الشيخ أحمد سحنون.. الاستقلال مجسدا في أسمى أبعاده

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الشيخ أحمد سحنون.. الاستقلال مجسدا في أسمى أبعاده


بقلم: الدكتور مصطفى براهمي

في أعقاب الانقلاب على الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية، تثبتت أقدام النظام الحديدي الذي كان على رأسه أحمد بن بلة، والذي تورط في مسار خطير من قمع الحريات العامة والفردية، وفتح السجون للمعارضة، والتعذيب وتصفية الحسابات.

هذا النظام حاول باسم الصفاء "الثوري" الماركسي، محاربة كل تعبير حر عن الإسلام، يختلف عن الأيديولوجيا الرسمية، وسمح لكل "الستالينيين" بالتجذر داخل مفاصل صناعة القرار الاقتصادي والاجتماعي والنقابي للبلاد.

وهو نفسه النظام الذي قام باعتقال الشيخ العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله في 1964 مكررا الفعلة الإستعمارية عندما قامت سلطات الاحتلال الفرنسي في 1940 باعتقاله ونفيه من تلمسان إلى آفلو.

ولم يتردد نفس النظام في توقيف نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ظل نظام الأحادية الحزبية لتمهيد السبيل أمام "التقدميين" الذين سيحافظون على وجوده بتكريس عقلية الحزب الواحد والرأي الواحد.

ولم ينتهي الأمر عند هذا الحد بل فرض على ما بقي من العلماء الأوفياء في البداية الاختيار بين التعليم والمسجد، وبعد ذلك تدجين جل هؤلاء الذين فضلوا البقاء في المساجد الرسمية.

وإذا كان معظم العلماء فضلوا ميدان التعليم وتخلوا عن المساجد، فإن الشيخ احمد سحنون رحمه الله يسجل اسمه في التاريخ لأنه من القلة القليلة التي فضلت المرابطة في المسجد. ولم يمض الوقت طويلا حتى التحق به أعلام آخرون أمثال الشيخ عبد اللطيف سلطاني، والشيخ مصباح حويذق، والشيخ عمر العرباوي رحمهم الله جميعا.

قام الشيخ احمد سحنون رفقة الشيخ عبد اللطيف سلطاني بالمعارضة العلنية لمختلف الاشتراكيات المستوردَة سواء من قبل نظام بن بلة أو نظام بومدين فيما بعد.

ونددوا جهارا بالانحرافات السياسية، والاعتداء على الحريات العامة، وتفكيك المجتمع الجزائري وبرامج التشويه الثقافي التي كان ينفذها النظام القائم على قدم وساق، مما دعاه إلى طرد الشيخ سحنون من المساجد في 1964 وفي 1966 محاولا بذلك التضييق عليه وخنق صوته.

يجب أن نعلم أن جهود هؤلاء الأعلام لم تتوقف عند هذا الحد من المجابهة الفكرية والثقافية والسياسية فقط، بل تجاوزته إلى ساحات أخرى أكثر عمقا واستراتيجية في مسيرة الدعوة والمجتمع والدولة الوطنية، ومن يتصور خلاف ذلك فإنه لا يعرف المدرسة البادسية حق المعرفة.

معارضة دكتاتورية الحزب الواحد والنهج الاشتراكي المستورد

لقد قام هؤلاء الأعلام رفقة كوكبة من الرواد الأوائل نذكر منهم المرحوم الشيخ الهاشمي التجاني والأستاذ الدكتور عمار طالبي، والشيخ عباسي مدني وغيرهم بتأسيس جمعية جديدة سميت "جمعية القيم الإسلامية" من اجل استئناف جهود تعليم وتثقيف الشعب الجزائري.

بيد أن نظام بومدين سرعان ما قام بحل هذه الجمعية وتوقيفها عن النشاط عندما قامت بالتنديد بإعدام الشهيد سيد قطب رحمه الله من طرف النظام القمعي الآخر في مصر.

ولم تكن هذه الأعمال القمعية وهذا التعسف في استعمال السلطة قادرة على ثني جهود الشيخ احمد سحنون وكسر عزيمته، بل زادته إصرارا وتمسكا بمبادئه وخطه الإصلاحي واستأنف نشاطه بعد فترة وجيزة في مسجد آخر، وكان هذه المرة مسجدا مستقلا عن النظام الحاكم.

