الحضارة الإسلامية تعمير وتنوير-2-3

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحضارة الإسلامية تعمير وتنوير-2-3

أ.د/جابر قميحة

مقدمة

ونحن نرى أن رفض اصطلاح "صراع الحضارات" رفض في غير محله؛ لأن مشكلة هذا الاصطلاح ليست مشكلة ذاتية، ولكنها مشكلة تفسيرية ـ سلوكية، فالذين تناولوا هذا المصطلح بالنقد اعتبروه مرادفًا ـ أو على الأقل مقاربًا ـ للعدوانية، كما أن السلوك الغربي، والأمريكي بخاصة يكاد يكون تطبيقًا عمليًّا لهذا التفسير.

أما الكلمة في ذاتها ـ بصرف النظر عن المستجدات في المواصفات العالمية أخيرًا ـ فتعد تمثيلاً للواقع على مدار التاريخ، فالحضارات تتقابل، وتتصارع، وليس من اللازم توظيف الحرب والسلاح كآلية دائمة من آليات هذا الصراع.

ولكن صراع الحضارات في مجالاته العقيدة، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، يتم غالبًا في صورة عفوية على مدى طويل ، إعمالاً لقاعدة "البقاء للأصلح" إذ ينهزم "العمْد" الذي يملك القوة أمام "العفوي" الذي يملك الصلاحية والتفوق المعنوي، فرأينا كيف ذابت حضارات البلاد المفتوحة في الحضارة الإسلامية، وكيف انصهر التتار في بوتقة الإسلام.

وفي هذه السياقة نذكر أن السيطرة العثمانية هيمنت على الشرق العربي إلى القرن التاسع عشر، فكانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية: لغة الإدارة والدواوين والوظائف، وكانت هي المادة الأساسية في المدارس حتى بعد دخول الإنجليز مصر واحتلالها سنة 1882 م، هذا يعني أن اللغة التركية كانت هي المعبر الوحيد للمناصب، وتحصيل الرزق، وتحصيل المكانة والثراء ومع ذلك انتصرت العربية، وانتصر معها الوجدان العربي والهوية المصرية .. وكذلك كانت الحال في سائر البلدان العربية، ومن أوضح الشواهد ـ في هذا المقام ـ محاولات فرنسا بكل ما تملك من إمكانات، وعلى مدى سبعين عامًا لفرنسة الجزائر عقيدة، ولغة، وعادات وتقاليد، ولكن جهودها باءت بالإخفاق الذريع.

فالصراع بين الحضارات قائم أردنا أو لم نرد. والانتصار يكون للحضارة التي تملك قوة البقاء والأفضلية والحيوية، بشرط تجنب الظلم والقهر والعدوانية، مصداقًا لقوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17) وهذا الصراع لا يلغي الحوار، والتنافس ومحاولات إثبات الوجود، والتفاعل أخذًا وإعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا.

وليس من الضروري أن ينتهي الصراع بالإحلال، أو الحلول الكامل.. حلول الفاضل محل المفضول بإطلاق، فقد يكون الحلول جزئيًا، بأن يكون في المفضول ما ينتفع به الفاضل ويستأنس لهذا بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها". و "الضالة ـ لغة ـ هي الشيء الذي يكون للإنسان فيفقده، فيظل يبحث عنه حتى يجده، فهذا المجاز أبلغ ما عرف من نوعه في بيان ضرورة الحكمة للإنسان، وأبدع ما أثر عن البلغاء من عبارات الحث على تطلبها، فإذا كانت الحكمة ضالة كل مؤمن، فكيف يغفل عن البحث عنها في جميع مظانها من بطون الكتب، أو من أساطير الأولين، أو على ألسنة الناس كافة، فإذا وجدها وجب عليه أن يأخذها دون تردد".

ولنا في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة حسنة، فقد حفر الخندق حول المدينة لحمايتها من كفار مكة والأحزاب سنة 5هـ، أخذًا بمشورة سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ وكان حفر الخنادق نظامًا فارسيًا لحماية المدن، وعنهم أخذ الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ نظام الدواوين.

