول رسول الله لأصحابه في قصّة الأعرابي الذي أعطاه رسول الله شيئاً وقال له: "أحسنت إليك".

فقال الأعرابي: لا ولا أجملت.

فغضب بعض المسلمين وهمّوا أن يقوموا إليه فنهاهم رسول الله عن ذلك ثمّ أرضى الأعرابي حتّى قال خيراً، وقال النبيّ معقّباً على ذلك – وهنا بيت القصيد - «إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلاّ نفوراً

فقال لهم صاحب الناقة: خلّو بيني وبين ناقتي فأنا أرفق لها وأنا أعلم بها!

فتوجّه إليها وأخذ من قشام الأرض ودعاها حتّى جاءت واستجابت وشدّ عليها رحلها، وإنّي لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار».

وهذا النوع من الناس "الكافر عن جهل أو تضليل" الشارد من الإسلام شرود الناقة التي لا تعرف إلى أين تسير يحتاج منّا إلى رفق ورأفة.. بل وإلى حرص كبير على استرجاعه إلى صفوف المسلمين لا على زيادة نفوره وشروده.

والداعية الحقّ كصاحب الناقة في سعيه لردّ الناس عن شرودهم من الإسلام، وأشباه الدعاة لا يهمّهم إعادة الشاردين "بالحكمة والموعظة الحسنة" وإنّما الذي يهمّهم إلحاق صفة الكفر أو الضلال بهم وكأنّهم بذلك قد حقّقوا للإسلام نصراً عظيماً.

بالنسبة لهذا النوع من الناس نرى من الواجب الإصرار على محاولة استرجاعهم إلى الصفّ الإسلامي دون التصريح بكفرهم، ولا بأس من التصريح بأنّ الفكرة الفلانية تؤدّي إلى الكفر أو أنّ العمل الفلاني يؤدّي إلى الكفر، وسيأتي توضيح هذا بعد قليل.

أمّا المنافق فأمره إلى الله، ولا نستطيع نحن أن نتحقّق من نفاق إنسان حتّى نصفه بهذه الصفة أو نواجهه بها أو نتحدّث به أمام الناس، وكلّ ما نستطيعه – ويجب علينا – أن نلتزم الحذر اللازم عندما يترجّح لدينا نفاق أحد من الناس دون التصريح بما يجرحه أو يؤذيه لأنّ قلوب الناس أمرها إلى الله لا إلينا، ولأنّ المنافق الذي يظهر التزامه بالإسلام يبقى في الصفّ المسلم وهذا رسول الله لمّا اقترح عليه قتل زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول كان جوابه: «فكيف لو قيل إنّ محمداً يقتل أصحابه؟».

وجواباً على التساؤل الثاني نقول: إنّ من أهمّ واجبات الدعاة أن يبيّنوا للناس حقيقة الكفر والنفاق ليكونوا من ذلك على حذر خاصّة في هذا العصر الذي أُلبس فيه الحقّ بالباطل واختلط الإيمان بالكفر ممّا ساعد كثيراً أعداء الإسلام على أن يمسكوا بزمام قيادة المسلمين تحت شعارات برّاقة وأسماء خادعة.

وجماهير المسلمين تنقاد إلى أعدائها وهي تظنّهم أصدقاءها، وتحارب أبناءها الصادقين المؤمنين بعدما اقتنعت أنّهم أعداؤها.

كلّ ذلك كان من أسبابه بلا شكّ الاختلاط في نفوس الناس بين حقيقة الكفر وحقيقة الإيمان، حتّى صعب التمييز إلاّ على القلّة النادرة.

فبيان الأفكار الكافرة والأعمال التي تؤدّي إلى الكفر والنفاق إلى جانب بيان الأفكار الإسلامية والأعمال المترتّبه عليها، هذان جانبان متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر لأنّ صورة الإسلام لا تكون واضحة للناس إلاّ إذا كانت صورة الكفر إلى جانبها واضحة أيضاً.