الشيخ احمد سحنون: المرجعية المثلى

في هذه المرحلة تعمقت روابط الشيخ أحمد سحنون بعدة شخصيات سيكون لها دور فاعل في التاريخ المعاصر للصحوة الإسلامية أمثال الشيخ الدكتور عباسي مدني، والشيخ الراحل محمد السعيد، والشيخ عبد اللطيف سلطاني. ففي 1971 انطلق المشروع الكبير لبناء مسجد دار الأرقم بالتعاون الوثيق بين الشيوخ عبد اللطيف سلطاني واحمد سحنون ومحمد السعيد رحمهم الله جميعا، وتشكلت لجنة، لتشرف على رفع صرح هذه المؤسسة المسجدية الحرة، التي سيكون لها دورها الكبير في التأثير على أحداث وطنية كثيرة.

وقد كانت انطلاقة هذا المشروع الكبير فرصة تاريخية لالتقاء بين ممثلي جيلين كاملين من أجيال الصحوة والمجتمع وهما الشيخ احمد سحنون والشيخ محمد السعيد رحمهما الله. وقد شكلت الانطلاقة الجماعية والجهد المشترك عامل تقريب بين الشيخ احمد سحنون والشيخ محمد السعيد بالخصوص، وبذلك تم التواصل التاريخي في مسار الدعوة، خاصة وأن الرجلين ربطتهما علاقة روحية مثالية نادرة.

معارضة دكتاتورية الحزب الواحد والنهج الاشتراكي المستورد

لقد كان الشيخ الراحل محمد السعيد يتمتع بقدرات معرفية إسلامية هائلة، تسندها قدرات على التعبير والكتابة المبدعة والمشعة جمالية، فضلا عن قدرات هائلة على العمل المتواصل والتضحية الرسالية، وأخلاقية إسلامية عالية قل أن تجدها لدى غيره، مما جعل الشيخ احمد سحنون يختاره من بين عشرات الآخرين، كي يكون من أقرب الشخصيات إليه، بل استخلصه كابنه الروحي.

لقد كان مشروع دار الأرقم هو بداية مسار مشترك بين الرجلين استمر لأكثر من عقدين من الزمن إلى غاية الانقلاب المشؤوم في 11 جانفي 1992 الذي اضطر الشيخ محمد السعيد إلى الدخول في السرية حتى استشهاده في نوفمبر 1995.

وفي نفس الوقت كان الشيخ سحنون إماما حرا في مسجد آخر لا يخضع للنظام الحاكم، مسجد أسامة بن زيد في منطقة بئر مراد رايس، وقام رواد المسجد ببناء بيت متواضع محاذ للمسجد الذي اتخذه سكنا له طيلة حياته وحتى وفاته. كان أهم ما يميز بيت الراحل سحنون رحمه الله هو المكتبة الكبيرة التي تتوسطه.

في الحقيقة كان الشيخ، رغم سنه المتقدم، وأثار الكبر التي انعكست على عينيه، لديه نهم فريد باقتناء الكتب ولا يتوقف عن القراءة. كان يقرأ كل شيء، الكتب، والجرائد والمجلات، ولا يمر يوم واحد دون أن يستمع إلى الأخبار من إذاعات مختلفة، وتلفزيونات متعددة، وكان بيته رحمه الله لا يخلو من الزوار وخصوصا الشباب.

إن هذا التفاعل المستمر مع الحدث اليومي والإطلاع الدائم على الأخبار عبر الجرائد والمجلات، وأبوابه المفتوحة للجميع وخصوصا الشباب، هو الذي صنع الشخصية الحقيقية للشيخ احمد سحنون؛ كشخصية وطنية فاعلة، ليس فقط كمهتم ومتابع للأحداث اليومية وراصد يقظ لتفاعلاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية، ولكنه كرجل فعال يساهم في صناعة الأحداث كلما دعت دواعي الواجب إلى ذلك.

وهذا التفاعل الدائم مع الأحداث الوطنية والإسلامية عامة، إضافة إلى استقلاليته وأصالته الفكرية والحركية المتوازنة، كل ذلك حوله إلى مرجعية وطنية راسخة في تاريخ الجزائر المعاصر. المرجعية التي يحترمها ويقدرها الجميع، من أجل تحصيل نصيحة أو رأي، أو تأييد موقف، أو تأصيله شرعيا وفكريا وشعبيا وسياسيا.. رغم أنه كان قليلا ما يغادر بيته أو المساجد التي يؤمها.

