الخطاب الإسلامي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الخطاب الإسلامي



الخطاب الإسلامي

الخطاب.jpg

إن هذا العرض الذي نقدمه بين أيديكم يطمح إلى فهم بعض المعالم الأساسية التي تميز الخطاب الإسلامي باعتباره اجتهادا بشريا نشأ انطلاقا من الكتاب والسنة ، حفظا لهما ودعوة إلى الالتزام بهما. وهو من هذه الجهة ، دعوة إلى التفكير في هذا الخطاب في أفق العصر الذي نعيش فيه ، واستنهاضا للهمم العلمية والحركية في هذه الأمة ، من أجل أن ترتفع بالخطاب الإسلامي المعاصر إلى مستوى التحديات التي يفرضها علينا هذا العصر.

وسنحاول أن نسير بهذا العرض في الخطوات التالية :

•الوقوف عند دلالة الخطاب.

•الوقوف عند نشأة الخطاب الإسلامي.

•الوقوف عند مواصفات الخطاب الإسلامي.

•الوقوف عند آفاق الخطاب الإسلامي.


دلالة الخطاب

ترتبط الدلالة العربية لكلمة الخطاب - كما نجد في لسان العرب - بمراجعة الكلام ، والمشاورة. وفي القرآن الكريم نجد حضورا لهذه الكلمة في ثلاث آيات من الكتاب العزيز ؛ آيتان في سورة “ ص ”: { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } ، { وعزني في الخطاب } ، وآية في سورة “ النبأ ”: { لا يملكون منه خطابا }. والناظر في الدلالة التي تحضر بها هذه الكلمة في القرآن الكريم ، لا يجدها تخرج عن الدلالة اللغوية السالفة الذكر ، وهو ما نلمسه في تعريف الطاهر بن عاشور للخطاب في سياق تفسيره لآية سورة النبأ في سفره القيم “ التحرير والتنوير ” في قوله: “ الخطاب هو الكلام الموجه لحاضر لدى المتكلم أو كالحاضر المتضمن إخبارا أو طلبا أو إنشاء مدح أو ذم ” (30/50).

إذن فالدلالة العربية للخطاب ترتبط برسالة موجهة من مرسل إلى مرسل إليه ، وهو ما تم التعبير عنه بلفظ الكلام. لكننا نضيف - من أجل دقة أكبر حتى نحدد المعنى الذي سنوظف فيه هذا المفهوم في سياق هذا العرض - إن هذه الرسالة التي يمكن النظر إليها باعتبارها جملة كبيرة موجهة من شخص إلى شخص آخر ، والتي قد تكون رسالة شفوية أو كتابية ، تشترط جملة من الشروط ، منها أن تكون بين المخاطِب والمخاطَب علاقة تواصل في مكان معين وزمان محدد ، ومن هنا عدم قابلية الخطاب للتكرار. إنه بهذا المعنى ينتمي إلى التاريخ ، فهو إذن حدث تاريخي ، يمكن أن يراجع لكنه يستحيل أن يتكرر. ونحن سنحتفظ بهذا المعطى لأهميته بالنسبة إلينا في هذا العرض ، إذ أننا سنذهب في حديثنا مذهبا يعتبر أن الخطاب الإسلامي هو كل قول نشأ حول الإسلام للتعريف به ، أو الذود عنه ، أو الدعوة إليه. ومن هنا نميز بينه وبين الإسلام كدين يعلو عن الظرفية التاريخية ، الزمانية أو المكانية. ومن هنا أيضا تحرجنا من استعمال عبارة مثل “ الخطاب القرآني ” أو “ الخطاب النبوي ” ، مع فهمنا لمن يستعملهما في دلالتهما العربية الخاصة.


حديث حول الأسس

لقد أوحى الله تعالى لعبده المصطفى e قرآنا عربيا ليخرج به قومه أولا ، ثم العالمين ثانيا ، من ظلمات الجهل والجهالة إلى نور العلم والحكمة. وكان رسوله الكريم خير بيان لما جاء في القرآن الكريم علما وعملا ، حتى وصفته عائشة بأنه “ كان خلقه القرآن ” ؛ وأجمع المسلمون بأنه - عليه الصلاة والسلام - كان قرآنا يمشي على الأرض. فتلازمت في شخصه الكريم كل معاني الإسلام في أبهى صورها وأجلى مظاهرها. وتوحد المسلمون على فهم واحد لمعاني الإسلام ، فتآلفت قلوبهم واجتمع شملهم عليه ، واستطاعوا في زمن قياسي أن يوصلوه إلى كثير من مناطق العالم القديم.

