الحركة الإسلامية في الجزائر والعمل السياسي (1)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحركة الإسلامية في الجزائر والعمل السياسي (1)
من المغالبة الشاملة إلى التحالف مع بوتفليقة


بقلم: رياض حاوي

مقدمة

كتاب جيل كيبل

يخطئ كثيرا هؤلاء الذين يتصورون أن انتشار الأفكار السياسية التي تستند إلى المرجعية الدينية أمر يتميز به العالم الإسلامي دون غيره، ذلك أن هذا النوع من الأفكار قد عزز حضوره حتى في المجال الغربي أو بتعبير مالك بن نبي في محور موسكو واشنطن.

فالخطاب الديني الذي يتجه إلى الحقل السياسي والإجتماعي ويتعاطى ما ظواهر صناعة القرار الداخلي والخارجي بتأثير على الحقل السياسي والساعي إلى إعادة هيكلته بما يتوافق مع المرجعية الدينية بات أمرا حاضرا بقوة ليس فقط في العالم الثالث عموما والإسلامي خصوصا ولكن أيضا في العالم الغربي.

ولذلك يفتخر المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية بالرئيس جورج وولكر بوش لأنه قبل أن ينام يقرأ صفحات من الكتاب المقدس ليستلهم الإرشادات الربانية في القرارات المصيرية.

ولا أحد منا لا يعرف رجل الدين الصيني "دالي لاما" المقارع لآخر معاقل الشيوعية والحاصل على جائزة نوبل للسلام، والذي جهد في تطوير أشكالا من الممارسة الدينية البوذية كي تستوعب تغيرات المدنية الحديثة، داعيا إلى إيجاد البوذي المعاصر، الذي يجمع بين العقيدة والتحديث المدني.

الديانات الثلاث والعمل السياسي

الحركة الإسلامية في الجزائر والعمل السياسي

قد يبدو الباحث الفرنسي جيل كيبل واحد من أهم الدارسين للظاهرة الدينية الملتبسة بالفعل السياسي.

وفي كتابه المشهور :"انتقام الله"(1) والذي تضمن عنوانا فرعيا، وهو المسيحيون واليهود والمسلمون وإعادة فتح العالم، حاول كيبل أن يرسم لوحة للعالم تبرز دور الدين في السياسة وذلك بقياسها في نماذج معاصرة مأخوذة من حقول هذه الأديان، والتي يجمع بينها اعتبار الشريعة تزاوج بين الزمني والروحي، ومن ثم تشريع الانخراط في معترك السياسة بأشكالها المعاصرة بناء على مقولات دينية بهدف حيازة السلطة وإضفاء الطابع الديني عليها بفرض الشريعة الإلاهية تحقيقا لمقولات الدين نفسه في هيمنته على الإنسان.

ومن مفارقات الحداثة الغربية أنها بدأت مسارها بنقد الدين ومهاجمته وكان الانتقاص من الكاثولكية في أواسط القرن العشرين موضة يلتف حولها الشباب، وظهرت سلسلة وثائق ضد الدين(2) أو المكتبة ضد رجال الكنيسة(3) ومن أشهر كتبها "مطاردة الغربان"(4) والتي كانت تؤسس للحداثة دون الدين في محاولة لاستلهام وإعادة قراءة تراث عصر الأنوار وإبراز العقلانية (Rationalite) على أنها المكافئ التاريخي للديني والعقدي، لأن العقلانية الحداثية تطرح مشروعا للإنسان انطلاق من الإنسان وليس انطلاقا من الغيب، بخلاف الطرح الكنسي الذي يجعل من الغيب مصدرا لتنظيم علاقات البشر.

لكن الحداثة المتطرفة التي أقصت الدين تراجعت في المجال التداولي الغربي، وفسحت المجال لظهور الدين كعامل تغيير وحامل لمشروعات سياسية تستلهم مرجعيتها من النص المقدس، سواء كان من العهد القديم أو العهد الجديد أو القرآن.

ذلك هو الناظم المؤسس لأطروحة جيل كيبل في كتابه انتقام الله والتي حاول أن يدلل عليها من خلال استعراض نماذج تطبيقية تمثل الأديان الثلاثة، بداية من انتصار الفعل الديني المسيس أو الفعل السياسي المتدين في انتخابات البيت الأبيض في 1976 بفوز القس جيمي كارتر، وفي السنة التي تليها نجاح مناحيم بيغن في في الانتخابات العامة الاسرائلية وفي 1978 تعين كارول واجتيلا بابا الكنيسة الكاثولكية في الفاتيكان وفي السنة التي تليها عودة الخميني إلى طهران وسقوط نظام الشاه.

