الحركة الإسلامية السودانية بعد مسيرة 50 عاما

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١١:١٥، ٧ أغسطس ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحركة الإسلامية السودانية بعد مسيرة 50 عاما
19532003 م
أين هى اليوم؟؟
رؤية نقدية وتحليلية

بقلم: السفير/ أحمد التجاني صالح أبو بكر .. من رواد الحركة الإسلامية السودانية


إهداء

إلى روح جدى الفقيه والمعلم "ما لم" الحاج أبو سفيان محمد. قطب الطريقة التجانية في إفريقيا الغربية.

إلى روح جدى المقدم الحاج صالح أبو بكر سفيان تلميذ الفقيه عيسى عمر والشيخ التماسينى بالمدينة المنورة وكبير المقدمين بمدينة كوستى.

لما ورثته من علم في مكتبتهم وأوراد وأذكار ملهمة في طريقتنا التجانية.

إلى روح والدتى الحاجة آمنة حاج عمر عثمان، رحمها الله رحمة واسعة لما أعطتنى وإخوتى من دفء ودفعات بتفهمها الجيد الواعى لما كنت أقوم به من أنشطة منذ انتمائى وانخراطى في الحركة الإسلامية السودانية سنة 1953 وبخاصة وقوفها معى إبان اعتقالى بسجن كوبر 27/05/1969م وفصلى من بالراديو والتليفزيون قبلها بيوم.

إلى زوجتى الصابرة والمحتسبة الحاجة نعمات عبدالحميد وكريماتى د.نازك ود.ميسون ود.الرميثاء ود.رفيدة الطيبات النجيبات حفظهن الله جميعا ونفع بهن وجزاهم عنى أوفى الجزاء.

إلى أرواح الشهداء من الدبابين والمجاهدين من أبناء وبنات الحركة الذين تقدموا الصفوف ممتثلين لأوامر قيادة الحركة مسجلين صحائف من نور في تاريخها، أمجادها وإنجازاتها العديدة وفي مقدمة هؤلاء الشهيد د.محمد صالح عمر ود.أحمد بشير ود.مصطفى الطيب ود.محمود شريف وعلى عبد الفتاح والمعز عبادى ومصطفى ميرغنى المزمل وعاصم عبد المنعم المنياوى وغيرهم. نسأل الله لهم القبول.

إلى المجاهدين من الدعاة والأقدمين منهم خاصة من بناة الحركة والتنظيم، الذين شاخوا وهم ما يزالون على العهد مؤمنين صابرين حيث ارتباطهم العضوى والتحامهم بالحركة ارتباطا أبديا ولحاما سرمديا لا انفكاك منه حتى القبر.

إلى كل هؤلاء أهدى هذه الصفحات وما بها من كلمات وفاءً وتقديراً واعتزازاً وشكراً

والله ولى التوفيق ،،،،،

المؤلف


تقديم وشكر

هذه الصفحات تحوى في مضمونها نعياً للحركة الإسلامية السودانية، والتى في نظرى بدأت تتآكل بعد أن تكاملت وقيض الله لها لها أسباب الانتشار والنصر، وأوصلها إلى السلطة والحكم في السودان، وقد كان حلماً وخيالاً ويوتوبياً، ولكنه ما لبثت سنوات دون العشرة حتى ظهرت عليها بوادر التآكل والخلاف، الفرقة والشتات وقد أوضحنا ذلك بجلاء في الفصل الأخير.

أما الفصل الأول فقد احتوى على عصارة محاضرة عن نشأة الحركة وتاريخها وقد قدمتها محاضرة داخلية إلى أعضاء الحركة في أبو ظبى فبراير 1977 وقد كنت سجلتها يوم ذاك على شريط كاسيت، وعند رجوعنا السودان بعد اغتراب دام ثلاث عشرة سنة في أبو ظبى طلبت من ابنتى مشكورة د.نازك أحمد التجانى أن تنقلها من الشريط إلى مفكرة حتى ترى يوما النور إن شاء الله.

والفصل الثانى بهذا الكتاب فيه تسجيل لأحداث ومواقع تمثل جزءا من كسوب الحركة الإسلامية السودانية وهى كثيرة أحببت الإشارة إليها وبخاصة تلك التى عايشتها وساهمت فيها وساهمت فيها سواء من داخل السودان أو خارجه.

أما الفصل الثالث والذى كان عنوانه "تحديات الحركة الإسلامية وهى في السلطة" محاضرة أعددتها وقدمتها لمجموعة من طلاب الجامعات والمعاهد العليا، دعانى إلى تقديمها طلاب وشباب المثلث الطالب ودارس الهندسة خالد إبراهيم السيد الفكى والشهيد معز عبادى وآخرين. وهذه المحاضرة وما دار فيها ربما كانت سببا في إخراجى من السودان سفيرا إلى جمهورية نيجيريا الاتحادية وعدد من بلدان غرب إفريقيا، كانت المحاضرة قد قدمت في منزل الأخ الكريم عبد الله عبد الباسط في 24 يونيو 1991 م ويومها كنت مديرا للإدارة السياسية بالوكالة بوزارة الخارجية السودانية. ولعل تشخيصى لتحديات الحركة كان فيه نقد وصراحة لم تعجب قيادة الحركة يوم ذاك، فكانت عملية النقل والتغريب.

أما الفصل الرابع فقد اعتصرت نفسى علاوة على الاعتصار الذى كانت تعانيه جراء النزاع وبداية الفرقة والشتات، وسجلت ما سجلت من وقائع وأحداث وأصداء وآهات وجروح، لا اعتقد أننى وحدى الذى عانى منها، وإنما هناك كثيرون وخصوصاً الأقدمين، وعزائى وعزاؤهم اننا نعبر في هذا الفصل عما يجيش في خواطرنا ويعتلج في صدورنا وتتفتق عنه أفئدتنا ألماً وحسرة لما أصابنا، وثمة تساؤلات كثيرة وكبيرة أجدها مشروعة جدا وشاخصة أقلقتنى كما أقلقت الكثيرين وطفقت أسجلها كنوع من الفضفضة أو الفذلكة وقد يقال حذلقة ولكنها ترجمة لأحاسيس وجدانية صرفة ومشاعر صادقة نعيشها هذه الأيام.

وختاماً هناك الفصل الخامس والأخير والذى استعرضت فيه أوضاعنا كحركة إسلامية وما آلت، ومصيرنا، ومن نحن؟ من يقودنا وإلى أين نساق كما تساق النعاج إلى زرائب من الكتر واللعوت.

ما المخرج وكيف الخلاص؟ بشيء من الصراحة والإيجابية والصدق والوضوح والشفافية قدمت بعض بعض الأفكار والخواطر وادعو كل كل من لديه شيء في هذا المقام أن يقدم المقال، وشكراً له، كما الشكر موصول مسبقاً لكل الذين ساهموا في إخراج هذا الكتاب وتقديمه إلى المطبعة، فالشكر للأستاذة رحاب صديق حسن التى قامت بطباعة المسودة ووليد عبد الكريم الذى قام بتنسيقه على الكمبيوتر بصبر وأناة ومتابعة دقيقة ولصيقة والشكر للأخ الصديق المحامى الطاهر حمد الله المنزول والذي ظل يتابعنى ويسألنى عن الكتاب، والشكر للأخ الكريم المحامى محمد آدم عيسى والذى عكف على الاطلاع على المسودة وأبدى الجيد من الملاحظات والآراء والشكر إلى الأخ الدكتور محمد الخير عبد القادر على اطلاعه على المسودة أيضا وتزويدى بالنصح إلى الطريقة المثلى لطباعة الكتاب مع الدار السودانية للكتب خاصة وأنه من الأقدمين والمؤسسين لهذه الحركة ومن الذين رشحوا في بداية تكوينها لأن يكون المراقب العام لها، والشكر مقدم إلى صاحب الدار السودانية الصديق الوفى عبدالرحيم مكاوى لما قدمه وقام به من جهد ليخرج الكتاب إلى النور، والشكر للآخ المرحوم الطيب بشير محمد على صاحب مخازن الرضوان على اهتمامه ومناقشتى في بعض الفقرات وسؤاله عن متى سيصدر الكتاب إلى أن توفاه الله عليه الرحمة والمغفرة.

والشكر أيضاً إلى الأستاذ إبراهيم محمد الحسن الدسوقي رحمه الله رحمة واسعة وهو فنان مطبوع ومن المؤسسين للحركة الإسلامية والمسؤولين عن قيادتها خلفاً للأستاذ عبد الله محمد بدرى إبان الحكم العسكرى في نظام مايو المباد والذى قام بتنسيق بتنسيق وطباعة وإخراج الصور الفوتوغرافية الموجودة بهذا الكتاب، والشكر أيضاً لكل من ندى حسن ويوسف محمد يوسف من فنيي "المحترفون" والأستاذة عزاز عبد المجيد من مركز شمس العلوم لما قامت به من التنسيق الأخير للكتاب قبل خروجه إلى المطبعة والشكر أيضا يتواصل لكل من الدكتور عبد الله صالح أبو بكر على صبره وعكوفه لتصحيح المسودة قبل خروجها في شريط ممغنط "فلاش" إلى المطبعة كما نزجى شكراً خاصاً إلى المهندس محمد حسن الباهى مدير مطابع العملة على مساعدته القيمة وإدارته التجارية حتى خرج الكتاب من مطبعتهم إلى أيدى القراء الكرام.

والشكر أولا وأخيرا لله رب العالمين الذى أعاننى على ترتيب أفكارى وتنظيمها لإعداد الكتاب ولأسرتى الكريمة على ما قاست وكابدت أيام السجن والتشريد والتغريب والحرمان ولله الفضل وله المنة وهو المستعان.

أحمد التجانى صالح

10 محرم 1424 هـ

الموافق 16/3/2003م


مقدمة: شئون وشجون

الكثير من المنتمين للحركة الإسلامية السودانية، روادها وقدامى المحاربين فيها يجترون تلك الأيام المشرقة وظلال الدوحة الوافرة وخرير الجداول الجارية بمائها العذب، الزلال الصافية للحركة الإسلامية السودانية.

تلك الأيام التى نعم فيها الجميع بأخوة حقيقية وصفاء روحى خالص ونهضة وبناء لأساس تنظيمى قاعدى متين، فيه من الشفافية والتجرد والصفاء والمودة والجندية والطاعة ما يجعل المكلف أن يوم في الساعة الثالثة والنصف فجراً ليلتقى بإخوة له في مسجد ما أو في ركن قصى من داره ومنزله وينفذ ما طلب منه اختباراً لالتزامه وطاعته لا لشيء آخر، محتسباً ذلك لله ومضحياً بأعز ما يملك في سبيل الدعوة وإعلاء شأنها وابتغاء مرضاة لله سبحاه وتعالى.

اجترار:

تلك النخبة من المشايخ الأجلاء والخوة الأعزاء الذين اقصو عن مواقع العمل القيادى في الحركة الوطنية والتنظيم، وأحيلوا إلى المعاش بهدايا مصاحف ما تزال تمثل اليوم الأسود في منعهم من المجاهدات وهم يقرءون كلمات أبى داؤود يالأنصارى، من أخوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حوالى نيف وثمانين عاماً يصيح في أبنائه "جهزونى للقتال .. جهزونى .. للقتال" ويردون عليه "يا أبانا نحن ندفع عنك، فيقول لهم كلا، هذا فرض عين" ويذكرنى ذلك بقول الرسول الكريم (لو كانت بيد أحدكم فسيلة وبينه وبين قيام الساعة أن يزرعها، فليزرعها) وتظل المجموعة تجتر تلك الذكريات العذبة وتفضفض في لقاءات ودعوات إفطارات وغداءات وعشوات دسمة (نسمع جعجعة ولا نرى طحنا).

ضياع:

هل ترى من مشيخات الحركة وقيادتها، ضياع الشباب في متاهات الحياة بلا موجهات حقيقية ورموز للقيادة التنظيمية، ومبادئ وأسس أخلاقية للعمل في المجال العام مما انعكس فى ترديات إلى هاويات سحيقة من الفشل الذريع والخزى للأمة في العديد من المجالات التى أسندت إليهم عدا مجال واحد أو اثنين: مثال لذلك "مجموعة "جياد".

أين المرجعية ؟

الكثيرون من شباب الحركة اليوم يشكون فقدان المرجعية القيادية، السياسية والفقهية لحد ما، التى تجسد الكاريزما في القيادة، وتفتح أحضانها لاستقبال المريدين والمتقدمين بطلباتهم وشكاواهم وخواطرهم واقتراحاتهم في رحمة من لين الجانب وقوة القيادة والثبات على المبادئ وفي شجاعة نادرة وتواضع العلماء وساماحة الحكماء وحكمة الكرماء، وذلك على مستوى القيادة الشخصية للحركة أو القيادة الجماعية لها والتى ابتكرناها عام 1963م وحتى ما بعد أكتوبر 1965م.

شتات المسبحة:

الأحباب شتات مسبحة انقطع خيطها وتناثرت حباتها كأشلاء الجسد الذى مزقته شظايا قنابل السلطة ورصاصات الرشاشات المطلبية لهم ولغيرهم في أضابير المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص وسجون المنتظرين وأصحاب الشيكات بلا أرصدة في كل من كوبر وأمدرمان والذين يوما ما بلغت جملتهم قرابة الثلاثمائة سجين ومحتبس/حراسات منهم قرابة مائتى إنقاذى ملتزم ومؤيد ولا حياة لمن تنادى للمعسرين منهم.

فقدان الشورى الملزمة:

إن فقدان المؤسسية الشورية والدستورية الملزمة للحركة والتنظيم والتى كانت تمثل القيادة الحقيقية للعمل الحركى، تخطيطاً ومنهجاً، فكراً وقيادة، تنفيذاً ورجالاص يمثلون المكتب التنفيذي وهم منتخبون من تلك المؤسسية الشورية "مجلس الشورى" والذي ينوب عن المؤتمر العام في تنفيذ ومتابعة تنفيذ قرارت المؤتمر العام، إم فقدانها أى الشورى وتعطيلها يعتبر أكبر نقطة خطأ في مسيرة الحركة وتاريخها، وأن تحل الحركة مجلس شوراها لينفرد بالقيادة شخص ومستشارون ومن بعد تؤول القيادة إلى شخصين يمثلون الشراء المتشاكسين وتسقط الحركة بين الكرسيين طموحاتها ومأمولاتها ومبتغياتها وكرسى السلطة ويضيع لها رأس الخيط في الماء وتصبح في دوار وعندما تفيق منه تجد نفسها محاصرة، من هى؟ وإلى أين تسير؟ ومن يقودها وإلى أين تنقاد؟.

وفي هذا التيه والغفلة من المتاهات، يعرج بل يقفز بالزانة إلى السلطة أشخاص ومحاسيب مقربون، منهم الطامعون ومنهم الجهلاء ومنهم ذوو الطمع والغرض، ومنهم المندسون وقليل منهم الخلصاء والمخلصون، وفي هذا الزخم ينجح بعض المقربين والمندسين في تصوير لوحات زاهية لأنفسهم وداكنة لغيرهم وهم يعلمون أن كيدهم هذا يرتد إليهم في صدورهم أو في عائلاتهم من الأهل والأبناء وحقاً "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" وصدقاً "وخاب كل جبار عنيد" صدق الله العظيم.

هرج ومرج:

في هذا الهرج والمرج تصدر قرارات لا يعرف من الذى أخرجها ومن هو المسئول عنها وما هى الجهات التى تحاسب عليها وذلك لغياب الشورى والمحاسبية؛ مثل هذه القرارات تقع في حق الأفراد والجماعة والأمة كلها، ومعروف أن الأفراد هم الذين يعفون ويصفحون ولكن تلك التى في حق المواطنين والدولة، فذلك ظلم بين "والظلم ظلمات يوم القيامة" و "دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب" و "ياما في السجن والحبس مظاليم" ويا من هم في القبور مظاليم، ويا من يمشون على الأرض وهيم وجوههم في الأسواق والشوارع مظاليم ويا من وراء الجدران والحيشان لمن وسعتهم دورهم وبيوتهم مظاليم. هؤلاء الآخرون التزموا بيوتهم ووجدوا منودحة لهم في الحديث الشريف (إذا رأيت هوى متبعاً وشحاً مطاعاً فليسعك بيتك).

وفي مثل هذه الحالات وبغياب المؤسسة المشورية الفاعلة والمحاسبية الناجزة تنفلت قرارات وتتسرب كما ذكرنا أخرى غداً لا ندرى بها ومن المسئول عنها ومن الذى يحاسب عليها؟.

لابد من مراجعة المسيرة:

إن مراجعة مسيرة الحركة وهى في السلطة بنظرية النقد الذاتى من أجل الإصلاح والبناء وسد الثغرات والتقارب في الصفوف ومراجعة خطوط السير بدون التراجع عن المبادئ والثوابت والإنجازات وشواخص المسيرة والشواهد الدالة على نجاحاتها، هذه مسألى في غاية الأهمية لكل القطاعات والفئات السياسية والاجتماعية والدستورية والمؤسسية والفئات الاجتماعية والتكوينات وشرائح المجتمع، والقطاع الاقتصادى بمكوناته التقليدية المعروفة مثل التجارة، الزراعة، الثروة الحيوانية، والحديثة مثل الصناعة، البترول،الكهرباء والمياه، الإلكترونيات، والشئون المالية والنقدية وسياساتهما وكافة ما يرتبط بالعولمة وتأثيراتها على حياة الناس، تقدمهم ومتطلبات معيشتهم.

ليس ذلك فحسب بل هناك العلاقات الخارجية وتأثيراتها على مسيرة الحركة ومكانتها وهى في السلطة ومكانتها وهى ف السلطة وعلى وحدتها وعلى قضية وحدة السودان بعد أن انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم وزعامته، وبعد احتلالها للعراق بأسباب أبسط الناس يعرف أنها واهية وضعيفة وغير منطقية فقط (سبوبة) للاجتياح والتدخل. كما وأنه يتوجب في المراجعة والحسابات أن ننظر بعيون فاحصة إلى كم من قريب منا عزيز علينا في الجانب الآخر وهم أعضاء المؤتمر الشعبى. إلى متى تظل القضية هكذا في سراديب المجهول وآفاق التيه والتذكر عند اللزوم، وعاديات الأيام والقوى الكبرى تتناصر وتتقوى على الحركة الإسلامية السودانية لتقصيها وتزيحها عن السلطة وقد وقعت اتفاقية سلام في نيفاشا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهى تسعى لتوقيع اتفاقية مصالحة مع المعارضة المسلحة؟ ويندرج في هذا الباب قضية العلاقة مع الأحزاب السياسية بداخل البلاد والتوالى على السلطة وهذه قضية مهمة وكبرى أن يتم تحقيق الوحدة الوطنية الكبرى على مبادئ وقيم وثوابت تشكل المواجهات في برنامج حكومة وطنية قومية ودستور دائم بالبلاد ومن ثم انطلاقة نحو التنمية الاقتصادية وتشجيع الاستثمارات وتحقيق الرفاهية الاجتماعية للشعب السودانى بأجمعه.

تذكرة:

إن مأساة ومظلمة القيادة التى تمسك بزمام الأمور وتعض عليها بالنواجذ، وذلك من حدبها وخوفها على فقدان الزمام لمقاليد الأمور وضياع المكتسبات، لا لحرصها على السلطة والبقاء فيها، ولكنهم يعلمون أن هنالك من يمكن أن يحل محلهم وكثير منهم مرضى هالكون قريباً ولكن القواعد من تحتهم تراقب جيداً بوعى وتأكيد حتى لا يحدث عليهم كما حدث لعصاة سيدنا سليمان، كلا ثم كلا وألف كلا، فهناك من الذين ضحوا والتزموا خط التضحيات حتى القبر وهناك من صدعوا بالكلمة وهى رصاصة نافذة في نافوخ كل جبار عنيد، وهناك من استعدوا للموت حتى توهب لهم الحياة في الدار الآخرة وهناك منهم من آثر الذهاب إلى الخلاء معذرة إلى الخنادق والكلاش يبتغون الشهادة وقد نالها وهناك منهم من ترعبهم ذنوبهم وترهبهم مواقف الصمت عن قول الحق والثبات والصبر على السير في طريق الحق مستذكرين قول الشاعر:

مشيناها خطى كتبت علينا **** ومن كتبت عليه خطى مشاها

مستبعدين أن ينطبق عليهم قول الشاعر والأديب صلاح أحمد إبراهيم رحمه الله:

وجوه قد حنفها اللؤم **** وجلدتها الغلظة والفظاظة

كأنهم مجموعة مرابين لا أخوة (هى لا رفاق) والعياذ بالله.

الفصل الأول: الحركة الإسلامية بعد 50 عاماً 1953م2003م

مدخل: البداية والتكوين

أسس الحركة والتنظيم:

  • معالم في أولويات العمل.
  • مرحلة الحكم العسكرى نظام عبود 19581964م

دور الحركة في أكتوبر:

  • وضع الحركة قبل ثورة أكتوبر – داخلياً.
  • جبهة الهيئات.

ما بعد أكتوبر:

  • إسهامات الحركة في المجال السياسي.
  • انقلاب مايو 1969 وما هى لونية الانقلاب.
  • المقاومة السياسية المسلحة.
  • المصالحة الوطنية عام 1977م.

مبادئ في الحركة والتنظيم:

  • خصائص، مفاهيم وقيم.
  • مفاهيم وقيم العمل الاجتماعى والعمل العام.

مدخل: البداية والتكوين

(ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين) صدق الله العظيم كمصطلح نعرفها بأنها تعنى جماعة الإخوان المسلمين والتى بدأت كجماعة دينية ثم تطورت إلى حركة فكرية عقائدية تمثل تيارا ضاغطا في الساحة السياسية والفكرية والثقافية السودانية وما لبثت من خلال تجاربها ومعاركها أن تطورت لتنظيم إسلامى شعبى كاسح في المجتمع السودانى وسنحاول أن ندلل على ذلك من خلال تطور نمو هذه الحركة ومعاصرتها للأحداث التى مرت بالمجتمع السودانى.

بداية يجدر بنا أن نتحدث عن أصل الحركة وبداية التنظيم. يرجع أصل الحركة الإسلامية السودانية لعام 1944 عندما احتك بعض القادة والمؤسسين لجماعة الإخوان المسلمين في السودان بحركة الإخوان المسلمين بمصر.

كان ذلك الاحتكاك عن طريق اتصالات ثقافية وعن طريق بعض المبعوثين من السودانيين إلى الجامعات والمعاهد العليا بمصر وأخذهم دعوة الإخوان المسلمين بمصر.

حتى عام 1946م كانت نواة الحركة الإسلامية السودانية وقوامها هى مجموعة المبعوثين السودانيين والطلاب بالإضافة لعدد قليل من المواطنين السودانيين وبعض الطلاب الذين كانوا بالمدارس العليا آنذاك ولكنهم لم يكونوا إخوانا مسلمين بعد، إنما كانوا يسمعون عن حركة الإخوان المسلمين ومن خلال احتكاكهم بالحركة الوطنية المتمثلة في مؤتمر الخريجين وأيضا الشيوعيين وأيضا الشيوعيين في الثانويات وكلية غردون التذكارية والتى تطورت إلى كلية الخرطوم، بدأت تتبلور فكرة تكوين الجماعة الدينية. بداية التنظيم للحركة الإسلامية السودانية عام 1946 عندما زار اثنان من الإخوان المسلمين أحدهما مصرى وكان سكرتير عام الإخوان المسلمين بمصر ويدعى عبد الحكيم عابدين والآخر سودانى يدرس بجامعة القاهرة حقوق وهو جمال الدين السنهوري زارا السودان وحاضرا وطافا عدداً من المدن وكونا شعباً لتنظيم الإخوان المسلمين.

من أين جاء اسم حركة التحرير الإسلامى؟

جاء الاسم من جامعة الخرطوم بعد تخرج مجموعة من الشباب الذين تأثروا بفكر الإخوان في مصر، ولكن في ذات الوقت تأثروا بالصراعات التى دارت في الثانويات والجامعة مع الشيوعيين . فكانوا يريدون اسما مرتبطاً ارتباطاً ثقافياً وروحياً بالإخوان المسلمين وفي نفس الوقت منفصلاً عن الإخوان حتى لا يعيب عليهم الشيوعيون أنهم تبع وذيل للإخوان المسلمين في مصر وبعد التفكير اختير اسم (حركة التحرير الإسلامى)، وظل اسم الإخوان المسلمين سائراً على المجموعة التى كونها عبد الحكيم عابدين وجمال السنهورى وعلي طالب الله حتى 1953. كانت الحركة سرية وكان وكان المركز العام يؤمه بعض الإخوة وبضع الشباب. أما اسم الإخوان المسلمين كاسم ارتضته الحركة الإسلامية السودانية ظهر عام 1954 بعد أول مؤتمر تأسيسي للمجموعة، فقد صار نوعا من الترجيح بالنسبة لاسم حركة التحرير الإسلامى وبالنسبة لاسم جماعة الإخوان المسلمين وجد ان اسم حركة التحرير الإسلامى لا يناسب الجماعة لعدة أسباب:

1/الأصول الفكرية.

2/الجذور الثقافية.

3/ الارتباط الروحى.

4/ التراث الحركى الذي تستند عليه الجماعة.

5/الأدب الموجود في الساحة كله أدب جماعة الإخوان المسلمين في مصر.

أسس الحركة والتنظيم (1958)

تم تكوين الأسس التنظيمية للحركة واختيار السكرتير العام لها ووضع الإطار التنظيمي للحركة الذى يوحد المبادئ الأساسية بالنسبة للجماعة من إطار عام وتنظيم ولوائح وسياسات بالنسبة لعمل الجماعة وخطة للبناء الداخلى والتركيز وإرساء قواعد العمل بالنسبة للحركة.

كانت تلك الحركة البداية والانطلاقة منذ ذلك المؤتمر التأسيسي وصادف أن أول مكتب تكون لهذه الحركة قوامه ستة، أربعة منهم الرشيد الطاهر بكر، محمد يوسف محمد، صادق عبد الله عبد الماجد، وعمر بخيت العوض. من القانونيين والحقوقيين د/عمران أبو عيسى وأحمد محمد بابكر (الكندو) واثنين من الذين تخرجوا من الجامعات المصرية واثنين من الذين تخرجوا في جامعة الخرطوم، وهذا التكوين كان له أثر في العمل العام للحركة وانطلاقتها في توجيهها العام إذا اتجهت نحو معركة قومية كبيرة وهى معركة قومية كبيرة وهى معركة وضع الدستور الدائم للسودان وعلى أى شكل يكون الدستور. الأصول الفكرية والتنظيمية بالنسبة للحركة السودانية عن نظم ولوائح جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وبالتالى الجذور الثقافية لها كانت عبارة عن الكتب التى ألفها الإخوان المسلمون في مصر بصفة خاصة كتاب "مذكرات الدعوة والداعية" للشهيد "حسن البنا" وكتاب "رسالة التعاليم"، كتاب سيد قطب "شبهات حول الإسلام" و العدالة للاجتماعية في الإسلام"، وكتابات المودودى، وكتاب الشهيد عبد القادر عودة "التشريع الجنائى الإسلامى"، وكتاب "فقه السنة" للسيد سابق ومن المراجع السلفية تفسير ابن كثير، والأربعين حديث النووية، ورياض الصالحين. تلك كانت المراجع الثقافية بالنسبة للحركة فيما يخص التكوين الداخلى للأسر ويخص النظام العام واللوائح والعمل الخارجى والعلاقات ما عدا الجوانب السياسية، تلك كانت مسألة عملية بحتة متروكة لاجتهادات القيادة.

ما هى طبيعة المرحلة وطبيعة العمل ؟

في تلك الفترة (54-56-1958م) وقع أول انقلاب عسكرى للفريق عبود كانت طبيعة المسألة عمل سرى يستخدم الواجهات نظراً لحداثة التكوين، كان التنظيم تنظيما جديدا وحديثا بحاجة لأن يقوى نفسه داخليا ثم يخرج للخارج، فالطبيعة التى اتخذها لتلك المرحلة سرية أى لا يعرف أى شيء عن التنظيم، قواعده، أسسه، قياداته وأفراده إلا الأعضاء المنضمين فقط، كما وأن طبيعة العمل كانت قد اقتضت للحركة أن يكون أسلوبها انتقائيا، بمعنى أنها تميل لانتقاء الصفوة والقادة والمبرزين في مجال الطلاب خاصة مجالات العمل الأخرى حتى يكونوا هم بمثابة القيادة والقاطرة للآخرين كل في مجال عمله، المبدأ الثانى كانت هناك دقة وتمحيص في اختيار الأفراد (عملية التجنيد) إلا بعد المتابعة والمصادقة والتى ستستمر لفترة حتى يطمأن لجانب الشخص ثم يضم للحركة.

معالم في أولويات العمل الحركى

كان المجال الطلابى هو المجال الأول باعتبار أن الطلاب هم دعامة المستقبل وهم الطليعة المثقفة والمتعلمة والتى كان لها نشاط في وسط المجتمع السودانى وخاصة عندما يرجعون إلى مناطقهم بالأقاليم والأرياف في الإجازات. كما اتخذت الحركة أيضاً بعض اعتبارات ومحاذير كتجنب الاصطدام بالطائفية باعتبارها قواعد متينة ف المجتمع السودانى ومن خطط وبرامج العمل في تلك المرحلة مناوأة الشيوعيين وإبعادهم عن السيطرة على الاتحادات الطلابية وكافة منابر العمل العام، تلك كانت طبيعة المرحلة وأولويات العمل وبعض المبادئ العامة التى توجه عمل الحركة داخليا وخارجيا.

علنية العمل بدأت بعد سريته مع تباشير الاستقلال، قبل الاستقلال كانت بداية العمل العلنى للحركة والتحضير للانتخابات العامة فمثلت هذه العملية أولى منابر العمل الحركى في المجال السياسي والمتمثلة في تكوين ما سمى بجبهة الدستور الإسلامى، هذا الاتجاه كان نابعا من مبعثين الأول الخلفية الذهنية والتخصص المهنى لقيادة الحركة، أربعة من ستة في المكتب التنفيذى كلهم من خريجى كلية الحقوق، يضاف إلى ذلك طبيعة المرحلة التى يمر بها المجتمع السودانى في ذلك الوقت هى انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور دائم للسودان. كان لابد لهذه الحركة الوليدة أن تعبر عن رأيها ووجهة نظرها في متقبل السودان السياسي والدستورى واستقر الرأى أن تطرح شعار الإسلام والدستور الإسلامى حتى يتبنى من داخل البرلمان ولكن ولم ذلك من السهل ليطرح باسم الحركة السودانية كجماعة باسم جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالى اتجهت الأنظار لتكوين جبهة الدستورالإسلامى، ضمت هذه الجبهة عدداً من المشايخ ومحبى الطرق الصوفية وجماعة التبشير الإسلامى وطائفة الطريقة التجانية وبعض المستقلين، ولكن الطائفتين الكبيرتين في السودان لم تكونا راضيتين عن تكوين جبهة الدستور الإسلامى وهما الختمية والأنصار، ومع ذلك استطاعت الجبهة أن تستمر وتخلق رأياً عاما إسلاميا يمثل قدرا كبيرا من التيار الضاغط، وهذه الحركة نستطيع أن نطلق فيها على الحركة الإسلامية مجموعة أو تيارأ ضاغطا في الساحة السياسية ولكنه قائد في ذات الوقت للرأى العام الإسلامى ولمبدأ الدسترو الإسلامى وتطبيقه في السودان. نجحت الجبهة إلى حد ما ولكن النجاح كان محدودا جدا نظرا لكثافة النفوذ في طائفتين في ناحية وقلة شعبية الإخوان من ناحية أخرى، حتى قيام الانقلاب العسكرى في نوفمبر 1958م هان اضطرت الحركة التى خرجت من سريتها للعلنية من خلال منبر جبهة الدستور الإسلامى من السرية إلى العلنية، ثم السرية والتنظيم الخاص إلى انتهاج أسلوب السرية في العمل مرة أخرى أثناء النظام العسكرى العبودى، في هذه الفترة بلورات الحركة السودانية قواعد العمل التنظيمى في ظل أوضاع عسكرية فرضت عليها بيئة عمل معينة على عكس ما اختارته لنفسها قبل عام 1956 إذ كونها وليدة حديثة واختارت السرية كأسلوب عمل تنظيمى لها، كما حددت أولويات في مجال العمل العام وتوضح الشكل التنظيمى والاسم كان عبارة "الإخوان المسلمون ".

هناك مركز عام وهنالك قيادة وسكرتير عام للإخوان ثم استبدل الاسم من سكرتير عام لمراقب عام لأنهم لم يرتضوا أن يكون اسم المرشد العام بسبب السن إذ أن المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر الإمام الشهيد حسن البنا ثم بعده الأستاذ الهضيبى كانا في درجة معينة من السن لم يبلغها سكرتير عام الإخوان المسلمين بالسودان يومها في ذلك الوقت إذ هو خريج 1954 من الجامعة فحتى 58 لم يكن عمره أكثر من 28 عاماً فارتضوا له اسم مراقب عام الإخوان المسلمين وهنالك مكتب تنفيذى وشُعب ومكاتب للفئات وهنالك مجلس للشورى ومؤتمر عام، هذا على صعيد الأجهزة التنظيمية والتنظيم الداخلى، بالنسبة للمنبر العام فقد كان هو جبهة الدستور الإسلامى وأما الهدف الكبير الذى كانت تعمل له الحركة في تلك الفترة من 54 – 58 كان هو وضع دستور إسلامى للسودان عن طريق حملة توعية وإعلام لجل الأحزاب السياسية في ذلك الوقت لقبول مشروع الدستور الإسلامى.

على صعيد النشاط العام أصدرت الحركة جريدة باسم الإخوان المسلمين في 26 يونيو 1956 كما أصدرت مجلة تتكلم باسم المرأة المسلمة اسمها المنار، وعلى صعيد الطلاب وفي الجامعات كان للحركة دور بارز ورائد جدا كما أسهمت خلال هذه الفترة في تكوين شعب العمال والمزارعين.

إن عملية التعريف بالحركة وانتشارها على صعيد التنظيم الداخلى والخارجى أخذ بعداً واضحاً والنشاط بفضل الله تزايد واتسع وامتد حتى انقلاب عبود، وجاء هذا الانقلاب وشكل نوعاً من القيد إذ حرمت الحريات العامة وحلت جميع الأحزاب السياسية في السوادن فانتهزت الحركة الإسلامية هذه الفترة واتجهت إلى الداخل (عملية انكفاء على الداخل) حتى كانت هذه الفترة هى فترة خصبة للنماء وكان العمل كما ذكرت سرياً، ومما ساعد على ازدهارها وتطورها أثناء فترة حكم عبود الانكفاء على الداخل مع ازدهار عدد من الأشياء والعوامل:

أولا: تأييد الشيوعيين لانقلاب عبود وتعاونهم مع النظام العبودى، وكان الشيوعيون يشكلون القوى الصدامية الأولى والخصم الأول في ساحة العمل الطلابى والفئوى بالنسبة للإخوان إذ تميزت الحركة عن الشيوعيين بمناهضتها ومعارضتها للنظام العسكرى في ذلك الوقت.

ثانياً: عملية الاتجاه نحو الداخل أعطت الجماعة فرصة للمراجعة ولمزيد من التمحيص في الكوادر والأعضاء لبناء وتكوين شخصية الأخ بقدر كبير من الشدة وما تتطلبه المرحلة من تضحيات وصبر.

ثالثاً: بداية المقاومة السياسية وبداية تكوين الجبهات والتحالفات إذ في تلك الفترة عمدت الحركة إلى تحالفات مرحلية مع بعض الأحزاب السياسية على أساس مناهضة النظام. هذا الأسلوب من العمل وهذا الاتجاه يعتبر منحى جديدا في العمل العام لم تسبق إليه أى حركة إسلامية في الوطن العربى سوى الحركة الإسلامية السودانية، ومارسته في تلك الفترة واستفادت منه فائدة كبيرة.

مرحلة الحكم العسكرى 58-1964م

تميزت بعدد من المميزات بالنسبة للحركة الإسلامية:

أولاً: الانفتاح على الأحزاب وترسيب خبرات من تلك التجارب.

ثانيا: انغلاق جبرى على الداخل لتسلط النظام ومصادرته للحريات العامة وحل الأحزاب السياسية وحصر الأنشطة وكانت فرصة للخلو إلى الذات لها فوائد كثيرة الحلوة إلى النفس.

ثالثاً: بداية التعارك السياسي والتصادم مع السلطة مهد لإبراز كوادر من الإخوان وقيادات على الساحة السياسية الشعبية والطلابية بصفة خاصة كما أن هذه المرحلة شهدت بعض الأعمال التى تعتبر جديدة ورائدة لحد ما وفى ذات الوقت غريبة أيضاً لحد ما إذ تم هنالك نوع من التنسيق بين مراقب عام الجماعة وبعض العسكريين لمحاولة انقلاب عسكرى ضد نظام عبود وكانت النتيجة هى أن هذا الانقلاب لم ينجح واعتقل الذين اشتركوا فيه وأعدم من أعدم وسجن من سجن وكان من بين السجناء الأستاذ/ الرشيد الطاهر مراقب عام الإخوان المسلمين في ذلكا لوقت وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات. الروايات تقول بأن المكتب التنفيذى للحركة كان على علم بأن هناك اتصالات مع العسكريين؛ ولكن ساعة الصفر لم يعلن بها المكتب أى ساعة الاشتراك الفعلى في المحاولة والذهاب إلى القيادة العامة وببيان إلى الإذاعة لم يحاط بها المكتب علماً، بالتالى سجلت المحاولة واعتبرت أنها تصرف شخصى للمراقب العام ولكن في النهاية تيبن أن هذه المسألة مربوطة بنوع من النزوع الشخصى لدى الأخ المراقب العام يوم ذاك.

انتهت هذه الفترة 54 – 1958 بقيام ثورة أكتوبر وهى ثورة شعبية أطاحت بالنظام العسكرى الذى قاده الفريق إبراهيم عبود . جاءت فترة أكتوبر إلى مايو 69 في هذه المرحلة كان للحركة الإسلامية دور كبير في ثورة أكتوبر.

دور الحركة في أكتوبر

كان دوراً قيادياً بارزاً ومشرفاً كما كانت التجربة في حد ذاتها بالنسبة للحركة الإسلامية تجربة رائدة لم تمر بها أى من الحركات الإسلامية في أى من بلاد العالم بل أن الثورة الشعبية نفسها كانت من الثورات الفريدة في تاريخ الأمم والشعوب.

وضع الحركة قبل ثورة أكتوبر داخلياً

ذكرت أنها كانت فرصة طيبة أيام حكم الرئيس عبود لمراجعة تنظيمية داخلية ولمباحث تقوية واجتهادات في فقه العمل الحركى حول مقاومة السلطة العسكرية وكيفية الإطاحة بها ولم يتبلور فكرنا وفقهنا الحركى في ذلك الوقت لدرجة الوصول إلى استلام السلطة ما عدا ما كان موجوداً عند المراقب العام، إنما كان كل الاتجاه هو بلورة فقه معين لكيفية ونوع ودرجة المقاومة السياسية لسلطة عسكرية جاثمة على صدر الشعب السودانى وذلك بالتعاون مع الأحزاب السياسية في الجبهة الوطنية. أما على الصعيد الخارجى، تم تكوين الجبهة الوطنية ومارست الحركة الإسلامية المقاومة السياسية المشتركة على صعيد الاضطرابات والمظاهرات وأيضاً استفادت من العمل الخارجى فائدة كبيرة كمعرفة نوعية الأحزاب السياسية والطائفية الموجودة في السودان وما كانت منعدمة لديها من الطهارة السياسية ومتوافرة لديها من نفعية وانتهازية من عملية الانفتاح بأنها دفعت بكوادرها التنظيمية والقيادية لنوع الاحتكاك المباشر مع مواطنين سودانيين يكبرونهم سناً ويسبقونهم خبرة وتجارب في مضمار عمل سياسي مشترك رأس الرمح فيه مناهضة الحكم العسكرى ولكن كان لابد من عملية التفاعل والاحتكاك هذه حتى لا تكون عملية البناء التنظيمى والحركى بالنسبة للكادر القيادى وهى مسألة مثالية ومحصورة في أطر عمل لابد له أن يحتك بالواقع والتجربة وأن يقاسى بعض الآلام من خلال وجوده مع هذه الأنواع من الساسة ومن قادة الأحزاب والطائفية في ساحة العمل الوطنى والذى كان متجهاً به لمقاومة ومناهضتها.

ثورة أكتوبر انتفاضة شعبية

شرارتها كانت ندوة ف الجامعة عن مشكلة الجنوب وكان اتحاد طلاب الجامعة بقيادة الإخوان منذ 1960 وإلى ما بعد 64 حتى قيام ثورة مايو 1969م تقريباً.

وأبرز المتحدثين في تلك الندوة كانوا من الإخوان، كان من بينهم الأخ الدكتور حسن الترابي والشهيد محمد صالح عمر والمحامى عثمان خالد مضوي وما لبثت أن تطورت هذه الندوة إلى تدخل العسكريين في الجامعة وإلى استشهاد أحد الطلاب روى أنه كان قريبا من الحركة الإسلامية "أحمد القرشي طه " رحمه الله وهو من أبناء القراصة في منطقة النيل الأبيض، فكانت هذه هى الشرارة التى أدت إلى اندلاع القورة حيث تم استنفار المحامي والقضاة ونقابة الأساتذة واتحاد الخريجين وعدد من الخريجين في الجامعات والمعاهد العليا.

قيض الله سبحانه وتعالى للحركة أن تلعب دوراً بارزاً في ثورة أكتوبر ابتداء من تشييع جثمان الشهيد أحمد القرشي طه من مستشفى الخرطوم إلى ميدان عبد المنعم بالخرطوم إذ أم المصلين لصلاة الجنازة، د/حسن عبد الله الترابى وكان قد قدمه السيد/الصادق المهدي بوصفه ممثلاً لأساتذة وطلاب جامعة الخرطوم، ومن هناك أخذ عربة إلى دار أهله. وفي موكب التشييع كانت البداية خطبة ألقاها الأخ "حسن الترابي " بعد أن صلى على الفقيد ثم انطلقت المظاهرة بعد ذلك وبدأت الثورة وكان قوام الثورة هو جبهة الهيئات.

دور الحركة في أكتوبر

كان دوراً قيادياً بارزاً ومشرفاً كما كانت التجربة في حد ذاتها بالنسبة للحركة الإسلامية تجربة رائدة لم تمر بها أى من الحركات الإسلامية في أى من بلاد العالم بل أن الثورة الشعبية نفسها كانت من الثورات الفريدة في تاريخ الأمم والشعوب.

جبهة الهيئات

والتى تكونت من نقابة المحامين، القضاة، اتحاد الخريجين لجامعة الخرطوم، الجمعية الطبية، هيئة أساتذة جامعة الخرطوم، واتحاد طلاب جامعة الخرطوم، واتحاد طلاب المعهد الفنى. وكان للحركة الإسلامية أن تسلمت رئاسة وسكرتارية جبهة الهيئات وقد كان الرئيس الفعلى د/حسن الترابي ، والسكرتير هو كاتب هذه السطور.

ذلك التنظيم الشعبى وخاصة في الأيام الأولى الحرجة للثورة الشعبية أجرى مفاوضات مع نظام عبود وأعطاه عهداً بأن لا يحاكم أعضاء النظام بعد أن يسلم السلطة حتى تم تكوين حكومة مدنية بعد أن سلم العسكريون وانتصرت الثورة الشعبية.

هذا الانتصار أبرز الحركة الحركة للساحة السياسية وأكسبها الكثير من التأييد وفي نفس الوقت أعطاها أصداء شعبية واسعة في أوساط المثقفين خاصة والمواطنين عامة، مما أوغر صدور الكثيرين عليها، ما بعد أكتوبر كان هناك جو فسيح من الحريات العامة.

بدأت الحركة تفكر في كيفية الاستفادة من هذه المكاسب التى تحققت لها إبان ثورة أكتوبر الظافرة وهذا التأييد والتعاطف الذى كسبته والسير به في جو الحريات العامة. اتجهت الحركة داخلياً لتمكين القواعد وخارجيا لتكوين ما أسميناه بجبهة الميثاق الإسلامى على أساس وضع مسودة دستور إسلامى لإقرارها طالما تمت للبلاد حكومة قومية. كان للحركة عضو في مجلس وزراء أكتوبر وهو الشهيد د/محمد صالح عمر إذ كنا سوياً نمثل اتحاد خريجى جامعة الخرطوم في بادية تكوين جبهة الهيئات ثم تأكد استمرارى بالجبهة بعد أن اختارنى زملائى وزميلاتى بوزارة التجارة وكان المحرك لهم الأخ/ مصطفى عبد الفتاح .

كونت جبهة الميثاق الإسلامى على أساس ميثاق من أربعة أبواب شملت هذه الأبواب النواحى السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والعلاقات بين السلطات، وانضم لجبهة الميثاق الإسلامى عدد من الطوائف والمستقلين منهم أنصار السنة والتجانية وكانت بالنسبة للحركة تجربة جديدة في الانفتاح. وسياسات التحالف من خلال المنابر كانت هى المنبر الثانى للعمل العام بعد جبهة الدستور الإسلامى. وفقت الجبهة لوضع مسودة للدستور وزعت للشعب السودانى على نطاق واسع وحظيت هذه بموافقة الكثيرين من أعضاء الجمعية التأسيسية ومباركة خفيفة من زعماء طائفتى الختمية والأنصار.

ما بعد أكتوبر 1964

استفادت الحركة الإسلامية خلال فترة ما بعد أكتوبر 64 إلى انقلاب مايو 69 بان حققت اتصالات خارجية (خارج السودان)، كانت لها نتائج طيبة على صعيد العمل التنسيقى أولاً والتلاقح مع الحركات الإسلامية المماثلة في سوريا ولبنان والأردن والعراق وأيضاً مع منظمة التحرير الفلسطينية حيث أتيحت لنا فرصة الاستفادة من تجاربها في مجالات التنظيم والبرامج وكان الشهيد محمد صالح عمر هو ضابط الاتصال مع فتح آنذاك. أيضاً استفادتالحركة في هذه الفترة بأنها تصدت للأوضاع الداخلية في السودان وعالجتها بصراحة وموضوعية من خلال الليالى السياسية والمحاضرات والمقالات في جريدة الميثاق الإسلامى والتحقيقات الصحفية.

إسهامات الحركة في المجال السياسي

كانت فترة ناجحة جداً في التعريف بقيم الإسلام ومبادئ الحركة وفي ترشيد العمل السياسي الحزبى إذ أسهمت بتعرية الأحزاب السياسية وكشف فسادها ووعودها الكاذبة وحملها على قبول مسودة الدستور الإسلامى ثم بلورت الحركة لنفسها موازين عمل حركى ، داخلياً كانت تحكم العمل السياسي ومدى الانخراط والاستغراق فيه وتدعو للمرونة والقدرة على التشكل وفق الظروف التى كان يمر بها المجتمع السودانى.

وقد تحقق للحركة قدر كبير من النجاح والتوفيق في الحملة التى شنتها على حل [[الحزب الشيوعي السوداني]] وطرد ممثليه من الجمعية التأسيسية وكان هذا من الانتصارات الكبيرة التى حققها المسلمون في السودان لأن [[الحزب الشيوعي السوداني]] كان أقوى حزب شيوعى في العالم بعد الحزب الشيوعي الإيطالى خارج المعسكر السوفيتى. كان له 11 عضواً في الجمعية التأسيسية منتخبين عن دوائر الخريجين وعن دائرة شعبية بينما كان لجبهة الميثاق الإسلامى خمسة أعضاء فقط أيضاً كان لها من الكوادر المتفرغة ما ينيف عن عشرين متفرغاً منهم ستة جامعيين متخرجين من مدارس مصرية ومن جامعات في أوربا الشرقية وكان جل ذلك نصر من الله بالنسبة للحركة الإسلامية وفتح قريب إذ حدث أن تم من داخل البرلمان اتخاذ قرار بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية هذا على صعيد العمل العام.