والمجال لا يتسع لأن نعرض بتفصيل ـ أبعاد الحضارة الإسلامية وطوابعها، والأسس التي قامت عليها، ومدى تفاعلها مع الحضارات الأخرى تأثرًا وتأثيرًا، ومكانها بين الحضارات الأخرى، وبطلان ما اتهمها به أعداؤها. ولكننا نقدم ـ قدر الطاقة ـ فيما يأتي ـ ما يبين ـ إلى حد معقول ـ عن الأمور التي أشرنا إليها آنفًا.

وأنبه إلى أنني لست من الذين يحرصون على الهرولة إلى آراء الغربييين ليدعموا بها الرؤية الإسلامية، وكأنهم عثروا على بيضة الديك، ولكني أراني هذه المرة مخالفًا وجهتي.. مستشهدًا بآراء بعض عدول الغربيين، بل رأيت أن ذلك ضرورة في هذا المقام لأسباب ثلاثة:

الأول: أنهم ـ أو أغلبهم على الأقل ـ أكثر علمًا، وأوسع معرفة من هؤلاء الذين هاجموا الحضارة الإسلامية.

والثاني: أنهم أيدوا أحكامهم بأحداث ووقائع وإحصائيات من الواقع التاريخي لا يستطيع أحد إنكارها.

والثالث: أننا ـ وأعداء الإسلام ـ في ميدان مواجهة، وضربهم بآراء أبناء جنسهم يكون أوقع، وأقوى تأثيرًا.

ومن هؤلاء هربرت جورج ويلز، ففي مقام حديثه عن الفكر العربي، والحضارة الإسلامية، وامتداد تأثيرها على نطاق واسع يقول بأسلوبه الأخاذ: " لقد قذفت المقادير بالذكاء العربي في طول العالم، وعرضه بصورة أسرع، وأروع مما فعلت بالعقل اليوناني قبل ذلك بألف سنة خلت. لذلك عظمت إلى أقصى حد الاستثارة الفكرية التي أحدثها وجودهم للعالم أجمع غربي بلاد الصين، كما اشتد تمزيق الأفكار القديمة، وتطور أخرى جديدة.

كان العلم يثب على قدميه وثبًا في كل موضع وطئته قدم الفاتح العربي، فلم يحل القرن الثامن الميلادي حتى كانت للدولة منظمات تعليمية تنتشر في كل أرجاء العالم المستعرب، وحين وافى القرن التاسع إذا بالعلماء في مدارس قرطبة بالأندلس، يتراسلون مع إخوانهم علماء القاهرة وبغداد وبخارى سمرقند" .

ويقدم "ويلز" شواهد لتفوق هذه الحضارة، وكيف حقق العرب في حقول العلوم الرياضية والطبية، والطبيعية ضروبًا كثيرة من التقدم، فنبذت الأرقام الرومانية القبيحة، وحلت محلها الأرقام العربية التي نستعملها إلى يومنا هذا، واستعملت علامة الصفر لأول مرة.

ويتحدث "أليكس جورافسكي" عن امتداد تأثير هذه الحضارة إلى مناخ وميادين كثيرة في أوروبا، فعم بدرجة كبيرة، أو صغيرة مستويات الحياة الأوروبية جميعًا، ونال أكثر المجالات والبنى اختلافًا وتباعدًا، بما في ذلك النواحي المعيشية والتجارية والاقتصادية، والتقنية، والسياسية، والآداب، والعلوم، والفلسفة والدين.

ولم يتوقف العطاء الإسلامي لأوروبا عند المعارف الجديدة، بل أثر جوهريًا ـ كما يقول جورافسكي ـ في نمو العمليات الثقافية وتطورها، وساعد ـ في كثير من الحالات ـ على تشكل الوعي الذاتي الأوروبي، حتى مفهوم "أوروبا المسيحية" ، بل قل التصور العام عن أوروبا كوحدة جغرافية وثقافية تكون في أذهان الأوروبيين فقط في مسيرة "الاستعادة" و "التحرير" Recon Quista "ريكونكيستا" والحروب الصليبية، حيث إن تلك التصورات الجغرافية ـ السياسية "الجيوسياسية" الثقافية ظهرت عندئذ، ووضعت نفسها كنقيض مضاد للعالم الإسلامي.

