الدَّولة ضرورة حضارية ” مشروع البنا نموذجا ”

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الدَّولة ضرورة حضارية ” مشروع البنا نموذجا ”


مقدمة

فتحت الثورات الشعبية التي تجتاح عالمنا العربي في الوقت الرّاهن مجالاً كبيرًا للحديث عن إعادة تشكيل بنية وشكل الدولة القومية الحديثة، بعد عقود طويلة من الفشل والفساد.

وتتواكب هذه المسألة مع الزّخم الكبير الذي بات يكتسبه المشروع الإسلامي في وقتنا الرّاهن، والدور الذي باتت تلعبه القوى الإسلامية في تشكيل مصائر أوطانها، وهو ما يعيد النقاش حول شكل مشروع الدولة الذي تقدّمه هذه القوى كبديل للحكم في بلدانها.

وفي حقيقة الأمر، فإنَّ هذه القضية ليست قضيَّة سياسيَّة؛ بل هي من أساسيات حياة الإنسان، فمنذ أن ظهر الإنسانُ على سطح هذه الأرض؛ فإنَّه سعى إلى تنظيم أموره الحياتيَّة وشأنه اليومي الذي كان همَّه الأكبر في ذلك الزّمن البعيد مجرد توفير وسائل العيش لعددٍ محدودٍ من البشر.

ومع تطوّر الجماعة البشريَّة وتعقُّدها في الشكل والحاجات من مستوى الأسرة وحتى مستوى القبيلة والعشيرة ظهرت الحاجة إلى وجود شكلٍ من أشكال "السلطة" أيًّا كانت لتسيير أمور الرعيَّة وتنظيم مصالحها وتطبيق الثواب والعقاب وفرض القواعد التي استُقِرَّ عليها واتفق عليها الجميع لتسيير شئونهم اليوميَّة وحياتهم العامة.

وكانت السلطة في ذلك الوقت من التاريخ الإنساني ذاتَ طابعٍ أخلاقي واجتماعي بالأساس (رب العائلة، كبير القبيلة وشيخها.. إلخ)، مع عدم تعقُّد شكلِ أو أنشطةِ الجماعات البشريَّة بالصورة التي تستوجب ظهور السلطة السياسيَّة بالمعنى المعاصر للمصطلح، ثم تطورت هذه السلطة وتعقدت بتعقد أنماط العمران البشري، حتى وصلنا إلى شكل الدولة المعاصرة، والتي هي أوسع شكلٍ من أشكال العمران البشري المنتظم، وأكثرها كمالاً وتنوعًا.

الدولة في مشروع الصحوة الإسلامية

ومشروع الدَّولة قديم في فكر وأدبيات الصّحوة، مع إدراك القائمين عليه ومنظريه لأهميَّة الدولة ووجود السلطان في تنظيم حياة البشر كأحد قوانين العمران البشري كما خلقها الله سبحانه وتعالى.

ولقد تأثر مشروع الدولة الإسلاميَّة لدى تيارات الصحوة المختلفة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومن بينها مشروع الإخوان المسلمين، بمجموعةٍ من العوامل التي جعلته يظهر على الشكل الذي جاء عليه في أدبياتها المختلفة، وهي:

1. الظروف التي كانت قائمةً في ذلك الوقت على مستوى عموم الأمة العربيَّة والإسلاميَّة، من تخلُّفٍ حضاري وعلمي واقتصادي وعسكري.. إلخ وتفتُّت.

2. وقوع أجزاء كبيرة من العالم العربي والإسلامي تحت نير الاستعمار الغربي المباشر؛ حيث كانت القوى الأوروبيَّة تسيطر على أجزاء شاسعة من البلدان العربيَّة والإسلاميَّة بقوة السلاح والسياسة وتستنزف خيراتها وثرواتها وتوجِّهها في سبيل تحقيق المصالح الغربيَّة على مختلف المستويات السياسيَّة والأمنيَّة والعسكريَّة وغير ذلك.

