السلطة التنفيذية في فكر حسن البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
السلطة التنفيذية في فكر حسن البنا


إخوان ويكي

مقدمة

حسن البنا اسم لا يجهله أحد، فهو واحد من الزعماء والقادة والمصلحين القلائل الذين سطروا سيرتهم بحروف من نور - رغم وفاته في سن مبكر – وخلف وراءه الكثير من الاشكاليات التي تناولها العديد من الباحثين والكتاب والتي لم تنته بعد ومنها مفاهيمه حول السلطة التنفيذية.

سطر منذ صغيره أمنيته التي حددها أن يكون مرشدا معلما حينما قال:

"وهو أن أكون مرشدا ومعلما إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار ومعظم العام قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة وثالثة بالتجول والسياحة". (1)

تملكت هذه الأمنية عليه خلجات نفسه ورفض أن ينزوي تحت الدعوات الفردية، والمناهج الفكرية التي كنت منتشرة نوعا ما، ومع ذلك عمل مع كل فكرة إسلامية، أو منهج إصلاحي لتربية النفوس وتحرير الأوطان، غير أنه وجد معظمها بعد فترة ينطفئ وهجها أو تقتصر على كلمات الوعظ والإرشاد.

فحينما كان طالبا وجد أن الحركات التبشيرية قد انتشرت في طول البلاد وعرضها والتي تعمل تحت حماية المستعمر الغربي، ومن ثم سعى لاستنفار العلماء للتصدي لهذا الخطر فكان تأليف جمعية الشبان المسلمين عام 1927م وكان من أوائل من سجل اسمه فيها للعمل تحت لوائها، غير أنها لم تكن الجماعة التي ستحقق ما تمناه صغيرا وما خطط له على مدار حياته، حيث كان يرى بعض الفروق البسيطة مثل ألية التنفيذ

فيقول في رسالة المؤتمر الخامس:

"وإنما تقع فروق يسيرة في أسلوب الدعوة، وفي خطة القائمين بها وتوجيه جهودهم في كلتا الجماعتين" (2)، والتي وضحت في مقال أخر فقال: فالشبان المسلمون كانت تهتم بالجانب الرياضي والثقافي فقط مما جعل بعض الإخوان يرى أن أعضاء هذه الجمعية أصبحوا شبانًا لكنهم لم يصبحوا مسلمين أقوياء، وأن هذا الشباب المملوء حيوية والسواعد المفتولة لم تخلق لتمشي في الأرض مرحًا، وإنما يجب أن يبيعوا الحياة ويهبوا الشباب لله. (3)

ولذا انطلق ليستكمل فكره التنفيذي الذي نبغ فيه منذ الصغر حينما شارك في جمعية الأخلاق الأدبية بمدرسة الرشاد الابتدائية الدينية عام 1915م والتي وضع أسسها التنظيمية على أساس أن من شتم أحد يتحمل غرامة قرش، ومن سب الدين يتحمل غرامة قرشين، وتنفق هذه الغرامات في فعل الخيرات والبر ومساعدة المحتاج، وأصبح رئيسا للجمعية وذلك قبل أن ينتقل لمستوي تنفيذي أعلى بتأسيس جمعية منع المحرمات، حيث اتركز منهجها على نصح من يفعل الخطأ عن طريق إرسال خطاب له يحدثه عن خطأه وذنب ذلك الخطأ، ومن يفعل شيء صواب يرسل له خطاب يثبته على صوابه، وحينما انتقل لسن أكبر زادت مداركه التنفيذية فجاء تكوين الجمعية الحصافية الخيرية بمشاركة رفيقه أحمد السكري بهدف مقاومة المحرمات من خمر وقمار وبدع، ونشر الأخلاق الفاضلة ومقاومة الإرساليات التبشيرية الإنجليزية. (4)

كان هذا الفكر التنفيذي دافعا قويا لحسن البنا لإنشاء جماعة الإخوان المسلمين والتي رسم خطوطها، ووضع أهدافها، وحدد مسارها ومنهجها، وخطط لطريقة نشرها وتدرجها في الانتشار بعد أن أكد على شموليتها والتي لا تقتصر على جانب من الحياة دون جانب أخر فقال: نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شئون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف. (5)

