الطريق إلى القلوب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٣:٥٥، ١٩ مارس ٢٠١٦ بواسطة Sherifmounir (نقاش | مساهمات) (حمى "الطريق إلى القلوب" ([edit=sysop] (غير محدد) [move=sysop] (غير محدد)))
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
الطريق إلى القلوب


بقلم : الأستاذ عباس السيسي

الباب الأول

توطئة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

وبعد..

فقد ظلت العبادات عند كثير من المسلمين محصورة فى شكل بدون روح، فالمسلم يؤدى عبادته ويتقوقع فى ذاته وخصوصياته، دون الاهتمام بأن الإسلام رسالة ودعوة.

وبهذا انكمش دور المسلم الاجتماعى والحركى! فلم يمتد إلى جميع قطاعات المجتمع، لينقله ويصبغه بصبغة الإسلام، حقيقة وعملا، مشاعر وشعائر وشرائع، لبناء الأمة الإسلامية، وتحقيق ا لآمال.

ولما كانت رسالة الإسلام موجهة إلى عامة الناس على الأرض، كان من الضرورى أن يتصدر لهذا المجتمع الواسع دعاة على مستوى من العلم والقدرة والقدوة، ودراية بأسرار النفس البشرية، يتحلون بالصبر، وانشراح الصدر (قال رب اشرح لي صدري) طه: 25، وفراسة وبصيرة (قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين) يوسف: 108، وفى الحديث: "" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ""، واستنهاض إمكانات الحواس الربانية، فى جذب القلوب، وتآلف الأرواح، والمعايشة فى رحاب حركة الدعوة ومجالاتها الواسعة، وهذا يكون بالكلمة الطيبة، والدعوة بالحسنى، والجدال- إن اقتضى الأمر- بالتى هى أحسن، والقدوة الصالحة، ذلك أن طهارة الهدف تستلزم- فى عرفنا- طهارة الأسلوب فى تحقيقها، وقبل الغاية يقتضى نبل الوسيلة حتما.

ومنذ صدر الجزء الأول من كتاب "" الطريق إلى القلوب "" فى سنة 1406 هـ- 1986 م ظهرت دلائل وتباشير الوعى الإسلامى، وتوهج الحب فى مشاهد وتعامل وتالف شباب الإسلام، فتلاحمت القلوب، وتعانقت الأرواح، وبدا ذلك فى مشاعر الجماهير الإسلامية المتدفقة فى كل بلاد العالم الإسلامى، تهفو للتلاقى، وترنو للوحدة، وتعمل على بينة، بالحكمة الربانية، والسنة النبوية، مدعومة بالفطنة واليقظة والانتباه، بصبر جميل، ووفاء ثابت، وعزم أكيد، لا تزعزعه المحن، ولا تؤثر فيه عورات النفوس وتقلبات الزمن.

يعيننا على ذلك تقوى الله تعالى فى السر والعلن، وتصديق بوعد الله الذى لاشك فيه (وعد الله الذين ىمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا)النور: 55، ورابطة من الحب العميق الوثيق، تثبت القلوب، وتشد الأواصر، بحبل الله المتين، وشرعه المبين:

سألبس للفقرثوبا جميلا

وأفتل للصبرحبلا طويلا

سأصبربالرغم لابالرضا

أبنى دعوتى جيلافجيلا

(يا أيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون) آل عمران:200.

عباس السيسي ربيع الأول 1416 هـ أغسطس 1995 م"

مقدمة

إن مهمتنا إيقاظ الشعب المسلم الذى نام طويلا !

ونحن فى حاجة إلى هزة روحية جبارة لتحريك وعى عقله الذى نام لفترة، وضميره الذى تحلل من أثر عوامل الظلم والقهر!

وطالما أن العالم الغربى يحاصر الاتجاه الإسلامى بكل وسائل المكر والخداع، ويحرم بلادنا من الحرية!

وطالما أن أمريكا وحلفاءها فى الغرب والشرق يحاصرون الاتجاه الإسلامى، ويساندون الحكومات التى تدور فى فلكها، فى تحجيم وتضييق الخناق على الحركات الإسلامية، مثلما هو واضح فى الجزائر وتونس ومصر وكشمير والشيشان، فإنه أمام إصرار الدعاة على الانتصار لدينهم الذى هو الحياة.. كل الحياة؟ إنه أمام هذا الظلم: ليس من وسيلة متاحة أمام التيار الإسلامى إلا أن يسلك سبيل الد عوة الفردية، بالصبر المرير، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وهو السبيل الذى يعمل عمل قطرات الماء الذى يحفر فى الصخر، حتى تتفجر ينابيع تسقى الأرض، وتنبت الزرع، وتعبد الحياة، وترفع راية: لا إله إلا الله، (فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا) الشرح.

هكذا تولد الأمم العظيمة، والحضارات الصالحة الكريمة."

الدعوة الفردية

الفرد المسلم هو المقصود بالرسالة، ومن أجله بعث الله الرسل والأنبياء، ومن بعدهم كلف الله العلماء والدعاة، فإذا مست العقيدة القلب، وأشربت النفوس الإيمان، وصلح الفرد، صلحت الأمة، وقامت دولة الإسلام، لهذا عنى الإسلام عناية بالغة بالفرد، عقيدة وفهما وتربية، ليكون النموذج الحى، والنبراس الوضىء المضىء للسالكين سبيل الهداية والرشاد.

ومن أجل توصيل الدعوة بمفهومها الشامل الكامل إلى قلب كل مسلم فى هذا العصر الذى اختلطت فيه المفاهيم، وتوالت فيه أمواج التضليل والتشويه والتشويش على صوت الحق المبين، وما أحاط العالم الإسلامى من عداء بخصومة لدودة، وجهالة حاقدة بحقيقة الإسلام، أصبح من الضرورى تدعيم داعية الدعوة الفردية ""بروشتة"" تشخيصية تفصيلية، تعينه على وضوح الرؤية لكل شخص سيتعامل معه من الناحية النفسية والاجتماعية والسياسية، بحيث لايصطدم أو يتعثر أو يصيبه إحباط.

والذى يتصدى للدعوة الفردية يجب أن يكون مدفوعا من الأعماق بأهمية وقيمة توالد أجيال الدعوة، حتى لاتتوقف مسيرة الدعوة فى الوجود لنصرة الإسلام.

فالداعية الذى يتأجج بالألم العبقرى الذى يعيش فى وجدانه لما أصاب ويصيب عالم المسلمين.. يدفعه ذلك الألم بيقظة وقوة على أن يكون للدعوة على الدوام أزهار وثمار.

ولا ينجح الداعية فى مهمته حتى يتعبد بالإخلاص والتجرد (و ما توفيقي الا بالله) هود: 88، (ذلك الفضل من الله) النساء: 7، ولاينسى قصة الصحابى الداعية "" مصعب بن عميرا "" حين ابتعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم داعية إلى الطائف، وجاء ""سعد بن عبادة "" متصديا. فقال له (سعد بن زرارة): يا مصعب.. هذا سيد قومه قد جاءك.. فاصدق الله فيه.

وتبدو نتيجة هذا العمل الخالص المخلص فى الأخلاق من أهم وأعظم وسائل الدعوة وهى:"

الدعوة الصامتة

وهى التى تتمثل فى (( القدوة الحسنة )) فالقدوة الحسنة دعوة شاملة لاتحتاج إلى شرح أو مناقشة، فهى أقصر طريق، لأن الإيمان بالدعوة فى هذه الحالة سيكون إيمانا بالعين والصورة، والواقع الحى الناطق، وهو أقرب إلى التصديق والاقتناع، وقد قال الإمام البنا- رحمه الله-: الكتاب يوضع فى المكتبة قلما يقرؤه أحد، ولكن المسلم الصادق كتاب مفتوح يقرؤه الناس، وهو أينما سار فهو دعوة متحركة (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة) الأحزاب: 21، لهذا نجد الطالب المسلم الذى يحصل على درجة الامتياز مع مرتبة الشرف مرموقا محبوبا، وهو فى ذات الوقت دعوة مضيئة ناطقة، وكذا يكون الموظف والعامل وغيرهما (و لكن الله حبب اليكم الايمان و زينه في قلوبكم) الحجرات :22"

الدعوة بالبلاغ

وتكون من الداعية بالوسائل الشرعية: بالحديث والبيان، وتكون بالوسائل منبثقة من روح الإسلام، فلا يجوز أن تحاول الوصول إلى القلوب بوسائل جاهلية!. فلابد أن تكون من جنس الفكرة وروح ا لإسلام.

وكم من شاب يتحمس أن يسلك سبيل الدعوة الفردية ولكنه يشعر بالعجز عن الإقدام، أو يفتقر إلى أساليب الدعوة.. وتلك من العوائق والعقبات التى تعطل الكثير عن الإقدام.

ومن أبرز تلك العقبات أن يكون الأخ ليس على درجة من العلم والفقه كافية للوفاء بهذا الواجب، ولعله يكون (غاوى) وله فراسة وموهبة وحيل واسعة، وقد سهل رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الأمر فقال: ""بلغوا عنى ولو آية"" وكثيرا ما تكون كلمة طيبة كافية للجذب والتأثير، ونسمع من كلام أهل التجربة (( اللفظ سعد ))، بل إن صياغة العبارة المناسبة أمر مهم (و قولوا للناس حسنا) البقرة: 83،. وليكن واضحا فى ذهن الداعية حين يتوجه لأى فرد؟ أن هذا الإنسان ربما يكون مطعما بأفكار سيئة موروثة عما أشاعه الطغاة الظالمون من مفاهيم خاطئة حول بعض الاتجاهات الإسلامية، فلا تأس إذا قوبلت بالصدود، بل يجب أن تعد نفسك لمثل هذه الاتهامات المتوقعة!، بل عليك أن تعذرهم بجهلهم بالحقيقة الغائبة عنهم، فإذا أنت أدركت هذه الحقيقة، كان عليك أن تصبر معهم حتى يعرفوها، ويتذوقوها، فرسولنا صلى الله عليه و سلم يقول لنا: "" تألفوا الناس وتأنوا بهم ""، فالتآلف والمودة والحب فى صبر وتأن، يقرب الإنسان من الحقائق الغائبة، حتى إذا فهمها وتذوقها آمن بها واستيقن.

من ذاق طعم الإسلام يدريه ومن دراه غدا بالروح يفديه

وليكن فى فقه الداعية أن أسلوب الدعوة يتغير ويتنوع من شخص لآخر، فوسائل الدعوة ليست ثابتة؟ ولكنها كثيرا ما تكون رهن الظروف والمناسبات، فهى التى توحى بالحيلة أو الوسيلة المناسبة، فقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل يسمى "" ركامة "" وكان مصارعا، ولم يكن قد أسلم بعد، ولم يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن العقيدة الإسلامية أو العبادات، ولكنه قال للرسول صلى الله عليه و سلم: "" إذا صرعتنى أسلم "" واستجاب الرسول لطلبه وقام وصرعه.. فأسلم. و "" حمزة بن عبد المطلب "" لم يكن قد أسلم؟ حين جاء من رحلة صيد، فقيل له: إن أبا جهل قد سب ابن عمك ""محمدا"" وهو يجلس بجوار الكعبة، فأسرع "" حمزة "" ودخل الكعبة وشج رأس أبى جهل وهو يقول: كيف تسب محمدا وأنا على دينه؟!. وفى هذه اللحظة قال: "" أنا على دين الإسلام ""!!."