3. انهيار دولة الخلافة الإسلاميَّة في العام 1924م على يد كمال أتاتورك في تركيا؛ ممَّا مثَّل صيحةَ تحذير قويَّة للمسلمين بأنَّ آخر حصون وحدة الأمَّة- ممثلاً في الخلافة العثمانيَّة- قد تهدَّم؛ بما يفرض على كل مسلم مخلص أن يسعَى للبحث عن اتجاه جديد للنهضة الإسلاميَّة يتجاوز هذه الانتكاسة الكبرى، ومِن ثمَّ نشأ مشروع الدولة الإسلاميَّة لدى الإمام البنا كبديلٍ لانهيار دولة الخلافة الإسلاميَّة.

4. غياب تطبيق الشريعة الإسلاميَّة، وبالتالي غابَ المشروعُ الأممي الإسلامي في الداخل والخارج، وبات واضحًا أنَّ غيابَ الدولة القويَّة القادرة على فرض النموذج الإسلامي الأصيل يُعتبَر واحدًا من أهم أسباب هذه الحالة، مع كون فرض الشريعة وحمايَّة مقاصدها الخمسة- وعلى رأسها حمايَّة الدين- والعمل بما أنزل الله تعالى هو الهدف الرَّئيس من وراء استخلافه عزّ وجل للإنسان في الأرض.

5. حالة الفساد السياسي التي لا تزال قائمةً في الكثير من بلدان الأمَّة، والتي من بين مظاهرها قابليَّة القوى الحاكمة والسياسية الموجودة للاستقطاب من جانب المشروع الإمبريالي العالمي.

وكان هناك في بعض المشروعات التي عرضتها تيارات الصَّحوة، ومن بينها مشروع جمال الدين الأفغاني ورشيد الرضا والإمام حسن البنا، الكثر من بُعد النظر في أنهم قدروا الشكل العام للدولة في العالم العربي والإسلامي في مرحلة ما بعد خروج الاستعمار، وقدروا أيضًا متطلبات البناء والنهضة في هذه المرحلة.

ورأوا هؤلاء، من خلال أدبياتهم، أنَّ دولةً إسلاميَّة قائمةً على الشريعة وذات مواصفات محدّدة في مرجعيات الدين الإسلامي الأصليَّة وهي القرآن الكريم والسنة النبويَّة المطهرة وكذلك التراث السياسي الأصيل لدولة الخلافة الإسلاميَّة الراشدة ستكون هي الحلَّ الأكثرَ فاعليَّة لمشكلات الأمة على مستوياتها القطريَّة الصغيرة أو القوميَّة والأمميَّة الكبرى والعامة.

كما أنَّ الحلَّ الإسلامي بشقَّيْه السياسي والاجتماعي كان هو الأكثر قدرةً على علاج مشكلة الاستعمار تحديدًا مع ما يوجد في أصول الإسلام من مفاهيم تتعلق بالشهادة والجهاد؛ بحيث يتم صياغة كل متطلبات العمل الإسلامي في مشروع سياسي واحد هو الدولة الإسلاميَّة.

الدَّولة الإسلاميَّة لدى الإمام البنا

من خلال ما كتبه الإمام الشهيد في هذا المجال بشكل مباشر، كما في رسائله الثلاثة المهمّة "نحو النور"، و"مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي" و"نظام الحكم" أو في رسالته إلى المؤتمر الدوري الخامس للإخوان المسلمين في العام 1938م بمناسبة مرور عشرة أعوام على انطلاقة دعوة الإخوان المسلمين، أو في الروافد الفكريَّة المتاحة لنا من تراث الإمام حسن البنا التي تحدثت عن قضيَّة الدولة الإسلاميَّة من جهة شكلها وضوابطها، فإننا يمكننا تحديد معالم واضحة للدولة في مشروع الإخوان المسلمين.