هذا الهجوم الديني من فوق، او التغيير من خلال السيطرة على الدولة يتزامن مع فعل ديني مسيس آخر يعتمد الاستراتيجية العكسية من خلال التغيير من تحت، أو التغيير من خلال إحداث التراكم النوعي في الأفراد المدمجين في الجماعة الدينية ذات المنزع السياسي، وذلك بالهيمنة على المجال الاجتماعي والثقافي واختراق بنية المجتمع وتحويل ولائه من الزمني إلى الديني.

وهنا أيضا يتحفنا كيبل بنماذج متعددة تمثل الأديان الثلاثة بداية بتفكيك الخطاب الديني لجماعة التبليغ الهندية الباكستانية ذات الحضور البارز في أوساط الجالية الإسلامية في الغرب، بسبب منزعها الطهوري، القائم على تنقية القلب والتي تؤدي تلقائيا حسب الخطاب التبليغي إلى تغيير التاريخ، مرورا بنماذج الأصوليين أو الأنجيليين في الولايات المتحدة الامريكية، وخصوصا ظهور القنوات الدينية التبشيرية التي صنعت وجوها جديدة تستقطب المواطن البسيط بعد أن كانت تستقطبه وجوه لاعبي الرياضة أو ممثلي التلفزيون والسينما، كما تعرض لتجربة الجماعات الدينية اليهودية الوطنية أو الأرثوذكسية (جماعة loubavitch) في الأراضي المحتلة وجماعات المسيحية الكاثولكية في روما، التي تطورت كرد فعل عملي على امتداد الإلحاد والأفكار الشيوعية في ايطاليا.

الخمينية: أكثر التمثلات السياسية تخلفا

الخمينية: أكثر التمثلات السياسية تخلفا

نموذج الخميني في ما سماه جيل كيبل بالتغيير الثوري يستجيب لشروط الفرضية التي وضعها منذ البداية وهي التباس الديني بالسياسي، ذلك ان الميثولوجيا الشيعية التي تمزج بين شخصية الإمام التاريخي (الخميني) بالإمام غير التاريخي (المعصوم الغائب) وتجعل من الأول نائبا عن الثاني في تصريف شؤون الخلق من خلال مقولة "ولاية الفقيه" أكثر تماثلا مع النماذج الدينية التي اقترحها علينا من الأديان الأخرى، وهذا ما يفسر اغفاله عن عمد تجارب الحقل الإسلامي السني التي كانت حاضرة بقوة في الإعلام الغربي والفرنسي تحديدا لانها لا تتوافق مع أصل فرضية كيبل أي أنها تكسر فرضية كيبل التي يؤسس عليها أطروحته.

فتجربة الجبهة الإسلامية للانقاذ وحركة حمس والإصلاح في الجزائر وتجربة حركة النهضة في تونس وحركة الإخوان في مصر والأردن وحركة الرفاه في تركيا وحركة الجبهة القومية الإسلامية في السودان وتجربة الحزب الإسلامي الماليزي الذي له من العمر أزيد من نصف قرن من الحضور الدائم والمشاركة الفعالة في إثراء الفضاء السياسي هذه النماذج تخل بشكل حاد بفرضية جيل كيبل ومن ثم ينكشف تحيزه غير الموضوعي من خلال رغبته في تعميم استنتاجاته على الظاهرة الدينية برمتها من خلال إسقاط وإهمال النماذج الأخرى والتركيز على أكثر التمثلات السياسية تخلفا في الحقل الإسلامي المعاصر أقصد تمثل "ولاية الفقيه"، والذي هو كما نعلم انفلات ايديولوجي من طوق نظرية الامامة الشيعية بكل منازعها الكهنوتية، وطوق الغيبة الكبرى بكل ارتداداتها بإيقاف التاريخ عن الحركة إلى غاية عودة الإمام الغائب.