ويرجع "غوستاف لوبون" عظمة الإسلام إلى سهولته ووضوحه؛ وذلك لأنه يعتمد على عقيدة "التوحيد المحض" ومن ثم كان الإسلام خاليًّا مما تراه في الأديان الأخرى، ويأباه الذوق السليم ـ غالبًا ـ من المتناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحًا، وأقل غموضنا من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله، وبيضعة فروض يدخل الجنة، ويدخل النار من يعرض عنها، وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد، ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة، وهو بذلك عكس النصراني الذي لا يستطيع حديثًا عن التثليث والاستحالة، وما ماثلها من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل.

وساعد على وضوح الإسلام البالغ ما أمر به من العدل، والإحسان كل المساعدة على انتشاره في العالم، وتفسر بهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية، فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام، كما نفسر السبب في عدم تنصر أية أمة بعد أن رضيت ب الإسلام دينًا، سواء أكانت هذه الأمة غالبة أم مغلوبة.

ويرفض غوستاف لوبون فرية انتشار الإسلام بالسيف؛ لأن الواقع التاريخي يقطع بأنه انتشر بالدعوة وحدها. وبالدعوة وحدها اعتنتقه الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًات كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند ـ التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ـ ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يومًا فيومًا، مع أن الإنجليز الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر يجهزون البعثات التبشيرية، ويرسلونها تباعًا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى.

ويبرز لوبون ما للفتوح العربية من طابع خاص، لا تجد مثله لدى الفاتحين الذين جاءوا بعد العرب، وبيان ذلك أن البرابرة ـ الذين استولوا على العالم الروماني ـ والترك وغيرهم ـ وإن استطاعوا أن يقيموا دولاً عظيمة ـ لم يؤسسوا حضارة، وكانت غاية جهودهم أن يستفيدوا بمشقة من حضارة الأمم التي قهروها، وعكس ذلك أمر العرب الذين انشئوا بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها . وقد ترك وجود العرب ـ حوالي 800 عام في شبه جزيرة أيبريا ـ علامات لا تمحى على الأرض الأيبرية، وعلى الفنون واللغات التي يتكلمها الناس هناك، كالقطلونية والقشتالية، والبرتغالية.

وبالرغم من أن فترة حكم العرب في صقلية وأجزاء من جنوب إيطاليا. كانت قصيرة، وأن استمرار التأثير الثقافي للعرب كان أقصر عمرًا، فإن هذا التأثير لم يكن في جملته أقل شدة مما كان عليه في شبه جزيرة أيبريا؛ لأن العرب لم يطردوا من صقلية بالقوة في أثناء الاحتلال النورماندي لها. ولم يتوقف الاتصال بين المسلمين والأوروبيين، حتى بعد أن اضطر المسلمون آخر الأمر إلى الجلاء عن المناطق الأوروبية في غرب البحر الأبيض المتوسط، واقتصرت سيادتهم على شمال أفريقيا.

وعرب الأندلس وحدهم هم الذين صانوا في القرن العاشر الميلادي العلوم والآداب التي أهملت في كل مكان حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم ـ في ذلك الزمن ـ بلاد يمكن الدرس فيها غير الأندلس العربية ـ وذلك خلا الشرق طبعًا، وإلى بلاد الأندلس كان يذهب أولئك النصارى القليليون لطلب العلوم في الحقيقة، ومنهم "جربرت" الذي صار بابًا في سنة 999 م باسم "سفلتر الثاني" والذي أراد أن ينشر في أوروبا ما تعلمه، فعد الناس عمله من الخوارق، واتهموه بأنه باع روحه للشيطان، ولم يظهر في أوروبا قبل القرن الخامس عشر من الميلاد عالم لم يقتصر على استنساخ كتب العرب.