في البداية، حدَّد الإمام البنا اللبِنات الأولى للدولة الإسلاميَّة القويَّة، وقال: إنَّه النسق أو النظام القرآني الذي من بين أركانه، كما حدَّدها البنا في رسالته هذه:

1. العبادات المختلفة: الصَّلاة والذكر والتوبة والصيام والزكاة.. إلخ.

2. الأخلاقيات العامة: مثل العفة والتحذير من الترف والأمر بالمعروف وبذل النصيحة والنهي عن المنكر ومقاطعة مواطنه وفاعليه وحسن المعاملة وكمال التخلق بالأخلاق الفاضلة.

3. التكافل: الإنفاق في سبيل الله والصدقة؛ وصولاً إلى مستوى التضامن الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم بالرعايَّة والطاعة معًا.

4. بناء شخصيَّة المسلم: عبْر الكسب والعمل وتحريم السؤال، والتزوُّد بالعلم والمعرفة لكل مسلم ومسلمة في فنون الحياة المختلفة، كلٌّ فيما يليق به، والحرص على سلامة البدن والمحافظة على الحواسّ، وكذلك الحج والسياحة والرحلة، واكتساب المعرفة عبر النظر في ملكوت الله.

5. الجهاد وحمايَّة حدود ومصالح الدولة: كفريضة توجب القتال في سبيل الله، وتجهيز المقاتلين، ورعايَّة أهليهم ومصالحهم من بعدهم.

وبوجهٍ عامٍ، كانت هذه الحدود أو الأُطُر العامة لنظريَّة الدولة وملامحها لدى الإمام البنا والمشروع الإخواني.

ولقد وضع الإمام "الدولة الإسلاميَّة" على رأسِ أجندةِ عمله السياسي والدَّعوي خلال المراحل الأولى من عمر الدعوة؛ باعتبار أنَّ تأصيل قيم المشروع الإسلامي بمختلف مستوياتها- الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة.. إلخ- لا بد لها من "حاضنة" قويَّة لكي تقيم الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى، وتُحَقِّق حاكميَّة الشريعة الإسلاميَّة في الأرض.

وفي هذا الإطار عمد إلى التأكيد أولاً على شموليَّة الإسلام، وبالتالي ربطه بالعمل السياسي كجزءٍ لا يتجزَّأ أولاً من الدين الحنيف (والحنيف هو ما حاد عن السوء والتزم الطريق القويم السليم) وثانيًا من المشروع السياسي والدعوي للإخوان المسلمين، وبالتالي وضْع مشروع الدولة الإسلاميَّة على قائمة أولويات الإصلاح في رسالة ومنهج عمل الإخوان.

وفي هذا الإطار، انشغل في كثير من أدبياته بالحديث عن قضيَّة الدولة والسياسة في الإسلام، مع محاولة نزع الشوائب الموجودة في الفهم والعمل السياسيَّيْن في العصر الحديث، من تدليس وغش وتحالفات شيطانيَّة مكَّنت الأجنبي في مصر من البقاء لعقود طويلة بالتحالف مع حكمٍ ملكيٍّ فاسدٍ، مع تقديم نموذج مخالِف لما يمكن أن نسميَه بـ"العمل السياسي الأخلاقي" أو "أخلاقيات العمل السياسي" بعيدًا عن الحزبيَّة والطائفيَّة.

وبهذا النموذج الأخلاقي للسياسة سعى المرشد المؤسّس- رحمه الله- إلى تأسيس النموذج الأخلاقي والمثالي للدولة، من جهة تركيبها ووظائفها ومهامها ومهام أجهزتها وسلطاتها المختلفة، وكذلك كيفيَّة تعاملها مع مجموعة من القضايا الإشكاليَّة التي لم ينجح عبْر التاريخ في التعامل معها سوى الحكم الإسلامي، وفشلت الأنظمةُ الأخرى العلمانيَّة والدينيَّة في أوروبا وغيرها خارج ديار الإسلام في تقديم الحلول الناجحة لها.