إلاّ أنّ هذا البيان الواجب على الدعاة ينبغي في نظرنا أن يقتصر على بيان الأفكار والأعمال دون التطرّق إلى الأشخاص، فنقول مثلاً: إنّ الفكرة الفلانية تؤدّي إلى الكفر وإنّ العمل الفلاني يؤدّي إلى الكفر أو النفاق.. ولا نقول إنّ فلاناً من الناس بذاته كافر أو منافق لأنّه يؤمن بتلك الفكرة أو يقوم بذلك العمل وذلك للأسباب التالية:

1 - لأنّنا لسنا مكلّفين بإصدار الأحكام على الناس بأفرادهم وذواتهم فالله تعالى هو الذي يقضي بينهم يوم القيامة.

2 - ولأنّه ليس من مستلزمات عملنا الإسلامي تحديد الإنسان الكافر أو المنافق بشخصه، ففضح الأفكار والأعمال الكافرة يكفي لوضوح الفكر الإسلامي، وبيان النفاق وما يؤدّي إليه يكفي لتحذير الناس من الوقوع فيه.

3 - ولأنّنا لا نملك – كأفراد – مقوّمات الحكم على الناس.. فإذا تصدّينا إلى ذلك عرّضنا أنفسنا للوقوع في الإثم إذا أخطأنا الحكم دون ضرورة أو فائدة..

4 - ولأنّ من مستلزمات "الحكمة والموعظة الحسنة" في أسلوب الدعوة أن لا يتحوّل الحوار بينك وبين من تدعوه من "حوار فكري" إلى "حوار شخصي" فإذا ربطت الفكرة الكافرة بالشخص الذي تدعوه إلى الله فإنّك بذلك تستثير أنانيّته وتجعله أكثر حماساً للدفاع عن الفكرة الكافرة وقد أصبحت فكرته هو، ويكون الداعية عند ذلك – وبهذا الأسلوب – سبباً في فتنة الناس عن الإسلام ﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾.

ليست مهمّتنا أن نحشر الناس الذين انحرفوا إلى شيء من الضلال ليصلوا إلى الكفر المحقّق، إنّما واجبنا أن نستنقذهم من ضلالهم بالموعظة الحسنة، وليس من الحكمة أبداً أن نجابههم عند أوّل انحراف في التفكير أو في العمل بالكفر أو النفاق.

أمّا التساؤل الثالث وهو أنّ رسول الله كان يدعو كفّاراً للإسلام، ونحن اليوم ندعو المسلمين للرجوع إلى الإسلام وهل لهذا الفارق من أثر على أسلوب الدعوة، فجواباً عليه نقول: إنّ هذا الفرق في المدعوين يترك آثاراً هامّة على أسلوب الدعوة والحركة نوجزها بما يلي:

1 - كان التميّز بين الصفّ المسلم والصفّ الكافر واضحاً من أوّل يوم لأنّه لا يصحّ إسلام المسلم إلاّ باتباعه لمحمد رسول الله والتزامه بقيادته وطاعته المطلقة.

فبوجود صاحب الدعوة الأوّل كان المسلمون صفاً واحداً متميّزاً، ولما انتقل إلى الرفيق الأعلى بدأ الصفّ ينقسم، وأخطر ما في هذا الانقسام أن يتحوّل إلى صفوف يضرب بعضها بعضاً كما حصل ذلك في فترات سوداء من تاريخنا.

2 - إنّ دعوتنا اليوم – بحكم الواقع – موجّهة إلى "المسلمين" ولا نستطيع "من الناحية الحركية" أن نتوجّه إلى غير المسلمين إلاّ بعد إقامة دولة إسلامية في "بلاد المسلمين".

وإذا كانت دعوتنا موجّهة إلى "المسلمين" لتوعيتهم وإنقاذهم واسترجاعهم فإنّ من أخطر الأمور وأكثرها ضرراً أن نعتبر أنفسنا مجتمعاً مسلماً منفصلاً عن الناس.

إنّ تكريس هذا الانفصال يؤدّي أولاً إلى القضاء على هذه الفئة قبل اكتمال نموّها، ويؤدّي ثانياً إلى حرمان "المسلمين" الذين يعيشون في المجتمع الجاهلي من الاستفادة من تلك المجموعة المؤمنة.