وعلى كتب العرب وحدها عول روجر بيكون، وليوناردو البيزي، وأرنود الفيلنوفي، وريمون لول، وسان توما، وألبرت الكبير، والأذفونش العاشر القشتالي... ألخ. قال مسيو رينان، " إن ألبرت الكبير مدين لابن سينا في كل شيء، وإن سان توما مدين في جميع فلسفته لابن رشد ".

وظلت ترجمات كتب العرب ـ ولا سيما الكتب العلمية ـ مصدرًا وحيدًا تقريبًا للتدريس في جامعات أوروبا خمسة قرون أو ستة، بل دام إلى أيامنا، فقد شرحت كتب ابن سينا في مونبليه في أواخر القرن الماضي. ولما حاول لويس الحادي عشر تنظيم أمور التعليم في سنة 1473 م أمر بتدريس مذهب ابن رشد، ومذهب أرسطو.

قال الشاعر الكبير بترارك: يا عجبًا استطاع شيشرون أن يكون خطيبًا بعد ديموستين، واستطاع فرجيل أن يكون شاعرًا بعد هوميروس، فهل قدر علينا ألا نؤلف بعد العرب؟ لقد تساوينا نحن والأغارقة، وجميع الشعوب غالبًا وسبقناها أحيانًا، خلا العرب، فيا للحماقة‍‍!! ويا للضلال!! ويالعبقرية إيطاليا الناعسة أو الخامدة ".

وفي كتابه "ظلال الكنيسة" يشيد الكاتب "بلا سكو أبانيز" بمجد العرب الأندلسيين، فالفتوح العربية ـ كما يقول ـ كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وتدوويخ. ولم يكن ـ في الواقع ـ فتحًا فرض فرضا على الناس برهبة السلاح، بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء هذه الحضارة زمنًا عن فضيلة حرية الضمير. فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى، وبيع اليهود، ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها غيرها سد لها، ولا راغب في السيادة عليها. وتمت على هذا ـ ما بين القرن الثامن، والقرن الخامس عشر ـ أجمل الحضارات وأغناها في القرون الوسطى.

وفي الزمن الذي كانت أمم الشمال فريسة للفتن الدينية، والمعارك الهمجية يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة كان سكان أسبانيا يزدادون، فيزيدون على ثلاثين مليونًا تنسجم بينهم جميع العناصر البشرية والعقائد الدينية. فعاشت في الجزيرة الأندلسية طوائف من النصارى والمسلمين، وأهل الجزيرة والشام، وأهل مصر، والمغرب، ويهود أسبانيا والشرق، فكان منهم ذلك المزيج الذي تميز به المستعربون، والمدجنون، والمولدون، وعاشت ـ بفضل هذا التفاعل الحي بين العناصر والعروق ـ جميع الآراء والعادات، والكشوف العلمية، والمعارف والفنون، والصناعات، والمخترعات الحديثة والأنظمة القديمة، وانبثقت من تجاوب هذه القوى مواهب الإبداع والتجديد.

وتؤكد زيغريد هونكه هذه الحقائق ، " فبواسطة العرب تعرفت أوروبا على أهم آثار القدامى، وبفضل ترجماتهم للمخطوطات اليونانية، وتعليقاتهم عليها، وبفضل آثارهم الفكرية الخاصة أدخلت إلى العالم الجرماني روح التفكير العلمي، والبحث العلمي.

إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا فيها حدًا قريبًا من الكمال، وحسابهم وجبرهم، وعلمهم في المثلثات الدائرية، ومصرياتهم الدقيقة، كل ذلك أفضال عربية على الغرب، وقد ارتفعت بأوروبا إلى مكانة مكنتها عن طريق اختراعاتها، واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادن العلوم الطبيعية منذ ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه ".

