الحريت الأساسية فى الإسلام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحريات الأساسية فى الإسلام


حمامه.jpg

الشيخ راشد الغنوشي

إن المتأمل في هذه المسألة قد يلاحظ تناقضا بين الأمرين، فالدين قائم على العبودية لله – وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون –الذاريات55. بينما الحرية تبدو على الضد من ذلك تماما، انطلاقا متحرّرا من كل قيد. إن هذا الفهم دعا بعض جماعات المسلمين إلى القول بأنه لا حرية في الإسلام .

وإذا نحن تجاوزنا المماحكات اللفظية، ودققنا النظر في طبيعة رسالة الإسلام ومقاصدها العليا، سيرتفع في غير عناء هذا التناقض المصطنع، ذلك ولئن كان الإنسان مستخلفا وليس إلها، وأن هذا الإستخلاف يفترض آمرا هو الله عز وجل، ومأمورا مكلّفا هو الإنسان، فإن هذا التكليف مشروط بتوفر شرطين في المكلف هما العقل والحرية، وهما الأمانة التي تشرف بها الإنسان وتنكبت عنها كلّ المخلوقات الأخرى."إنا عرضنا الأمانة على السّماوات و الأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان" الانبياء.

فالحرية مناط التكليف كما يقول علماء الأصول، وذلك أثر من آثار تكريم الله للإنسان – ولقد كرمنا بني آدم – وحمله الأمانة. هذا التكليف والتكريم يجعل للفعل الإنساني قصدا قائما على الإختيار بين عبادة الله عن وعي وإرادة، وبين التمرد على ذلك. قال تعالى بعد أن بيّن لعباده طريق الرشد من الغي "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" الكهف.

وقال معترضا على نبيه المحزون على إعراض قومه عن الإيمان " أفأنت تكره النّاس حتي يكونوا مؤمنين" وهو ما يفقد أعمال طاعة الله كل قيمة تعبدية إستخلافية إذا لم تكن صادرة عن إرادة واعية حرة مسؤولة، وهنا ينتفي بالضرورة التعارض الظاهري بين الدين والحرية، بل تصبح الحرية شرطا للتدين في حد ذاته.

والتدين الصحيح يعززها ويرتقي بها، على نحو تكون حرية الإنسان على قدر عبوديته، ذلك أن حرية الإنسان تختلف عن حرية باقي عناصر الكون، لما تتميز به من وعي واختيار،

يتجاوز ولا يخضع لمنطق الضرورة الآنية، و لكن يوازن بين الضرورة كحاجة وبين الإختيار القائم على الإلتزام المسؤول الذي يهتدي بالوحي، الذي يعطي الأمل والإمكانية للتحررمن الإرتهان للواقع وللغرائزوالإندفاعات، بل ترتقي عبادة الله بانسانية الإنسان نهوضا بواجب عمارة الأرض عبر منهج عبادي يصل حاجات الإنسان برضاء الله عز وجل .

لذلك كلما إزداد الإنسان عبودية لله ارتقي في معارج التحرر، وصار حرا أكثر لما يمدّه به الايمان والطاعة من طاقة تصعيد لدوافعه، وارتقاء باهتماماته، وتحكّم في ضروراته ورغباته، ومن تعبئة لفاعليته وتصليب لإرادته.

ولقد عبر البابا عن جهله بالإسلام حينما إدعي أن الإسلام ضد العقل والحرية، بينما كل ما في الإسلام معقول ومحرّر، ودعوة للتفكر والنظر في كل شيء، لأنه صادر عن الحكيم الفعال لما يريد.

فكل أفعاله سبحانه حكمة وعدل، فكيف يتصور أن يصدر عن الحكيم إلا ما هو حكمة وعدل ورحمة؟. لم يخطئ الحكيم ابن رشد الذي تعلّم عنه الغرب التراث الإغريقي حين عنون رسالته ب"فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال".

هل هو خال من الدلالة ارتقاء الإسلام بشعوب غاية في البداوة والتخلف مثل العرب والبربر والترك والكرد و الأفارقة في زمن قياسي الى مستوى استيعاب تراث الحضارات السابقة مثل حضارة الإغريق والروم والفرس وتطويرها، وبناء مدائن مزدهرة بالتجارة والعلوم والفنون وتختلط فيها كل الأجناس مثل بغداد وقرطبة وشيراز وسارييفو، هي فضاءات حضارية مفتوحة اجتذبت إليها الكفاءات من كل الملل و الأعراق ووفرت لها الشروط اللازمة للابداع مثل الحريات الأساسية وبالخصوص حرية الإعتقاد في وقت كانت أروبا راسفة في الجهالات ويتعرض للحرق أحياء في محاكم التفتيش من تجرأ على التعامل مع هذا التراث.

العبادت بوتقة تحرر

إذا تأملنا في العبادات الإسلامية نجدها تعبيرا واضحا عن قوة الإرادة، وتعزيزا لها بالتالي فهي مظهر تحرر وأثر له ومساعد عليه وشاهد له، فالصيام إمتناع إرادي عن المفطرات رغم الحاجة إليها، وهو مشهد رائع من مشاهد الحرية، مشهد أسرة متحلقة حول مائدة حافلة بأشهى الطعام ولكنها تمتنع في انتظار وقت الإفطار والجوع و العطش يضغطان عليها بشدة ولكنها تكبح جماح الرغبات. إنه مشهد انساني بامتياز لا نظير له في عالم الحيوان.

إنّ الإيمان والرغبة في طاعة الله والتقرب إليه هوما يحرر المسلم من الإرتهان للرغبات و الإندفاعات، ليس مطلوبا منه بالتأكيد كبت تلك الرغبات أو استئصالها ولا حتى تحقيرها والتأثم منها فقد ركبت فيه لأداء وظائف ضرورية للحياة، وإنما المطلوب أن يتحكم فيها ولا تتحكم فيه، أن يكون لها سيدا وليس عبدا، أن يملكها ولا تملكه، فيكون اشباعها وفق الضوابط الإسلامية هو ذاته عبادة , وكذلك فإن في الصلاة عامة وخصوصا صلاة الفجر مشهدا مهيبا وشاهدا على الحرية، عندما تدفع محبة الله وخشيته, الإنسان المسلم إلى ترك مضجعه والتوضؤ والتقرب إلى الله في جو روحاني يشحن الإنسان بمدد من الراحة والأمان والسكينة والقوة والسعادة تجدد همته، وتجعله قادرا على مواصلة مسيرة الكدح.

إن هذا المشهد لا يغيب الإنسان عن مشاكله، ولكن يعيد تركيب العوامل الفاعلة في ذاته بما يجعله مقبلا على الحياة، مؤمنا أن ربا يرعاه ويهديه فيصنع فيه من القوة والإندفاع والثبات ما يجعله قادرا على مواجهة الصعاب والتحديات مهما كان مصدرها .

كذلك فإن لنا في قصة النبي يوسف عليه السلام عبرة بما حققه من مثل رائع للشاب العابد في قدرته على ضبط اندفاعاته واستعلائه على الضرورة، وهو المعنى الاساسي للحرية، إرتقاء بالجنس من المستوى الحيواني الى الأفق الإنساني عبر إلتزامه بالشرط

الأخلاقي، بما هو موازنة بين الشرعي: الإلتزام بالأمر اللإلاهي وبين الإجتماعي: الإمتناع عن الغدر والخيانة لمن أكرمه- مما جعله يفضل خسارة موقعه الإجتماعي عبر السجن، على خسارة ذاته بأن يذعن للفاحشة والخيانة والرذيلة، وذلك من خلال قولته المشهورة التي ساقها إلينا القرآن في إكبار" رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه" يوسف.