الأمل الباسم الفسيح

يقيس الإخوة الناس بالنسبة لنشاطهم فى خدمة الدعوة الإسلامية بمقاييس جامدة محدودة، فالأخ الذي لا يعطى الدعوة كل جهوده من وقت ومال فهو فى نظرهم مقصر!، ومنهم من يتهم إخوانه بغير معرفة بشئون الحياة الاجتماعية الصعبة التى نعيشها فى هذا العصر، فحين كان الأخ طالبا فى الجامعة كان يقدم معونة مالية بسيطة لممارسة النشاط، فلما تخرج وصار موظفا قدم معونة مالية أكبر، ولكنه قصر فى نصيب الدعوة من الوقت، فلما تزوج قلت القيمة المالية وقلت قيمة الوقت، فلما أنجب لم يبق عنده غير الوفاء بقدر الاستطاعة، وفى مفهوم أصحاب الدعوات ""أن كل إنسان يجود بما عنده"" (لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت) البقرة: 286، فكلماقدم وبذل وجاهد فإن ذلك سيكون رصيدا فى حسناته.

وعلى كل حال فليس هذا السلوك شأنا عامأ، فإن كثيرا من الشباب يقهر كل هذه المشاغل والعقبات بقدر إيمانه العميق بعظمة الرسالة، وخطر الأمانة، والتبعة نحو الإسلام ومستقبله.

فالدعوة تأخذ من كل مسلم بقدر لايعوقه ولا يضيق عليه حياته بل إن الواجب عكس ذلك، فهناك من يبذل ويضحى فيعوض ويسد الثغرات، وكل مسلم عليه أن يدرك إن جسم الإنسان يتكون من أجهزة وحواس: يدين وعينين وأذنين وما شاكل ذلك؟

وكل له مهمة ورسالة، فكذلك كل مسلم يؤدى رسالة على قدر ما منحه الله تعالى، وبذلك يتشكل المجتمع الإسلامي، وما زلت أذكر أن أحد الإخوة كان يسمى: بالأخ المستمع، فهو يعيش معنا مجرد مستمع فقط، ولكن بعد أن من الله عليه بالزواج، أنجب ثلاثة من الذكور، كانوا جميعا من خريجى الجامعة ومن الإخوان، فكان ذلك تعويضا عظيمأ شرح الله به صدره.

وما زلنا فى حاجة ملحة إلى أن نتمعن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ألقى أهل الطائف الحجارة عليه صلى الله عليه و سلم حتى دميت قدماه عليه السلام وتوجه بدعائه إلى الله عز وجل، فجاءه جبريل عليه السلام وألقى عليه السلام وقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين- هما جبلان فى مكة- فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لا.. عسى الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى.!

ففى المفهوم العميق للحديث الشريف أعظم ما يندبنا إليه الرسول العظيم: وهو أن الأمل عند الداعية أوسع من حدود هذه الدنيا، والله تعالى يقول: (عسى الله أن يجعل بينكم و بين الذين عاديتم منهم مودة و الله قدير و الله غفور رحيم) الممتحنة: 7."

ليس عليك هداهم

الانطباع الأول الذى يتركه الداعية فى نفس من يدعوه هو الذى تدور حوله رحلة المستقبل، وعلى قدر تأثره بهذا اللقاء يكون الانشراح والانفساح، لهذا يجب أن يكون الداعية مصبوغا أو مطبوعا بروح الدعوة ووضوحها روحا وسلوكا، وأن يتجه إلى الله تعالى فى خطوته هذه بالصدق، وأن يشرح الله له صدره وصدر من يتوجه إليه، فإذا تعذر عليه بلوغ غايته، وبلوغ الأسباب من أسرار النفوس البشرية.. من هذا الطريق.. ولكل حال وظروف لايعلمها إلا الله وحده؛ تذكر قوله تعالى: (ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء) البقرة: 272.

و إنى لأذكر فى هذا المقام قصة معبرة عشتها بنفسى مع أحد الإخوة الذين أحببتهم حبا جما، يفوق الوصف، حتى بدت ظروف فكرية خطيرة؟ حاولت فيها بكل الكتب والمراجع والشروح؟ أن يشرح الله تعالى صدره حتى نتوحد على فكر واحد، ويبقى هذا الحب فى مساره، ولكن دون جدوى، وفيما أنا حزين لهذا الموقف؟ طرقت أذنى هذه الآية الكريمة (إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء) القصص: 56، ووقفت كثيرا عند قوله تعالى: (من أحببت) أى أن هذا الحب العميق لايكون سببا فى الهداية، ولكن الله يهدى من يشاء.

وفى حالة تعذر الأخ الداعية الذى أشرنا إليه آنفا فى بلوغ غايته، فلا أظن أنه يعود مع نفس هذا الإنسان، وإنما يتدارك الأمر بعد فترة طويلة، ويعاود ذلك مع أخ غيره، بعد أن يتزود بمعلومات وأفكار عن طبيعته، وبيئته وظروفه، فلعل بعض الوقت أيمن من بعض، وبعض الظروف أيمن من بعض، فكم من إنسان تكون لديه ظروف خاصة ليس من السهل أن يبوح بها، وبعد مدة من الزمن تنفرج هذه الظروف، وييسر الله الأ مور ويشرح الصدور.

فلا يجوز أن يحكم على الإنسان حكم المفاصلة!، وإنما هى سنة الله تعالى فى البشر، وعلينا أن ندرك ذلك، فلا نيأس، ولا نقطع الصلة.

وأمرآخر أريد أن يتنبه إليه كل داعية:

إذ يجب أن تكون صورة الداعية مستنيرة وضاءة فى كل الأحوال، فلا هو يقابل فردا من الناس بوجه عابس، ويقابل الآخر بوجه باسم!. بل هو على الدوام منشرح باسم (( اطلبوا الخير عند صباح الوجوه )) لأن كل الناس فى خاطره ربح كبير للدعوة، والقلوب جبلت على حب من أحسن استقبالها وأداء الخدمات لها. (عبس و تولى، أن جاءه الأعمى، و ما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى) عبس: 1-4،."

استغلال المناسبات لإحياء الموات

سافرت إلى بلد عربى فى زيارة، ودعانى أحد الإخوة على الغداء، وهناك وجدت مجموعة مدعوة مثلى، وكانت جلسة طيبة مؤنسة، وقبل أن نفترق دعانى واحد منهم على الغداء فى منزله، وذهبت فى الموعد، فوجدت نفس المجموعة الأولى تشاركنا الغداء!!، وأدركت أن كل واحد من هؤلاء سوف يكرر الدعوة، فقلت لهم: أظنكم سوف تتبادلون الدعوة حتى آخركم؟، فقالوا: نعم، هذا ما سيكون، فاتجهت إليهم وقلت لهم: هل تظنون أننى راغب فى ذلك؟، الواقع أننى كنت أظنكم قد فكرتم فى أن كل واحد منكم يدعونى على الغداء ويستحضر مجموعة جديدة من الشباب الجدد، ليجلسوا معنا ونتحدث إليهم من خلالكم وهم جلوس يستمعون فى حديث غير مباشر، ونتداول الأسئلة التى تفيد، وبذلك يكون كل واحد منكم دعانى للغداء ومعه عدد من الإخوة، بدلا من أن نتبادل الدعوة للغداء، ونكرر نفس اللقاء، وبهذه الفكرة نكون قد استفدنا بالغداء فى جذب القلوب، وجنينا ثمن العزومة خدمة للدعوة.

ولهذا.. فإن الأمر ليس طعاما، ولكن الطعام وسيلة للقاء، وفرصة لدعوة شباب جدد، يجلسون معنا، ويسمعوننا ونحن نتحدث عن الإسلام، فيسهل فهمه، ونجدد عزمه، ويسترشد بما يسمع من آيات وأحاديث، فنستفيد بالوقت قبل أن يضيع فى غير جدوى.

وهذا هو الداعية الذى يحمل هم الدعوة، وهموم المسلمين (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) المزمل: 5، الداعية الذى يعيش فى أتون معركة الإسلام مع أعدائه، الداعية الذى يستشعر عظمة الدعوة وقدسيتها، وشدة حاجة البشرية المطحونة إليها، تلك البشرية التى تمد البصر منذ قرون تترقب مطلعها، هذا الداعية الذى تعيش تلك الهموم والآمال فى ضميره وعقله، وتضطرم بها جوانحه، مهيأ- بإذن الله تعالى- أن يتحرك نحو القلوب (يهديهم ربهم بايمانهم) يونس: 9،."

مغناطيسية القلوب

ليس من إنسان خلقه الله تعالى إلا وله جهاز استقبال، وجهاز إرسال، فإذا فقدهما فقد فقد نفسه، وفقد سر وجوده، فهو كالشجرة الجافة التى تساقط ورقها، فلا خضرة فيها ولاحياة، أو كشجر ""السرو"" له رواء، وما له ثمر. فهو لهذا حى كميت!، لا أثر له فى الحياة، يأخذ لكنه لا يعطى!.

وهناك ناس ماهم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم عند الله، هؤلاء اكتشفوا سر الله فيهم، ألا وهى الحواس: السمع، والبصر، والفؤاد، فاستنهضوها، وغذوها بالعبادة والطاعة، حتى اشتعلت وتوهجت، وأرسلت من منابع روحها، وسلسبيل قلبها، نبضات وموجات موحيات، تدق على قلوب الناس حتى تلين لذكر الله تعالى، فتتبادل الهواتف الروحية بأحاسيس لا ننطقها، ولكننا نسعد بها كأطياف هفهافة، فتتحول إلى مغناطيسية تجذب الأرواح، وتشد القلوب.

ولا يعدم الإنسان هذا الإحساس ولو بقدر يسير، والداعية الموفق هو الذى يهديه الله تعالى إلى مكامن هذا الشعور فيقويه وينميه (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول اذا دعاكم لما يحييكم) الأ نفال: 24،.

والذين جفت منابع قلوبهم، وصدئت أرواحهم، يقول الله فيهم (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار و إن منها لما يشقق فيخرج منه الماء و إن منها لما يهبط من خشية الله) البقرة: 74،. إن الآية الكريمة تقرر أن الحجارة تحس، بل إنها تهبط من خشية الله تعالى، ولكن نحن لا نملك هذه الأجهزة التى تبلغ من دقة الإحساس ما نكشف به كيف تحس، ولكنها يقينا تحس، وتخاف، وتندك من خشية الله تعالى. فإذا كانت الحجارة تحس وتقشعر، وتندك رهبة من الله تعالى، فكيف بالإنسان الذى حمله الله تعالى بتلك النعم العظيمة: العقل، والقلب، والشعور، والاحساس، والقلب- مستودع الرحمات- (رب اشرح لي صدري، و يسر لي أمري، و احلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي) طه: 25 إلى 28،."

ميدان عمل الداعية

أتصور أن ميدان عمل الواعظ غير ميدان عمل الداعية.

فالواعظ يرشد الناس إلى الإيمان بأصول الدين وعقائده، والتمسك بآداب الإسلام، والعمل بأحكامه، وشرح وتفسير آيات الكتاب والسنة المطهرة.

أما الداعية فإنه يحاول أن يضع أيدى المؤمنين على أهداف الإسلام وغاياته، ورسالته العالمية الإصلاحية لإنقاذ البشرية، وتحريرها من العبودية لغير الله تعالى، والنهوض بالشعوب الإسلامية لتحقيق أهداف الإسلام العليا: من التوحيد، والوحدة، والحرية، والعدل، والتكافل، والأخذ بأيدى المسلمين إلى التربية الإسلامية، فى الأخلاق والسلوك والمعاملات، حتى يتكون الفرد المسلم، والمجتمع المسلم.

إن عملية الوعظ أضيق مساحة من دائرة الدعوة، فمنهج الواعظ يتجه نحو الجمهور، أما مهمة الداعية فهى أن يستخلص الفرد الإيجابى من المجموع، يستخلصه للفهم الصحيح، والإيمان العميق، والعمل المنتج، والتدريب العملى على صراط الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والصبر الجميل.