انقلاب العسكريين في مايو 1969م

على صعيد العمل الداخلى تطورت أساليب العمل في الداخل، قواعده ومناهجه وأساليبه حتى قيام ثورة مايو 1969 وكان انقلاباً عسكريا عاديا وسرعان ما احتواه الشاعريون والناصريون، وكان البيان الأول الذي صدر فيه تلك الروائح الكريهة والخبيثة كما كانت أول خطوة عملتها تلك الكفوة (عصابة مايو ) بعد البيان هى اعتقال قيادات الحركة الإسلامية "الصف الأول" ووضعوا في سجن كوبر، وبعد أن احتضن اليسار والناصريين والبعثيين الانقلاب بدأت حملة الاعتقالات تتوالى على قيادة الحركة "الصف الثانى" ثم القاعدة لكل من وشى به أو استخبر عنه بأنه من الإخوان بارزا هو سواء كان في مجال عمله أو في مقر سكناه تم اعتقاله حتى فاض سجن كوبر من المعتقلين فتم ترحيلهم إلى منطقة تسمى دبك شمال خرطوم بحرى.

ما هى لونية انقلاب مايو ؟

موقف الحركة من الانقلاب الذى تم في مايو كان بدهياً بعد أن تبينت معالمه ولونه السياسي والعقائدى وسيطرة الشيوعيين واحتوائهم له مع نفر من الناصريين والبعثيين. كان الموقف هو المعارضة بخط دائم ومستمر والقيادة داخل السجن تبلورت عمليا وتطورت هذه المقاومة بشتى الوسائل إلى مقاومة مسلحة ليس هذه المرة مناهضة للنظام وإقصائه وإنما للاستيلاء على السلطة وهذه أول مرة يتم فيها اجتهاد في فقه العمل الحركى الإسلامى على مستوى دولى لم تسبقنا إليه أى من الحركات الإسلامية وإنما اقتفوا أثرنا فيما بعد، تقاوم فيها حركة إسلامية السلطة السياسية مقاومة مسلحة وأن يتم سعى حثيث ومنظم مخطط ومبرمج له للإطاحة بالسلطة العسكرية الموجودة واستلام السلطة بدلا عنها هذه المسألة تبلورت من خلال عمل جبهوى مع الأحزاب السياسية خاصة حزب الأمة والحزب الاتحادى الديمقراطى.

قيام الجبهة الوطنية أكتوبر 1969م

بالنسبة للعمل الداخلى كانت فرصة للمراجعة الداخلية وضم الصفوف وترتيبها وأيضاً فرصة لمراجعة علاقاتنا الخارجية في المسرح الدولى وأيضاً فرصة لاختبار رابطة الأخوة والتكافل الاجتماعى فيما بين أعضاء الحركة في ظرف من ظروف الشدة حيث ظل الدعاة في الحركة يتحدثون عنها باعتبارها من أهم المعالم والقيم التى تضمنتها برامج الإخوان وعملية التربية بالنسبة للجماعة وأثرها وفائدتها في مثل هذه الظروف.

تبلورت أنشطة الحركة بعد انقلاب مايو إلى تكوين جبهة وطنية وكانت رئاسة الجبهة خارج السودان والظروف هى التى لعبت دورها في أن تكون بالخارج لأن قيادة الحركة الحركة الإسلامية السودانية كانت بالمعتقلات وبعض الإخوة كانوا مبعوثين وآخرين معارين للعمل بالخارج فالتقوا مع بعض قيادات الأحزاب وكونوا الجبهة الوطنية في أكتوبر 1969م واتخذت لها من مدينة (جدة) قاعدة لانطلاقة عملها ثم بدأ التضييق عليها عن طريق اتصالات من حكومة نميرى مع الحكومة السعودية فطردت من جدة إلى لندن في 1974 ومن لندن إلى ليبيا فتبلورت عمليات الجبهة الوطنية وكان قوامها هم كوادر الحركة الإسلامية وقليل من الأنصار في الحدود السودانية الأثيوبية وبعد أن كان العمل مجرد عمل سياسي خارجى تبلور إلى عمل عسكرى وإلى تدريبات في كل من معسكرات بالكفرة في الجماهيرية الليبية وعلى الحدود السودانية الأثيوبية.

كانت بداية التحالف السياسي هذا عام 1972 وتطورت المقاومة إلى مقاومة مسلحة وفق استراتيجية محددة وبناء على ميثاق تم تكوينه واتفق عليه عام 1974 اشتمل على كثير من المبادئ والتعاليم والإسلامية وضع ووفق عليه وكان هو الأساس لعمل المقاومة السياسية والارتقاء بها إلى مقاومة مسلحة.

المقاومة السياسية المسلحة

أعقب ذلك عمل جاد وهو محاولة غزو الخرطوم في سبتمبر 1975 م ثم يوليو 1976 م بهدف الاستيلاء على السلطة، فيما عرفته عصابة مايو "بالمرتزقة القادمين من ليبيا" وكانت كوادر هذا العمل من الإخوان الذين تلقوا تدريباتهم في معسكرات خارج السودان وكان الإقبال والعمل على هذه المعسكرات من الأمنيات بالنسبة لهؤلاء الشباب وهم طلاب دراسات عليا بالطب والهندسة وأساتذة مبعوثين من الجامعات وموظفين موفدين من الحكومات ومعلمين منتدبين للتدريب في الخليج وغيره، كلهم امتثلوا لتعليمات الحركة وتلقوا تدريباتهم وعندما صدرت لهم الكلمة ذهبوا للخرطوم منهم من استشهد ومنهم من اعتقل وعذب منهم الشيخ محمد محمد الصادق الكاروري وعز الدين الشيخ وبابكر العوض وسجل التاريخ هذه المواقف للحركة الإسلامية.

بداية العلاقات الخارجية للحركة الإسلامية السودانية

علاوة على عملية التدريب والدخول في المقاومة المسلحة كانت هذه الفترة فرصة لتكوين علاقات خارجية مع دول ومع أنظمة. وهذه أيضاً مما استحدثته الحركة الإسلامية السودانية وكان لها فيه فضل السبق على غيرها من الحركات الإسلامية في العالم أى عملية الاتصالات الخارجية مع حكومات ومع أنظمة وفق مبادئ معينة وهى إعلاء كلمة الله ومحاولة بسط النفوذ الإسلامى في واقع المجتمع السودانى وعلى ضوء هذين المبدأين كانت تتم عملية الاتصال وعملية العلاقات.

كانت النتيجة العديد من المكاسب في مجالات متعددة بالنسبة للحركة الإسلامية السودانية ولكن كان في المقابل إنهاك لقوى الحركة والجماعة وقدر كبير من الضعف في الكوادر واستنزاف للإمكانات والموارد المالية. وأذكر أنه في إحدى اللقاءات كانت مجموعة من المتدربين في أحد المعسكرات لم نستطع أن نؤمن لهم تذاكر العودة إلى أماكن عملهم في تلك الفترة، هذا الموقف أدى إلى أن تراجع الحركة في نفسها، فعلى الرغم مما كسبته من تنمية كوادر في مجالات سياسية، ديبلوماسية، ديبلوماسية عسكرية، وقيادة الفئات في الداخل (أساتذة جامعات مراكز قوى تجمعات المثقفين)، إلا أنها اضطرت في عام 1977 أن تقبل ضمن الجبهة الوطنية بفكرة المصالحة مع النظام النميرى الذى كان مسيطراً.

المصالحة الوطنية مع حكومة الرئيس جعفر النميرى عام 1977م

للأمانة والتاريخ لم تبدأ الحركة الوطنية بطرح شعار وفكرة المصالحة وإنما طرحت من قبل قيادة حزب الأمة وبدأت في السعى لها. وأُخبرت الحركة الإسلامية بأن هنالك حواراً واتصالات تجرى بين قيادة حزب الأمة وكانت هى قيادة الجبهة الوطنية وبين نظام النميرى وعلى قيادة الحركة الإسلامية أن تكون على علم بما يدور حتى لا تؤخذ على حين غرة وفي نفس الوقت تجد نفسها أمام الأمر الواقع "هذه الأنباء جاءت من الأخ الرشيد الطاهر عبر كل من د.مالك بدرى ود.جعفر شيخ إدريس وأبو عوض ونقلته إلى قيادة الحركة بالخارج في لندن حيث اجتمعت القيادة في منزل الأستاذ عثمان خالد مضوي المحامى واتخذت قرارها بتكليف الأستاذين أحمد عبد الرحمن محمد وربيع حسن أحمد للسفر إلى السودان للتشاور مع قيادة الداخل وكانت يومها د.حسن عبدالله الترابى بكوبر وصادق عبد الله الماجد ببورتسودان ومعهم آخرون.

الأستاذ المحامى الرشيد الطاهر بكر-رحمه الله- :

وتجدر الإشارة هنا أن نوفى الرجال حقهم فالأستاذ الرشيد الطاهر بكر هو ثالث مراقب عام لحركة الإخوان المسلمين بعد كل من الأستاذ علي طالب الله من أهالى القطينة والأستاذ (الدكتور) محمد الخير عبد القادر ثانى مراقب عام لحركة الإخوان المسلمين بالسودان وقد تم انتخابه بالمؤتمر التأسيسي للحركة في عام 1954.

أما الأستاذ الرشيد الطاهر فقد تم انتخابه مرة بالمؤتمر العام للحركة عام 1955 م وهو في ذلك الوقت كان محاميا في بداية حياته العملية كما كان قائداً ظلابيا نشطً بجامعة الخرطوم واتحاد طلاب مدينة القضارف مسقط رأسه حيث عرف بحبه للمساكين وتعاطفه مع قضاياهم والأستاذ الرشيد الطاهر كان معروفاً بأنه صواماً –كل اثنين وخميس- كما كان قواماً، لا يهجع من الليل إلا قليلا كما عرف بسعة صدره، وكرمه ولين جانبه، وحسن معاشرته لإخوانه وبالمقابل كان عنيفا وصداميا لخصومه وأعدائه.

كما عرف أنه كان كثير التأمل والصمت والتفكير، متأنياً في إصدار قراراته وأحكامه كما كام محدثا لبقا وخطيبا سياسيا مفوها وبارعا ومفحما.

تلاقحت فيه صفات ومؤهلات القيادة لحركة إسلامية وليدة في بحر سياسي تلاطمت أمواجه في السودان بين قيادة سياسية طائفية وأخرى يسارية شيوعية، شكلت مناخا وبيئة عمل حركى عجمت عوده وصلابته مع إخوان له في المكتب التنفيذى / القيادى ومجلش شورى منتخب من المؤتمر العام للحركة، مكنته من أن يكون رباناً ماهراً وقائداً محنكاً لسفينة الحركة الإسلامية قرابة عشرة أعوام في صفاء ووئام وانتصار تلو انتصار مما جعله وفيا لهذه الحركة منبها للأخطاء المحدقة بها رغم أنه اختار طريقا آخر يعكس طموحه الشخصى وحبه للسلطة والذى يقال أنه ورثه من بعض أجداده من ملوك الكونجارا بجنوب غرب دارفور والذين لهم مقل متمسكون به يقول (حكم لى ساق ولا مال لى خناق).

أردنا بهذه الكلمات أن نسدى بعضا من وفاء وشكر لأخينا الكريم الراحل المقيم الأستاذ/ الرشيد الطاهر بكر فقد تتلمذنا عليه في الحركة الإسلامية وشرفنا بل نعمنا من أفضاله وكرمه.

ونعود لأسباب المصالحة الوطنية ودواعيها وظروفها وملابساتها والتى كانت الإنهاك الذى طال الجانبين من كثرة الصدامات وطول الصراع والعراك فيما يخص الجبهة الوطنية من جهة بما فيها الحركة الإسلامية وفيما يخص نظام نميرى من جهة أخرى.

ثانياً اعتبار آخر هو بداية الرئيس نميرى بداية شخصية جديدة ثم محاولته لأن يبسطها على من هم أقرب منه بما يسمى بالقيادة الرشيدة ثم تعميمها بما يسمى بالولاية الثانية، والولاية الثالثة والاعتبار الثالث الذى جعل الحركة الإسلامية تقبل بفكرة ومشروع المصالحة هو أنها وضعت في اعتبارها المزيد من الإضعاف للأحزاب السياسية ومحاصرة اليسار والقضاء عليه بعد الضربة التى تلقاها من نميرى إثر محاولة انقلاب هاشم العطا الفاشلة في عام 1971 م واعتبار رابع كانت فرصة لجمع أطراف الحركة وضم الصفوف والتقاء قيادة الحركة الإسلامية التى كانت في الداخل خاصة بالسجون والمعتقلات في كوبر وبورتسودان حيث وافقت على فكرة المصالحة الوطنية عام 1977 والحركة التى كانت بالخارج تقود المقاومة السياسية والعمل العسكرى في ساحة عمل تكاد تكون خالية من التنظيمات العقائدية والواعية بالنسبة لفرصة المصالحة.

تمت عملية المصالحة دون قيد أو شرطعام 1977 وأفرج عن الإخوان في السجون والمعتقلات وأتيحت الفرصة للإخوان في الخارج سواء كانوا في المعسكرات أو في أماكن أخرى للعودة للسودان. وبدأت مرحلة جديدة من 1979 م حتى الآن وحتى 1981 م بالتحديد بالنسبة للحركة.

تميزت هذه الفترة بتعاون مع النظام لأنه أعلن إنه مع الإسلام ومشى في طريق الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية، ثم تطورت العملية من مصالحة وتعاون إلى مشاركة محدودة في السلطة السياسية، كان يحدد هذه المشاركة ويكيفها جانب واحد هو الرئيس جعفر نميري . ولم يكن لنا خيار في تكييف وتوعية هذه المشاركة إلا فيما بعد وكانت هذه محدودة أيضاً.

ثالثاً: تحققت انتصارات بحمد الله خاصة في المجالات التشريعية والاقتصادية والسياسية بالنسبة للحركة.

رابعاً: زعزعت دعائم الاتحاد الاشتراكى وتم إفراغه من ساحات عمله تمهيد لأن ترثه الحركة الإسلامية.

هذا ما كان على صعيد العمل العام والتجربة السياسية بما فيها من انفتاح وانغلاق ومنابر وتحالفات وارتباطات بالقوى والمجموعات الشعبية وفئات الضغط والأحزاب السياسية.

محاولة انقلاب عسكرى مجهضة

وتجد الإشارة هنا إلى أن هذا المنحنى في منهج العمل الحركى وهو الانقلابات العسكرية لم يكن وارداً وخاصة لحالة كونه تقوم به الحركة بمفردها ومنسوبيها ولكنه ورد في إطار العمل الوطنى المشترك والجماعى في نطاق الجباهات القومية المعارضة وفق مواثيق وبرتوكولات معينة.

ومع ذلك فقد تمت محاولة انقلاب ضد نظام نميرى في عام 1971 م والعهدة على على الراوى قبل محاولة هاشم العطا. وكانت تلك المحاولة بتوجيه من الأمين العام للحركة وأمين جبهة الميثاق الإسلامى ومن داخل سجن كوبر إلى قيادة الحركة بخارج السجن أن تجرى اتصالات معينة مع ضابط كبير في نظام جعفر نميري وقام الأخ المسئول يوم ذاك الأستاذ إبراهيم محمد الحسن الدسوقي رحمه الله رحمة واسعة بدوره خير قيام جمع مكتبه القيادى وأبلغهم بالتوجيهات من الأمين العام، ومن ثم قام بالاتصالات مع الضابط الكبير حسب التعليمات وقد وفق الأخ المسئول إلى حد كبير في اتصالاته واجتماعاته مع نائب الرئيس جعفر نميري ومستشاره للأمن القومى فيما بعد وتوصلا إلى تحديد ساعة صفر للتنفيذ ولكن قضت إرادة الله أن قام نائب نميرى بإبلاغ نميرى وربما كان أولاً بأول حتى حددت ساعة الصفر حيث تم اعتقال كل قيادة الحركة من الصف الأول والثانى وانتهت تلك المحاولة.

وقد رأيت أن أسلط ضوءاً ولو خافتاً على هذه المحاولة عسى أن تكون مدعاة لطلاب الدراسة العليا في العلوم السياسية أو المعنيين بتاريخ الحركة ومواقفها من حيث أنواع المعارض أو المقاومة السياسية أو العسكرية باعتبار أن بها مادة تصلح لأطروحة درجة جامعية عليا.

مبادئ في الحركة والتنظيم

خصائص، مفاهيم وقيم

بقى علينا الآن أن نتحدث قليلاً عن بعض خصائص هذه الحركة وعن بعض المفاهيم والقيم:- أولى خصائص الحركة الإسلامية السودانية كانت هى الإيمان العتيق بالله –سبحانه وتعالى- وهذا مبدأ باستمرار يطرق وعزز ويدق عليه في الأسر وفي الكتائب والرحلات، على أساس حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): "الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل".

والركيزة الثانية بعد الإيمان العميق، كانت الفهم الدقيق بالنسبة للإسلام وبالنسبة للحركة وبالنسبة لقواعد التنظيم وأطره حتى يستطيع المنضم والملتزم أن يعرف أين هو؟ أين موقعه؟ إلى أين يسير؟ ومع أى جماعة؟ وماذا تعمل هذه الجماعة؟ حتى لا يكون "كالأطرش في الزفة".

والركيزة الثالثة هى العمل المخلص الدؤوب لأن الإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر.

كانت تلك الركائز الأساسية الثلاثة التى قامت عليها الدعوة والحركة وفصلت أهداف محددة لسياسات معينة في كافة مجالات العمل حسب الأولويات وتبعاً للمقتضيات الظرفية والمرحلية.

ومع هذه المبادئ الرئيسية كانت هناك مفاهيم وقيم تربوية تضمنتها برامج الإخوان ومحاضراتنا العامة للتثقيف، إذ حرصت الحركة على إحيائها وتعميقها وإعمالها في نفوس الأفراد من خلال البرامج التربوية والثقافية والمحاضرات والندوات والعمل الحركى، منها:-

أولاً: الحرص على الصحة والقوة والحديث يقول "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

ثانياً: أن يكون الأخ كريم النفس موفور الكرامة والحديث يقول "اليد العليا خير من اليد السفلى" حتى لا يطمع فيما عند الناس وفي أيديهعم حتى يستخفوا به إذا حادثهم لكنه إن كان عالى الهمة موفور الكرامة لم يكن طامعا وكان عفيفاً ومعتداً لحد كبير زهد في حق الناس ونظر الناس إليه نظرة غير نظرة الشخص الذى يرغب فيما عندهم.

ثالثاً: أن يكون عف اللسان طاهر القلب لأن الحديق يقول: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" وفي حديث آخر "المؤمن كيس فطن" وليكن الأخ حذرا "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين".

ومن أهم المبادئ التى تحرص الحركة على غرسها والقيم التربوية أن يتقن المؤمن العمل الذى يقوم به "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة" و "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه". فينبغى أن ينصرف الأخ إلى عمل المهمة التى كلف بها وينجزها ثم بعد ذلك يلتفت إلى أشياء أخرى. ومن المبادئ أيضاً أن يلتزم خلق الحياء، والحياء لا يأتى إلا بخير. ومن المبادئ أيضاً الرفق. فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع الرفق من شيء إلا شانه".

مفاهيم وقيم العمل الاجتماعى والعام

كانت من المبادئ والقيم التربوية الخاصة ولكن هنالك أيضاً مبادئ ومفاهيم من قيم العمل الاجتماعى والعمل العام كان لابد للحركة أن تتميز بها وأن تتدارسها وأن تمارسها على صعيد الواقع حتى تعطى القدوة الحسنة والعمل الجيد.

منها أيضاً البر ليس في الشكليات وإنما هو في جوهر الأشياء وواقعيات بيئة العمل الحركى، وخاصة في مجمتع كالمجتمع السودانى معروف بطائفيته وتراحمه وودّه، فكان لابد من أن يكون هنالك قدر كبير من البر وكان هذا جليا في موقف مفاوضى الإخوان مع جماعة (عبود) عندما التزموا لهم بأن لا يمسهم شيء، وعندما أرادت جبهة الهيئات أن تحاكم (عبود) وقفت مجموعة الإخوان داخل جبهة الهيئات وخارجها وفي الحكومة أن هذا عهد سبق أن أعطى. فالمسلمون عند عهودهم.

وأيضاً من موازين وقيم العمل الحركى العام لا ثمر بدون جد وسعى وعمل وعلينا بالعمل والنتائج من عند الله –سبحانه وتعالى- حتى لا ييأس الأخ الداعية من أنه يتوقع أن يحصد ويحصل على الثمرة وخاصة إذا كانت المسألة كبيرة وإنما عليه أن يسعى ويجد والنتائج من عند الله سبحانه وتعالى.

ومن المبادئ والقيم، لإرادة الإنسانوعمله أثر واضح فيما تنتهى إليه الأحداث فإذا كانت الإرادة والهمة عالية وأعملنا هذه الإرادة بقوة وفاعلية كانت النتيجة على قدر أهل العزائم تأتى العزائم، وإذا كانت الإرادة ضعيفة والهمة ميتة ولكن عاملة كانت النتيجة ضعيفة وهزيلة، وأيضاً هناك الترفع عن الخضوع للميول الشخصية وتصرف تحت تأثيرها ولعل هذه مسألة حرصنا عليها خاصة بعد أن تبين لنا أن هنالك من القيادة من كانت لهم طموحات شخصية يريدون تحقيقها بأى شكل من الأشكال سواء كانت المجموعة التى انشقت عن الحركة في بداية التكوين وأسست (الحزب الاشتراكى الإسلامى) أو بعض القيادات التى ذهبت وانخرطت في الأحزاب لأجل أن تبرز سياسياً، ومن مبادئنا أيضاً أن الدفاع عن النفس مشروع والاعتداء على الغير ممنوع إلا لدواعى الضرورة، "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" وهذه مسألة مان لها أثر في الجامعات والمعاهد العليا ولولا عمليات الاستعداد والتدريب تلك لم تكن هذه المدارس والمعاهد والجامعات بيئات صالحة لتخريج المواطنين واستفدنا منها أيضاً عند المقاومة المسلحة 1974 ، 1976 وكان الشعار والهتاف الذى يتردد في النفس كما يجلجل في السهول والوديان والقاعات "الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا" هذا هو الشعار الذى كلما يتردد تخفق له القلوب وتتجاوب معه النفوس في كل دار من دور الإخوان المسلمين وفي كل منبر من المنابر التى اعتلتها الحركة الإسلامية معبرة عن ذاتها وعن أهدافها.

الفصل الثانى: كسوب الحركة الإسلامية السودانية

الكسب الداخلى:

أكتوبر: صفحات مطوية وشخصيات منسية.

• استقلالية نسبية للحركة الطلابية.

• الندوات ثم جبهات الهيئات.

• الثلاثاء العصيبة 27/10/1964م

• الحركة الإسلامية والسلطة ؟؟

• انتخاب مكتب جبهة الهيئات حيث كنت العضو الوحيد الإسلامى بين أربعة عشر شيوعياً.

• الخلاصة . مجمل الكسوب.

• كسب الحركة الحركة الإسلامية السودانية من البعد الدولي . مقتطفات من مقالة كتبها د.حسن عبد الله الترابى.

• في إفريقيا والخليج.

• مؤتمر الذكر والذاكرين.

ثورة الإنقاذ الوطنى

• ما هى طبيعة الخلاف بين الجبهة الإسلامية القومية والقوى السياسية الأخرى.

• ألا يحز في نفسك الاختلاف الحاد والتشرذم الكبير بين القوى السياسية الإسلامية في السودان ؟

• أيهما الأقرب فكرياً وسياسياً لنظام الأنقاذ السيد/ الصادق المهدي أم السيد/ محمد عثمان الميرغني.

• من تجارب الحركة الإسلامية في السودان وحصيلتها:- بعض الشواخص والاعتبارات.

• فترة ما بعد المصالحة ....!

• العلاقات مع الأنظمة والدول.

كسوب الحركة الإسلامية السودانية

إن كسوب الحركة الإسلامية السودانية خلال مسيرة نصف قرن من الزمان (1953 وحتى 2003) كثيرة والحمدلله، متنوعة ومتعددة، كما وأن إنجازات الحركة على أصعدة مختلفة إنجازات متوافرة، ويصعب علىّ تعديدها وحصرها والإحاطة بها، وهذا الذى أشير إليه في هذه الصفحات هو بعضاً مما عايشته وسجلته لعل في ذلك دعوة للذين لديهم المزيد أن يفيضوا به القراء والدارسين وأن يسجلوه للاستلهام أو الاستفادة أو الاعتبار.

وقد رأيت أن تكون مجالات الكسوب هذه في عدد من الأبواب تحت هذا الفصل ومنها التالى:

1/ الكسب الداخلى.

2/ البعد الخارجى . الدولى.

3/ الكسب الإفريقي والعربى والخليجى.

4/ ثورة الإنقاذ . مقابلة صحفية . أخبار اليوم الأسبوعى.

وربما هناك آفاق أخرى لم أتطرق إليها قد ينبرى لها غيرى من المؤسسين للحركة والعاملين فيها في فترات لما تكن داخل السودان تصدو فيها لقيادة العمل الإسلامي بهمة وغخلاص وقدموا فيها من العطاء ما نحسبه مخلصاً ومزكى ونسأل الله أن يتقبله من الجميع.

الكسب الداخلى

ثورة أكتوبر وجبهة الهيئات ودور القطاع الطلابى بالحركة.

أكتوبر: صفحات مطوية وشخصيات منسية

لقد هزنى بل آلمنى كثيرا ما كتبه الإخوة:

1/ عبد الله على إبراهيم بصحيفة "الرأى العام" "يا طفلنا الذى جرحه الزمان الخائن" بتاريخ 16 شعبان 1423 هـ الموافق 22/10/2002م.

2/ صلاح الدين عووضة بصحيفة "الرأى العام" بالمنطق " إذا عرف السبب بطل العجب" بتاريخ 19 شعبان 1423 هـ الموافق 25/10/2002م.

وعادت بي الذاكرة إلى ما قبل 21/أكتوبر عام 1964م بشهور قليلة عندما كنت المسئول الأول عن الحركة الطلابية في السودان، مكتب الطلاب وعضواً بالمكتب التنفيذى لحركة الطلاب المسلمين يوم ذاك. ويومها كان معى مجموعة من الشباب الطلاب والخريجين يشرفون على هذا العمل، أذكر منهم الأستاذ د.عبد الرحمن محمد مصري، الأستاذ عبد المنعم أبو بكر والأستاذ د/ الفاتح محمد مدني، الأستاذ محمد محمد علي الشفيع، الأستاذ الشيخ حاج حمد، الأستاذ عبد الماجد إبراهيم عبد الماجد، الأستاذ حاج آدم حسن الطاهر، الأستاذ الضو محمد الضو وآخرين وربما لم تسعفنى الذاكرة بأسمائهم. وكنا نخطط "للخطوة الكبيرة" وأكتوبر بحق كانت خطوة كبيرة في ظل الأوضاع السياسية بالسودان يوم ذاك.

ومقاومة الحركة الطلابية للقانون رقم 9 والذى أرادت به الحكومة العسكرية يومها ضم "جامعة الخرطوم أساساً" وغيرها من الجامعات إلى وزارة التربية والتعليم.

استقلالية نسبية للحركة الطلابية :

لعل الكثيرين لا يعرفون أن الحركة الإسلامية السودانية قامت على أكتاف الطلاب وعلى قواعدهم وعلى النجباء والأذكياء منهم وعلى أولاد العز والقبائل منهم ومع ذلك فقد كانت للحركة مجالات تسع غيبر هؤلاء من أبناء الفقراء والمساكين والعمال الشرفاء والكادحين ونظراً لاعتمادهم على الكادر الطلابى وأنشطة الطلاب الإسلامية داخل الحركة ومجالات عملها خارج المحيط التنظيمى للحركة فقد حصلت الحركة بكفاحها ومرانها وصلابتها وقوة عزيمتها على وضعية مستقلة نسبياً تعامل بها في علاقتها بالمكتب التنفيذى للحركة الإسلامية، الإخوان المسلمين، ثم جبه الميثاق الإسلامية.

وإنه من هذا المنطلق كان التفكير في أكتوبر كخطوة طلابية صغيرة، يقودها الطلاب وتسهم فيها الحركة الوطنية المعارضة للنظام العسكرى يوم ذاك. وكان يشارك فيها مجموعة من قيادات الأحزاب السياسية ولكن جناحها وسط الطلاب كان ضعيفاً، على عكس اليسارية متمثلة في الحزب الشيوعي السوداني والحركة الإسلامية متمثلة في الإخوان المسلمين. وكانت جامعة الخرطوم هى رأس الرمح في العمل الطلابى والعمل السياسي. وكان مكتب الطلبة هو النحلة التى تتحرك تجاه ما يحدث ويستجد في الساحة السياسية.

وكان مقر المكتب قريبا جدا من الجامعة، حيث توجد الآن صيدلية شعبية على شارع الجامعة، يومها كان منزل الدكتور كمال محمد مدني والذى أسهمت أسرته بعطاء كبير ومرموق وجليل للحركة الإسلامية السودانية.

فقدمت الشهيد عبد المتعال محمد مدني تقبله الله، وقدمت المحامى د.الفاتح محمد مدني وكان عضواً بمكتب الطلاب، وأيضا جلال محمد مدني وقدمت الأستاذة سميرة محمد مدني حيث أسهمت مع أختها د/ سعاد محمد الفاتح البدوي والأستاذة ثريا امبابي حرم السيد محمد محمد مدني في مكتب المرأة للحركة. ومجلة نهضة المرأة السودانية المسلمة وشهدت الإذاعة السودانية نشاطا بارزا لهم وعطاء في وقتها مقدرا ومفيدا. وكان المكتب يتلقى تقاريره بانتظام من قيادات الحركة الطالبية في منزل المرحوم د.كمال مدنى يدرسها معهم ويرفعها في شكل توصيات منهم إلى المكتب التنفيذى للحركة ويعود إليهم بقرار الحركة، كل ذلك كان يقوم به كاتب المقال كمسئول تنظيمى استمر بالإشراف على العمل الطلابى منذ إبريل 1962م حيث التخرج في الجامعة وحتى يوم 27 مايو 1969م حين تم اعتقال كاتب المقال مع إخوانه من قادة الحركة الإسلامية. وتمت استضافتهم بسجن كوبر وأُسدلت صفحة ناصعة من تاريخ العمل الطلابى بقيام ثورة مايو 1969م.

الخطوة الطلابية الكبيرة :

والتى كان يتم التحضير لها على مستوى الطلاب، كانت أيضا تتزامن مع وتتلاقح في جهودها مع الحركيين الإسلاميين في مكتب العمال. ولم يكن مصادفة أن يكون الذين أشرفوا على هذا العمل في مجال العمل ونقاباتهم شخصيات أمثال المرحوم سليمان سعيد ثم د.عبد الرحمن محمد سعيد "عصار – القضارف" وعبد الرحمن يوسف حيدوب وعبد الرحمن البخيت وعبد الرحمن قسم السيد كلهم عبيد الرحمن لا للسلطة ولا للجاه. ويوسف مختار وأبو القاسم عبد القادر وأبو القاسم المبارك وأحمد محمد أبو الريش وآخرين.

كانت تجربة الحركة الطلابية تأخذ من معين الحركة العمالية، كما كانت تجربة الحركة العمالية تستلهم مواقف الحركة الطلابية، وكلاهما يتأثران بالمد والجذر في الحركة اليسارية مدار الصراع والمواجهة الممثلة في [[الحزب الشيوعي السوداني]]، أقوى حزب في العالم خارج الاتحاد السوفيتى يوم ذاك، وثانى أكبر حزب شيوعى في العالم بعد الحزب الشيوعي الإيطالى. ولعل ما كتبه عن الحركة ودورها في أكتوبر محجوب سيد أحمد، الزعيم العمالى المعروف وما سوف نشير إليه من دور العمال في ثورة أكتوبر فيما بعد بهذه المقالة يشير أيضاً. لم يكن أحد يتصور أن الخطوة الكبيرة التى يخطط لخا الطلاب في الحركة الإسلامية، هى أكتوبر: ثورة شعبية عزلاء إلا من الإيمان بالله والوطن وبالديمقراطية. وكانت وراء أكتوبر، وكانت ثورة كبيرة على قدر هامة السودان وهالته. وعلى قدر مركز السودان في الوطن العربى والإسلامى والإفريقى.

الندوات ثم جبهة الهيئات :

وكانت فكرة الندوة عن قضية جنوب السودان وعن الحريات في السودان هى المحك الذى جعلنا ندفع بأخلص العناصر في الحركة وأقواها شكيمة وعزيمة إلى ندوة الشهيد محمد صالح عمر والأستاذ المحامى عثمان خالد مضوي ويليهم في الندوة التالية الدكتور حسن الترابي كان ذلك مساء 21/10/1964م.

وفي هذا الإطار الملتهب بين الدعوة إلى الحرية والديمقراطية وبين تكريس الديكتاتورية التفت عناصر الهيئات حول الانتفاضة الطلابية والتى أصبحت ثورة تحالف بين الشعب والضباط الأحرار داخل القوات المسلحة. وكان النداء إلى العصيان المدنى في اليوم الذى تلا الندوة. وكانت الحركة الإسلامية قد أعدت نفسها وكوادرها لإسقاط النظام العسكرى، ولكنها لم تكن مستعدة للحكم والدليل على ذلك أنه في اليوم التالى لتجمع الهيئات والنقابات بعد إعلان العصيان المدنى في موكب القضائية إلى وزارة الإعلام بدأت المصادمة بين الشعب والبوليس والجيش وفرق موكب القضائية بالسلاح يومئذٍ.

وعلى الرغم من ظهور السادة بابكر عوض الله والمرحومين عابدين إسماعيل وعبد المجيد إمام، إلا أنه كان معهم جنبا إلى جنب من الإسلاميين متواجداً كل من د.حسن الترابي والشهيد محمد صالح عمر ، وكانب هذه السطور والأستاذ عبد الله حسن أحمد ودكتور سعاد الفاتح البدوي والمرحومة ثريا امبابي، وبالطبع كانت فاطمة أحمد إبراهيم وزوجها فيما بعد المرحوم الشفيع أحمد الشيخ.

الحركة والإضراب السياسي :

كما أن للحركة الإسلامية الدور الفاعل في متابعة الأحداث وتطوراتها، كما كان لمكتب الطلاب بقيادتنا دور كبير في إنجاح العصيان المدنى يوم السبت 24/10/1964م إذا قدر لنا أن نخرج من وزارة التجارة والصناعة والتموين بعد أن أخرجنا كوادرها من الخريجين وغير الخريجين، وكان من ساعد في ذلك المرحوم يوسف صديق نديم، والزعيم مصطفى محمد عبد الفتاح "الوكيل" والأستاذ طه حمدتو رحمه الله، فخرجت إلى وزارة المالية وطلبت من الإخوة عبد الرحيم محمود حمدى ود.إبراهيم عبيد الله رحمه الله وإبراهيم هارون أن يعملوا على إخراج الموظفين للمشاركة في الموكب ثم إلى بنك السودان وكان الأستاذ الأستاذ صلاح أبو النجا والنقابى العتيق العتيد يوسف مختار، ثم إلى وزارة الزراعة وكان فيها الأستاذان عبد الرحمن محمد أحمد رحمه الله ثم إلى بلدية الخرطوم وكان هناك أحمد عوض الكريم وصلاح مازرى والمهندس العاقب.

ومن الزراعة تحركت إلى وزارة الخارجية وكانت يومها في مبنى الحركة الحالى وفيها كان الشيخ علي طالب الله المرشد العام للإخوان المسلمين ومدير مكتب مقاطعة إسرائيل، وهو من الذين رفضوا مبايعة الإمام الشهيد حسن البنا لظروف السودان. وشهد بذلك كل من الشيخ علي عبد الرحمن والأستاذ والأستاذ فريد عبد الخالق عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان بمصر رحمه الله. وفي الخارجية سليمان عبد الله من أهالى الفتيحاب، والسيد على أحمد سحلول رحمه الله وزير الخارجية الأسبق من أذكى وأنبل وأقوى من عملوا بوزارة الخارجية السودانية. وهؤلاء هم النواة الحقيقية والأصلية لجبهة الهيئات قبل أن يسطو عليها الشيوعيون. ولا يفوتنى أن أذكر الموكب الهادر الذى جاءنا من المعهد الفنى جامعة السودان اليوم، وكان الموكب بقيادة رئيس الاتحاد المهندس عبد الحميد الفضل، وسكرتير الاتحاد المهندس ميرغنى، ومن أعضاء لجنة اتحادهم الفاتح التجانى والشيخ حاج حمد وعبد الماجد إبراهيم عبد الماجد. ومن جامعة القاهرة الفرع البلدوزر المحامى أحمد كامل العاص رحمه الله والأستاذ محمد عبد الرحيم باسان والأستاذ المرحوم د.عبد الرحمن بلة على رحمه الله وآخرون من جامعة أم درمان الإسلامية، أذكر منهم الدكتور المرحوم عبد الرحيم سعيد التلب. والاخوة البروفسير علي أحمد بابكر والبروفسير محمد عثمان صالح. وقد اتخذنا القرار ببعثهما إلى بريطانيا فيما بعد للتحضير للدراسات العليا. وكانا يومها مترددين نظرا لضعف لغتها الإنجليزية، ولكن الحمد لله فقد بدآ رحلة الدراسة وتبعهما آخرون بقرار لاحق من المكتب التنفيذى للحركة الإسلامية، فكان من المبعوثين الكثير من حيث التقوا بقيادات أخرى كانوا فيما بعد نواة الحركة الإسلامية في أوطانهم، حيث أنهم أعجبوا جدا بتجربة الحركة السودانية، حتى أن البعض كانوا يطلقون على أنفسهم أنهم من مدرسة الإخوان المسلمين بالسودان، والحق يقال فإن السودانى بطبعه العادى متميز بالنخوة والفحولة والرجولة واحترام حق الآخرين ووقوفه عند حدوده والدفاع عن حقه، مستذكرا لحديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام "من مات دون ماله أو عرضه فهو شهيد".

كما أن السودانى ذو أنفة واعتزاز "عنده كبيره الجمل" ذلك الزول "وزول في القاموس العربى تعنى إنساناً له قيمة بما تجمه لديه من محامد وخصال" ليس بالسهل ناهيك عن أن يكون عضواً بالحركة الإسلامية السودانية.

ومعذرة في هذا الاستطراد فهى صفحات مطوية وبها شخصيات منسية. وودت أن أفتح الصفحات وأفردها وأتعرض للشخصيات حتى نذكر بدورها وفضلها على وطنها، حتى يستلهم منها الجيل الحاضر ما هو ضرورى من الزاد والوقود لمعارك الحاضر والمستقبل إن شاء الله.

كما كان من الجنود المجهولين في أكتوبر الفنان المصوراتى نصر الدين حامد من كوستى شفاه الله وعافاه والذى قدم لنا عربته الفلوكسواجن 1303 وكانت جديدة لنتساعد بها أثناء حركتنا تلك الأيام، والتى شهدت نقل الجرحى إلى مستشفى الخرطوم واجتماعات نواة جبهة الهيئات بنادى أساتذة جامعة الخرطوم، حتى كان حل المجلس العسكرى بواسطة الفريق عبود وبضغط من الشارع العنيد ووقفة حاسمة من مجموعة الضباط الأحرار في القيادة والأركان للجيش السوداني.

موكب الشهيد أحمد القرشي: من قرية القراصة بالنيل الأبيض

ولا يفوتنى أن أذكر أم قرار تشييع جثمان الشهيد أحمد القرشي كان تحديداً من أساتذة جامعة الخرطوم بقيادة كل من د.حسن الترابي ود.على محمد خير ود.طه بعشر والقيادة الطلابية للحركة الإسلامية اللجنة الفارطة، ربيع حسن أحمد واللجنة المماثلة أنور الهادى عبد الرحمن وتلك كانت البداية لأكتوبر بموكب جثمان الشهيد أحمد القرشي طه إلى ميدان عبد المنعم محمد بالخرطوم "3" حيث تمت الصلاة عليه في الميدان الواسع، وحضرها عدد من القيادات السياسية، وأذكر في مقدمتهم السيد الصادق المهدي ، والسيد المرحوم عبد الماجد أبو حسبو ود.حسن الترابي وآخرون، فطلب الترابى من الصادق أن يؤدى صلاة الجنازة ولكن الصادق قدم د.الترابى فأم الناس وصلى على جثمان الشهيد وبعدها اعتلى أكتافنا ليخطب في جماهير الطلاب والمواطنين الذين شهدوا الموكب من المشرحة بمستشفى الخرطوم حتى ميدان عبد المنعم. ومن هناك انطلقت الشرارة الأكتوبرية لتحرق كل جبار عنيد، وبدأت بحرق عربات الشرطة وامتدت إلى ميدان الأمم المتحدة "القبة حالياً" وكانت الانتفاضة وكلن لهب الثورة العملاقة ومن بعدها كان صوت الأستاذ محمد الأمين والأستاذ وردى شفاه الله وعافاه يجلجلان، والشعراء الذين كتبوا عن أكتوبر مذكرين بأنه ثورة شعب وسفر كفاح وصفحات مشرقات في تاريخ الحركة الطلابية والشعب السودانى.

جبهة الهيئات

في مساء يوم الاثنين الموافق 26/10/1964م أعلن الفريق عبود حل مجلس قيادة الثورة، وبلا دعوات تجمع الأكتوبريون في نادى أساتذة جامعة الخرطوم. وكنت يومها سكرتيراً للجبهة والشخص الوحيد الذي يسجل المحاضر وينظم الاجتماعات لحين حضور د.الترابى وفي المساء الأخير تم استدعاء عدد من القيادات لجبهة الهيئات للتباحث في الأمر مع قيادة الجيش.

الثلاثاء العصيبة :

وفي صبيحة الثلاثاء 27/10/1964م كان اللقاء بدار أساتذة جامعة الخرطوم وإذا بأحد الشيوعيين لعله "مكاوى خوجلى" يهمس في أذن الدكتور طه بعشر بأن البوليس والجيش يبحثون عن د.حسن الترابي لاعتقاله/ وإننا لن نستطيع الاجتماع هنا، فصاح فيهم البروفسير أحمد الأمين عبد الرحمن لماذا يريدون الترابى وحده ؟ فأفضل وأشرف وأكرم لنا أن يعتقلونا كلنا. وإذا كان لابد من مكان فإن منزلى بأم درمان مفتوح لكم لعقد الاجتماع فيه، وكان موقفاً بطولياً ورجولياً بحق وأصيلاً مجسداً لمعدن الرجل وتاريخ أسرته وبالفعل بعد حضور الترابى وآخرين تقرر الرحيل إلى منزل البروفسير أحمد الأمين عبد الرحمن وهناك من بداية الاجتماع تم استدعاء خمسة من قيادات جبهة الهيئات للجلوس مع خمسة من ممثلى الأحزاب السودانية، للتفاوض مع عبود وجماعته حول ما ستئول إليه السلطة في البلاد. وانتدبت الجبهة رئيسها د.حسن الترابي والمرحوم عابدين إسماعيل والدكتور طه بعشر والمرحوم الشفيع أحمد الشيخ والشيخ الأمين محمد الأمين رئيس اتحاد المزارعين.

وكانت الأحزاب ممثلة في:

السيد/ إسماعيل الأزهري – الوطنى الاتحادى

السيد/ الصادق المهديحزب الأمة

السيد/ الرشيد الطاهرالإخوان المسلمون

السيد/ محمد إبراهيم نقدالحزب الشيوعي

السيد/ أحمد السيد أحمدحزب الشعب الديمقراطي

واجتمع هؤلاء في القيادة العامة ليقرروا شكل الحكومة وكيف تتكون وممن تتكون وقرروا أن يكون لجبهة الهيئات ثمانية وزراء وللأحزاب خمسة تؤول إليهم السلطة وحكم البلاد.

الحركة الإسلامية والسلطة (1) :

لم تكن للحركة الإسلامية يوم ذاك تطلعات إلى السلطة وحكم البلاد وإلا لقررت أن يتم اختيار الوزراء ووزراء جبهة الهيئات خاصة من الاجتماع الذى تم في منزل أحمد الأمين عبد الرحمن ، وفي ذلك الاجتماع كان ممثلو الحركة الإسلامية يشكلون أغلبية ساحقة، وحتى هناك تم ترشيح السيد سر الختم الخليفة لرئاسة الوزراء ورفض بأغلبية كبيرة لأن ملفه قدم واعتبر شخصاً من وسط الشارع، لا خبرة له ولا سياسة ولا مران له رغم معرفته الجيدة بجنوب السودان.

ولكن في المساء لم يجدوا بدا من الرجوع إليه حيث رأوا أن يلتزم الناس في الترشيحات بشخصيات محايدة ومالوا إلى المهنيين – تكنوقراط. وذلك بعد أن اعتذر الدكتور مبارك الفاضل شدّاد رحمه الله عن قبول المنصب، ولذا جاءت جبهة الهيئات بوزراء مهنيين ممتازين ولكن سياسيين في أول السلم. ثم ما لبثت الحركة حتى انقض الشيوعيون على جبهة الهيئات، وكنت يومها أمثل اتحاد خريجى جامعة الخرطوم ومعى الشهيد محمد صالح عمر . فعقدوا جمعية عمومية وسحبو ترشيحى وعدت إلى اتحاد خريجى الجامعات بوزارة التجارة وكنت سكرتيرهم، فأعادوا انتخابى وانتدابى لتمثيلهم في جبهة الهيئات، وهنا لا ننسى مواقف الرجال الأكتوبريين بحق الشيخبحق الشيخ عطية محمد سعيد والأستاذ مصطفى عبد الفتاح ، حيث حملونى وكسروا زجاج باب قاعة الامتحانات بجامعة الخرطوم وأقحمونى في المقاعد الأمامية باعتبارى ممثلاً لخريجى الجامعات بوزارة التجارة والصناعة والتموين. ولا يفوتنى أن أذكر أن الشيخ عطية محمد سعيد كان يمثل علماء السودان في جبهة الهيئات وكان زميلى بعرفة واحدة في سجن كوبر إبان انقلاب 25 مايو 1969م.

انتخاب مكتب الجبهات : جبهة الهيئات

وبعد أسابيع تمت انتخابات المكتب التنفيذى لجبهة الهيئات وكنت العضو الوحيد بين أربعة عشر شيوعياً منهم خمسة أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعى. وكنت الإسلامى الوحيد في تلك اللجنة ومع ذلك ظللت شوكة حوت في حلوقهم حتى استقال السيد سر الختم الخليفة، ومن بعدها انتهت قصة جبهة الهيئات. وهنا يجدر بى أن أعلق على بعض الذين سعوا لإبعاد الحركة عن مواقفها أو لطمس دورها في أكتوبر ولم يفلحوا. ولابد لى هنا أن أُشيد بدور كل من البروفيسور أحمد عبد الحليم سفيرنا السابق بالقاهرة رحمه الله، في تسجيل بعض الوقائع، ولعل الظروف لم تسمح له بكتابة شيء عن أكتوبر، كما أُشيد أيضاً بالدور الذى لعبه البروفيسور صلاح عبد الرحمن على طه رحمه الله، وقد كان يجلس ألى جوراى ويسجل ما يدور في بعض الجلسات وكنا إبان وجودنا سوياً بدولة الإمارات العربية المتحدة، قد تحدثنا حول تسجيل مذكراتنا عن أكتوبر بهدف توثيقها والكتابة عنها. كما لابد أن أُشيد بعرفان ضيافة المهندس المرحوم سيد عبد الله السيد بمكتبه كمقر لجبهة الهيئات.