شاهدا للدين أنه يحرر الإرادة من الإرتهان لأي عامل يصادر حرية الإختيار، ويرتكس بصاحيه الى درك الحيوان، فيشبع حاجته الجنسية في أستجابة غير واعية ولا مريدة بما هي فعل للغريزة وليس فعلا للعقل، ذلك أن لا معنى للحرية دون اقتدار على ضبط الإندفاعات وأهواء الذات.

وقد عبر عن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله :ليس الشديد بالصرعة، ولكن القوي من يملك نفسه عند الغضب .

هنالك من ردد أن مبحث الحرية في التراث الإسلامي لم يطرح إلا في سياقين :الأول سياق اجتماعي تطرح فيه الحرية في مقابلة حالة الرق، فالحر يقابل العبد.

أما السياق الثاني فهو سياق العلاقة بين الإنسان بربه حول مدى حريته في الفعل. ولقد مثّل هذا المبحث ساحة ملتهبة للجدل بين المتكلمين، بين مؤكد لحرية الانسان لدرجة تنال من قدرة الله المطلقة (المعتزلة) وبين مدافعين عن مشيئة الله المطلقة نافين أي فارق حقيقي بين فعل الإنسان وحركة كائنات الطبيعة، اللاهم غير ظاهر خادع.

وطرف ثالث حاول التوسط فقال بكسب للإنسان ظل مثلا للغموض وأقرب للإندراج في الموقف الثاني، وهو الموقف الذي كاد يعم الساحة الإسلامية منذ القرن الخامس (الموقف الأشعري) وكان أحد عوامل ركود الحركة في مسيرة الإسلام، حتى ظهرت الحركة الإصلاحية منذ زهاء قرنين، فتصدت منذ بواكير أعمالها لعقائد الجبر السائدة عبر هيمنة الثقافة الاغنوصية الصوفية، مثبتة للانسان فعلا ومسؤولية عن مصيره، وذلك إحياء لمعاني القدر كما تعامل معها الجيل الأول من مؤسسي حضارة الإسلام، ومن سار على نهجهم عبر التاريخ، في اعتبار القدر هذا النظام الكوني والشرعي الدقيق الذي وضعه الله لعباده والقمين إذا فقهوه وأحسنوا التعامل معه أن يضمنوا سعادتهم في الدنيا و الأخرى عبر التفكر في ذلك النظام، واكتشاف اسراره وتسخيرها بحسب مقتضى الشريعة، إنه الخضوع الواعي لسنن الله المسطورة في الأكوان، والموحى بها عبر النبوات، إنه الخضوع الواعي المحرر لإرادة الانسان.

وبقدر ما كان الفهم الصحيح لعقيدة القدر قوة عظيمة للمومنين وسر تفوقهم ولا يزال، بقدر ما كان عامل ضعف ونفي لإرادة الإنسان إذا أسيء فهمه، حتى قال مصلح كبير مثل محمد إقبال "المسلم الضعيف يعتذر بالقضاء والقدر، والمسلم القوي هو قضاء الله وقدره".

ومع أهمية القدر، فإن ادعاء حصر مبحث الحرية في تراث الإسلام في هذين السياقين وحسب ليس صحيحا، إذ الحرية كما كشف عن ذلك الأصولي المقاصدي ابن عاشور مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، فالأمة الإسلامية يجب أن تكون حرة ليس بشكل جزئى ولكن بشكل عام وفي كل النواحي الحياتية، إذ تسقط كل تكاليف الشرع في غياب الحرية. في الحديث :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما إستكرهوا عليه" .

لذلك فإن الحرية شرط المسؤولية، باعتبارها عاملا أساسيا في عملية التدين .

لذلك ليس عجبا أن إهتم علماء الإسلام بهذا الجانب، وخاصة من خلال علم المقاصد الشرعية التي حددها العلماء في خمس مقاصد، وأضاف إليها العلامة الطاهر بن عاشور مقصدين جديدين هما العدل والحرية في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية.

ففي سورة الأعراف الاية156 يحدد المولى عز وجل مهام نبيه عليه السلام في:"يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكرو يحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"– فالدين جاء لكسرالأغلال التي تكبل النفوس والعقول والأجساد، وتفرض استعباد الإنسان لأخيه الإنسان بأي مبرر.

ولذلك لم يأت الإسلام بالرق أو أمر به، رغم أنه كان حالة اجتماعية سائدة في العالم، وأساس الإنتاج الإقتصادي، وإنما جاءت شرائعه متضافرة على العتق والتجفيف التدريجي لمنابعه، رغم ما حصل في هذه المسألة كما في غيرها من انحرافات عن قيم الإسلام ومقاصده.

الإسلام دعوة للحرية والتحرير، ولم يخطئ القول أكبر منظّرين في الإسلام المعاصر سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، إذ عرّفا الإسلام بأنه ثورة تحررية شاملة.

صحيح أن هناك هازلين ظلوا يأتون المعاصي ويقترفون المظالم متعللين بالقدر، بينما آيات الكتاب شاهدة على أن الله لا يمكن أن يرضى بالفواحش والمنكرات والمظالم، بل هو سبحانه قد نهى عنها ويغضب على مقترفيها وتوعدهم في الدنيا والأخرى بأشد العقاب إذا هم لم يتوبوا. قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"النحل. وحدد رسول الإسلام أن التقرب الى الله لا يكون بالمعاصي وإنما بالطاعات.

إذ يروي عن ربه في الحديث القدسي:"ما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما إفترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها" وهو أفق سام من الحرية .

معني ذلك أن العبد ما تقرب إلى الله إلاّ وفتح أمامه سبل الخير ومغالبة الضرورات التي تعترض طريقه- " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" – الطلاق.. إن التقرب إلى الله عمل إرادي إختياري، لأنه ليس الخيار الوحيد الذي وضعه الله كإمكان أمام الإنسان لقوله :" وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنّا أعتدنا للظالمين نارا" الكهف28 .

فإذا إختار الإنسان الطاعة فقد اختار السبيل الذي يحرر لديه إمكانية الفعل، ويوسع من مجالها دون ما إرتهان للحظة أو للآخر، وبذلك يتم التحرر داخل الذات حتي يصبح ممكنا خارجها، حتى ليبلغ درجة من القرب والتحرر أن لو أقسم على الله لأبره .

إن دينا هذا سمته لا يمكن أن يتهم بأنه أتى بالرق، فالحقيقة الناصعة أنه أتى بالعتق النفسي و الإجتماعي والسياسي، هذا العتق الذي يبدأ من أعماق النفس و العقل و الإرادة، ليمتد إلى كل ركن من أركان الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، فعلا حرا إيجابيا فرديا وجماعيا لا يعرف اليه القنوط و الإحباط سبيلا .قال تعالى" ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مومنين" آل عمران.