وقال في موضع أخر:

الإسلام دين ودولة ما في ذلك شك .. ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية وكلت حمايتها ونشرها، والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلى الدولة أي إلى الحاكم الذى يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم. (6)

وضع الشيخ حسن البنا رؤية واضحة لجماعته منذ اللحظة الأولى والتي بنيت على منهج التدرج للوصول بالغايات إلى الأهداف المرجوة، فكانت مرحلة التعريف ثم مرحلة التكوين وأخيرا مرحلة التنفيذ والتي تتلاحم فيها المراحل الثلاثة مع بعضهم البعض

يقول الشيخ البنا:

وأما التدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك لأنهم اعتقدوا أن كل دعوة لا بد لها من مراحل ثلاث: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة، وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب ، ثم مرحلة التكوين وتخيُّر الأنصار، وإعداد الجنود ، وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج، وكثيرًا ما تسير هذه المراحل الثلاث جنبًا إلى جنب؛ نظرًا لوحدة الدعوة وقوَّة الارتباط فيها جميعًا، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخير ويربي، وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك. (7)

ويؤكد ذلك في رسالة أخرى بقوله:

طريق الإخوان المسلمين مرسومة محدودة معروفة المراحل والخطوات، ليست متروكة للظروف والمصادفات. ومراحل هذه الطريق ثلاث: التعريف، والتكوين، والتنفيذ، أو الدعوة العامة، ثم الدعوة الخاصة، ثم العمل أو تغيير العرف العام، ثم الإعداد، ثم الإتمام، كل هذه الألفاظ لا تختلف مدلولاتها. (8)

ماذا يقصد بمفهوم التنفيذ؟

كان الأستاذ حسن البنا واضحا حينما وضع من بداية دعوته المفاهيم والمناهج والأطر التي ستسير عليه الجماعة التي أسسها، والتي كانت تعتمد في كونها جماعة إسلامية شاملة تعمل على صحيح الدين وتزكية النفوس وتربية الأفراد وإصلاح الحكم دون تميز جانب على أخر، أو إهمال جانب لصالح أخر.

وهو ما أوقع الباحثين والمفكرين في إشكالية هل جماعة الإخوان جماعة دعوية، أم أنها حركة سياسة؟ وهو المعني الذي لم يسع إليه الأستاذ حسن البنا ولا أتباعه من بعده، بل سعوا ليكونوا كل ذلك، حيث عبر عنه البنا بقوله: أيها الإخوان: أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزبًا سياسيًّا، ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسرى في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن .. إذا قيل لكم إلام تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم: هذه سياسة! فقولوا: هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام. (9)

وفي حوار مع مجلة صوت الشعب وجه له المحرر سؤالا واضحا حول هذا الفكر الشمولي ومفهومه لمفهوم التنفيذ، ومما جاء في هذا السؤال: ألا تعتقدون أن الدين إذا اختلط بالسياسة فسد كلاهما، وأمامنا شواهد التاريخ في الأمم فهي كثيرة؟.

فقال الشيخ البنا:

نحن نعتقد أن الدين الإسلامي جاء بأحكام لا يمكن أن تكون نافذة إلا بالسلطة التنفيذية، وعلى ذلك فالدين في الحقيقة، لا يمكن أن يستغنى عن السياسة، كما أن كل سياسة لا يكون أساسها خوف الله، والتشبع بالمثل العليا، التي جاء بها الدين، تكون سياسة فاشلة، ومعنى هذا أن السياسة لا يمكن أن تستغنى عن الدين، وفي هذه الحدود يجب أن يتعاون الدين والسياسة؛ ولهذا جاء الإسلام يجمع بينهما. أما إذا خضع الدين لأهواء السياسة، أو ادعى الساسة أن تصرفاتهم دينًا تفرض له القداسة، فسد الدين وفسدت السياسة!