فميدان عمل الداعية أوسع من ميدان الواعظ، فالواعظ يقول ويمضى، ولكن الداعية كالمدرس فى المدرسة؟ يشرح، ويوضح، وفى ذهنه أنه بعد ذلك سيكون امتحان للطلاب، يترتب على هذا الامتحان "" تقدير"" للمدرس آخر العام، يترتب عليه ترقيته من عدمه، فهو لهذا يتحتم عليه أن يجتهد بصدق وقوة فى أن تكون المحصلة لصالحه، ولهذا ترى الداعية يعايش الناس، ويشاركهم فى أفراحهم وأحزانهم، ويساعد فقيرهم، ويأسى لمريضهم، ويطبق موجبات الدعوة الإسلامية على نفسه، حتى يكون مثالا يحتذى به فى مظهره وسلوكه وأخلاقه، ومثل هذا الداعية تراه محببا إلى الناس، والناس من حوله تدعمه وتؤيده، وتسترشد به فى كثير من شئونها، وهو كذلك يدرك رسالته فى معالجة شئون هذا المجتمع، فنراه يبتعد فى أحاديثه وخطبه ومحاضراته عن تجريح الناس والهيئات، والسخرية مما يحبونه من عادات جاهلية، بل الداعية الحصيف هو ذلك الذى لديه إلمام بعادات وتقاليد وظروف المجتمع الذى ينزل فيه.

فإذا نزل الداعية فى أى بلد، فإنه يدرك أولا أن مهمته أن يجمع قلوب الناس، فلا تبدو منه كلمة أو عبارة منفرة، أو تثير الضغائن، أو تفتح بابا يتسرب منه شيطان الإنس!. والواعظ فى الأصل داعية والداعية والواعظ يجمعهما هدف واحد هو خدمة الإسلام.

سئل الإمام ((حسن البنا)) ذات مرة، فى إحدى ليالى ""حديث الثلاثاء"" بالقاهرة: ما الفرق بين جماعة "" أنصار السنة "" وجماعة "" الإخوان المسلمون ""؟، فرد ""البنا "" على هذا السؤال بسرعة قائلا: جماعة ""أنصار السنة "" مدرسة إعدادية، وجماعة ""الإخوان "" مدرسة ابتد ائية!.

وكان لهذا الرد أحسن الأثر فى نفوس إخواننا "" أنصار السنة ""، كما كان "" حسن البنا "" يصلى القيام فى شهر رمضان المبارك، بالمركز العام للإخوان المسلمين مأموما بأحد إخواننا علماء ""الجمعية الشرعية الإسلامية""، فضلا عن أن جمعا كبيرا من أبناء مصر، من مختلف الجمعيات والأحزاب، بل وأيضا من الأقباط يحضرون هذا الحديث ((حديث الثلاثاء "" الجامع الشامل.

إن رسالة "" الإخوان المسلمون "" للبناء والتشييد، وليست للهدم والتجريح، ولا يجمع هذه الأمة على قلب رجل واحد إلا هدف عظيم، وغاية شريفة، تتوحد عليها القلوب، وتتألف بها الأرواح، وتشتعل بها المشاعر، بقوة الإرادة، وقوة الحب، وقوة الدفع: (ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه و لي حميم) فصلت: 34. بكل هذه القوى الروحية الهائلة؟ لا يستعصى الإنسان على القرب والملاينة، ولا عجب أن يكون فى الوحوش المفترسة المخيفة ما يأتلف مع الإنسان فى صداقة، وتعيش أحيانا مع البشر كما نرى فى بعض الأفلام السينمائية من ترويض للاسود والنمور، وحتى الثعابين التى ترقص على صوت الناى، ويجلس بها أصحابها فى الشوارع وأمام الفنادق، رغم أن الثعابين لا تسمع لأنهاءصماء.

لقد منح الله تعالى الإنسان قوى مختلفة، أعظمها: قدرته على بعث روح الحب والمودة."

موقف مع ((سلمان الفارسى))

كان ((سلمان الفارسى)) يعيش فى بلاد فارس، وترامى إلى سمعه أن هناك فى مكة قد بعث نبى اسمه "" محمد "" يبشر بدين الإسلام، فاشتقات نفسه للتعرف على هذا الدين، وكان "" محمد "" يومئذ يعيش كغريب فى قومه الذين أنكروا عليه رسالته، وحاربوه وآذوه، ولكن "" سلمان "" لم يأبه لكل هذا، وأخذ سبيله مرتحلا إلى "" مكة "" يتحسى طريقه إلى النبى الجديد.

وحين بلغ "" مكة المكرمة "" توجه إلى البيت الحرام يبحث عن مأوى يستكن فيه حتى يبلغ غايته.

وهناك فى ""مكة "" تعود الناس- من باب الكرم- أن يستضيفوا أى زائر غريب فى منازلهم لمدة أربعة أيام، وكان "" على بن أبى طالب "" حاضرا حال مقدم "" سلمان الفارسى ""، فأسرع إلى دعوته قبل أن يلتقطه أحد غيره، ذلك لأن ""على بن أبى طالب"" أصبح داعية يبحث عن أنصار لدعوة "" محمد "" صلى الله عليه و سلم، فهو بدافع الرغبة، وإدراك أهمية الحصول على قلب جديد أسرع لانتهاز هذه الفرصة، فلا يجب أن تضيع من يده.

وفى بيت "" على بن أبى طالب "" نزل "" سلمان الفارسى ""، وفى خلال استضافته لاحظ تصرفات وأخلاق ومعاملات "" على بن أبى طالب"" فاستشف أنها أخلاق جديدة وفريدة، عساها تكون من نبع النبوة، ومن معين الدين الجديد، وأحس "" على بن أبى طالب "" بما يدور فى ذهن "" سلمان ""، وما يبدو عليه من علامات الرضا والاطمئنان.

والعيون تتحدث، والمشاعر تتأجج، وكانت المصارحة، والمصافحة، وكان الإسلام، وكانت الصحبة، وكان التا ريخ."

صفتان للداعية.. الذكاء والنقاء

فضيلة الشيخ محمد الغزالي

لكى تكون دعايتنا للإسلام ناجحة، يجب أن تتوفر فى الداعية خصلتمان: الذكاء، والنقاء.

أعنى ذكاء العقل، ونقاء القلب، ولا أريد بالذكاء عبقرية فائقة، يكفى أن يرى الأشياء كما هى.. دون زيادة أو نقص؟ فقد رأيت بعض الناس مصابا بحول فكرى!! لا تنضبط معه الحقائق: قد يرى العادة عبادة! والنافلة فريضة، والشكل موضوعا، ومن ثم يضطرب علاجه للأمور، وتصاب الدعوة على يديه بهزائم شديدة!

كما أنى لا أريد بنقاء القلب: صفاء الملائكة، وإنما أنشد قلبا محبا للناس، عطوفا عليهم، لا يفرح فى زلتهم، ولا يشمت فى عقوبتهم، بل يحزن لخطئهم ويتمنى لهم الصواب.

جاءنى طالب جامعى يخبرنى أن بعض المنحرفين يريد أن يقيم حفلا غنائيا، وأنه هو وأصحابه سوف يمنعون هذا الحفل بالقوة!. قلت له: أوافقكم على عدم إقامة الحفل، وانقل لهم رأيى مصحوبا بهذا النصح، لا مكان للفرح فى أيام كثرت فيها الأحزان.. المحلية.. والعالمية!، كيف نغنى وعشرات الالوف من المسلمين بين قتيل وجريح وشريد؟، إن مصابنا فى فلسطين وأفغانستان ينزف، ومستقبل الإسلام فيهما غامض!، والحرب الأهلية فى الصومال تزيد ضحاياها مائة مرة.. أو مئات المرات على الحرب الأهلية فى يوغوسلافيا!!!، ولا نزال فى مصر حديثى عهد بنكبة الباخرة فى البحر الأحمر، وغرقى السيول فى الإسكندرية، فعلام الغناء؟! هل قدت قلوبهم من صخر؟!

قال لى الطالب: لن يقنعهم هذا الكلام!

قلت: سلهم.. بم يغنون؟، بغزل رقيع، ولحن هابط، إن الأوساط الفنية مريضة الذوق والحس! فلن يصدر عنها إلا ما يسوء!، والواجب فى الأيام العصيبة التى تحيط بنا.. أن ننزه الاسماع عن اللغو.

قال لى الطالب: لن أقول شيئا من هذا الذى توصينى به، سأقول لهم: الإسلام يحرم الغناء، وسنهدم الحفل المقام على رءوس اصحابه!.

قلت له: إنك ناشئ فى ميدان الدعوة، فلماذا لا تنتفع بتجارب من سبقوك؟ وإن للإسلام خصوما متربصين فلا يجوز إعطاؤهم حجة على سوء فهمنا، وسوء سلوكنا! فأبى إلا ما استقرفى ذهنه‍‍‍‍‍‍ !.

وأخيرا تدخلت الشرطة، ودخل البعض السجون!.

إننى ما أزال أنصح الإسلاميين بأن يرعوا الحكمة فى مجال الدعوة، وألا يمكنوا خصوم الإسلام من النيل منه بسبب حماس طائش!. وليكن الهدف الأول بناء العقائد والأخلاق والعبادات، أما الخلاقات الفقهية فلا صلة لها بميدان الدعوة، ولا بقاعدة: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إن "" داود وسليمان "" لم يختصما من أجل قضية الحرث الذى عاثت فيه الغنم، ومن الفقهاء من رأى حكم الرضاع فى الكبركحكم الرضاع فى الصغر...، فليقع الخلاف، وليدرس فى ميدانه، أما نقله إلى ميدان الدعوة.. فخطأ فادح!، إن الداعية الذى لا يجمع بين الذكاء والنقاء.. يثير مشكلات معقدة أمام انتشار الإسلام، وقد رأيت فى كندا والولايات المتحدة- وكانت رابطة العالم الإسلامى قد أوفدتنى إليها- رأيت دعاة وضعوا فى طريق الإسلام أحجارا، نقلوها من البيئات التى عاشوا فيها قديما، كى توقف سير الدعوة فى العالم الجديد!!، إنهم يغضبون لمذاهبهم وأهوائهم باسم الغضب للإسلام، ويعلم الله حاجتهم إلى من ينير عقولهم ويطهر أفئدتهم.

الشيخ محمد الغزالي"

الجهل بالدعوة

الجهل بالدعوة لا ينفى عن الناس الإسلام!، ولهذا يقول الدعاة عن جهل الناس بدعوتهم: إنهم معذورون بجهلهم!، وقد قال رسولنا العظيم صلى الله عليه و سلم: ""اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ""، إذا ثبت هذا فى فهم الداعية، فإنه يترتب على هذا الفهم: الرفق، والتواصى بالحق، والصبر، والنفس الطويل، وأن يضع الداعية نفسه فى نفس الظروف قبل أن يوفقه الله ويشرح صدره للإيمان (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم) النساء: 194 فالهداية والتوفيق فضل من الله ومنة (بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ان كنتم صادقين) الحجرات: 17.

وأنت حين تحاول أن تنقل إنسانا من فكر قديم إلى فكر جديد؟ فأنت تعرف أنه فكر جديد عليه، أى أن صاحبنا يجهله، والذى يجهل شيئا يعاديه!، وكم وقف الصحابة الكرام قبل إسلامهم يواجهون رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعداء! حتى إذا شرح الله صدورهم للإيمان كانوا أنصارا، بل جاهدوا وقاتلوا حول رسول الله صلى الله عليه و سلم.