وقال "إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون"يوسف. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"استعن بالله ولا تعجز"

إن هذا الدين ليس قائما على العبادات والمعاملات والأخلاق فقط، بل هو منهج شامل ومتكامل للحياة، من ذلك أن المسلمين مطالبون بإنشاء نظام يتوافق مع عقائدهم وقيمهم ويترجمها في أنظمة حياتية تحقق حرياتهم وحقوقهم الأساسية التي إنما جاءت الشريعة من أجلها، والتي لخصها علماء الأصول في جملة من المقاصد هي مصالح كبرى : مصلحة حفظ الدين ومصلحة حفظ النفس ومصلحة حفظ العقل ومصلحة حفظ الأنساب (الأسرة) ومصلحة حفظ الأموال، وزاد عليها أصوليون محدثون تحقيق العدل والحرية.

وحول هذه المصالح الكبرى تدندن جملة الإعلانات المعاصرة لحقوق الإنسان، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة 1948 و الذي يعتبر خطوة متقدمة جدا في الإعتراف بماهية مشتركة لكل البشر على اختلاف أعراقهم ودياناتهم، وأنهم بصفتهم تلك مستحقون لحقوق وحريات أساسية مثل حق الحياة، والحق في حرية العقيدة وممارستها، والحق في إقامة أسرة، والحق في المشاركة في الشؤون العامة، والحق في التقاضي أمام محاكم عادلة مستقلة، والحق في التكسب وفي الإنتقال وفي الحماية ..الخ.

وهي حقوق لا يمكن إلاّ أن تكون في عمومها مبعث سعادة لدين الإسلام إذ اعترفت للبشرية بحقوق متساوية بحكم وحدة الأصل "خلقكم من نفس واحدة" النساء.

فلا أساس للتفاضل على غير أساس العمل الصالح، ولا يحزنه غير استمرار البون الشاسع بين تلك الإعلانات الجميلة وبين واقع الظلم

والتمييز والإختلال في العلاقات بين الدول القوية والدول الضعيفة، كما هو داخل كل دولة بين الشعوب المطحونة أو المضللة وبين الحكام . وإن من مقتضيات تحقق تلك المقاصد إقامة نظام سياسي عادل.

قال عثمان رضي الله عنه يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

ولذلك ما فتئ صاحب الدعوة عيه السلام يحض أتباعه على الجماعة"عليكم بالجماعة، من شذ عن الجماعة فقد شذ إلى النار" حتى ولو كانوا مجرد ثلاثة أنفارفي سفر، عليهم أن يؤمّروا أحدهم.

لكن حاجة الحياة البشرية للنظام أو الإنتظام لا تبرر التسلط والإنفراد، بل تجعل المشاركة في القرار أي الشورى هي السبيل .

بهذا المعني فإن النظام القائم على الإختيار والمشاركة والشورى هو النظام الإسلامي أما كل ما قام على الفردية فهو فرعوني. ومقابل النظام الفرعوني الذي ما فتئ القرآن يشجبه ويحذر من تقفيه" وأظل فرعون قومه وما هدى"طه".

يقدم الإسلام نظام الشورى نظام المشاركة في القرار بدل الإنفراد البديل، حتى أنه أثنى على ملكة سبأ إذ قالت "ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون" سبأ.

فالإسلام هو نظام الجماعة العادلة المتشاورة، والفرعونية رمز لكل إستبداد ودكتاتورية بما هي فساد وعلو في الأرض، على حد وصف القرآن.

إن الفرعونية هي رمز لكل نظام استبداد وليست مجرد واقعة تاريخية أوردها الكتاب الخالد تذكيرا بملك مصري في الزمن الغابر .

إن الفرعونية هي المقابل النقيض لدولة الحق والقانون، حيث إرادة الفرعون هي القانون ذاته، أولم يعلن لشعبه في صفاقة "أنا ربكم الأعلى"/طه. و "ما أريكم إلا ما أرى" غافر.

مقابل ذلك ينهض نظام الشورى مؤكدا أنه لا شرعية لحكم بدون بيعة حقيقية، باعتبار الأمة هي صاحبة السلطة، وما الحاكم إلا أجيرا عندها وكيلا لها، تنصبه بارادتها وتراقبه وتنصحه وتصرفه حين تشاء، ويقتضي ذلك تحويل الشورى من كونها مبدأ للحكم وقيمة خلقية الى كونها نظاما للحكم منضبطا بآليات محددة ترك الإسلام أمرها لعقول البشر وتجاربهم لترجمتها و الإرتقاء بها حسب تطور أوضاعهم،

غير أن المسلمين قصروا في ذلك أيما تقصير، حتى بلغ الأمر الى حد إضفاء الشرعية على حكم التغلب، لمّا انقلب حكم الخلافة الراشدة حكم الشورى الى ملك عضوض، وظل الأمر على ذلك حتى تمكن العقل الغربي من التوفق بعد تجارب مريرة من الإستبداد الى تطوير جملة من الآليات والترتيبات الحسنة كفيلة بنقل المثال الشوري الى واقع بحسب المستطاع .

والحق أن الإسلام هو من وطّأ للديمقراطية، وكان من جملة عملية التثاقف التي تمت بين الحضارتين انتقال الفكرة الى الغرب، ولا يزال يطورها ويؤصلها في بئته وتاريخه، قاطعا بينها وبين جذورها الإسلامية كما فعل في مسائل أخرى كثيرة، حتى انتهت الى صورتها الحالية التي تظل مفتوحة للتطور والإستدراك. إنها نموذج من الخلافة الراشدة حيث تم التداول السلمي للسلطة عبر الشورى الحرة ،حيث يستمد الحكم شرعيته من إرادة الشعب عبر تفويض حقيقي كما نلمسه في خطبة أبي بكررضي الله عنه في خطاب التولية " قد وليت عليكم ( ليس توليت بل وليت عن طريق الإختيار) ولست بخيركم.

(أي أنه ليست مواصفاتي الذاتية هي مصدر شرعيتي وإنما مصدر شرعيتي اختياركم لي، وليس شيئا غير ذلك"

ويمكن أن نلمس ذلك في خطبة عمر ابن الخطاب عندما قال أطيعوني ما أطعت الله فيكم، وهو ما يجعل البيعة تعاقدا مشروطا وليس ولاء للفرد أو للزعامة.

إنه تأكيد على علوية القانون على سلطة الحاكم وتأكيد لحق الشعب في مراقبة الحاكم وحتى التمرد على سلطته إذا هو خرج عن الدستور(طاعة الله ورسوله) .

ثم إن إعلاء الإسلام من شأن المسؤلية (قول الرسول ص : كلكم راع ...) يعزز من إستقلال المجتمع ويجعله قوة رقابية، مثّل بعض الصحابة نموذجا لها كبلال أبن رباح الذي حوله الإسلام من عبد إلى مواطن كامل الحقوق ومشبع بالإحساس بالكرامة والمسؤولية مهما كان الشخص الذي يتعامل معه ولو كان في حجم عمر ابن الخطاب حتى ضاق الفاروق ذرعا بهذا الحس النقدي المعارض الشديد فقال  : اللهم أجرني من بلال وصحبه.