ومن بين ذلك كيفيَّة التعامل مع الأقليات الدينيَّة والعرقيَّة في الدولة الإسلاميَّة، وقضيَّة المواطنة، وقضايا أخرى مثل صلاحيات واستقلاليَّة السلطات المختلفة داخل الدولة، واستلهم البنا في هذا الإطار العديد من النماذج التي حفل بها التاريخ الإسلامي، من تراث عصر النبوة وعصور الخلافات الراشدة الأربعة، وغيرها من النماذج التي صنعت المجدَ الإسلامي القديم، بالإضافة إلى الصبغة الحديثة التي صبغ بها البنا مشروعَه من خلال مستجدات الواقع الإسلامي ومتطلباته، بما لا يتعارض مع الأصول.

ومن ضمن عناصر قوة الدولة كما حددها الإمام البنا في كتاباته، ومن بينها رسالته "بين الأمس واليوم":

- وحدة القيادة السياسيَّة.

- اتباع النظام الاجتماعي القرآني.

- اللامركزيَّة في الحكم: بيت المال والجيش وإدارة شئون الولايات.. إلخ.

- الابتعاد عن سيطرة السلطات الدينيَّة على العمل السياسي وعلى الجانب الروحي من حياة البشر.

- الابتكار الحضاري الذاتي بجانب النقل والتطوير عن الحضارات الأخرى.

- الالتزام الإيماني.

وعلى المستوى الآخر، وبجوار مؤامرات الخارج وسياسات المستعمر لضرب الوحدة الإسلاميَّة وتفكيك دولة الخلافة، وجد البنا أنَّ هناك عوامل أدَّت إلى تحلُّل الدولة الإسلاميَّة وعدَّدَها على النحو التالي:

- الخلافات السياسيَّة والعصبيَّة وتنازع "الرياسة والجاه"، بالرغم من التَّحْذِير الشديد الذي جاء به الإسلام في ذلك ودعواته إلى الرغبة عن طلب السلطة والحكم.

- الخلافات الدينيَّة والمذهبيَّة والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى "ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة"، وإهمال كتاب الله وسنة الرسول صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، والجمود والتعصب للآراء والأقوال والاهتمام بالجدل بعيدًا عن مصلحة الأمة الإسلاميَّة ككل.

- الانغماس في أمور الدنيا وترفها، بعيدًا عن ما يجب على الحاكم الاهتمام به من شئون المسلمين.

- انتقال السلطة والحكم إلى الشعوبيِّين من غير العرب، من الفرسِ والمماليكِ والأتراكِ وغيرهم "ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح"، مع زيادة وتيرة الدسائس والمؤامرات.

- إهمال العلوم والمعارف التطبيقيَّة، والاهتمام بالفلسفات النظريَّة العقيمة، بما يخالف ما أمرَ به صحيح الدين الإسلامي الحنيف والقرآن الكريم.

- الاغترار بالسلطة وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمة الإسلاميَّة مقارنة بغيرها، بحيث زادت الفجوة الحضاريَّة سياسيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا.

ويضاف إلى ذلك عوامل داخليَّة وخارجيَّة أخرى تتعلق بطغيان المادة، والصراع الاجتماعي، ونهضة الأمم الأخرى ومؤامرات أعداء الأمَّة عليها، حتى تفككت وسقطت أرجاء الأمة في أيدي الاستعمار الغربي سواء الفرنسي أو الإسباني أو البريطاني، فكانت البدايَّة في ضياع الأندلس، واستمر مسلسل الضياع والتفكك حتى القرن العشرين الميلادي المنصرم، حيث كارثة انهيار الخلافة العثمانيَّة، بالإضافة إلى نكبة ضياع فلسطين.