لهذا إذا فقه الداعية أنه مصلح، وطبيب، ومدرس، تغير أسلوبه ومنهجه من الدعوة مع عامة الناس، ابتغاء بلوغ الدعوة سويداء القلوب، ومجامع العقول، فتستبد بالإنسان روحا وقلبا ووجدانا. وقديما قال لنا الإمام ""البنا"": لو أنه وضع أمامك قطعة من السكر النبات، وقطعة من الملح المبلور"" ملح الليمون "" فكيف تميز بينهما؟ قلت: لابد أن أتذوق الاثنين، فبالتذوق نفرق بين الحلو والملح.

ولهذا- حتى يعرف الناس الدعوة- يلزم أن يذوقوا حلاوتها، وسحرها الحلال، فيغير أن يذوقوا فهم معذورون، حتى نسعى إليهم، ونقد مها لهم.

من ذاق طعم الإسلام يدريه ومن دراه غدا بالروح يفديه

وكم من المسلمين يجهلون الدعوة! بل ويكرهون الدعاة! ويحاربون الإسلام بصور وأشكال لم تخطر على بال الشياطين!(( من كلمات الأمام حسن البنا: لا تزال دعوتكم مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها على حقيقتها سيقف جهل الشعب بالإسلام عقبة فى طريقكم..) من رسالة المؤتمر الخامس)) وكل هذه المفتريات تجسمت فى هذا العصر فى كثير من وسائل الإعلام الختلفة فى أنحاء العالم!، وأصحاب الدعوات محرومون بسلطة القانون من أن يسمع لهم صوت فى هذا الصخب الداوى!، ومع كل هذا الحصار الذى تآمر عليه العالم الظالم ليبيدوا الإسلام وأهله؟ فإننا نملك- والحمد لله- قوة هائلة من الإيمان الذى ملا جوانحنا بالأمل المؤمن فى نصر الله (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل) آل عمران: 173، ومن كلمات المرشد الشهيد: ( سنتتصر بأهون الوسائل، وستعلم الدنيا منا مالم تكن تعلم )، ولقد كان لهذه الكلمات أثرها الخطير فى البعث، والقوة، والحياة،، كنا ندهش .. كيف ننتصربأهون الوسائل؟ ونحن لا نملك منها شيئا! حتى كان موت روسيا الشيوعية "" الاتحاد السوفيتى "" وهى تملك المئات من الرءوس النووية، ولم تصنع بها شيئا! ولم تحرك بها ساكنا!

أليس ذلك معنى صحيحا لأن النصر من عند الله تعالى، يوجهه كيف شاء؟ وما أمره إلا كلمح البصر أو هو أقرب؟ وقوله تعالى للشئ: كن، فيكون.

(هذا بلاغ للناس و لينذروا به و ليعلموا أنما هو اله واحد و ليذكر أولوا الألباب) إبرا هيم: 52،

إن رسالة الداعية فى الظلام أن يضئ شمعة، وأن يهدى الأعمى، ويسمع الأصم، وأن يحمل الكل، ويطعم الجائع، ويخفض جناح الذل من الرحمة لإخوانه المسلمين."

الإنسان طاقة جبارة.. بددت فى خسارة

دخلنا السجون بظلم الظالمين، وعذبنا عذاب الهون!، وديست كرامة الإنسان بأخس الأخلاق الدنيئة، بمالم يسمع به الأولون!، وكادت أرواحنا تنطلق إلى بارئها!، وصبرنا على الجوع والعطش، وعرفنا قيمة الغذاء والماء بالحرمان الطويل منهما، حتى فهمنا قول الله تعالى: (لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف) قريش، حق الفهم، وجرينا فى الطوابير بالخطوة السريعة!، وحولنا الكلاب المفترسة، والكرابيج التى تمزق الأجساد، وذقنا الخوف والرعب!، فمنا من سقط مغشيا عليه، ومنا من سقط على وجهه، فترك بلا علاج!!، نجرى بالساعات بلا فرصة للراحة ولا يسمح لنا أن نستظل بظل سحابة عابرة!! منا من يتبول على نفسه!!!، بل أكثرمن ذلك !!.

كنا قبل أن نعيش هذه المحنة، لا نتصور على الإطلاق أن فى إمكان بشر من الشباب أن يتحمل بعضا مما يصب علينا دون أن يصاب بالشلل!، أو كثير من العلل!!، ولكن- سبحان الله- فقد اكتشفنا بعد هذه المحنة التى بلغت سنين؟ أن الإنسان يملك طاقات هائلة جدا من القدرة على الصبر والاحتمال والمجاهدة، طاقات عقدية ونفسية وروحية لم يكن قد اكتشفها أو عثر على منابعها أو مناجمها، وهى طاقات فاعلة بقدرة الله تعالى التى تهزم الجبارين وا لظالمين.

لقد كان القوم يتعجبون، بل كانوا فى ذهول مما يجدونه منا: إنهم كانوا فى غيهم سادرين!، حتى أتاهم أمر الله تعالى فتحققت المعجزة، وبدل الله حالنا من بعد الخوف أمنا، وهم من بعد الأمن خوفا!!، ورأيناهم بأعيننا: مغلقة عليهم زنازين السجن الحربى ا!!. العبرة فى الأمر: أن فى شباب الأمة الإسلامية طاقات خارقة، لو أتيحت لها فرص العمل والإنتاج؟ لتغير حال هذه الأمة إلى الحرية، وا لعدل، وا لمجد.

والذين عاشوا هذه المواقف؟ فقهوا هذه الدروس بدقة، واكتشفوا قدرة الإنسان المسلم على الإبداع يوم تتاح له هذه الحرية.

لقد اكتشفنا فى الإنسان طاقات مذخورة، لم يكتشفها الإنسان!، ضاعت فى اللهو، والعبث، والضياع!، وفقدنا قيمة هذا الجهد فى البناء، والإنتاج، وتربية الأجيال.

ألا فليعمل الأخ فى الدعوة بكل جهد حتى يلقى الله، فالإسلام دين الدنيا والآخرة.

إن فى هذه الأمة مناجم من قلوب لا يحجبهما عنكم إلا غبار الزمن، وظهور الباطل على الحق."

للغائب عذره

كان من خيرة الإخوان، وأكثرهم تواجدا بالمسجد، وحبا ومودة لأقرانه.

ومضت فترة... وغاب عنهم... وطال غيابه!، ولما ذهب أحدهم يعاتبه لغيابه الطويل، قال له فى نبرة حزن وأسى: كيف تأتينى الآن؟ وأين كنت أنت وإخوانك؟ فلم تتفقدونى طوال هذه الشهور!، وقد كنت فى حاجة ماسة وملحة أن أجدكم بجوارى حين ماتت زوجتى! وتركت لى أبناء صغارا!، وفقدت من كانوا أولى بى، وأقرب منى فى هذه اللحظات الصعبة!.

وكان درسا كبيرا للإخوة الذين لم يوفوا بعهد أخيهم فى السؤال والمتابعة، وهذا أقل الواجبات، ورسولنا صلى الله عليه و سلم يقول لنا: ((... وإذا غاب فتفقده..))

هذا مثال لمن غاب، ولم يتضح عذره إلا بعد السؤال عنه!، وهذا مثال آخر: يتعايش آخرون معا سنين، على حال ومنوال قريب، ولكن سنة الله فى خلقه أن الناس أحيانا كثيرة يتباعدون، لظروف حياتية، أو دراسية، أو وظيفية، فيظن البعض أن هذا الأخ الكريم قد تسرب متقاعسا!، أو غاب رهبة!، أو خوفا أو ضعفا! فيظن به الظنون، وقد نهينا عن ذلك ويغيب هذا الأخ الكريم عن ذاكرة إخوانه، لفرط ما قصروا فى حقه..!.

وتمضى الأيام، وتحدث أحداث شديدة، كما هو الحال فى طريق الدعوات، فإذا هم بهذا الأخ يتواجد فجأة بين صفوفهم، يقدم نفسه، ويقدم ماله فى صدق وشجاعة تذهل وتخجل الذين لم يفهموا أو يدركوا أن من ذاق طعم هذه الدعوة، وعاشت فى قلبه ووجدانه، فإنه يستحيل عليه أن يجحد فضلها، أو ينساها!.

إن الأخ الداعية لا يظن إلا خيرا، ولا يحقر أحدا، ولا يضع نفسه موضع الأعلى والأخير دونه فى الصف!، بل إن صاحب الدعوة يكون حينا فى المقدمة، وحينا فى الساحة.

إن كل من مسته روح الدعوة، لهو حى بها حتى يلقى الله تعالى..

إن الداعية يجب أن يحسن الظن بإخوانه ويستر عيوبهم حتى يثوبوا فيعودوا الداعية إلى إخوانهم وهم يحملون الحب لهم."

موقف الإسلام ودعاته من مظاهر الحضارة الحديثة

الإسلام دين الخلود، والحياة لا تقف! جامدة عند صورة واحدة، فيملها الناس ويبحثوا عن غيرها، وليست الحياة إنشاءات وجمادات، وإنما الحياة تجديد روح، ونماء، وأحاسيس، ومشاعر. والإسلام كدعوة للناس جميعا على اختلاف الملل والنحل، والألوان والأوطان؟ فيه كل الأشواق النظيفة، والإبداعات الفنية اللطيفة، التى تبنى الحضارات، وتسعد المجتمعات فى غير غلو ولا تفريط.

ودعوتنا قد كشفت عن هذه المفاهيم الراقية، المنبعثة من روح الإسلام، فيما جاء فى رسائل (الإمام البنا) حيث يقول:

((إن الإخوان يستعينون بكل وسائل الإعلام الحديثة، مثل: الصحافة والراديو والمسارح)) حيث عرض الإخوان مسرحيات أذيعت فى الراديو لمؤلفها الأستاذ "" عبد الرحمن البنا "" وحضرها الإمام ( حسن البنا ) عام 1947.

ويقول الشيخ "" محمد الغزالي "": الأصل فى الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بنص قاطع، والواقع أن نفرا من سوداوي المزاج أولعوا بالتحريم، ومنهجهم فى الحكم على أشياء يخالف منهج نبى الإسلام صلى الله عليه و سلم، الذى ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما، وقال فى ذلك، "" لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم فى الصوامع والأ ديرة؟ رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم "".

وقد أشاعت المدنية الحديثة "" الراديو والتليفزيون "" وغيرهما من الأجهزة الناقلة للثقافة والملاهى على السواء، وهذه أجهزة وأدوات غير مسئولة عما يصدر عنها، والمسئولية تقع على المؤلفين والمغنين والمخرجين، وفى استطاعتهم أن يقدموا النافع، ويحجبوا الضار، ويؤكد الشيخ "" الغزالى "" أنه لا يحارب الغناء والموسيقى والترويح عن النفس، ولكن يؤلمه أن الأمة العربية والإسلامية تريد أن تعمل قليلا وتغنى كثيرا !! والاستجمام حق المرهقين لا حق القاعدين! ويقول: ""الغناء كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح""، ومن غنى أو استمع إلى غناء شريف المعنى، طيب اللحن فلا حرج عليه، وما نحارب إلا غناء هابط المعنى واللحن، ولم يرد حديث صحيح فى تحريم الغناء! وقد احتج البعض بقوله تعالى (و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين، و إذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم) لقمان: 6-7، ويرد الشيخ ((الغزالى)) على هؤلاء بأن "" من يشترى جد الحديث أو لهوه للاسباب المذكورة فى الآية جدير بسوء العقاب، أما من يريح أعصابه المكدودة بصوت حسن، ولحن جميل، فلا علاقة للآية به)) ويقول: ((إذا كان الغناء مقرونا بالمحرمات فهو مرفوض أما إذا برئ منها فلا شئ فيه، والموسيقى كالغناء، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم صوت الدف والمزمار دون تحرج، والألحان تختلف فى تأثيرها وصداها النفسى؟ فإذا كان هناك مجال للاعتراض فعلى الأصوات الخنثة، والألحان الطرية المائعة "".