نحن الطليعة الساعية إلى إرجاع المسلمين إلى دينهم، ولسنا مجتمعاً منفصلاً عنهم.

إنّهم منّا ونحن منهم، وينبغي أن نكون أرأف بهم من أنفسهم لأنّهم التربة التي نزرع فيها بذور دعوتنا.

3 - وإذا كنت أدعو "مسلماً" للرجوع إلى الإسلام وأنا أعلم أنّ الجاهليّة قد نجحت في انتزاعه من الإسلام أو كادت فإنّني حين أدعوه ينبغي أن ألتزم معه بكلّ حقوق الأخوّة الإسلامية التي تربطني به، وليس هذا موقفي حين أدعو كافراً للإسلام.

فالكافر ليس له أيّ حقّ إلا حقّ الدعوة والبلاغ، أمّا المسلم فله عليّ حقّ الأخوّة مهما كان منحرفاً، ومن حقوق الأخوّة إحسان الظنّ به وعدم وصمه بالكفر أو بالنفاق، ومنها التواضع له حتّى لا أعتبر نفسي أعلم منه أو أتقى ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾، ومنها إشعاره أنّني وإياه كالجسد الواحد، ومشاركتي إيّاه في آلامه ومصائبه.

إنّ معاملتنا للمسلمين بأخلاق الأخوّة الإسلامية أشدّ أثراً في استجلابهم لدعوتنا من أيّة وسيلة أخرى خاصّة إذا كانت معها القدرة على عرض أفكارنا الإسلامية بالأسلوب المقنع الحكيم.

4 - وإذا كان طبيعياً وحتمياً أن ينعقد لواء القيادة لرسول الله بالنسبة لكلّ من يدخل الإسلام في أيّامه وبعد وفاته، فليس طبيعياً ولا حتمياً أن يسلّم المسلمون قيادتهم إليها اليوم وهم معرّضون للحملة الماكرة من الصهيونية والصليبية والشيوعيّة التي تركت آثارها حتّى على بعض "الإسلاميين" كما يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله.

إنّنا نحتاج إلى فترة زمنية حتّى نسترجع ثقة الناس بالإسلام وأنّه منهج حياة، وثقة الناس بالحركة وأنّها قادرة على قيادة الأمّة بالأسلام.

إنّ استرجاع الثقة بالإسلام وبالحركة لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال التفاعل الأخوي مع الناس.

أمّا دعوة الكفّار للإسلام فقد يكفي فيها البيان الواضح والبلاغ المبين.

وبعد..

فنحن دعاة إلى الله ولسنا قضاة نصدر الأحكام على الناس بالفسق أو النفاق أو الكفر أو الضلال.

والإسلام منهج حركي جادّ، وليس من الجدّية أن نتلهّى عن الدعوة بإصدار الأحكام التي لا نستطيع تنفيذ مقتضاها على أفراد من الناس بالإضافة إلى أنّ ذلك ليس من مهمّتنا وليس في قدرتنا، فالله تعالى هو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا.

وماذا تستفيد الدعوة إذا حكمنا على إنسان معيّن من الناس بالكفر أو بالردّة ونحن لا نستطيع تنفيذ حكم الله فيه بالقتل، بل ونحن مجبرون على أن نستمرّ بدعوته للرجوع إلى دين الله؟

لقد كان بحثنا حتّى الآن يتناول "تكفير الأفراد".. أمّا تكفير المجتمع.. واعتباره مجتمعاً جاهلياً.. وبيان "المجتمع المسلم" ومواصفاته وأركانه.. فذلك موضوع آخر.. نتركه للعدد القادم إن شاء الله.

الآثار التي تترتّب على اعتبارالمجتمعات التي نعيش فيها جاهلية

قلنا إنّ الإنسان إذا أقرّ بالشهادتين ولم ينكر شيئاً من المعلوم من الدين بالضرورة والتزم بشيء ولو يسير ممّا تقتضيه الشهادتان يُعتبر مسلماً، ولو كان بعد ذلك عاصياً أو مقصّراً، ولذلك فقد يكون الإنسان مسلماً يقرّ بالشهادتين صادقاً ولا ينكر شيئاً من مقتضاهما ولكنّه أيضاً لا يلتزم بمقتضى الشهادتين إلاّ ما نسبته واحداً بالمئة.