الحضارة الإسلامية تعمير وتنوير( 3 )

وفي سفره الضخم "قصة الحضارة" يعترف "ديورانت" بعمق تأثير الحضارة الإسلامية في الغرب في كل مناحي الحياة، وبصور متسعة متعددة، فقد تلقت أوروبا من بلاد الإسلام الطعام، والشراب، والعقاقير، والأدوية، والأسلحة، وشارات الدروع ونقوشها، والتحف، والمصنوعات، والسلع التجارية، وكثيرًا من الصناعات، والتشريعات، والأساليب البحرية، وكثيرًا من الأسماء مثل Lemon (ليمون) Sugar (سكر)، Syrup (شراب)، Elixir (الأكسير)، Admiral (أمير البحار).. والعلماء العرب هم الذين احتفظوا بما كان عند اليونان من علوم الرياضة، والطبيعة، والكيمياء، والفلك، والطب، وارتقوا بها، ونقلوا هذا التراث اليوناني بعد أن أضافوا إليه من عندهم ثروة عظيمة جديدة إلى أوروبا.

ولا تزال المصطلحات العلمية العربية تملأ اللغات الأوروبية، منها ـ على سبيل المثال Algebra (الجبر)، Zero، Cipher (للصفر)، و Elenbic (للأنبيق) Almanac (للتقويم) وهي مشتقة من لفظ المناخ. وظل أطباء العرب يحملون لواء الطب في العالم خمسمائة عام كاملة.

وأبراج الكنائس المسيحية المستدقة، وأبراج نواقيسها مدينة بالشيء الكثير إلى مآذن المساتجد.. ولقد أخذ صناع الحديد والزجاج في البندقية، ومجلد والكتب في إيطاليا وصانعو الدروع والسلاح في أسبانيا، أخذ كل هؤلاء فنونهم عن الصناع المسلمين.

وكان النساجون في جميع أنحاء أوروبا تقريبًا يتطلعون إلى بلاد الإسلام ليأخذوا منها النماذج والرسوم، وحتى الحدائق نفسها قد تأثرت ـ إلى حد بعيد ـ بالحدائق الفارسية.

وقد جاء هذا التأثير إلى بلاد الغرب عن طريق التجارة، والحروب الصليبية، وعن آلاف الكتب التي ترجمت عن اللغة العربية إلى اللاتينية، وعن الزيارات التي قام بها العلماء أمثال جربرت Gerbert، وميخائل اسكت Micheal Scot، وأدلارد Adelard إلى البلاد الإسلامية، ومن الشباب المسيحيين الذين أرسلهم آباؤهم الأسبان إلى بلاط الأمراء المسلمين ليتربوا فيها، ويتعلموا الفروسية، ومن الاتصال الدائم بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الشام، ومصر، وصقلية، وأسبانيا. وكان كل تقدم للمسيحيين في أسبانيا تتبعه موجة من آداب المسلمين، وعلومهم، وفلسفتهم، وفنونهم تنتقل إلى البلاد المسيحية، وعلى سبيل المثال نرى أن استيلاء المسيحيين على طليطلة في عام 1085م قد زاد معلومات المسيحيين الفلكية، وأبقى على الاعتقاد بكروية الأرض.

وكان للإسلام والحضارة الإسلامية أثر كبير جدًّا في القارة الهندية التي كانت مهدًا للحضارةوالفلسفة والعلوم الرياضية في عهد من العهود، ثم أمعنت في الوثنية والميثولوجية الهندية، والنظام الطبقي الجائر والتزمت. كتب جواهر لال نهرو: إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شمال غرب الهند، ودخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند، إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي، إنه قد أظهر انقسام الطبقات، وحب الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند، إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها، ويعيشون فيها، أثرت في أذهان الهندوس تأثيرًا عميقًا، وكان أكثر خضوعًا لهذا التأثير الذين حرم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية.