ورغم إنقلاب الخلافة أي نظام الشورى وتداول السلطة سلميا عبر الشورى وهو المعنى الأساسي لنسبة الرشد الى مرحلة النبوة والخلفاء اربعة الأول، فان ذلك لم يمنع التنوع السياسي والفكري، ولم يمكّن السلطة من السيطرة على المجتمع الذي حافظ علي كثير من مقومات استقلاله وذلك من خلال فكرة علو سلطان الشريعة، وحجز الحكام عن سلطة تفسير نصوصها باعتبار ذلك اختصاصا للعلماء، وعبر استقلال مؤسسة المسجد الذي يعتبر البرلمان الشعبي الذي تدار فيه أهم مشاغل المسلمين الثقافية التعليمية و الإجتماعية والسياسية، فخطبة الجمعة مثلا جعلت مناسبة أسبوعية لتقديم الموقف الإسلامي من أهم ما استجد من أحداث في حياة المجتمع والأمة، بما يحقق الربط الدائم بين السماء والأرض، بين الثابت الديني والمتحول السياسي الإجتماعي والثقافي .

لقد ظل المسجد وملحقاته الوعاء الذي تخلقت فيه وازدهرت وآتت أكلها الحضارة الاسلامية. لقد ظل مؤسسة شعبية مستقلة عن الدولة على امتداد تاريخ الإسلام قبل الابتلاء ب"الدولة الحديثة" التي صادرت سلطات المجتمع الأهلي والعلماء بتأميمها للمسجد وللمدرسة وللوقف الممول الشعبي لهما، وذلك ضمن خطة "الحداثيين" في الهيمنة على المجتمع، وتفكيك بنيته ومصادر قوته التي طالما واجه بها فساد الحكم واستدرك ثغراته، فكانت سلطات الدولة التقليدية محدودة جدا، حتى القطاع العسكري استحدث له المجتمع الإسلامي مؤسسات طوعية للدفاع عن الثغور لمّا وهن عظم الدولة، فكانت سلسلة الرباطات على امتداد الشواطئ، وكانت جماعات "القراصنة" تتصدى للقوى العسكرية الغربية الصاعدة.

فكانت مبادرات المجتمع المدني واسعة جدا، لذلك لم يكن عجبا أن رأينا دولة ملتزمة بمذهب بينما جمهور الناس على مذهب آخر.لا المذهب الحنفي مثلا كان مذهب الدولة العباسية والعثمانية والمملوكية بينما ظلت ولايات كثيرة من ولاياتها على مذاهب أخرى في الفتوى والقضاء والتعليم، بما دل على سلطة واسعة للمجتمع المدني في الإختيار و الإستقلال عن الدولة.

بل إنه داخل الولاية الواحدة والمدينة الواحدة عرفت التجربة الإسلامية تعدد الأنظمة القانونية وتعدد المحاكم التي تقوم على تطبيقها، وذلك أثر من روح الإسلام التي تعلي من شأن الحرية حرية الفرد في الإختيار"لاإكراه في الدين"البقرة.

وحرية الأمة باعتبارها مصدر شرعية السلطة، فهي التي لها شرعية اختيارها حسب برنامج، وتمارس الرقابة عليها وحتى العزل.

واقتضى ذلك في التجربة الغربية ترجمة مبدأ الشورى أي حكم الأمة استحداث وتطوير نظم ومؤسسات تحقق ذلك، من مثل البرلمانات المنتخبة عبر أحزاب متنافسة، بما يتيح تداولا سلميا للسلطة بين أغلبية تحكم وأقلية تعارض، وفصل للسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، ومن حريات للصحافة واحترام لمبدإ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الجنس والمعتقد .

ولقد مثلت هذه الآليات التي لا تزال تتطور وتتحسن أرقى أشكال للشورى المعاصرة أو للديمقراطية بالتعبير المعاصر،فكانت المصدر الأساسي لقوة وتفوق الأمم الآخذة بها رغم ما يخالط نظامها القيمي والعقدي من مفاسد، وما يحكم سياساتها الخارجية من نزوعات استبداد وتسلط ونهب لثروات الشعوب المستضعفة، بينما كان غياب أو محدودية تلك الآليات في معظم مراحل التجربة الإسلامية سببا رئيسيا وراء تراجع الحضارة الإسلامية وانحطاطها، الى جانب العوامل الخارجية ممثلة في السيطرة الغربية على البحار وطرق التجارة بما خنق عالم الإسلام.

والحق أنه ليس في هذه الآليات بحد ذاتها دعك من الإطار القيمي الذي تعمل فيه ما يجافي قيم الإسلام ، بل يمكن اعتبارها أقوم السبل لتحويل مبدأ الشورى الإسلامي من مبدأ وقيمة الى نظام يضمن تحقيق مقصد الشورى :الإشتراك في القرار بدل الإنفراد .

غير أنه من المفارقات العجيبة أن ترى بعض الإسلاميين المطحونين بأنظمة الإستبداد يتجافون عن الديمقراطية ويتجهّمونها متعلقين بفهوم شكلية سطحية تفرض التصادم بينها وبين الإسلام ، من مثل الدندنة حول اعتبار الديمقراطية حكم الشعب، بينما الحكم في الاسلام لله، في ترديد عجيب وإحياء لإعتراض الخوارج على الإمام علي إذ رفضوا التحكيم على هذا الأساس مكفرين إمامهم، فرد على سذاجتهم بقوله: إنها كلمة حق أريد بها باطل .

إذ لا بد للناس من إمام بر أو فاجر.

إن المقابلة بين حكم الشعب (الديمقراطية) وحكم الله(الإسلام) مقابلة ساذجة، تذكّر بسالفتها الخارجية، وتلقي بظلال كالحة مسيئة للإسلام، إذ تلصقه بالتسلط والدكتاتورية، فلا يكون الحكم اسلاميا بهذا المعنى، حتى يكون متمردا على الشعب، فارضا نفسه عليه بالقوة الغاشمة، بينما جوهر الحكم الإسلامي أنه شوري، أي أن شرعيته تمر عبر اختيار حر من قبل المحكومين، الحق أن آليات الديمقراطية هي خير ما يحقق هذا المقصد العظيم :الشورى.

غير أن هؤلاء النفاة، يخلطون بين آليات الديمقراطية وهي محايدة، وبين القيم الخلقية والثقافية والفلسفات التي يتحرك النظام في إطارها.

وهذه تختلف من أمة الى أخرى، فقد يكون ذلك الإطار علمانيا وقد يكون دينيا بوذيا(اليابان، تايلاند، سيرالنكا) أو هندوسيا(الهند )أو مسيحيا أو يهوديا ، فلم فقط ينتفي أن يكون اسلاميا ؟ بينما الإطار العقدي والقيمي الإسلامي ارحب لتقبل التعددية في غياب سلطة كنسية تحتكر تفسير النصوص الدينية، واعتراف صريح بحق الإجتهاد لكل مسلم بحسب علمه، ودعوة الى الإجماع و اعتراف بالحرية والتعدد الديني (لا إكراه في الدين) والسياسي من باب أولى.

وكان دستور المدينة (الصحيفة) نموذجا لدولة تعددية.

ومن المفارقات أيضا في هذا الصدد أن ترى الأمم غير الإسلامية الآخذة بالنظام الديمقراطي هي اليوم أقرب الى نموذج الشورى الإسلامية من دول المسلمين، ما دفع مصلحا كبيرا من وزن محمد عبده يعلق على زيارته لدولة غربية بقوله " تركت هناك إسلاما ووجدت هنا مسلمين".