وهكذا شكل القرآن والسنة اللحمة التي جمعت كلمة المسلمين على الخير. ومن هنا لا يمكن للمرء أن يتحدث عن الخطاب الإسلامي دون الحديث عن الأساسين المتينين اللذين نشأ عليهما: الكتاب والسنة ؛ إذ أنه يستحيل أن نتحدث عن الخطاب الإسلامي في معزل عن الوحي - بشقيه الإلهي والنبوي - الذي صاغ شخصية المسلم وطبعه بميسم خاص ، حتى أصبح المسلم يرى العالم من خلال المعجم القرآني والدلالات النبوية التي رباه الرسول e عليها. ومن هنا أيضا ، تكمن أهمية كتابة المصحف في عهد الخليفتين أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما ، والعملية الجبارة التي قامت من أجل تدوين السنة النبوية ، والتي بدأت إرهاصاتها - في أرجح الروايات - في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. إذ على أساسي القرآن والسنة ستقوم أضخم عملية لتدوين الخطاب الإسلامي في العصر الذي سمي “ عصر التدوين ” ، حفاظا على الشخصية الإسلامية من الضياع.


حديث حول النشأة

نشأ الخطاب الإسلامي تدوينا وكتابة عندما خشي المسلمون التأثير السيئ للمنازعات التي دبت بين المسلمين والخصومات التي نشأت بينهم نتيجة ذهابهم في فهم الإسلام مذاهب شتى. فأرجعت بعضهم “ كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض ” ، وتشبثت كل طائفة منهم بفهم معين للوحي بشقيه المعروفين. وبدأ البعض يتقول على الرسول e ما لم يقله من أحاديث. وكذلك عندما دخل الأعاجم في الإسلام - من فرس وروم وغيرهم - وهم يحملون معهم إرثا ثقافيا منافيا للإسلام ، فقد حرص البعض منهم على أن يُقرب بين هذا الموروث وبين معاني هذا الدين الجديد الذي دخل فيه…

خشي المسلمون أن تشوش هذه الأحداث وهذه التيارات على الفهم النقي للإسلام ، فضلا عن المستجدات الجديدة التي أصبح يعرفها العالم الإسلامي ، فانبرى المسلمون ليحيطوا هذا الدين بسياج من المعارف والعلوم تحفظه من غلو الغالين ومن انتحال المفسدين. فنشأ الخطاب الإسلامي بألوانه المختلفة ، خطابا شرعيا نقليا مستمدا من الكتاب والسنة.

ذلك ما يوضحه لنا ابن خلدون في مقدمته المشهورة ، حيث يحصي أصناف العلوم التي نشأت:

• فيتحدث ابتداءا عن علم التفسير الذي ينظر في كتاب الله ببيان ألفاظه ومعانيه حتى لا يخرج الناس بالقرآن إلى تأويل لا يمت إلى المعاني الحقيقية للإسلام بصلة ، كما نجد في بعض التفاسير الباطنية التي حملت كثيرا من الآيات القرآنية غير ما تحتمل.

• ثم يتحدث عن علم القراءات الذي ينظر في إسناد نقل القرآن وروايته إلى النبي e الذي جاء به من عند الله ، وينظر أيضا في اختلاف روايات القراء في قراءته ؛ وأهمية هذا العلم تكمن في أنه يثبت بالدليل الدامغ الأصل الإلهي للقرآن الكريم ، ويقدم بين يدي المسلمين القواعد الضرورية والأساسية لقراءته ، لارتباط ذلك بفهمه وتدبره.

• ثم يتحدث عن علوم الحديث: وهو علم يهتم بإسناد السنة إلى صاحبها والكلام في الرواة الناقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك. ويعتبر هذا العلم من أهم العلوم التي أنشأها المسلمون للحفاظ على السنة من أن يدخلها تغيير ، وبخاصة علم الجرح والتعديل الذي استفاد منه الغربيون في نقدهم “ للكتب المقدسة ”.

• ثم يتحدث عن أصول الفقه: وهو العلم الذي يؤهل الفقيه لاستنباط الأحكام الفقهية من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط ؛ وأهمية هذا العلم جليلة عند المسلمين ، فهو العلم الذي يحفظ للشريعة حيويتها ويجعلها مسايرة للعصر باستمرار.

• ثم يتحدث عن الفقه: وهو أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين.