وفى النهاية .. يؤكد فضيلة الشيخ "" محمد الغزالي "": أن الأمة الإسلامية فى حاجة شديدة إلى الكثير من الجد، والقليل من اللهو، ويقول: "" لو رزقنا بفنانين ذوى شرف ومقدرة، لأمكن تحويل الفنون إلى عوامل للبناء لا الهدم، ولإثارة المشاعر النبيلة لا إهاجة الغرائز الدنيا.

وفى العصر الحديث حين بدأت الثورة الفلسطينية "" منظمة حماس الإسلامية "" ضد الاحتلال الصهيونى، ظهرت على الساحة عدة أناشيد إسلامية حماسية، أشهرها: (أبو راتب)، (أبو مازن) هذا خلاف عشرات الفرف التى انتشرت فى مصر والأردن، وكان- ولا يزال- لها آثار عميقة فى قلوب وضمائر الشباب الإسلامى فى كل مكان، وكان للصوت واللحن الجميل صداه فى نفوس عامة المسلمين."

"إلقاء السلام.. مفتاح، وانشراح، وإصلاح"

حدثنى أخى- فى السجن الحربى عام 1954- فى محنة حادث المنشية.. قال:

إنه كان يعيش مع إخوانه فى الزنزانة فى حالة من الخوف والرعب! حالة مذبحة رهيبة!! ولم يكن هناك أى شعور بالاطمئنان!، وكان الجو من القتامة والكآبة بمكان! تحيط بهم عوامل الرعب والإرهاب!!!.

وبينما هم فى هذه الحالة المظلمة! إذا فتح عليهم باب الزنزانة، فإذا بضابط برتبة نقيب يلقى عليهم ((السلام عليكم ورحمة الله "" فإذا بالجميع ينفجرون بالبكاء وبصوت رهيب حزين!! مما جعل الضابط يصاب بالدهشة والوجل!، وأدرك الضباط مدى ما تجيش به صدور هؤلاء من عميق الحزن والأسى، إذ كان إلقاء السلام فى خاطرهم شيئا لا يمكن أن يتوقعه أحد! أو يمكن له أن يحدث فى مثل هذا الجحيم!. وهكذا.. نزل السلام عليهم كالماء البارد فى أتون نار مشتعلة ."

السياسة النفسية فى مناقشات جماعية

أحيانا فى إحدى المناسبات يجمعنا لقاء على غيرموعد. وبعض الحاضرين لم أره من قبل. ويتطرق الحديث عن دعوة ((الإخوان المسلمون)) وتعرضت لبعض الأسئلة حول فكر الإخوان وتاريخهم وما يدور حولهم وبعد فترة من المناقشات والإبانة والتوضيح وأنا أراقب تفاعلات الوجوه، حتى سألنى أحد هؤلاء الجدد فقال: إحنا الإخوان : بماذا نجيب هؤلاء الذين يصدون عن دعوتنا؟ أريد أن أكون على بينة عن فكر الإخوان وتاريخ حركتهم حتى أستطيع أن أدافع عنهم؟

وفى نفس الوقت يسأل صديقه: أنتم الإخوان: كيف ستواجهون هذه العقبات والتهم ومخططات أعداء الدعوة الإسلامية!؟ فأدركت أن الأول قد شرح الله صدره وبدأ يتجاوب ويقترب واستراح لعموم دعوتنا واطمأن قلبه لها. وأما الثانى فلا يزال مترددا ولما يستسلم نفسيا لمنهج الإخوان ويحتاج لكثير من التبيان والإيضاح وفى الحال وجهت اهتمامى له وصار حديثى موجها إليه بكل حواسى واحترامى .. ولم أحاول أن أحتفى وأمد جسورا سريعة إلى صديقه الأول.. فلو أننى فعلت ذلك لصنعت بينهما فجوة نفسية وجفوة قلبية، لما بدا بينهما من خلاف فكرى. فمن طبيعة النفوس أن تتحامل على المفارق الذى لم يتفق مع الآخرين.

ولقد اقتنعت أن عرض الدعوة على جماعة ولا سيما إذا كانت غير متجانسة.. قلما تجد سبيلا إلى قلوبهم وعقولهم إلا من رحم ربك حيث إن العدد الكبير تتضارب فيه الأفكار وتتصارع فيه النزعات المذهبية. ويريد كل متحدث أن ينتصر على محدثه أحيانا بالحق وأحيانا بالباطل. ويسود الجدل والمراء الذى لا يأتى بخير.

لكن الدعوة الفردية تتناول لب الموضوع وتعطيك فرصة أوسع فى المناقشة الحرة الهادئه "" بالتى هى أحسن "" التى تتبادل فيه وجهات النظر وتقارع الحجة بالحجة. وفى الدعوة الفردية فرصة للمكاشفة فأحيانا تكون لمحدثك أسئلة لا يستطيع أن يستفسرعنها لوكان فى جماعة من الناس. مثل تلك الشبهات والاتهامات الباطلة التى ترسبت فى عقول أجيال تجهل الحقيقة الصافية بفعل الظروف السياسية القاهرة التى صنعها أعداء الدعوة الإسلامية. ليصدوا عن سبيل الله. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)."

الدعوة: روح وعاطفة

دعيت لزيارة مجموعة من الشباب، واستغرق السفر إليهم ثلاث ساعات!، وحين وصلت إليهم، وجدتهم قد استقبلونى وهم جلوس! وجوههم جامدة، ومشاعرهم خامدة، وعيونهم ميتة!، قدمنى إليهم كبيرهم، فتحدثت إليهم بلا قلب، ولا روح!، حتى إذا انتهيت من حديثى، شكرنى، وخرجت كأننى كنت أعزى فى ميت!! وعدت من حيث أتيت، حزينا لما شاهدت ورأيت!.

ومضت الأيام والأسابيع، وجاءنى الأخ نفسه، الذى دعانى أول مرة، جاء يدعونى لأكرر الزيارة مرة أخرى!.

فقلت له: إلى أين؟.

قال: إلى الإخوة.

قلت له: أهؤلاء إخوة؟.

قال: نعم.

قلت: مستحيل أن يكون هؤلاء عندهم تذوق لمعنى الأخوة!، كيف يكونون إخوة.. وقد جاءهم ضيف قطع إليهم مسافرا أكثر من ثلاث ساعات، جاء إليهم بأشواق متلهفة، وعواطف مشتعلة، ونفس منشرحة؟ فيتلقونه بمشاعر جامدة، وهم جلوس كأنهم تلاميذ فى مدرسة!، لا تربطنى بهم سوى علاقة المدرس فى الفصل!!، فإذا أنها الدرس خرج لا يلوى على شيء، لا عواطف! ولا مشاعر! ولا دعوة تجمع بينهم!!!.

لقد تركتكم كاسف البال!، أتحسر على جمود العواطف! وفقدان يقظة القلوب، وحياة المشاعر التى هى سر وجودنا وحيويتنا وانتعاشنا.

أصاب أخى الخجل والحيرة، ثم بادرنى يقول:.. إذا كان الإخوة قد فاتهم هذا المعنى فى أول مرة، فسوف أقوم بالتنبيه عليهم، حتى يتداركوه المرة القادمة.

فنظرت إليه وقلت: يا سيدى إن هذه المواهب الروحية، واللمسات العاطفية، والأريحية، واللطائف النفسية، والذوق؟ لا تنهض به توجيهات أو أوامر!، وإنما تنهض به: موحيات قلوب معطرة بالحب، مشتاقة تواقة إلى توأمها فى العقيدة التى تتأجج بها القلوب.

واعتذرت لأخى عن الزيارة، رغم أنى مشتاق إليهم، ومشفق عليهم."

الباب الثاني

العمدة أولا

بعض الشباب فى إحدى القرى أرادوا أن يقيموا مشروعا خدميا الأبناء القرية؟ فقاموا بدعوة الناس إلى هذا المشروع، لبناء مسجد و مدرسة وحضانة ومكتبة.

و لم تمض أيام حتى وجدوا بعض الأهالى يصدون عن نجاح هذا المشروع، وواجهوا خصومة شديدة!.

و لم يدرك هذا الشباب أنهم قد أخطأوا السبيل، فقد كان من الواجب أن تكون لهم حنكة ودراية، وأن يدخلوا البيوت من أبوابها.

و العمدة أو كبير البلد، يشعربالحرج أن يتم أى شئ مثل هذا دون علمه أو استئذانه، فإنه فى القرية هو كبيرها وشيخها، وكان من واجب الشباب أن يعطوه حقه من التقدير والاحترام، وهو من هذه الزاوية سوف يساعدهم باسمه وجهده ومكانته، ونحن نحب الخير من أي جهة كان، وفى الوقت نفسه نكون قد كسبنا قلبا كبيرا و رجلا له مكانته واحترامه."

الوفاء فى الحياة وبعد الموت

مرضت أياما..، وسافرت إلى بلدى.

وترقبت بشغف أن يزورنى إخوانى الذين أتمنى أن أراهم، وانتظرت أن يدق الهاتف "" التليفون ""، أو أن يطرق الباب أحد من الإخوة الأحباب، وأتذكر العشرات منهم، الذين أهفو إلى رؤيتهم، ولكن دون جدوى!، وافكر فى الأسباب فأقول: ربما ظنوا أن الزيارات ممنوعة بأمر الطبيب، أو أن الزيارات كثيرة فلا يريدون أن يزيدونى إرهاقا ومشقة، فكل يحسن الظن، وبهذا التفكير الذى يضع الأحمال على حسن الظن، يقصر الإخوة فى هذا الواجب، مع أن الواجب لا يسقط بحسن الظن، فكل أخ مقصود بذاته، وليس من الضرورى أن يحضر بنفسه- إذا تعذر عليه ذلك- ولكن مجرد مكالمة، أو رسالة، أو سؤال.. فيه الكفاية.

وكم من مريض ازدادت متاعبه النفسية والمرضية لحرمانه من رؤية إخوانه!، وإذا لم تكن الرؤية بالزيارة واجبة فى مثل هذه الحالات.. فمتى إذن تكون واجبة؟.

إن زيارة المريض سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإذا مرض فعده)) فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى، قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتنى عنده؟، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى! قال: يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى؟ يا آبن آدم استسقيتك فلم تسقنى! قال: يارب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدى فلان فلم تسقه! أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندى "". رواه مسلم

فالزائر يسعى إلى أخيه بدافع الأخوة والمحبة، وبإدراك ذاتى نابع من القلب والشوق، فليس من المتعارف عليه أن يطلب المريض من إخوانه أن يزوروه، فإن الزيارة واجب شرعى، وعدم الزيارة يؤثر فى العلاقات الفردية، ويطفئ شعلة الحب ويفتر الحماس، ويغير من طبائع النفوس، ويتحول الحزن الشفيف إلى إحساس مفعم بالمرارة، سواء عند المريض، أو عند أهله، من خلال امتحان طارئ مفاجئ فى طريق الحياة الطويل.

إن معايشة الإخوان بعضهم لبعض متعة روحية، وحياة للقلوب، وسعادة تملا القلب وتسرى فى كيانه، تغذية، وترويه، وتبعث الأمل فيه، ولو لم يفصح عن ذلك، فإن الإفصاح لا يبلغ درجة الإشعار، ولا يمكن تصويره باللسان أو البيان، لهذا كان من وسائل التربية أن تتضح وتترسخ هذه المعانى بكل الصدق والإخلاص، لكل ذى قلب حى يقظ، حتى لا يفقد الأخ سر وجوده، ولا يضيع وقته فى عمل لا روح فيه ولا حياة.