هنالك بعد آخر يتجلى فيه معنى الحرية في الإسلام وهو الجانب الإقتصادي، فالزكاة ليست عملا عباديا فقط، بل هي ذاك ومعه صفة النشاط الإجتماعي الإقتصادي في آن، إذ أنه بالإضافة لمساهمتها في إنشاء حركية في الإقتصاد عبر تحريك عملية تداول الثروة "كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم" الحشر. فإنها تقلص الفوارق الإجتماعية بين مختلف عناصر المجتمع القائم على نهج الإسلام .

إن جعل الزكاة عملا عباديا هو إمداد لها بالطاقة والدافع النفسي الإيماني الذي يجعلها عملا إراديا، وبالتالي حرا ومريدا يتفوق على شهوة التملك فيهذبها ويجعلها مجرد قابلية للتمتع بنعمة الله وزينته التي أحل لعباده، خلافا للضريبة المقطوعة عن المعنى التعبدي للزكاة، بما يفرض على المسلم المالك للنصاب أداءها سواء وجدت الدولة التي طالبته بذلك أم لم توجد، باعتبارها فريضة دينية كالصلاة، ولذلك تكرر ذكرها في القرآن مقترنة بها، تاكيدا على أهميتها، وعلى الإرتباط الشديد في الإسلام بين المادي والروحي.

إن الملكية في الإسلام هي لله، وما الإنسان إلا مستخلف فيها وملاق حسابه على ما قضاه فيها من حسن تصريف أو سوء.

إن إعتبار الملكية لله يحرر الإنسان من أن يصبح عبدا للدينار، ويعلي من رقابته الذاتية على دوافعه، فلا يستعبده منطق الربح و الإستكثار والكنز، وإنما يرتقي به، فيجعل للأخلاق حظا فيه وللمجتمع كذلك، مرتقيا الى الأفق الإنساني، باعتبار الذات والآخر متساويين .

لذلك لا عجب أن تكون قواعد الإسلام مركبة من عناصر تجمع في نفس الوقت بين الديني بما هو منهج والدنيوي بما هو حاجات عينية أو معنوية تماشيا مع حقيقة أن الإنسان هو مركب من مادة وروح، فهذا الدين موجه للإنسان وينطلق من حقيقته التركيبية في فهم وجوده.

كذلك إن الحرية في هذا المجال تمتد لتسمح بحرية المبادرة وحرية التملك فلا تحصر الثروة في يد القلة سواء أكانت طبقة أم نخبة حاكمة أو قيادة حزب أم أصحاب احتكارات، بل تعترف بحق الجميع في الملكية، وهي في ذلك على خلاف مع الرأسمالية التي تسمح بتجميع الثروة لدى قلة من الأفراد، وعلى خلاف مع الشيوعية في تجميعها للثروة في يد الدولة، بل إن التاريخ الإسلامي شهد نموذجا متفردا للملكية الجماعية التي كانت تغطي معظم الأراضي مثل أراض للقبائل ينتفع منها كل أفرادها بحسب قدرتهم دون ادعاء امتلاك شخصي فيها، وكذلك ملكية الوقف وهو تطبيق عملى للملكية العامة للثروة من قبل المجتمع وليس من قبل الدولة. إنها ملكية خارج نطاق الدولة أو الأفراد.

إنها ملكية للمجتمع ينتفع بها الجميع ولكن لا أحد مخول بحق تصرف المالك الشخصي. إن هذا الموقف يؤسس لمعادلة توازن قوة بين المجتمع وبين القوي التي تنزع بطبيعتها لتجاوز المجتمع عبر إحتوائه وتوظيفه لخدمتها سواء اتخذت صيغة فردية أم كانت شركات احتكارية كبرى. وكلما كان التوازن مترجحا لصالح المجتمع كلما كان إمكان الحرية أكبر ومجالها أوسع .

إن النظام الإقتصادي الإسلامي يجمع في بنيته بين العوامل الأخلاقية وبين العوامل النفعية، و بين العوامل الموضوعية في أبعادها النفسية و الإجتماعية والتنظيمية وبذلك يدرأ عن الناس التنافس اللاأخلاقي، ويضبط حرية السوق بضوابط أخلاقية ودينية تجعل الأولولوية لمصلحة الجماعة، وتمنع تأليه الربح و راس المال، وهو ما جنب التجربة التاريخية للمسلمين- على نقائصها - الإنزلاق في تجارة الحروب، و في تجارة البشر وفي إبادتهم بإسم نشر الحضارة، والتدمير المنظم للبئة للتغطية على الجشع والنهب، عامل الطفرة في الرفاهية التي تتمتع بها الدول الكبرى في عالم اليوم .

وكان حظر الاسلام للربا ضربة قاصمة للراسمالية، وانتصارا لبديل الشورى الإقتصادية، أي المشاركة بين قوة العمل وقوة راسمال، بما يفرض الإشتراك في الربح والخسارة بين الطرفين. وتعتبر تجربة البنوك الإسلامية في عصرنا نموذجا اسلاميا يزداد الإقبال عليه يوما بعد يوم، حتى لدى الدول والبنوك غير الإسلامية، لما يقدمه من حلول لمعضلات الإقتصاد الراسمالي. إن النموذج الإقتصادي الإسلامي يهدف الى تحرير الإنسان فردا وجماعة من التحكم في حاجاته، فتسعى آلياته مثل الزكوات والصدقات و الدفع الى التعاون والمشاركة وحظر الربا و الإحتكار..الى توزيع الثروة على أوسع نطاق، حتى يكون الجميع ملاكا وليسوا أجراء."كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"الحشر.

لقد سأل عمر الناس هل أنا ملك أم خليفة، فأجابوا إذا أخذت المال بحقه ووضعته في حقه فأنت خليفة، وإذا أخذته بغير حقه ووضعته بغير حقه فأنت ملك.

من ناحية أخرى إن الموازنة بين منطق الحق ومنطق الواجب في شخصية الصحابة مثلا صنع فيهم من المناعة ما يكفي لغرس روح التحرر الإجتماعي عن طريق رفض أي إقصاء أو إحتقار أو تهميش . ولقد مثل ذروة ذلك الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري الذي وصف بأنه أول إشتراكي في التاريخ، والحقيقة أنه لم ينطلق في ثورته على بدايات تفاوت الثروات في المجتمع الإسلامي الناشئ إلا بدافع من العقيدة التي تتهم بالتحريض على الخضوع والتواكل والقدرية، حتى ولو أنجبت مثل هذا الثائر الذي يقول عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يحمل سيفه، وظلت على مدى التاريخ بوتقة لا تهدأ لتخليق الثائرين .

إن الحرية هي أساس في أي ركن من أركان الدين، وإن موضوع المرأة هو من بين المواضيع التي تؤكد ذلك، وإن أساس ذلك في إعلاء النظرة التي تعتبر المرأة كإنسان قبل أن تعتبر أنوثتها، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله : "ولقد كرمنا بني آدم" هذا التكريم الذي لا يعرف الأنوثة أو الذكورة، فهما تعبير عضوي في أساسه، و الإسلام ينظر إلى الإنسان ككل أي كمركب للعضوي والروحي، لذلك فإن تشيئ الإنسان هو حط من قيمته وجهل بتفرده وتكريم الله له .

إن مبدأ المساواة في القيمة الإنسانية بين الرجل والمرأة "النساء شقائق الرجال" هو الأصل .

إن الكون قائم على نظام الزوجية لقوله تعالى : "ومن كل شئ خلقنا زوجين" .