ويقول: ن. س. مهتا (N.C. mehta) في كتابه (Indian Civilization and Islam): إن الإسلام قد حمل إلى الهند مشعلاً من نور قد انجلت به الظلمات التي كانت تغشى الحياة الإنسانية في عصر مالت فيه المدنيات القديمة إلى الانحطاط والتدلي، وأصبحت الغايات الفاضلة معتقدات فكرية. لقد كانت فتوح عالم الأفكار أوسع وأعظم منها في حقل السياسة، شأنه في الأقطار الأخرى. لقد كان من سوء الحظ أن ظل تاريخ الإسلام في هذا القطر مرتبطًا بالحكومة، فبقيت حقيقة الإسلام في حجاب، وبقيت هباته وأياديه الجميلة مختفية عن الأنظار.

وأعجب من ذلك ما ذكره الباحث الهندي المعروف: ك. م. بانكار K.M.Panikar، وهو يتحدث عن تأثير عقيدة التوحيد الإسلامية في عقلية الشعب الهندي، ودياناته، فيقرر أن تأثير الإسلام في الديانة الهندوكية كان عميقًا في العهد الإسلامي، ففكرة عبادة الله عند الهنادك مدينة للإسلام، فقادة الفكر والدين في هذا العصر ـ وإن سموا آلهتهم بأسماء شتى ـ قد دعوا إلى عبادة الله، وصرحوا بأن الله واحد، وهو يستحق العبادة، ومنه تطلب النجاة والسعادة.

وفي كتاب ألفه بالعبرية: نفتالى (Naphtali Wieder) وترجم للإنجليزية باسم Islamic Influences on The Jewish Worship (تأثير الإسلام في العبادات اليهودية)، وقد أثبت الكاتب أن اليهود تعلموا من المسلمين في لغتهم، وأدبهم وحكمتهم، ولم يأخذ المسلمون عنهم شيئًا.

وعندما كانت الحضارة الإسلامية في أسبانيا ساطعة جدًّا، وخصوصًا في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، كانت مراكز الثقافة في الغرب أبراجًا يسكنها ـ كما يقول لوبون ـ "سنيورات" متوحشون، يفخرون بأنهم لا يقرأون.

وأكثر رجال النصرانية معرفة كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين النفيسة بخشوع، وذلك كيما يكون عندهم من رقوق ما هو ضروري لنسخ كتب العبادة.

وكان تعذيب الجسم يعد "مثالية" روحية وأخلاقية، وينقل التاريخ أن الراهب ماكاريوس Makarius نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائمًا قنطارًا من حديد، وكان صاحبه يوسيبيس Eusebius يحمل نحو قنطارين من حديد. وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح، وقد عبد الراهب يوحنا St. Jhon ثلاث سنين قائمًا على رجل واحدة، ولم ينم، ولم يقعد طول هذه المدة، فإذا تعب جدًّا أسند ظهره إلى صخرة.

وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائمًا، إنما يتسترون بشعرهم الطويل، ويمشون على أيديهم، وأرجلهم كالأنعام، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع، والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثيرًا من الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسد منافية لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء وأهدى الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس. يقول الراهب اتهينس: أن الراهب "أنتوني" لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره، والراهب لم يمس الماء وجهه، ولا رجله خمسين سنة.

وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمن متلهفًا: واأسفاه!! لقد كنا في زمن بعد غسل الوجه فيه حرامًا، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات، وكان الرهبان يتجولون في البلاد، ويختطفون الأطفال، ويهربونهم إلى الصحراء والآديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم، ويربونهم تربية رهبانية، والحكومة لا تملك من الأمر شيئًا، والجمهور والدهماء يؤيدونهم، ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم، ويختارون الرهبانية، ويهتفون باسمهم. وعرف الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كن يسترن أولادهن في البيوت، إذا رأين الراهب امبروز Ambrose، وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئًا، وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس.