لذا حرص الإخوان فى الأعياد على زيارة إخوانهم من أبناء الشهداء، الذين استشهدوا فى حرب فلسطين، ومذبحة طره، والسجون الحربية، والذين قضوا حياتهم فى سبيل دعوتهم الإسلامية، ولا تزال الزيارات مستمرة إلى الآن مع تقديم الهدايا، رغم أن أبناء الشهداء وغيرهم قد أصبحوا فى مراكزاجتماعية كريمة، ولكن يجب أن يستشعروا من إخوانهم الوفاء والحب مهما طال الزمن، ذلك لآن أجمل ما فى هذه الحياة ثبات القيم والتواصى بالحق والصبر."

نقد يحتاج إلى تصحيح

يرى بعض الشباب المسلم المنتسب لبعض الجماعات الإسلامية في مشاهد تتنافى مع الأدب الإسلامى، فقد يرى وهو يدخن السيجار!، أو وهو يتشاجر مع بعض زملائه بأسلوب لا يليق!، أو يرى وهو يتحدث مع فتاة!، أو غير ذلك من أمور.. فتكون هذه الأمور سببا في نقد هذه الجماعة والتحامل عليها!.

والواقع أن مثل هذه الأمور كثيرا ما تحدث من الشباب الجدد الذين لا يزالون فى حاجة إلى تربية، فمثلا الطالب الذى التحق بكلية العلوم أمس، إذا سألته فى أى كلية أنت؟ فسيقول لك: أنا فى كلية العلوم، فإذا سألت طالبا فى السنة الرابعة بالكلية نفسها: فى أى كلية أنت؟ فسيقول لك: أنا فى كلية العلوم!، فهل يستويان؟.

إن الطالب الجديد يخطو الخطوة الأولى وهو مع ذلك فى كلية العلوم فعلا، ولكن شتان بين السنة الأولى والسنة الرابعة، الطالب فى السنة الأولى قد يرسب مرة أو مرتين وهو لا يزال طالبا فى الكلية، بل ربما لا يحصل على المؤهل.. ويتجه وجهة أخرى.. ولله فى خلقه شئون.

كذلك شباب السنة الأولى فى أى جماعة، ينبغى أن لا نحمل عليه قبل أن تثمرالتربية.

فالأصل فى الدعوة أنها دعوة إصلاحية، هدفها تغيير المجتمع إلى التوجه الإسلامى الصحيح، وهذا يحتاج سنين، وستظل الجماعة تستقبل كل يوم الجديد من الرواد والمتقدمين إليها على أى شكل، وتدور بهم عجلة الإصلاح حتى يتخرجوا منها دعاة إلى الله رب العالمين.

فالدعوة ليس لها عمر افتراضى حتى نغلق أبوابها، فهل الجامعات تغلق أبوابها بعد تخريج دفعات من أبنائها؟، كلا.. بل إنها تستقبل الآلاف من الجدد فى كل عام إلى ماشاء الله، وهكذا ستظل الجماعة الإسلامية تسقبل الاف الشباب المسلم حتى يتخرجو! منها هداة مهديين، (و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون) التوبة: 105،."

دروس فى التربية

يعيش الأخ فى قلوب إخوانه سنين عددا، يشاركهم السراء والضراء، يعيش فى نعيم قلوبهم، فالناس فى موسم الصيف يرحلون إلى الشواطئ والملاهى، يتنسمون ربيع الحياة، فيعيشون فى لعب ولهو وملهاة.

ونحن لا نجد لنا من سعادة إلا فى محاضن القلوب، وشواطئ ونعيم المشاعر التى نحس فيها ببرد العواطف النبيلة الحانية، ومع كل هذا القرب القريب، والحب الفريد العجيب، يحدث أحيانا أن يغيب أحدنا عن ساحات المساجد، وميادين العمل، أو جلساته المعتادة، فلا يكاد يحس به أحد!! فكل يظن، وكل يتعشم، وكل يتوهم.. إلا من رحم ربك، حتى إذا استدركوا الأمر، وجدوا أن الأخ كان مريضا، وكان محتاجا لمعونة إخوانه، أو كان له من الأعذار الشديدة القاسية التى كان من الواجب أن يكونوا إلى جواره؟ حيث ذاك تكون الصدمة، ويومئذ نقول: وفيم كانت الأخوة، وفيم كانت التربية؟!

حين يحدث ذلك تكتئب النفوس، وتخمد العواطف، وقد ينزوى الأخ، أو ينطوى إلى حين.

إن الزيارات واللقاءات إكسير يجدد الأخ، ويحيى الهمة، ويرفع المعنويات الشخصية، ويشعر الأخ بوجوده وشخصيته الذاتية، فتتنامى عواطفه، وتقوى عزيمته.

فإذا حرصنا على الوفاء للمودة والحب فى كل الحالات؟ فإننا نبنى ونشيد بهذا الوفاء روح الحب، فنزيد فى الأخ روح الانتماء والبناء والثبات والبقاء.

ولو بلغنا غاية اللهم والوعى؟ فلا نفرق فى أسلوب المعاملة والمجاملة، وإنما نحن جسد واحد، تختلف فيه وظاثف الأعضاء، فلا مجاملة إلا لحساب الدعوة، لتبقى الدعوة وتسود.

إن تعايشنا بغير مراعاة أسرار النفوس ومداخلها؟ قد يهدم ما بنيناه من جهة، وقد يباعد بين القلوب فى غفلة من الوعى واليقظة.. من جهة أخرى!.

ولعل أخطر ما صادفنى فى رحلة هذه الحياة، وما عشته بنفسى وشاهدته بعينى من الذين كانوا ملء السمع والبصر، لا تخلو مجالسهم من عشرات بل مئات من الإخوة شيبا وشبابا، هؤلاء قد فعل بهم الزمن ما يفعله بكثيرمن خلق الله، فقد يبلغ بأحدهم العمر مبلغ الشيخوخة، أو يصيبه المرض، فتراه فى أيام مرضه الأولى يقبل على زيارته العديد من الإخوة، تبدى له مشاعر الأنس والاهتمام، وتمضى الأيام بعد ذلك، ويطول به الرقاد، وتزداد عليه الهموم، وتؤرقه الوحدة، ويشتعل عقله وفكره بالتفكر فى الماضى والحاضر، وتكسوه مسحة من الأحزان والإحساس بالغربة!، فيكون فى هذه الحالة أشد ما يكون حاجة إلى زائر يلطف مجلسمه، ويرطب أحاسيسه، ويغير من ظروفه الكئيبة الحزينة.

إننا يجب أن ننظر إلى مستقبل كل منا حين يأويه هذا المصير، فإن الأمور دائما تقاس بالخواتيم.

فهل من دروس فى التربية تستقر فى قلوب الإخوة ووجدانهم، حتى لا يغفلوا عن هذا الواجب الإسلامى الكريم، وحتى لا يقعوا فى المحظور، ويقطعوا الجذور؟.

عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ""حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس "". متفق عليه."

الأخلاق فوق المؤهلات

ذهبت ذات مرة مع أخ كريم لتقديم طلب كريمته إلى معهد التمريض العالى بالإسكندرية، وهناك قدمنا الأوراق لموظفة فى مكتب قبول الطلبات، فاستقبلتنا أحسن استقبال، وقامت بمراجعة الأوراق، وأرشدتنا إلى الأوراق المطلوبة التى ينبغى أن نستحضرها بأدب واحترام.

ولما انصرفنا سألنى الأخ عما يكون مؤهل هذه الفتاة التى عاملتنا أكرم معاملة؟، فقلت له: فى رأيى أن مؤهلها هو أخلاقها الرقيقة، وهذا هو المؤهل الحقيقى الذى يتجاوز كل العقبات، وهو فوق الشهادات والمؤهلات، وهكذا يقول الله تعالى (و قولوا للناس حسنا) البقرة: 83، (و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) الاسراء: 153 ويقولون: اللفظ يخرج من الفم بالسمو والأناقة، وقد قيل على أفواه الناس: اللفظ سعد."

الجمال لغة القلوب

لاحظت كثيرا فى الحفلات والاستقبالات لكبار الزوار أن يتقدم لهم بعض الأطفال بباقات الزهور والهدايا، كما لاحظت أن هؤلاء الأطفال يختارون بعناية؟ فهم من أجمل الأطفال فى الشكل والمظهر وأدب اللقاء، ويتكرر ذلك فى كل المناسبات؟ على مستوى الحكام والوزراء والوكلاء والمحافظين وغيرهم، وفى شتى أنحاء العالم. والعجيب أن هذا الأسلوب يتم ولا تجد أحدا يحلله أو يعلق عليه لا باللسان ولا بالبيان، ولكنه يبقى حيا، يتفاعل مع الشعور والوجدان، فهو لا يحتاج إلى عبارات مبهجة، لأن بهجة القلب والروح به أبهج وأمتع.

فالواقع أن جاذبية الشكل الجميل لها تأثير على العلاقات الشخصية، بل والمعاملات عامة، فالجمال والمنظر الحسن المشوب بمسحة من أدب الجوارح، ورقة الحواس، يمثلان عاملا حيويا وإيجابيا فى جذب القلوب ويقظة المشاعر، وقد يؤدى الجمال والوسامة إلى زيادة كبيرة فى الفرص، وقد يصل بصاحبه للصف الأول فى الوظائف المرموقة، وكثيرا ما يحدث تجاوز لبعض العيوب بالنسبة للذين يتمتعون بالجمال، وأنا أقصد الجمال الفطرى الذى يتلالأ بروح الطهر والصفاء؟ ولهذا ترى أن هذا النوع يؤثر كثيرا فى القلوب، ويحاط صاحبه بعوامل الحب والتقدير، ومن هنا ترى أن سلوك الأطفال الذين وهبهم الله تعالى هذه النعمة أفضل من سلوك غيرهم.. ولو روعى فى تربية هذا الطفل أن يربى تربية إسلامية صحيحة؟ فإن صدى هذه التربية فى المستقبل تتضاعف فى بعث شعوره بقيمة ما يؤديه من صورة حية مشرقة وضيئة لخدمة الدعوة الإسلامية.

والإسلام كدين دعوة للعالمين لم يغفل هذه اللمحات الحلوة فى سبيله إلى قلوب الناس، ولقد أحاطت السيرة الشريفة بكثير من المواقف التى برز فيها هذا الجانب فى حياة بعض الصحابة؟ كمصعب بن عمير، وجعفر بن أبى طالب، ودحية الكلبى، الذين كان يبعث بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الملوك والحكام."

ابحثوا عن الرجال

يبذل أكثرالدعاة جل جهدهم فى محيط طبقة معينة من الشعب، ويغفلون عن الشخصيات المؤثرة فى المجتمع، ذات النفوذ أو القيمة الاجتماعية والأدبية، فإن الاهتمام بهذه الشخصيات والنوعيات تفتح أمامنا مساحة كبيرة؟ هذه الشخصيات التى عاشت معزولة عنا وعن فهم دعوتنا، وربما كانت ممن يحاورنا لجهلها بحقيقة الدعوة.

ولهذا كان الرسول صلى الله عليه و سلم يدرك هذا المعنى حين قال: ""اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين- عمرو بن هشام وعمر بن الخطاب "" وكلاهما كان ممن يحاربون الدعوة الإسلامية حين بدأت فى مكة المكرمة؟ فالدعوة مع حاجتها لكل إنسان؟ فإنها كذلك فى حاجة إلى من يعز الله به الدعوة، وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم، وقد قيل: اللهم إن كانت له دعوة مستجابة فاجعلها للحاكم، فإن الله يصلح بصلاحه خلقا كثيرا، فبمثل هؤلاء يوفر الجهد والوقت، ويدعم موقف الدعوة الإسلامية.