الخلاصة :

إن أكتوبر لم تعد ثورة حزب ولا جماعة ولا طائفة وإن بعض الذين استشهدو برصاص الشرطة والجيش في ميدان الأمم المتحدة وأبو جنزير هم من سُواد هذا الشعب ومن أبنائه الشرفاء والذين سالت دماؤهم الذكية وفاضت أرواحهم الطاهرة من أجل الحرية والديمقراطية لهذا الشعب ولهذا الوطن.

وأجد نفسى في خندق واحد مع الذين ينادون بإحياء الذكرى وتمجيدها وإعلاء وإزكاء المبادئ التى استرشدت بها واستلهمتها فيما بعد ثورات وانتفاضات. وحتى هذا لا يقدح أبداً في مواقف الحركة الإسلامية، وليس هناك ما يمنع الطلاب أو الأحزاب من الاحتفال بثورة أكتوبر، والحكومة ينبغى ألا تخشى من تلك الاحتفالات والشعارات والصيحات فهى انعكاسات لأحاسيس الشعب ممثلا في قادة رأيه وطلائعه من الشباب والطلاب.

إن المبادئ التى دعت إليها أكتوبر، عملت بها واستلهمتها الحركة الإسلامية من نضالاتها ومواقفها هى مستمدة من مبادئ أزلية ثابتة، قرآنية وسُنية وليست من فكر وضعى أو تصورات شخصية كارزماتية، وهذا ما يجعل ضوء أكتوبر ونور ثورة أكتوبر جذوة مشتعلة في صدور الكثيرين من الذين أسهموا في الثورة العملاقة ووطنية هذا الشعب الوقادة المعلمة والملهمة بمشيئة الله.

ينبغى علينا ألا ننسى فكرة المنابر والجبهات والواجهات اتى احتمت بها الحركة الإسلامية وعملت من خلالها على تحقيق الكثير من المكاسب والشخصيات والفئات ومجموعات الضغط، وسجلت بها انتصارات عديدة وحققت بها إنجازات وكسوب كثيرة ونذكر منها التالى :

1/ جبهة الدستور الإسلامى.

2/ جبهة الميثاق الإسلامى.

3/ الجبهة القومية الإسلامية وغيرها في مجالات العمل الفئوي الطلابى والعمالى والشبابى والمرأة.

وهذه كانت إبداعات لها مغانمها الكثيرة والكبيرة والحمد لله.

آمل أن يكون في الكلمات أعلاه بعضاً من التعازى للأخوة الذين كتبوا عن هذا الزمان ومواقف السلطان والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

كسوب الحركة الإسلامية السودانية من البعد الدولى

يطيب لنا أن نقتطف في هذا السياق شيئاً مما كتبه د.حسن الترابي ، ص 82 من كتاب الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية حيث قال: وقد انساقت هذه العلاقات الثنائية العامرة عبر ثلاث وسائل: الأولى طلابية والطلاب كانوا رواد لأغلب كسوب الحركة الإسلامية فكان من كسبهم لعالمية الحركة أن نشطوا في بريطانيا وأمريكا وأوربا في تأسيس جمعيات واتحادات وحركات إسلامية طلابية.

والقناة الثانية كانت في حركة اغتراب السودانيين في سبيل الأمن والعيش بالبلاد العربية البترولية وغيرها فقد اتصل أولئك المغتربون بالعناصر الوطنية في تلك البلاد، ونقلوا تجارب العمل الإسلامى السودانى وعقدوا علاقات تعارف وتعاون نفعوا بها حركة الإسلام هناك وعادت بالنفع على الحركة بالسودان.

أما القناة الأساسية لعالمية الحركة، فقد كانت في الاتصال المباشر من مركزها القيادى نحو العالم الإسلامى تراسلاً وتزاوراً وائتماراً عالمياً.

وقد تأثرت بها عناصر في حركات كثيرة خاصة في إفريقيا "تشاد ونيجيريا والجزائر وتونس" وامتدت عبرها وراء ذلك ولا سيما في مرحلة استوائها حين برزت تجاربها المتميزة في مجال العمل الطلابى والنسائى وفي منهج التنظيم ووسائل التعبئة الشعبية والتحرك السياسي وفي الكسب الاقتصادى والثقافى والدبلوماسى وقد استفادت الحركة من علاقاتها الإسلامية العالملية تعزيزاً لمشاعر الأخوة مع الأمة عامة والاتحاد بوجه خاص مع الحركة الإسلامية العالمية عبر الأقوام والأقطار.

أما القوميات المغتربة في السودان من غير أهله لاجئة لطلب العلم أو العيش أو الأمن المؤقت، فإن سياسة الحركة معها أن ترعاها حق رعايتها على أن تحفظ لها اعتبارها القومى واستقلالها الحركى الذاتى لتفرغ لهمومها الخاصة عاجلاً واتتهيأ للاستجابة المخصوصة لتحديات بلادها آجلاً، مما لا يتأتى ولا يؤمن بالاندماج في نظام الحركة السودانية إلا تنسيقاً وتعاوناً وتوحيداً لبعض المناشط مما تستدعيه الإقامة في موطن مشترك " د.حسن الترابي كتاب الحركة الإسلامية – رؤية مستقبلية ص 82 و 83".

ذلك ما كان تجاه القوميات المغتربة في الخليج العربى فقد التزمت قيادة الحركة على مستوى مجالس الشورى هناك بهذا التصور وتلك الموجهات في علاقاتها مع الحركات الإسلامية الأخرى والكوادر المحلية وأسست قواعد عمل تنسيقى ظلت تعمل بها قرابة ربع قرن من الزمان أو يزيد على مستوى مجالس الشورى لكل حركة وممثلين لتلك المجالس في مجلس تنسيقى واحد ظل السودان يرأسه ويرعى فعاليات أنشطته وشئون الأفراد المنتمين للتنظيمات الممثلة فيه بما فيها التنظيمات المحلية.

وقد كان التأثير فاعلاً ومفيداً جداً حيث إنه بُنى على مبدأ الأخذ والعطاء ومنهج التلقى للاستفادة والتنفيذ دون حساسيات تذكر أو تثار في نطاق الأسس التنظيمية للعمل أو المؤثرات الضارة في بيئة العمل الحركى والتى ظلت نقية ومعطاءة حتى أكسبت الحركة السودانية رداءها الجميل وخلعته علي كثير من الحركات الإسلامية في دول الخليج ودول أخرى متصلة بها من آسيا الوسطى وجنوب شرقى آسيا ولا نبالغ إذا قلنا أن فضل الحركة الإسلامية على حركات خليجية ظل يذكر بعرفان بالغ للحركة الإسلامية وفاء لقيادة الحركة الإسلامية السودانية إبان وجودها بدول الخليج، بل واستمر العطاء المتبادل ذى الأوجه المتعددة وعلى مختلف الأصعدة وخاصة إبان استلام الحركة الإسلامية للسلطة، حق عليها أن ترد الجميل وأن تمد يد العون والمساعدة إلى حركات إسلامية عربية وخليجية تبدلت ظروف العمل فيها وتغيرت بصورة عصفت بأعضاء الحركة، شردتهم وضيقت عليهم الخناق واضطرت البعض منهم إلى هجرات جهادية في سبيل الله وكان عزاؤهم :

"وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة".

وآخرون ظلوا في أوطانهم محاصرين في عيشهم ورزقهم ولكن الرزاق هو الله ذو القوة المتين. وقد استعلوا على ما لاقوا وصبروا وما فُتنوا ونسأل الله لهم القبول والإدراج ولمن استجار منهم النصرة ولهم العزة والتمكين – آمين.

وأما أوربا وبخاصة بريطانيا وأمريكا وكندا فقد كان دور الحركة الإسلامية كبيراً منذ منبرها الطلابى عام 1965م واستمراراً حتى أواسط الثمانينيات من اتحاد لاتحاد ومن جمعية إلى أخرى ومن اتحاد خريجين وعلماء توالت الانتصارات والخدمات والإنجازات وأخيراً تقاطرت على الوطن العربى ودول الخليج والسودان والذين قدموا إلى السودان وكانوا مبعوثين من الحركة وهى تستشرف عودتهم وتنتظر قدومهم وترمق على جمر لظى عطاؤهم، رصدوا وتسلموا المقود وكأن بهم سائقى الكلب الرمادى ولسان حالهم يقول:

(خذ البص واترك القيادة لنا) (Take the Bus & leave the Driving to us)

بصات سفرية مشهورة لمسافات طويلة بالولايات المتحدة الأمريكية.

نعم لقد أدى بعضهم دورهم كما ينبغى في قيادة العمل الحركى، ملتزمين بقيم العمل الشورى والمنهج العلمى وآخرون سحبهم التيار فانزلقوا في مزلقان السلطة والمال وجرفهم السيل إلى بلاعات المزابل وآبار السيفونات والعياذ بالله.

كسوب الحركة الإسلامية في إفريقيا والخليج

الحركة الإسلامية الوليدة تشق طريقها في إفريقيا الغربية في بيئة اجتماعية استوائية حقيقية كثيفة الأشجار والأشواك والسحب والضلالات والموروثات الاعتقادية والوثنية القديمة والتأثيرات الطائفية المستحكمة والترهات الأحمدية وغيرها، ولم يكن الأمر فيه من الميسورات والتسهيلات كما كان في السودان مع الصفوية النسبية في فهم الحركة الإسلامية السودانية والتى ساعدتها فكرة المنابر لتوسيع دائة العمل واستقطاب المؤمنين عموماً وانخراطهم لدفع عجلة الإسلام وتحقيق الشريعة سواء في إطار "جبهة الدستور الإسلامي 1955 -1958م" أو "جبهة الميثاق الإسلامى 1965-1969م" أو "الجبهة الإسلامية القومية 1984 -1989 م"، كلها منابر وأوعية إسلامية فضفاضة، نواتها الداخلية هى الحركة الإسلامية الصلبة والتى أساسها التنظيمى والفكرى والحركى "جماعة الإخوان المسلمون " والتى وفدت إلى السودان من مصر ثم تأقلمت على جو السودان السياسي والاجتماعى وتطبعت فيما بعد بطابع سودانى بحت واعتذرت عن أن تكون فرعاً إقليمياً لجماعة الإخوان المسلمين بمصر وذلك لظروف خاصة بها. رفض ذلك الأستاذ المرحوم علي طالب الله المراقب العام للحركة بالسودان وحضر ذلك الشيخ عبد الرحمن الضرير رحمه الله وشهد وأقر بذلك فيما بعد الأستاذ فريد عبد الخالق عضو مكتب الإرشاد لحركة الإخوان المسلمين يوم ذاك وكذلك زميله بالحركة الأستاذ عبد الرازق الهويدي .

وفي غرب إفريقيا ظلت عملية التطاحن بين الحركة والطائفية مستترة الأدوار تبرز إلى السطح أحياناً كما سعى الشباب بوعيهم المتقدم ودراساتهم العميقة لواقع بلدانهم وبخاصة في نيجيريا وما خلفه الاستعمار من احتكاك دينى بين المسلمين والمسيحيين مهمة صعبة وشاقة اقتضت خُطَىً مُتأنية ومُتبصرة وواعية وبالفعل نجحت القيادة في الارتباط والتأثير بفاعليات القوى السياسية ومشايخ الطرق الصوفية وحفظت لكل حقه في الاحترام والقيادة ولكنها أخذت مواقف التمييز المطلوب في طريقة عملها ومنهجية دعوتها، حتى كان مؤتمر الإسلام في إفريقيا في نيجيريا في يونيو 1991م وهى حركة جامعة تُعنى بقضية النهضة الإسلامية في إفريقيا وتجديد دور الدين في الحياة عموما في بلدان إفريقيا الغربية وتبع ذلك ما تبعه من انفتاح الحركة الإسلامية في إفريقيا وخاصة في السودان وتجاربه الغنية الثرة في مجالات العمل الإسلامى ومنابره المتعددة وتشكيلاته التنظيمية في الظروف المتغيرة، السياسية، العادية، والديكتاتورية العسكرية مما طور أساليب ومناهج العمل الدعوى ووسع منابره وأوعيته بصورة فيها كثير من الأصالة والتحديد مع الاحتفاظ بثوابت العمل وقواعده كثوابت أصيلة ورصينة مما جعلها معاين وروافد تغذى الحركة بالدعاة وصناديد الرجال وشواهد تنظيمية شورية ترد الحركة إلى مسارها الطبيعى والصحيح كلنا جنحت أو بعدت في اجتهاداتها عن الخط السليم للعمل الحركى المأمون والميمون والموفق بمشيئة الله.

ثم كان مؤتمر حوار الأديان بالسودان في عام 1993 م وتبعته زيارة البابا جون بابا الفاتيكان إلى الخرطوم، أحداث لها دلالات في فقه العمل الحركى وتصوراته وأدت إلى قناعات بارتياد آفاق هى ضرورات لفهم الإسلام وللتجديد في منهجية العمل الحركى الدولى واكتساب خبرات جديدة بفضل الإنجازات التى تحققت من تلك التظاهرات الثقافية والسياسية والفكرية وأدت إلى حفز الهمم وتأكيد معانى وأشواق عليا كان الدعاة يتغنون بها في أناشيدهم وكنا نحن تلاميذ الدعوة في الخمسينيات ننشدها ولا نحلم قريباً في تحقيقها:

دعوة الحق نادت بنيها
فاستجابوا ولبوا النداء
طهروا أرضكم طهروها
اكتبوا عزها بالدماء
الكتاب المجيد في يمين الشعار
العلا والخلود في طريق المنار
لا نهاب القيود إنها للدمار
لا يفل الجديد غير عزم ونار

إلى آخر ذلك من الشعر الحماسى ونداء الكتائب والرحلات وتنزلت تلك المعانى إلى الواقع وتجسدت في تضحيات ومجاهدات واستشهاد العشرات بل المئات والآلاف من الشباب الطاهر والعلماء الأجلاء في ميادين المعارك من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ودعوته والبقاء على راية شريعته خفاقة عالية، والحفاظ على وحدة تراب الوطن كأرض ونموذج لحياة الإسلام في العصر الحديث والحديث عن الدفاع الشعبى له مقال آخر، حيث كونه بدأ بعددية محدودة وتجربة محصورة، قلل الكثيرون من أهميتها ونجاحها وهمشوا في البداية دور الدفاع الشعبى ولكن العزيمة والتصميم للشباب أبناءً وللرجال آباءً وللنساء أمهات وشقيقات جسّد المعنى وأصّله منهجاً لحياة المسلمين والإسلاميين لبناء هذا الدين وتأكيد المستقبل له وللمؤمنين به. وكان لذلك أثره في إفريقيا الغربية حين تدافع الشباب والطلاب يبتغون الشهادة في السودان ونصرة دين الله وعزته في السودان وحتى الذين يفكرون في الرجوع منهم ليواصلوا مسيرتهم في بلادهم. تلك كانت نقلة حضارية إسلامية جهادية هائلة ورهيبة في مسيرة الحركة الإسلامية السودانية بغرب إفريقيا وكانت آثارها الإيجابية متمثلة في الآتى :

1/ تدافع العاملون في مجال العمل الحركى لطلب العلم في السودان والدراسة في مدارس الحركة الإسلامية والتى لها رصيد نصف قرن من الزمان في العمل الحركى والتنظيمى وخمس سنوات (1994 ) فقط على صعيد التطبيق السياسي وتجربة الحكم والحيازة على السلطة.

2/ توحيد مفاهيم ومناهج الحركة الإسلامية في بيئة عمل تكاد تكون واحدة مع اختلافات قليلة واجتماعية ولكن كلها تتسم بالفقر ومحدودية الإمكانات المالية.

3/ الاستفادة القصوى من وجود السودانيين الحركيين في تلك البلدان وتمتين الصلة والعلاقة بهم مما ساعد على المشورة والتناصح وخاصة في نيجيريا حيث البيئة السياسية كثيرة الأحداث شديدة التفاعلات والتغيُرات مما يتطلب رصداً ومتابعة دقيقة وسرعة تجاوب، والحمد لله كانت مجموعة الأمة وشبابها في المستوى المطلوب لمواكبة الأحداث ومتطلبات العمل الحركى في تلك البيئة بنيجيريا .

مؤتمر الذكر والذاكرين بالسودان (يوليو 1994 م) :

حدث دعت له وزارة التخطيط الاجتماعى ضمن أهدافها وخططاتها لبث نفوذ هذا الدين فكراً ومنهجاً، سلوكيات وتطبيقات، وقد كان لهذا المؤتمر أثره الكبيرعلى قادة المتصوفة في نيجيريا وخاصة أكبر طريقتين صوفيتين في البلاد:

التيجانية: ويرأس سجادتها الشيخ الشريف إبراهيم صالح الحسيني وقد مثله في ذلك المؤتمر كل من:

1) محمد قريشي ابن الشيخ إبراهيم نياس شيخ الإسلام بغرب إفريقيا ومركزه كولخ بالسنغال .

2) علي محمد جيدا وكلاهما من أقرب أنصار وطلاب الشيخ إبراهيم صالح الحسيني .

القادرية السمانية: ويرأس سجادتها الشيخ ناصر كبرا رحمه الله وابنه قريب الله تيمناً بالشيخ قريب الله شيخ السجادة السمانية بالسودان وقد صحبه عشرة من مريديه على حسابهم لحضور ذلك المؤتمر بالسودان والمؤتمر كان إشراقة جديدة في مجال من مجالات العمل الإسلامى المنسى والمهمل في سائر أنحاء العالم الإسلامى حيث قصد الاستعمار حصر الإسلام في التصوف وحصر المتصوفة في الزوايا والتكايا في غرب إفريقيا، وكان من إشراقات ذلك المؤتمر أن برزت معانى جديدة وتجددت أخرى عتيقة تم استجلاؤها وعرضها على العالم بقناعة المتصوفة والذاكرين، حيث تم التأكيد على شمولية الصوفية لأبعاد الحياة، وعلى أصولية الصوفية كركن من أركان الدين، وعلى ضرورة الربط بين الذكر والعبادة بين الشريعة والتعامل في الحياة، وعلى أن تعلو الصوفية بروحانيات المسلم، وتتدرج به واقعيات الحياة. فاصوفية لم تعد حصر للدين ولا تجزئة له، وإنما أكدت تفاعلها مع مقتضيات الإصلاح الدينى الكامل والشامل.

هذا الفهم الجديد والفقه المتجدد لتعايش الصوفية مع واقع الحياة بلا شك سيفيد كثيراً في تفاعل وتعاون اللقاءات والعمل بين قادة الصوفية وقيادات العمل الإسلامى الحركى في إفريقيا، وسيزيد من الوفاق والمودة بينهما كما يمهد لتوحيد مجالات وأسس العمل الإسلامى العام.

تلك والحمد لله واحدة من المكاسب الكبيرة لنصرة الإسلام ورفع العمل الإسلامى في إفريقيا وسبحان الله بعد أسبوعبن فقط يعلن رئيس وزراء بريطانيا جون ميجور أن حكومته لا تعادى ولا تخاصم الإسلام، بل تعترف به كدين سامىو لأغلبية كبيرة من سكان العالم – والله أكبر.

ثورة الإنقاذ الوطنى : لقاء صحفى مع المؤلف

كانت الحركة الإسلامية جزءاً من الحركة الديمقراطية في السودان، ولكن خصومها قالوا أنها تنكبرت لمبدأها القائم على الديمقراطية في إشارة واضحة لانقلاب 30 يونيو 1989 م ؟؟

وأريد أن أصحح أن الحركة الإسلامية في السودان لا يمكن أن نعتبرها محسوبة على توجهات الحركة الوطنية في مناهضاتها للديكتاتورية والشمولية .. ذلك لأنها في فكرها وفي معتقداتها هى تؤمن بضرورة إشاعة الحرية وبضرورة مقاومة الأنظمة القهرية استناداًإلى ما هو وارد في القرآن الكريم "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"، وما ورد أيضاً "وخاب كل جبار عنيد" وبالتالى فإن الحركة الإسلامية من طلائع الأنظمة السياسية في السودان ضد الديكتاتوريات أياً كان نوعها عسكرية أو مدنية.

لم يحدث شيء في تفكير الحركة الاستراتيجى ولا في معتقدات الحركة فيما يتعلق بالشورى والديمقراطية .. ولكن الذى حدث بعد اندلاع ثورة الإنقاذ وتأييد الحركة الإسلامية للنظام الذى قام به قادة عسكريون في القوات المسلحة فإن التحرك كان لأسباب تتعلق بقناعات معينة في مسيرة الحركة السياسية السودانية منذ الاستقلال وحتى قيام ثورة الإنقاذ الوطنى.

إبان فترة الديمقراطية الثالثة أحست الحركة الإسلامية أن ممارسات الأحزاب لم تكن بالصورة التى تقنع على التمسك بتلك التجربة .. إن تلك التجربة لم تكن مرشدة وعناصر الأحزاب لم تكن تمارس الديمقراطية بالشكل الصحيح فالنظام وقتها لم يكن قويماً ومستقيماً ويقود البلاد إلى الخلاص والتنمية وإلى دعوة للاستقلال السياسي .. بجانب أن تلك العناصر في فترة الديمقراطية كانت مرتبطة بجهات خارجية.

كل هذا جعل الحركة الإسلامية تصل إلى قناعة أن هذه الأحزاب ميئوس منها سواء برامجها أو عناصرها أو في الربط بين الاثنين "التوجه السياسي والتنظيم".

اسمح لى يا دكتور أن أقاطعك: إن الجبهة الإسلامية كانت طرفاً، فكيف جعلت من نفسها وصياً لتقييم التجربة الديمقراطية الثالثة فتقبل بالانقلاب عليها ؟؟

الحقيقة دائرة الوصاية مصطلح بعيد تمامً عن الحركة الإسلامية وغير وارد بالنسبة لموقف الحركة الإسلامية ولا ينطبق عليها بأى حال من الأحوال، ولكن يمكن أن نقول أن الحركة وقادتها قد تمايزت أو تميزت على الوضع السياسي الذى كان سائداً في ذلك الوقت وكانت تنقصه الكثير من العناصر القوية والمؤهلة والمرشدة للعمل بالإضافة إلى نقص في الطهارة السياسية بالإضافة إلى الاعتماد على معايير معينة لربط الجماهير بقياداتها، فوق كل ذلك إن للحركة ثلاثة من الأسس التى يمكن أن تقودها إلى أن تقف مثل هذا الموقف، أولها أن معظم الذين انخرطوا داخل الحركة الإسلامية كانوا طلاباً بارزين ومتميزين في الثانويات والجامعات وبالتالى مسألة التميز هذه كانت سمة يمكن حتى اختياراتنا بالنسبة إلى من نريد أن نضمه إلى الحركة كانت تتميز في بداية عملنا وخاصة في الخمسينيات بأن نختار الطلاب المتميزين والممتازين والمتفوقين حتى يستطيعوا أن يخوضوا هذا العمل ويؤثروا على الناس.

ثانياً دخول المسرح السياسي بداية كان مبنياً على إقامة الجبهة الإسلامية للدستور وبالتالى المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية كانت مسألة يعتد بها الإنسان ويسعد جدا في أن يكون من أوائل المنادين بذلك.

ثالثاً عندما مارسنا قيادة العمل السياسي الشعبى في أكتوبر وفي غير ذلك من المنابر السياسية سواء كان عملاً سياسياً أو عملاً خفياً مستتراً "سرياً" كان واضحاً جداً أن مستوى كوادر الحركة الإسلامية متقدم جداً والدليل على ذلك أن في انتخابات الخريجين الأولى حصلنا على اثنين ولكن في الانتخابات الثانية اكتسحنا كل دوائر الخريجين في الجمعية التأسيسية السودانية.

أنا لا أستطيع أن أسميها وصاية بقدر ما أسميها نوعاً من التمييز والاعتداد بما تؤمن به قيادة الحركة الإسلامية .. والذى استمدته من ارتباطها بالفكر الإسلامى وبالمعتقد الإسلامى بتطبيق الإسلام والسعى له في واقع المجتمع السودانى.

ما هى طبيعة الخلافات بين الجبهة الإسلامية القومية والقوى السياسية الأخرى ؟

السبب السياسي والرئيس أن تلك التجمعات السياسية باختلاف تكويناتها ومعتقداتها وممارساتها كانت لا تحب الحركة الإسلامية بل تحقد على النجاحات التى حققتها الحركة الإسلامية وفيهم من قال أخذتم أولادنا وبناتنا وفيهم من يقول إن هذه المجموعة الصغيرة قد لا يكتب لها الاستقرار إذا تجمعت المجموعات السياسية والحزبان الكبيران في ذلك الوقت ويمكن أن يقضوا علي الجبهة الإسلامية وبالتالى نحن لا ننظر إلى هذه المسألة بمنظور أنها عملية مكايدة كلا! لأنه في تصورنا نحن ينبغى أن تحكم الحركة السودان يوماً ما وتسعى إلى ذلك بالطريقة الديمقراطية وليس عن طريق انقلاب عسكرى .. ولكن شعورنا أن بعض الأحزاب كانت لها جيوب عسكرية في الجيش وكانت تعمل على إقصاء والقضاء على الحركة الإسلامية إذا تولت السلطة عن طريق انقلاب عسكرى ومن هنا كان لابد أن يكون للحركة أيضاً اتصالها ويكون لها عملها للدفاع عن نفسها وبدونها يمكن ما كان ظهرت ثورة الإنقاذ والدليل مثل ما ذكرت أن الإنقاذ فيها نوع من الحماية ضد أنها تضرب بجيب من الجيوب السياسية العسكرية التى كانت تعمل داخل القوات المسلحة .. وكان البعض يعرف من بعض الأسماء أن هؤلاء الجماعة ما جماعتهم .. وأذكر أن بعضاً آخر منهم يتبعون لدولة من دول الجوار قالوا إن هؤلاء الأولاد ينتمون إلينا وآخرون يقولون الله يسترنا من عمر حسن أحمد البشير لأن البداية كان العقيد عمر حسن أحمد فكان غير معروف فهذا دليل واضح أن الحركة الإسلامية لم تكن متهمة بأن يكون لها ذراع عسكرى ولم تكن تفكر في أن تحكم البلد يوماً ما حكماً عسكرياً لأن في ذلك كان القضاء عليها .. ولأن الحركة بحمد الله تمكنت أن ترتبط بقواعد الشعب السودانى بصورة يمكن أن تجعلها مقبولة لدى كثير من الجهات والأطراف ومن مراكز القوى بالمجتمع السودانى.

ولكن القوى السياسية المعارضة تقول بأن الانقلاب كان مخططاً له ؟؟

كان يفسر وفقاً للمعطيات والحقائق التى هى موجودة وأنا ذكرت أن الحركة الإسلاميةلم تكن تريد أن تهتم بما يجرى في الجيش إلا من زاوية حماية الحركة كى لا تضرب .. ولكن عندما حدث الانقلاب وكان قبله بأيام قليلة كان يتوقع انقلاب عسكرى نتيجة للمذكرة التى رفعها جهاز ضباط القوات المسلحة لرئيس الوزراء آنذاك إذ أن الجو كان ملبداً، مشحوناً، كان مجهزاً لأن يحدث انقلاب لكن قطعاً ما كان لصالح الحركة الإسلامية وإنما كان ضدها فهنا المسألة عندما تمت لم يكن فيها تدبير مسبق وبعيد وتحضير .. ضباط عرفوا بوطنيتهم عُرفوا ببراءتهم وبساطتهم .. محترمين وسط زملائهم في القوات المسلحة وفي نفس الوقت بتجردهم أما إلى الخدمة العسكرية أو القضايا الوطنية عندما ظهر فيما بعد بل نذهب إلى أبعد من ذلك بزهدهم وبفخرهم وهذه مسألة واضحة إلى أن هؤلاء المجموعة التى قامت بانقلاب ثورة الإنقاذ الوطنى يعنى لم يظهر عليها ما يوضح أنهم طلاب سلطة أو طلاب جاه أو طلاب مال أو ارتباطات خارجية .. والحمد لله.

الإنقاذ قالت بأنها أسقطت النظام الديمقراطى لأنه أخفق في قضايا عدة مثل مسألة الجنوب .. ولكن لا زالت المشكلة قائمة بل وهناك معاناة في كل أوجه الحياة ؟؟

بكل أمانة أهتقد أنه عندما قامت الثورة، الأهداف الموجودة والمطروحة لم تكن بأعداد كبيرة وفي ذات الوقت الأخطار التى كانت تحدق بالسودان كانت أخطاراً فعلا خطيرة وكان يمكن جدا أن أجزاء وأطراف من السودان تسقط قبل قيام ثورة الإنقاذ وتحدثنا بنعمة الله سبحانه وتعالى، بعد قيام الثورة قدمت أطروحاتها .. وهنالك إنجازات كبيرة قامت بها ثورة الإنقاذ ومن أهمها أنه لأول مرة في تاريخ الصراع والاقتتال بين الشمال والجنوب أن جلسوا إخواناً في جنوب السودان كمحاربين إلى الحكومة للتفاوض .. ولأول مرة في تاريخ السودان وفي تاريخ الصراع بين المتمردين سوا كانوا مدنيين أو عسكريين تتم جلسة مفاوضات في أبوجا بين الحكومة وبين أطراف التمرد .. وثانياً لأول مرة في تاريخ السودان تعترف حركة التمرد وجهات داخل السودان وخارجه بأن هذه الحكومة قدمت من الكوادر والمفاوضين ما هو متفهم لقضية السودان تفهماً كاملاً وواعياً. ثالثاً: قدمت كوادر فيما يتعلق بمقاومة ما يجرى في جنوب السودان أدت إلى قدر كبير من الصبر والثبات والتضحيات.

هناك أيضاً جوانب أخرى من الأطروحات التى قدمتها ثورة الإنقاذ تم تحقيقها وتم الانتصار فيها لصالح الشعب السودانى خصوصاً في المجالات المتعلقة بالوعى والثقافة الإسلامية العامة في نشر التعليم الدينى والاهتمام بالقرآن الكريم في شرح ما تبتغيه الحركة الإسلامية من أهداف تود أن تراها مطبقة وغايات في واقع المجتمع السودانى وعلى الصعيد الفكرى الثقافى الأكاديمى هنالك على صعيد بنيان الإنسان والفرد السودانى الذى كان يعرف برجل إفريقيا المريض بدأ السودان يكون رقماً بعد أن كان صفراً على صعيد التعريف بثورة الإسلام وفكر الإسلام قدمت ثورة الإنقاذ بمساعدة الحركة الإسلامية الكثير من هذا المعنى والمضمون إلى بلدان العالم .. كان لابد لهذا العمل من أن تكون له جوانب سلبية وأنا أتفق معك بأن الجانب الذى يخص معيشة الناس هو من الجوانب التى يمكن أن تقول أخفقت فيها ثورة الإنقاذ ولكن الظروف لم تمكنها من أن تحيط بكافة الوسائل التى تمكنها من قهر الصعاب التى يواجهها المواطن السودانى والمجتمع السودانى .. فعندما أتحدث عن الظروف نتحدث أساساً عن ثلاثة أشياء :

أولاً: لا أعتقد أن هذه المسألة غريبة لأن القرآن الكريم سبق وأن حدثنا وبشرنا بالآية الكريمة "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" .. فمسألة الإيمان بالله تعنى إيماناً عقيدياً مترجماً إلى عمل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل) والذين ترجموا ذلك الإيمان إلى عمل وإلى إنجاز ذهبوا إلى أبعد من ذلك قدموا إلى هذا الشعب السودانى ما لم تقدمه الموارد المتحصلة للخزينة العامة التى كانت كافيه لأن تغطى الكثير من متطلبات المواطن السودانى والمجتمع السودانى.

ثانياً: ليست الصادرات السودانية بأكثر من الواردات السودانية مما يجعل الميزان التجارى فيه فائضاً وبالتالى يمكننا من أن نغطى كثيراً من احتياجات المواطن بعد أن نغطى احتياجات العمليات العسكرية في جنوب السودان.

ثالثاً: بعد أن اتضح تماما للعالم العربى والغربى أن هذا التوجه توجه إسلامى أصبحت هنالك معاداة ومقاطعة سافرة للنظام الموجود في السودان ولا حتى في البلدان النامية .. مجموعة من الشباب تمثلت في الدفاع الشعبى، كانت في البداية مسألة مرفوضة ومسألة "نص . نص" ولكنها الآن أصبحت عقيدة وأصبحت أملاً يتوق الكثيرون إليه ..وأصبحت المعسكرات هى الأماكن التى تجذب الشباب من الثانويات وغيرها إلى تلك المعسكرات، والحمدلله نحن نحس بأنه إذا لم يكن لثورة الإنقاذ أى إنجاز فيكفى أنها أنجزت "الدبابين" الذين يدخلون داخل الدبابة يعطلونها، يوقفونها ويفجرونها .. هذه مسألة أعتقد بأنه فيها كسب كبير للحركة الإسلامية ولثورة الإنقاذ .. والفضل يرجع للمجتمع السودانى الذى تفهم تماماً أن هذه المسألة مقصود بها وجه الله تعالى .. وقد يكون هنالك بعض الهجمات وهذا شأن كل مجتمع من المجتمعات لأنهم بشر .. والبشر أتوقع أن يكون هنالك عندهم أخطاء لا نتوقعهم بأنهم كاملين وسالمين "مائة بالمائة".

ألا يحز في نفسك الاختلاف الحاد والتشرذم الكبير بين القوى السياسية الإسلامية في السودان ؟

لابد أن نحاول أن نرجع الأمور إلى أسبابها .. الحركة الإسلامية كتيار جديد وروح جديدة يسعى في أفق وطموحات الشباب وفكرهم العقائدى تمثل رمزاً من الرموز الحية لما من مجاهدات على مستوى الطلاب في الثانويات والجامعات والمعاهد العليا وما قدمته على مستوى الشباب والتنظيمات وخاصة أيضاً التنظيمات النقابية بكل تكويناتها .. وبما قدمته أيضاً من رموز سياسية تعتبر واعية عاملة ومتفهمة للأوضاع، لم تكن مقبولة باعتبارها وجهاً من وجوه التغيير في المجتمع السودانى .. وهنا نجد الخلاف بينها وبين القوى السياسية التقليدية والتى تستند على أصول دينية ما أعتقد أنه مع احترامنا ظلت الحركة الإسلامية منذ بداية تكوينها مع الطائفية السياسية الموجودة في السودان وظلت من منطلق آخر تعمل على تكوين أى نوع من التحالفات مع تلك الطائفية السياسية، ولكن عندما ظهر الإخوان بأنهم يمثلون قوة جديدة .. فقد تأكدوا من ذلك من خلال دراساتهم واستقرائهم ومقارنتهم واستنتاجهم وإنما تأثروا بمقولات من الخارج وبحملات من الخارج موجهة ضد الحركة الإسلامية في الوطن العربى ومؤخرا في السودان وبدراسات ومسوحات تمت في كثير من بلدان العالم العربى والإسلامى، إن الذين سيخلفون الأنظمة السياسية في تلك البلدان هى الحركة الإسلامية الواعية .. ولحسن الحظ والحمد لله أعتقد أن الروابط الفكرية والاجتماعية الدينية بين رموز الحركة الإسلامية عالمياً مكنت من أن تجعل تبادل القدرات على الصعيد التنظيمى وعلى صعيد معالجة القضايا في المجتمعات .. والتى تعيش فيها الحركة الإسلامية، تتصف بطابع علمى وبطريق هادئ ومتزن وتفهمت الحركة وضعيتها.

نحن ما زلنا حركة إسلامية نعتقد أن هنالك مساحة لأن يتم لقاء على مستويين وعلى مجالين أساسيين بالعمل، أولهما : أن تبعد هذه التنظيمات السياسية الطائفية والتقليدية فكرة أن الحركة الإسلامية تريد أن تقصيها عن قيادة العمل السياسى في المجتمع السودانى بدون وجه حق، كلا إذا كان لديها من القناعات ومن القيادات ومن الأفكار والبرامج ومن الالتزام الشخصى بالطهارة السياسية الذى يمثل كارزما في قيادات تلك الأحزاب فلتتفضل.

ثانيهما : إن ما تم طرحه حتى الآن من أفكار إسلامية وإنجازه على صعيد التطبيق الإسلامى سواء كان الدستور الذى أجيز حديثاً أو قبله من المؤسسات الإسلامية والاقتصادية أو الاجتماعية أو غيرها ينبغى أن تكون رموزاً وركائز ثابتة لمسيرة هذا المجتمع. فإذا تمت هذه المسألة لا أعتقد بأنه سيكون هنالك خلاف.

أيهما الأقرب فكرياً وسياسياً لنظام الإنقاذ السيد الصادق المهدي أم السيد محمد عثمان الميرغني ؟؟

أولاً: كلاهما تربى في مناخ وفي بيئة دينية .

ثانياً: الأفكار والمعتقدات والتوجهات كانت مطروحة هنا حكومة صحوة دينية إسلامية وكانت هنالك مطروحة حكومة جمهورية إسلامية تقترح لكليهما كانت موجودة وأصبحت بعد ذلك، وهذه مسألة بحاجة إلى المزيد من التنقيب، أيهما يحس بأن القوى المصادمة له والعاملة معه على أن يكون لها نوع من القيادة الشعبية ولا أتحدث عن السيطرة الشعبية .. القيادة الشعبية هى التى يمكن أن ترجح كفة أيهما أقرب من الآخر ..؟ فقطعاً الصادق بحكم وعيه واطلاعه ومعايشته لعدد من الإسلاميين ومصاهرته للدكتور حسن عبد الله الترابى هو أقرب .. السيد عثمان نظراً للظروف التى تربى بها ويمكن عدم تعرضه لكثير من التيارات والقيادات التى فيها جوانب إسلامية حية لديه شيء من العزلة وبالتالى يصعب عليه التواؤم .. كما إذا بحثنا المساعدين لهما نجدهم قريبين من بعض، هذا له مساعدين يمكن جداً أن يتواءموا ويتفقوا مع الإنقاذ وهذا أيضاً له نفس المساعدين .. ولكن مع ذلك هنالك من يصدقونه ويبعدونه، وهنالك أيضاً من المجموعات والعناصر التى لا نريده أن يلتقى بأى صورة من الصور، ربما الآمال والطموحات المستقبلية .. بأنه هو صاحب الفكرة تجعله أكثر مرونة لقبول النفس.

ولكن أيضاً لابد من أن أقول أن الذى هو في منطقة عُليا ينبغى ينبغى أن يمد يده إلى من هو أسفل منه حتى يرفعه إلى المنطقة العليا التى هو فيها، ويمكن لاحظنا هذه في قيادة ثورة الإنقاذ بالصلح لفتح الباب وللمناداة .. وتثبيت التجارب.

"انتهى الحوار الصحفى"

أيها الإخوة الأعزاء تلك كانت وما زالت هى تجربتنا ومسيرتنا خلال ثلث قرن من الزمان تعلمنا فيها ومنها الكثير ومما تعملناه منها التالى :

أولا: إن الكمال لله وحده، وأننا لا ندعى كمالاً بل ننشده، إن المثال الإسلامى هدف يُسعى إليه بجد سواء على صعيد الفرد أو الجماعة أو الدولة أو الأمة، ولكم في رسول الله أسوة حسنة، "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر". وأنه أى المثال الإسلامى لا يدرك ويحقق من أول الطريق وأن المسعى إلى المثال الإسلامى يقتضى التخطيط والواقعية ومراعاة الأوليات والصبر على القصور مع الثبات الدائب والتقدم إلى الأمام.

ثانياً: ومن تجرب الحركة الإسلامية في السودان وحصيلتها بعض الشواخص والاعتبارات:-

هيأ اللله لنا من الكوادر القيادية وفي القاعدة جنوداً أكرمهم الله سبحانه وتعالى حفظ القرآن الكريم وآخرين وفقهم الله للتفقه في أحكام الدين ومجموعات تمرست في فقه العمل الحرك والدعوى وكلها أثمرت اجتهادات فقهية، فكرية وسياسية مكنت الحركة من الثبات والتكيُّف عند اللزوم مع الأوضاع السياسية المتطورة، والمستجدات على ساحة العمل والمتغيرات الاجتماعية، وتقلبات الأوضاع عامة بالسودان وتأثره بما يجرى من حوله وفي العالم أجمع.

كما وأن قضايا الصراع الفكرى في الساحات والمنابر الطلابية في الثانويات والجامعات والمعاهد العليا، وفيما بعد النقابات والاتحادات المهنية والفئوية والتخصيصية تلك الساحات والمنابر والتى يتناول فيها بالبحث قضايا مطلبية أخرى وطنية وقومية وعامة صقلت قدرات ومهارات الإخوان المسلمين ونمّت ونوعت كوادرهم وشكّلت بيئة عمل حركى خصيبة وتدريباً ممتازاً للكوادر الجديدة. ولأجل اعتماد وإجازة أساليب عمل وطرائقه وتواصل التجارب من جيل إلى جيل مع السماح بالقدر الضرورى واللازم لاستقلالية العمل في مجاله وخاصةً الطلاب بما يمكن من الاجتهاد وإعمال الرأى واستنباط الحلول والموقف المناسبة تجاه المواضيع والقضايا المطروحة مع المحافظة على الخط العام للحركة والالتزام الدقيق لقرارات الجماعة ومراعاة الشرعية التنظيمية مع الامتثال الدقيق لأوامر القيادة وان أن مارست الحركة الإسلامية السودانية أنواعاً من السياسات الداخلية والخارجية. داخلية في العمل التنظيمي وخارجية في علاقات الجماعة مع غيرها تميزت بالمرونة والتطور وببعد النظر والتكيُّف بصورة جعلت التنظيم إطاراً مرناً ومساعداً لإنجازات جديدة في رصيد الحركة الإسلامية السودانية من الخبرات والتجارب الذاتية التى ساعدت على التلاقح والتفاهم مع خبرات خارجية بالوطن العربى أو مع حركات إسلامية ذات أهداف وغايات وقواعد وأطُر تنظيمية مماثلة خارج الوطن العربى واستحدثت الحركة الإسلامية السودانية فكرة الجبهات والمنابر واستخدمتها في سياسات التكيف والتحالفات إذ كونت جبهة الدستور الإسلامى في عام 1955 م لأجل خلق رأى عام إسلامى في السودان ثم السير به نحو المطالبة بدستور إسلامى للسودان، ثم كونت جبهة الميثاق الإسلامىعام 1964م تنظيماً سياسياً إسلامياً واسعاً ضم عدداً من الهيئات والجماعات الإسلامية والطرق الصوفية والمستقلين ثم تمكنت جبهة الميثاق الإسلامى من وضع مسودة دستور إسلامى بهدف عرضها على الجمعية التأسيسية 68/1969م وهذا يعتبر إنجازاً عظيماً لحركة وليدة لم تكن البيئة السودانية مناسبة لتطورها بسبب تحكم الطائفية فيها. كما نجحت الحركة في تجنب صدامات حادة مع الطائفية الطاغية والمتفشية في السودان آنذاك بأن تفادت التخاصم معها سياسياً أو التعارك مذهبياً. والحركة في حداثة تكوينها مما يشعر مراكز القوى الطائفية بأن الحركة تعمل على سحب جماهيرها وأنصاره من تحتها، بل إن طرح المطالبة بالدستور الإسلامى كان وحده كافياً لافتعال الصدام مع الطائفية. دعكم من الدعوة الفعالة للدستور الإسلامى والعمل على إقراره وكان العوام من أنصار الطائفية يقولون (دستور إسلامى شنو؟ شيء ما باركوه السيدين الجليلين ما فيهو فايده).

وقد نجحت الحركة رغم كل ذلك وتمكنت من صياغة مسودة دستور إسلامى حشدت لها من التأييد اللازم ما كان يجعلها مجازة للجمعية التأسيسية وخاصة بعد حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه.

جاءت ثورة مايو لتصادر الحريات وتجهض تلك المحاولة الناجحة وتسكت الأصوات المقابلة للدستور الإسلامى لفترة تزيد عن 10 أعوام 1969م وحتى عام 1981 م لترتفع مرة أخرى تلك الأصوات بعلو يناسب المرحلة والظرف مستفيدة من تجارب الماضى. وفي بداية الثمانينات برزت إنجازات لجنة القوانين وعمل النائب العام د/حسن عمر أحمد كان من الإخوان ود/حسن الترابي وأخيراً تطبيق الشريعة الإسلامية في قوانين الإجراءات والمعاملات وقانون الزكاة وغيرها من القوانين التى وضعت وفقاً للشريعة الإسلامية.

فترة ما بعد المصالحة

وكل منكم أى الإسلاميين معايش لما يجرى في السودان بعد المصالحة، ولكن منذ عام 1981 حتى اليوم حيث تطورت العلاقة مع السلطة السياسية ولا أقول مع النظام السياسي إلى تعاون ومشاركة وهى فترة تميزت بالنسبة للحركة الإسلامية أن تمكن الكثير من السيطرة والتمكين الفكرى والتنظيمى في كثير من ساحات العمل الثقافى والسياسي والاجتماعى ولحد ما التوفيق بين مطالب الناس في الحرية والعيش الكريم ونقد النظام السياسي بعدم السكوت على أخطائه الكبيرة وليس زلاته الصغيرة.

العلاقات مع الأنظمة والدول

بقى على أن أشير إلى علاقات الحركة الخارجية وفي مجالين محددين

أولاً: مجال العلاقة التنظيمية مع الحركات المماثلة.

ثانياً: مجال العلاقة مع الدول والأنظمة.

في المجال الأول اتصفت في بادئ الأمر العلاقة مع التنظيم الدولى بالنسبة للحركات الإسلامية والإخوان المسلمين بشء من الفتور وعدم الانسجام بل اختلاف في معنى البيعة وفي مضمونها لمرشد عام للجماعة في كل أنحاء العالم. ولكن بعد العديد من اللقاءات والطروحات الفكرية وضعت الحركة الإسلامية السودانية كتيباً بعنوان "وحدة العمل الحركى أصوله ومناهجه وأساليبه" وقد مكّن هذا الكتيب إلى فهم وجهة نظر الحركة الإسلامية ولاعتماد صيغة علاقة قوامها التنسيق كصيغة مثلى للتعاون بين الحركة الإسلامية السودانية وبقية الحركات المماثلة في العالم للحفاظ على إطار وحدة العمل الحركى والتنظيمى باعتبارها ضرورة لا مكن الاستغناء عنها، والحمد لله كانت الأمور تسير سيراً طبيعياً بفهم وتقدير وتعاون لأقصى الحدود الممكنة. أما بالنسبة للدول والأنظمة عقائدية أو غير عقائدية فإن العلاقة كانت ضعيفة وقد قويت العلاقة في فترة ما ولظروف ما اقتضتها طبيعة المرحلة ودواعى العمل الميدانى أى المقاومة العسكرية والمقاومة المسلحة. ولكن ما لبثت أن ضعفت هذه العلاقة. والحديث عن ضعف الحركة في مجالات العلاقة الخارجية يقود للحديث عن بعض جوانب النقص بالنسبة للحركة والتنظيم طالما أبرزت لكم الكثير بالنسبة للمحاسن والمحامد والإنجازات حتى تكتمل الصورة.