فالخمينية في الخطاب الغربي تستجيب لمفهوم التأثير السلبي للدين على حياة الإنسان المعاصر ولذلك يتم التركيز عليها كبديل عن الخطاب الديني الذي تقدمه النماذج الأخرى، التي تتأسس في الخطاب السني الإسلامي على تطوير نظرية المقاصد والمصالح المرسلة وتحديد مجال الثابت والمتغير في خطاب الشريعة، وتكيف العمل السياسي كجزء من مصالح الإنسان المعتبرة التي تقع في مجال الفعل الإنساني تقديرا وممارسة وتأطيرا في نطاق ضوابط الشريعة وحدودها، وهذا ما لا يفهمه جيل كيبل، ومن ثم يتجه إلى إلغاء هذه النماذج الثرية وبعضها مارس السلطة كليا أو جزئيا(5) خوفا من التوصل إلى استنتاجات تعاكس أساسا الفرضية فيفضل تغييبها مطلقا.

ولعل مشكلة الكتابات الغربية هي الانتقائية غير العلمية وخضوعها المركزي لمقولات غامضة تشكل البديهيات التحليلية التي يقف عندها كل الكتاب وتحكم مساراتهم التحليلية.

وقد يفيدنا هنا أن نشير إلى الفرضية الرينانية، التي تحولت إلى بديهية عندما قال في محاضرة في 29 مارس 1889 :"الإسلام هو الاتحاد الغامض للروحي والزماني، إنه يمثل سيادة العقيدة" بينما فرضية الحداثة الغربية منذ عصر الأنوار أن الزمني والروحي لا يتحدان ولا يشتبكان.

فإذا حدث هذا الاشتباك في نماذج واقعية في تركيا مع أربكان منذ أواسط السبعينات، وفي السودان مع الترابي، وفي ماليزيا مع فاضل نور وعبد الهادي أوانغ وانور إبراهيم فكل هذا يتم إسقاطه خدمة لأغراض التحيز المعرفي ويتم استبدال كل هذا بالنماذج المشوهة خدمة لمسبقات الدراسة وفرضياتها حتى ولو كانت غير قادرة على استيعاب النماذج التاريخية الواقعية التي تمثل الأغلبية.

وهذا النوع من التفكير الغربي يعجز عن فهم خصوصيات الآخر وتميزاته، عندما ينزع دائما إلى قياسه على ذاته هو ومن خلال المحددات المعرفية لمقولاته، مع العجز في الانتقال إلى المجال المعرفي للآخر لفهم المقولات في فضائه الثقافي والاجتماعي والتاريخي.

الحركة الإصلاحية بين العمل السياسي والعمل الحزبي

الحركة الإصلاحية بين العمل السياسي والعمل الحزبي

لعل الاستطراد السابق يفيدنا في تحديد نظامية المقولات التي سنستند إليها في الاستمرار في تحليل الظاهرة الإسلامية في الجزائر وخصوصا مظهرها السياسي.

فنحن نخرج من الحقل الدلالي الغربي للمقولات وننتقل للحقل الإسلامي وحيث السياسة جزء من تصرفات الإنسان ومن ثم محكومة بضوابط الشريعة.

وإذا كان تركيزنا أيضا سيكون على نطاق الجزائر لمحاولة فهم تطور الخطاب الإسلامي السياسي منذ 15 سنة تقريبا وتحديدا منذ الإعلان المتسرع والمرتبك عن تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 18 فبراير 1989 بمسجد السنة في باب الواد بالجزائر العاصمة، قصد الوقوف على النظاميات المعرفية التي تحكمت في الخطاب السياسي الإسلامي بمختلف تلاوينه وتمضهراته وفي محاولة لاستشراف مستقبله في المشهد الجزائري الذي لا يزال مفتوحا على عدة خيارات تحتاج منا إلى وقفة تأمل واعتبار.

العلاقة بين الحركة الإسلامية الحديثة والعمل السياسي أول ما تتجلى في خطاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وتجربتها التي يعتبرها قطاع كبير في الساحة الإسلامية الجزائرية الجذر المؤسس للتعبير الحديث عن الإسلام ضمن نطاق الهم الاجتماعي والسياسي. حددت جمعية العلماء المسلمين مشروعها التغييري والإصلاحي للمجتمع الجزائري إبان الحقبة الاستعمارية بأنه يرتكز على التربية القرآنية والتأهيل الاجتماعي واتخذت لذلك شكلا معاصرا بتأسيس جمعية مدنية وفق مقررات القانون الفرنسي، ورفض العلماء عن قصد تأسيس حزب سياسي، بعد ان حددوا رأس الداء في نظرتهم وهو الجهل والأمية والبعد عن تعاليم الدين، وان رأس الدواء هو التعليم والتربية وارساء قيم الفضيلة.