ومقتضى هذه الزوجية هو التعاون والتكامل والتساوى، فعند قتل المرأة لا يطلب من القاتل أن يقتل امرأة ثانية حتي يقام عليه الحد، ولكن يقتل بها لأنه أزهق روح إنسان، كرمها الله "ولقد كرمنا بني آدم".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة"النساء1

إلا أنه لا بد من التمييز بين المساواة والتماثل، فمراعاة الخصوصيات هو من ضرورات إحترام الإنسان، ومن أبسط حقوقه في آن، فدور الأمومة لا يمكن أن يعوضه الرجل فهو ليس آداء وظيفيا فحسب بل إستعداد وقابلية نفسية تشبع حاجة الطفل المادية والعاطفية والروحية، وإن الإسلام يرتقي بهذه الوظيفة من مجرد تقسيم العمل الإجتماعي إلى مستوى الإلزام بمعناه العقدي، ليحدث فيه شرطا من شروط تحويله من مستوي الضرورة إلى مستوى الفعل عبر الطاقة الإيمانية التي يضفيها عليه بربطها بالجزاء، وذلك من خلال الحديث الذي يقول :الجنة تحت أقدام الأمهات .

إلا أنه رغم ان هذه هي روح الإسلام في تكريم المرأة، إلا أن ذلك لا ينفي تعرض المرأة للمظالم في التاريخ الإسلامي، ويتمثل ذلك في التمييز بين الأولاد والبنات في التعليم رغم أن الجهل عم المسلمين، إلا أن حظ النساء منه كان ولا يزال أفدح، وبلغ الامر الى حد اقصاء النساء من بيوت الله، وهي مركز الحياة الاجتماعية والدينية في مجتمعات الإسلام.

عودة النساء الى المساجد وتخصيص أماكن لهن ثمرة من ثمار الحركة الإصلاحية، في إثر قرون طويلة من الإنحطاط .

حتى أن المرأة تحددت ماهيتها في أنها عرض ينبغي أن يصان، بل عرفت أحيانا بالعضو التناسلي "بضع" مع أن الله جل جلاله كرم الإنسان مطلقا وجعل التكليف عاما في قوله : "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الذاريات.

وهكذا تبدو المرأة جنسا ثالثا، إذ يحال بينها وبين المسجد ومشاغل المسلمين .

إن تجاهل الحضارة المعاصرة للفوارق بين الجنسين وإعلاء دور الإنسان المنتج اقتصاديا على دور المربي قوض الأسرة، وهدد بتقويض بناء المجتمع، انصرافا عن الأسرة الى العلاقات الحرة، ثم انصراف كل جنس الى مثله، وهكذا انهارت كل الحضارات، إذ تتمرد الشهوات عن سنن الله باسم الحرية، فيكون التردي في عبودية الشهوات والشياطين والراسماليين المتاجرين بكل شيء.

المجتمع المدني سبيل للتحرر

إن المجتمع المدني في الإسلام هو المجتمع الذي يتميز ببعض الخصائص النفسية والإجتماعية والقيمية التي تحرره من الولاء لغير الله، وبالتالي تصنع فيه المناعة ضد الهيمنة والقهر والإستعباد، وهو ما تجسد في مجتمعات الإسلام ماقبل "الحداثة" من خلال اعتبار الانسان فردا ومجتمعا مخاطبا ب الإسلام "كلكم مسوؤل" كل مسلم مسؤول على اصلاح نفسه وأسرته ومن حوله بحسب قدرته، مسؤول عن إقامة الحق ومحاربة الظلم، مسؤول أن يتعاون في ذلك مع إخوانه، فليست الدولة كل شيء بل الفرد والمجتمع هما الأصل.

وفي هذا السياق أقام المجتمع المسلم مؤسسات شعبية مستقلة عن الدولة أو السلطة تقوم بتقديم الخدمات للطلبة والمسافرين والمحاربين والمرضى وتشجع على الزواج والعفة، ومنها ما يقوم على خدمة بعض الحيوانات التي وقع التخلي عليها إذا ما صارت عاجزة عن الخدمة وخاصة الدواب الأليفة .

إن التاريخ الإسلامي في عمومه عرف ما يمكن أن نسميه الجيش الشعبى عكس النظامي، والتعليم الأهلي عوض النظامي، وخدمات الصحة والجمعيات الحرفية وغيرها من المنظمات التي تفرض ميزان قوة مجتمعي يحد من تورم السلطة، و استعمل المجتمع في ذلك مؤسساته التقليدية كالقبيلة والمسجد والتكية والزاوية والقبيلة، مما وقعت الإشارة اليه مثل سلطة العلماء في توجيه الأمة، بما يضمن توجيه الشأن العام توجيها يحفظ العلاقة بين السماء و الأرض، بين التاريخي والغيبي، بين الفرد والجماعة بين الدولة والمجتمع.

إن أي سلطة نزاعة بطبعها إلى المغالبة والسيطرة، فهي تتشكل من أجل أن تكون خادما للمجتمع، ولكن إذا إمتلكت كل عناصر القوة داخل المجتمع فإنها تسعى إلى تحويل المجتمع إلى خادم لها، وقد طرح الإسلام هذا التحدي عندما حث الناس على عدم التنازع والإدلاء بأموالهم إلى الحكام، وعدم توجيه خطابه إلى الخاصة ولكن كل الخطاب القرآني موجه إلى الأمة كلها والى الإنسانية ( يا أيها الناس – يا أيها الذين آمنوا ...) إن في ذلك دفعا للفاعلية الإجتماعية العامة للشعب أو الأمة حتي تحافظ على خصوصيتها كوحدة إجتماعية أساسية ثابتة تحفظ للإنسان إمكانية التغيير والفعل والتحرركلما تعرض للإعتداء، وهو ما سمح حتي لغير المسلمين من الإستفادة منه ، لذلك لم يعرف تاريخنا حروبا دينية مثل الغرب، بل كل حروبنا كانت سياسية إحتجاجية على مسلك سلطوي، ورغبة في تغييره انجذابا الى النموذج النبوي الراشد بما جسده من عدل الإسلام .

ولذلك لم يمكن إخضاع هذه الأمة عبر التاريخ، حتي وإن غابت الدولة التي تحمي حوزتها إنما حققت ذلك من خلال بنيتها الثقافية والإجتماعية، ولا زالت هذه العوامل تمثل عوامل التجدد فيها والممانعة والمقاومة ضد الغزو والإستبداد .

إن الحرية مشروطة بالثقافة، ولكن كذلك بمدى قدرة المجتمع المدني على إبداع الهياكل التي تقيم التوازن مع كل قوة تستهدف وجوده داخلية أوخارجية.

تكثر الإدعاءات بأن الفتوحات الإسلامية علامة تتناقض مع الحريةـ من ذلك تصريح البابا الأخير نقلا عن إمبراطور بيزنطي تداعت أركان حكمه الإقطاعي، بأن كل ما أتى به النبي شرير ولا إنساني وأن الإسلام إنتشر بحد السيف!!.

فما هي العلاقة بين الفتوحات وبين الحرية ؟

أولا إن الدين قائم على مبدأ عدم الإكراه لقوله عز وجل : لا إكراه في الدين . سورة البقرة .

إن البابا رد هذه الآية وردت عندما كان محمد(صلى الله عليه وسلم)ضعيفا فلما قوي جاءت آيات الجهاد .