• ثم يتحدث عن علم الكلام أو الفقه الأكبر - كما سماه أبو حنيفة -: وهو العلم الذي يتكفل بالحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ؛ وأهمية هذا العلم باقية عبر الأزمان ، مع اختلاف في المنهاج والطرق وتجدد في المضامين.

• ثم يختتم ابن خلدون حديثه عن أصناف هذه العلوم النقلية بالإشارة إلى العلوم اللسانية التي يحصي منها علم اللغة وعلم النحو وعلم الأدب ، وهي العلوم التي دأب المسلمون على تسميتها بعلوم الآلة ؛ وهي العلوم التي بدونها لا يمكن معرفة الأصول الإسلامية فضلا عن الكشف عن أسرارها.

لقد نشَّـأ هذا الخطاب الإسلامي علوما ومعارف مبوبة ، أصبحت قابلة للتعليم بعد أن كانت متفرقة هنا وهناك ، وتكونت في المساجد حلق العلم التي كان يفد عليها الطلاب بكثرة ، حتى تحولت المساجد إلى جامعات تخرج العلماء في جميع أنواع المعارف. ومن أبرز الخطابات الإسلامية التي نشأت في هذه المساجد ما يمكن أن نسميه بالخطاب الدعوي-الحركي ، خاصة مع الحسن البصري رحمه الله تعالى. وقد أقبل الأعاجم المسلمون على هذه الجامعات ، فكان منهم علماء كبار أسدوا لهذا الدين من الخدمات ما عجز عن إسدائه له كثير من العرب الذين نشؤوا في أحضانه.

لكن لماذا هذا الوقوف عند هذه العلوم الإسلامية ؟

إن وقوفنا عندها هو:

أولاً: إبراز لظروف نشأة الخطاب الإسلامي الذي هو خطاب إنساني حول الشرع ، يريد الحفاظ عليه وتحصينه والذود عنه.

ثانيا: للتأكيد على أن أي مشروع مجتمعي وإسلامي لا يمكن أن يقوم دون تجدد في هذا الخطاب مع مقتضى الإسلام كدين التجديد ، ووفق مقتضى العصر كزمان ، مع الحفاظ على ثوابته الأساسية. ومن هنا نتساءل عن أهم المواصفات التي تميز الخطاب الإسلامي عن غيره من أنواع الخطابات التي يموج بها عصرنا ويمور.


مواصفات الخطاب الإسلامي

إذا أردنا أن نجد للخطاب الإسلامي بعض المواصفات التي تميزه ، فإنه يمكن القول إن أهمها:

1- صفة الأخلاق: إذ أن كل خطاب إسلامي هو خطاب يضرب بجذوره في تربة الخلق الكريم.

2- صفة الحق: إذ أن كل خطاب إسلامي لا يمكن فصله عن الغاية التي ينشدها من إحقاق للحق وإبطال للباطل.

لقد قام الإسلام على أساس من خلقٍ وحقٍ. وقد وعى المسلمون الأوائل هذا الدرس فالتزموا جانب الأخلاق في خطابهم ما وسعهم ذلك ، وتحروا الحق في قولهم وكتاباتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وكان أهم مبدأ التزموا به في ذلك ، والذي يجمع بين الفضيلة الخلقية والأمانة العلمية ، هو المبدأ القائل “ الحكم على الشيء فرع عن تصوره ” ؛ فلم يكن المسلم يطلق حكما على خطاب أو سلوك ، إلا بعد أن يستحضر في ذهنه التصور الكامل لحيثيات ذلك الخطاب أو القول ، حتى إذا أطلق حكما ظل يتردد صداه عبر التاريخ دليلا على الأمانة العلمية التي كان المسلمون أساتذة كبارا فيها كموقف الإمام الغزالي رحمه الله من الفلسفة فقد كتب كتابه “ مقاصد الفلاسفة ” الذي عرض فيه بأمانة علمية لآرائهم ، قبل أن يفندها في كتابه “ التهافت”.