إنّ هذا دليل على ضعف الإيمان، ولكنّه لا يصحّ دليلاً على انعدامه.

وفي المقابل قد يحقّق الإنسان التزامه بمقتضى الشهادتين أي بأحكام الشريعة كلّها بدرجة مئة بالمئة، وبين هاتين الدرجتين يتراوح المسلمون ارتفاعاً وهبوطاً.. هذا من الناحية النظرية، أمّا في الواقع فإنّ الأكثرية العظمى من المسلمين لا يجاوز التزامها الإسلامي خمسين بالمئة إن لم يكن أقلّ من ذلك بكثير.

والمجتمع الإسلامي لا يمكن أن يتحقّق من خلال مجموعة من الناس لا يجاوز التزامهم بالإسلام حدود الالتزام الفردي الضيّق.

إنّ المجتمع الإسلامي لا يتحقّق إلاّ من خلال مجموعة أفراد مسلمين وصل التزامهم بالإسلام إلى درجة الموت في سبيله، والتضحية لكلّ شيء من أجل نصرته، والارتفاع فوق كلّ القيود والضغوط والروابط حتّى لا يشعر المسلم بشيء يمكن أن يؤثّر عليه أو يستعبده أو يسيّره غير رضى الله وأمره.

إذا وصلت درجة الالتزام عند مجموعة من المسلمين إلى هنا، انبثق منها المجتمع الإسلامي، وإلاّ يظلّ المسلم فرداً ضائعاً تائهاً غارقاً في المعاصي والآثام والانحرافات كما هو حال أكثر المسلمين اليوم.

ثمّ إنّ رسول الله يقول: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».

ولقد كان أعداؤنا يعرفون هذه الحقيقة فبدأوا يخطّطون منذ استطاعوا الإجهاز على الخلافة الإسلامية لانتزاع العناصر الممتازة المتفوّقة من المسلمين وتربيتها في مدارسهم وعلى عيونهم.

وهكذا رأينا الحاكمين في بلاد المسلمين يتسابقون لاستيراد الأفكار والشرائع والأخلاق الأجنبية ويتباهون بها، ولا أقصد بالحاكمين الرؤساء أو الوزراء فقط، وإنّما أقصد جميع من يتسلّمون مراكز حسّاسة يقومون من خلالها بدور معيّن في قتل ما تبقّى من الإسلام في النفوس أو في المجتمع.

هكذا استطاعت القلّة الكافرة أن تصبغ – مع الزمن – المجتمعات الإسلامية بصبغة الكفر والجاهلية، لأنّها تملك زمام الأمور، ويساعدها على ذلك أعداء الإسلام المتربّصون في الشرق والغرب على حدّ سواء.

نعم إنّ العالم اليوم يعيش كلّه في جاهلية.

وبلاد المسلمين غارقة أيضاً في الجاهلية.

والأفراد الذين لا يزال كثير منهم "مسلمين" وإن كانوا يتفاوتون في درجة التزامهم، هم على شفا جرفٍ هارٍ، إمّا أن يحفظوا أنفسهم عن طريق بناء تجمّع إسلامي يتحدّى الجاهلية، وإمّا أنّ الجاهلية ستبتلعهم ولو بعد حين!!

هؤلاء "الأفراد" قد يظلّون "مسلمين" في مجتمع جاهلي مهما تدنّت درجة التزامهم ولكن بشرط واحد.. مهمّ جداً.. هو أن لا يرضوا بالواقع.. أن لا يرضوا بالمنكر، أن لا يرضوا بالكفر المحيط بهم.. أن لا يتغيرّ الميزان عندهم فيصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.. قد يعجز المسلم عن إزالة المنكر.. قد يضعف أمام المفاسد.. ولكن إذا بقي معه الشعور – في قلبه – بإنكار المنكر.. والتألّم من وجوده.. والدعاء إلى الله بتغييره.. فقد بقي في نطاق الإسلام والإيمان.. وإذا اختفى هذا الشعور وأصبح المسلم يعيش في المجتمع الجاهلي دون تململ أو ألم.. فضلاً عن أن يعيش بسرور وراحة..