الدولة الإسلاميَّة كضرورة حضاريَّة

على أساس هذه الصورة وضع الإمام البنا على رأس أهداف دعوة الإخوان المسلمين هدفين رئيسين؛ أولهما: تحرير العالم الإسلامي من الاستعمار الأجنبي، والثاني "أن تقوم في هذا الوطن الحُرِّ دولةٌ إسلاميَّة حُرَّةٌ تعمل بأحكام الإسلام وتُطَبِّق نظامَه الاجتماعي، وتُعْلن مبادئه القويمة وتبلِّغ دعوته الحكيمة الناس، وما لم تقم هذه الدولة فإنَّ المسلمين جميعًا آثمون مسئولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودِهِم عن إقامتها، ومن العقوق للإنسانيَّة في هذه الظروف الجائرة أنْ تقوم فيها دولة تهتف بالمبادئ الظَّالمة، وتُنادي بالدعوات الغاشمة ولا يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام".

وفي السياق العام، وضع البنا والإخوان المسلمون من بعده تصوُّرًا للدولة الإسلاميَّة يقوم على أساس مبدئي عام يقول "الدولة الإسلاميَّة دولة مدنيَّة مرجعيتها إسلاميَّة" بعيدًا عن طراز الدولة العلمانيَّة التي تفصل ما بين الدين والسياسة والدولة، وعن نظام الدولة الكَنَسِيَّة الأوروبيَّة القديمة التي غالت في سيطرة الكنيسة الكاثوليكيَّة على الحكم، وغالت في هيمنة رجال الدين على أمور الدين والدنيا بما لا يُوجَد له أي أساس في الإسلام، لا على المستوى النظري أو المستوى التطبيقي.

وفي هذا المقام، بدأ الإمام البنا في رسالة "مشكلاتنا الداخليَّة في ضوء النظام الإسلامي" في تحديد القواعد الرَّئيسة لنظام الحكم الإسلامي- أول وأهم ركن من أركان الدولة- بشكل عام ومنهجي، وفي هذا الإطار فإن نظام الحكم في الإسلام يعتمد على القواعد الثلاث الآتيَّة: مسئوليَّة الحاكم، واحترام إرادة الأمة، والمحافظة على وحدة هذه الأمة، على أنْ يكون نظام الحكم الإسلامي نظامًا نيابيًّا يقوم على الشورى والانتخاب والتداول السلمي للسلطة، والحفاظ على المصلحة العام للأمَّة.

(أ). مسؤوليَّة الحاكم:

الحاكم مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى، وأمام الشعب والناس، "وهو أجير لهم وعامل لديهم"، وقد بنى البنا فلسفته الخاصة في هذا المقام على أساس كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مثل: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته))، وقال: إنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه وضع أساس العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين بقوله عندما تولَّى الحكم: (أيها الناس، كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم، فأنا الآن أحترف لكم، فافرضوا لي من بيت مالكم).

(ب). وحدة الأمَّة:

والمبدأ في هذا الإطار هو المبدأ القائم على أساس الأخوَّة في الله والدين، "لأنَّ الأخوَّة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان لا يتم إلاَّ بها ولا يتحقّق إلاَّ بوجودها"، وعلى العكس يكون الأثر السيئ متى تفرّقت الأمّة، ومن هنا ظهرت أهميَّة الطاعة لأولي الأمر ووحدة قراره شرط الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى.

(ج). احترام إرادة الأمَّة:

وهذا المبدأ هو الأكثر تسييسًا فيما طرحه الإمام البنا من أركان الدولة الإسلاميَّة، وهو مبدأ أجمعت عليه كافة أنظمة الحكم في العصر الحالي، باعتبار أنَّ "الشعب هو مصدر السلطات كلها"، وفي القرآن الكريم والسنة النبويَّة وميراث الخلفاء الراشدين العديد من القواعد التي حدَّدَتْ هذه المسؤوليَّة.

وينقسم نظام الحكم في الدولة الإسلاميَّة إلى راعٍ وحكومة ورعيَّة (وليس إلى حاكم وحكومة وكفى لأن الشعب جزء أصيل من نظام الحكم باعتبار أنَّه مصدر السلطات) وفي خصوص الشق الأول لنظام الحكم في الدولة الإسلاميَّة، وهو الحاكم، فإنه يجب أنْ يكون مستوفيًا لكافة شروط الولايَّة أو الإمامة الكبرى التي حددها الإسلام: الإسلام، والكفايَّة في الأداء، وسلامة العقل والجسم، والأمانة، والعدل، وغير ذلك من السمات.