وفي هذا يقول الإمام ابن باديس رحمه الله: " إننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة وتمسكاً بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبثّ الخير والثبات على وجه واحد والسير في خطّ مستقيم، وما كنّا لنجد هذا كله إلا فيما تفرَّغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة.

ولو أردنا أن ندخُل الميدان السياسي لدخلناه جهراً، ولضربنا فيه المثل بما عُرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقُدنا الأمّة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيءٍ علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نَبْلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه، ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمّة: " إنّك مظلومة في حقوقك، وإنّني أريد إيصالكِ إليها"، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: "إنّك ضالة عن أصول دينك، وإنّني أريد هدايتَك"، فذلك تلبِّيه كلها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها. وهذا كله نعلمه، ولكنّنا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيَّنا، وإنّنا ـ فيما اخترناه ـ بإذن الله لَمَاضون، وعليه متوكِّلون "(6).

في هذا النص الباديسي الرائع يكشف رائد الحركة الإصلاحية عن منهجه في التغيير بكل وضوح وحيث انه يفاضل بين الدعوة إلى المطالبة بالحقوق التي تمثل الغاية من العمل الحزبي المطلبي في عهد الاستعمار وبين تعهد المجتمع وتربيته كي يتعود على القيام بواجبه من تلقاء نفسه.

وهو يعلم سهولة الطريق الحزبي وعنفوانه وصعوبة طريق التعليم ومشاكله ولكنه يرابط في هذا الميدان الحيوي لأنه يرى بأنه الجذر المؤسس للتغير الحضاري الشامل.

وفي نص آخر يستعرض الإمام ابن باديس منجزات هذه الخطة الدينية الإصلاحية مقارنة بفورة العمل الحزبي المطلبي فيقول

نتائج الخطة الإصلاحية في ميدان اللغة وإحياء اللسان العربي

"حُوربت فيكم العُروبة حتى ظُنّ أن قد مات منكم عِرْقُها، ومُسخ فيكم نُطقُها، فجئتم بعد قرن، تَصْدَحُ بلابِلُكم بأشعارها فتثير الشعور والمشاعر، وتهدر خطباؤُكم بشقاشقها، فتدكُّ الحصونَ والمعاقلَ، ويهز كتَّابكم أقلامها، فتصيب الكِلَى والمفاصل.

نتائج الخطة الإصلاحية في ميدان الإصلاح الديني

وحورب فيكم الإسلام حتى ظُنّ أن قد طُمست أمامكم معالمُه، وانتُزعت منكم عقائدُه ومكارمُه، فجئتم بعد قرن، ترفعون عَلَم التوحيد، وتنشرون من الإصلاح لواء التجديد، وتدعون إلى الإسلام، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لا كما حرَّفه الجاهلون، وشوّهه الدّجّالون، ورضيه أعداؤه.

نتائج الخطة الإصلاحية في ميدان التعليم

وحورب فيكم العلمُ حتى ظُن أن قد رضيتم بالجهالة، وأخلدتم للنذالة، ونسيتم كل علم إلا ما يَرْشَحُ به لكم، أو ما يمزج بما هو أضرُّ من الجهل عليكم، فجئتم بعد قرن ترفعون للعِلم بناءً شامخاً، وتشيِّدون له صرحاً سامقاً، فأسستم على قواعد الإسلام والعروبة والعلم والفضيلة جمعيتَكم هذه؛ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

نتائج الخطة الإصلاحية في ميدان التربية والأخلاق

الحركة الإسلامية في الجزائر والعمل السياسي

وحوربت فيكم الفضيلة، فسِمْتُم الخسف، ودُيِّثتم بالصَّغار حتى ظُن أن قد زالت المروءة والنجدة، وفارقَتْكم العزّة والكرامة، فَرَئِمْتُم الضَيْم، ورضيتم الحَيْف، وأعطيتم بالمَقَادة، فجئتم بعد قرن تنفُضون غبار الذّل، وتُهَزْهِزون أسس الظلم، وتُهَمْهِمون هَمْهَمَة الكريم المحنَّق، وتُزَمْجِرون زمْجَرَة العزيز المهان، وتطالبون مطالبة من يعرف له حقًّا لا بدّ أن يعطاه أو يأخذه "(7).