إذا أصبح الفرد المسلم كذلك فقد صحّ فيه قول رسول الله:

«..من جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك حبّة خردل من إيمان».

فليرجع كلّ مسلم إلى نفسه وليحكم لها أو عليها.

خلاصة البحث أنّ المجتمع العقائدي – ومنه المجتمع الإسلامي – يأخذ صفته لا من مجموع أفراده وإنّما من العلاقات التي تنتظم شؤون الأفراد، لأنّ هذه العلاقات تأخذ من مساحة "المجتمع" القدر الأكبر الذي لا يبقى معه "للأفراد" إلاّ الجانب الشخصي الضيّق.

وبناءً على ذلك قلنا إنّ المجتمع الذي نعيش فيه جاهلي لأنّ قيمه السائدة وشرائعه النافذة وأخلاقه المهيمنة كلّها جاهلية، أمّا الأفراد الذين يعيشون فيه، فالحكم عليهم بالإسلام أو بالكفر له قواعد أخرى غير هذه القاعدة، وقد تحدّثنا عن ذلك في الأعداد السابقة.

والواقع أنّ المسلمين قد انتقلت فئة منهم إلى الكفر وهي تصرّح بذلك وترضاه وتدعو له، فهؤلاء لا يحسبون مسلمين، وفئة منهم وقعت في الكفر جهلاً وهي لا تدري، فهؤلاء يحتاجون إلى التوجيه والتذكير، وفئة ظلّت على إسلامها وهي الكثرة ولكنّها تحتاج أيضاً إلى التذكير والتوجيه وإلى دفعها في طريق العمل للإسلام قبل أن يدفعها الأعداء في طريق هدم الإسلام وهي لا تشعر.

ثمّ فئة العاملين للإسلام على اختلاف اتجاهاتهم وتباين طرقهم.

بقي علينا جانب مهمّ من البحث.

وضوح التصوّر الإسلامي

إنّ المسلم لا يمكن أن تكون تصوّراته وأفكاره إسلامية صحيحة إلاّ إذا استقاها من النبع الصافي، من كتاب الله وسنّة رسوله.

ومجتمعات "المسلمين" التي نعيش فيها اليوم تسيطر عليها أفكار وتصوّرات جاهلية في جميع نواحي الحياة، فإذا اعتبر المسلم أنّ هذه المجتمعات التي يعيش فيها "إسلامية"، يصبح – بشكل تلقائي – مستعداً لقبول كثير من أفكارها وتصوّراتها على أنّها أيضاً "إسلامية"، وهكذا تتسرّب كثير من النظريّات الجاهلية إلى نفوس المسلمين ويعتنقونها ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾.

إنّ وضوح التصوّر الإسلامي في نفوس "الطليعة المسلمة" وعند جماهير المسلمين أيضاً لا يمكن أن يكون إلاّ إذا أدرك الجميع أنّ المجتمعات التي ترفض الاحتكام إلى شريعة الله مجتمعات كافرة، وإذا كانت كذلك فلا يجوز للمسلم أن يتلقّى منها شيئاً من أفكاره وتصوّراته مهما كان ضغطها عليه عنيفاً، لأنّه لا يتلقّى إلا من الكتاب والسنّة ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً؟ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾.

وضوح المعركة

من أهمّ عناصر النجاح في المعركة – سواء كانت فكرية أو عسكرية – تمييز العدوّ من الصديق.

في المعركة الناشبة على أرض المسلمين وفي نفوسهم بين الكفر والإيمان، من هو عدوّنا الذي ينبغي أن نعرفه ونحذره ونؤلّب القوى عليه ونوجّه سهامنا إليه.

هل هو هذه الجماهير المسلمة التي تؤمن بالله وتعبده بإخلاص، ولكنّها تجهل حقيقة العبادة ومعانيها وشمولها لأنّها ضحيّة المؤامرة الماكرة التي شوّهت حقيقة الإسلام؟ طبعاً لا.

إنّ هذه الجماهير هي الصديق الذي ينبغي علينا أن نحرص على إحكام الصلة به لنكسبه إلى صفّنا قبل أن ينتزعه العدوّ منّا انتزاعاً كاملاً فينقلب علينا.