إن هذا القول يكشف عن جهل فاضح لدى هذا اللاهوتي المتخصص جهلا بما يعلمه المبتدئون في الدراسات القرآنية، إذ يعلمون أن هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، فهي واردة ضمن سورة مدنية باتفاق، حيث كان الإسلام يدير دولته متمتعا بسيادته الكاملة في جزيرة العرب، وفي اشتباك مع القوى العظمى .

إن الرسول عليه السلام قد أقام مجتمع المدينة على أساس المواطنة وليس على أساس العقيدة، لذلك كان المجتمع المتعدد ينتظم في إطار من الحرية والقانون من خلال أول وثيقة للقانون الدستوري في التاريخ والمتمثلة في ما يصطلح عليه بصحيفة المدينة، التي جمعت المسلمين وأهل الكتاب وحتى المنافقين، فضمنت حقوقا للجميع.

إن دعوة الإسلام كانت ضحية القهر في حالتها المكية، وضحية الحصار والحرب في حالتها المدنية، فكل المعارك الأولى وقعت على مشارف المدينة أو فيها كبدر وأحد والأحزاب، بما دل أن المسلمين الذين اضطهدوا في مكة واضطروا الى الهجرة نجاة بأنفسهم لم يكونوا المبادرين بالحرب، وإنما كانوا مدافعين عن أنفسهم. كما أن الحرب مع الفرس والروم كانت بسبب قتلهم لرسل الرسول –ص- وتهديدهم المتواصل لأطراف الجزيرة بل للمدينة ذاتها.

كان قانون القوة هو المسيطر على العلاقات بين الدول في غياب تام لقانون دولي .

إن الشعوب التي دخلت أو أغلبيتها الإسلام فعلته بحرية واقتناع وبتدرج استمر كما في مصر والشام لعدة قرون، ولا يزال بعضها في قلب الإسلام معتبرا أغلبيته مسيحية مثل لبنان.

لقد اختارت الإسلام بعد أن تمكن الجهاد الإسلامي من تحرير ارادتها من تسلط النظم الثيوقراطية المتألهة، تاركا لها حرية الإختيار، فاختارته لإعجابها بأخلاق ومعاملة المسلمين الفاتحين.

ولوأن اسلام تلك الشعوب تم تحت لمعان السيف الإسلامي لما بقي في بلاد الإسلام اليوم أهل دين آخر مثلما عليه الأمر في البلاد التي حكمها المسيحيون مثل الاندلس، حيث حافظ عليهم الاسلام زمن قوته، وأبادوه يوم تغلبوا، بل أباد بعضهم بعضا كاثوليك وبروتستانت، ما فرض العلمانية حلا لوضع حد للحروب الدينية الطاحنة، بينما لم يحتج الإسلام لمثله لأنه اعترف بدء بالحرية والتعدد الديني، ولذلك لا يخلوا بلد إسلامي من وجود أقليات غير اسلامية عريقة.

أقدم معابد النصارى واليهود كائنة في ارض الإسلام (في جزيرة جربة التونسية معبد يهودي مضى عليه 3000سنة) بينما لم يمر قرن بعد على أقدم مسجد في الحواضر الأروبية، وهو شاهد على سماحة هذا الدين، وعدم إعتماده الإكراه أسلوبا له، حتى عباد الأوثان و الأشجار والشياطين حافظ الإسلام الى يومنا هذا على وجودهم وتراثهم في العراق موطن أعظم دول الإسلام .

وجغرافية الإسلام الحاضر تشهد أن معظمها لم يعرف من الفاتحين المسلمين غير تجار أقاموا بين ظهراني تلك الشعوب فأحبتهم واعتنقت دينهم.

وأكبر دولة اسلامية معاصرة هي من هذا القبيل: اندونيسيا.

إن أهم حواضر الإسلام كبغداد ودمشق لا زالت إلى يوم الناس هذا تتشكل من خلفيات دينية متعددة، فلم يتلوث تاريخنا بحروب ابادة جماعية عرقية أو دينية من مثل ما وقع في إسبانيا (حيث أبيد 40 مليون مسلما بالقتل أو التهجير ) أو في الأمريكتين حيث ا تمت إبادة أكثر من 100 مليون إنسانا، وفي إفريقيا خلال التجارة المثلثة قتل أكثر من 100 مليون افريقيا عبر تجارة الرقيق و حروب الإحتلال على مدى قرون، ثم ما يفوق 70 مليون إنسان خلال الحروب العالمية، ناهيك عن ضحايا المجاعات الناجمة عن نهب ثروات الشعوب، أو الحروب بالوكالة لتسويق السلاح والصراع على النفوذ، كما لا تزال حرب البوسنة التي وقعت في عمق أروبا شاهدا على الدموية وعدم التسامح والعنف الغربي

إن الرسول عليه السلام لم يكره الناس على إتباعه، ولكنه كان يدعو إلى الحوار ويطالب بحقه في التوجه بخطابه إلى الناس، وذلك في قوله :خلوا بيني وبين الناس .

لقد كان الإسلام على مر تاريخه ضحية للعنف، ولكنه إستثمر وضع الضحية بصبره على رد الفعل، حتي كسب تأييد الناس وتعاطفهم، وحتي عندما دعت الحاجة إلى الإقتصاص من أعدائه يوم فتح مكة، كظم غيظه واستعلى بمشاعره فرفض معاقبتهم.

وحتى المنافقين وهم الفئة الأخطر في المجتمع الإسلامي اكتفى منهم بظاهر اسلامهم ولم يحاسبهم على ما يعلم من قلوبهم، وتأبّى عن نوازع الإنتقام "حتى تقول العرب إن محمدا يقتل أصحابه" وحتي لا يفتح باب التصفية، فكانت بذلك ثورة الرسول عليه السلام هي الثورة السلمية الأولى في التاريخ، حتى أن المؤرخين الثقاة أكدوا أن من هلك من الطرفين في غزوات النبي عليه السلام لم يتجاوزوا بضع مئات.

إن النظام الإجتماعي الذي أنشأه التاريخ الإسلامي كان تقدميا ومتطورا قياسا إلى الأنظمة السائدة في أروبا وباقي أنحاء العالم يومئذ، لما بشر به من منطق القانون القائم على التعاقد الإختياري، عكس الإكراه الديني للكنيسة والملوك والقياصرة، لذلك فإن أي أرض يأتي إليها الإسلام إنما كان يأتي مخلصا، وهو ما وقع في مصر وبلاد الشام وفي الأندلس وفي البوسنة، حيث كان الروم يضطهدون السكان الأصليين ممن يدينون بمذهب مسيحي غير مذهبهم، فرأوا في الإسلام مخلصا وكفيلا بجلب الأمن والحرية والعدل لبقاع كانت تحفل بالصراعات والغطرسة والفساد.

وإن في ضخامة المدونة الفقهية للمسلمين دليلا على علوية القانون، هذا الإنتاج الذي مثل عنصر إلهام للنظم القانونية المعاصرة و إن حرصت على إخفاء ذلك، من مثل المدونة القانونية الفرنسية التي إستفادت من العلاقات الخاصة التي أقامتها مع الدولة العثمانية في تحالفها معها ضد الإسبان والنمساويين والمجريين، ولم تمثل الثقافة الإسلامية عنصر إلهام للثورة الفرنسية فحسب، ولكن للثورة الإنجليزية أيضا من خلال روجر بيكون ومرتن لوثر وغيرهما من رواد النهضة والإصلاح ممن تأثروا بالغزالي وبابن رشد... .