وللبشير الإبراهيمي مقالة طريفة في التحذير من الحزبية التي تفرق وتشرذم الجهد التغييري وتكسره فقال يحذر الملتزمين بالدعوة الإصلاحية قائلا:" أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نَجَمَ بالشّر ناجمها، وهجم ـ ليفتك بالخير والعلم ـ هاجمها، وسَجَم على الوطن بالملح الأُجاج ساجِمُها، إنّ هذه الأحزاب كالميزاب، جمع الماء كَدَراً وفرّقه هَدَراً، فلا الزُّلال جمع، ولا الأرض نفع "(8)،

بل اعتبر الإبراهيمي في نقده اللاذع للتجربة الحزبية للحركة الوطنية أن أهم مظاهر ضعفها هو غفلتها عن ترقية الوعي الجماهيري فقال في نص يعتبر من روائع الإصلاحيين: " إنّنا نعدّ من ضعف النتائج من أعمال الأحزاب في هذا الشرق كله آتيا من غفلتهم عن هذه الأصول، ومن إهمالهم لتربية الجماهير وتصحيح مقوِّماتها حتى تصبح أمّة وقوة ورأيا عاما.."(9) وذلك بسبب اهمالهم للتعليم وجنايتهم عليه فيقول:" وفي باب الأعمال لم نر منهم إلا عملا واحدا، هو الذي سميناه: جناية الحزبية على التعليم والعلم.

هؤلاء القوم قطعوا الأعوام الطوال، في الأقوال والجدال، وجمع الأموال، وتعليل الأمّة بالخيال، ومجموع هذا هو ما يسمونه سياسية ووطنية … كثرت مواسم الانتخاب حتى أصبحت كأعياد اليهود، لا يفصل بعضها عن بعض إلا الأيام والأسابيع، وكان ذلك كله مقصودا من الاستعمار، لما يعلمه في أمّتنا من ضعف، وفي أحزابنا من تخاذل وأطماع، وفي مؤسساتنا ومشاريعنا العلمية من اعتماد على الوحدات المتماسكة من الأمّة، فأصبح يرميهم في كل فصل بانتخاب يوهن به صَرْح التعليم، ويفرّق به الجمعيات المتراصّة حوله، والتعليم هو عدو الاستعمار الألدّ لو كان هؤلاء القوم يعقلون ".

فكأن الأحزاب استعجلت النتائج دون أن تمهد لها الطريق وتهيئ لها الظروف ولذلك اعتبرها شر من الاستعمار نفسه ليس فقط في الجزائر ولكن في الشرق كله: " إذا كان من خصائص الاستعمار أن يُضْعف المقوِّمات ويُميتَها، ثم يكون من خصائص أغلب الأحزاب أنّها تهملها ولا تلتفت إليها، فهل يلام العقلاء إذا حكموا بأنّ هذه الأحزاب شرّ على الشرق من الاستعمار؟ ".

مفاصل التغيير المؤسسة للفعل السياسي

لقد لاحظ رواد وقادة جمعية العلماء أن الأولى هو الأخذ بيد الأمة وإخراجها من وحل الجهل والتخلف والأمية وهذا يشكل أولوية البرنامج التغييري، وفي نص الابراهيمي تشعر أن تأثير النعرات الحزبية قد انعكس سلبا على جهد الحركة الإصلاحية وخصوصا في ميدان التعليم بتشتيت جهود المتعلمين والمعلمين في مواسم الانتخاب التي مثلها بأعياد اليهود من كثرة مواسمها وتعدد مناسباتها دون ثمار مرجوة أو نتائج ملموسة.

وإذا كانت الحركة الإصلاحية قد اختارت عن وعي وإدراك عميق لواجبات المرحلة عدم تأسيس حزب بما فيه من نزوع نحو المطلبية المهلكة التي تفوت على الناس الانشغال بواجباتهم الاستراتيجية، فإننا نقف أمام إشكال آخر في التجربة الإصلاحية وذلك من خلال الأعمال السياسية غير المتدثرة بالغلاف الحزبي أي دون أن تكون تحت غطاء حزب سياسي، ومثال ذلك مشاركة العلماء بفعالية كبيرة في مشروع المؤتمر الإسلامي في 1936 بل تذهب بعض التحليلات التاريخية إلى التأكيد انهم أصحاب المبادرة في الدعوة إلى جمع صفوف الأحزاب والهيئات الجزائرية لتقديم مشروع المطالب للإدارة الفرنسية.