أمَّا الحكومة، فقد قال فيها الإمام البنا: "يفترض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدةً من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس، فهو لا يُقِرُّ الفوضى، ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام، ولقد قال الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" لبعض أصحابه: "إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه"، كما قال في حديث آخر لبعض أصحابه كذلك: "إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا عليكم رجلاً"".

وقد ظهرت الدَّولة في حياة الأمم لصيانة حقوق المواطنين وحراسة الدين كوسيلة شرعيَّة وضرورة اجتماعيَّة لازمة، تعمل على تحقيق العديد من الأهداف في الداخل والخارج، ففي الداخل تحتل قضيَّة بناء الإنسان وزيادة رصيده الحضاري والمعرفي وتنميته، وتثبيت مبدأ الحكم بالشريعة الإسلاميَّة، وإقامة مجتمع الأخلاق، وفي الخارج تطوير وضعيَّة الأمة بين الأمم الأخرى والتفاعل مع من سالم المسلمين من الأمم الأخرى، وحمايَّة مصالح الأمة في الخارج، وردع المعتدين والغُزاة، وغير ذلك من مهام الدولة الحديثة.

سمات الدولة الإسلاميَّة

الدَّولة في مشروع الإخوان المسلمين لها العديد من السّمات، فهي دولة مدنيَّة ذات مرجعيَّة إسلاميَّة كما سبق القول تقوم على أساس العقد الاجتماعي بين المحكومين والحاكم، وعلى أساس ذلك يكون لكل فرد فيها الحق في المواطنة، فهي إذن دولة مواطنة ذات طابع تمثيلي، أي الشورى نيابة الأمة من جانب أهل الحل والعقد، كذلك هي دولة تعدديَّة تقوم على أساس مبدأ تداول السلطة، وتكون السيادة فيها للمؤسسات لا الأفراد، وكذلك للقانون وليس للأحكام العرفيَّة، أو ما يُعرف في الأدبيات الحديثة باسم قوانين الطوارئ.

والمشروع الحضاري للإمام البنا- رحمه الله- يرى أنَّ الدولة الإسلاميَّة يجب أنْ تقوم على أساس الطاعة والدعم بالأموال والأنفس من جانب المواطنين تجاه الدولة أو الأمة حال قيام الدولة أو الحاكم بواجباته والتزاماته مثل تحقيق العدالة والأمن وصيانة المال العام ونشر التعليم والتنميَّة ونشر الفضيلة، والعمل على اكتساب كافة دعائم القوة الشاملة لتسود الأمة الإسلاميَّة على كل ما عداها من أممٍ أخرى وتُقَدِّم النموذج الذي يُحتذى من الآخرين كأقوى وسيلة لنشر الإسلام في العالم.

وبما أنَّ الإخوان فكرة إصلاحيَّة شاملة كما قال البنا في رسالته إلى المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس الجماعة، فإنَّ مشروع الدولة الإسلاميَّة تم وضع تصور دقيق وشامل له بين شكل سلطات الدولة ومهامها (التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة)، وكذلك شكل المشروع الاجتماعي والاقتصادي الذي يجب على الدولة في الإسلام تبنيه، وكيفيَّة الحفاظ على المال العام.

ولعلَّ أهم ما عرضه الإمام البنا في هذا المقام كان مبدأ استقلاليَّة القضاء وسيادته، وكذلك مبدأ الفصل ما بين السلطات، هذا على المستوى السياسي، أمَّا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فقد ركَّز البنا على أهميَّة سيادة الأخلاق الإسلاميَّة في العمل الاقتصادي والبعد الاجتماعي بحيث لا يكون هناك فساد أو احتكار، وتسود قيم العدالة الاجتماعيَّة، والتكافل الاجتماعي، وحمايَّة المال العام.

موقع بصائر