حول الخطاب الإسلامي المعاصر

لكن هل يا ترى هذا الخطاب الذي ينشئه المسلمون هنا وهناك في بلادنا الإسلامية ، وفي عصرنا هذا ، هو في مستوى التحديات الكبرى التي يعرفها المسلمون اليوم في تاريخهم المعاصر ؟

وهل هذا الخطاب يحترم خصوصيات الخطاب الإسلامي كما أصله لنا أسلافنا الكرام ، وكما أبرزته الأيام المشرقة لحضارتنا الإسلامية الوارفة الظلال ؟

إننا نعيش اليوم في مرحلة تاريخية شبيهة بتلك التي اكتشفت فيها أوروبا القارتين الأمريكيتين ، وهي مرحلة “ الثورة الإعلامية والمعلوماتية ”. فالعالم يتحدث اليوم عن “ حقول المعلومات ” و “ الطرق السيارة للمعلومات ” و “ السيبرمجال ” (syberespace)… وكما يمكن أن تؤاخذ معاصري اكتشاف القارتين الأمريكيتين من عثمانيين وسعديين… على عدم سعيهم لتبليغ رسالة الإسلام إلى القارتين ، واقتطاع بعض المناطق منها لإلحاق سكانها بأمة الإسلام بالحسنى ، فإنه يمكن أن يؤخذ علينا - بعد حين - عدم تحركنا أمام اكتشاف الغرب لـِ “ أمريكا أخرى ” وهي “ السيبرمجال ” الناتج عن الثورة المعاصرة السالفة الذكر.

جاء في مقال في آخر عدد لصحيفة “ لوموند ديبلوماتيك ” الشهرية (Le Monde) (مايو 1996 ، ص 18 ، عنوانه: “ اللغة الإنجليزية ليست قدرا ” ,Le tout-anglais n’est pas une fatalite ) أنه حتى يمكن لأي لغة أن تضمن حضورها في مجال “ انترنيت ” (Internet) مثلا ، فإنها تحتاج - بمقياس السوق - إلى مليونين من المستخدمين لها في هذا المجال الجديد (مثلا ، استطاعت اللغة اليابانية أن تفرض حضورها ، بينما فشلت اللغة الفرنسية إلى اليوم في ذلك). إذن ، إن نحن تأخرنا في حمل هذا التحدي لضمان حضور لغة القرآن ، فهذا يعني أننا نساهم في تمكين الآخرين من طمس وجودنا ، مثل ما حدث عند اكتشاف القارتين الأمريكيتين.

ولا يتورع بعض المسؤولين الغربيين - أحدهم من “ البونتاكون ” - كما جاء في مقال آخر في الصحيفة الفرنسية السالفة الذكر ( “ في اتجاه سيطرة سياسية عالمية من نوع جديد ” ص 17 ) أن يؤكدوا أنه من خلال استيعابها لأنظمة المعلومات ومن خلال السيطرة عليها ، ستتمكن الولايات المتحدة من المزيد من بسط نفوذها السياسي في العالم.

وهناك أيضا من يتحدث عن “ أغنياء المعلومات” و “فقراء المعلومات” ، وعن “ الحرب المعلوماتية ” التي بدأت فعلا بين الدول الغنية… حرب استبدلت الأهداف العسكرية القديمة بأهداف أخرى تتمحور حول التحكم في الأجهزة المعلوماتية المسيرة لمعدات العدو وحركات معلوماته… من خلال أجهزة معلوماتية أخرى. وهمّ الولايات المتحدة اليوم هو وقاية نفسها من هجوم معلوماتي شبيه بهجوم “ بيرل هاربور ” Peart Harburg ، ( والكلمة لمسؤول أمريكي في وكالة الاستخبارات المركزية ).

لقد أدى أسلافنا كامل أدوارهم في تثبيت خطاب إسلامي ظل يحفظ لنا هويتنا ووجودنا الحضاري والثقافي ، فدونوا لنا العلوم الإسلامية - كما رأينا - وعملوا على نشر الإسلام بالجدال تارة والحكمة والموعظة الحسنة مرة أخرى ، فما نحن فاعلون ؟

هل نكمل الدور ؟ أم أننا دون مستواهم فنغيب في دهاليز التاريخ !!

إن العصر الذي نعيش فيه يحمل للمسلمين أكثر من تحدٍ على أصعدة مختلفة… ومن أضخمها التحدي المرتبط بوجودهم كأمة لها تميزها وخصوصيتها. لقد أصبحت الهوية الإسلامية اليوم تتعرض لخطر مصيري ، فإما أن نكون وإما ألا نكون. لكن عندما نقرأ كثيرا من الأدبيات الإسلامية في هذا المجال فإننا نجدها متخلفة عن مستوى هذا التحدي ، الذي يوشك أن يجعل المسلمين أثرا بعد عين ، لولا لطف الله وعنايته التي سبقت كيد الكائدين. فافتقاد المسلمين للنظرة الشمولية المستوعبة يجعل كثيرا منهم عاجزاً عن تحديد استراتيجية المرحلة والاستعداد لها بما يلزمها من العدة ، فيأتي خطابهم فقيرا بالقياس إلى الخطاب الذي أنشأه المسلمون الأوائل حول واقعهم كما نجد مثلا عند الشافعي الذي كان مدركا لواقعه وعصره فأنشأ في العراق مذهبا فقهيا ، ولكنه لما هبط مصر لم يتورع عن إنشاء مذهب فقهي جديد يستجيب لطبيعة المكان والظرف والمرحلة. فما أحوجنا في هذه الظروف إلى استلهام هذا الدرس العميق فلا نتأخر عن إيجاد الخطاب الإسلامي الملائم لعصرنا ، خطاب يجدد لنا ديننا ، ويساعدنا على فهم التحديات التي تجابهنا ، وينبهنا إلى الوسائل الكفيلة برفع هذه التحديات مع الزمن.