من أبرز جوانب القصور لدينا في الحركة الإسلامية السودانية العلاقات السودانية الخارجية والتى يشكل العمل الديبلوماسى الرسى وغير الرسمى عمودها الفقرى في هذا المجال لكن يكن للحركة الإسلامية الكثير من الكوادر في مجال العمل الديبلوماسى لسببين :

أولاً: هو أن الاختيار لوزارة الخارجية كان قاصراً على مؤيدى الأحزاب السياسية.

ثانياً: في مجال العمل الديبلوماسى نفسه كان يتطلب من العامل أن يشترك بل ويقدّم (الخمر). وهذا كان مجالاً صعباً جداً لارتياده على الأخ المسلم.

ثم جانب آخر من جوانب القصور والنقص هو السلطات النظامية (الجيش والبوليس والأمن القومى) حاولنا اختراق السلطات النظامية ولكن أيضاً هناك بعض الاعتبارات التى حالت دون العمل في هذا المجال وهى متعلقة بطبيعة الأجهزة العسكرية والبوليسية.

في الجيش، عودوا الضباط والجنود وخاصة الضباط على المرأة والكأس والحرب، وهذا المجال كان من الصعوبة بمكان أن تقدّم فيه كثير من كوادر الحركة حتى المحاولات التى تمت لم يستمر فيها إلا القليل. البوليس اصطدمنا به إحدى المرات بما كشف بعض تسلل الإخوان وتغلغلهم في جهاز البوليس فكان أيضاً أن ضرب عليه ستار كثيف حال دون دخول الإخوان فيه. الأمن القومى لم يكن قد تبلور في فقه العمل الحركى ضرورة العمل في جهاز الأمن القومى باعتباره جهاز استخبارات وتجسس لم يكن شيئاً محموداً في نظر المواطن السودانى. دعك من الأخ المسلم الملتزم إلا فيما بعد أن أصبح مفهوم الأمن الحركى متابعة ما يجرى في الأمن الحركى والأمن السياسي لحماية ظهر الحركة حتى تبلورت ضرورة الاهتمام بنظام الأمن القومى أو السياسي.

أيضاً من جوانب القصور في مجال الحركة مجال الإعلام، برزت في الحركة كوادر سطحية، ولكن في مجال الإعلام المتمثل في الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما لم يكن لنا فيه عمل مكثف حتى يوجه التوجيه اللازم وهو جهاز بالتأكيد مؤثر فانتبهت الحركة إلى هذا وفي وقت قريب تقريباً 77 – 1978 فعمدت الحركة إلى إرسال كوادر لتتخصص فى الإعلام حتى تعود إلى السودان. على الرغم من أنه كان هنالك بعض الطلائع الإعلامية في مجال الإعلام ولكنها لم تستمر منتظمة (البروفيسور علي محمد شمو ) كان من الجماعة في مصر.

وعاد إلى السودان (الأستاذ محمد خوجلي صالحين ، رحمه الله) بالإذاعة والتليفزيون كان من الجماعة وكان المراقب العام للإذاعة، لكنهم لم يستمروا حركيين منتظمين. هنالك جانب أخير من جوانب القصور والنقص الحركى هو جانب التأليف والنشر.

الحركة الإسلامية الآن في السودان عمرها أكثر من ثلث قرن بينما الحركة الإسلامية في مصر عندما بلغت ربع قرن بداية تكوينها 19281948 كان إنتاجها قد غمر العالم الإسلامى سواء كان كتابات سيد قطب أو الإمام حسن البنا أو عبد القادر عودة أو غيرهم من كوادر الإخوان أما الحركة الإسلامية لم يكن لها إلا الشيء القليل وحتى هذا لم يأت إلا في ظروف الشدة، برز كتابان للدكتور حسن الترابي كتاب عن الصلاة وكتاب عن الإيمان أصدرهما إبان فترة اعتقاله في السجن وكتاب آخر باللغة الإنجليزية للأخ د/ زكريا بشير إمام بعنوان "شهداء مكة" "The Meccan Crucibles".

وكتيبات أخرى صغيرة أخرى صغيرة لا تشكل إسهاماً في الأدب والفكر الإسلامى في مجال الحركة. هنالك كتاب صدر عن ثورة أكتوبر ألفه الأخ أحمد محمد شاموق وهو أيضاً يعتبر من المراجع الجيدة بالنسبة لهذه الثورة ودور الحركة الإسلامية فيها.

وقد التمس وأجد عذراً لعدم الإنتاج وهو انشغال القيادة الإخوانية بالعمل الإسلامى والتنظيمى والعمل العام. ولكن هذا لا يكون عذراً بأن لا يكون لهذه الحركة إنتاجها وإسهامها في المجال الإسلامى.

الفصل الثالث: الحركة الإسلامية في منعطف السلطة

1/ البيئة السياسية. بيئة صعبة ومعادية !!

2/ الحركة في منعطف السلطة.

3/ محاذير.

4/ ماذا حدث بعد أن حل مجلس الشورى نفسه ؟

- على الصعيد الحركى والتنظيمى.

- على الصعيد العام والشعبى.

5/ إذن ما العمل ؟

- ماهى القضية المحورية ؟ هى في نظرنا قضية ذات شقين


البيئة السياسية: (بيئة صعبة)

لا ينكر أحد فضل البيئة السياسية السودانية وأثرها على أنماط التفكير في النظم السياسية التى يحكم بها السودان وبالتالى فإن كل من تطلع إلى السلطة السياسية لابد له أن يأخذ بعين الاعتبار التجارب الماضية والقضايا الجماهيرية الملحة في الحاضر وآفاق وطموحات الأمة في المستقبل.

وإذا كان الشعب السودانى قد عرف بأنه شعب الثورات والانتفاضات لعشقه المتأصل للحرية وتبرمه المتجذر من الديكتاتورية وحبه للمناقشة والمشورة فإن هذه السمات والخصائص لابد أن تنعكس إيجابياً على التكوينات السياسية وخاصة الحديثة والتى لها في معتقدها وفكرها أصولاً تدعو إلى الشورى وديمقراطية الرأى وحرية الكلمة.

ولأن الشورى مبدأ من مبادئ الإسلام في السلطة والسياسة الشرعية، ولأنها قيمة إجتماعية متوارثة في تكوينات الشعب السودانى القبلية والتقليدية والحزبية الحديثة، فقد وجدت مكانتها السامية السامقة في نظام الحركة الإسلامية وتكويناتها على مختلف مراحل تطور الحركة الإسلامية وكان مجلس الشورى هو أعلى سلطة بعد المؤتمر التأسيسي ترد إليه وتعرض عليه كافة القضايا الكبرى والسياسات العليا والاستراتيجيات بعيدة المدى ومكوناتها الخطيرة وهو الجهة التى تتولى المحاسبة وتنبثق عنها القيادة التنفيذية بطريق الانتخاب والاقتراع السرى حتى تتأصل قيمة حرية الاختيار ومن أجل وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

بيئة صعبة :

وقد اقتضت ظروف سرية العمل الحركى أن تقلص دائرة الشورى ولكنها لا تلغى بتاتاً، كما اقتضت النزعة الفردية لدى القيادة بالانفراد بالقرار وفي منعطفات مهمة وخطيرة إلى أن تتخذ الحركة نظاماً للقيادة الجماعية للفترة من 1959 _ 1965م تأميناً لمبدأ الشورى في القيادة للتنظيم والحركة، حيث صعبت في تلك الفترة الدعوة لاجتماعات مجلس الشورى ولكنها لم تصعب للمكتب التنفيذى الذى كان يقود الحركة يوم ذاك.

سقنا تلك المقدمة من أجل التقرير والتوضيح أن الشورى التنظيمية ضرورة أساسية من مقتضيات العمل الحركى والتنظيمى وأنه إذا ما غبت فإن ثمة أخطار لابد أن تلحق بالتنظيم وأكثر هذه الأخطار جسامة هو وجود جيوب داخل الحركة أو بؤر توتر وانقسام أو بوادر خلاف في الرأى ما تلبث بمرور الزمن أن تشكل تياراً يكون أساساً للحركة أو تنظيم جديد.

الحركة في منعطف السلطة

ولكن هذا ليس مهماً في الظروف العادية التى تكون فيها الحركة بعيدة عن السلطة وما تزال تجاهد على الصعيد النظرى وتسعى للإنتشار والتمكين ثم الوصول للسلطة كظاهرة أى غياب السلطة أو تغييبها والحركة في منعطف السلطة، ماسكة بزمام الأمور السياسية في البلاد فتلك هى الخطورة الكبرى إذ أن عدم التمييز بين ممارسة التسلط على الشعب عن طريق الذراع العسكرية للحركة وممارسة عدم الشورى داخل التنظيم مسألة من شأنها أن تؤدى إلى إخفاقين داخلى وخارجى أى على صعيد التنظيم بالتغريب والإزاحة والعزلة والإهمال المتعمد لعناصر وكوادر هى أحق بالرجل المناسب في المكان المناسب. وعلى صعيد الشعب بالابتعاد عن قضايا الجماهير وعدم الانشغال بها بقدر ما تكون قيادة الحركة مشغولة بتثبيت أقدامها في مواقع السلطة ونقول الفرق الكبير إذ أن التربية داخل التنظيم اقتضت القبول والرضا ابتداءاً بالقرارات المخالفة للرأى وتنفيذها مع الالتزام بها ثم من بعد ذلك الاحتجاج عليها والسعى لتصويبها. ولكن بالنسبة لقضايا الجماهير فذلك خطأ كبير وهى غلطة لن تنمحى بسهولة من ذاكرة الجماهير ولن تغفر لحركة المفترض فيها قدر كبير من الحكمة والرشد والتروى والدقة في قراراتها والمفترض فيها أيضاً معيشة قضايا الجماهير وخاصة المعيشية والتى تعتصرها اعتصار الرحى لحبة الذرة إن وجدت حبات ذرة لتطحن، معايشة عن قرب ومعالجة عن صدق.

وعليه فإن التنبيه واجب علينا في هذا المنعطف الخطير، منعطف السلطة وخاصة الحركة الإسلامية السودانية والحمد لله وتحدثنا بنعم الله عليها قد حصلت من التجارب والنضج وإعداد الكوادر ما يؤهلها ليس فقط للوصول إلى السلطة ولكن البقاء في السلطة لأطول فترة بشرط أن توفر أكبر قدر من الممارسة الداخلية للشورى والنصح وتتيح أكبر قدر من الوقت والكوادر المدربة للتصدى لقضايا الجماهير وبخاصة المعيشية واليومية ومعالجتها علاجاً براجماتياً واقعيا بلا تنظير ولا تجارب فطيرة ولا بإنصاف الخبراء وأحياناً بالجهلاء (كما سوف نبين فيما بعد). وعلى الصعيد السياسي الشعبى تحدث ولاية المظالم وتعممها.

ليس ذلك من حيث توافر الإمكانات والكوادر العلمية والعملية ورسم الخطط والاستراتيجيات فحسب وإنما لأن الحركة الإسلامية السودانية بفضل الله ونعمه عليها تعتبر رأس الرمح في تجربة فريدة وهى الوصول إلى السلطة بذراعها العسكرى والشعبى ومحاولة تأصيل تلك العملية في فقه العمل الحركى ورد السلطة إلى الشعب عبر منابر وتنظيمات شعبية تؤكد وتثبت ما لدى هذا الشعب من أصالة وقيم وخصائص ومميزات مرتبطة بالشورى والديمقراطية والانتفاضات الشعبية وتجنبه في ذات الوقت رذائل ونقائض النظم الحزبية التقليدية وما جلبته للشعب السودانى من نكبات في الديمقراطية ونكسات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذا الدور الريادى والطليعى للحركة الإسلامية السودانية والذى انعكس التقدير له والإعجاب به في لقاءات ومناسبات عديدة منها مؤتمر الحوار العربى الإسلامى الشعبى يشكل أيضاً أحد المنبهات لضرورة التحلى باليقظة لحين تضع الحركة أقدامها وكيف تضبط إيقاعات سيرها وخطاها وهى تسير في بحر متلاطم من التحديات الداخلية لميزانية الحركة في التكوين وهيكلها التنظيمى وتصديها للقضايا، وتحديات أخرى محلية ترتبط بواقع المجتمع السودانى وما يعانيه من مآسى وضائقات وأزمات في مسيرته السياسية والتنموية والاجتماعية وتحديات ثالثة عربية وإفريقية منها الإقليمى والذى يتمثل بقايا أفكار ونظريات لفظها الواقع الاجتماعى العربى ورفضها رفضا أكيداً، ثم تحديات عالمية قوامها الهيمنة والسيطرة الأمريكية المتفردة اليوم بزعامة العالم سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، لا ينازعها أحد اللهم إلا هذا الطفل "العفريت" إذا صح التعبير والذى إذا تركته قد ينمو إلى أن يصبح عملاقاً جباراً إن شاء الله، ذلكم هو الحركة الإسلامية العالمية بزعامة الحركة الإسلامية السودانية.

محاذير

وذلك استطراد محدود ومختصر عن التحديات التى تواجه الحركة الإسلامية والتى من شأنها أن تضيف إلى المحاذير والمنبهات التى ينبغى علينا أن نأخذها مأخذ الجد ونحن نريد لهذه الحركة المزيد من:

1/ الانتصارات في مضمار مسيرتها الطويلة الظافرة إن شاء الله داخل السودان وخارجه.

2/ وحدة الصف والتى تمثل الدعامة الرئيسية والحقيقية للنجاح "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص.

3/ الشورى في التنظيم وديمقراطية اتخاذ القرار باعتبارها مبدأ وصفة من صفات التكوين التنظيمى ولم لها من فوائد جمة وعصمة لحد ما من الأخطاء الكبرى المدمرة في تاريخ عملنا السياسي والتنظيمى الداخلى "وخاب كل جبار عنيد" .

4/ احتواء الكثير من الأخطاء التى وقعت سواء على صعيد التنظيم أو العمل الشعبى وأصبحت آثارها تتكاثر ضرراً وسمعة غير حميدة على الحركة الإسلامية وقيادتها ليست لدى المواطن العادى في طرف الشارع ووسطه ولكن في قلب التنظيم وجوفه لدى أهل السبق فيه، وأهل العطاء المخلص منهم وهم في شيخوختهم وفي الجيل الصاعد من طلاب الجامعات والمعاهد العليا وحتى الثانويات وخرج الحديث عن الهمس إلى العلن وتجاوز التحرك والتململ إلى الإثارة والتصفيق وربما غداً خطوة أخرى .. وخطوات.

إننا نود أن نؤكد حرصنا على وحدة التنظيم والتزامنا بما تربينا عليه من إبداء الرأى والملاحظات والنقد ونحسبه بناء في نطاق الأجهزة التنظيمية ولكن بكل أسف فإن الجهاز الذى ترفع إليه هذه الملاحظات والانتقادات والذى يفترض فيه إذا كان موجوداً أن يدرسها ويفصل فيها قد حلّ نفسه وذلكم هو مجلس الشورى. وحلّ نفسه باقتراح من الأمين العام مع تحفظ شفاهة بأنه يمكن الرجوع إليه عند اللزوم، ولا نرى ساعة لزوم أكثر من الآن، اليوم قبل غداً لأن الأخطاء كما ذكرنا كثرت ويخشى أن تغطى على الإنجازات الطيبة التى تحققت حتى الآن.

ماذا حدث بعد أن حلّ مجلس الشورى نفسه ؟

(أ‌) على الصعيد الحركى والتنظيمى

1/ أصبحت القيادة التنظيمية لدى الأمين العام ومن يختاره من مستشارين، أطلق عليهم منسقين لقطاعات ولمهمات محددة وخاصة.

2/ لا أحد يعرف من هم هؤلاء المنسقين وكيف يمكن التشاور معهم وكيف يمكن محاسبتهم ومحاسبة الأمين العام معهم ومنهم من اكتسب أو ازداد صلفاً وغطرسة بحكم قربه.

3/ تدنى مستوى لقاءات التشاور والمفاكرة إلى لقاءات تنوير، وتدنت لقاءات التنوير إلى تلقى معلومات "خذوها كما هى" من أشخاص هم أحوج ما يكونوا إلى التنوير ممن جاءوا إليهم لينوروهم.

4/ تتم اختيارات وتعيينات لمناصب ويسمع بها أعضاء التنظيم في الإذاعة والتلفزيون. من الذى رشحهم وكيف تم اختيارهم وقليل هم الذين يعرفون.

5/ ارتفعت أهمية مكتبى المعلومات والأمن لدرجة عالية بصورة تكاد تتحكم فيمن يقرب إلى القيادة ويستلطف ويستشار ومن يبعد ويصرف عنه النظر. ومن أخطر ما نتج عن هذين المكتبين أن ثمة عناصر أبعدت عن مراكز عمل قيادى أو شعبى وهى أكفأ من التى عينت فيها وكانت النتيجة "أن الرجل المناسب لم يوضع في المكان المناسب" وترتبت على هذه الإجراءات أخطاء كبيرة وقرارات في حق الحركة وبعض أعضائها وحق الجمهور الكريم، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر التالى:_

(ب‌) على الصعيد العام والشعبى

1/ تم اختيار عناصر لبعض الوزارات فشلت في أداء مهامها وتصريف واجباتها بالوزارة كما فشلت في التلاؤم مع المرحلة ومقتضياتها وعندما أقصيت وأعفيت تم إلحاق البعض وعوض بمركز محترم وآخرون تركوا لقدر الله.

2/ تم تكليف عناصر في جهاز الخدمة المدنية ليست ليها من الخبرة شيء ولا حتى المقدرة على التكيف مع ما هو مطلوب ونشأ عن ذلك توتر في جهة التعيين وتوقف لدولاب العمل واضطراب في السياسات عانى منها المواطن معاناة شديدة حتى يومنا هذا. (كتابة المسودة 24/06/1991م).

3/ تم تعيين عناصر في مرافق حساسة معروفة بمودتها لجهات أجنبية مما يجعل علاقتها بالحركة فيها غلالة من ضباب واستفهامات وبدأت هذه العناصر تزداد عدداً ونفوذاً مما يزيد من الاستفهامات.

4/ تم تعيين عناصر اتخذت سياسات وقرارات تتسم بالفردية المحضة دون مشورة أهل الخبرة واختصاص مما جعل نتيجة تلك السياسات والقرارات وبالاً على الحكومة والتنظيم حيث إنه لم توضح حتى يومنا هذا الجدوى التى تعود على القطاع من تلك القرارات.

5/ في القطاع الزراعى وبصفة خاصة تسعيرتى الذرة والقمح لموسم 1991م وإن القرارات التى اتخذت في تسعيرة المحصولين كانت خبط عشواء ولم تعتبر أبداً بالماضى مما جعل المواطن يعانى أشد المعاناة في لقمة الكسرة.

6/ في إطار السياسة الخارجية، جمدت العلاقات مع بعض البلدان بسبب عدم الاكتراث وكثفت الزيارات لبلدان أخرى بصورة تؤكد التهالك وكان التوسط وما زال أفضل سياسة تجاه الدول. وحتى التعيينات التى تمت قليل منها صادف أهله.

7/ لقد كان عدم الشورى والتنصل عن اتفاق حول طريقة اتخاذ القرار أثره البالغ في استقالة وإقالة بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، ومنهم ركن أساسى في الذراع العسكرية للحركة وثورة الإنقاذ مما يؤكد أن خللاً كبيراً قد حدث في التنظيم تجاه الشورى واتخاذ القرار واحترام ومعاملة أهل السبق في التنظيم والعطاء المخلص.

8/ تعيين بعض المستشارين بدرجة وزراء مركزيين لا يفهم منه إلا كونه مجاملة أو مكافأة لهم وآخرين وضعوا في غير مكانهم وعطاؤهم هامشى جداً والثورات الشعبية الواعية ذات الرصيد الضخم نسبياً من الكوادر المؤهلة علمياً وأكاديمياً لا تعدم العناصر المناسبة لتضعها في المجالات المناسبة.

9/ إقصاء ذوى السبق والخبرة والعطاء والإخلاص من مناطق الشورى والمراكز القيادية بغض النظر عن سنهم مسألة تشى بشيء غير مفهوم وأحسن ما يمكن أن تفسر به هو تقريب وتصعيد عناصر لا تخالف القيادة الرأى ولا تمحضها النصح بل تشكل جزءاً من آلية التنفيذ والتنفيذ الآلى.

10/ إن المواطن العادى ولا حتى المتبصر نسبياً لا يستطيع أن يدرك ولا يفهم كيف يمكن لحركة إسلامية أن تقصى بشيوخها إلى دار المسنين والعجزة خلافاً لما ورد عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل أبى أيوب الأنصارى يناهز الثمانين عاماً ويطلب من أبنائه أن يجهزوه ليقاتل في سبيل الله ولذا يظل يتساءل عدم صواب القرارات وعدم رشد التعيينات ويتقدم طالباً الإعانة أو المساعدة أو الخدمة من عضو التنظيم صاحب السبق أو المكانة يوماً ما، ولا يصدق إطلاقاأن هذا العضو أصبح عاجزاً، مكتوف اليدين، لا يستطيع مع صغار المسئولين المستجدين وبعضهم متكبرين ومستكبرين أن يعمل شيئاً لجاره أو صديقه أو قريبه، يا للخيبة إذا فشلت الحركة في تحقيق معانى الأحاديث "خيركم خيركم لأهله" "وخير الناس أنفعهم للناس".

11/ لقد وقعت ممارسات في بعض المرافق التنفيذية لا تجد شيئاً أو دليلاً من الشرعية والأسانيد الفقهية.

ما يجيزها وعلى سبيل المثال :-

‌أ/ تعذيب بعض المعتقلين، ويشاع من النقابيين وغيرهم حتى يدلوا باعترافات ويقدموا معلومات. ثم يشاع عن بيوت الأشباح وغيرها من قصص وشائعات.

‌ب/ تطبيق عقوبة الإعدام على من وجدت لديه عملة من العملات الصعبة وخاصة الدولار وإن كان قد أنذر من قبل، فحيازة العملة الصعبة لا ترقى لحيازة المخدرات أو الخيانة العظمى في حق الوطن، وقد تم العفو عن جميع من خانوا الوطن بل وحملوا السلاح ضده وتعاونوا مع قرنق والذي وضع يده في أيدي الإسرائيليين والصهاينة .

‌ج/ التحفظ على أموال الناس بنسبة مئوية معينة دون مشورتهم أو الاستئذان منهم، ومع ذلك الحجر على تصرفهم فيما يتبقى لهم من الأرصدة إلا بما يسمح به مزاج وزير المالية ومحافظ بنك السودان والشائعة تطفح بأن ناس الجبهة "الحركة الإسلامية" ومؤسساتهم تمنح لهم السيولة خماً وبلا حساب وبلا تحفظ، إن غلطة الأنظمة العادية تبدو في نظر المواطن العادي البسيط مغتفرة لأنها حدثت من أناس يفترض أن مخافتهم لله سبحانه وتعالى ضعيفة بل وأحياناً منعدمة لدى البعض، ولكن حدوثها من عناصر إسلامية تدعو للعدالة وتسعى لإقامة العدل بين الناس لا يقبل منها وخاصة الظلم وقد حرّمه الله على نفسه ودعا المسلمين وجميع عباده إلى أن لا يتظالموا ؟؟ الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ..."

ثم ما العمل ؟

لقد كثرت حلقات وأندية ومقاهي النقد والتبرم بما يجري داخل التنظيم وخارجه من عناصر أجدها جميعاً حادبة ومخلصة ومشفقة على التنظيم، مستقبله ومصيره وسائر القيادة التقليدية والحديثة "الجديدة" منه، إذا صح أننا في قارب واحد.

وحدث أن تكلم البعض كأفراد ومجموعات مع الأمين حول ما يجري وتحسبهم لما قد يقع من أخطار على التنظيم نتيجة ما يجري وما يحدث. وصحيح بل أكيد أن قدمت مذكرات للأمين العام وتم حولها نقاش. أقر فيه الأمين العام ببعض الشواهد التي وردت بالمذكرة ولم يوافق على أجزاء وقدم ردوداً عنها وتبريرات لما حدثن ولكن الملاحظ أن سعة الخرق تتسع يوماً بعد يوم وساحة الأخطاء ظلت تكبر بدل أنْ تنحسر، ودائرة المشكلات المعيشية وضوائقها تزيد من سخط الناس وتبرمهم من "حكومة الجبهة" الشيء الذي لا يمكن السكوت عنه ولا الاكتفاء فيه بمجموعات النقد وعدم الرضى عن طريق المناصحة الفردية ولا حتى أسلوب المذكرات، وطفح الكيل وفاض السيل على صفحات الصحف مناكفة غمزاً ولمزاً وطعاناً.

وفي رأيي لابد من قضية محورية تلتف حول هالتها وفي محيطها مجموعة من القضايا الجانبية أو الناتجة عنها تكون أساساً لمنبر عمل ومجموعة مهمة تضطلع بعبء التصدي لتلك القضية المحورية وتجمع حولها أكبر قدر ممكن من المؤمنين بها باعتبارها قضية أساسية في قضايا فقه العمل الحركي والبناء الهيكلي والعمل التنظيمي وأن تناولها يقتضي حواراً جاداً مع القيادة ومساءلة ومحاسبة وقبل الحوار لابد لهذه المجموعة أن تتأكد من قوتها كقوة ضاغطة ومؤثرة، لا تخشى في عملها هذا إلا الله ولا تبتغي به إلا مرضاة الله ومصلحة الحركة والأمة حتى لا يفسد عملها بالضغوط على أفرادها ولا يفسر بكونه بوادر فتنة وانشقاق كما اعتاد بعض الطبالين أن يصفوا كلام بعض أعضاء مجلس الشورى بذلك عندما يرون سخونة في الحديث واتجاهاً ناقداً لبعض القرارات والمواقف يريدون إطفاء النار للمناقشة وإطفاء النور – دون قصد – عن طريق الحركة والتنظيم.

إذن ما هي القضية المحورية ؟

هي في نظرنا قضية ذات شقين :

الشق الأول والأساسي:

محوري وهو ضرورة الرجوع إلى نظام الشورى، إيجاده وتمكينه من القيام بمهمته من أجل تصحيح الأخطاء والاختلال في مسيرة التنظيم والحركة.

الشق الثاني :

ارتباط التنظيم بقضايا المجتمع الرئيسية والمباشرة وفي مقدمتها قضية المعيشة وتوفير السلع والضروريات الأساسية وتخفيض الأسعار بما يجعل المواطن يحمد للحركة الإسلامية دورها في عملية التغيير السياسي والبناء الاجتماعي والتطوير الاقتصادي والتوجه الحضاري وأن أي قضايا أخرى لا تعدو أن تكون منبثقة عنها أو صدى لهذه القضية المحورية قضية الشورى داخل الحركة والتنظيم وارتباط الحركة بقضايا المجتمع والله أعلم.

لابد لنا من أن نذكر أن هناك إضافة وزيادة وتطوير لفكرنا فيما يتعلق بمسألة :- ماذا نعمل؟ حيث اتضح لنا تماماً أن هناك ثلاثة محاور رئيسية مفقودة في الحركة والتنظيم وأنه بدونها لن تقوم للتنظيم والحركة قائمة، وهي:

1) لابد من قيادة جماعية ترتضي لها رئيساً وتكون كلها منتخبة من مجلس شورى، وتؤدي قسماً لأدارة العمل وفق ضوابط التنظيم وموجهات الحركة.

2) لابد من إعادة الشورى الفاعلة والملزمة للحركة والتنظيم وقيادة العمل الدعوي وأن الذي أصابها هو غضب من الله علينا تم تعجيله لأننا ونحن كحركة نملك السلطة والقوة والمنعة، عطلنا حداً من حدود الله وما ذلك إلا مبدأ الشورى الملزمة.

3) لا بد من الاستمرار بالجماعة الصفوية والتي تشكل نواة العمل المخلص وجنوده الأوفياء والذين هم على استعداد للتضحية دائماً وأبداً من أجل تطبيق الشريعة وإعلاء كلمة الله، ومن ثم ترسم الخطط وتقود الطريق وهي طريق واحدة وفق ما دعا إليه القرآن ونفذها الرسول الكريم ومن بعده الخلفاء الراشدين، وكبار وقدامى المصلحين والمرشدين الحديثين.

الفصل الرابع: بداية مفارقة المنهج الحركي

النزاع والفرقة والشتات .

خمس خطوات الأخيرة منها هي قاصمة الظهر.

محاولات في الإصلاح والإنابة والرجوع..

لقاء مهم بمنزل د.قطبي المهدي بكافوري.

أي أمل مرجو من هذا وفي من ؟؟

ورد الرابطة

المؤتمر الخامس والمؤتمر السادس وشتان بينهما !


النزاع والفرقة والشتات

الخطوة الأولى :

دعوة للعشاء بمنزل السيد/ بشير حسن بشير تم إهداء المصاحف الموقع عليها العبارة التالية: بسم الله الرحمن الرحيم : الأخ المجاهد أحمد التجاني نهدي إليك كتاب الله والذي وثقنا عليه أمس عهد الحق ونحقق به اليوم وعد الصدق ونرجو به غداً عافية الخير والحمد لله أولاً وأخيراً عن إخوانك: حسن الترابي 17/05/1411 هـ الموافق 04/12/1990 م

وقد كان الدكتور حسن الترابي الأمين العام للحركة وللجبهة يوم ذاك. والذي قدم المصاحف تلك الليلة كان نائب الأمين العام وكان من بين الحضور لذاك العشاء المشهور عدد من إخواننا المستشارين للأمين العام زائداً أعضاء المكتب السياسي كما كانت الدعوة موجهة إلى عدد كبير من ذوي الأقدمية في الحركة والتنظيم وكان فيهم من ذوي الخبرة والسبق والدراية وكانوا جميعاً من الذين لا يشك في أمانتهم وإخلاصهم للعمل الدعوي – ترى من الذي ضرب المسمار على الجدار، ومن الذي نفخ في الكير ومن الذي أوكأ على إيذاناً بعرض مسرحية الشخص الواحد The one man show.

الخطوة الثانية :

إلغاء انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي من قِبل مجلس الشورى وبالتالي محاسبته من قِبل المجلس واستبدال الطريقة بوسيلة السماح للأمين العام ليختار مجلسه الاستشاري من أجل الانسجام وسلاسة العمل وحُسن الأداء وقد كان لهم ذلك، كما كان إيذاناً ببداية تنفيذ عرض الشخص الواحد وتأكيداً للسير في ذلك المنوال.

الخطوة الثالثة :

تم تكليف الأمين العام واثنين أو ثلاثة من مستشاريه للإشراف على العمل العسكري ومتابعة التطورات في ساحاته وميادينه والتقرير عنه بما تسمح به الاحتياطات الأمنية للإعلام الحركي والنشر.

الخطوة الرابعة :

تم تكوين مكتب المعلومات والذي قصد منه أساساً حماية الحركة وأمنها وسلامتها وسلامة قيادتها وأعضائها ولكنه سرعان ما انقلب إلى مكتب استخبارات وتعقب لقيادات الحركة ولبعض النشطين فيها وظل ذلك النشاط يصب في بركة واحدة ويتبلور إلى خلايا رهيبة خلال الفترة 1988 وحتى 1998 . والعناصر هي هي مع استبدال للمواقع حتى صارت الوجوه العاملة فيه هي وجوه كالحة قد حنفها اللؤم .. وجدلتها الغلظة والفظاظة كأنهم مجموعة مرابين لا إخوة في الله. وهي "لا رفاق" حسب ما ورد في وصف المرحوم الأديب صلاح أحمد إبراهيم لمجموعة من الشيوعيين ، صادقهم وعاش معهم عن قرب ولكنهم خذلوه – ومن الإخوان المخذولين اليوم كثير يتألمون ويتحسرون.

إن هؤلاء الذين استُخدموا في هذا العمل التجسسي الخسيس ضد إخوانهم وأهليهم يعلمون تماماً أن ذلك مناف للدين وللأخلاق "وإن جاسوس المسلمين حسب ما جاء في اجتهادات بعض الفقهاء المعاصرين والقدماء" يقتل وإن تاب والعياذ بالله .

الخطوة الخامسة : الطامة الكبرى:

حل مجلس الشورى بهدف استقطاب عناصر جديدة وفي مقدمتهم أعضاء مجلس ثورة الإنقاذ الوطني وآخرين، حُل المجلس ولكن بتحفظ على أن يعاد تكوينه إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وكم من ضرورات وكم من دعوات وكم من صرخات وكم من نداءات ولكن لا حياة لمن تنادي!!

لقد كان من آثار هذا العمل البئيس أن حرمت البلاد والحركة من كفاءات الرجل المناسب في المكان المناسب واستبدل ذلك المبدأ بمبدأ الاستلطاف ثم المقربين بالولاء ثم المقربين جهوياً حتى وضحت الجهوية في مرافق كثيرة وانتقدتها جماهير الحركة بل وجماهير الشعب السوداني مستنكرة ذلك على حركة صفوية تعي دورها وواقعها وتعي جيداً قيم العمل الحركي ومبادئه الموجهة.

ومهما كانت المبررات لهذا العمل (1) الاستمرار في السلطة أو (2) دعم تطبيق الشريعة الإسلامية والتوجه الحضاري وما لهما من أولوية في قائمة مبتغيات الحركة الإسلامية، إلا أن ذلك أضحى فيه قولان وربما أكثر من قول بعدد من المقاييس وأدوات التقييم مما يجعل عملية النقد الذاتي الداخلي ومراجعة الخُطى والإنجازات في مقابل الأخطاء والمنزلقات مسألة ذات أهمية كبرى وأولوية قصوى وآنية عاجلة لا آجلة، وعلى الذين هم بيدهم مقاليد الأمور أن يطلبوها باستغاثة لهفان.

محاولات في الإصلاح والإنابة والرجوع

عندما بدأت الصفوف تتمايز والاستقطابات تتضح بُذلت مُحاولات شتى، عديدة ومضنية في جمع الشمل وضم الصف وشارك في ذلك الكثير من الكوادر الحركية وغير الحركية من داخل السودان ومن خارجه ولكن كل هذه المساعي باءت بالفشل والخسران المبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الملك الحق المبين، ونشهد بأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصادق الوعد الأمين، وندعو بذلك ولا نقف عند ذلك لنذكر فقط، لعل الذكرى والتذكرة تنفع المؤمنين.

يقول الله سبحانه وتعالي في كتابه الكريم "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" صدق الله العظيم .

لقاء بمنزل د.قطبي المهدي

ذلك اللقاء كان تاريخياً حيث حضرته مجموعة قيادية متميزة من أهل الفكر والشورى والسبق في العمل الدعوي، ونحسبهم من المخلصين والأوفياء لهذا الدين وللحركة الإسلامية في مسيرتها وعطائها. ثم أعقب ذلك الاجتماع اجتماعات ولقاءات أُخر ولكن ميزة ذلك اللقاء وبركته أنه كان لقاء مكاشفة وتعرية لما كان يدور وما زال على الساحة الفكرية والتنظيمية للحركة الإسلامية، كما أن معامل القوة لحسم الأمر كان متوافراً ولكنه أُبطل ولم يستعمل يومها ولعل في ذلك حكمة ظلت تساور الكثيرين وتقلق بالهم بأن الأمل في الوحدة ولم الشمل موجود ولو بصيص منه خير من فقدان الأمل والركون إلى اليأس.

أي أمل مرجو من هذا ؟ وفي من ؟

هذا السؤال المُحير هو بيت القصيد وتلك هي الحقيقة المحورية التي ظل ينشدها ويبحث عنها الكثير من المخلصين. هنا يحضرني قول الرسول الكريم (لا يصلح "آخر" أمر هذه الأمة بما صلح به أولها) كما تحضرني الآية الكريمة: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ومن هنا تتضح معالم الطريق الجديد:

1) قيادة جماعية مخلصة وأمينة وواعية، حيث إن قيادة الفرد الواحد ذو الكاريزما العالمية ولا المحلية فحسب أو الإقليمية – أصبحت من المستحيلات في السودان.

2) اعتماد الشورى ركناً منيعاً وحصيناً من أركان العمل الإسلامي ومرجعاً ضرورياً في المسألة المحاسبية، وهي بالتالى لا بُد أن تنصب مرجعية ثابتة ومعلماً بارزاً شاخصاً لحرية التعبير والنقد في العمل الحركي.

3) لا بُد من النواة الصلبة للحركة والتنظيم لكي ما ترسم وتخطط وتقوم ومن ثم نبحث عن الكسب الجماهيري متوافر وبكثرة، وهنا لا بُد من الدعوة بإلحاح إلى تكوين تلك الصفوة من جديد ومهما كانت الأكلاف لهذه العملية فهي ضرورية ومربوطة ربطاً عضوياً بالنقطتين (1) و (2) أعلاها من معالم الطريقة الجديدة والله المستعان وهو يهدي السبيل.

لقد وقع الانقسام، حصل وانفصلن وقع وانقطع، وكأني به خيط مسبحة، انقطع وتناثرت حبيبات المسبحة، بعضها تم جمعه وحبات لم يتم العثور عليها، والخيط الذي كان رفيعاً أضحى واهناً وهذا ما أدى إلى انقطاعه، انقطعت صلة العمل بالله وأصبحت صلة العمل للسلطة والجاه. وإنه من هذا الحطام، وذلك الركام أرى وميض نار وجذوات بل جمرات، ما تزال متقدة وبحاجة إلى من يهبها وينفض عنها الرماد عنها ويصب عليها المزيد من الفحم والوقود، جاز أبيضاً أو تياراً كهربائياً أبلجاً، يلتقط تلك الجمرات كما تفعل الحبيبات وتضيف إليه فحيمات ثم تهبها فتتقد مرة أخرى، وهنا يجمُل بنا أن نبعد الحكامات وفقهاء الرخص للسلطان، والطبالين والزمارين له، كما نبتعد عن الغرور والأنانية والأثرة وحب الذات وبعض الذين هم اليوم مكلبين في السلطة بدعوى عدم التفريط في شبر من الأرض ونقطة من الكسب وقد بدأت قواهم الحقيقية تنهار، لا قوى الدجالين والزمارين ومنسوبي الأمن السياسي، وما ذلك إلا ثوب من الشيفون، حيث أن المتغطي به عريان.

أفيقوا، أفيقوا، أفيقوا وكفى مرة أخرى نتذاكر بالآية "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوَّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " صدق الله العظيم.

المؤتمران الخامس والسادس، شتان بينهما.

(اللهم إن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك وتعاهدت على نصرة شريعتك. فوثق اللهم رابطتها وأدم ودها واهدها سبلها وانصرها بفضل الإيمان بك وجميل التوكل عليك وأمتها اللهم على الشهادة في سبيلك إنك نعم المولى ونعم النصير).

هذا الورد الذي تواثقت به القلوب وتعاهدت عليه، بل حافظت على تلاوته جماعياً المجموعات الأولى من أهل السبق وروادها في الحركة الإسلامية في حلها بنادي أم درمان الثقافي، ونادي السجانة وكافة دور الجماعة المسلمة، وفي ترحالها ورحلاتها وكتائبها، سفرياتها وتجوالها داخل البلاد وخارجها، نُسي وأهمل ولم يعد يُذكر وحتى أهله وعار في فضله نسوه أيضاً.

إن الانطلاقة للحركة الإسلامية السودانية كانت مؤسسة على مبادئ وقيم قرآنية ومعاني للأحاديث النبوية الحية، واقتفاء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن إشراقات تلك الآيات والأحاديث ومعانيها كانت تزدان بها الجباه والوجوه النيرة والمستنيرة، بفضل مشاعل القلوب العامرة بنار القرآن ، والفكر الثاقب بالاطلاع، كانت تلك المجموعات تنير الطريق إلى آخرين. الطريق المستقيم إلى الله والهداية الراشدة لسلوك الإنسان في واقع الحياة ومواقفه من القضايا والمعارك اليومية.

كان أهل السبق في الحركة شديدو التأثر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانت فيهم بعض من صفات الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، الصفات الحسنة التي ترقى بهم عن مصاف السوقة والدهماء والطامعين.

كانوا لا يعرفون عصبية جهوية ولا جغرافية ولا حتى أكاديمية تخصصية على الرغم من أن خريجي كلية الحقوق والآداب والاقتصاد والتجارة كانوا هم الغالبية في رواد الحركة ونقبائها ولكن معارفهم تلك وأفهامهم وتواضعهم ظلت تنداح على أخوانهم في كافة بيئات العمل الحركي الوظيفي والجغرافي والمهني والفني والثقافي والتعليمي والفئوي وشهدت لهم بذلك ساحات العمل الكثيرة المتعددة والمتنوعة. وبرز منهم من اقتفى سيرة وصورة عبد الله بن عباس والذي قال فيه عمر بن الخطاب الخليفة العادل الواعي رضي الله عنه (إنه فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول). وبدا لي ذلك واضحاً في عام 1967 ونحن ثلاثة مكلفين من المكتب التنفيذي للحركة لتمثيلها في مؤتمر حركة الإخوان المسلمين بالمملكة العربية السعودية بمنىً معسكر جعفر أكبر وكان الوفد الثلاثي يتكون من :

1. الشهيد/ مبارك قسم الله زايد.

2. الأستاذ/ عبد الله حسن أحمد.

3. وشخصي الضعيف كاتب هذه السطور.

وكنا يومها أصغر المؤتمرين عمراً. وكان لقاءً مشهوداً فيه من الزعماء والمرشدين والفقهاء المشهورين والمشهود لهم بقيادة العمل الحركي في العالم العربي ويضاف إليهم ثلاثة من الشباب من السودان.

وكان مصر إعجاب الحاضرين أن تكون الحركة في السودان يقودها الشباب وبنظام القيادة الجماعية وقد كانت وما تزال فكرة القيادة الجماعية سنة حسنة والحمد لله وأدرك القوم بالمعسكر ما لجماعة السودان من قدرات ظهرت فيما بعد من حفظ لكتاب الله وفقه لدينه وتضحيات من أجل تثبيت دعائم الشريعة فيه وغير هؤلاء الثلاثة كثير في داخل السودان وخارجه من الذين تأسوا وتأثروا بأسيد بن الحضير وصهيب الرومي، وأبو الدرداء الذي قال عنه سيدنا عبد الرحمن بن عوف (كان أبو الدرداء يدفع عنه الدنيا بالراحتين وبالصدر) حيث كان من الذين لا تلهيهم تجارة، ولاّه سيدنا عمر بن الخطاب على دمشق وجاءه فتى يطلب النصح قائلاً : أو ضحايا صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيقول له : يا بني اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء يا بني كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابع (جاهلاً) فتهلك.

هكذا كان شأن أهل السبق في الحركة، حتى صاحب البوفيه والذي يبيع الشاي والليمون في نادي أم درمان الثقافي أصبح مثقفاً وعالماً وعابداً بل زاهداً في الدنيا وهو صاحب ثاني أكبر مكتبة إسلامية في السودان حتى توفاه الله (رحمك الله رحمة واسعة أخي محمد الشازروان ).

وهكذا كان حال إخوته (بلاغ أحدهم من الدنيا كزاد راكب) وأهل الفضل والسعة فيهم قليل وعلى قلتهم ظلوا ينفقون وينفقون يبتغون تجارة لن تبور أبداً بإذن الله رغم ما حصل لهم اليوم من تدهور في صناعتهم أو تجارتهم أو زراعتهم وإهمال في شئونهم ولكن إن رحمة الله قريب من المحسنين.

أين حكامنا اليوم ونحن على "بردعة" السلطة نحكم ونتحكم ولا نذكر لأهل السبق فضلهم في إرساء هذه القاعدة وذلك السلم من أكتاف الرجال وهاماتهم ومجاهداتهم والتي أوصلت من أوصلت إلى السلطة ونسوا تفقد وأصحاب السبق منهم ويحضرني قول سيدنا عمر بن الخطاب في الصحابي الجليل أسيد بن الحضير والذي لا يُرى إلا مجاهداً أو غازياً في سبيل الله أو عاكفاً يتلو كتاب الله، ومع ذلك كان من الظرفاء صاحب نكات وملح وروي عنه الحديث التالي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنكم ستلقون أثرة بعدي) وعلق أسيد صدقت رسول الله وكان ذلك تعليقاً على قسمة للمسلمين من مال ومتاع في عهد سيدنا عمر بن الخطاب حيث وزع حللاً لكل مسلم حلة وإذا بأحد فتيان قريش دخل المسجد يرتدي حلتين فتعجب (تعجب من الجهوية القرشية) ونقل إلى سيدنا عمر ما قاله أسيد وهب سيدنا عمر إليه وشرح له الموقف إن هذا الفتى القرشي اشترى حلة ثانية من أحد أنصاري عقبي وضمها إلى حلته. وتعجب سيدنا عمر من الحديث الذي رواه أسيد وقال (أفتظن أن هذا هو الذي أخبر به رسول الله يكون في زماني؟) فأجاب أسيد : والله يا أمير المؤمنين لقد ظننت أن ذلك لا يكون في زمانك.

لم يعش أسيد بن الحضير بعد ذلك طويلاً فقد توفاه الله في عهد عمر وعرف سيدنا عمر أن عليه ديناً مقداره أربعة آلاف درهم (400 دينار) وهم ورثته ببيع أرض لهم لوفاء ديونه. ولما عرف سيدنا عمر ذلك قال لا أترك بني أخي أسيد عالة على الناس وأجرى حوار مع الغرماء – الدائنين - واتفق معهم على تقسيط الدين على أربعة أعوام بأن يشتروا ثمر الأرض كل سنة بألف درهم ووافق الغرماء على ذلك وهكذا تدخل أمير المؤمنين وأنقذ واحداً من أهل السبق ووضع مبدأ ممتازاً في سداد الدين لمدة معقولة من عائد الأرض المثمرة وقد ينطبق ذلك على المصنع أو في النص ولا والمعصرة وغيرها في عصرنا هذا.

أولئك كانوا بناة الدولة الإسلامية الأولى: القاعدية والمرجعية وأهل السبق في الحركة هم بناة الدولة الحديثة وسُلَّمَها إلى السلطة فهل يجوز بعد أن وصلنا إلى السلطة أن نركل السُلَّم بأرجلنا وننسى الحركة والتنظيم والنواة CORE الصلبة المكونة لذلك ؟؟ لم تكن القوة والكثرة في اعتبار أهل السبق أبداً بل كان أمامهم هذا الدين والانتصار له في أنفسهم وفي واقعهم وحياتهم ولذا كان نداء الكتائب "الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا" حقاً كانوا من الحكماء وأهل الحل والعقد يضعون الأمور في مواضعها ولوفين يحبهم الناس في مواطن العمل والسكن حيث دورهم مفتحة الأبواب وكذا مكاتبهم عفيفين عن الدنايا وخاصة الحق العام ورعين وأحسبهم محبوبين عند الله سبحانه وتعالى وعند الناس.

المؤتمران الخامس والسادس

إن ما جرى في المؤتمر الخامس للحركة الإسلامية السودانية من إعداد وتنظيم أخذ في اعتباره مكانة أهل السبق ومكانتهم في التنظيم سواء على سعيد المؤتمر أو مجلس الشورى. وكان أن عقد ذلك المؤتمر بمقر المؤتمرات جنوب جامعة إفريقيا العالمية ولكن المؤتمر السادس والذي يفترض فيه:

أولاً: أن يجدد الكيان والتنظيم الحركي ويعالج قضايا تتعلق بالنظام الأساسي وتثبيت دعائم العمل الواضحة في السيطرة والهيمنة للتنظيم الحركي على كافة الأنشطة بما فيها السياسية لم يتعرض لتلك القضايا بالتفصيل الضروري المهم والواضح لها ولم يعالجها معالجة واضحة دقيقة وشاملة وهذا شيء يؤسف له.