ولقد احتاط الإسلام لذلك فاستوعب الجزئيات في الناحية الدينية ولم يترك لأحد فيها قولاً، وحرم في ذلك الزيادة والنقصان، واقتصر في الجزئيات على المعاني الكلية، ووسع على الساسة في أساليب التطبيق حسب تطور الأزمان والحوادث! ومن درس طبيعة الإسلام دراسة دقيقة علم أنه ليس دينًا فقط، ولكنه نظام للحياة الكاملة، يشمل المعاني الدينية، والمعاني السياسية على السواء. (10)

لم يسطر حسن البنا كلمات لتردد فقط لكنها كانت منهج عملي لتقوم على قواعده أكبر حركة إسلامية في القرن العشرين، ولذا كان لابد أن يسبق مرحلة التنفيذ مراحل أخرى بمثابة القواعد والأساس التي ستتكأ عليه الجماعة حينما تشرع في تشيد جدران مرحلة التنفيذ ومواجهة التحديات التي تهدد مرحلة، ولذا سبقتها مرحلة التعريف و نشر الفكرة بالفهم السليم، ثم المرحلة الأهم وهي تكوين الأمَّة بالتربية الصحيحة.

وضع الإمام في مرحلة التنفيذ قواعد للحماية في مواجهة التحديات ، من الإفراط أو التفريط ، أو الغلو والتساهل ، في توازن رشيق ، ووسطية رائعة

يقول الإمام البنا:

"ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" (الأنفال 24)، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلاَّبة، ولكن غالبوها واستخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد" (11)

لقد نظر حسن البنا للسلطة التنفيذية على أنها جزء من الإسلام مثل بقية أجزاء الإسلام، وأنه جزء من فكر ومنهج الإخوان المسلمين فيقول:

ومن هنا - أيها الإخوان - كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلمون في نظم الحكم، ويجاهدون في مناصرة الحق، ويحتملون عبء سياسة الأمة، ويظهرون على الصفة التي وصفوا أنفسهم بها "رهبان بالليل فرسان بالنهار" حتى كانت أم المؤمنين عائشة الصدِّيقية تخطب الناس في دقائق السياسة، وتصور لهم مواقف الحكومات في بيان رائع وحجة قوية. ومن هنا رأينا من مواقف الأئمة رضوان الله عليهم في مناصحة الملوك ومواجهة الأمراء والحكام بالحق ما يضيق بذكر بعضه فضلاً عن كله المقام.

ومن هنا كذلك كانت كتب الفقه الإسلامي قديمًا وحديثًا فياضة بأحكام الإمارة والقضاء والشهادة والدعاوى والبيوع والمعاملات والحدود والتعزيرات، ذلك إلى أن الإسلام أحكام عملية وروحية، إن قررتها السلطة التشريعية فإنما تقوم على حراستها وإنفاذها السلطة التنفيذية والقضائية، ولا قيمة لقول الخطيب كل جمعة على المنبر: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ "المائدة: 90" ، في الوقت الذى يجيز فيه القانون السكر، وتحمى الشرطة السكيرين، وتقودهم إلى بيوتهم آمنين مطمئنين، ولهذا كانت تعاليم القرآن لا تنفك عن سطوة السلطان، ولهذا كانت السياسة الحكومية جزءًا من الدين، وكان من واجبات المسلم أن يعنى بعلاج الناحية الحكومية كما يعنى بعلاج الناحية الروحية. (12)

أهداف الإخوان من مرحلة التنفيذ

لم يواري حسن البنا حول مفهوم التنفيذ لديه بل كان صريحا بأن الإخوان – مثل غيرهم – يسعون للوصول للسلطة التنفيذية لتنفيذ المنهج الإسلامي الذي يؤمنون به – وإن كانت ليست غايتهم القصوى – لأنهم لم يشترطوا أنفسهم في مقام السلطة التنفيذية لكنهم أكدوا على دعمهم لكل من يعمل لخدمة هذا الوطن ومصالحه وفق الشرائع الإسلامية.

فذكر ذلك بقوله:

منهج الإخوان الإصلاحي يرتكز على قواعد الإسلام وتعاليمه، وهم يريدون سيادة الفكرة الإسلامية، وهيمنتها على كل مظهر من مظاهر حياة الأمة، مع الانتفاع بكل جديد لا يتنافي معها.