وفي الوقت الذي كان الأطباء العرب يعالجون الأمراض النفسية بأساليب علمية، وكذلك يعالجون الجنون علاج الأمراض الطبيعية، كان الأفرنج يسمون الجنون بالمرض الإلهي، أو المرض الشيطاني؛ لأنهم كانوا يحسبونه من إصابات الأرواح والشياطين.

ويقول "بلاسكوأبانيز".. وبينما كانت شعوب الفرنجة والجرمان يعيشون في الأكواخ، ويعتلي ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور في القلاع المظلمة، ومن حولهم رجالهم، وهم عالة عليهم، يلبسون الزرد، ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ، كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء، ويردون الحمامات، كما كان سراة روما يرودونها من قبل للمساجلة في مسائل الأدب، وتناشد الأشعار، وتناقل الأخبار.

ومن مظاهر العار في الحضارة الغربية حرب الأفيون Opium War وهي صفحة من أشد الصفحات سوادًا في تاريخ الحضارة الغربية، وأطلق عليها هذا الاسم؛ لأنها بدأت بقيام الجمهور الصيني في مدينة "كانتون" بإحراق سلع صدرتها بريطانيا إلى الهند، ولم تكن هذه السلعة إلا الأفيون، وكانت الحكومة البريطانية تشجع على تهريبها لأهداف سياسية وتجارية.

ومن أجل الأفيون، وحرص بريطانيا على تهريبه وترويجه قامت حربان مشهورتان: الأولى هي حرب الأفيون الأولى (1840 ـ 1842م).

أما حرب الأفيون الثانية فكانت من سنة 1857 م ـ 1860 م).

والشرارة التي فجرت الحرب ظهرت بقيام بعض السكارى من البحارة الإنجليز بقتل أحد الصينيين في "كانتون" ورفض "تشارلز اليوت" المشرف التجاري البريطاني في "كانتون" أن يسلم الجناة لمحاكمتهم بناء على طلب "هسو" حاكم كانتون، فحاصر السفن التجارية البريطانية، فقامت سفينتان حربيتان بريطانيتان، فاغرقتا أغلب السفن الصينية في الميناء، وأعلنت بريطانيا الحرب على الصين في نيسان ( أبريل ) 1840 م.

وكان السبب الحقيقي هو وقوف الصين في وجه تجارة الأفيون. وانتهت الحرب بهزيمة الصين وعقد اتفاقية (شوينبي). وسلمت "هونج كونج" ومناطق أخرى للإنجليز الذين ارتكبوا مذابح بشعة ضد المدنيين، وزيادة على غرامات ضخمة فرضت على الصينيين ضربت القوات البريطانية ساحل الصين الشمالي، واحتلت مدنًا متعددة، وعلى مدى عامين كانت الخسائر الصينية فادحة، ووقعت الصين في آب ( أغسطس ) 1842 م اتفاقية "نانكنغ" وبمقتضاها:

1 ـ تدفع الصين لبريطانيا 21 مليون دولار مقابل الأفيون المحروق.

2 ـ تنزل الصين عن "هونج كونج" لتصبح مستعمرة بريطانية.

3 ـ يعفى المواطنون البريطانيون من الخضوع للقانون الصيني.

5 ـ تمتع بريطانيا بامتياز "الدولة الأولى بالرعاية" في معاملاتها التجارية مع الصين.

6 ـ خفض الرسوم الجمركية على الواردات البريطانية إلى أقل من 5% من قيمة هذه الواردات.

وبعدها، وبأسلوب التهديد حظيت الولايات المتحدة، وفرنسا على ما يقارب هذه الامتيازات. وأغرى هذا الاستسلام دول الغرب بطلب المزيد من هذه التنازلات، وخصوصًا في مجال التجارة، وكالعادة استغل البريطانيون حادثة جديدة عابرة لافتعال أزمة تمكنها من طلب مزيد من المغانم، فضرب أسطولها بالمدافع ميناء "كانتون"؛ لأن الحكومة الصينية "حكومة المانشو" رفضت الإفراج عن سفينة قراصنة كانت ترفع العلم البريطاني وتذرعت فرنسا بحجة قتل أحد مبشريها في مدينة صينية في ديسمبر 1857م، وانضمت إلى بريطانيا في الحرب التي أنزلت بالصين هزيمة شديدة وخرجت بريطانيا وفرنسا بمزيد من الامتيازات مما دفع الولايات المتحدة وروسيا القيصرية إلى مطالبة الصين بمثل ما غنمت الدولتان فكان لهما ما أرادتا وكانت هذه هي حرب الأفيون الثانية ( 1857م ـ 1860 ).