ثانياً: المؤتمر لم يحدد بصورة قاطعة ما ينبغي أن يكون عليه الفصل والتفرغ للأمر من تقلد أعباء تنفيذية سياسية أو سيادية أخرى عدا مهام ومسؤوليات الإدارة حيث إنها لا تمنحه الوقت الكافي والتفرغ والانصراف للبناء التنظيمي القاعدي والمحافظة عليه بغض النظر عن الكسب السياسي المنتظر.

ثالثاً: إن المؤتمر اعتمد قاعدة سياسية بحتة في اختيار الأعضاء وهي التصعيد زائداً الفئات ونسي أي أهمل أهل السبق وهذا ليس فيه هضم لحقهم في المشاركة بالرأي بل حقهم في فرص انتخابهم إلى مجلس الشورى والذي تم تفويضه من المؤتمر العام لمحاسبة أمير الجماعة ومكتبه التنفيذي.

إذا وافقنا جدلاً أن مبدأ التصعيد فيه شورى وحرية وهو كلية انتخابية رأسية لا أفقية فإنه لا يتضمن في جوهره الانتخاب المباشر كما وأنه لا يضع الاعتبار لأهل السبق ووزنهم النوعي ومساهمتهم الفكرية وتجربتهم العميقة في إجراء المناقشات أثناء المؤتمر وعرض الآراء والأفكار السديدة المنعكسة على القضايا المعاشة والمستعرضة داخل المؤتمر وقضايا متطلبات المرحلة اللاحقة في ضوء تجارب الماضي والمنسكب نورها بكاشفات قوية على مسيرة الحركة وخطاها القوية نحو الغايات المحددة لها مرحلياً كانت أو مآلياً.

هذه المواقف والمراجعات نحسب أنها ضرورية في البناء التنظيمي وإجراءات وخطوات العمل القاعدي لبناء قاعدة تنظيمية قوية وصلبة تمثل (كيب كانيفرال) لصواريخ ومكوك العمل التنظيمي ومن أجل استعادة الحركة لقوتها وفاعليتها.

الفصل الخامس: في الملاذ والمخرج

ماذا دهانا ؟ وماذا بقى من الشتات والتفرقة ؟

من نحن ؟

إلى أين نسير أن ترانا نساق .

أليس هذا بالعجب العجاب ؟

في هذا الآية عزاء وعذر لمن سكت وصمت ولزم داره .

وثمة أسئلة حائرة ومحيرة ؟؟

في الضلال عن السبيل !

وماذا بقى من الشتات ؟

هل انسدت الأنابيب ؟ أم عقم الرحم ؟ أم أزفت الآزفة ؟

ومن أكثر الأمور وضوحاً ما يلى :-

فضفضة واجترار ذكريات .

في الملاذ والمخرج والمنهج – معالم.

من معالم المنهج .

الالتزام بطريق النبوة .

المناصحة .

الرحمة .

أدب الخلاف والحوار .

الأخوة والمؤاخاة .

بعض معالم الطريق الجديدة .


ماذا دهانا ؟ وماذا بقى من الشتات والفرقة ؟؟ ماذا دهانا ؟؟

نحن في السودان في هذه الأيام نمر بمرحلة تاريخية دقيقة ومنذ أن حلّ مجلس شورى الحركة في 1991م وقبلها سُملت المصاحف في عشاء دسم وفخم وشامل لمعظم شيوخ الحركة الإسلامية وأصحاب السبق والفضل فيها 04/12/1990 م بدأت الخُطى تتعثر والكتف يميل، حتى مال اليوم ميلة واحدة، تكريس السلطة والتمسك بها على حساب الحركة والكيان إن كان هنالك كيان وماذا تعنى العبارة ويفيد المصطلح ؟؟.

دعونا نبحث عن إجابات لأسئلة حائرة ومُحيرة ومنها :

1) من نحن ؟؟

2) إلى أين نسير ؟؟

3) وهل فعلا، حقاً وصدقاً نحن نؤم الناس ونقودهم أم هناك مراكز قُوى تستخدم سياسات عجيبة ورهيبة وغريبة عن طبائعنا وعاداتنا وقيمنا وأخلاقيتنا هى التى تقود ؟؟

.. أليس هذا بالعجب العجاب ؟؟

الفُرقة، النزاع، الشتات = التآكل والخيبة والخسارة ؟ والله سبحانه وتعالى وحده يعلم ويُذكرنا في مُحكم تنزيله وفي مواقع ومناسبات كثيرة بعاقبة الفُرقة والشتات حيث قال في محكم تنزيله " وخاب كل جبار عنيد " وهنا يجمل بنا أن نستعرض بعض آيات الفرقة والنزاع والشتات وما أكثرها في كتاب الله:-

ف – فرط

1/ يفرُط : قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ( الآية 45 سورة طه ) .

2/ فرّطت : أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرَّطت في جنب الله ( 56 – الزمر ) .

3/ فرطتم : ومن قبل ما فرطتم في يوسف ( 80 – يوسف ) .

4/ فرطنا : قالوا يا حسرتنا على ما فرَّطنا فيها ( 31 – الأنعام ) .

5/ فرطنا : ما فرطنا في الكتاب من شيء ( 38 – الأنعام ) .

6/ يُفرطون : توفته رسلنا وهم لا يفرطون ( 61 – الأنعام ) .

7/ مفرطون : لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون (62 – النحل ) .

8/ فرطاً : اتبع هواه وكان أمره فرطاً ( 28 – الكهف ) .


هنالك تفريط كبير، لقد فرطنا في أمر هذه الحركة والدعوة منذ يوم :

1) وزعنا المصاحف ورففنا أهل السبق والخبرة : وضعوهم على الرف .

2) حلينا وعطلنا مجلس الشورى وباعدنا بأهله وكأنه بنا عطلنا حداً من حدود الله والعياذ بالله وما ذلك إلا تعطيلنا لمبدأ وقمة الشورى داخل الجماعة .

3) من كان المسئول ؟ الأمين العام ؟ نائبه ؟ أم مكتبه الاستشارى ؟؟ أسئلة حائرة بحاجة إلى إجابة.

ف – فرق

1/ يفرقون : ما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ( 56 – التوبة ) .

2/ فأفرق : فأفرق بيننا وبين القوم الفاسقين ( 25 – المائدة ) .

3/ يفرق : فيها يفرق كل أمر حكيم ( 4 – الدخان ) .

4/ فرَّقت : إنى خشيت أن تقول فرَّقت بين بنى إسرائيل ( 94 – طه ) .

5/ فّرقوا : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ( 159 – الأنعام ) .

6/ فرّقوا : ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ( 31، 32 – الروم). والعياذ بالله وفي هذه الآية عزاء لمن سكت وصمت ولزم داره.

7/ نفرق : لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( 136 – البقرة ) .

كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ( 285 – البقرة ) .

8/ يفرِّقوا : ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ( 150 – النساء ) .

والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ( 152 – النساء ) .

9/ يفرِّقون : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ( 102 – البقرة ) .

10/ فارقوهن : فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ( 2 – الطلاق ) .

11/ تفرقوا : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ( 105 – آل عمران ) .

وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم (14 – الشورى ) .

ت – تفرق

12/ تفرق : ولا تتبعوا السُّبل فتفرَّق بكم عن سبيله ( 153 – الأنعام ) .

13/ تفرقوا : واعتصموا بحب الله جميعا ولا تفرقوا ( 103 – آل عمران ) .

14/ تتفرقوا : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ( 13 – الشورى ) .

15/ يتفرق : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ( 130 – النساء ) .

16/ فريقان : فإذا هم فريقان يختصمون ( 45 – النمل ) .

وثمة أسئلة حائرة: أين إقامتنا لهذا الدين والكل محبط والكل مهيم، مصاب بالهيم؟

• والكثير متخم بالآلام والأحزان.

• والكثير متوتر ومصاب بالاكتئاب.

• والكثير متردد استنكحه الارتياب.

• والكثير غير مكترث من الغثيان والدوران.

• والكثير مرعوب، مذعور، مجهد من الهذيان. وا فضيحتاه، ويا للخسران الكبير.

• سبحان الله الملك الديان المبين محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين.

في التنازع

1/ ونزعنا في صدورهم من غل تجرى من تحتهم الأنهار ( 43 – الأعراف ).

2/ ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سررٍ متقابلين ( 47 – الحجر ).

3/ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( 9 – هود ).

4/ تنازعتم: في شيء فردوه إلى الله والرسول ( 59 – النساء ).

5/ تنازعوا: وأطيعوا الله ورسوله فلا تنازعوا فتفشلوا ( 46 – الأنفال ).

النزغ

6/ وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان في بينى وبين إخوتى ( 100 – يوسف ).

7/ إن الشيطان ينزغ بينهم ( 53 – الإسراء).

8/ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ( 200 – الأعراف).

9/ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ( 36 – فصلت ).

يبدو أن إبليس قد لعب لعبته وقام بدوره ونزغ بيننا، كما نزغ بين سيدنا يوسف وإخوته لا بدّ أن نتكاتف مرة أخرى لنطرده ونقصيه أو نقضي عليه بعون الله.

في الضلال عن السبيل

1/ من يضلل عن سبيل الله فما له من سبيل ( 46 – الشورى).

2/ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة (125 – النحل).

3/ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا (146 – الأعراف).

4/ ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله (6 – لقمان).

5/ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد (26 – ص).

6/ فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله (94 – النحل).

بداية التآكل.

7/ وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24 – النمل). قمة التآكل أن نتأبط السلطة ونترك الحركة.

8/ وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدوا عن السبيل وكانوا مستبصرين (38 – العنكبوت). قمة التآكل والخسران المبين.

9/ واتبع سبيل من أناب إلىَّ (15 - لقمان).

10/ والله يقول الحق وهو يهدى السبيل (4 – الأحزاب).

فقط للتذكرة وبدون تعليق

ماذا بقى من الشتات ؟

1/ بقيت الذكرى العطرة للشهداء وبقيت أرامل وأطفال وأحفاد وأسباط الشهداء.

2/ بقيت هذه الكلمات العطرة:

أمى أن إن أتيتك أحمل مدفعى ..

3/ هذه الذكرى المماثلة بيننا هى ما بقى من الشتات وهؤلاء هم المشعل المنير والسيرة الخالدة للمجاهدين، ولواءات الصادقين، ونحسبهم من الصالحين والمفلحين إن شاء الله السالكين طريق الشهداء والنبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقا.

4/ هذه الغرسة الطبة والنبتة المعطاءة والسنبلة الخيرة إن شاء الله والتى تحمل الكثير من الحسنات هى أحق بالرعاية والعناية والكفالة، لأنها تذكرنا دائماً بالجهاد والمجاهدة، وتعيش بيننا بذكرى فواحة لأخوة لنا من المجاهدين والشهداء عشنا معهم في برش واحد أمثال أحمد بشير الحسن، د.مصطفى عبد الله، د. محمد أحمد عمر، د.محمود شريف، والأستاذ أحمد محجوب حاج نور، وآخرين من الجيل الذى يلينا ويلى أولئك الذين يأتون من بعدهم.

5/ هذا ما بقى من الأشلاء والشتات، وهذا ما يحق للدعاة والعاملين في الحركة الإسلامية أن يعتدوا بها، يفخروا به ويفاخروا، يعملوا على استمراريته وخلوده، وسيظل هذا العطاء، خدمته ورعايته، هو محور الربط وجوهر الإخاء والانتماء إلى هذه الحركة لأنه يمثل قمة الإيمان بالله والتقوى والخضوع والإذعان لله وعبادته الحقة "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد منهم من رزق، وما أريد أن يطعمون".

فطوبى للشهداء ولأسر الشهداء، ولمؤسسى هذا العمل في منظمة الشهيد وطوبى للذين يرعون هذا العمل رعاية خاصة مخلصة لوجه الله.

ولست بحاجة لأن أذكر مرة أخرى بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (إحداهن نصرت بالرعب مسيرة شهر) وهذا يكفى أن يرتعب أعداء الله وأعداء الحركة أينما كانوا وذلك مسيرة شهر وغالبا ما يكون بالبحر حتى نقيس مدى البعد الجغرافى المسافى لأثر الروع والرعب للمجاهدين وهم في وطنهم مستعدون لملاقاة أعدائهم، وما أكثرهم، وأحياناً ما أقربهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لقد قاست مسيرة العمل الإسلامى عالمياً مآسى كثيرة وعانى الدعاة الدعاة مكابدات كبيرة، وصمدوا كثيراً في وجه المضادات، وكلما قربت الحركة الإسلامية من التكامل وقطف ثمار مجاهدتها، انبرى لها من خارجها من يحول دونها وقطف الثمار، ومن ثمَّ يكون التآكل، ولكن مصيبة الحركة الإسلامية السودانية إذا انقسمت على نفسها وتآكلت من داخلها وإذا جاز لنا ان نستعير المثل فنقول:

"يا قطة أكلت بنيها" وهى قطة من النوع السيامى الغالى والراقى.

هل انسدت الأنابيب؟ أم عقم الرحم؟ أم أزفت الآزفة؟.

أمام هذه الحيرة، بترز العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام المحيرة، وبخاصة لحركة إسلامية بكل هذا الإنجاز، وضخامة الأعداء، وعمالقة العطاء، وأساطين الفكر وحشد العلماء والفقهاء ونخبة المجاهدين وصفوة الحادبين، كلهم حيارى أمام الذى أصاب الحركة والعاملين فيها، وأُصيبوا بدوار وغثيان وعلل تام، عاجزين عن أن يتبينوا ماذا حدث لهم وماذا أصابهم وكأنهم مصابون بمرض غريب عجز الأطباء عن تشخيصه وبالتالى علاجه كما يعجز أطباء الباطنة والجراحة عن علاج المايلوما المتعددة في جسم الإنسان multi – miloma.

إن الحركة الإسلامية السودانية لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدى خاملة، خامدة الفكر، عاجزة عن تكوين مجموعة من الصفوة تجلس في مكان قصى، ولعله ركن رشيد لتتدارس قضيتها وإذا دعا الحال تنتقد نفسها ذاتياً، نقداً صريحاً، وتشخص مرضها وكما هو واضح للكثيرين أنه كرسى السلطة إذ أن الخلافات حدثت في الماضى والإنسلاخات وقعت، ولكنها بمجموعات صغيرة ومحدودة الأثر، وليس كما هى بصورة اليوم والتى أحدثت شللاً تاماً كما نراها ويراها البعض، حتى استبعد الكثيرين ومن الذن ظنوا في البداية أنها مسرحية ظرفية "لحاجة في نفس يعقوب" ويعقوب ونفسه بريئين من ذلك براءة الذئب من دم سيدنا يوسف وقميصه.

إن الحركة الإسلامية السودانية بما لديها من كوادر وقدرات تستطيع أن تطبق المناهج العلمية وتصطحب المواقف الفقهية، وتستلهم أحداثاً تاريخياً، ومعطيات وموروثات ثقافية واجتماعية لتعود سيرتها الأولى بعد أن تكتشف مواطن الخلل في مسيرتها قرابة نصف قرن من الزمان.

ومن أكثر الأمور وضوحا في هذا السياق ما يلى :

1) لقد ظل عنصر النصيحة لقيادة الحركة وأمينها العام ونواب الأمين العام العديدين والذين تعاقبوا على المنصب يستعمون النصائح، والبعض منهم يجيد الإنصات بلا تعليق، وآخرون تعلوا أصواتهم ملعلعة بالتعليقاتن المهم جزى الله أولئك الخلصاء من الإخوة الذين صدعوا وصدقوا في نصحهم وخصوصاً في الأيام النحسة والصعبة حيث إن نشوة السلطة والانتصارات واستخدام الواجهات أصم البصائر وأعمى الضمائر مضاف إلى أصوات المواتر، وهنا لا بدّ لنا من وقفة وسؤال : هل الوصول إلى الحكم واستلام السلطة بغير الجماهير يعنى أن الحركة قد وصلت "الميس" أى بلغت غايتها ؟!

وهل يعنى ذلك أن تُحل مجلس شوراها وتخفف الأعباء الإلزامية على أعضائها وتسقط من حساباتها الصفوية كعنصر ضرورى لبناء الأفراد واللبنات الحركية المُشكلة للقاعدة الصلبة للتصدى والمواجهات من أجل إعداد المجاهدين والمفلحين والصادقين والدبابين، ظاهرة القرن الحادى والعشرين.

كلا ثم كلا، ولكن حقائق الأشياء الظاهرة والمستترة، ومواقف القيادة، أمين عام، أم مكتب مستشارين (المكتب التنفيذى) بالمفهوم والمعنى الكلاسيكى والصراعات التى عاشتها القيادة والإعفاءات، مضافاً إليها الإقصاءات مُضاف إليها الإبعادات وغيرها الكثير، هى انعكاس للتمسك بالسلطة بأى ثمن، وبأغلى التضحيات، رحمنا الله فقد قلناها منذ مؤتمر إبريل 1969 بدار بحرى. وآ أسفاه، لم تعد لقاءات التنوير مجدية، ولا تدفق المعلومات مفيد، والمنطق لم يعد هو المنطق، والإنسان في السودان أضحى هوان، بل حيوان يُعلف ويكلف، والساقية مدورة، معذرة للأخ الصديق حمد الريح، حيث القواديس بلا ماء، والهائمون يتصايحون عطشان يا صبايا .. دلونى على السبيل .. إلى متى وحتى متى؟ لست أدرى فهل من متطوع جسور يدرى فيرشدنى ؟ تلك دراما الرجل الواحد : That is the one man show واعتذرنا عن الاستمرار بالمكتب التنفيذى يومها.

تلك الخواطر، خلجاتى وسبحات فكر تهتاج بلاعج الذكرى واضطرامات النفس، وتدعو لتقديم الشكر لكل من قدم النصح وأخلص الكلمة، فهى عند الله محفوظة ومعلومة، لأنها كلمة حق عند سلطان جائر، فطوبى لهؤلاء المجاهدين من داخل السودان، وإلى أولئك الناصحين المخلصين من خارجه والذين ظلوا يتوافدون ما إن لاحت تباشير النصر للفكرة ورفعت راية الشريعة في سماء السودان توفدوا ومدوا أيديهم ملأى وأرجلهم حافية سنداً ونصراً لدين الله وإخوة في الله، ترى هل أنصفناهم ؟ أم خذلناهم شر خذلان، وعدنا كما يقول لنا الشيوعيين في الخمسينيات والستينيات الإخوان أذناب الأمريكان ؟؟.

أم تراه مكره أخاك عفواً "أخونا" لا بطل ؟ ولكن ثمة تساؤل ! لم الإكراه ؟، فالدرب كما نعلم طويل والمشاق كثيرة وفي التأنى السلامة.

وتمضى الأحداث وإذا بنا نجتر ذكريات الأمس ونفضفض في لقاءات الإفطارات والغدوات والمناسبات ونتساءل، هل ستعود تلك الأيام العذبة ؟ أيام البرش والقرش والنبق واللالوب، وموية المطر والبراجوب والتقابة "نار القرآن "، ومسجد توتى، وجامع شيخ يوسف ونادى أم درمان الثقافى، والأعزاء من الأخيار الخلصاء فلان وعلان، ترى هل ستعود الأيام أم هى "أحلام ظلوط" وهذيان الحموم بلا ملاريا والحيران وما ندمان ولكنه خائف يترقب، لقد أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة، فلنذكر آية الكرسى وننسى الكرسى والله المستعان.

في الملاذ والمخرج والمنهج – معالم

"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"

تلك هى أزمتنا أزمة ورثة لخير أمة أخرجت للناس _ نحسبها كذلك لما حققت وتحقق لها من إنجازات ومكاسب ومصيبتنا وكارثة الحركة الإسلامية السودانية التى أوقعتة بنفسها فيها بحلها لمجلس شوراها في 1991م وبإحالتها لأهل السبق فيها وكبارها إلى الاستيداع في 4/12/1990 م بتفريطها في الشورى كمبدأ وقيمة قرآنية أزلية سياسية واجتماعية وفكرية وإنسانية، ومضمون محورى من مضامين الحركة والتنظيمة الصفوى، الذى يرسم ويقود ولا غناء عنه إذا ما أريد لهذا التنظيم وتلك الجماعة أن تعود لجماهيرها وتحقق الأهداف والغايات التى رسمتها للشعب وللجماهير.

إن ما ينقص حركتنا اليوم هو الصفوة التى ترسم لتقود في وقت عمّ فيه الجماهير وعى كاسح بما حولها وشفافية واسعة لما يحيط بها، في وقت أضحت فيه الشفافية عنصراً لا غنى عنه بين الراعى والرعية بل أصبحت هى المرآة الحقيقية لأمة المسلمين والذين قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم "المسلم مرآة أخيه".

الجماهير تساند الحركة وتبشر بمزيد من العطاء والإنجازات متوافرة ومستعدة وبكثرة ولكن ثمة أخطاء بحاجة إلى مراجعة ومناصحة وتصحيح مما يجعل الدفاع عن الحركة وهى فى السلطة مهمة صعبة وأحياناً غير ممكنة، وهنا علينا أن ندرك أن الأخطاء لا تخدش التقوى ولا تقدح في الصفوة والقيادات العظيمة ذات "الكاريزما" هذه القيادات ليست معصومة، وأن نقدها واجب ومناصحتها أوجب خاصة وهى تقبض المقود "بالعشرة من أصابع اليدين" وتتحكم في المكابح والمتسارع "بالعشرة الأخرى من أصابع القدمين". وذلك في كل من قيادة الحركة والسلطة.

كان ذلك واضحاً في أصول منهج الحركة الإسلامى والذى يستمد أساساً من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سير ومواقف الخلفاء الراشدين خاصة وهم في سدة الحكم، يمسكون بزمام الأمور، ويسوسون الرعية في بداية تكوين الأمة الإسلامية قبل ستة عشر قرناً من الزمان ولسان حالهم يردد وهم في أعلى منابر السلطة :

"لا خير فيهم إن لم يقولوها .. ولا خير فينا إن لم نسمعها منهم" سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ثانى الخلفاء الراشدين.

ومن معالم المنهج :

1/ تحقيق معنى العبودية لله سبحانه وتعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (56 الذاريات) "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" (72 – الأحزاب).

(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) حديث شريف .

"إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون" (30 – فصلت).

وإذا أخذنا بهذا المعنى للعبودية، يمكن أن يندرج تحت هذا المعنى والمفاهيم المنبثقة عنه جملة اعتبارات وحيثيات، منها السلطة بحد ذاتها لا تعدو أن تكون وسيلة من وسائل التمكين لتحقيق العبودية لله ونشر الدعوة وحمايتها. وهنا فإن الخاطر الذى يتوارد إلى الذهن هو ضرورة أن تتحقق المعانى التى يريدها الإسلام في واقع حياة الناس حتى تحكم نشاطهم. أم الضرورة أن يبقى في السلطة ويدخل الوزارة زيد أو عبيد – كلا.

2/ الالتزام بطريق النبوة في بناء الأمة : وحتى تتحقق العبودية لله والفوز برضائه، هذا الالتزام لا بدّ له من قناعة في الفكر والقلب، وعزيمة إيمانية للتنفيذ والعمل (الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل). كما لا بدّ له من إخلاص وتجدد ثم يأتى الاحتساب لله والتضحيات من أجل إعلاء كلمة الله. القناعة في الفكر والقلب متوافرة ولكن العزيمة الإيمانية اضمحلت وضعفت.

3/ المناصحة : وهى تدخل في باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهنا يعنينا بالدرجة الأولى المساقين، مساق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا بواسطة محاصرة الحرية في الأولى من أجل ممارسة النصح والشورى والنقد والمساءلة، ولا الثانية عن طريق عن طريق مكتب الاستخبارات والمعلومات حتى وصل الحد أن يتجسس الأخ على أخيه وأحياناً الابن على أبيه والعياذ بالله. ولا نستغرب أن يحدث ذلك إذا غيبا معانى بعينها في بناء الفرد وتكوينه الفكرى والعقدى والروحى وحلت محل ذلك معانى أخرى فيها حب السلطة والمال والأنانية والإثرة والعصبية والجهوية والابتزاز والإرهاب الفكرى وغيب عن ساحة العمل من تصورات وسلوكيات البعد الإيمانى والغيبى بمعانيه العديدة وظلاله والوارفة وفي مقدمتها رأس الحكمة وهى مخافة الله سبحانه وتعالى واستقامة السلوك والمواقف وتصلبت وخرصت وسكتت نفحات خفض الجناح ولين الجانب والخلق الكريم، في هذا الأخير أوصدت الأبواب ومكاتب عن استقبال أعز الناس من الخلصاء والشرفاء والمجاهدين القدامى وأهل السبق، والذين وجدوا سعة وراحة وطمأنينة لحد كبير في دورهم ومكثوا فيها معتزلين الفتنة لأنفسهم وأهليهم والفتنة للناس.

4/ جهود أخوية رفضت : وفي هذا السياق تقدمت العديد من الوفود الإسلامية الأخوية بالنصح والدعوة الخالصة للوفاء ورأب الصدع ونذكر منها جهود العلماء والمشايخ الأجلاء من أمثال :

1/ الدكتور يوسف القرضاويمصرى / قطرى.

2/ الدكتور إسحاق الفرحان – أردنى.

3/ دالكتور عبد المجيد الزنداني – يمنى.

4/ الأستاذ عدنان سعد الدين – سورى.

5/ الأخوة من حماس وخاصة الذين تربوا تحت عباءة الحركة الإسلامية السودانية بالخليج وأمريكا، وآخرين كثيرين قدموا إلى السودان ناصحين ومشفقين، وقالوا كلماتهم ولكن لا حياة لمن تنادى فقد استعلت قيادة الحركة على ذلك النصح وبطرت واستكبرت من غير سبب وأشاح البعض بوجوههم وكأنى بالذين هبوا مسرعين ومشفقين لنجدتهم يريدون أن يسلبوهم ما فى أيديهم من سلطة .. كلا ثم كلا، ما هكذا تورد الإبل ويقابل الضيوف من إخوة أعزاء مشفقين، حادبين – ولكنها حصلتّ..

5/ الرحمة : إذا كانت هى الغاية من ابتعاث الرسول صلى الله عليه وسلم "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (10 – الأنبياء) والله سبحانه وتعالى يذكر بها رسوله الكريم أفضل الخلق والمرسلين قائلاً له:-

1) لست عليهم بمصيطر (22 – الغاشية).

2) أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99 - يونس).

3) ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك (159 – آل عمران).

ويل لهؤلاء الذين على العرائض والمذكرات يعتذرون ويل لهؤلاء الذين على النصيحة يستعلون وويل للذين هم في السلطة لأبوابهم يوصدون وصدق كلام الله سبحانه وتعالى: "وخاب كل جبار عنيد".

6/ أدب الخلاف الحوار : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن" هذا توجيه من الله سبحانه وتعالى فيه نهى واضح وصريخ في المنقشة والحوار والمجادلة مع أهل الكتاب وهم بعيدين عنا، فما بالنا بأخوة من المسلمين قريبين جدا منا، وكنا في يوم من الأيام معاً برشاش واحد دفاعاً عن الدين ونشراً له ومجاهدة للنفس، وحديثاً وإعداداً لها بالجهاد في سبيل الله يوماً ما، واليوم دخلت الحركة ميادينه ومعاركه. ما أحوجنا بل ما أحرى أن نكون رفيقين بهم والرسول صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى الرفق والترفق في قوله "ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع الرفق من شيء إلا شانه" ذلك ولنتذكر أن أفضل الجهاد "كلمة حق عند سلطان جائر" وهنا نتساءل هل السلطان الجائر هو بوش الابن أم بوش الأب أم شارون وحسب ؟؟ ولنتذكر الإسلام بمبادئه وقيمه هو المنهج وهو الذى يحكم سلوكياتنا وأخلاقنا وجميع علاقاتنا ومعاملاتنا (الدين المعاملة).

7/ الأخوة والمؤاخاة : "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" هكذا يقول لنا الله سبحانه وتعالى، لا ليذكرنا بما نسينا فقط ولا ليعلمنا بما جهلنا فحسب ولكن يأمرنا بذلك للالتزام والتنفيذ ومن الالتزام أن نفهم جيداً ونعى تماماً معنى الآية الكريمة "إنما المؤمنون إخوة" والحديث (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله) وكم ظلمنا من إخوة، وأسلمنا من آخرين واحداً إلى الثانى بالتجسس والتلصص والمتابعات وخذلنا بالكذب والافتراءات ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل "اتق شر من أحسنت إليه".

وهنا نجد معنى الحديث الذى ورد في السنة (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه) يتجدد كلما غاب عنا أو كاد أن يندثر مذكراً لنا بالمؤاخاة والتى هى قاعدة من المجتمع الإسلامى وركيزته حيث آخى الرسول الكريم بين المهاجرين والأنصار، إخاء كادوا يتوارثون به.

ونواة الحركة الإسلامية وفلذات كبدها تحابوا في الله وتآلفوا عليه وعلى السير في الطريق الذى اختاره الرسول الكريم ونفذه من بعده الخلفاء الراشدين وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه والذى يقول وهو يعتلى منبر الرسول الكريم (وأطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لى عليكم). وهنا نجد أن المسئول وهو في قمة القيادة والسلطة السياسية ينبغى عليه أم يكون مثل ما كان عليه سيدنا أبو بكر وقد اختطّ لنا ذلك فواجب عليه أن يكون ملتزما بطاعة الله والمنهج الربانى الذى فصّله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا نذكر أنفسنا بضرورة العودة إلى الأصول وتأكيد انتمائنا إلى وحدة الحركة والمنهج حتى نسقط من حساباتنا الصور الشائهة والمناظر المؤذية ونفتح صفحة جديدة ومشرقة إن شاء الله.

قد أشرت في الفصل الرابع تحت باب ( النزاع والفرقة والشتات ) إلى معالم الطريق الجديدة وإلى معاملات ثلاثة وركائز ثلاثة – أما المعاملات فهى تتعلق بـ :

1/ القيادة الجماعية الواعية المخلصة والأمينة.

2/ اعتماد الشورى كركن منيع وحصين ومرجعية لا غنى عنها للحركة والتنظيم.

3/ النواة الصلبة للتنظيم Die – Hard Core، التى ترسم وتخطط وتقود بلا تراجع ولكن المراجعة ضرورية عند الخطأ.

وأما الركائز الثلاثة فهى:-

1/ التربية:-

من أجل تطهير القلب واليد واللسان وتحقيق التقوى للإنسان وعضو الحركة المنتظم.

2/ المؤاخاة والأخوة:-

الأولى هى أساس ودعامة المجتمع الإسلامى المدنى الأول حيث آخى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين المهاجرين والأنصار، والثانية هى سر القوة للحركات الإسلامية الحديثة "حافظوا على أخوتكم فإنها سر قوتكم" – الإمام الشهيد حسن البنا.

3/ إلتزام قضايا الشعب والجمهور:-

ذلك هو السند الحقيقي الجماهيرى لأى حركة فاعلة، ناشطة ومؤثرة في وسط الشعوب والجماهير.

"من لم يهتم بأمر المسمين فليس منهم" حديث شريف.

أما كيف نحقق ذلك، فتلك مسألة لها مقال آخر، وقديماً قالوا: لكل مقام مقال ولكن لا بدّ لى أن أشير هنا إلى ضرورة الحوار الصفوى والأخوى، الفكرى والفقهى المتسامح والذى تنبرم له من المفكرين والفقهاء والقدماء من أهل السبق والمجاهدين من الشباب والطلاب والعمال والمرأة وفئات أخرى تمثل رموز القلب النابض للحركة الإسلامية في كسوبها ومجاهداتها وإنجازاتها لتقوم بهذه العملية والتى تمثل مراجعة في الأصول والمبادئ في الحركة والتنظيم في الكوادر والإطارات في القيادة والصفوة ثم ترسم البرنامج والمنهج في ضوء كافة المعطيات والظروف والملابسات التى تحيط بالحركة الإسلامية وبيئة عملها والتى تتشكل من أصداف ومحيطات تتمثل فيها بيئة العمل الحركى الداخلية والخارجية السودانية والخارجية الإقليمية والخارجية الأقاليمية والدولية ومن ثم تتبين لنا معالم الطريق إلى التعايش في أخوة وفي احترام للمبادئ والقيم في تأكيد النصر والاعتزاز بالمنجزات وفي تبيان الإخفاقات والنقائص والثغرات وهنا نذكر معانى الآية الكريمة "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين" صدق الله العظيم. ونذكر "إن مهمتنا هى أن نغير أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيراً.

حسبنا ذك، ما أريد إلا الإصلاح إن استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب إنه نعم المولى ونعم النصير.


الخرطوم

15/02/2003

مذكرة العشرة وفقه الحرية والشورى في العمل الحركى

(مذكرة تاريخية ومفصلية في مسيرة الحركة السودانية)

جاء في كتاب الله العظيم قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { وخاب كل جبار عنيد } صدق الله العظيم الآية (15 من سورة إبراهيم) كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" رواه مسلم.

ومن هنا كانت الحرية قيمة أساسية وأزلية يحرص عليه بنى البشر أينما كانوا وحيثما وجدوا. ولقد أدرك أهميتها المسلم، والمؤمن، والحركى الداعية النشط، وحتى الخامل الكسول، من أنها قيمة معنوية أزلية ثابتة، يحرص عليه الإنسان حتى يتمتع بها ويميز بها نفسه عن الحيوان وسائر مخلوقات الله الأخرى.

وقد أدرك أصحاب رسول الله عليه وسلم قيمة الحرية ومعناها، وحرصوا على ممارستها وتطبيقها في إطار من ضوابط التعليمات والتوجيه القرآن ى، وعلى هدى من السنة النبوية الشريفة في أفعال وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراراته، وكان أول من نادى بها الخليفة وفعلها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه في قوله : "إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقومونى" ومن بعده سيدنا عمر الخطاب في قوله لعمرو بن العاص (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) وقد تميز الإنسان عن الحيوان بما وهبه الله من صفات نقلته من عالم الحيوان إلى عالم القيم والإنسان، حيث زود بمفاهيم الخير والشر (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها) الآيتان 7 – 8 من سورة الشمس كما زودنا الله سبحانه وتعالى بطاقة العلم والمعرفة واكتساب المهارات ومقدرات التحليل والإرادة والاختيار مما يقود إلى موقف المسئولية عن تصرفاتنا وأفعالنا، كل في حدود طاقته وما زود به من قدرات {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} الآية 286 من سورة البقرة {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} الآية 29 من سورة الكهف {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} الآية 7 – 8 من سورة الزلزلة ثم يوضح لنا ربنا في كتابه العظيم { لا إكراه في الدين } الآية 256 من سورة البقرة. أى هناك قدر كبير من حرية الإرادة والاختيار، في إطار من الضوابط، أشار إليها القرآن الكريم في الآيات { ولا تزر وازرة وزر أخرى } { إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } (الآيتان 25 – 26 من سورة الغاشية) { يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضية * وادخلى في عبادى * وادخلى جنتى } (الآيات من 27 – 30 من سورة الفجر) ونلحظ هنا أن ثمة ربطاً مجدولاً طردياً وعكسياً بين فكرة الحرية والحساب والعدالة فيه، حيث لا حساب بلا حرية وإذا لم يكن المحاسب حراً في اختيار الصواب والخطأ بداهة تسقط فكرة محاسبته على عمله وأخطاء التى ارتكبها في مضمار حياته وأنشطته وتكليفاته.

ولطالما الإنسان ليس مخلوقا مبرمجاً وله إرادته الحرة فإن من يقسره على شيء أو يفرض عليه شيئاً، يكون قد اعتدى على إنسانيته وحريته وارتكب جرماً كبيراً في حقه وآدميته ومن ثم فإن المجموعة التى انتظمت في تنظيم حركى واحد كان ذلك من أجل توحيد الجهود وتنسيق العمل والسير بها نحو تحقيق غايات معينة، وذلك في إطار من الشورى واللوائح والقوانين والضوابط الشرعية على صعيد المجتمعات وتكويناتها ودساتيرها ولكن ذلك لا يلغى قطعاً دور الضمير ومحاسبته، والاجتهادات في التربية والتكوين وبناء الفردى والشخصى لتطهير الباطن قبل الظاهر، ولدوام مراقبة الله سبحانه وتعالى قبل مراقبة القانون والناس، ومع ذلك تظل الحقيقة الواضحة أن جوهر الإنسانية وخصوصية البشر هى الحرية.

السلطة السياسية التى جاءت بها العسكرتاريا هى عادة ما تكون محمية بالعسكر ومخفورة بالأمن وإن كانوا في جلباب مدنى، فهى دكتاتورية وقبلها كانت ديكتاتورية مدنية، حتى كانت مذكرة العشرة وبعد سنوات عشر، وهى ثورة على نوع من الطغيان والاستبداد القيادى الحركى وإلا فما معنى أن يتحول عشرة أشخاص، سبعة منهم من أبناء الشيخ ومن المقربين له، بل من مستشاريه والذين خلفوا أعضاء المكتب التنفيذى المنتخب من مجلس الشورى وخرقوا القاعدة التنظيمية المثبتة والمتوارثة في انتخاب المراقب / الأمين العام ومكتبه التنفيذى قبل اتخاذ فكرة القيادة الجماعية، وذلك يوم كان المراقب العام للحركة المرحوم الأستاذ / الرشيد الطاهر بكر، حبيس الجدران وبين القضبان في مدينة بورتسودان، وتلك قصة أخرى ولها مجال آخر.

إن عملية تحول العشرة بدرجة 180 درجة زاوية منفرجة عن القيادة التنظيمية في ذلك الوقت وهى تجمع بين أمارة التنظيم الحركى، وأمين عام المنبر السياسي – الجبهة الإسلامية القومية – ورئيس البرلمان، الجمعية التأسيسية، ما تلك العملية إلا ثورة حق في الاتجاه الصحيح، وتطبيقاً لحرية الرأى، وتنفيذاً لكلمة حق عند من اعتبروه أميراً جائراً.

إن مذكرة العشرة، سواء انطلقت من مفهوم رفض الاستحواذ على السلطة والتسلط والانفراد بالرأى والقرار وبإدراك منهم كلهم أو بعض منهم بأن القيادة تلك؛ ما كانت تستطيع العيش خارج السلطة، كما السمكة لا يمكن أن تعيش خارج الماء، كانت انطلاقة صحيحة وموقفاً تصحيحياً لخطأ دام قرابة الحقبتين من الزمان وأكثر، وكان ذلك بعمل استراتيجى، مخطط له، فاتبع فيه تكتيك ذكى وحصيف، حتى وصل بنا إلى الذى نحن فيه من اليوم من سقوط بين كرسيين، كرسي الدعوة وكرسي السلطة (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) مثل عربى.

كرسى الدعوة الذى حل فيه مجلس الشورى وأصبح التعامل مع أفراد مستشارين للأمين العام، لتسلمه في مبادئ وقرارات موجهة إلى مجلس الشورى والذى يضطلع بدوره في انتخاب المراقب / الأمين العام ومكتبه التنفيذى، ويخضعهم جميعاً للمحاسبة بقدر عظم المسئولية التى يتقلدونها.

أقول ذلك والحركة بحمد الله في قاعدتها الشعبية تزخر وتفيض بل وتنضح بالعناصر القوية والملتزمة بإيجابيات فكرية مبدعة وخلاّقه، ولكن أين هم اليوم ؟؟ هم على الرفوف بعد تسلمهم مصاحف بها إهداء جميل وظريف وطوبى للظرفاء !!

إن القاعدة المعروفة والمسلم بها هى : إن الأمة التى تعطى البيعة، تملك الحق في سحبها إذا أخل الأمير أو الحاكم بشروط البيعة والتزاماتها. وكل الخلفاء الراشدين قد دعوا إلى ذلك.

وإن الأمة هى التى تملك السيادة وإن الحاكم موظف عندها، ويأمر وينهى بما تشاء الأمةن لا بما يشاء هو، لا، النظام يقضى بذلك، ومثلما أعطى الحق للأمة المسلمة الواعية، فهناك في التنظيم الحق للقاعدة الشعبية الواعية ممثلة في مؤتمر الجماعة العام ومجلس شوراها. وإذا كانت ظروف ما – نظام عسكرى – حال دون انعقاد المؤتمر، فهناك مجلس شورى الجماعة، ولها أساليبها في الحصول على رأى القاعدة وأخذ ذلك الرأى وخاصة في القضايا المصيرية الكبرى.

ومن تجربتنا في الحركة الإسلامية بالسودان إن شجرة الإسلام لا تنمو بدون الحرية، وأنه في غياب الحرية تضمحل الحركة وتصاب بالفتور وتخفت أنوارها بل استحوذ بعض المتسلقين إلى القيادة وتكثر الأخطاء ولا أحد يدرى من المسئول عنها، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء يعلم { خائنة الأعين وما تُخفى الصدور } الآية 19 من سورة غافر.

يا ترى من باعنا وقبض الثمن!!؟؟

إن مذكرة العشرة ينبغى أن تفسر تفسيراً فهى خطوة تصحيحية، سليمة مائة بالمائة وفي الاتجاه الصحيح في مضمار الاجتهادات المختصة بفقه العمل الحركي، وخاصة الجانب المتعلق بالقيادة، واستخدام السلطة، بل والأجهزة المرتبطة بالقيادة، مثل مكتب المعلومات والذى أنشئ للاستخبارات الخاصة بتأمين ظهر الحركة والحركيين من أن يضربوا فانقلب سياطاً تلهب ظهور الحركيين، ومصدر قلق وتنصت ومطاردة للناشطين منهم، ولأولئك غير المرغوب فيهم أو بالأصح غير المستلطفين والمبعدين والمرفوفين – الذين وضعوا على الرفوف – بعد استلامهم مصاحف وعليها عبارة (( بسم الله الرحمن الرحيم )) الأخ المجاهد أحمد التجانى.

"نهدى إليك كتاب الله الذي وثقنا عليه أمس عهد الحق ونحقق به اليوم وعد الصدق ونرجو به غداً عافية الخير والحمد لله أولاً وآخراً. عن إخوانك حسن الترابي 17/5/1411 هـ الموافق 10/12/1990 م".

تلك – أي المذكرة وما ترتب عليها من إيجابيات – بؤرة نور من مضيئات وكاشفات الحركة الإسلامية السودانية، والتي عرفت في مسيرتها الطويلة بطهارة المنتمين لها والعاملين فيها قبل أن يتمرغ البعض في تراب السلطة وآخرين في تبرها الأسود والأصفر، وظل الرواد منهم إما على الرفوف، أو تحت أعواد أشجار تساقطت أوراقها في فصل الشتاء، تصطك أسنانهم من الزمهرير والبرد القارص، والسعداء منهم من حبستهم جدران بيوتهم في المدن والقرى ينتظرون الفرج من الله وليس أمامهم إلا الفضفضة والدعاء، ولسان حالهم يقول اللهم منا الدعاء وعليك الإجابة والتكلان.

وكان لابد لتلك المذكرة أن تواصل مسعاها في عملية التصحيح بالدعوة إلى عقد مجلس شورى وإعادة تكوينه من جديد، حتى يمارس صلاحيته في رقابة المجلس التنفيذي (القيادي) ومحاسبته وبطبيعة الحال الأمين العام ومستشاريه – أختام كاوتش – إلى الجهاز المؤسسي، والذي يشكل قاعدة للمرجعية في العمل التنظيمي الحركي، ذلك من منطلق ما لمسوه وعايشوه وكادوا يحترقون به.

الانفراد بالسلطات والصلاحيات

هذه العملية لم تتم فجأة ولا في وقت قصير، وإنما استغرقت أعواماً من الزمان وحقباً تقارب الثلاثين عاماً منذ اندلاع ثورة أكتوبر 1964 وما بعدها، حيث اتخذت عدداً من الخطوات والإجراءات في مسيرة الحركة والتنظيم والتطورات الداخلية في بناء التنظيم ومجلس الشورى وتكوينات المكتب التنفيذي.

فإلى تلك الخطوات والمواقف والإجراءات والقرارات :

1) بعد فترة من الزمن قرابة عامين أو ثلاثة من بداية التسعينيات تقدم الأمين العام إلى مجلس الشورى باقتراح كلية انتخابية، مفادها أن يقوم بترشيح عدد معين، قرابة الـ 15 شخصاً إلى المجلس ويتم انتخاب المكتب التنفيذي منهم ثمانية إلى عشرة أشخاص، ذلك من أجل الانسجام، واختياره / ترشيحه للعناصر التى تتناغم معه في تسيير دفة العمل بقيادة الحركة والمنبر العام – الجبهة القومية الإسلامية – التى خلفت جبهة الميثاق الإسلامى، تلك كانت أول كلية انتخابية. وتمت الموافقة على ذلك، وسار العمل، ولكن بعد فترة من الزمن عاد الأمين العام وطلب إلغاء فكرة المكتب التنفيذى المنتخب، واقترح استبدال ذلك بمستشارين للأمين العام ثانى كلية انتخابية وهو يقوم بتكليفهم بواجبات ومهام ويحاسبهم ولكونه بدوره المحاسب الوحيد على أعمال مكتبه وخطة عمله والتكليفات التى نزلت له من مجلس الشورى، وتمت الموافقة له على ذلك ومن هنا بدأت عملية الاستلطاف والخيار والفقوس. وفقدت رويداً رويداً عناصر الأهلية المؤهلة لقيادة العمل الحركي بالحركة وانتهت إلى مستشارين (بمطبخ الرئيس) (Kitchen Cabinet) للأمين العام، أسوة بالنظام الرئاسي بالولايات المتحدة الأمريكية. ليست هناك مسؤولية تضامنية، ولا تحريات إبراء ذمة، ولا تعرية وعرض لمؤهلات المرشح للمكتب التنفيذي باجتماعات مجلس الشورى حين كان الترشيح يتم بعد استعراض المرشح، عمله، عطاؤه، سبقه، كسبه وبلاؤه، ثم يعتمد الترشيح داخل مجلس الشورى.

كل عناصر الأهلية تلك جمدت أو انحسرت وتركت للأمين العام والذي يبدو أنه استقوى القلب حتى على أقرب معاونيه والذين كانوا يصدقونه القول عندما يعترضونه على مقترح له ويراجعونه في بعض قراراته، حتى زهج منهم، ركن ورف من رفاه منهم، وأبعد من أبعد من لا يريد منهم حتى جاءت وليمة العشاء بمنزل الأخ المهندس بشير حسن بشير وكانت بعدها إهداءات المصاحف، وإبعادات بالكوم وطويت صفحات الرواد وقدامى المحاربين وأهل السبق ولم يترك حوله من الشباب سوى نائبه، وكأنى بلسان حاله يقول ( متين على تكبر تشيل حملى ) وكان نائب الأمين يوم ذاك هو الذي قدم المصاحف للمرفوفين.

لست أدري إن كان أصحاب مذكرة العشرة عاشوا تلك التجربة، واهتزت لها مشاعرهم وتفاعلوا بآثارها عندما كتبوا مذكرتهم تلك والتى كان ينبغي أن يكون مداها الأخير هو المطالبة بإرجاع مجلس الشورى وتأكيد حاكميته المؤسسية والتنظيمية على الحركة، واجهاتها ومنابرها وهالاتها. وكان النداء والمطالبة ينبغى أن تقدم إلى آخر رئيس لمجلس الشورى قبل حله وإلى الرئيس الحالى، حيث مجلس الشورى هو المنبر، الأمين والقيم والقادر على معالجة القضايا الكبرى وتقويم الاعوجاج، وإصلاح ذات البين، إذا كانت عضويته وعناصره بالأهلية التي توافرت لتلك المجالس الشورية قبل حل الأخير 1990 م.