وإذا كانت المجتمعات أيضاً "إسلامية" لا يجوز لنا أن نعلن عليها الحرب "الفكرية" فمن هو عدوّنا الذي نحاربه إذا؟ وهل يُراد منّا أن نتلقّى في كلّ يوم ضربة جديدة تطعن إسلامنا في الصميم عن طريق هذه المجتمعات التي نعيش فيها ونحن لا نردّ لأنّنا لا نعرف من هو العدوّ الذي ينبغي علينا أن نوجّه إليه الضربات؟

أم هل عدوّنا هو الحكّام وكثير منهم يمثّل الأكثرية الشعبية في أفكارها وتصوّراتها المنحرفة، حتّى ولو لم تكن هذه الأكثرية هي التي رفعته إلى الحكم، بل حتّى ولو كانت غير راضية عن حكمه «كما تكونوا يولَّ عليكم»؟ إنّ الحكّام هم النتيجة وليسوا السبب.

ولا بدّ للحركة الإسلامية أن تبدأ بمعالجة السبب قبل النتيجة.. أي أن تبدأ بتغيير الأفكار السائدة في المجتمع.

إنّ العدوّ الأوّل الذي يجب على الدعاة إلى الله في هذا العصر أن يعرفوه ليوجّهوا جهدهم إليه إنّما هو "المجتمع الكافر" الذي يعيشون فيه.

هذا المجتمع هو العدوّ لا بأفراده وإنّما بقيمه الهابطة وأخلاقه المنحطّة وتصوّراته المضلّلة وقوانينه الكافرة.

وطالما أنّ المعركة اليوم "فكرية" فإنّ أفراد هذا المجتمع بأكثريّتهم المسلمة هم إخواننا وأحبابنا، بينما الروح الجاهلية التي تسري بينهم وتسيطر عليهم هي العدوّ الذي يجب مقاومته لتخليص المسلمين منه.

التميّز والمفاصلة

إنّ اعتبار المجتمعات التي نعيش فيها جاهلية يؤدّي حتماً إلى التميّز عنها.

هذا التميّز الشعوري ضرورة لا بدّ منها لحسن بناء الفرد المسلم، والحركة الإسلامية؟ إنّ "الطليعة المسلمة" لا يمكن أن تحافظ على وجودها وعلى صفائها إلاّ بأن تتميّز عقيدياً وشعورياً عن "المجتمع الجاهلي" الذي تعيش فيه، وأن تفاصله على العقيدة المفاصلة النفسية والشعورية أيضاً، حتّى يأذن الله لها بالانتقال من مرحلة الدعوة "الفكرية" والتربية "النفسية" إلى مرحلة التنفيذ الفعلي حيث التميّز الكامل والانفصال الشامل بين حزب الله وحزب الشيطان، وبعد أن تكون "الطليعة المسلمة" قد استعادت أكثرية الجماهير المسلمة إلى صفّ "حزب الله" واستنقذتهم من براثن "حزب الشيطان".

وأخيراً.. وإذا كان اعتبار المجتمعات التي نعيش فيها "جاهلية" يفرض علينا أن لا نسايرها، وأن نتميّز عنها، فإنّ هذا الموقف لا يعني أبداً – كما يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله – "أن نقاطعها الآن وننزوي عنها وننعزل.. كلا، إنّما هي المخالطة مع التميّز، والأخذ والعطاء مع الترفّع، والصدع بالحقّ في مودّة، والاستعلاء بالإيمان في تواضع

والامتلاء بعد هذا كلّه بالحقيقة الواقعة: وهي أنّنا نعيش في وسط جاهلية، وأنّنا أهدى طريقاً من هذه الجاهلية، وأنّها نقلة بعيدة واسعة هذه النقلة من الجاهلية إلى الإسلام، وأنّها هوّة فاصلة لا يُقام فوقها معبر للالتقاء في منتصف الطريق" ولكن لينتقل عليه الناس من المجتمع الجاهلي الذي يعيشون فيه إلى المجتمع الإسلامي المرتقب بإذن الله.