ولقد كان لإسلام سيدنا ""عمر بن الخطاب"" مثل ذلك الشأن العظيم فى النهوض برسالة الإسلام، فضلا عن أنه أدى للدعوة أعظم الانتصارات، فكان بعد ذلك الخليفة العادل الذى دوى اسمه فى ربوع العالمين.. فكان فضل الله عظيما، وصدق الله العظيم (و هدوا الى الطيب من القول و هدوا الى صراط الحميد) الحج:24"

"الحيلة والحكمة، والتدريب على التفكير"

مازلت أعجب كيف يفكر اليهود إلى يومنا هذا تفكيرا جديدا، من الحيل والمكر والدهاء، بصور مختلفة متنوعة، كأن لهم مدارس ومعاهد متخصصة فى هذا المضمار، وعلى مستوى التجارة والحرب والسياسة.

أذكرقصة حدثت فى مدينة رشيد، منذ كان لليهود فيها بعض السكان؟ فيروى أن يهوديا باع منزله لأحد أهالى رشيد، وقبض الثمن، ومضت سنوات، واذا بهذا اليهودى قد جاء حول المنزل ""وشون"" أى وضع كمية من الطوب والخشب والجير!، فقال له الرشيدى صاحب المنزل: ماذا تفعل يارجل؟، قال: جئت كى أبنى! قال الرشيدى: تبنى ماذا؟، قال: أبنى دورا جديدا فوق المنزل!!، قال له: لقد بعت وقبضت الثمن منذ سنين!، قال: نعم، ولكنى بعت لك حتى ارتفاع المنزل ومن حقى أن أبنى بعد ذلك حتى أعلى ارتفاع !!.

وكانت هذه النكتة قبل احتلال أرض فلسطين وغزة والضفة الغربية، والآن تقول إسرائيل: ليس على العرب من حرج أن يعيشوا على أرض غزة والضفة دون أن يكون لهم فيها شئ!! وتبقى الأرض لإسرائيل!!! وما أشبه الليلة بالبارحة.

غيرأن سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه فقه حيل اليهود وأسرارهم التى دوخوا بها العالم، فحين ولى الخلافة وجد فى المدينة رجلا يهوديا قد احتكر بئرا للماء يتحكم فى مائه حين يبيعه للمسلمين، فعرض الخليفة على اليهودى أن يبيعه هذه البئركى يتصدق بها على المسلمين، ولكن اليهودى رفض ذلك، فقال له الخليفة: بع لى نصف البئر، بمعنى أن تأخذه يوما، وآخذه يوما، فوافق اليهودى على ذلك!، فقال الخليفة: على المسلمين أن يأخذوا ما يحتاجون من الماء فى اليوم المخصص لى- أى الخليفة- وفى يوم اليهودى لا يشترون منه شيئا، ومضت الأيام، ووجد اليهودى نفسه فى معزل حين قاطعه المسلمون، فلم يجد بدا من أن يبيع نصيبه للخليفة.

لعل هذه القصة تكون بادرة وعى وإفاقة للعقل المسلم، واللى فات مات والخير فيما هوآت.

جلس الخليفة ""المهدى"" للناس، فدخل رجل وفى يده نعل ملفوف فى منديل، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه نعل رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أهديتها لك، فأخذها الخليفة ""المهدى"" منه، وقبل باطنها ثم وضعها على عينه، وأمر للرجل بعشرة الاف درهم، فلما أخذها وانصرف قال "" المهدى "" لجلسائه وسط دهشة الجميع: إنى أعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يرها- فضلا عن أن يكون لبسها- ولو كذبناه لقال للناس: أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فردها على فقبلنا هديته.

فهو لم يتعجل التصرف بدون تفكير، بل إنه فكر قبل أن يتصرف، فكان تصرفا ذكيا."

الإستقبالات وأثرها

فى عام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية، واستنفار الشعوب للمطالبة بحقها فى الاستقلال والحرية؟ قام من الخرطوم وفد على رأسه الأ ستاذ ""إسماعيل الأزهرى"" رئيس حزب ""الوحدة مع مصر"" لمقابلة "" إسماعيل باشا صدقى"" رئيس وزراء مصر؟ للتفاوض والتنسيق.

ويقول الأستاذ ""إسماعيل الأزهرى"" فى مذكراته عن الوفد السودانى الممثل لسائر الأحزاب السياسية السودانية، الذى قاده إلى القاهرة، ليؤثر على سير المفاوضات الإنجليزية المصرية فيها، ويرفع صوت السودان، معبرا عن أمانى أهله.

يحدثنا فيقول:

"" أخذ الشعب يتدفق نحو المحطة- محطة السكة الحديد بالخرطوم- منذ الصباح الباكر، وكان منظرا مؤثرا، وحشدا رهيبا، يفصح عن مدى تعلق شعبنا بحريته، وحرصه على حقه فى الحياة الكريمة.

وفى الشلال استقبلنا استقبالا باهرا يأخذ بمجامع القلوب، وكانت أبرز الهيئات التى اشتركت فى الاستقبال الكبير بالشلالات ""الإخوان المسلمين"" ومن الشلالات اتجهنا إلى ""أسوان"" حيث أعد لنا حفل عظيم، واصطحب ""الوفد"" بعض أعضاء ""الإخوان المسلمون"" فى القطار من اسوان إلى القاهرة، وكانت جماعاته قد نظمت لنا استقبالات عظيمة على طول الطريق.

وفى محطة ""القاهرة"" رأينا عجبا!! رأينا حشودا ضخمة عظيمة تملأ المكان! يهيأ لك معها أنه لم يبق فى مصر رجل واحد لم يهب لتحية وفد السودان!! ."

قصة علبة الجبنة

كان يتعامل معى فى شراء أرض، وعلمت أن له ابنا طالبا بالجامعة، فأهديت له- للابن- ""علبة جبنة بيضاء"" حيث أمتلك مصنع أجبان، فقال لى: إن معه اثنين من الزملاء، فى الكلية وفى السكن نفسه، فأهديت لكل منهما علبة أيضا.

ومرت الأيام..، وبينما كنت أسير فى شارع من شوارع ""رشيد"" قام رجل كان يجلس على مقهى ونادانى، فلما ذهبت إليه؟ بادرنى قائلا: أنا أشكرك جدا على علبة الجبنة التى بعثت بها إلى ابنى ""فلان""، وأخرج محفظة نقوده، وأراد أن يعطينى ثمنها، وأصر على ذلك، والرجل وابنه لا معرفة عميقة لى بهما، فقلت له: والله إنى أرسلتها له ولزميله كهدية، وشرحت له ملابسات الموضوع، ولكنه أصرعلى الدفع! ووجدت نفسى فى موقف صعب!، فقلت له: الواقع أنى أرسلت له هذه العلبة هدية، فإذا أصررت أن تدفع ثمنها، فأنا فى هذه الحالة أرجو أن تقبلها كهدية أو تعيدها إلى كما هى!، أما أنا فلن آخذ ثمنها!، فقال الرجل: وأنا قبلت الهدية، لأن الهدية لا ترد.

أعطانى هذا الموقف من الدروس الكثير، فلم يكن من الحكمة أن أقدم هذه الهدايا بلا سبب معقول ومقبول!! حيث إننى لم يسبق لى صلة أو معرفة تؤهل لهذه الهدايا، لهذا كان لوالد أحدهما الحق فى دفع قيمة الهدية، فهو يقول- فى نفسه-: لماذا قدم هذه الهدية؟ ربما يظن أنى قدمتها تقربا، كوسيله للاتصال، كخطوة إلى باب الدعوة!

وظن الناس فى هذه الظروف مسبوق بالشبهات!!

لهذا فقد تعلمت من هذه القصة عدم الاستعجال، بل انتظار الظروف الطبيعية."

الحب له حدود ومحاذير

تؤكد التجارب الحياتية والزوجية؟ أن الصراحة المفرطة بين الأصدقاء، وخاصة بين الزوجين، غير مرغوب فيها، ولا سيما إذا صادمت مشاعر أحد الزوجين، ظنا أنه ""لا عتاب بين الأحباب""، مع العلم أن لكل إنسان- زوجا كان أو زوجة- شخصيته المستقلة التى يعتز بها.

وأكثر الخلافات تبدأ من الشعور الخاطئ بتخطى كل الموانع التى كانت تقيم نوعا من الاحترام والاحتراز، فإذا سقطت هذه ""السوستة"" فإن الاصطدام يكون قاسيا، يحتاج إلى فترة من الزمن، حتى تتلاشى هذه الصدمة، وخيرهم من يبدأ بالمسارعة فى إطفاء حرارة الغضب، لصالح الأسرة ومستقبلها، بالصمت وعدم مسايرة موجة الغضب، والانشغال بشئ آخر؟ مثل: العمل المنزلى، أو قراءة القرآن الكريم، وكتب السيرة، أو الوضوء والصلاة.

ويا أيتها الأخت المسلمة: احذرى- فى حالة الغضب- أن تسارعى فتغادرى المنزل! فإن فى ذلك تصعيدا للموقف، وأكثر شكاوى النساء ترجع إلى تصرفات الزوج، ومنها بل أهمها: عودته فى وقت متأخرمن الليل، وأطفاله فى سبات عميق! بعد أن كانت أمهم تمنيهم طول الوقت بقرب عودة والدهم الذى يسهر هذا الوقت فى النادى، أو على المقهى، أو غير ذلك، الأم تعلم ذلك، ومشاعرها متوترة، وتخشى أن تبدو منها كلمة عتاب تقلب الموازين، وتغير مسار الحياة فى البيت!، وتبقى الحياة جافة متجمدة، على حين ترى الزوجة بعض جاراتها على غير هذه الصورة، فالزوج يبكر فى تواجده مع زوجته وأسرته، وهذا- كما يقولون- فى نظر الأسرة هى السعادة المنشودة.

ولعل بعض الزوجات من النوع الأول، يكبتن مشاعر الغضب، فتبدو لزوجها عابسة متجهمة، فتنطبع هذه الصورة على تصرفاته، فيما يكون هو على غير هذه الصورة حين قدم إلى المنزل! وتكون هذه بداية ""العكننة""، وكم يكون جميلا لو أن الزوجة تؤخر ما عندها من شكاوى ومشاكل حتى يستريح الزوج، وتستبدل بالابتسامة والبهجة والانشراح بالكآبة، وترتدى أحسن ما عندها من ملابس، وتهيئ الأطفال لاستقبال والدهم بنشيد مثل: "" بابا جاى امتى.. جاى الساعة ستة.. راكب ولا ماشى.. راكب بسكليته "" وغير ذلك.

إن معرفة الزوجة لرسالتها جيدا هو سبيل الإحسان لنفسها وزوجها وأولادها، والنظر إلى المستقبل بعين الأمل الباسم السعيد، مما يساعدها على تحمل الأعباء بصدر رحب، ونفس هادئة مطمئنة، وعلى كل من الزوجين أن يتحمل نصيبه من المسئولية، ولا يظن أن له حقا، وليس عليه واجب!!!

إذابدت من أخ لك زلة فكن أنت محتالا لزلته عذرا

ومن رحمة الله تعالى بالأزواج أن تكون بعض المناسبات كالأفراح- مثلا- سببا فى نهاية معضلة من المعضلات نهاية سعيدة، أو القضاء على خصومة من الخصومات، كما تحدث أحيانا خصومة بين الزوجين لأى سبب، فيبتلى الله أحدهما بنوع من المرض الخفيف- وأحيانا يصطنعه أحدهما- فتتسارع العواطف والمشاعر لإنقاذ الموقف، وتنطفئ هذه الشرارة بأسرع وقت، قبل أن ينفخ فيها الشيطان اللعين!.