ولكن، ماذا نقول، لقد وقع ما وقع حصل وانفصل، وانفرط العقد وتشتت حبات المسبحة، وانحلت عرى الأخوة والمؤاخاة ولم نحافظ على "أخوتنا والتي هي سر قوتها" كما قال الإمام الشهيد حسن البنا. وصرنا إلى ما صرنا إليه، ساقطة الحركة بين الكرسيين، تتلقى الركلات بالأرجل من كل من هب ودب، وبقيت إرثاً مستباح الحمى ليكتب عنها ويعلق عليها من يريد، واستشاط البعض غضباً وألماً ويتساءل البعض هل إلى عودة من سبيل ؟؟ ولكن لا يجدون الإجابة لأنهم حائرون، لا يدرون لمن توجه مثل هذه الأسئلة ومن هو المسئول الذي يجيبهم عليها، وقد يغيبون ولا يدرى أحد هل هم من القاعدة ؟ وحتى أعتى أعضاء القاعدة في نظر الأمريكان أخذوهم إلى مكان معروف اسمه (قوانتينامو) وأخذوا معهم أبرياء أمثال سامي الحاج. ومن هؤلاء من هم أبرياء بل حادبين وحريصين على وحدة الصف والتئام الحركة ووحدة النواة الصلبة مع البقاء على الهالة والمنبر أو الاندماج البطئ، المبرمج، ذي الانسياب الطبيعي والتلاحم العضوي والذي هو ضروري اليوم قبل الغد لوحدة الصف والحركة، وحتى لا ينطبق علينا قول الشاعر :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا **** ليوم كريهة وسداد ثغر

من أهم ما جاء في مذكرة العشرة التالى، وذلك للتذكير وللاستلهام والاستفادة :-

1/ الحديث عن الشورى، "سعة وفاعلية" وقد غابت الشورى من قبل أن يحل مجلس شورى الحركة في عام 1990 م. ومنذ اتخاذ الكلية الانتخابية للمكتب التنفيذي / القيادي، وبعد قبول المستشارين للأمين العام بدلاً من المكتب المسئول والمنتخب من مجلس الشورى والمحاسب بواسطة مجلس الشورى.

2/ "فاعلية القيادة"، أمير جماعة وأمين تنظيم سياسى، ورئيس مجلس تشريعى، كم بقى له من الوقت للتفكير ومعالجة قضايا المنهجية والتنظيم وواجبات وفروضات الأخوة من اجتماعات ومناسبات وما أكثرها فى السودان ؟.

3/ "المؤسسات كأسلوب عمل توقفت وتعطلت تماماً ونحن نستشرف معتركاً سياسياً جديداً يتطلب مؤسسية وفاعلة وقادرة على معالجة القضايا واستمرارية العطاء".

4/ "الوحدة كسياج لحماية الحركة"، لقد تصاعدت وحدة الحركة بنظام الموت البطيء منذ الإقصاء الدبلوماسي للرواد وأهل السبق وتسليمهم المصاحف ولسان حالهم يردد (( ......والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)) الآية 134 من سورة آل عمران هذه قضايا تهم الأخ الداعية الحركي، وتهم تنظيم الحركة الإسلامية في صميم أعضائها وكيانها وواجباتهم واختصاصهم بالدرجة الأولى وإن كان تم استعراضها في منبر هيئة الشورى الخاصة بالمؤتمر الوطني، إلا أن مركز الدائرتين واحد.

وهنا يجمل بي أن أشير موضحاً إلى أن مصطلح مجلس الشورى هو مجلس شورى الحركة الإسلامية وهيئة الشورى القومية هى هيئة شورى المؤتمر الوطني، ومجلس الشورى عادة ما يتكون من أربعين شخصاً ينتخبهم المؤتمر العام للجماعة، ولذا سمى بالمجلس الأربعيني والكثير لا يعلم ولا يعرف ما هو المجلس ومن هم أعضاؤه ولكنه سلطة قيادية نافذة في الحركة الإسلامية السودانية وقبلاً في جماعة الإخوان المسلمين بمصر.

وعلى ذكر المجلس الأربعيني، دوره وسلطاته وتسييره دفة الأمور، فقد عملت فيها سفيراً في نيجيريا يسمعون بما يعرف ب/مافيا كادونا (Kaduna Mafia) وهى المطبخ السياسي والقوة السياسية الخفية المحركة للشئون ودواليب العمل في نيجيريا حيث كانت كادونا هى العاصمة للحكم البريطاني السابق وهى المقر للدبلوماسيين قبل لاغوس وحالياً أبوجا.

وبعد وصولي بشهرين أي 25/11/1991م كنت أسمع في مجلس السفراء العرب حديثاً مبهماً عن "كادونا مافيا" ولا أحد من السفراء العرب يعرف ما هي وكيف تعمل ومن هم عناصرها.

وقررت الاستقصاء من أمر المافيا والتحري عنها وحصلت على كتاب عنها من أحد الأخوة العرب والأصدقاء من الذين طالت إقامتهم في نيجيريا واطلعت على الكتاب وحرصت على التعرف على بعض أعضاء المافيا وتعرفت على عشرة من الـ 23 منهم تقريباً، وفيهم السفير السابق والضابط (الجنرال) المتقاعد، ورجل الأعمال، والسياسي المحترف والزعيم الديني، والقبلي، وكل واحد منهم لديه فيلا فخمة ومزرعة في كادونا ويبدأ الطبيخ على نيران هادئة في الفيلات والمزارع، فصارت المعرفة والتداخل والمناقشات والزيارات مما أكسبنى الكثير من المعارف والعلوم وزاد من قدرتي على القراءة الصحيحة للأحداث في نيجيريا وتحليلها، وأصبح مكتبي ودارى قبلة السفراء الجدد الذين يريدون معرفة ما يجري في نيجيريا فيفدون إلى زائرين بعد تقديم أوراق اعتمادهم في لاغوس ثم أبوجا وبعدها يقومون بزيارة عميد السلك الدبلوماسي أو العميد الإقليمي وأوردت إحدى الصحف "إن السفير د.تجاني، لديه المعرفة في نيجيريا وتحليلها بعمق ودراية ولم يمض على وصوله عامان، أكثر من كثير من قدماء السياسيين في نيجيريا ".

ضعف الصلة وغموض العلاقة

كما جاء في المذكرة "أن الصلة المؤسسية بين المستويات رأسياً وأفقياً قد ضعفت"، وبعد توالى السنين والحقب انقطعت تماماً إلا من لقاءات جماهيرية فاترة ومتباعدة أو ما يسمى بالتنوير والذين جيء بهم لينوروا هم أنفسهم بحاجة إلى تنوير. ذلك كما وأن العلاقة بين الحركة والدولة شابها غموض واكتست ضبابية كثيفة وأيقن الكثيرون أن قيادة الحركة فقدت سيطرتها التوجيهية وحاكميتها على الدولة والنشاط السياسي، وأصبح الأخير عائراً وكأنه حمار تلهب ظهره سياط السقاء أو الحمال، وصار بحق تنازعاً لم يؤذن بالفشل، بل قاد إليه وكانت النتيجة "فنقله" وسقوط بين كرسيين. كرسي الحركة وكرسي السلطة، وارتفعت الأرجل إلى السماء بدلاً عن أكف الضراعة، التي تسأل الله الرحمة وقبول التوبة والغفران، ولم يعترف المسكين بأنه حركى ملتزم قبل أن يعين سياسياً أو وزيراً أو مستشاراً بالحكومة.

كما ورد في المذكرة (( وفي زمان العولمة هذا لا يعنى الحركة أن تعتمد على بنيات غير مؤسسية لأن أعداءها يحاربونها بأسلحة العصر، فلابد أن تتحد مؤسسات الحركة ثم تتكامل، ولا تتآكل، والمؤسسية هى أقوى رافد للفاعلية ولنجاعة الشورى)).

وأطنبت المذكرة في الحديث عن الوحدة والمؤسسية والشورى والتبشير بها والدعوة إلى تفعيلها استهدافاً وإمعاناً في بسط الشورى وإصلاح الهيكلية والتى في إصلاحها لجسم الحركة والتنظيم، وتقوية له للصمود وصلابة له للمواجهات والعاديات، ومن هنا فإن رأينا هو استمرار وتجديد لدور المذكرة والعشرة وغير العشرة، من الذين دعموا وساندوا وأيدوا المذكرة وهو مواصلة السير بها نحو :

1/ إرجاع مجلس الشورى الحقيقي للحركة لأنه الكيان المؤسسي والمرجعية الدستورية للتخطيط ومنح الصلاحيات وترسية التكاليف والمحاسبة عليه أميراً ومكتباً تنفيذياً.

2/ مواصلة العمل الفكري في هذه الأشواط من الميدان وحلبة الصراع لإرجاع حاكمية الحركة والتنظيم على كافة مناشط الحركة ومنابرها وأفرعها مراعية استقلال الحركة الطلابية لحد ما وذلك للظروف المحيطة بها كما جرت العادة وأوضحت الأحداث.

3/ تفرغ القيادة الحركية من أعباء العمل التنفيذي بالدولة، بل مراقبته وتوجيهه من خلال عملية الإشراف ودراسة التقارير ومتابعة الأحداث وفي ضوء ما تعكسه أجهزة ووحدات المنهجية والتنظيم بالحركة وأجهزة البحث والتطوير بالمكتب القيادي للحركة.

وقد سبق لى أن أشرت إلى طريق العودة، وحددت له محاور رئيسية وأساسية وأعيدها مرة ثانية لقناعتي وإيماني بجدواها ونتائجها إن شاء الله:

1) فهم دقيق وإيمان عميق بالإسلام ومنهاج العمل الحركى والدعوي مع استعداد للتضحية والجهاد .

2) مؤاخاة تشمل الحب والمودة والتكافل.

3) تواضع لخدمة الناس في أى مجال وجد فيه أعضاء الحركة داخل مجتمعهم مع إخلاص وطهارة وعفة يد ولسان.

4) قيادة كارزماتية ملهمة، ومخلصة وشوية تتوافر فيها مقومات القيادة :

(أ‌) تفرغ كامل لمتابعة العمل بلا تنازع ضار وبالشورى.

(ب‌) سلطة وسلطان وحاكمية.

(ج‌) مال ورجال لتسيير دفة العمل والجهاد عندما يحمى الوطيس.

ونكتفي بذلك في خطوط رئيسية عريضة ونترك التفاصيل من أساسيات التنظيم وحاكمية الحركة، وتأكيد سيادة الشورى في المؤتمر ومجلس الشورى، والتزام المحاسبة بقصد النصح والإصلاح والتوجيه، وتطبيق الشريعة مع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتأكيد أساسيات وقواعد السياسة الشرعية في فقه العمل الحركي والبناء التنظيمي والله المستعان وهو الموفق لما فيه الخير أبداً.

والعشرة المذكورون بالخير، والمشكورون على عمل جليل وكبير واجتهاد مصيب، في فقه العمل الحركي وأساسيات التنظيم والتكوين، نحسبه اجتهاداً منهم مفيداً ندعو الله أن يثيبهم به أجرين وأكثر لما قدموا من معالم ومشاعل فكرية في مضمار العمل الحركي والتنظيم المنابرى، سيظل عملاً كبيراً، عملاقاً يستضاء به ويستلهم من شباب الحركة والعاملين للإسلام فيما يستقبل من الزمان من تطورات في تشكيل الكيان واختبار القيادة الرشيدة، والاستمساك بالشورى ركيزة أساسية، راسخة ومتجددة لما بها من صفتى الأمر الماثل والديمومة واللتين وردت بهما الآية الكريمة { وأمرهم شورى بينهم }. (الآية 38 من سورة الشورى).

العشرة هم : وذلك حسب ما ورد في بعض الصحف:-

1/ د. أحمد على الإمام .

2/ د. غازي صلاح الدين .

3/ د. إبراهيم أحمد عمر .

4/ د. نافع علي نافع .

5/ الأستاذ/ سيد الخطيب.

6/ د. بهاء الدين حنفي وحيش.

7/ د. حامد تورين.

8/ الأستاذ/ عثمان خالد مضوي.

9/ الفريق/ بكري حسن صالح.

10/ الأستاذ/ علي أحمد كرتي.

  • والصحيفة التي أوردت الأسماء أعلاه وبالترتيب أعلاه، هى "جريدة الشرق الأوسط الدولية" بتاريخ 25/12/1998 م، وتحت عنوان "نص المذكرة التى قلصت سلطات الترابي".

أحقاً لا يوجد تنظيم اسمه الحركة الإسلامية ؟؟

خواطر وتأملات في الحركة والتنظيم

أولاً : ما قال به عثمان ميرغني، في لقاء معه نشر في صحيفة ألوان العدد (3660) بتاريخ الأربعاء 19/رمضان/1427 هـ الموافق 11/أكتوبر/2006م.

وثانياً : "أم أن الرجل أصابه الإحباط فقرر الاحتماء بدفء العشيرة بعد أن تحولت الفكرة لمجرد تكتيكات يومية ولم تعد تحمل البريق القديم وأحلام الفتوحات الكبيرة"، عن قطبي المهدي في تقرير أحمد يونس، نشر بجريدة الرأي العام العدد (3262) السبت 18/رمضان/1427 هـ الموافق 30/سبتمبر /2006م.

وثالثاً : "الإنقاذ على مختلف الطريق بين التلاقي والتلاشي" وحدة إسلامية هي مقدمة لوحدة الجبهة الداخلية" د. عبد الرحيم عمر في الحلقة (3) من سلسلة مقالات عن الإنقاذ، وقد نشرت هذه بالصفحة الأخيرة من صحيفة الوفاق العدد (2973) بتاريخ الثلاثاء 18/رمضان/1427 هـ الموافق 10/10/2006م.

نعم، لست أدرى من أين يكون التعليق على هذه المقالات والتي فيها لقاء خواطر وأفكار في تناولها لحالة الحركة الإسلامية السودانية والمؤتمر الوطني. والمقالات من هذا النوع تمثل انتقادات حقيقية وتعبر عن أفكار ومشاعر كاتبيها ومواقفهم وأحاسيسهم لما يجري في الساحة وما تتعرض له الحركة الإسلامية من أوضاع يعتقد البعض ومنهم من كتبوا أن منسوبي الحركة هذه الأيام مصابون بالإحباط وأن الحركة تحتضر بل أنها غير موجودة كما جاء على لسان الصحفي عثمان ميرغني.

طبعاً هذه الآراء اجتهادية ونقدية وتصوير لما هو موجود في شعور الكاتب أو تصوراته وربما جزء من حقيقة واقعية ولا اعتراض أن يعبر الكاتب أو الناقد للحركة الإسلامية ويصفها بما يشاء أو بدا له إذ أن ذلك من حقه بمبدأ حرية الرأى والتعبير، ولكن يكون من حق الذين كانوا رواداً لهذه الحركة وما زالوا متمسكين بأساسياتها أن يردوا ويعبروا عن مشاعرهم تجاه ما ينتقدوا فيه أو به أو يقال عنهم.

الحركة الإسلامية ليست "جنازة بحر" كما يقولون ولا هي جثة مرمية في العراء لتنهش منها الكلاب الضالة، والقطط أو يتقزز من رائحتها المارة. كلا ثم كلا ومليون كلا. هذا الصرح العملاق والذي بنته ثلة من الأولين وقليل من الآخرين سيظل بمشيئة الله بناءً شامخاً في تاريخ السودان السياسي الحديث وإنتاجه الفكري والثقافي وتكويناته الاجتماعية، تياراً قوياً مميزاً دافقاً متجدداً وفق أسس وبنيات التنظيمات الفكرية والعقائدية (أيدلوجيات عالمية) وفي ضوء معطيات الأحداث وتحدياتها على مواقع التاريخ السوداني قرابة نصف قرن من الزمان، ومن هذا المنطلق فإن الذي يريد أن يحلل ويقارن ويؤرخ للحركة الإسلامية لابد أن يكون قد عاصر بدايتها، تكويناتها ومسيراتها والتحديات التي واجهتها والمواقف التي وقفتها، كما لابد له من أن يكون قد عاش في كنف الحركة وتحت عباءتها أو مظلاتها أو أحد مرابضها في شبابه ورجولته وتشرب من معينها الصافي العذب الزلال. ويقيني أن من أدرك ذلك الصفاء والطهر لن يفكر أن يترك الحركة ويبحث له من مكان آخر، أو يتدحرج إلى مستنقع آسن من مستنقعات التكوينات السياسية الحالية، حديثة كانت أو قديمة أو يسعى لأن يجد وراءه مجموعة من الطامعين أو المستاءين أو حتى المظلومين، فالمظلوم دائماً له الله ودعوته كمظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.

ومعروف "أن هذه الدعوة تنفى خبثها" هذا ما قاله الإمام الشهيد حسن البنا وهي مقولة صادقة في حق المتخلفين عن ركب الدعوة والمبعدين لأنفسهم عن طريقها بعد أن عاشوا فيها زمناً ولو قصيراً، ناهيك عن نصق قرن.

وعندنا في المثل السوداني "أبو الدرداق لا يجر إلا العذرة" وأبو الدرداق معروف بلونه الأسود وبالتالى يجنح للسواد وللروائح الكريهة الناتجة عن القذورات. وأما الذي قلبه أبيض وهو :على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يضل عنها إلا هالك" وقال المفسرون في ليلها كنهارها أنها من شدة بياضها لا ليل لها، كلها نهار، والنهار يضيء، والذي عاش الحركة الإسلامية في تكويناتها الأولى وفي مدارس بناء الشخصية في الأسرة والتنظيم ؛ لن يستطيع بأي حال من الأحوال أن يفطم نفسه عن المضي في طريق الدعوة إلى الله، الطريق الأبيض طريق الإنارة والنور لأنه يمثل الحجر الثابت والقوي على ضفاف الأنهار "القيفة" حيث يمسك الطحالب والطحلب الأخضر نوع من السماد كما وأنه طعام للأسماك الصغيرة وأما الحجر المتدحرج فإنه لا يمسك طحلباً أبداً كما جاء في المثل الانجليزي : (A Rolling Stone gathers no moss) إن الأحجار المتدحرجة لا تمسك طحلباً فالذين يبحثون عن مرافئ ادفأ وأكثر حنية وأخوة من أحضان الحركة الإسلامية إنما يراهنون على ضياع قواربهم وانفلات حبالها من اللهب. لقد تعرفنا على الإسلامي الحركي بأنه هلب تربط عنده القوارب والمراكب التائهة أما أن يتحدث عنه بالإحباط أو الباحث عن تنظيم جديد فهذا لا ينطبق على العقلاء والأصلاء والمخلصين من أبناء الحركة الإسلامية والذين تربوا في كنفها، شوكاً وزحفاً، وصياماً وقياماً الليل "كتائب" ورحلات رياضية وإخلاص وعملاً دؤوبا كالنحلة، لا يكل ولا يمل، ناكراً نفسه وأحياناً أهله في سبيل الله، حيا الله مجاهدي "كاجوكاجي" و "الميل أربعين" و "صيف العبور" ولت الذين يكتبون هذه الأيام يرجعون إلى أيام الصفاء والإخاء في تكوينات الحركة ليجدوا السمت الواضح في بناء الشخصية المنظمة والمنضوية للواء الحركة في كل أنحاء السودان، أنه منهج واحد وسمت واحد وتربية على أسس موحدة لا تعرف الفروقات وعدم الانضباط. إن الذي ينظر في بناء الحركة وقواعدها لانطلاقتها الهرمية في التكوين الاجتماعي السياسي للأمة السودانية يجد عجباً ويرى شيئاً فريداً أن تجمع هذه الحركة الشتات والعمالقة والصناديد من الرجال والفرسان من كل بقاع السودان علي اختلاف قبائلهم وبيئاتهم الاجتماعية وتوحدهم في عقد تنظيمي فريد، ينفذون أوامر القيادة متى ما طلب منهم ويفعلون ما يؤمرون، دون احتجاجات خارج قواعد التنظيم وأطره ولوائحه محتبسين ذلك لله غير مبالين، ومن ينظر في ذلك يرى عجب العجاب، هذا السودان متعدد الأعراق واللهجات والسحنات والأمزجة أفرز إلى الأمة الإسلامية مجموعة متجانسة متآخية مؤتلفة، متحابة كل ذلك في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دعوته وابتغاء وجهه ومرضاته، متآخين متحابين، مؤتلفين "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم" الآية 63 من سورة الأنفال.

في فقه الدعوة والعمل الحركي

نعم كانت الثمرات الأولى قطوف دانية يألفون ويؤلفون، بتواضعهم وعلمهم والتزاماتهم جانب أهلهم في في قراهم ومدنهم، والمحافظة على أورادهم من القرآن والذكر، وعدم انشغالهم بالدنيا إلا بالضروري ذلك هو الذي جمع بين كل أولئك، وإليك أمثلة :

1/ الأستاذ/ علي طالب الله – رحمه الله – القطينة – أول مراقب عام للحركة 19531954.

2/ الأستاذ/ أحمد مدني السيد – الفاشر – دارفور – معلم وتربوي.

3/ الدكتور بيطري/ محمد البشير مفرح – كردفان – نقيب أسرة.

4/ الأستاذ/ محمد الخير عبد القادر – أم درمان – ثاني مراقب عام للحركة عام 19541955 م.

5/ المرحوم الشهيد/ محمد صالح عمر – بدين – دنقلا – إمام المجاهدين في الأغوار.

6/ الأستاذ المرحوم/ مبارك قسم الله زايد – كوستي – أستاذ جيل في العمل التطوعي.

7/ الأستاذ/ ميرغنى البدوي – كريمة – أنموذج للدعاة من كريمة.

8/ الأستاذ/ سيد أحمد العدسي – شندي – أنموذج للدعاة من شندي.

9/ الأستاذ المرحوم/ ميرغني سليمان – أم درمان – الخنادقة – عضو مكتب تنفيذي ومجلس شورى. 10/ أسرة عمر الإمام/ الصفة – القلعة أم درمان – ريادة وقيادة وجهاد.

11/ الأستاذ المرحوم/ عبد الكريم عبد الله – سنجة – أستاذ جيل.

12/ الأستاذ/ باشريك محمد نور – شرق السودان – مثال لتضحيات الشباب بشرق السودان.

13/ الأستاذ/ أمين جلة – جوبا الاستوائية – قيادة واعية من جوبا.

14/ الأستاذ/ أحمد الصادق أحمد – حلفا القديمة – زعامة صادقة من حلفا.

15/ الأستاذ المحامي المرحوم/ الرشيد الطاهر بكر – القضارف – ثالث مراقب عام للحركة 19551965.

16/ الأستاذ/ موسى أبو زيد – ود مدنى – حضن دافئ وحصن حصين.

17/ الأستاذ/ عبد الله الحسن - صاحب صيدلية – كسلا – ضيافة بالأغذية الخضراء.

18/ البروفيسور/ عز الدين عمر أحمد موسى – دار استضافة – توتي.

19/ المهندس/ إبراهيم أبو حسنين – الأبيض – كردفان – كرم وتضحية ونكران ذات.

20/ الأستاذ/ بشري إبراهيم عثمان – الفتيحاب – شلال متدفق من الأبناء والبنات والحفدة.

وغيرهم كثير، لا أستطيع أن أحصيهم، فهم كلهم منارات ومشاعل وقناديل عطاء وضياء في مناطق وفي بيئات عملهم الحركي عندما انتقلوا من قراهم ومدنهم إلى أماكن عملهم، فكانوا مشاعل نور وهداية لمن عاشوا وسطهم ومعهم، وقدموا الكثير لهذا البلد من قادة الرأي والفكر والمعرفة والعلم. بل إن العطاء خرج من السودان إلى دول أخرى ومناطق تعبيراً وتبشيراً بالدعوة وكانت فتوحات الحركة الإسلامية السودانية وكسوب لها كبيرة وأعمال جليلة، يعترف بفضلها أهل تلك البقاع والمناطق ويعتزون بانتمائهم إلى الحركة الإسلامية السودانية ويدينون بالفضل على أساليب الحركة والتنظيم وفن القيادة وصدق العزيمة والإصرار والاستعداد للتضحية والجهاد يدينون بذلك للتعلمجية "المعلمين" من السودان.

هذا السجل الحافل من الأعمال والإنجازات في مسيرة نصف قرن من الزمان لا يتركنا نسلم أو نجزم بأن النار التي أضرمت خلفت " رماداً ليكيل حماداً "، لا ولكن نحن نرى تحت الرماد وميض نار وشموع ن بل منارات أضواء وشعل للتائهين والمدلجين في الدجى والدياجير، ونتساءل ما هي الدوافع التي أملت على هؤلاء أن يكتبوا، هل هم ينعون لأنفسهم ولنا حركتنا أم يكتبون من باب الحدب والإشفاق على الحركة أم من باب السخرية والاستهزاء لما وصلت إليه الأحوال وآلت إليه الأمور !!

هي أسئلة مشروعة، وتبريرات لأصحاب أقلام كل له دوافع، ولكن أهل التراث والجثمان لا يحسبون أنهم أمام "جنازة بحر" لا أهل لها وتراث سائب مهمل لا وجيع له، ومال مودع بلا حراسة يغري الغاشي والماشي بالسرقة والكتابة كيفما شاء وفي أي وقت يشاء وبأي تعبيرات شاء، ولمثل هؤلاء نقول في الرد عليهم : ""الكلب ينبح والجمل ماشي".

أسباب الفتور لا الهزيمة

نعم نلاحظ ونعترف أن هنالك فتوراً وتقاعساً وتكاسلاً وضعف همة عما كانت عليه نفوس وأحوال الدعاة قبل حقبتين من الزمان، ولعل الثلاثين عاماً الأولى من عمر الدعوة والحركة كانت حافلة وزاخرة بالأعمال والبناء والإنجازات.

الحركة الإسلامية السودانية عاشت في بيئة سياسية واجتماعية تميزت بالصراعات والتحديات، ولذا كانت إبداعاتها وإشراقاتها قد تجلت في المنابر والهالات التي تطرحها الحركة في المنابر السياسية وبيئات العمل الحركي الفئوية والنقاباتية من عمال ومرآة وشباب وطلال. كما كان الصراع الأيديولوجى بين الحركة وهى أصغر عمراً من الحزب الشيوعي السوداني وواجهته الجبهة الديمقراطية في محيط الطلاب والجبهة المعادية للاستعمار في المجال السياسي العام، كان لذلك الصراع أثره في صقل كوادر وإطارات الحركة الإسلامية في العديد من مجالات وبيئات العمل الحركي وفي إبراز قياداتها الطلابية والسياسية والدبلوماسية، قيادات ناجحة في مجال العمل العام والعمل التخصصي ولذا لا غرابة أن آثار تلكم القيادات وبصماتها واضحة في المجالات والمرافق والمواقع التي عملت فيها.

في مسيرة البناء والتكوين

تلك هى سنة الله في خلقه وذلك هو ناموسه في هذا الكون والحياة الاجتماعية "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الآية 11 من سورة الرعد وليبحث الدعاة في نفوسهم عن أسباب الفتور والهزيمة النفسية والتقوقع والتشرذم والانشقاقات، ليجردوا أعمالهم وأعمال قياداتهم الدعوية والسياسية، حتى يستبينوا أين الأخطاء ومواطن الداء ثم ليحاسبوا أنفسهم قبل أن تحاسبهم شعوبهم، فإن التاريخ لا ينسى والشعوب لا ترحم الطغاة وخاصة عند صناديق الاقتراع.

"وأملى لهم إن كيدي متين" "وقد خاب من حمل ظلماً" "وخاب كل جبار عنيد".

إن مسيرة الدعاة عبر الآلام وصنوف الابتلاءات وشتى أنواع المصائب والعقبات هي مسيرة مشهودة وتاريخياً مسجلة في ذاكرة الشعب السوداني، في مدنه وقراه حيث يوجد البلاء في طريق الله المستقيم ومن أجل الاستقامة على تلكم الطريق الطريق والتى قال فيها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} الآية 16 من سورة الجن، أي غزيراً كثيراً زلالاً نقياً فراتاً وفي حديث عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن عظم الجزاء من عظم البلاء وإذا أحب الله قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط" رواه الترمذي وأظن أن قوم الحركة من المبتلين.

وفي حديث آخر : "أربع من أعطيهن، أعطي خير الدنيا والآخرة، قلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وجسداً على البلاء صابراً وزوجة لا تحوبه شيئاً في نفسها وماله" رواه مسلم، والحوب هنا يعني الإثم.

ذلك هو طريق الدعوة والدعاة إلى الله من المهد إلى اللحد، مكابدة مع النفس والشيطان والهوى، ومدافعة مع مشكلات الحياة وكلب الزمان ومجاهدة لدرء الشرور والآثام ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى سعياً حثيثاً لإعلاء كلمة الله بالحسنى وبالجهاد والمجاهدة إذا دعا الحال وحديثاً صارماً جاداً مع النفس وإجباراً لها وقسراً على المجاهدة والجهاد والتزاماً أكيداً بمعنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "من لم يغزو أو يحدث نفسه بالغزو مات وفي قلبه شعبة من النفاق، وفي رواية مات ميتة الجاهلية" والعياذ بالله، وحتى لا يموت أخونا في الله ميتة جاهلية.

وهكذا تسير القافلة، ويعزف الحادي أنغاماً شجية، ومقطوعات موسيقية عذبة دافئة، حانية تسمو بها النفوس وتسمق بها الأرواح مستشرفة آفاق عليا، وتستعلي بها على الحياة الدنيا بملذاتها ودعتها، وتسترخص النفيس فيها، متكرفة رياح الجنة، مستبشرة بلقاء ربها وهي مطمئنة راضية مرضية.

نصف قرن من الزمان شهدت مسيرة الحركة الإسلامية السودانية سجلاً زاخراً وحافلاً بشتى صنوف وألوان التجارب، كما شهدت معارك خفية مستترة عند نشأتها وبداية تكويناتها في وسط الخمسينيات، ثم أخرى معلنة ضارية على مختلف الأصعدة والجبهات والتكوينات العقائدية والفكرية والسياسية والتنظيمات الفئوية والنقابية، مما كان له أطيب الأثر في بناء شخصية الأخ المسلم الداعية ، المتمرسة والمنافحة عن الحق في خندق المجاهدة للنفس وفي سبيل الله، جهاداً أصغر أم أكبر وكذا كان الاستعداد، وقد شهدت لهم بذلك العديد من الساحات والمنابر وأوضحها ساحات الفداء والتى سجلت بأحرف من نور مواقف جحافل الشهداء وأرتال الأقوياء والأوفياء الخلصاء، من شباب الدعوة وشيوخ الحركة والبقية سائرون على الدرب، يحملون الراية بعزائم الرجال "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً" الآية 23 من سورة الأحزاب يا فوزهم يا فوزهم، وقد اختارهم الله سبحانه وتعالى وميزهم بأنهم رجال وأن أعمالهم من الطهر والنقاء نحسبها ضرباً من الكلم الطيب الذي يصعد إليه وإن لم يكن كذلك فإننا نضرع إلى الله في هذه العشر الأواخر من رمضان 1427 هـ أن يجعلها نوعاً من العمل الصالح ويرفعه إليه، تلك كانت مسيرة البناء والتكوين والعمل الدؤوب المخلص والتضحيات والمجاهدات عبر الكتائب والرحلات وقيام الليل والسنن الرواتب وتلاوة القرآن ، قد تبدوا أنها صورة أقرب إلى الخيال ، ولكنها واقعيات ملموسة ومحسوسة من الغير وشهادات تزكية لهؤلاء الشباب والرجال، أنواع من الدعاة والمجاهدين المخلصين، تحسب من صدق إيمانهم وتفانيهم وإخلاصهم أنهم خلقوا في زمان غير زمانهم، وأنهم امتداد حقيقي وصور صارخة متجددة لأنماط من الصحابة في عصرنا هذا – يا فوزهم.

وتظل المسيرة بحداتها تسير نحو غاياتها المخططة لها، حتى بلغت السنوات العشر الماضيات شهدنا ولمسنا أن الأحوال بدأت تتبدل وتتغير، نعم، ظلت الحركة تسير بالبركة، بلا قيادة حركية ذكية وبلا مرجعية مؤسسية فاعلة، وبلا قيادات شعبية ملهمة، وملتزمة تجاه الفقراء والمساكين، ومؤكدة لهم التزامها تجاه ما هو مطلوب منهم كمنارات وقيادات دعوية وشعبية تؤدي ما عليها من واجبات دعوية حركية تجاه مجتمعاتهم وفي مواطن سكنهم وعملهم وفي حلهم وترحالهم، بالبوادي والحضر، وفي المدن والأرياف، كما تعودوا أن يجدوا ممن سبقهم أو الأقدمين في حقل الدعوة الإسلامية وارتباطها بالجذور الشعبية من فئات الشعب والجمهور عامة.

وعملية الانفصام هذه عادة ما تسحب بساط القاعدة من تحت القيادة، وتشي بتحولات اجتماعية رهيبة من موقف إلى آخر وخاصة في الظروف الاقتصادية الصعبة الضاغطة والقاهرة على أوضاع الناس هذه الأيام، أوضاعهم الاجتماعية وكثرة المطالب والالتزامات عليهم وخدماتهم.

إن القيادات الواعية والملهمة عادة تتبع من أوساط الشعوب والجماهير من خلال خدماتهم إليهم والتزامها بمطالبهم وخدمتهم بطهارة وشرف وعفة وعزوف عن الحق العام إلا ما جعل لهم جعلاً مناسباً يعينهم على أداء واجباتهم من أمثال عمير بن سعد وسعيد بن عامر، وهما من الذين ولاهم سيدنا عمر بن الخطاب على حمص ودمشق فكانوا من أروع وأشرف صور الولاة والحكام المخلصين الزاهدين وسيرتهم الحافلة تزدان بها كتب التاريخ وسير الصحابة والتابعين في كل من "حلية الأولياء" و "رجال حول الرسول" صفحات مشرقة ومنورة في تلك الكتب والأسفار، لا أمثال زعيط ومعيط والذين يدعون أنهم من العاملين عليها وهى منهم براء !!

أين نحن اليوم من هذه النماذج المشعة والمضيئة من السلف الصالح، أصحاب رسول الله والتابعين، الكثير اليوم من الحكماء والمبعوثين بعيدين عن هذه الصور المشرقة والنماذج المضيئة نماذج بشرية ملهمة للقادة والعاملين.

عولمة وأخطار وتحديات

إن الأخطار التى تحيط بالعالم الإسلامى والعولمة التى تحاصره، وبداخله هذه المجموعات القليلة من الدعاة المؤمنين والصابرين والحاملين مشاعل الهداية والرحمة والرشاد – إلى الناس، هذه الأخطار كثيرة والتحديات كبيرة.

وحصار العولمة هذا يسعى إلى العديد من الأهداف من دول الغرب وشعوبه بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والتى أدركت تماماً أن شمس حضارتهم الغربية قد آذنت بالغروب والأفول، ومن ثم طفقت تسعى للهيمنة السياسية على العالم، والسيطرة الاقتصادية على موارده وخاصة البترولية، كوندا ليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا الحالية، كانت مديراً عاماً لشركة شيفرون للبترول قبل أن يأتي بها الرئيس بوش مستشاراً للأمن القومي ثم وزيرة للخارجية، وهنالك اليوم ناقلة نفط أمريكية باسمها، والتحكم التكنولوجي في تصدير منتجاتنا إلى بلداننا وأخيراً جعل أسواقنا سوقاً عالمية كبرى بلا حواجز ولا حدود مفتوحة الأحضان والجدران لبيع كافة منتجاتهم. باختصار: استعمار جديد، سلب ونهب، ولكنه منظم ومتقن ومشروع بحيل ودهاء، ومكر وخداع، تجسس وأدعياء ممكن يزرعون وما يبثون من أفكار، ويستكتبون من كتاب، ويعينون من عملاء داخل بلادنا، مما يورثنا الفقر والتبعية والغلاء والابتلاء.

ولما عجزوا عن ذلك وصل بهم المطاف لاستخدام القوة للغزو كما فعلوا في كل من العراق وأفغانستان، وجنوب لبنان وهاهم يتحرشون بالسودان وإيران ولم يستفيدوا من العبر والدروس وهم يتحرشون "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" صدق الله العظيم الآية 30 من سورة الأنفال.

ويمكن أن نقدم هذه الأخطار والتحديات للحركة الإسلامية السودانية ولا نبالغ إذا قلنا أنها تمثل تحديات للحركة الإسلامية عالمياً، في كل أنحاء العالم وخاصة البلدان التي وجدت فيها الحركة الإسلامية عافية وفرجة للوصول إلى السلطة أو القيادة الحقيقية للمجتمع بدون سلطة سياسية.

ثلاث دوائر بمركز واحد

هذه هي خلاصة التحديات والأخطار التي تواجه الحركة الإسلامية وما ينبثق عنها من منابر عمل حركي، سياسي مثل المؤتمر الوطني، فئوي وشعبي مثل واجهات أخرى أسندت قيادة العمل فيها إلى منظمين من أفراد الحركة.

وباختصار نقول بعد تأملات في مسيرة الحركة ومواقفها من هذه الدوائر الثلاث نقول التالي :

1/ الدائرة الكبرى : لقد امتحنت الحركة عند منعطف السلطة وانفلخت إلى حركتين، فقاست الأمرين من عدم وحدتها وضبابية مستقبلها، ولعن الله من كان السبب في ذلك.

2/ الثانية : مع التوالى وحكومة الوحدة الوطنية إلا أن ما يجري في القواعد يفيد بأن الأحزاب السياسية توشك أو بعضها أن تنقض على الحركة وهى تنتظر لتفدن جنازتها ثم لتتقاسم إرثها.

3/ الثالثة : التكالب الخارجي على السودان، لا ليستهدف موارده العديدة فحسب، بل يستهدف شعباً أبياً متمسكاً بدينه، متربعاً على عرش مجالات وفرص الاستثمار ومناخه في العالم الثالث، ومحافظاً على أصالة معدنه وقيمه، جراء تمسكه بدينه وعقيدته.

السودان في التفكير الاستراتيجي العميق والبعيد للقوى الأحادية في العالم يمثل أعتى خصماً وأشد عدواناً للمصالح الأمريكية خاصة والإمبريالية (الاستعمارية) عامة ؛ وقد أبدى رفضاً جازماً وقاطعاً لدخول قوات أجنبية في دارفور، هذا الموقف يمثل تحدياً للصلف الأمريكي الأحادي ومناهضة للأطماع الصهيونية في الوطن العربي.

وهنا لابد من قدوة قيادية جديدة من أجل الحراك التنظيمى الحركى المطلوب لمواجه التحديات الماثلة أمام الحركة الإسلامية السودانية وهي طليعة قيادية من طلائع التجديد في العمل الإسلامي للأمة السودانية وللعالم أجمع.

في فقدان القدوة القيادية من أجل الحراك للحركة (خواطر وتأملات في الحركة والتنظيم)

يتحدث البعض عن المرجعيات والبرنامج والأطر التى يتم فيها تدريب الكوادر الحركية وصقل مهاراتهم وشحذ هممهم للعمل، فمنهم من ذهب لفقدان المرجعيات ومنهم ردها إلى الحيرة من التداخل في قضية الحاكمية أهى للحركة والتنظيم ؟ أم هى للذراع السياسي ممثلة في المؤتمر الوطني ؟ أم هي للذراع السياسي وما ينبثق عنها من سلطة تنفيذية وهى الحكومات؟، وكلها حلقات متداخلة ولكن الكثيرين لا يدركون أن مركزها واحد Concentric Circles وسنوضح ذلك لاحقاً إن شاء الله.

إن معضلة الطلاب والشباب في حركة اليوم تكمن أساساً في القدوة القيادية الملهمة لهذا الشباب وأولئك الطلاب، بالإضافة إلى عناصر أساسية أربعة أخرى. وقبل أن نتطرق إلى العناصر الأربعة هذه دعونا نستجلي هذه النقطة المتعلقة بالقدوة القيادية، حين كان في الماضي نقيب الأسرة هو أكثر الأعضاء تميزاً في خلقه، وثقافته، وشفافيته، وتلاوته وسائر عمله مما يجعله منفذاً لتعليمات البناء والتكوين الذاتي وبالتالي يخرج حديثه من القلب إلى القلب وينضح سلوكه ما وقر في قلبه من إيمان وتشكل نشاطاته في حياته وعلاقته مثلاً يحتذى ويقتدى به، وهذا ما لم يجده شباب اليوم، حيث أنهم لا يرون ذلك أمامهم إلا في عدد قليل من القيادات.

  • ذلك التراث الهائل من إنجازات الحركة – موضحاً ومَجلولاً بصورة ناصعة تعجب المنتمي إلى الحركة، بل ظل يسمع عن فلان الذي بنى له بيتين، واحد يسكن فيه والثاني يعيش منه، ولا يوجد من يسأله من أين لك هذا، وفلان الذي وضع في مكان غير مناسب له.

المهم هناك الكثير من الصور الشائهة والكريهة التي لا تمثل شاخصاً ولا معلماً بارزاً يستطيع أن يدافع به عن الحركة ورموزها في السلطة وخارج السلطة، في الجامعات وصروح العلم العليا، في السياسة والدبلوماسية، في الصناعة والتجارة وغيرها من مجالات العمل اليومي وخاصة الثقافي والفكري والاجتماعي مما يولد فيه القناعة والإحساس بالتصدي للمشكلات بحلول إسلامية وفي تنظيم إسلامي.

  • ذلك الهرم الذي تم بناؤه في خمسين عاماً – نصف قرن من الزمان – قد تصدع وبدأ في الانهيار إن لم يكن قد انهار فعلاً "فص ملح وداب" ولكن نقول أصابه البلى والوهن والفتور ومرض الأرترايتس Arthritis والذي يصب الركب وعظامها فلا تقوى على المسير إلا بعكازة أو عكازتين حسب الإصابة بالمرض وعظمها وآثارها على جسم الإنسان وحسب حجم الجسم ووزنه يكون الأثر والتأثير، إذ أن العلاقة نسبية وطردية.
  • المرجعيات: أين هى وما هى، الدستور أم التعاليم، أم المنهج الحركي، أم المؤسسات التنظيمية وعلاقة التداخل فيما بينها، أم كلها وجميعها من التاريخ الناصع للحركة تشكيل مرجعيتها، وهذا ما يدخل فى باب الضبابية تشابك الخطوط وعدم الوضوح ومعالم الطريق.
  • الحرية والشورى: وما هو دورهما في العمل القيادي الرائد والتوجيه والبناء الدعوي، وهذا يدخل في باب الشفافية والنقد الذاتي، والتشاور في المسائل الكبرى والقضايا المصيرية.
  • البرامج: فيها خلط بين الثوابت والمتغيرات ومن أخطرها العولمة وما يتعلق بها من مبادئ وقيم وضعية لها تأثيراتها على مجتمعاتنا وبالتالي أفراد تلكم المجتمعات ومنها اللبنات الجوهرية، والتي تكونت منها الكوادر الحركية الصلبة Die – Hard Core وأنجزت ما أنجزته من مجد وبنيان، أشرنا إليها بالهرم الذي بني في خمسين عاماً، ولم يُبن إلا بالسخرة لله، والهجرة إليه، والتبتل في لياليه الرمضانية والهجرة إلى قرآنه الكريم وغيرها حيث كانوا أجراء الله، قلوبهم معلقة بالمساجد وأخوة في الله لا يعلو عليه رباط واحترام وجرأة، وتضحيات كبيرة وغالية وامتثالاً لأدب الرسول في سيرته واقتفاء لسير صحابته. وهذا مالا يدخلهم في باب الجهالة والجهورية والجاهلية.
  • الاستقامة على المنهج: يقول الله سبحانه في كتابه الكريم (وألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً). هذه الاستقامة اليوم مفقودة وعزيزة ونادرة، ولا يكاد الشباب والطلاب يحسون بها ولا حتى يلامسونها فيمن يرون من القادة والحركيين والأقدمين ممن يقنعهم بأن "القبة تحتها فكي" ولعل ذلك يدخل في باب المشغوليات الكثيرة والتي تطحن الناس طحناً بطيئاً بلا ضوضاء ولا جعجعة عدا النقة والتذمر ولعلنا ندرك تماماً أن التذمر هو أساس العمل كما يقولون Discontent is the Basis of Action وأى نوع من العمل ذلك، لا نريد أن نتكهن وبلا عرافة أو نرمي الودع ولكنه يتراوح ما بين النقة والفضفضة، إلى العمل الجاد والانتقال عبر السجادة Crossing the Carpet إلى مواقع عمل أخرى أو اعتزال الفتنة والانزواء إلى ركن قصي ولعله رشيد.

ونعود مرة أخرى إلى عدم الحراك وأسباب الفتور والانهزام لنرى بعضاً من تلك الأسباب ومعوقات النهوض وضعف الإيمان يتمثل في التالي بالنسبة للشباب والطلاب:-

  • الضبابية: وسلفت الإشارة إليها لحالة عدم وضوح الرؤى والمواقف في العديد من القضايا والأفاق والمنطلقات للحركة، وخاصة بالنسبة للذين لم يعيشوا تاريخها الحديث وفقط لحقبتين من الزمان حين كانت قد شارفت قمة التكامل في مطلع الثمانينات، ثم ما لبثت وهي في السلطة تترنح يميناً ويساراً حتى انفلقت تنظيمين ينكر كلاهما الآخر وسقطت الحركة بين كرسيين.

والضبابية هذه تؤثر على المعنويات تأثيرات بالغة وخطيرة لحالة كونها مؤشرات تلغي الكثير من قيم البناء والنقد الذاتي والشفافية وتعود في الوجه الآخر إلى المجاملات والتنازلات والقشمريات وغير ذلك من من مظاهر النفاق والخداع ومن ثم الضعف والخوف أو الاعتداد بالإثم، والذي يتبلل لا يبقى له إلا العوم، وقد عامت الحركة الإسلامية السودانية ولكنها غرقت في شبر ماء.

  • الأبراج العاجية: هذا ما سكنت فيه القيادة اليوم، وليس المساكن الشعبية ولا حتى البرجوازية، من ذلك النوع الذي لا يسمح بالمجاملات في المناسبات مع الجيران وأهل الحي ناهيك عن أخوة يفترض أن يكونوا متحابين في الله ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، جزء من حديث شريف.

هذه الدور موصدة، نخشى أن توصد عليهم يوم القيامة أبواب نار جهنم، وهذه المكاتب المخفرة بمدراء وسكرتاريات وبروتوكولات ما أنزل الله بها من سلطان، تحرم الأخ من أخيه والصديق من صديقه وربما والله أعلم الحبيب من حبيبه.

  • عدم الشفافية: هذه قضية كبرى حيث أنها أقفلت تماماً عن التطبيق في كثيرٍ من قضايا الفكر والرأي، والمواطن الكبيرة التي يفترض فيها التشاور قبل الاتفاقات والتوقيع عليها، كما وأنه للأسف نذكر هنا بأسى بالغ أن ما يسمى بمجالس الشورى هى "أختام كاوتش"، أُعدت لتختم وتبصم ولا يرى لها من أثر من نقد بنّاء وتقويم اعوجاج وإنصات لها برفق من الجهاز التنفيذي والمواطن العادي، إنصات بلا تنصتن بل مناصحة من النوع الذي يتقبله سيدنا أبو بكر الصديق، الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا ولا خير فينا إن لم نسمعها منكم". مثل هذا النوع من الشفافية ولين الجانب هو المطلوب، لا للجهويين والأقربين والطبالين والزمارين وإنما للناس، كل الناس، وفيهم الناصحين الصادقين من أمثال أبي الدرداء وغيره من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلكم لآدم وأدم من تراب"، وفي حديث آخر "الناس سواسية لا فرق لعربى على أعجمى إلا بالتقوى"، وفي الآية الكريمة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) صدق الله العظيم (سورة الحجرات الآية 13). وأبو الدرداء هذا صحابيٌ جليل قيل عنه إنه كان يدفع عنه الدنيا وبصره وراحتيه، أين نحن منه اليوم ومن أمثاله.