لقد كان الشيخ احمد سحنون شخصية غير قابلة للتدجين من طرف النظام أو أية قوة اجتماعية أو سياسية أخرى في المجتمع.. بفضل مواقفه الرائدة ومعركته السلمية التي خاضها طيلة حياته، فقد كان رحمه الله يؤمن بشدة بقوة الكلمة، ويحرص على المحافظة على استقلاليته تجاه الإدارة الجزائرية، رغم الإغراءات المتكررة له بإمكانية اعتماده كإمام رسمي إن هو لان وهادن النظام وتعاون معه، وهو ما كان يرفضه بشدة، أضف إلى ذلك كله تواضعه الجم، فقد كان يعيش حياة شديدة التواضع والبساطة.

كل هذه الاعتبارات والمواقف والمجاهدات ساهمت في صناعة صورة الشيخ سحنون كمرجعية أساسية في الحدث الوطني، تسترشد به كل القوى الوطنية والإسلامية.

في مطلع الثمانينات بدأت الحالة الجزائرية تشهد حركية وانقلابا شاملا.

فقد اهتزت مكانة الشرعية الثورية التي كانت تحكم الجزائر، والتحالف المصلحي بين اليسار وبومدين بدأ يفقد قوته ويتبخر مع قدوم الشاذلي بن جديد.

ملف:معارضة دكتاتورية الحزب الواحد والنهج الاشتراكي المستورد

وتصاعدت الحركات الاحتجاجية سواء ذات الطابع السياسي أو الطابع الاجتماعي هنا وهناك.

وفي نفس الوقت أصبحت حركة الصحوة الإسلامية تتجذر في الأوساط الاجتماعية والطلابية وتقلص بسرعة من نفوذ وسطوة القوى اليسارية المهيمنة - بقوة التأييد والدعم السياسي - على الجامعة.

وبفعل تلك المجاهدات التي استمرت طيلة عقد من الزمن بدأت الجامعة الجزائرية لأول مرة تستطيع أن تدعو شخصيات أخرى من خارج دائرة اليسار، وخارج ممثلي جبهة التحرير الوطني.

واستقبلت الجامعة الجزائرية عودة الشيوخ أحمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني للمحاضرة داخلها استقبال الأبطال المغيبين، وقدموا محاضرات تاريخية في المدرجات وفي الأحياء الطلابية، وكان الناس يأتون من كل مكان للاستماع لهؤلاء المشائخ الذين استرجعوا مكانتهم داخل المجتمع الجزائري.

كان الشيخ أحمد سحنون معروفا بتمسكه بالمبدأ الأساسي في منهجه وهو أنه لا يداهن على حساب المبادئ ولا يبحث عن تزكية أي كان، واحتفظ بهذا الموقع طيلة حياته وحتى وفاته.

ونذكر للتاريخ أن واحدا مثل بوعلام بن حمودة الذي كان وزيرا للعدل في حكومة بومدين قد استفاد منه كثيرا في تطوير رسالته للدكتوراه وأخذ منه وقتا ثمينا دون أن يطلب الشيخ منه أية مقابل، وكان غيره من الوزراء يتقربون منه للاستفادة من هيبته وجاهه لصالحهم.

كان رحمه الله يوزع على الجميع الكلمة الطيبة، ويفيض بتجربته وحكمته ومعارفه، باذلا إياها في سبيل الله دون أن ينتظر المقابل.

كان يعرف كثيرا من الناس، وكان يمكن أن يؤثر هؤلاء فيه حتى يصبح تابعا لهم، ولكنه رحمه الله كان دائم النصيحة كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويستعمل كل طاقته للدفع إلى عمل الخير وهو يشعر بكل السعادة، إذا كان يستطيع أن يساعد شخصا ما فقد كان يفعل ذلك وأمل كبير يغمره ويحدوه، ولم يكن ينتظر جزاءا ولا شكورا من أي أحد، كان يعتبر استقلاله وحريته أهم شيء يملكه في هذا الوجود، (يتبع)

الحلقة القادمة: التجمع السلمي في 12 نوفمبر 1982 بالجامعة المركزية.

  • المقالة الأصلية أنجزت باللغة الفرنسية بعنوان:" Cheikh Ahmed Sahnoun: ou l’indépendance incarnée dans ses plus nobles dimensions ".
    • دكتوراه من كلية علم الاقتصاد، جامعة لوزان، سويسرا

المصدر