ومهمة الإخوان المسلمين "تكوين الأمة المسلمة" والاضطلاع بعبء تبليغ دعوة الرسول الأعظم من جديد، والإصلاح الذى ننشده يتناول كل نواحي الحياة في الأمم الإسلامية عامة وفي مصر على الخصوص على النحو الآتي:

الناحية السياسية: نريد الحكومة الإسلامية الصالحة، والأمة العزيزة الحرة في الداخل والخارج.
الناحية الإدارية: نريد الإدارة الصالحة المنتجة التي تؤدى بها الواجبات، وتنهض بها المشروعات، وتصان بها الكرامات، وتنتصر فيها الفضيلة والأخلاق. (13)

كان حسن البنا يدرك أن طبيعة التنفيذ ليست بالشيء الهين، ولذا سبقها بمرحلتي التعريف بهذه الدعوة والتربية الصحيحة للأفراد حتى يتحملوا ما سوف يلاقينه من عنت واضطهاد المؤسسات الرسمية وبعض الأفراد الذين يجهلون حقيقة الإسلام وما يدعوا إليه الإخوان المسلمين، فذكر لأتباعه ما سيجرى ويحدث لهم في طريقهم حتى يستعدوا لهذه اللحظة فقال: أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلقى منهم خصومه شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات. (14)

كما تضمن منهجه التعريف بطبيعة مرحلة التنفيذ التي سيواجهها أو يواجهها إخوانه من بعده لتعزيز السلطة التنفيذية وفق مصالح الوطن فقال:

التنفيذ: والدعوة في هذا الطور جهاد لا هوادة معه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذا الطور إلا كمال الطاعة كذلك، وعلى هذا بايع الصف الأول من الإخوان المسلمين في يوم 5 ربيع الأول سنة 1359هـ. (15)

وفي خطوة يتسأل الأستاذ حسن البنا متى تكون خطوتنا التنفيذية ليؤكد على صعوبة التنفيذ وأنه يحتاج لتربية وإعداد فيقول: إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ.

يسهل على كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالاً باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلين من هذا الكثير يثبتون عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيعون أن يعملوا، ولكن قليلاً منهم يقدرون على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل العنيف. وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تدركهم عناية الله، وفي قصة طالوت بيان لما أقول، فأعدوا أنفسكم، وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة، والاختبار الدقيق، وامتحنوها بالعمل، العمل القوى البغيض لديها الشاق عليها، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها. (16)

لم يكتف الشيخ حسن البنا بتربية أتباعه على الاستعداد لمرحلة التنفيذ فحسب بل وضع لهم أطر حتى لا يتصوروا أنهم يستطيعون ولوج مرحلة التنفيذ في أي وقت، لكنه أراد أن يعد لهذه المرحلة أفراد يستطيعون إدارة دفة الأمور بمهارة وتفاني

فقال:

ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحيًّا بالإيمان والعقيدة، وفكريًّا بالعلم والثقافة، وجسميًّا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبونى بأن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء. وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإنى فاعل إن شاء الله، وصدق رسول الله القائل: "ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة" (رواه أبو دواد) .. وقد تستطيعون أنتم معشر نواب الإخوان ومندوبيهم أن تقصروا هذا الأجل إذا بذلتم همتكم، وضاعفتم جهودكم، وقد تهملون فيخطئ هذا الحساب، وتختلف النتائج المترتبة عليه. (17)

لكنه عاد وتدارك أن البعض قد يظن أن الإخوان قليلي العدد ولذا هم عاجزون عن تحمل مسئولية مرحلة التنفيذ، لكنه أوضح أن الإخوان كثيري العدد وهم ينتشرون في كل ركن من أركان هذا الوطن بأعداد كبيرة، لكنه يريد أفراد من نوعيات خاصة تتحمل صعاب ومشاق المرحلة

فيقول:

قد يظن من يسمع هذا أن الإخوان المسلمين قليل عددهم، أو ضعيف مجهودهم، ولست إلى هذا أقصد وليس هذا هو مفهوم كلامي، فالإخوان المسلمون والحمد لله كثيرون ..ولكن أقصد إلى ما ذكرت أولاً: من أن رجل القول غير رجل العمل، ورجل العمل غير رجل الجهاد، ورجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذى يؤدى إلى أعظم الربح بأقل التضحيات. (18)

ثم أخذ في تفنيد ما أثره البعض من أن الإسلام لا يصلح في الحكم وطبيعته التي تحتاج للمكر والخداع والسير على نسق ميكافيللي، ولذا وضح أن الإسلام له في كل شيء وأن اتباعه لديهم المقدرة على الوصول للحكم بالطرق السلمية والدستورية وأنهم سينجحون في النهوض بها

فيقول:

الإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدى الإسلام الحنيف كما فهموه، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة. وهذا الإسلام الذى يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنًا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وقديمًا قال الخليفة الثالث رضى الله عنه: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". (19)

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم عروة من عرى الإسلام. والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر.