الجاهلية: الجهل والمحسوبية في عالم متطور، بلغت فيه المكتشفات العلمية شأواً عالياً وبعيداً ونشرت فيه المعرفة الفنية بأحدث ما وصلت إليه تقنيات المعلوماتية Informatics Technology، تكون الكثير من الأنشطة والحركات تحت مجهرٍ حساسٍ رهيبٍ، يسبر أغوار وأعماق بعيدة، ويعريها كما يعرى ثوب الشفون الحرمة التي ترتديه.

وفي عالم بدأت فيه العولمة بأذرعها الأخطبوبية الثمانية تجتاح العالم وتكتسحه لتسيطر عليه وفق ما يريد الغرب لنا، علينا أن ندركه بتبصر تام، ووعي عميق، ومقارنات دقيقة وموزونة، إن كافة أشكال الأنشطة مراقبة ومرصدة من أعدائنا، وإننا أولاً وأخيراً محاسبون عليها من الله سبحانه وتعالى "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً"، الآية 95 من سورة مريم وهذا ما يدعونا إلى العلم والتعلم وخشية الله والاستقامة على طريقه وأن تتجنب الحركة وأعضاؤها الظلم، حيث "الظلم ظلمات يوم القيامة" وفي الحديث الشريف "دعوة المظلوم، ليس بينها وبين الله حجاب".

وهذا يقتضي مكافحة الظلم والوقوف ضد المفسدين والوقوف ضد آخرين يسعون للإفتئات على حقوق الناس ويضموها إلى الدولة بحجة الصالح العام ثم توزع وتقسم على الأقرباء والمحاسيب، ولا ننسى التزامنا القائم والشاخص إلى جانب الفقراء والمساكين.

  • المشغولية: نعم كثرت الالتزامات، وكثرت معها الطلبات، وكثرت أيضاً المشغوليات، ومع ذلك فكل هذه لا تمنع المسئولين والقياديين لأن يصرفوا بعض أنظارهم إلى المساكين، لا نقول يصرفونها عنهم بل إليهم، إذ الحديث يقول "لإن تمشي في حاجة أخيك صدقة". وحديث آخر يقول "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله". ويقول الإمام الشهيد حسن البنا، عليه رحمة الله "الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون أخاك على قضاء واجبه"، كما وإنه يقول "لا رباط أقوى من العقيدة، ولا عقيدة أقوى من الإسلام".

لقد تعرض المجتمع السودانى مؤخراً – حقبتين من الآن – إلى موجات عارمة وطاغية من أنماط وسلوكيات الحضارة الغربية الحديثة وخاصة على مستوى مطالب الأفراد والأسر والجماعات، الشيء الذي دفع بالكثيرين إلى الخروج عما هو معروف ومألوف، إلى سلوكيات وتصرفات غير معروفة ولا معتادة وهي كما يقال من ضرورات العصر ومقتضياته، مما يتطلب التعامل معها بيقظة وحذر تأمين، حتى لا ينفلت الزمام من جهة وحتى نستطيع قضاء وإنجاز ما يمكن تحقيقه من جهة أخرى، وهنا يجب أن تبقى الثوابت وتظل المبادئ والقيم وخاصة السماوية والأزلية ثابتة وشاخصة أمامنا، تذكرنا وتشدنا إليها شدّاً شديداً حتى لا يجرفنا تيار العولمة والمحاكاة والتقليد والجري وراء الموضة والسراب والتقليعات وتكون نتيجة النتيجة الدمار والخراب.

ونحن حقيقة بقايا خراب، مازال الكثيرون مصابين بهول الصدمة وآخرين محتارين هل هذه هي حقيقتنا؟ وحقيقة أوضاعنا بهذه الصور المأساوية القاتمة؟ أم إنها كما يقول البعض تمثيلية، والذين يقولون بذلك إنما يواسون أنفسهم من هول الصدمة والفاجعة وهي حقاً مؤلمة، وحقيقة محبطة. ولذا لابد من أن نبحث عن الأسباب والعلاج، وأن نفوق من هول الصدمة هي البداية، وأن تبدأ من هناك معركة الحراك والنهوض لإعادة البناء والتكوين. إن أسباب العلاج كثيرة إذا تمّ تشخيص الداء بالمعينات والمعدات الحديثة في التشخيص بواسطة الفحوصات المعملية وصور الآشعة المقطعية والأخرى فوق البنفسجية والرنين المغناطيسي، لعلنا نصادف صباحات أقحوانية وأخرى لازوردية، وثالثة عطرةٌ ندية، فنقبل على الحياة الجديدة في ظل تنظيم جديد، قوى ومعافى لأن لبناته من صلب وحديد – وفي هذا الإطار قدمت الكثير من الحلول وهي إذا تم تنسيقها يمكن أن تكون من نوع العلاج الشامل PANACEA، ولكن يؤخذ بالجرعات ولكل حالة جرعتها من عسل أو كية من نار أو حكمة أو خبرة أو كلمة حق يصدع بها نافوخ الجبار والمستبد والطاغية ويقهر بها الباطل، إن الباطل كان زهوقاً.

في عبارة مزدوجة المعاني: مشاعل ومعالم

1. الضبابية: إن التخلص منها لا يكون إلا بالمكاشفة والمصارحة ووضوح البرامج والرؤى، والتشاور حولها قبل اتخاذ القرارات فيها. إن مثل هذا السلوك يعمق معنى الشورى ومضمونها، ويجسد الأخوة أو الإخاء ويؤكد من روح الانتماء، ويرفع من قدر الحركي المنتظم ويعلي قيمته في تنظيمه وفي بيئات عمله الحركي المختلفة.

2. الأبراج العاجية: هذه يجب تحطيم أسورتها وأسطورتها والنزول بالقيادة منها إلى القاعدة للتفاعل مع قضايا المواطنين، شكواهم، مآسيهم، ظلاماتهم، ومساعدتهم في القيام بإعاشتهم. كما نبقى على على الروابط والثوابت التي أفرزتها سنوات التيه والهيام من أخوة ومحبة، ونرجع الشياه القاصية إلى أخواتها بالقطيع حتى لا تفترسها الذئاب الكاسرة، وليفتح القادة صدورهم قبل مكاتبهم وبيوتهم، وليذكروا أن الحكمة ضالة المؤمن أنَّا وجدها التقطها وربما توجد في العبارة "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم".

3. في الشفافية: هذه منطلقها الشورى وهي ركيزة إسلامية أساسية رئيسية تصل بعض اجتهادات الفقهاء إلى رفعها في مصاف الفروضات والواجبات الملزمة والتي يرون في تعطيلها تعطيل لأمر كبير من أوامر الله وإن الذي يقوم بذلك التعطيل فقد ارتكب ذنباً كبيراً وإثماً خطيراً.

وهي، أي الشورى، من النوع الملزمة للقيادة وأولي الأمر والقاعدة طالما أجمع عليها. وعادة الإجماع لا يكون إلا على أساس من الاقتناع والإقناع، وهنا يأتي دور الحوار واستعراض الرأي الآخر والصبر عليه ومقارعته الحجة بالحجة مهما كانت القضية وحزب الأمر واختلفت الآراء. والحوار سنة من سنن الأنبياء ومنهم من حاور قومه سنين طويلة وصبر عليهم، كما وأن الشفافية ضرورية وأحياناً كثيرة في قضايا مصيرية لا ينفع معها نظام المؤسسات الكلية. وفضلاً عن ذلك فإن الشفافية تقتضي حملات توعية وأجهزة محاسبية، حية وقوية تمثل تمثيلاً حقيقياً لكافة قطاعات الحركة وفئات الضغط فيها أو مراكز التجمعات والتخصصات، وفي هذا الالتزام المبدئي بها كقاعدة شورية في الحركة والتنظيم توصد الباب أمام المنادين والمتحذلقين بالديمقراطية وغيرها من نظم الحكم وأسوسيات التنظيم والمؤسسات.

4. الالتزامات والمشغوليات: نعم إن مطالب الحياة العصرية قد كثرت ولم يعد رب الأسرة وحده قادراً عليها وهو بحاجة إلى مساعدة بقية أفراد أسرته ليستوفيها، وهذا يقتضينا ونحن في السلطة أن نعيد النظر في مناهج التربية والتعليم للمحافظة على الأسرة كنواة صلبة لمجتمع سليم ومعافى كما ويقتضينا ذلك أن نتقي الله في المرأة وطريقة عملها. نعم، "النساء شقائق الرجال" حديث شريف. "ولكنها خلقت من ضلع أعوج إن أردت أن تقيمه كسرته" هكذا ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه بفضل ثورة الإنقاذ في مجال التعليم العالي أتيحت للمرأة فرصاً تعليمية واسعة، كما أتيحت أيضاً فرصاً أكبر للطلاب والشباب. وهنا يلزم العناية بعنصري الطلاب والشباب، ليس فقط في معسكرات التدريب بالكتائب والرحلات وإنما في مجالات التدريب العملي وصقل المهارات والكفاءات وهذا ما ينادي به الغرب اليوم ويدعون إليه Capacity Building for Human Resources مما يجعل كوادرنا من الطلاب والشباب والعنصر النسوي الحركي على مستوى العصر في تحمله لمسئولياته وأدائه التنفيذي بما يرقى إلى تطلعات مجتمعنا إليهم.

ولابد لنا ونحن في السلطة أن نجهد أنفسنا في القطاع الاقتصادي لنوفر المشروعات والمال للاستثمار والتنمية حتى نستوعب الخريجين من الشباب والطلاب ونحقق العمالة الكاملة من خلال الاستغلال الأمثل لثرواتنا ومواردنا القومية بفضل سواعد فتية وعقول نيرة وخبرت أكاديمية وتكنوقراطية مدركين للتحديات التي تواجهنا وقد أشرت إلى ذلك بأنها في ثلاث دوائر بمركز واحد وهيا بنا نستعرضها بإيجاز.

الدائرة الأولى: هى الحركة والتنظيم ولابد لها من القوة والوحدة قوة الطرد والانطلاق، قوة الصمود والثبات، قوة الإنجاز والإبداع، قوة القدوة والانتصارات. كل ذلك في محيط دوائر العمل الحركي، حراكه، تطويره، والارتقاء به.

الدائرة الثانية: محيط الناس، البشر، مشكلاتهم والتعايش معهم في همومهم وقضايا معايشهم، خاصة والزمان بكله يضغط ويستمر ضاغطاً والأحزاب تتحفز وتتوثب بالرغم من التوالى على استلام السلطة وخدمة الجمهور، ونحن كحركة إسلامية في سباق معها ورهان على من يحظى بخدمة الناس، ويكسب تأييدهم وأصواتهم غداً في الانتخابات، لا بل وفي الآخرة من يجزى الجزاء الأوفى، وأمامنا مقولة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه "لو أن شاة بالعراق عثرت لخشيت أن يسألني عنها الله لم تسوي لها الطريق يا عمر". وكم تبعد العراق عن المدين المنورة ؟ وكم في الطريق البري من آجام وصخور وأنهار ووحوش؟ وهذا كناية عن ضرورة خدمة الناس في أساسيات الحياة من الأمن والعمل والسكن والتعليم والعلاج.

والمعركة لكسب الناس وتأييدهم هي واحدة من أهداف العمل الحركي الناجح وقد لمسنا ذلك في مواطن عديدة في السودان وفي دول أخرى عربية وإسلامية حيث تكاملت الأسباب وكادت الحركة هناك أن تقطف الثمرات ولكن حيل بينها وذلك وحرمت لذة النجاح والفلاح فيما سعت إليه بين ثومها. وستظل رحى الاستقطاب تدور بين الحركة من جهة والتنظيمات والأحزاب السياسية من جهة أخرى رحى دائرة، حامية الوطيس لكسب الجماهير واستقطابهم لا من أجل الحكم والسيطرة والتسلط من أجل الأمن والاستقرار، السلام والاطمئنان وذلك عوناً لهم لإحسان العبادة لله والاستقامة على طريقه ومنهجه الذي اختاره لنا وللعالمين أجمع في قرآنه الكريم، وبينه وشرحه بسنته الشريفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده وغيرهم من المصلحين والصالحين.

الدائرة الثالثة: وهذه هي دائرة العمل الخارجي والعلاقات الخارجية والتحديات التي تواجه الحركة من دولة الصهاينة في الوطن العربي ودولة أحادية قطبية في العالم تمثل رأس الرمح في الاستعلاء والغطرسة والهيمنة بصورة تجعلنا نتحسب كثيراً لما يصدر عنها، وما تخطط له من عمليات لتحطيم صروح الإسلام الحركي وتدمير لبنيان وكيان التنظيمات الإسلامية بحجة الإرهاب وغيره من الملصقات والأكليشيهات التي تبثها في إعلامها وعملها الخارجي والدبلوماسي مما يقتضينا وضع استراتيجيات عمل خارجي فيها الكثير من الثوابت والمرونة للتعامل مع المتغيرات وكسب الأصدقاء وتحييد الأعداء ما أمكن ذلك وكل ذلك في الدوائر الثلاث ذات المركز الواحد والتي أشرت إليها أعلاه لا يكون إلا بالكفاءات المؤهلة والصابرة والمثابرة والقادرة على القيام بدورها في مختلف المواقع وشتى بيئات العمل ولاسيما العمل الحركي الملتزم، المتجه به إلى الله ابتغاءً لمرضاته وتمكيناً لدينه وتسهيلاً لخلقه للإحسان والإتقان في عبادتهم وشكرهم وذكرهم له.

ذلك ما بدا لي من خلال تجربتى لنصف قرن من الزمان في العمل الحركي الإسلامي والمؤسسي والتنظيمي الريادي والقاعدي، وودت المساهمة بها كرائد من رواد الحركة الإسلامية السودانية، وأحسبها جهد المقل، لعلها تجد آذاناً صاغية وتجاوباً مع وتفاعلاً لما هو مطروح في ساحة الفكر الإسلامي والنقد الذاتي هذه الأيام. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" صدق الله العظيم.

الفصل السادس: الحركة الإسلامية بعد الوصول إلى السلطة

لم يكن الكثيرين من أعضاء الحركة سوى أعضاء مجلس الشورى يعلمون أن ثورة الإنقاذ من ثمار ومجهودات الحركة الإسلامية السودانية ونتيجة عمل متفاعل مع بعض الضباط بهدف تأمين ظهر الحركة وحمايتها من الانقلابات العسكرية المتجمعة سحبها من مجموعات ضباط ذوى انتماءات فكرية وعقائدية مناوئة للحركة الإسلامية ونخص بالذكر التيار الناصري الموالى لجمهورية مصر العربية، وتيار يساري بعثي، والآخر يتعاطف ويتحرك بتوجيهات من حزب الأمة ، ولكن الضباط المنتمين للحركة الإسلامية والمتعاطفين معها رجحت كفة تخطيطهم و تكتيكاتهم حتى أحدثوا التحول المطلوب.

وفى البداية كان لابد من التغطية والتمويه حيث تمت اعتقالات لبعض قيادات الحركة من رجالات الصف الأول، وقليل من رجالات الصف الثاني، كما تم الحجز علي حسابات الكثيرين من القادة والرواد للحركة بالبنوك التجارية، ومنهم حسابات المؤلف، علي الرغم من كونه كان أحد مستشاري اللجنة الاقتصادية لثورة الإنقاذ الوطني، وكان نائباً بالجمعية التأسيسية عن دوائر الخريجين بالإقليم الأوسط، ولعل الشيء بالشيء يذكر فإن جميع دوائر الخريجين لانتخابات (1985م) اكتسحتها الجبهة الإسلامية القومية، وكان لنواب الجبهة في الجمعية التأسيسية أثر واضح على العمل البرلماني وانطباعات مشهودة في تاريخ العمل النيابي بالسودان، بل إن مؤلف هذا الكتاب ترأس إحدى جلسات الجمعية التأسيسية علي الرغم من أن الجبهة الإسلامية القومية يومها كانت متحالفة مع حزب الأمة – جناح الصادق المهدي.

وصلوا الميس وبدلوا ملابسهم :

ظن بعض الإسلاميين من قليلي التجربة والخبرة، والمحسوبين علي الحركة الإسلامية لمعاملات تتعلق بالجهوية القبلية، والاستلطاف والتقريب ولمعامل العمل في مكتب المعلومات وهو المعني بتيسير عمل الاستخبارات والذي قصد منه أساساً عند تأسيسه أن يجمع المعلومات التي تساعد الحركة في حماية ظهرها وتمكن لها من مدها بالبيانات التي تسهم في رسم الخطط والإستراتيجيات للعمل والاسترشاد بها في مختلف بيئات العمل الحركي بالسودان وخارج السودان.

ولكن للأسف فإن هذا المكتب تطور عكسياً وسلباً في مهماته و عمله حتى أضحي مكتباً للاستخبارات ضد عناصر حركية قيادية، تحمل وجهات نظر ومواقف مغايرة للأمين العام، أتخذ منحني آخر حين تم تنسيق عمله وإدماجه في مكاتب الاستخبارات وأمن الدولة وقوي بصورة رهيبة ومرعبة حتى لكثير من قيادات الحركة ناهيك عن أعدائها.

ظن هؤلاء بالمكتب المذكور وفي مواقع أخرى يرعاها ويشرف عليها أنهم وصلوا الميس، أي نهاية الرحلة والسباق وركبوا موجة السلطة، وخلعوا رداء الإسلامية وكأني بهم قد لبسوا لكل حالة لبوسها، لبسوا رداء الطائفية السلطوية والسياسية واعتبروها فرصة للاختباء والاغتناء من المواقع التي أرسلوا إليها أو عينوا فيها متناسين الصدق في الكلمة والإخلاص في العمل، والمودة في الأخوة، والرفق بالمراجعين، وضربوا بعرض الحائط معاني ومبادئ إسلامية كانوا يدعون إليها وفي مقدمتها المؤاخاة وهي دعامة من دعامات تكون المجتمع الإسلامي المدني الأول، المجتمع الريادي والقاعدي والمؤسس برصانة وقوة لانطلاق الدعوة الإسلامية إلى كل أنحاء العالم من المدينة المنورة.

كما نسوا أو تغافلوا عن معانٍ أساسية ومنها "خير الناس أنفعهم للناس" حديث شريف. نسوا ذلك المعنى والمبدأ الذي يجعل الداعية مرتبطاً بخدمة الناس. أهله وجيرانه وسائر أمته، وقد كان ذلك بلا حكمة ولا توجيه ولا نضج سياسي فيما يتعلق بخدمة المجتمع وخاصة أولئك الذين في الوظائف التنفيذية.

هذه من أهم القضايا والمعضلات التي مرت بها الحركة الإسلامية السودانية والمنعطفات التي امتحنت الدعاة، وقليل منهم من عجم عوده وعركته المشكلات والصعاب وتخطاها بنجاح، والكثيرون منهم سقطوا في أحضان الزوجة الثانية والعمارة العالية والمزرعة أو المصنع والحسابات ذات الأرصدة سداسية وسباعية الأصفار، فمالوا كل الميل وتركوها كالمعلقة، بل الساقطة أي – الحركة الإسلامية – بين الكرسيين، كرسي السلطة وكرسي الدعوة، وهي ما تزال تتشبث بواحد منهما. "إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".

ومما زاد الطين بلة عملية تكريس الوظائف على مجموعة محدودة "تدوير النخبة"، وكأن رحم الحركة الإسلامية قد أصابه العقم ولم تعد تلد إلى المجتمع عناصر صلبة، قوية، ومؤهلة لقيادة العمل الحركي المرتبط بمجتمع ديناميكي متطور مثل المجتمع السوداني مليء بالأحداث والمشكلات المستجدة على ساحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

هذه التكريسة على مجموعة محددة وبعينها في بعض الوظائف والمرافق، تلاحقت مع قناعات معينة لدى هؤلاء المتسلقين والمتسلطين على السلطة بأن يتفلتوا عن قواعد العمل التنظيمي، وأن لا يلتزموا بحاكمية الحركة المطلقة على السلطة، وما لبثت أن تفلتت تفلت الإبل من عقلها.

ومع تري الأوضاع داخل الحركة وظهور بوادر الانشقاق والتشرذم، زاد ذلك الطين بلة، وقاد بالضرورة إلى صراع أيديولوجي داخلي حول حاكمية الحركة والتنظيم من جهة، واستعلاء القيادة السياسية والتنفيذية (الحكومة) على قرارات الحركة من جهة أخرى. وزاد الاضطراب في أوساط الحركة قرار مجلس شوراها بحل نفسه في عام ( 90/1991م ) مما جعل المركب بلا دفة والقيادة بلا رقيب ولا محاسبة، وهنا بدأت فئات الضغط ومراكز القوى، كل مدفوع بهدفه وغايته، منها الشخصي والعرقي والجهوي، والفكر السلفي، ولكن الحركة من حيث كونها نقطة الارتكاز والجذب (Centre of Polarity) يلتف حولها الناس ولكونها الهلب الذي تربط فيه وترسو عليه القوارب والسفن، لم يكن إلا القليل والذين هم بعيدين في الهامش، مهمشين أنفسهم وليسوا بمهمشين حتى دب الفتور وعم عدم الاكتراث، وأصاب الهلب الصدأ، وضعفت العري، وأصبح البعض يتصايحون، الغوث ... الغوث!!!. من عبثية الأوضاع.

وفي هذا الجو المكفهر والملتهب، وذلك الركود الذي يشبه "الكرسة التي لا يريدها المرفعين" كما يقول أهلنا بدارفور. أطلقت صوافر الإنذار وأترعت الصحف بالمقالات القصيرة والطويلة، وتنافر الحركيين "القحوف" ومفردها "قحف" وهو الذي عندما كنا صغاراً نلعب به لعبة البُربُرة، وهي نوع من التحدي في قوة التحمل والسير برجل واحدة ننط بها من مستطيل إلى آخر كنا قد رسمناه مثل السلم على الأرض.

وظهر الكثير على الصحف من الحديث الذي يحتاج إلى تعليق أو تصحيح أو تعقيب، أو تصفيح من منطلق الصفح عن الكاتبين لما بهم من غُلالة فكر أو ظلمة رؤى أو فُحش حديث وبذاءة ألفاظ. كما ظهرت كتب وكتيبات تؤرخ للحركة وتنعي لأهلها حالها.

إن الكتابة في مثل هذه المواضيع والقضايا ينبغي أن لا تكون من أجل الكتابة، إما لسرد تاريخي لوقائع بلا ربط موضوعي بينها وتحليل، ولا من أجل الحوار والنقاش من أجل المغالطة ومحاولة صرع الخصم باللجاجة أو قوة الكلمة والتعبير والمنطق وإنما الكتابة تكون عادة هي من منطلق معايشة لأحداث ووقائع يتم سردها مع تحليلها من أجل الحقيقة، ثم تسجيلها وتقديمها مجلوة وناصعة للأجيال وللتاريخ من أجل الاستلهام والاستفادة والاعتبار. وهنا لابد من معرفة الحدث، ملابساته، خلفياته، البيئة التي وقع أو حدث فيها وبالمثل الكاتب أو المعلق، خلفيته، مشاركته وتفاعله مع تلك الأحداث حتى يكون شاهداً على عصره، وبأمانته ودقته في سرد الوقائع، وقدرته على تحليلها، وربطها بغيرها، بالماضي والحاضر ومن أجل استقراء المستقبل. ومن هنا كان اهتمامنا تسجيل بعض الحقائق والوقائع وتحليلها من منطلق الريادة والقيادة للعمل التنظيمي والفكري والفئوي للحركة الإسلامية السودانية، مستصحبين ما أتاحته لنا ظروف عملنا بالخارج في بيئات عمل حركي غير سودانية، عربية وإسلامية وغير إسلامية مما أكسبنا والحمد لله الكثير من المعينات والصبر على الكتابة والتسجيل والتحليل لمسيرة نصف قرن من الزمان في الحركة الإسلامية ولعل أدب الإسلام وآصرة الأخوة تمنعنا أحياناً من أن نذكر أسماء ومواقف يكون فيها تجريح وحرج، فقد حرصنا على تجنب ذلك. كما أمسكنا عن ذكر ما لاقيناه من غبن وظلم أو تهميش في حقنا واحتسبناه لله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تطابقات ... اتفاقات ... تصويبات

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خير الأنام، صلاة تفتح لنا أبواب الرحمات والبركات – آمين.

لقد طالعت بإمعان وشغف، بل وبأسى ومدامع ما كتبه الإخوان الكريمان د. التجاني عبد القادر في جريدة الصحافة – عدد رقم ( ) وبتاريخ ( ) وخاصة "الرأسماليون الإسلاميون" 1 – 2 " ماذا يفعلون في الحركة الإسلامية؟

وما كتبه الأستاذ الهندي عز الدين في جريدة آخر لحظة، الأعداد (150 – 151 – 152 – 153) بالتواريخ ( 22 – 23 – 24 – ديسمبر 2006) الحلقات من 1 – 4 شهادتي لله – "إمبراطورية صغيرة وجديدة ...".

ووجدت أن ثمة تطابقاً وتوافقاً بين الاثنين فيما توصلا إليه. د.التجاني قام بتحليل لما يقوم به الرأسماليون الإسلاميون – المحدثون – وهذه من عندي ولما أشار إليه بصورة واضحة ودامغة لنوعيات أولئك الرأسماليين في الإمبراطوريات الصغيرة والجديدة والتي أشار إليها الهندي عز الدين. ومن هنا كان التطابق والاتفاق حول وصف الحالة وتشخصيها، أسبابها ودورها ومآلاتها فيما يتعلق بمسيرة الحركة الإسلامية، ووضعها اليوم ومستقبلها غداً.

ولقد شغلتني تلك المقالات – بل دفعتني لكتابة هذه السطور من خلال من بدأت كتابته عن تاريخ الحركة الإسلامية السودانية، تحليل مواقفها من الأحداث الكبرى بالسودان، منجزاتها وما وصلت إليه حالتها إبان وصولها إلى السلطة (1990 م) وحقيقة سقوطها الرهيب في هاوية سحيقة بين كرسيي الدعوة والسلطة خلال مسيرة خمسين عاماً. وليس لدي أدنى شك في أن دافع الكاتبين هو الإصلاح من منظور نقد علمي وموضوعي، فيه كثير من تجلية الحقائق، وعرضها بوضوح مع تحليل عميق بفكر ثاقب، نير ودقيق ومع إننى أجد نفسى متفقاً تماماً في كل ما ذهب إليه الأستاذ/ الهندي عز الدين حيث تناوله كان سرداً لحقائق ووقائع تاريخية، عاشها وعايشها. ولذا لا أجد نفسي مختلفاً معه، رغم فارق السن وأزمنة الأحداث.

كما وأنني أتفق مع د.التجاني في كثير مما ذهب إليه في تشخيصه وتحليله، إلا أن بعض التصويبات في وقائع وحقائق تاريخية لابد من تصحيحها لأنه بنى عليها استنتاجاته، ومن ثم رأيت من المناسب أن أتعرض إليها، خاصة وقد عايشتها لحقب من الزمان في مسيرة الحركة الإسلامية وقيادتها.

أولاً :

تعرض د.التجاني في مقالته الرأسماليون الإسلاميون وذكر اسم الأخ/ الطيب أحمد عثمان النص. وهو أي التجاني لا يعلم إننا في ذاك الوقت بالمكتب التنفيذي (القيادة الجماعية) للحركة وكنا قد انتزعناه نزعاً من الأخوين رحمهما الله، مأمون ومحيي الدين البرير حث كان يعمل مساعداً إدارياً لهما بأم درمان السوق الكبير والمهندس بشير حسن بشير وكان يعمل مع الشيخ مصطفى الأمين رحمه الله، أعطيناهما خمسة آلاف دولار من مالية الحركة – اشتراكات – واستعملناها مضاربين بذلك المبلغ في مجال التجارة الداخلية والخارجية "صادرات" من أجل توفير موارد لمالية الحركة لتدفع منها رواتب المراقب العام / الأمين العام، ورئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين/ الميثاق، وهيئة تحريرها. ويومها كان بشير حسن بشير خريجاً جديداً من كلية الهندسة – شعبة الهندسة الكيمائية – ويعمل مع الشيخ مصطفى الأمين – رحمه الله بمصانعه للزيوت ببورتسودان في ذلك الوقت كانت تلك مجازفة وتضحية منهما ولكنهما أفلحا والحمد لله في أداء المطلوب وأنجزا ما طلب منهما بنجاح وتوفيق ولم يكن ذلك منهما لوحدهما فحسب بل هناك الكثيرون من أمثالهما وأمثال الذين ذكرهم الهندي عز الدين في مقالته من نوع محمد عبد الكريم حفظه الله وتقبل منه، فهناك ممن قدموا المال والجهد والعرق والمنازل للاستضافة أذكر بعضاً منهم بمحاسنهم وتفضلهم، الأخوة : /الشيخ عبد الباسط وأخيه/ عبد الله عبد الباسط، والمرحومين : / سليم علي أحمد و/ سعد الله رحمة، وأمناء المال :/ كمال علي نقد الله و/ توفيق طه رحمهما الله، والأخوة :/ أحمد عمر عبد السلام وأخيه/ عوض عمر عبد السلام وابن عمهما/ حسن حامد عبد السلام، والأخ خضر رضوان أقال الله عثرته، وغيرهم كثير في أقاليم السودان ليس هذا مجال إحصائهم وحصرهم وإنما الشيء بالشيء يذكر.

نعم أخي د. التجاني هذا المنحى كان سليماً وضرورياً في الدخول إلى السوق وفي العلاقة بين العمل الحركي والاستثماري، تجارياً كان أو زراعياً أو مؤسسات مصرفية ومالية، فتلك ضرورة اقتضتها ظروف الحركة وتوسعها حيث الاشتراكات لم تكن تكفي موتر (فسبا)، ناهيك عن عربة فيات 620، توارثها كل من الشهيدين المرحومين د. محمد صالح عمر ومبارك قسم الله زايد وقبلهما ياسين عمر الإمام وكانت للعمل الحركي. ولم يكن مبلغ ترخيصها والتأمين عليها متوفراً حتى حجزتها سلطات الحركة بمركز شرطة ود نوباوي وظلت قابعة هناك لسنوات حتى أضحت خردة.

نعم لقد تحقق بناء نماذج في التنظيم والقيادة ونحن الرواد والدفعات التي تلتنا في قيادة الحركة الإسلامية هي التي تشكل تلك النماذج والحمد لله بفضله علينا في ذلك.

ولكن الشق الآخر من بناء نماذج في المؤسسات الاجتماعية والتربوية تعثر بناؤه لعدد من الأسباب وليس هذا دفاعاً ولكن تسجيلاً لواقع ووقائع. إن بعضاً من أعضاء القيادة العليا للتنظيم لم تكن تعطي أولوية لهذا الدور بل حتى الأمين العام وبطانته / خاصته، كانوا يرون إن الأهمية هي للانتشار، حركة إسلامية واسعة، كبيرة وجامعات تنتشر فيها الحركة بلا أساتذة وبلا مناهج تربوية ولا حتى صور مشرقة لفئات اجتماعية حركية تمثل القدوة الحسنة للطلاب وتدفعهم إلى أحضان الحركة بالقدوة الحسنة والقيادة الرشيدة.

أما الفكرة الثانية والتي تدعو إلى قوة التنظيم من خلال قوته المالية، فهذه صحيحة وسليمة أيضاً والخطأ الذي حدث هو التحول من إغناء التنظيم إلى غنى أفراد التنظيم من خلال مواقعهم بالتنظيم والسلطة. إن جيل رواد الحركة الإسلامية ومن خلفهم الدفعتان الأولى والثانية، لم يكن فيهم من هذا النوع، بل العكس، تضحية ونكران ذات وطاعة كاملة للتنظيم. وحتى الجيل الثالث والرابع هما اللذان بدأت تتحول النظرية في زمانهما وفي زمان المستشارين لمكتب الأمين العام، لا المنتخبين من مجلس الشورى لقيادة العمل الحركي.

ومن هناك بالجيل الثالث والرابع في قيادة الحركة بدأت الصور الشائهة التي أشرت إليها "ممن لا يعرف لهم إسهام أصيل في الدراسات الاقتصادية أو رؤية عميقة للتنمية الإسلامية" وهناك أمثلة دالة ودامغة لهذا النوع الذي أشار إليه الأستاذ/ الهندي عز الدين في مقالاته وخاصة ممتطي السيارات الفارهة من الكامري والباسات والـ BMW 740 والمرسيدس "أبو عيون جريئة" والكل يعرف من هو وابن من؟ أي أبوه عندما جاء من القرية لزيارة ابنه استغرب في ابنه وسكنه الفاخر وكأنه قصر السلطان أو الأمير. وهنا يصدق الحديث : "إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة".

والسؤال في أي العهود الزاهرة للحركة نمت وترعرعت هذه الطفيليات الغريبة في جسم الحركة؟ إن ذلك حدث بعد أن استحكم في الحركة حب السلطة والهوى والاستلطاف، وحل مجلس الشورى نفسه باقتراح من الأمين العام للحركة، وأوتي بأعضاء من نوع فقهاء السلطان ومحسني فكرة "تدوير النخبة" ومن هنا كانت شريحة أغنياء الحركة وظهرت الإمبراطوريات الجديدة والصغيرة في ظل سلطة الحركة وسلطانها".

السؤال المهم :

إلى أين قادت هذه الممارسات؟ ومن المسئول عنها؟؟

أتفق معك تماماً أخي د.التجاني، في أن الحديث عنها لا يأتي من حسد أو غبن، بل يأتي من حدب وإشفاق على من تبقى من خلصاء وأصفياء في هذه الحركة، دعماً وإغاثة لهم، وحفزاً ليواصلوا دورهم ومسيرتهم في حمل مشاعل الهداية والنور إلى الآخرين من جهة، وفي تحقيق العدل والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى في ظل ديار ودوران حركة نظيفة وشريفة وشفيفة. نعم لابد من مراجعة المسار في "فقه العمل الحركي"، ولابد من إقصاء تلك الشرائح الانتهازية والجاهلة، والمتنكبة للطريق السوي للعمل الدعوي عن مراكز السلطة، حتى لو اقتضى الأمر التنازل عن السلطة كلها لحين توحيد الصف ولم الشمل وتقوية البناء الحركي على أسس جديدة ومتينة من فكر حركي مجدد ومتجدد، يأخذ في اعتباره الكثير من :

1. العبر والدروس من أخطاء الماضي.

2. النظر في أولويات العمل الدعوي والاجتماعي.

3. الارتباط بالوعي الشعبي ومطالب الجماهير.

4. بناء المناهج والنماذج من الشخصيات الإسلامية الكارزماتية المتواضعة، أخص بالمتواضعة لأجل الالتزام بأحكام الحركة والتنظيم لا التفلت منها والتسيب ثم السياحة في الحق العام والمال العام.

وحتى نعود بحركتنا سيرتها وأيامها الذهبية الزاهية عندما كنا نجلس في الحلقة ونتعارف "أخوكم في الله" وهذه تكفي جواز سفر وبطاقة مرور / حركة، لأداء المهمات والحصول على الحاجات وكفى.

وحتى نبعد مرة أخرى أمثال "زعيط ومعيط" وفيما ذهبت إليه من أقوال للإمام الغزالي وسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشاعل هداية وتبصرة وأخيراً وفقاً لما ورد في قوله تعالى : {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} صدق الله العظيم، الآية 7 من سورة محمد.

ورد الرابطة وأضواء من قناديل الضياء والعطاء

"اللهم إن هذه القلوب اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، فوثق اللهم رابطتها، وأدم ودها، وأهدها سبلها، واشرح صدورها بفضل الإيمان بك، وجميل التوكل عليك، وأمتها اللهم على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير".

هذا الورد الذي تواثقت به القلوب وتعاهدت عليه، بل حافظت على تلاوته جماعياً المجموعات الأولى من أهل السبق وروادها في الحركة الإسلامية في حلها بنادي أم درمان الثقافي، ونادي السجانة وكافة دور الجماعة المسلمة، وفي ترحالها ورحلاتها وكتائبها، سفرياتها وتجوالها داخل البلاد وخارجها، نُسي وأهمل ولم يعد يُذكر أو يُتذاكر به، وحتى أهله وعارفي دوره وفضله قد يكونوا قد نسوه أيضاً، ناهيك عن الالتزام والحفظ له والعمل به.

1/ إن انطلاقة الحركة الإسلامية السودانية كانت وما تزال مؤسسة على مبادئ وقيم قرآنية ومعاني للأحاديث النبوية الحية، واقتفاء لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الميامين المجاهدين والصابرين على الحق والطريق المستقيم.

2/ إن إشراقات تلك الآيات والأحاديث ومعانيها كانت تزدان بها الجباه والوجوه النيرة والمستنيرة، بفضل مشاعل وإشعاعات القلوب العامرة بالإيمان، والفكر الثاقب بالاطلاع وهي تسلك الطريق المستقيم إلى الله والهداية الراشدة لسلوك الإنسان في واقع الحياة ومواقفه من القضايا والمعارك اليومية، الصدامية وغير الصدامية ومع ذلك فهي تنير الطريق لآخرين، قدوة حسنة وسلوكاً مستقيماً وإدارة عادلة وحازمة.

وكان الفهم والفقه لمعاني كلمات أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثال أربعة من رزقهن أعطي خير الدنيا والآخرة، قلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، وزوجة صالحة إذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله" كان فهماً عميقاً، وتجاوباً حانياً رفيقاً، وتطبيقاً لتلك المعاني في حياتهم دقيقاً.

3/ كانت معارفهم تلك وفهومهم وتواضعهم، مؤهلات، ظلت تنداح على إخوانهم وغيرهم من أهلهم وجيرانهم في كافة بيئات العمل الحركي، الوظيفي والجغرافي، والمهني والفني، والثقافي والتعليمي والفئوي، وشهدت لهم بذلك الكثير من ساحات العمل المتعددة والمتنوعة، تواضعاً وبذلاً وفداءً وعطاءً من غير منّ ولا أذى.

4/ كما كان بينهم الكثير ممن اقتفى سيرة وعكس صورة سيدنا عبد الله بن عباس، والذي قال فيه الخليفة العادل الواعي سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "إنه فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول" وآخرين وجدوا في مقولة سيدنا عبد الله بن مسعود رأياً سديداً، ونصحاً غالياً مفيداً فالتزموه وانصاعوا له : "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، لأن الحي لا يؤمن من الفتنة".

5/ ومنهم من تأسى بأسيد بن الحضير وهو سيد قومه من قبيلة الأوس بالمدينة المنورة، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وأبو الدرداء – وهو عويمر بن مالك الخزرجي – والذي كان تاجراً كبيراً بالمدينة المنورة، قال عنه سيدنا عبد الرحمن بن عوف: (( كان أبو الدرداء يدفع عنه الدنيا بالراحتين والصدر)). وأبو الدرداء كنيته – حيث كان من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكان أهل السبق والرعيل الأول في الحركة الإسلامية السودانية هم صور واستلهام لأولئك الصناديد من الرجال والأعلام.

6/ وأبو الدرداء – مالك بن عويمر – هذا الصحابي الجليل ولاه سيدنا عمر بن الخطب على دمشق، وجاءه فتى يطلب النصح قائلاً : "أوصني يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له أبو الدرداء: يا بني، اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء، يا بني كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابع (جاهلاً)، فتهلك" يا لها من نصيحة غالية ووصية عظيمة في عصرنا هذا لشبابنا وفتياتنا، في عصر المعلوماتية والبرامج الكمبيوترية والتي يضاع فيها الوقت أحياناً وكثيراً تسلية وهدراً.

7/ سيدنا عمر بن الخطاب وأسيد بن الحضير، هذا الصحابي الجليل عنه سيدنا عمر : "كان لا يُرى إلا مجاهداً أو غازياً في سبيل الله أو عاكفاً يتلو كتاب الله". ومع ذلك كان أسيداً من الظرفاء، صاحب نكات وملح. وروي عنه الحديث التالي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنكم ستلقون أثرة من بعدى)) وعلى أسيد بن الحضير، صدقت يا رسول الله – وكان ذلك تعليقا على قسمة غنائم للمسلمين من مال ومتاع أصيبت تلك الغنائم في عهد سيدنا عمر بن الخطاب.

8/ كان تعليق أسيد ذلك تعجباً واستنكاراً على مشهد فتىً من فتيان قريش دخل المسجد يرتدي حلتين يجرجر أطرافهما ونُقل ذلك إلى سيدنا عمر بن الخطاب فهب إلى مسرعاً مذعوراً وشرح له سيدنا عمر أن الفتى القريشي اشترى حلة من ماله من صحابي عُقبي، أحدي. ثم قال سيدنا عمر لأسيد : ((أفتظن أن هذا الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في زماني؟ فأجاب أسيد: والله يا أمير المؤمنين، لقد ظننت أن ذلك لا يكون في زمانك)). وتجدر الإشارة إلى أن الصحابي الجليل العُقبي الأحدي هو من الصحابة الأجلاء الذين شهدوا بيعتي العقبة وقاتلوا في غزوة أحد المعركة التي استشهد فيها سيد الشهداء سيدنا حمزة بن عبد المطلب.

9/ توفي أسيد بن الحضير وبعد وفاته اتضح أن عليه دينا يبلغ أربعة آلاف درهم لجهة ما بالمدينة المنورة. سمع بذلك سيدنا عمر بن الخطاب وقال لا أدع ورثة أخي أسيد عالة يتكففون أيدي الناس وقام سيدنا عمر بمشاورة الغرماء في سداد الدين وعرض عليهم أن يتم سداد الدين من ثمار الأرض على مدى أربعة أعوام يأخذون الثمر ويبيعونه ويتركون قليلاً منه لورثة أسيد بن الحضير. فما كان من الغرماء إلا أن قبلوا اقتراح سيدنا عمر رضي الله عنه وأوقف بيع الأرض نفسها ليستفيد منها الورثة فيما بعد وبذلك أغلق سيدنا عمر باباً للفقر كان يمكن أن يدخل منه الفقر على ورثة سيدنا أسيد خاصة وأنه كان ذو مكانة في قومه من الأوس بالمدينة المنورة.

إن ما قام به سيدنا عمر بن الخطاب من عمل جليل واجتهاد جميل يعتبر سنة حسنة لحكام المسلمين وأمرائهم تجاه المجاهدين وأهل السبق من المسلمين والرواد وبالتالي المؤسسين للحركات الإسلامية في عصرنا الحاضر، كما وأن مبدأ التقسيط في سداد الدين خلال فترة معينة من إنتاج المرفق أو المشروع زراعياً كان أو صناعياً وفي حالة الأرض التي كان يملكها ورثة سيدنا أسيد بالمدينة يُرجح أن الثمار التي كانت بها هي نخلاً ينتج تمراً وتمر المدينة معروف بجودته وأنواعه وشهرته من العنبر والصقعي والبرني، والبرني هذا فيه حديث موصي عليه من الرسول صلى الله عليه وسلم.

10/ وهنا يجدر بنا أن نقف وقفة إجلال وإكبار لسيدنا عمر بن الخطاب والموقف الذي اتخذه لنجدة ورثة أسيد والذين كانوا قد هموا وعزموا على بيع المرفق الاستثماري والمعاشي لهم لسداد الدين العالق بذمة أبيهم.

ونخلص إلى أن تدخل الحاكم لإنقاذ أهل السبق والرواد من العاملين في حقل الدعوة ونصرة الإسلام هو واجب وليس منة ولا عطية من الحكام إلى المخلصين والمجاهدين من الرعية. وبالحاكم هنا نعني المسئولين ابتداء من رئيس الدولة ومروراً بالوالي والمحافظ والمعتمد وضابط المحلية ورئيس اللجنة الشعبية وبالطبع أمير الجماعة لأنهم يدخلون في معنى الحديث الشريف ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)).

هذه بعضاً من أضواء على قناديل الضياء والعطاء من الخفاء الراشدين والسلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين والمجددين لهذا الدين والعاملين له من المضوين في التنظيمات والجماعات والحركات الإسلامية، نقدمها قبسات من الأضواء والأنوار والتي نحن بحاجة إليها في عالمنا المعاصر.

كان أهل السبق والرواد في الحركة الإسلامية السودانية شديدي التأثر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت فيهم من الصفات الحميدة والحسنة ما هي أقرب إلى صفات الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله، صفات ترقى بهم وتميزهم عن مصاف السوقة والدهماء والطامعين.

كانوا لا يعرفون عصبية جهوية ولا جغرافية عرقية ولا حتى أكاديمية تخصصية على الرغم من أن خريجي كليات الحقوق والآداب والتجارة والاقتصاد كانوا يشكلون الغالبية في رواد الحركة ونقبائها في الأسر وحلقات المدارسة ومع ذلك فإن معارفهم تلك وأفهامهم وتواضعهم ظلت تنداح على إخوانهم في كافة بيئات العمل الحركي، الوظيفي والجغرافي، المهني والفني، والثقافي والتعليمي والفئوي، وشهدت لهم بذلك في ساحات العمل الكثيرة المتعددة والمتنوعة وأثبت الرواد والقادة أنهم جنود دعوة لله حيث كانوا يتلقون توجيهات المكتب التنفيذي / القيادي فينفذونها فوراً بلا مراجعة ولا تراجع وكأنها أوامر عسكرية صدرت من الرتبة العليا إلى التي دونها للتنفيذ.

ومما أذكره من انضباط وتنفيذات أنه صدر توجيه للرواد والقياديين بالحركة بأن يقوموا بزيجات ومصاهرة فيما بينهم إمعاناً لتمتين الأخوة في الله فيما بينهم وتقوية قاعدة الصلات الاجتماعية والأسرية فيما بينهم ولتعينهم عند الضوائق والأزمات، فكانت الزيجات التالية :

1/ الأستاذ/ صادق عبد الله عبد الماجد تزوج من الأخت ...... مدني.

2/ الأستاذ/ عمر بخيت العوض تزوج من ....... مكي عثمان أزرق.

3/ الأستاذ/ محمد محمد مدني – سبال – تزوج من ...... محمد إمبابي.

4/ المهندس/ محمد العوض مصطفى تزوج من .......... الشيخ.

5/ الأستاذ/ أحمد حسن إبراهيم تزوج من ......... الفاتح البدوي.

6/ الأستاذ/ إبراهيم هارون محمد تزوج من تزوج من ........ الشيخ.

7/ الأستاذ/ عز الدين الشيخ تزوج من .......... هارون محمد.

8/ الأستاذ/ عبد الباسط عبد الرحمن تزوج من ........... عبد الله عبد الماجد.

9/ الأستاذ/ ياسين عمر الإمام تزوج من ............ عبد الرحيم الطيب.

10/ الأستاذ/ جعفر شيخ إدريس تزوج من ............. الشيخ بابكر بدري.

11/ الأستاذ الشهيد/ محمد صالح عمر تزوج من ............. عبد الرحمن كامل.

12/ الأستاذ/ أحمد عبد الرحمن محمد تزوج من ............. علي الحاج.

13/ الأستاذ/ دفع الله الحاج يوسف تزوج من .............. الطيب الحاج.

14/ الأستاذ/ بشري إبراهيم عثمان الخوجة تزوج من ............ عبد الحميد سيد أحمد.