وحرب الأفيون التي استغرقت في فترتيها قرابة خمس سنين ـ تكشف عن أخلاقيات الدول الكبرى التي حملت ميراث الحضارة الغربية وهي أخلاقيات تستبيح كل وسيلة من الغدر، والكذب، والقتل، والنهب، وارتكاب المحرمات سماويًّا، وإنسانيًا في سبيل تحقيق غايتها فلا يهمهم إلا حصد المنافع، والمغانم، واحتلال الأرض، وإذلال الشعوب، وارتكاب أبشع المذابح في حق المدنيين العزل.

وتتضح وحشية الغرب في سياسة النهب، والقتل، والطرد، والتشريد في المناطق التي استولوا عليها ظلمًا، وعدوانًا: ففي "الأريزونا" بأمريكا الجنوبية تعرضت ـ وتتعرض قبائل الهنود الحمر بوادي الأمازون للطرد والإبادة من جانب الشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات التي تزحف على أراضيهم بعد اكتشاف الاحتياطات الهائلة في من الخامات كالبوكسيت "خام الألومنيوم" والنحاس، والبترول في أراضي الصيد القبلية والاستيلاء على هذه الأراضي بدون أي تعويض لأصحابها السكان الوطنيين.

ولا ينسى التاريخ ما دار في جنوب أفريقيا على يد العنصريين البيض في جمهورية جنوب أفريقيا و "زامبيا" و "ناميبيا" والمدعمين من البيوتات المالية الاحتكارية الإنجليزية التي جمعت ثرواتها من نهب هذه الشعوب خلال قرون مضت، والمتحالفين مع أقرانهم من الإمبرياليين الأمريكيين لنهب ثروات جنوب أفريقيا من المعادن الثمينة كالماس والذهب وغيرهما.

أما عن بقايا "الهنود الحمر" في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان هو النموذج الأول في مشوار الإبادة الطويل الذي طبق على شعوب "العالم الرابع" في "الأمريكتين" و "أستراليا" و "نيوزيلندة" أو ما يسمى "بالعالم الجديد" والمحرومين من أبسط حقوق الإنسان، تعيش هذه البقايا في مناطق تشبه "حدائق الحيوان البشرية".

وفي كتابه "حرب قذرة" يحكي الكاتب الأسترالي: كليف تورنيل Clive Turnbull قصة إبادة السكان الأصليين لجزيرة "تسمانيا" عن آخرهم، وكان اسمها الأصلي "أرض فان ديمين" وقد تم هذا الاستئصال خلال خمسة وسبعين عامًا على أيدي أسوأ أنواع المجرمين الإنجليز الذين ضاقت بهم سجون إنجلترا في بداية القرن التاسع عشر لتتخلص منهم. وقد مات آخر هؤلاء السكان الأصليين ـ واسمه وليم لانيه ـ عام 1876 م.

واتبع المستعمرون الإنجليز أقذر الوسائل للقضاء على هؤلاء المساكين، فمنهم من أطلق عليهم النار، ومنهم من هشمت رْوسهم بمؤخرات البنادق ومنهم من حطموا بالخمر والأمراض، ومنهم من ألقى في النيران الموقدة، كما اغتصبت النساء، وانزعت رجولة الذكور، ومنهم من انتزع من أرضه، وألقى به في جزر بعيدة، كل هذه الجرائم الوحشية القذرة من أجل السيطرة على الأرض وتحقيق النزوات.

وما زال للحديث بقية

المصدر:رابطة أدباء الشام