ثم يوضح عاقبة عدم ولوج الإسلاميين في الحكم أو الاهتمام به من أن انصرافهم عنه يعود بالضرر من تمكن المحاربين لدين الله من السلطة فيحكموا بغير ما أنزل الله، فيقول: والمصلح الإسلامي إن رضى لنفسه أن يكون فقيهًا مرشدًا يقرر الأحكام ويرتل التعاليم ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله، ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره، فان النتيجة الطبيعية أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد، ونفخة في رماد كما يقولون.

قد يكون مفهومًا أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله وتنفيذًا لأحكامه وانصياعًا لآياته وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم، أما والحال كما نرى: التشريع الإسلامي في واد والتشريع الفعلي والتنفيذي في واد آخر، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدى الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف.. هذا كلام واضح لم نأت به من عند أنفسنا، ولكنا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف. (20)

ويؤكد أن السبيل للنهوض هو حرص العاملين بالإسلام و اهتمامهم بشئون الدولة والحكم والنظم الدستورية – مثل غيرهم في هذا الشأن – فيقول:

ولنكن مع هذا صرحاء في الحق لا تأخذنا فيه لومة لائم، فنقول: هل أمام أصحاب الدعوات، وحملة الرسالات في هذا العصر من سبيل مشروعة إلى تحقيق مقاصدهم، والوصول إلى أهدافهم إلا هذه السبيل الدستورية السلطة التشريعية أولا، فالسلطة التنفيذية بعد ذلك، وإنما يكون طلب الحكم والسعي إليه عيبًا وعارا وسبة إذا أريد به الجاه الزائف والعرض الزائل، أما أن يقصد من وراء ذلك تحقيق مناهج الإصلاح، وإظهار دعوة الخير، وإعلاء كلمة الإسلام والحق فلا عيب فيه ولا غبار عليه بل لعله يكون من أقدس الواجبات وأعظم القربات. (21)

وكما ذكرنا أن الإخوان لم يطلبوا الحكم لذاته أو طمعا في السلطة، لكن لتحقيق هدفهم وهو الحكم بشرائع الله سواء كان ذلك على أيديهم أو أيدي أخرين يعملون من أجل ترسيخ معاني الإسلام في الحكم ولا يفرقون بين أركانه، فيقول: الإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء، وأداء هذه الأمانة، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدى كل حكومة لا تنفذ أوامر الله. (22)

بل كان يستثير العاطفة في بعض الحكام ورؤساء الوزراء الوطنيين في وقته من أجل الأخذ بشرائع الإسلام في الحكم وعدم الذلة أمام المستعمر الغربي، فقال:

لو كانت لنا حكومة إسلامية صحيحة الإسلام، صادقة الإيمان، مستقلة التفكير والتنفيذ، تعلم حق العلم عظمة الكنز الذى بين يديها، وجلال النظام الإسلامي الذى ورثته، وتؤمن بأن فيه شفاء شعبها، وهداية الناس جميعًا... لكان لنا أن نطلب إليها أن تدعو الدنيا باسم الإسلام، وأن تطالب غيرها من الدول بالبحث والنظر فيه، وأن تسوقها سوقاً إليه بالدعوات المتكررة والإقناع والدليل والبعثات المتتالية، وبغير ذلك من وسائل الدعوة والإبلاغ، ولاكتسبت بذلك مركزًا روحيًّا وسياسيًّا وعمليًّا بين غيرها من الحكومات، ولاستطاعت أن تجدد حيوية الشعب، وتدفع به نحو المجد والنور، وتثير في نفسه الحماسة والجد والعمل. (23)