لقد كان ابن باديس وصحبه يراهنون على المفاصل الأساسية في حركة التغيير وعضوا عليها بالنواجد، وحاولوا التأسيس لفضيلة التكامل في جهد الحركة الوطنية في عهد الاستعمار وعدم المزاحمة على ذات المواقع مما يؤدي إلى تفكك الجهد الكلي للأمة واصطدام بعضه ببعض دون طائل.

ويذكر كبار تلاميذ ابن باديس رحمه الله وأخص منهم بالذكر الراحل زهير الزاهري والمرحوم احمد حماني كيف أن رائد حركة الإصلاح كان يوجه النابغين من التلاميذ للعمل في حزب الشعب الجزائري، ولعل أبرز مثال يعبر عن هذه التكاملية في جهد الحركة الوطنية نموذج الشيخ الدكتور عباسي مدني الذي هو النتاج المزدوج لجمعية العلماء التي تعلم في مدارسها، وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية التي تكون في صفوفها تكوينا سياسيا وكذلك الشهيد مصطفى بن بولعيد عضو اللجنة المركزية لحركة الانتصار ومدير مدارس الجمعية في الأوراس والذي يعد أحد العقول المهندسة للثورة التحريرية المجيدة.

الفعل السياسي حاضر بقوة في جهد العلماء وإن كان الفعل الحزبي متواريا تفضيلا للمرابطة في حقل من حقول التغيير بما يرونه من أولوية وأهمية.

إن الدرس الإصلاحي الأول من تجربة جمعية العلماء يقوم على تقدير جدلية العلاقة بين الفعل الإصلاحي والعمل السياسي من جهة والفعل الإصلاحي والعمل الحزبي من جهة ثانية.

ومن ثم لم تختصر جهود الحركة في العملية الحزبية المطلبية، وإنما أسست نظرتها على الاحتفال بما يخدم الفعل السياسي نفسه من خلال تأسيس إطاره المعرفي وإخراج الأمة من ظلمات الجهل أو بتعبير الإبراهيمي الراقي:" تربية الجماهير وتصحيح مقوِّماتها حتى تصبح أمّة وقوة ورأيا عاما".

وانطلاق الثورة التحريرية الكبرى في نوفمبر 1954 شكل محطة أخرى من محطات التكامل والتعاون بين أجنحة الحركة الوطنية التي انخرطت كل مكوناتها في جبهة التحرير الوطني من اجل تحقيق الهدف المشترك وهو طرد الاستعمار الفرنسي، وجمعت الحكومة المؤقتة للثورة التحريرية التي تأسست في 19 سبتمبر 1958 إطارات من كل أطياف الحركة الوطنية. (يتبع)

الهوامش

(1) Gilles Kepel, La Revanche de Dieu : chrétiens, juifs et musulmans à la reconquête de monde-Ed Seuil, col. Points actuels n°117, janvier 1991
(2) La Documentation anti-religieuse
(3) Bibliothèque anticléricale
(4) La Chasse aux corbeaux
(5) يمكن ذكر عدة نماذج كان من الممكن أن يعالجها جيل كيبل لولا التحيز، مثل جبهة الإنقاذ في البلديات 1990-1991، حزب الرفاه التركي في البلديات وتحالفات الحكومة، وتطورت بعد ذلك تجارب اخرى في الحقل السني مثل تجربة حركة حمس الجزائرية في المشاركة في السلطة منذ 1994 إلى الآن وحاليا تجربة حزب العدالة والتنمية، الجبهة القومية في السودان في التحالفات والإنقلاب، الحزب الإسلامي الماليزي.
(6) الصِّراط السَّوي، ( رقم15/ رمضان ـ 1352هـ).
(7) البصائر (رقم83/ رجب ـ 1356هـ).
(8) عيون البصائر (2/292).
(9) البصائر (العدد:4/ 13ـ شوال ـ 1366هـ ).

المصدر