لكن الطامة الكبرى في كثير مما يكتبه البعض ، هو افتقاد الخطاب الإسلامي للقيم الأساسية التي بني عليها أصلا هذا الخطاب: قيمة الفضيلة وقيمة الحقيقة. وذلك راجع أصلا إلى هذه الظاهرة المرضية التي ابتليت بها أمتنا منذ القديم ، والتي أصبح خطرها اليوم يهدد شمل المسلمين ، وهي ظاهرة التحزب. فقد وقع كثير من الدعاة اليوم - كما لاحظ الأستاذ صلاح الدين النكدلي في مقال له في الرائد (عدد 177/ص28) - “ في براثن العصبية الحزبية ، فإذا رأوا عملا طيبا يصدر عن مخالفيهم في الرأي ، فإنهم يحزنون ويعملون على طمسه والنيل من نية فاعليه ، وإذا وقفوا على اجتهاد يخالف اجتهادهم ، فإنهم ينبرون إلى تسفيه إخوانهم والطعن في عقولهم وإخلاصهم ، وغالبا ما يتأولون النصوص الشرعية ، فيوهمون من حولهم أن الآخرين قد خرجوا على حدود الشرع وهم يعلمون… فكيف يكون صادق الإيمان من يفرح لخطأ أخيه ، أو لمصيبة تنزل به ، ويحزن ويتألم لصواب مخالفيه في الرأي ! وكيف يكون تقيا مخلصا من يرصد أخطاء إخوانه في الدين ، وينقب عن هفواتهم ، وإذا اطلع على عورة سعى بين الناس ناشرا لها بكل وسيلة ممكنة ؟!…”. إن الخطاب الإسلامي المعاصر يجب أن يلتزم بأصول الإسلام الأخلاقية القائمة على الرأفة والرحمة بالمؤمنين ، ليجمع الشمل ويهيئ الجولات بينه وبين جميع عوامل التخلف التي تنخر جسم أمتنا.

وأخيرا إن على المسلمين اليوم أن “ يخرجوا من هامش الهامش وأن يرتفعوا إلى مستوى العالم والعصر”. وإذا كان غيرهم يقف بكبريائه أمام هذا الخروج وأمام هذا الارتفاع ، فإن عليهم أن يدركوا إدراكا تاما أن خطابهم الإسلامي هو خطاب حضاري ، يصبح الزمن فيه وسيلة أساسية لاكتساب الخصائص اللازمة لطرحه طرحا يجعله يساهم مساهمة فعالة في عملية التغيير الشامل على كل المستويات… خصائص تبدأ بمعرفة عميقة بشؤون الدين الإسلامي العظيم ، وتمر بوعي شامل للعالم والعصر الذي يعيشون فيه ، وتنتهي وتبدأ بإيمان كبير ويقين مطلق في الله عز وجل ، حتى إذا ادلهمت الدنيا أمام الأعين ، ظل المسلم مرتفعا بإيمانه جاعلاً جوارحه بيد ربه يقوده كيف يشاء ، وجاعلاً أخوته مع المؤمنين في الله حقا فوق الاعتبارات الضيقة والعصبيات المنتنة ، وجاعلاً خطابه للبشرية جمعاء.

فهو الخطاب المعبق بأخلاقيات الإسلام التي تمس في الصميم الإنسان بما هو إنسان ، أخلاقيات قصدها كسب القلوب مع كسب المواقف ، دون التنازل عما يميز الخطاب الإسلامي من طموح ، إلى أن يكون فرقاناً يميز به المسلمون بين ما يرونه حقاً وما يرونه بميزان الإسلام باطلاً ، مستلهمين قوله تعالى عن داود عليه السلام: { وآتيناه الحكمةَ وفصلَ الخطاب }.