إن النموذج الحضاري الإسلامي على نقائصه إلا أنه حيثما حلّ قد أسّس للمدنية بديلا عن الهمجية والفوضى، وللحرية الدينية والفكرية وللعدل بديلا عن التجكم و الإستبداد وحروب الإبادة والحروب الأهلية، مما جعل له جاذبية فتحت الأبواب أمام إنتشاره،

إننا اليوم لا نحتاج إلى الحديث عن الفتح في أروبا مثلا، فكل أرض تتوفر فيها الحريات الأساسية وبالخصوص الحريات الدينية هي بمنطق الإسلام أرض مفتوحة. إن مما يحسب للعلمانية في اروبا أنها ضمنت الحريات الأساسية ومنها الحريات الدينية لكل مواطنيها أو المقيمين على ارضها بمن فيهم المسلمين، فمن بابها دخل الإسلام اروبا في العصر الحديث، وازدهرت مراكزه ومساجده، ونما كما وكيفا ، في حين أن التعصب المسيحي في السابق وهو ما يبدو أن بابا روما يحن اليه ويشجع على عودته، هو ما تردى بأروبا قرونا طويلة في الجهالة والحروب الدينية الدامية بين البروتستانت والكاثوليك وولد محاكم التفتيش، ومنع اروبا من التعرف عن الإسلام في جو من السلم كما يحدث الآن.

إن المسيحية هي في جوهرها دعوة روحية خلقية، جاءت لتحدّ من تغول النزوعات المادية على اليهودية .

وبعد قرون من الإضطهاد المرير الذي تعرض له أتباعه على يد الإمبراطورية الرومانية الوثنية، قبلت هذه لمعالجة تناقضاتها الداخلية بقبول المسيحية إلا أنه فرض عليها تبني الإرث الإمبراطوري الروماني، فتبادلت معه الإستخدام وهو ما أضر بها، إذ ربطها بملوك الإقطاع- خلافا للإسلام الذي نشأ متحررا من وصاية أية سلطة_ وجرها الى التصادم مع طموحات الشعوب المتطلعة للنهضة و الإصلاح متأثرة بالتراث الإسلامي و الإغريقي الذي صادمته وحظرته خلافا لما يدعي البابا، لذلك لا بد لها اليوم من إصلاح حقيقي يفصل بين الغيبي والتاريخي، ويميز بين تعاليم الرب الحقيقية وبين السلطات المطلقة المخولة للبابا للكنسية التي تدعي النطق باسم السماء، وبذلك تتمكن المسيحية من إعادة إنتاج ذاتها بما يتناسب مع قيم العصر من الحرية و الديمقراطية و العدالة الإجتماعية و الإنفتاح على الآخر دون ما تشنج يستغل الوضع الدولى للهجوم على الإسلام من مثل ما فعله البابا .

إن موضوع الدخول في الإسلام والخروج منه هو ما يصطلح عليه بالردة، لا يزال يثير إشكالا إذ يمثل نوعا من الإستدراك على حرية العقيدة. والحادثة التي انطلق منها هذا المبحث هي التي وقعت بعد وفاة الرسول –صلى الله عليه وسلم - من خلال إرتداد بعض القبائل العربية.

وقد وقع في ذلك خلاف بين أبي بكر وعمر حيث عزم الصديق على قتالهم وإعترض عمر قائلا كيف نقاتل من يشهد أن لا إلاه إلا الله، فرد أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. أينتقص الدين وأنا حي" وذكر عمر أن أبا بكر لا زال يحاوره حتي اطمأنت نفسه.

ومعنى ذلك أن الخليفة لم يستعمل نفوذه السلطوي ولكن قوة الحجة.

ثم إن الذي حدث لم يكن في كل حال رفضا للدين، ولكنه كان في خطه العام تمردا على الدولة متمثلا في رفض مسلح لدفع الزكاة.

ولو أن أي مجموعة في أي دولة حديثة رفضت دفع الضرائب ولاذت بسلاحها لحوربت ولأعتبر ذلك خروجا على سلطة الدولة يتطلب الرد الحازم .

إن حادثة الردة التي اندلعت في صدر الإسلام كانت اقرب الى كونها تمردا سياسيا من منطلق الحنين الى سلطة القبيلة، رفضا لمؤسسة الدولة التي استحدثها الإسلام، ولا عهد للعرب في معظمهم بها، فالمسألة العقدية لم تكن الوجه البارز، إذ لا أحد عاد يشيد العزى ومناة وهبلا، وما رفض الزكاة إلا تعبيرا عن رفض الدولة، بينما لم يرفض كثير منهم الشهادة أو الصلاة، و إنما رفض هذا البعد الإجتماعي السياسي الذي رأوا فيه تكريسا لسلطة قريش على بقية القبائل.

لذلك لم يبعد من إعتبر "الردة" بمعناها العقدي أو السياسي جريمة يترك أمر تقدير معالجتها لسلطة الحاكم شأن العقوبات التعزيرية تشديدا أو تخفيفا .

واعتبرها جمهور الفقهاء حدا من الحدود الملزمة .

ومن دواعي الإختلاف حول ذلك أنه في ماعدى الواقعة التاريخية فإن النصوص الواردة في هذا الشأن ليست قطعية في دلالاتها.

النص القرآني توعد مقترف الردة العقدية عن الإسلام بأشد العقاب في الآخرة"ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة"البقرة.

وما ورد من أحاديث صحاح فيرد عليها الإحتمال، مع أنها آحاد ، وعلى مذهب من لا يأخذ في الدماء إلا بالقطع لا تصلح مستندا.

إن الإسلام أتي محررا للبشرية وما- أرسناك إلا رحمة للعالمين – مخلصا للإنسان من أهوائه ومن الشيطان ومناعة له ضد الإستبداد السياسي وضد الإستغلال الإقتصادي وضد التمييز الإجتماعي .

إن ما نفتقده في بلاد الإسلام اليوم هو الحرية، وهي ما قدم المسلمون الى اروبا وأمريكا في طلبه هربا من الإستبداد والفقر والجهل وليست بحال هربا من الإسلام إلى الكفر بل هربا من الإستبداد والظلم إلى بلاد الحرية وإحترام الإنسانية، على غرار المسلمين الاول الذين ندبهم النبي عليه السلام عندما اشتد بهم أذى قومهم الى الهجرة الى الحبشة "ففيها ملك لا يظلم عنده الناس" وإنما تقوم الحضارة على العدل ولو مع الكفر ولكنها لا تقوم على الظلم ولو مع الإيمان.

فالعدل نظام الكون وأساس العمران "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل" .

ندعوا الله أن يوفق هذه الأمة إلى كل ما هو خير , اللهم إجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والحمد لله رب العالمين .

والسلام عليكم ورحمة الله

المصدر

للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي

مؤلفات وكتابات الشيخ راشد الغنوشي

.

أقرأ-أيضًا.png

مفات متعلقة

مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

ألبوم صور الشيخ

وصلات فيديو

تابع وصلات فيديو

.

أقرأ-أيضًا.png
ملف الإخوان في تونس

.

الشيخ راشد الغنوشي