15/ الأستاذ/ علي عبد الله يعقوب تزوج من ............ حسن سيد أحمد.

16/ الأستاذ/ إبراهيم محمد الحسن الدسوقي تزوج من ........... محمد سليمان.


17/ الأستاذ/ موسى أبو زيد تزوج من ............... هاشم عامر.

18/ الأستاذ/ عبد الله أحمد بلال تزوج من .............. الطيب بشير محمد علي.


وغير ذلك من الأمثلة الصارخة والالتزامات التنظيمية القوية والراسخة، مما يؤكد قوة الصلة الأخوية والرباط العقدي المتين، وينفي كافة المظاهر الجهوية، والطينية والجاهلية ويُعلى بالدرجة الأولى رباط العقيدة، حيث إن لا رباط أقوى من العقيدة ولا عقيدة أقوى من الإسلام – من مقولات الإمام الشهيد – حسن البنا.

هكذا كان شأن أهل السبق والرواد في الحركة، سمواً وعلواً ورفعة، تضامن وتكافل وأخوة، عزيمة ومجاهدة، جهاد ونية، انضباط وحركة، ثقافة وسياحة، أدب وأصالة، حتى صاحب البوفيه والذي كان يبيع الشاي والليمون وصاحب مكتبة بنادي أم درمان الثقافي أصبح مثقفاً وعالماً وعابداً، متواضعاً وزاهداً، وهو صاحب ثاني أكبر مكتبة إسلامية في السودان يوم ذاك حتى توفاه الله وهو في منواله مستقيماً على طريق الحق (رحمك الله رحمة واسعة وغفر لك يا أخي محمد الشاذوران).

وعلى ذات المنوال كان حال إخوته من الدعاة "بلاغ أحدهم من الدنيا كزاد راكب" وأهل الفضل والسعة فيهم قليل وعلى قلتهم ظلوا ينفقون وينفقون، يبتغون تجارة من الله لن تبور أبداً بإذن الله، وفضلاً ورحمة رغم ما حصل لهم اليوم من تدهور في تجارتهم أو صناعتهم أو زراعتهم أو مرافق خدماتهم وإهمالنا لهم في شؤونهم ولكن رحمة الله قريب من المحسنين.

أين حكامنا اليوم ونحن على "بردعة" السلطة نحكم ونتحكم ولا نذكر لأهل السبق والرواد فضلاً في إرساء هذه القاعدة الرصينة وذلك السلم القوي من أكتاف الرجال، هاماتهم، ومجاهداتهم والتي أوصلت من أوصلت إلى السلطة وفيهم زعيط ومعيط ونسوا تفقد الرعية والرواد وأصحاب السبق وأوضاعهم الاجتماعية.

وما ذكرناه من موقف سيدنا عمر بن الخطاب والصحابة الأجلاء من أمثال أسيد بن الحضير ومالك بن عويمر أبو الدرداء، أولئك كانوا بناة الدولة الإسلامية الأولى، القاعدية والمرجعية وأهل السبق في الحركة هم بناة الدولة الحديثة وسلمها إلى السلطة فهل يجوز بعد أن وصلنا إلى السلطة أن نركل السلم بأرجلنا وننسى الحركة والتنظيم، والنواة الصلبة (CORE) والمكونة لذلك التنظيم المؤدية إلى الانتصارات، الكسوب والإنجازات ..

لم تكن القوة والكثرة في اعتبار أهل السبق أبداً، بل كان أمامهم هذا الدين والانتصار له في أنفسهم أولاً وفي واقعهم وحياتهم ثانياً ولذا كان نداء الكتائب "الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا". حقاً كانوا من الحكماء وأولي النهي، وأهل الحل والعقد، يضعون الأمور في مواضعها ولوفين، يحبهم الناس في مواطن العمل والسكن حيث دورهم مفتحة الأبواب وكذا مكاتبهم عفيفين عن الدنايا وخاصة الحق العام ورعين وأحسبهم عند الله تعالى.

إن ما جرى في المؤتمر الخامس للحركة الإسلامية السودانية من إعداد وتنظيم أخذ في اعتباره مكانة أهل السبق والرواد وحفظ لهم مكانتهم في التنظيم سواء على صعيد المؤتمر العام أو مجلس الشورى. وكان أن انعقد ذلك المؤتمر في مقر المؤتمرات جنوب جامعة إفريقيا العالمية ولكن المؤتمر السادس والذي يفترض فيه أن يجدد الكيان والتنظيم الحركي ويعايش قضايا تتعلق بالنظام الأساسي، وتثبيت دعائم العمل الواضحة فيما يتعلق بالسيطرة والهيمنة للتنظيم الحركي على كافة الأنشطة بما فيها النشاط السياسي والمنابر الفئوية، لم يتعرض لتلك القضايا بالتفصيل الضروري المهم والواضح لها ولم يعالجها معالجة جذرية، دقيقة وشاملة وهذا شيء يؤسف له.

كما وأن المؤتمر لم حدد بصورة قاطعة مما ينبغي أن يكون عليه الفصل التفرغ للأمير من تقلد أعباء تنفيذية سياسية أو سيادية أخرى عدا مهام مسئوليات الإمارة، تلك المهام التي لا تمنحه الوقت الكافي والتفرغ والانصراف للبناء التنظيمي القاعدي والمحافظة عليه بغض النظر عن الكسب السياسي المأمول والمنتظر.

كما وأن المؤتمر اعتمد قاعدة سياسية بحتة في اختيار الأعضاء وهي التصعيد مضافاً إليها الفئات ونسي وأهمل الرواد وأهل السبق وهم طليعة الفئات مما شكل هضماً صريحاً وافتئاتاً لحقهم في المشاركة بالرأي بل حقهم في فرص الترشيح والانتخاب لمجلس الشورى والذي عادة يتم تفويضه من المؤتمر لمحاسبة أمير الجماعة ومكتبه التنفيذي / القيادي.

وحتى إذا وافقنا جدلاً أن مبدأ التصعيد فيه شورى وحرية وهو كلية انتخابية رأسية لا أفقية فإنه لا يتضمن في جوهره الانتخاب المباشر، كما وأنه لا يضع الاعتبار لأهل السبق والرواد ووزنهم النوعي ومساهمتهم الفكرية والتنظيمية وتجربتهم العميقة في إثراء المناقشات أثناء المؤتمر وعرض الآراء والأفكار السديدة والمستقاة من تجاربهم الزاخرة، منعكسة على القضايا المعايشة والمستعرضة داخل المؤتمر في جدول أعماله وأبحاثه من قضايا متطلبات المرحلة الراهنة والمستقبلية اللاحقة في ضوء تجارب الماضي والمنسكب نورها بكاشفات قوية على مسيرة الحركة وخطاها الثابتة القوية الراسخة نحو الغايات المحددة لها، مرحلياً كانت أو مئالياً.

مثل هذه المواقف والمراجعات نحسب أنها ضرورية في البناء التنظيمي وإجراءات وخطوات العمل القاعدي والحركي من أجل بناء قاعدة تنظيمية وصلبة تمثل (Cape Caniveral) لصواريخ ومكوك العمل التنظيمي من أجل استعادة الحركة لوحدتها، كيانها، قوتها وفاعليتها.

ولعلي بهذه المقدمة التأريخية من سير الصحابة والدعاة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، نقدم أنموذجاً من قناديل الضياء والعطاء في سوداننا الحبيب، وصورة لأحد المجاهدين والذين نذروا أنفسهم لخدمة الناس ودعوة الإسلام، ونحسبهم من الصادقين المخلصين، ونرى في سيرة حياتهم قبسات نور ومشاعل إضاءة لشبابنا والعاملين في الحركة الإسلامية والدعوة وهداية الناس. ذلكم هو المرحوم، الداعية/ مبارك قسم الله زايد.

أنموذج من الدعاة – الداعية – مبارك قسم الله زايد

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خاتم الرسل والأنبياء، رسول الهدى والدال على مواطن الخيرات والبركات.

ثم الشكر أجزله إلى مدير مركز "مبارك قسم الله لتدريب الدعاة" بمنظمة الدعوة الإسلامية على استمطارهم هذه الكلمات في حق الراحل المقيم، الداعية المجاهد مبارك قسم الله زايد.

والشكر من بعد، وعبر إدارة المعهد إلى ابننا المجتهد والباحث/ عباس عبد الجبار محمد عبد المجيد الذي أجهد نفسه في صبر وأناة حتى أخرج لنا هذا السفر القيم عن الداعية مبارك قسم الله زايد، نسأل الله أن يجزيه عنا وأهله وأصدقائه، وإخوانه جميعاً، خير الجزاء على ما قدم في هذا الكتاب للأمة السودانية.

والكتاب بلا شك هو جهد يصب في نهر الكتب والكتيبات، الأبحاث والدراسات والتي تتناول الحركة الإسلامية في السودان، شخوصها، قادتها، قاعدتها، مجاهداتها وإخفاقاتها، مما يدخل في التاريخ المصور بالأحداث والكلمات، المؤرخ لها حتى تكون معيناً يستقى منه وعونا نستلهم منه في طريق أضحت ظلماتها حالكة، عصيبة ومتشعبة يحتاج فيها السارى والمدلج إلى إضاءات وكاشفات من سير الرجال الدعاة، أمثال مبارك قسم الله زايد، والكتاب بالرغم مما أحصى وقدم من إضاءات في سيرة وحياة الداعية، نسبه وأصله تعليمه وعمله، العصر الذي نشأ فيه، إنجازاته وما حققه من اجتهادات ومعالم للطريق التى أختطها لنفسه وتركها للآخرين ليقتفوا آثاره، ويستفيدوا من خبرته، حنكته وحكمته، إلا أن بعض الثغرات هنا وهناك، وبعض الحقائق والتواريخ تحتاج إلى تصحيح وتصويبات كما وأن هناك بعض الوثائق لابد من ضمها لصفحات الكتاب، حتى يكون القارئ أكثر قناعة بما ورد من حقائق ومعلومات في الكتاب.

ومن هنا وجدت نفسي مشيداً بجهد ابننا الباحث/ عباس عبد الجبار فيما يتعلق بالتزام المنهج العلمي في البحث وخاصة في التقديم لبعض الأطر الفكرية والدعوية، حيث رجع إلى مصادر مرتبطة بالموضوع، عليمة بفنونه ودقائقه، خبيرة بما تنطوي عليه خريطة الطريق، ومنهجية العمل في مجالات فقه العمل الحركي والقواعد والأسس التنظيمية، وفي الاجتهادات وفق الظروف الموضوعية، وفي الاقتحامات عندما يحمي الوطيس ويحدو حادي الجهاد والمجاهدة، ولذا أجد نفسي شاكراً له، وواجداً له العذر في تلكم الثغرات والهفوات والتي لا تقدح عيباً ولا منقصة في الكتاب وجهد الباحث، وحسبه كما ذكر فقد اجتهد وأصاب في مواطن كثيرة فحصل على الأجرين، وأخطأ في مواطن قليلة فله أجر واحد والله نسأل أن يتقبل منه.

حقاً إن مبارك قسم الله فريد في عصره، ولد واكتسب من المهارات ما جعله ذو ألق ونور يستضاء به، ومشعلاً يضيء للآخرين والسالكين في طريق الحق والدعوة. منارة تهتدي بها سفن المبحرين في طريق الدعوة إلى الله، وهم يصارعون الأنواء والرياح الحارة والباردة دون أن تكل أو تفتر عزائمهم، ذلك من فضل الله عليه وعلى الحركة الإسلامية وخاصة الشباب الذين بأيديهم مستقبل العمل الدعوي، والواثقين من نصر الله "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" الآية من صورة محمد "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" الآية 9 من سورة الحجر وفي ذلك كل اليقين والطمأنينة بنصر الله، إن شاء الله.

لقد وفق الباحث في تحقيق الأهداف التى من أجلها اختار الموضوع، وفق من حيث التعريف بالداعية المخلص مبارك قسم الله زايد كما وفق في تقديم أنموذج من الدعاة، والذين حملوا راية الدعوة ومشاعلها بيد وحملوا السيوف والبندقية والكلاش بيد أخرى وساروا وساروا على الدرب دون كلل أو انكسار أو التفاتة إلى الوراء، ودون طأطأة لرؤوسهم لحاكم ظالم أو أمير جماعة جائر. ذلك هو سمت الدعاة المخلصين وديدن العاملين المجاهدين، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وبخاصة الرضوان الأعلى.

لقد أحسن الباحث في التمهيد الذي قام به الكتاب، بأن تناول تحديد بعض المصطلحات، وقد سلفت الإشارة إلى أنه اتبع فيها مناهج البحث العلمي وأصل وأطر لها في أربع عشرة صفحة، خصص الثلاث صفحات الأخيرة منها لتبويب البحث.

وقد وقع التبويب في ثلاثة فصول، وبكل فصل عدد من المباحث، بلغت في جملتها سبعة عشر مبحثاً، ثمانية منها بالفصل الأول وستة بالفصل الثاني، وثلاثة مباحث بالفصل الثالث، ثم ذيلها جميعاً بخاتمة، اشتملت على نتائج وتوصيات جيدة، ومراجع وفهارس.

ومن جانبي أثنا وبعد مطالعتي للكتاب اهتممت به، وركزت على الفصل الأول وبالتحديد المباحث التالية، حيث هناك هناك بعض الثغرات في المعلومات والتصويبات في أخرى مما ورد بتلك المباحث هي :-

الأول: بيان العصر الذي نشأ فيه مبارك قسم الله.

الثاني: ميلاده ونسبه.

الثالث: مراحل تعليمه.

السادس: بلاؤه في الدعوة.

ذلك لما عايشته عن قرب لصيق بتلك المراحل وذلك العصر، حيث كنا نسكن جيراناً في حي الحلة الجديدة – الشاطئ حالياً بمدينة كوستي، كما تزاملنا في مدرسة جبور الصغرى وكوستى الأهلية الوسطى، ومنها تم انضمامنا لجماعة "الإخوان المسلمين" نواة وقاعدة الحركة الإسلامية في عام 1953م، ونحن طلاباً بالسنة الثالثة بمدرسة كوستي الأهلية الوسطى.

بيان العصر الذي نشأ فيه مبارك قسم الله :

جاء في تبويب الكتاب الأول، وعلى وجه التحديد المبحث الأول من الفصل الأول، تحت العنوان أعلاه ومن صفحة 3 – 5، فقط ثلاث صفحات أوردها الكاتب ببيان العصر الذي نشأ في الداعية مبارك قسم الله. وإذا كان مبارك قسم الله عملاقاً بهذه الضخامة، وعلماً من الدعاة الإسلاميين المرموقين، ومن رواد الحركة الإسلامية السودانية، ومن الذين أثروا وأغنوا تجارب الحركة الإسلامية السودانية، فإن ثلاث صفحات فقط، لا تكفي مهما حملت من بيانات ومعلومات لأن تغطي العصر الذي نشأ فيه مبارك قسم الله. وهنا أجد بعضاً من القصور والنقص في البحث المعمق عن هذه الفترة من حياة المرحوم مبارك قسم الله وهي بلا شك القاعدة الرئيسية والأساسية التي انطلق منها مبارك للعمل الإسلامي في أوسع مجالاته وأكبر أطره وذلك هو نشر الدعوة إلى الله.

وعليه فعلى الرغم من شذرات ومقتطفات من هنا وهناك أوردها الكاتب في تلكم الصفحات الثلاثة ومن مقالات كتبت عن المرحوم مبارك قسم الله، إلا أنه كان لابد من المزيد من التعمق وتجميع المعلومات والبيانات وتسليط كاشفات الضوء على تلك الفترة، وقطعاً فإن أهم المصادر وأوثقها هي العناصر – الأخوة – الذين عاصروا مبارك وعايشوه في أخوة الدعوة في تلك الفترة، وأنا واحد منهم، وهناك كثيرون غيري كان يمكن للباحث أن يلتقيهم ويأخذ عنهم. فقد جمعتنا الجيرة في السكن، والزمالة في الدراسة بالمرحلة الصغرى والأولية، والوسطى بكوستي الأهلية والإجازات السنوية بالمرحلة الثانوية، كما تعاصرنا في مرحلة الجامعة حتى فُصل منها وأنا شاهد على الأسباب والمشاهد التي قادت إلى فصله من جامعة الخرطوم – مفرخة العلماء.

كما وأنه كان لابد للباحث أن يغوص في أعماق تلك الفترة ويبحث عن اللآلئ والجواهر الثمينة الغالية، التي أسهمت في بناء تلك اللبنة الطيبة، الزاكية العبقة، فصاغتها وشكلت منها شخصية الداعية، الواعية، الفذة والقائدة – مبارك قسم الله زايد.

سبق أن ذكرنا أنه وجد وهو تلميذ وصبي بالوسطى، ثم طالب بالثانوية والجامعة، في بيئة عمل حركي اتسمت بالصراعات السياسية، والمناكفات الفكرية والأيديولوجية بين تيار اليسار ممثلاً في الحزب الشيوعي السوداني، وواجهته السياسية الجبهة المعادية للاستعمار، وبين ما يطلق عليه اليمين، ممثلاً في الحركة الإسلامية، جماعة "الإخوان المسلمين" وواجهتهم يوم ذاك "جبهة الدستور الإسلامي" وجماعة الإخوان المسلمين بقيادة الداعية الكبير يومها والمراقب العام للإخوان المسلمين الأستاذ/ علي طالب الله – (القطينة). وكان يعمل مديراً لمكتب مقاطعة إسرائيل بوزارة الخارجية السودانية، وجبهة الدستور الإسلامي وكان سكرتيراً لها الأستاذ القاضي والمحامي عمر بخيت العوض والد الشاعر المبدع – الدكتور المعز عمر بخيت هي رأس الرمح في البيئة الثقافية والحركية للداعية مبارك قسم الله زايد. ولكن البيئة الحركية والمحلية بكوستي، كان قوامها مجموعة من الأساتذة الأجلاء من رواد الحركة الإسلامية وشيوخها (من 1952م – 1960 م) وفي مقدمتهم الأستاذ الشيخ/ علي عبد الله يعقوب "نقيب أسرتنا" والأستاذ المحامي/ محمد عثمان العراقي "كُعت" والمحامي/ يحي محمد إبراهيم الشقيق الأصغر للمرحوم المجاهد/ خالد محمد إبراهيم، مدير مكتب شئون الأنصار بحزب الأمة القومي ويومها كان الثلاثة، طلاباً بالجامعات بجمهورية مصر العربية، ومن شباب "الإخوان المسلمين" من السودان.

ثم تعاقبت على تلك المجموعة القيادية مجموعة أخرى من الذين رضعوا لبن الدعوة الصافي، السائغ العذب الزلال بمصر، حيث واصلوا مسيرة العطاء والبناء للرجال وللدعاة، وفي مقدمتهم البروفيسور الوقور د/ محمود أحمد محمود، والذي استنبط نوعاً من الذرة "يعرف بود أحمد" وهو استشاري البنك الدولي للإنشاء والتعمير في مجال زراعة الذرة. ويومها كان مفتشاً للزراعة بمدينة كوستي، وشقيقه الدكتور/ الطاهر أحمد محمود اختصاصي فلاحة البساتين ودكتور/ علي أحمد محمود الأستاذ بجامعة إفريقيا العالمية حالياً، وكان تلميذاً يأتينا بالشاي واللقيمات، ومن بعدهم الخبير الزراعي الضليع الأستاذ/ عبد الرحمن محمد أحمد رحمة والأستاذ/ علي البشير العباس معلم بمدرسة كوستي الأهلية الوسطى، والأستاذ/ عبد القادر حاج الصافي معلماً بمدرسة كوستي الأهلية الوسطى أيضاً. كما انتظم العقد الفريد مجموعة أخرى من الموظفين والتجار والعاملين للإسلام من أبناء كوستي والقاطنين فيها من الوجهاء أمثال/ أحمد البشير العراقي "نقيب أسرتنا أيضاً" والمحاي/ الطاهر حمد الله محمد المنزول "نقيب أسرتنا أيضاً" والتاجر/ خلف الله الريح، والتاجر/ محمد أحمد الفكي إبراهيم.

وكاتب المحكمة الشرعية/ حبيب عبد الله، والكاتب/ أحمد علي العجوز، والطالب/ مبارك إسحق أحمد، الطالب/ عمر حميدة عبد القادر، وشخصي الطالب الضعيف، تلك كانت أول أسرة للإخوان المسلمين من أبناء كوستي، وكانت مجموعة التقت في الله أخوة في العمل لنشر الدعوة، وإعلاء كلمة الله. لا قرابة ولا جهوية بينهم، لا أنساب ولا أصهار، وإنما أخوة في الله متحابين نحسبهم من الأصهار والأبرار والأخيار استوت سفينتهم على الجودي، واستقطبت فيما بعد من انضم إليهم وأسهم معهم في مفرخة المفكرين والقياديين من الدعاة والأخوة الملتزمين.

إنه في تلك البيئة الحركية، الثقافية والتنظيمية عاش مبارك قسم الله حياته خارج الفصول الدراسية والمدرجاتن في مدرسة الدعوة وحلقات البرش، ومن تعوده على البرش، لا تكاد تفرز بين البرش والقرش "جسده" والقرش هنا ليس قرش حسين كامل المقدود في الأربعينيات والخمسينيات، وإنما سمك القرش من حراشة الجسم وخشونته، وبلائه في سبيل الله، والدعوة وإعلاء كلمة الله.

كانت تلك أولى بداياته بالحركة الإسلامية ومن هناك كانت الانطلاقة بعد الانخراط في التنظيم والالتزام بالدستور واللوائح والقوانين، والانضباط بنظام الأٍسر والكتايب والرحلات "ورسالة التعليم" والانضواء "تحت راية القرآن " وإنه خارج التنظيم وعلى هوامش النشاط الأسري، كان الطالب الداعية مبارك فسم الله ونحن بجانبه مواظباً على البرش والدرس في العصر، بالجامع العتيق بكوستي "جامع البحر" وإمامه يومها الشيخ/ محمد قمر الدين الكتايبي رحمه الله وأجزل له الثواب.

وبرش الصلاة أمام فرن والده ومطعم صديق والده أحمد اسحق الأنصاري، حيث تعلم هناك وهنا تلاوة القرآن وتفقه في الدين كما كان يتلقي ونحن معه دروساً في التجويد من الأسرة من الأخ – أطال الله في عمره – حبيب عبد الله ومولانا الشيخ/ مصطفى بجامع كوستي "البحر" جزاهما الله عنا خير الجزاء.

واتسعت بفضل الأخوة في الله دائرة التعارف والمعارف، فشملت من ضمن ما شملت أخوة لنا من ضواحي كوستي أمثال عبد القادر حمد السيد – من الشوال، وجمعة آدم المكي رحمه الله من تندلتي، والفاضل عمر عبد الحميد رحمه الله من الجزيرة أبا، ودكتور/ عثمان كرار رحمه الله من الأبيض، وإدريس محمد سعيد من الفشار وأصلاً من البسابير/ مركز شندي كما شملت من خارج منطقة كوستي أخوة كرام أمثال/ عبد الله الخضر كمبال، وإبراهيم بادي، وعمر الطاهر مقاول بناء من أبناء الجريفات الغربية وغيرهم كثيرين من الذين توافدوا إلى مدينة كوستي، موظفين أو عمال أو تجار.

وبفضل التعرف على الأخ عمر الطاهر، وإبان فترة الدراسة الجامعية بجامعة الخرطوم انتقل عمل الداعية الميداني إلى الجريف غرب وإلى العاصمة الوطنية أم درمان والخرطوم بحري وغيرها من أحياء العاصمة الطرفية وضواحيها وكنا من جامعة الخرطوم نقود الحملات للكتائب والرحلات والمعسكرات، وتواصل العمل والعطاء التربوي والمدد الثقافي رواء لنا من نادي أم درمان الثقافي بشارع السيد/ علي – بأبي روف، جوار منزل الزعيم إسماعيل الأزهري.

نادى أم درمان الثقافي :-

وفي نادي أم درمان الثقافي حيث ملتقى الأبرار والأخيار من الطلائع والقادة والقامات الفارعة والبارعة في مجال العمل الدعوي والإسلامي، برزت المواهب الطبيعية والاستعدادات الفطرية للداعية ووجدت من يلتقطها ويعني بصقلها وتوجيهها نحو الأحسن والأرقى للداعية مبارك قسم الله ولغيره من الدعاة في تلك الأعوام (19531958م).

حتى عندما تخرج في مدرسة التجارة الثانوية والتي تخرج فيها بشهادة من كامبردج من الدرجة الثانية نرفق صورا لها وللمواد التي امتحن فيها في المبحث الخاص بمراحل تعليمه إن شاء الله، وبعد تخرجه، عمل مبارك قسم الله معلماً لفترة وجيزة لمساعدة أسرته، ثم التحق بجامعة الخرطوم، يوليو (1957) بكلية الآداب بالجامعة. وبالجامعة كان الجندي الداعية وفي غير الجامعة منصاعاً وملبياً لتعليمات قيادة العمل الحركي في البيئة التي يوجد فيها وينفذ التعليمات بلا تردد حيث أمر ليكون نائباً لرئيس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، ولما فصل رئيس الاتحاد بالجامعة، وكان يدري أنه يتولى قيادة عمل في أكب منبر حر في كل السودان إبان فترة الحكم العسكري للفريق إبراهيم عبود ، (19581964).

قاد المرحوم مبارك الاتحاد في أجواء طلابية عاصفة الأنواء والأعاصير من مقاومة للحكم العسكري ومطالبة العساكر بالرجوع إلى ثكناتهم، ورفض القانون رقم (9) (Statute9) والذي قرر نظام الحكم العسكري أن تنضم بموجب ذلك القانون، جامعة الخرطوم إلى وزارة التربية والتعليم، أي تصبح كأنها مدرسة ثانوية، يؤدب فيها التلاميذ لا جامعة تتفتق فيها مواهب وملكات ومهارات الطلاب.

قاد المرحوم اجتماعاً عاصفاً للطلاب وكان في حلاك الجامعة الرئيس حيث النخل الملوكي (Royal palm Dates) وحضر الاجتماع مدير الجامعة يوم ذاك، وكان هو السيد/ نصر الحاج علي، أول سوداني بعد الإنجليز يحتل المنصب، ولفتُ نظر مبارك حيث كنت بجانبه وقلت المدير وصل، فما كان منه إلا أن ذكر قائلاً "من يريد التحدث يأخذ الإذن من رئاسة الاجتماع" وأعطى الفرصة لأحد الزملاء وبعدها رفع مدير الجامعة يده قائلاً "أنا عاوز اتكلم" فأعطى المبارك المبروك فرصة لطالب آخر. وبعدها لمدير الجامعة وكانت هذه هي التي قادت إلى فصله حيث شعر مدير الجامعة بأنه لم يقدر كما ينبغي.

ووجد عميد كلية الآداب يومها البروفيسور ج- هـ ليبون، أستاذ الجغرافيا البشرية بجامعة الخرطوم (Human Geography) وهو من أصل يهودي ليفصل مبارك قسم الله من السنة الثالثة بكلية الآداب ومن الجامعة، ويحرر لنا رسالة فيما بعد، عندما طلبناها منه ويذكر فيها أسباب الفصل بأنها أسباب سياسية.

وتوجد صورة من ذلك الخطاب مقدمه بالفصل الخاص بمراحل تعليمه. وعاد مبارك لجامعة الخرطوم لإكمال السنة الأخيرة – رابعة – بعد ثورة أكتوبر (1964م) الظافرة كما سماها الصحفي أحمد محمد شاموق .

الداعية مبارك بالمكتب التنفيذي / القيادي للحركة:-

وبعد تخرجه في جامعة الخرطوم، عمل مبارك بالتدريس، وكنا قد تخرجنا قبله بثلاثة أعوام، والتحقنا فور تخرجنا بالمكتب التنفيذي القيادي للحركة وثلاثتنا يومها :- هم عبد الله حسن أحمد، عبد الرحيم حمدي، وأحمد التجانى صالح، ثم نقل عبد الله حسن أحمد إلى الجنوب وبقيت وحمدي بالمكتب إلى أن تم تنسيب القيادة الجماعية للحركة، نظراً لأن المراقب العام للحركة كان سجينا وراء القضبان وهو الأستاذ المحامي/ الرشيد الطاهر بكر. وانضم مبارك إلى المكتب التنفيذي عام (1967 م) بعد عودته من الأقاليم حيث كان يعمل معلماً بمصلحة الشئون الدينية يدرّس اللغة الإنجليزية، بينما كان تخصصه وحبه للجغرافيا أكثر من أي مادة أخرى.

وفي إبريل عام (1968م) كلف المكتب التنفيذي – القيادة الجماعية للحركة – ثلاثة من أعضاء لتمثيل الحركة الإسلامية السودانية "جماعة الإخوان المسلمين" لتمثيل السودان في مؤتمر عالمي لحركة الإخوان المسلمين بشعبها المختلفة في إحدى البلدان العربية.

كان مبارك قسم الله واحداً من الثلاثة وثانيهما عبد الله حسن أحمد، نائب أمين عام المؤتمر الشعبي اليوم، وثالثهما شخصي – من رواد الحركة ومسئول الطلاب بالمكتب التنفيذي يوم ذاك. كلفنا ثلاثتنا بتمثيل الجماعة/ الحركة في ذلك المؤتمر الدولي، وكانت بداية للتعارف على البعد الحركي الدولي والآفاق الجغرافية لامتداد الحركة في الوطن العربي ووجدنا أنفسنا أصغر ثلاثة أعماراً بين مجموعة من العلماء الأجلاء، والقادة والمفكرين والدعاة والفقهاء الإسلاميين. وكنا مصدر تعجب ودهشة لكثير من أولئك القادة، بدقة التنظيم وحنكة التجربة وتأصيل وتأطير العمل وابتكار فكرة القيادة الجماعية، وفوق كل ذلك إنجازات الحركة ولاسيما على الصعيد الطلابي والعمالي.

ومن هناك انفتح الداعية مبارك على العمل الإسلامي خارج الحدود، حتى أتيحت له فرصة العمل بيوغندا، مع الأستاذ/ محمد عبد الله جار النبي حيث صقلت مواهبه واستعداداته الفطرية وازدادت خبرته ومعارفه المكتسبة، وبرزت على سطح الفكر الحركي قيام "منظمة الدعوة الإسلامية".

إن تجربة العمل الدعوي في عهد الصبا والشباب والجامعة خاصة، تضفي على الأخ الحركي مهارات جديدة مكتسبة، بالإضافة إلى ما لديه من استعدادات فطرية، طبيعية ولدتها بها أمه وأنعم الله بها عليه كما وإنها تشحذ في الشباب همة العمل والعطاء والتضحية ونكران الذات، وقد كانت هذه هي بعضاً من صفات الداعية مبارك قسم الله وسمتاً له، حيث كان يبدأ يومه العملي بعد صلاة الصبح وحتى الثانية عشرة عند منتصف الليل.

وأذكر أن أحد الأخوة كان يريد مقابلته ولم يوفق بالمكتب حيث كان هو كثير الحركة والتجوال.

فقال لزميل له دعنا نداهمه وقت الغداء في منزله بالثورة الحارة التاسعة "قُم" كما يسمونها، ولعل طالب المقابلة هو الأستاذ/ فتحي خليل نقيب المحامين السودانيين، فاتصل تليفونيا بمنزله وطلب أن يعطوه مواعيد حضوره للغداء معه، فردوا عليه : "والله نحن ما بنتذكر متى تغدى معنا المبارك في البيت".

الغداء في البيت عنده "ترف" سبحان الله ولله درك من قائد فذ وداعية كبير يا أبا عمار وكأني بك بخلاف من أخلاف الصحابة رضوان الله عليهم وجدت في زمان غير زمان الصحابة.

نسأل الله أن يتقبل منه جهده، وفكره وعرقه ودموعه، فقد كان صواماً، قواماً، وحركيا دؤوباً، ودوداً، ولطيفاً دائماً يحدث نفسه بالجهاد والمجاهدة، ومستعداً له، مجيدا لف مراوغة الأعداء، تجده دائماً مبتسماً مع الأصدقاء محترماً للكبار حتى إن اثنين من أعيان مدينة كوستي ظل لسانهما في كل مجتمع ومحفل يقول عندما يلتقيانه أو يلتقياني : "أنا – غير أولادي ما عندي إلا مبارك قسم الله وأحمد التجاني صالح".

كانا هما وكل في طريقه، الشيخ/ المنصوري رجل الأعمال ومصطفى الزين العوضي تاجر متجول، رحمه الله رحمة واسعة.

ذلكم هو مبارك قسم الله، وتلك ملامح من قاعدته الثقافية والفكرية والحركية، التى شكلت أبرز معالم عصره الذي نشأ وتربى فيه والذي انطلق منه صاروخاً وداعية، يعلى بفضل الله وتوفيقه دعوة الحق، وكلمة الحق قنبلة يدك بها حصون الباطل وكلمة حق في وجه كل سلطان وأمير جائر.

هوامش في عصره وبيئته :

وعندما انتقل المرحوم مبارك قسم الله من كوستي إلى أم درمان، مدرسة التجارة الثانوية، كانت المدرسة بأم درمانن بالقرب من المحطة الوسطى والتي بها "سوق الموية" وبالقرب منها أيضاً سينما برامبل – أفلام كاوبوي دي جانقو ورامبو تمام – ومن ناحية أخرى زقاق أبو صليب، مستنقع العاهرات وبائعات الهوى والسكارى والحيارى، وهناك في "سوق الموية" السماسرة والشعراء "والركيبين" لاعبي القمار والطاولة والضمنة، وغيرها من المغريات والموبقات وشتى صنوف الهوى واللهو غير البريء والبريء.

كما كان بالمدرسة مجموعة من هواة الطرب والكورة وأذكر منهم واحداً من أعز أصدقائه – توأمه مبارك اسحاق الأنصاري، وعلى الرغم من معالم تلك البيئة المعادية للدعاة والصالحين والمصلحين وسالكي الطريق غير طريق الاستقامة إلى الله، ظل مبارك قسم الله مشدود البوصلة إلى بيئة أخرى، قوامها الرواد والصناديد من الرجال، في نادي أم درمان الثقافي والذي بدأ بحي القلعة جنوب مسجد الشيخ قريب الله والأقرب من حي الخنادقة، شمال ود أرو، ثم انتقل إلى شارع السيد/ على، بالقرب من منزل الزعيم إسماعيل الأزهري.

وفي ذلك الجو العائلي، والملائكي ومع تلك الصفوة من الرجال الأوفياء والأطهار، عاش مبارك معظم ليالي الأسبوع وخاصة عطلة نهاية الأسبوع الخميس والجمعة، وأصبحت زيارة النادي للتعرف على الأخوة والمساهمة في نشاط الشعبة هي ديدنه وشغله الشاغل، وعندما يعود إلى كوستي – ينخرط في عمل اتحاد طلاب منطقة كوستي وشعبة كوستي.

من أم درمان إلى الجريف غرب عبر جامعة الخرطوم :-

كنت قد ذكرت أن من الذين تعرف عليهم المرحوم مبارك، السيد/ عمر الطاهر ، مقاول بناء من الجريف غرب، وعندما بدأ نشاطه بالجامعة وخارج الحرم الجامعي، كانت الجريف هي المربط والمرفأ والمسرح للنشاط الثقافي والتربوي خارج الجامعة، حيث نقلنا الأخ الكريم/ عمر الطاهر وهناك تعرفنا - مبارك وشخصي – على خيرة إخواننا في الله بالجريف غرب، من القلعة، وفريق الحاج والقراجيج والشيطة، وكانت الرحلة يوم الخميس عصراً بعد الغداء إلى الجريفات والعودة يوم الجمعة قبل المغرب، سيرا على الأقدام، في أرض كلها فلاة وبلدات لأهالي الجريف، العدار فيها يغطي أطول إنسان سوى من الدينكا أو الشلك.

وتعرفنا بالجريف على أخوة أفاضل منهم المرحوم دكتور/ مصطفى الرشيد ، والمرحوم مساعد الحكيم/ المصطفى الصديق ، المرحوم/ مقاول قسم الله حسن ، والمرحوم/ حجازي والمرحوم الحاج حسن الحاج ، وبالطبع ناظرنا في المدرسة الوسطى بكوستي المرحوم/ الطيب عبد الله يعقوب. كما تعرفنا على أخوة لنا أمد الله في أعمارهم، شيخ إدريس ، وعمر الطاهر ، وعمر سليمان ، ود/ أبو القاسم الهادي – استشاري الأنف والأذن والحنجرة، والأمين الشايقي ، والطيب الصديق ، وعبد المنعم أحمد ياسين ، وفي مقدمة كل أولئك – أسبغ الله عليه شفاء عاجلاً وكاملاً- الأخ السر عثمان عبد القادر ، حيث كانت داره "دار الأرقم" هي دار احتضاننا ومحطة ترحالنا واستضافتنا والحفاوة بنا، ومقراً للعديد من ضروب أنشطتنا بقيادة الداعية القوي مبارك قسم الله زايد. كما كانت الجريق هى منطلق رحلاتنا وكتائبنا وندواتنا وتجنيد الدعاة من أهلها للانخراط في صفوف حركتنا، وكلها أنشطة في مجال البناء والتكوين لأعضاء الحركة النشطين والعاملين لهم ولأسرهم وأهليهم ومعارفهم.

لم يكن المرحوم مبارك قسم الله يلتفت وراءه، أو يمينه أو يساره، وهو يجر القاطرة من الجامعة إلى الجريف ثم إلى بحري ثم إلى أم درمان وحتى كاب الجداد ظلت تردد على شفتيه وهو حريص على أن يصلها ويبلغ دعوة الله إلى الطريق المستقيم إلى أهل كاب الجداد.

هذه البيئة الأخوية وذلك المجال الحركي في أطر المنهجية التنظيمية، ومعايشة الناس والاهتمام بأمورهم، هي البيئة التي عجمت عود المرحوم مبارك قسم الله، وصلبت مواقفه في الحق وكما أشرنا فهو أصلاً من قبيلة العبابدة والتي عرفت بأنها من القبائل السودانية ذات أصلب العناصر عوداً، وأقواها شكيمة، وأمضاها عزيمة وأقدرها للأرض فلاحة، كما هو معروف عندنا في بحر أبيض ابتداءً من القطينة، مروراً بالديوم والكنوز والكوة والشوال وقلي وكوستي والجبلين والرنك وحتى ملكال.

لقد ذكرنا أن الداعية مبارك رحمه الله، عاش صباه وهو بالسنة الثالثة، قبل النهائية بمدرسة كوستي الأهلية الوسطى، في بيئة عرفت بالصراع الأيديولوجي والفكري والسياسي، بين الإسلاميين واليساريين – الشيوعيين .

كان لذلك الصراع دوره وأثره على شخصية مبارك قسم الله من حيث اكتساب مهارات، وصقل مواهب وقدرات، واستنباط أساليب عمل في تعدد بيئات العمل الحركي.

كما نعمنا مع السيد/ مبارك ونحن في جامعة الخرطوم بمجموعة من القيادات الطلابية الحركية وخاصة الإسلاميين وغير الإسلاميين، ومن الإسلاميين أمثال الأستاذ/ /علي محمود حسنين – المحامي وشقيقه د/ /عثمان محمود حسنين، والشهيد د/محمد صالح عمر ، والبروفيسور د//جعفر شيخ إدريس والبروفيسور د//إبراهيم أحمد الحاردلو، والبروفيسور د//الجزولي دفع الله، والبروفيسور د//عبد الله سليمان العوض، والبروفيسور د//مصطفى خوجلي، ومولانا القاضي/ /محمد إدريس، والمرحوم القاضي الشرعي/ /البكري البيلي، والمرحوم السفير /عمر عباس عجبنا، والصديق د//عبد الوهاب عثمان شيخ موسى – وزير المالية والاقتصاد الأسبق حيث كان زميلاً للمرحوم مبارك قسم الله يساكنه الغرفة والمهندس/ /كمال على محمد أحمد، وزير الري الحالي والأستاذ/ /عمر طه أبو سمرة، وغيرهم في الزراعة والبيطرة د/ محمد البشير مفرح، ود//عمر أحمد بشير قطبي، و/عبد الحميد بيومي والد المذيعة كوثر بيومي وغيرهم في مجال العمل الطلابي والمجلس الأربعيني لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ولجانه التنفيذية المتعاقبة والمكتب التنفيذي لطلاب الجامعة ومكتب الثانويات.

ولقد سعدنا كثيرا واستفدنا من التجارب القيادية لتلك المجموعة في مجال العمل الحركي مما أهلنا للمكتب التنفيذي القيادي لحركة "الإخوان المسلمون " بالسودان.

عطاء بلا حدود، حتى الموت :

لقد استمر عطاء المرحوم مبارك قسم الله متصلاً ومتواصلاً بلا انقطاع متدفقاً جارفاً وجارياً ومنتشراً بلا حدود حتى قامت ثورة أم انقلاب ؟ 25/مايو /1969م بقيادة المشير/ جعفر نميري.

وتم الاعتقال التحفظي ثم السياسي لقيادة الحركة من رجالات الصف الأول والثاني وادخلوا في ضيافة سجن كوبر، فبينما نعمنا نحن بالمعاملة الخاصة وكان ذلك في الجزء الشرقي من السجن وبالقرب من الزنازين الشرقية والمقصلة للذين حكم عليهم بالإعدامن كان المرحوم مبارك وآخرون من قيادات الصف الثاني بالحركة "حوش المديرية" لأن غرف السجن وعنابره قد ضاقت بالمعتقلين السياسيين.

وكان حوش المعاملة الخاصة، يضم من قادة العمل السياسي بالسودان ومن ألوان الطيف السياسي السادة :

1. إسماعيل الأزهري : رئيس الوزراء وقائد مسيرة تحرير السودان وطني اتحادي – غرفة لوحده تنصب عليها أشعة الشمس من السادسة صباحاً حتى الخامسة مساءً إلى أن توفاه الله فيها.

2. الشيخ ميرغني حسين زاكي الدين – رحمه الله حزب أمة.

3. السيد محمد داؤود الخليفة – حزب أمة (يسكنان غرفة واحدة).

4. الأستاذ الرشيد الطاهر بكر – مراقب عام الإخوان المسلمين سابقاً (19551965) ثم وطني اتحادي.

5. الأستاذ عبد الماجد أبو حسبو – وطني اتحادي (يسكنان غرفة واحدة).

6. السيد كلمنت امبورو – توفي حزب جبهة الجنوب.

7. السيد هنري لوقالي – توفي حزب جبهة الجنوب. (يسكنان غرفة واحدة).

8. الأستاذ عطية محمد سعيد – أخ مسلم – أطال الله عمره.

9. شخصي – أحمد التجانى صالح أخ مسلم (يسكنان غرفة واحدة).

وكان إلى جانبنا من الجهة الغربية بسجن كوبر مجموعة ضمت كل من د/ حسين الترابي وكان أمين الحركة والجبهة والأستاذ/ صادق عبد الله عبد الماجد نائبه، الأستاذ/ ياسين عمر الإمام، الأستاذ/ ربيع حسن أحمد، – مستشار قانوني، والأستاذ/ عبد الرحيم حمدي، – وزير المالية الأسبق – وذلك قبل أن ينقل كل من الأستاذين/ صادق عبد الله عبد الماجد وعبد الرحيم حمدي، إلى مدنى، ثم ربيع حسن أحمد، وعبد الرحمن المصري، إلى بورتسودان.

بينما كان حوش الطوارئ منبراً للنقاش الهادي وللتثقيف والمدارسة والتوعية، ظل المرحوم مبارك في حوش المديرية يرفع معنويات الأخوة من المعتقلين ويحفظ القرآن ويعلمه. "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" حديث شريف.

إن مبارك قسم الله عاش في العصر الذهبي للحركة الإسلامية السودانية، حيث شهد وعايش أنشطة البناء والتكوين مما شكل أمامه قاعدة صلبة للبناء والتكوين والانتشار من دعاة مخلصين قدموا النماذج الممتازة للإخاء والأخوة والتفاني والإخلاص في قيادة العمل الحركي.

وقد أدى ذلك إلى أن يساهم المرحوم مبارك قسم الله بجهد كبير في بناء الصرح العظيم للحركة الإسلامية ووضع أسس سليمة للانتشار وللعلاقة فيما بين الجامعات والمعاهد العليا وما بين الشعب الخارجية سواء في أطراف العاصمة أو الأقاليم خاصة على أصعدة الكتائب والرحلات وتبادل المعلومات والخبرات وتلاقح الثقافات وتعددها وتأكيد معاني التضامن والأخوة والوحدة والتكافل.

نعم كان بحق جيلاً فريداً، تمتع بكل ما في التربية الإسلامية من شفافية ومعاني ومزايا، وتزود منها بكثير من الطاقات والعزمات الإيمانية للمجاهدة والتضحية.

ولذا لما يكن غريباً أن يكون من مواليد هذا العصر، وفلذات كبده وأبنائه، عناصر صلبة قوية مجاهدة، صابرة محتسبة من أثال مبارك قسم الله وغيره من الذين أسسوا قواعد الانطلاق للمؤتمر الوطني العملاق في البلد العملاق حسب ما جاء في مخاطبة الأستاذ/ علي عثمان محمد طه في الجلسة الختامية للمؤتمر الوطني في يوم الجمعة 23/نوفمبر/2007م.

ومن الطرائف في المؤتمر العام للحركة عام (1969م) والذي انعقد في مارس / إبريل بالخرطوم بحري النادي الثقافي حيث استقطب الخلاف حول منهج العمل الحركي الأخوة القادة إلى كفتين – كفة تنادي بأن يكون التوجه الرئيسي للحركة سياسي وأخرى ترى أن يكون تربوي، كان المرحوم من مؤيدي كفة ترجيح التربية على السياسة ، وإزاء ذلك تم ترشيحه ليكون أميناً عاماً للحركة ولمنبرها السياسي يوم ذاك "جبهة الميثاق الإسلامي" ولكنه اعتذر بلباقة وفاز مرشح الكفة الأخرى لغياب الشهيد/ محمد صالح عمر خارج البلاد في إعداد معسكر تدريب المجاهدين خارج السودان.

إن مجموعة الرواد والقادة الذين قادوا العمل الفكري، الدعوي والحركة في بداية تكوين الجماعة (19491953م) ثم (19541969م) وسمو به نحو العلياء وسمقت به نفوسهم إلى عنان السماء، هم الذين وجدهم مبارك قسم الله أمامه واقتفى أثرهم، وتتلمذ عليهم وانخرط مؤخراً معهم، وجدهم مبارك بلدوزرات في لجان نادي أم درمان الثقافي، وكاسحات ألغام بجامعة الخرطوم والمعاهد العليا وتراكتورات في شعب الأقاليم وفي سائر التنظيمات وفئات الضغط والمنظمات الفئوية – المرأة والعمال والطلاب والشباب – والطوعية، وتكونت منها العناصر الصلبة للتنظيم الأم، والتنظيم النواة، وكان مبارك واحداً منهم يتقدمهم عند المواجهات والقتال والتضحية، وتتثاقل أقدامه عند الغنيمة والفوز والوفرة والشهرة – رحم الله مبارك قسم الله وتقبل منه وأنزله الفردوس الأعلى، آمين.

خاتمة

وختاماً، أحقاً من التكامل إلى التآكل ؟ اللهم لا تجعلنا وحركتنا كذلك بل اهدنا إليك صراطاً مستقيماً وأنقذنا من التآكل إلى التكافل والتفاعل حتى نبلغ التكامل والإتقان والإحسان.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ولا تجعلنا اللهم في تلك الزمرة والعصابة والتي قلت فيها في كتابك الكريم {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} الآية 23 من سورة الفرقان. آمين يا رب العالمين.