ومع هذا المفهوم الذي سارت عليه جماعة الإخوان وفق المنهج الذي سطره مرشدهم الأول حسن البنا إلا أن الإمام البنا أكد على نقطة هامة وهي تربية المجتمع أولا حتى يتحمل مع الإخوان – أو غيرهم – تبعات النهوض بالوطن والتضحية من أجله، وكان بين كلماته تحذير خفي للإخوان أن لا يتقدموا للسلطة التنفيذية قبل أن يربوا المجتمع على مفاهيم ومعاني الإسلام، فيقول: ومع هذا فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال، فلابد من فترة تنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. (24)

خاصة أن حسن البنا وضع يده على الخلل حينما أدرك أن مظاهر الحكم الإسلامي أصبحت غير موجودة، وقام مقامها نظريات الحكم القائمة على مبادئ ميكافيللي، فيقول:

لقد جاء الإسلام نظامًا وإمامًا، دينًا ودولة، تشريعًا وتنفيذًا، فبقى النظام وزال الإمام، واستمر الدين وضاعت الدولة، وازدهر التشريع وذوى التنفيذ .. والإخوان المسلمون يعملون لتأييد النظام بالإمام، ولتحيا من جديد دولة الإسلام، ولتشمل بالنفاذ هذه الأحكام، ولتقوم في الناس حكومة مسلمة، تؤيدها أمة مسلمة، تنظم حياتها شريعة مسلمة أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه حيث قال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ*إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ﴾ "الجاثية: 18-19" (25)

لكن مع هذا الفهم الشمولي تعرض الأستاذ حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين للهجوم من قبل أذناب الاستعمار وكل متلهف على السلطة وأتباعهم الخائفين من أن يحكم الإسلام، حيث أرادوا أن يحصروا الإسلام في شئون الخلاء وأحكامه، والمسجد وصلواته فقط، ويتركوا الحكم لأهله المتمرسين، ولذا ظلوا على مدار السنوات يحاربون الإخوان ويتهمونهم بطمعهم في السلطة – وكأن من في السلطة زاهد فيها، وكان العلمانيين وغيرهم زاهدين في الحكم – وأنهم يستخدمون جميع الوسائل – خاصة القوة – لبلوغ هذه الغاية

غير أن الإمام البنا يفند اتهاماتهم ويفند حججهم بقوله:

أما وسائلنا العامة، فالإقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر، حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان، ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هي الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح.. ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية، وتناصرها وتنحاز إليها القوة التنفيذية. (26)

بل وضع رؤية لمنهجية الفكر التنفيذي في بعض السياسات فيقول:

السياسة الخارجية ..فإني أريد بالسياسة معناها الخارجي، وهو المحافظة على استقلال الأمة وحريتها، وإشعارها كرامتها وعزتها، والسير بها إلى الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شئونها، مع تحديد الصلة بينها وبين سواها تحديدًا يفصل حقوقها جميعًا، ويوجه الدول كلها إلى السلام العالمي العام، وهو ما يسمونه (القانون الدولي).

الحقوق الدولية .. سياسة الإسلام داخلية أو خارجية تكفل تمام الكفالة حقوق غير المسلمين ما دامت لا تضر بهم ولا تهضم حقوقهم، سواء أكانت حقوقًا دولية أم كانت حقوقًا وطنية للأقليات غير المسلمة؛ ذلك لأن شرف الإسلام الدولي أقدس شرف عرفه التاريخ .. وقد كفل الإسلام حقوق الأقليات بنص قرآني .. كما أن تعاليم الإسلام وسياسته ليس فيها معنى رجعى أبدًا. (27)

هل الإخوان جاهزون للحكم؟

وبعد أن وضح منهج الإمام البنا وفكره التنفيذي جاءه سؤال مهم من أحد الصحفيين حينما قال له:

إن الأحزاب المادية أي "اليسارية " الموجودة في أوروبا الآن تكتسح على الدوام الأحزاب الوسط، أو اليمينية، فهل يستطيع الإخوان المسلمون - ودعوتهم روحية - إذا وكلت إليهم السلطة التنفيذية، (أي الحكم) أن يحققوا للبلاد ما تحققه الأحزاب المادية؟

فجاء رده:

يا سيدى لا تنس أن الإسلام لم يهمل الناحية المادية، بل جعلها قرينة للناحية الروحية، فالإسلام مادة وروح معًا، وكل الذى امتاز به أنه كفكف من غلواء الجشع المادي بالإشراق الروحي، ولكنه لم يتخيل الروح أبدا بغير مادة، ولم يكن شريعة فردية ، ولكنه شريعة مجتمع ينظر إلى الواقع ويقدره، ويرقى بالناس إلى مثلهم الخيالية بوسائل عملية مادية!

ولو أسند الحكم إلى هيئة تعتمد على الإسلام في برنامجها لرأيت عجبًا في سعادة الناس ورفع مستواهم المادي، في ظل هذا الوجدان الروحي العجيب. وأحب أن أؤكد لك أن (الإخوان المسلمين) لا يطلبون الحكم لأشخاصهم، ولكنهم يتمنون أن يجدوا من الناس من يؤمن بهذه الدعوة، ويخلص لهذا المنهاج، ليكونوا عدة، وهم يفضلون دائما أن يكونوا مع الشعب وللشعب. (28)

ومن المفاهيم السابقة يتضح لنا أن جماعة الإخوان المسلمين سارت على الفكر الإسلامي الذي أحياه الأستاذ حسن البنا، حيث تنطلق رؤية الجماعة تجاه المجتمع وأنظمة الحكم والدولة من إيمانها المطلق بأن الإسلام دين ودولة؛ حيث يمد الإسلام الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نُظُم وقواعد وعواطف ومشاعر، وأن الإسلام قد رسَّخ لكل الأصول والقواعد اللازمة لتيسير حياة المواطنين، وهو غير المفاهيم التي يحاول البعض حصرها في كهنوت الدولة الدينية والتي أصبحت حاليا ضد الدولة العلمانية، لكن الإسلام لا يعرف الكهنوت كما لا يعرف تغيب الإسلام على شئون الدولة وهذا ما يؤمن به الإخوان المسلمين.

المراجع

  1. حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2001م، صـ 65.
  2. حسن البنا: رسالة المؤتمر الخامس، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2006م.
  3. مجلة النذير: العدد (26)، السنة الأولى، 29 رمضان 1357ه - 21 نوفمبر 1938م، صـ5.
  4. مذكرات الدعوة والداعية: مرجع سابق، صـ16 – 20.
  5. حسن البنا: رسالة المؤتمر الخامس، مرجع سابق.
  6. جريدة الإخوان المسلمين اليومية: العدد (627)، السنة الثالثة، 7 رجب 1367ه - 16 مايو 1948م، صـ3.
  7. حسن البنا: رسالة المؤتمر الخامس، مرجع سابق.
  8. حسن البنا: رسالة المنهج، صـ276.
  9. حسن البنا: رسالة بين الأمس واليوم.
  10. صوت الشعب: العدد 9 ، 12 أغسطس 1946، صـ6.
  11. حسن البنا: رسالة المؤتمر الخامس، مرجع سابق.
  12. حسن البنا: رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين 1938م، صـ258.
  13. حسن البنا: رسالة المنهج، مرجع سابق.
  14. حسن البنا: رسالة بين الأمس واليوم، صـ578.
  15. حسن البنا: رسالة التعاليم، صـ309.
  16. حسن البنا: رسالة المؤتمر الخامس، مرجع سابق، صـ379.
  17. المرجع السابق
  18. المرجع السابق: صـ380
  19. قال معظم العلماء أنه مأثور عن عثمان بن عفان وليس بحديث، أنظر ابن تيمية فى "مجموع الفتاوى"، (3/18)، وابن كثير فى "البداية والنهاية"، (2/12).
  20. حسن البنا: رسالة المؤتمر الخامس، مرجع سابق، صـ390.
  21. حسن البنا: رسالة الإنتخابات، صـ815.
  22. رسالة المؤتمر الخامس: مرجع سابق، صـ391.
  23. حسن البنا: رسالة الإخوان تحت راية القرآن، صـ432.
  24. حسن البنا: رسالة المؤتمر الخامس، مرجع سابق.
  25. حسن البنا: رسالة المؤتمر السادس، صـ483.
  26. المرجع السابق: صـ490.
  27. حسن البنا: رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين، مرجع سابق، صـ260- 263.
  28. صوت الشعب: العدد 9 ، مرجع سابق.