وهكذا... يستحب دائما معرفة رسالة الزواج والأزواج حتى لا تصطدم المشاعر والمتناقضات."

من وسائل التربية - قصة

قال الإمام ""البنا"":

إن الإخوة حين يضعون البذرة فى الأرض، يدفنونها تحت التربة حتى تنمو، وتقوى جذورها، وتشتد قوتها، ثم تبدأ فى الظهور على سطح التربة..

ويقول:

هذه سنة الله فى الخلق والتكوين، كذا إذا وضعنا البذرة على سطح الأرض، فربما يلتقطها الطير، وبهذا نكون قد خسرناها!!، كذا فإن بعض الإخوة يستعجلون الثمرة، ويستعجلون الإنتاج، ولا يكون ذلك فى يوم وليلة، بل إنه يحتاج إلى شهور، فمثلا: زراعة القطن تحتاج إلى حوالى ستة شهور، والوقت، فيما بين البذر والإنتاج- حتى تنمو شجرة القطن- هو وقت فراغ!! لهذا فإنه يجب على الداعية أن يستفيد بهذا الوقت، فيقوم الزارع بزراعة بعض المزروعات الخفيفة مثل ""الجرجير والفجل والطماطم"" وما إلى ذلك بجوار زراعة القطن فإنه يستفيد بهذا الإنتاج حتى ترتفع أوراق القطن ويأتى يوم الحصاد."

الاستعانة بالوسائل المحببة إلى النفوس

إن الطريق إلى القلوب لا يتوقف فى الدعوة إلى الله تعالى على الخطب والدروس والوعظ، بل إنه الإبداع بالاستعانة بالوسائل المحببة إلى النفوس، بمقاييسها الشرعية، وهو مما يجب الاستعانة به فى تبليغ الرسالة لطبقات الأمة الإسلامية على اختلاف ثقافاتها وأوطانها، فالأناشيد الإسلامية الرائعة التى سادت الحركة الإسلامية ""حماس"" فى فلسطين، من أروع ما جذبت القلوب، وتعلقت بها الأرواح والمشاعر، وإن ""فرق"" الأفراح التى بدأت تسود حفلات عقود الزواج والزفاف فى مصر؟ لهى من أنجح الوسائل فى الإيضاح، مع الترويح، حيث بدأت تغزو القلوب، وتقلص من ""الفرق"" المناوئة للاخلاق الإسلامية، ولا تزال هذه الفرف فى ترقب فتاوى العلماء الفضلاء فى بيان شرعية الات مثل ""الدف""- وإن كان فيه جلاجل - و ""الطبل، والشاهين، والضرب بالقضيب، وسائر الآلات""، وإن كانت الموسيقى التصويرية من المباح، فلا فتنة فيها، بل هى أداة لتجسيد المعانى."

بحث للاستاذ الدكتور أحمد عبد الرحمن مجلة المجتمع

إن فطرة الطفل الصغيرة رقيقة.. نظيفة.. حساسة، لهذا كان من واجب الدعاة أن يدركوا أنه من اليسير أن تنطبع فيها كل صورة، وتسجل عليها كل حركة وكل كلمة، فكان من الواجب أن تتخير الكلمات والصور والمشاهد التى تقع فى عقل وذهن الطفل، حتى لا تؤثر فى كيانه الحساس، الذى يستقبل كل شئ بجد وصدق، فمن المعروف أن الأطفال لا يسمعون من أمهاتهم وجداتهم إلا حواديت "" الغولة، والعفاريت "" وخاصة قبل النوم استدعاء له، فينام الطفل وقد ارتسمت فى ذهنه أبشع صورة! واختزنها فى عقله؟ الأمر الذى يجعلها تتفاعل معه فى نومه وأحلامه، فتؤرقه وتفزعه!.

ومن الواجب أن نغرس بدلا منها حكايات مؤنسة، تريح نفسه، وتبعث فيها الانشراح، ورسولنا صلى الله عليه و سلم يقول لنا: ""بشروا ولا تنفروا"".

ويقرر علماء النفس والتربية خطورة تأثير الاضطرابات النفسية على الأم الحامل!، فالأم الحامل بطبيعتها أكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية، والاضطرابات الوجدانية، فإذا كان هذا حال الطفل وهو جنين فى بطن أمه، فكيف به بعد ولاته، وقد بدأت حواسه تنمو وتتنبه؟، وقد حاولت ذات مرة أن اختبر طفلا دون العام من عمره هل يدرك بعقله أم بحواسه ومشاعره؟، فأخذت هذا الطفل، وجلست أداعبه وابتسم له، مع نظرات حلوة، فوجدته يبتسم فى بهجة وسرور، ثم فى الحال غيرت من الابتسام إلى صورة جديدة من الاكتئاب والتكشير، فإذا بالطفل يبكى! ويلوى بوجهه! ويحاول الهروب من أمامى!!!، فأيقنت أن الطفل منذ أن يخرج إلى الحياة يدرك بأحاسيسه ومشاعره مالا يدركه بعقله.

لهذا كان من الضرورى أن يعرف الدعاة: من مدرسين، ومربين؟ خطورة الفطرة المذخورة فى تكوين الأطفال، فيحذرون من الأخطاء التى تترسب فى أعماقهم."

الوسيط

التجانس والتقارب سواء فى السن أو العمل، أو الثقافة أو البيئة، مما يساعد على سرعة التقارب والتفاهم والتالف، ولا سيما بين الشباب، فقلما تجد شيخا كبيرا يتالف مع شاب لاختلاف واسع فى مقاييس الحياة.

فإذا كان الداعية قد بلغ من السن ما يحول بينه وبين معايشة الشباب معايشة تكوين وتربية وبناء، فلا مناص من أن يستخدم فيما بينه وبين أى شاب جديد رسولا أو وسيطا من شباب الدعوة المناسب، يقوم بإرشاده وتوجيهه إلى التعرف عليه، حسبما أرشدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ""تألفوا الناس وتأنوا بهم"" فإن صناعة الإنسان على النموذج الإسلامى يحتاج إلى منهج فى التأنى والتدرج، واستكشاف كنه هذا الإنسان، حتى لا يصطدم بعقبات أخلاقية أو نفسية، أو كونه مشحونا بعصبية أو أفكار جاهلية.

وعلى الأخ أن يعود إلى الأخ الداعية ليضع بين يديه كل ما يعوق سبيله، وعلى الأخ الداعية أن يرشده إلى الوسائل المجربة فى علاج مثل هذه العقبات، وكذلك على الأخ المربى أن يظل مجاهدا وصابرا حتى يشرح الله له صدر من يقوم بتربيته، ويوفقه إلى سبيل المؤمنين.

وما يقطعه من زمن قد يطول أو يقصر تكون معاملته له نموذجا تربويا أخلاقيا وسلوكيا، يبعث كوامن نفسه وشعوره، ويشعل مشاعره الروحية والنفسية، التى تحيل الإنسان إلى توهج وحياة، وعمل و إنتاج، وتكون الوسائل لبلوغ الغاية من الدقة والروعة والإخلاص؟ ما يثبت الله به فؤاده، فلا تمضى الأيام والشهور، بل والسنون، حتى يكون قد انتقل من حال إلى أحسن حال."

ولقد كرمنا بنى آدم

كل إنسان خلقه الله تعالى، يجب أن يعامل باحترام، وهكذا خلقه الله تعالى (و لقد كرمنا بني آدم) الإسراء: 70، والله تعالى قسم الأرزاق بين عباده؟ ليس تعظيما لشأنهم، ولا تقليلا من قدرهم (و لكن ليبلو بعضكم ببعض) محمد: 4، فهذا وزير، وهذا غفير!، وكل ميسرلما خلق له.

فالطبقة الفقيرة تشعر فى نفسها بأنها دون الاحترام، ودون التقدير، لهذا فهى تعيش فى عزلة اجتماعية، وذلة نفسية، وانكسار، وهكذا يعاملها المجتمع.

كنت فى جلسة، وسألنى أحد الإخوة: أنه يرغب- فى صدق وشوق- أن يعمل فى مجال الدعوة الفردية، ولكنه ليس لديه الخبرة، ولا يملك الوسائل التى تعينه على ذلك.

فسألته عن الوظيفة التى يباشرها، فقال: إنه موظف حكومى، فى مكتب يقوم بتوزيع السماد، تابع لوزارة الزراعة.

فقلت له: إنها وظيفة فعالة، حيث يحتاج إليك كثير من الفلاحين، فكيف تقابل من يأتيك؟

قال: يقف أمامى، واستلم منه المستند، ثم أسلمه حصته، ثم ينصرف.

قلت: إذا أردت أن تكون داعية، فعليك أن تستقبله بشوق للقائه، وأن تقدم له الخدمة بإخلاص، وتتعرف عليه، وتشد على يديه، وتودعه بكلمات طيبة، افعل ذلك مع كل من يأتيك، فإذا لقيته فى الشارع بعد ذلك، فلابد من أن تبدأه بالسلام، وتصافحه، وتسأله عن أحواله، وهكذا.. مع كل من عرفت منهم، واحرص على أن تزورنى بعد ذلك، حتى أطمئن على مجهودك فى هذا الأمر.

وجاءنى بعد عدة شهور وهو يقول فى بهجة وسرور: لقد وفقنى الله تعالى، فحينما نزلت إلى الشارع، وجدت الناس تقوم لى احتراما، ويدعوننى أن أزورهم، والجميع يرحبون بى، ويطلبون منى أن أجلس معهم.

قلت له: هذا هو أول الطريق... فاستقم."

الكناس والزبال

سألنى أحد الإخوة عن وسائل ناجحة لجذب القلوب.

فقلت له: نحن نؤمن بأن الناس سواسية، ويتحقق ذلك فعلا بين المسلمين حين تواجدهم فى المساجد، فترى الفقير يجلى إلى جوار الغنى، والضعيف يجلس بجوار القوى، والكناس والزبال ككل الناس فى المسجد، ولكننا- للاسف- لا نطبق هذا خارج المسجد!!، فهل أنت حين تمرفى الشارع على أحد عمال النظافة تلقى عليه السلام؟.

قلت: ذلك لأنك لا تأبه به! وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نفعل ذلك: ""لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق"" إنك إذا فعلت ذلك، وألقيت عليه السلام، سواء كنت تعرفه أولا تعرفه، فإنك بذلك تحترم ذاته، وتعطيه الأمل فى الحياة، لأنه يشعر بأنه صنف من الناس غريب عن المجتمع!!!، فلا أحد يعطيه وجهه، ولا أحد يحترمه، أو يحدثه بكلمة طيبة!، ولو أنك ألقيت عليه السلام يوما، فإنه سيترقب مرورك فى الشارع، لتلقى عليه السلام، لفرط ما ينشده من الناس.

وفى الواقع؟ أن هذا الذى يقوم بعملية النظافة، وكذلك الزبال الذى يجمعها من المنازل ومن الشوارع؟ يستحق الاحترام، لأنه يكفيلث أنت هذه المهمة الصعبة القذرة!!!، فكان من الواجب أن تعطيه الدولة أجرا مضاعفا، أو تعطيه "" بدل عدوى "" لأنه فى الحقيقة يتعرض لكثير من الأمراض، بحكم ملازمته ومباشرته لهذه المخلفات، وهذه القاذورات.

إذا فهمنا غاية الدعوة.. أنها دعوة إصلاحية، لإيجاد المجتمع المسلم، فلا يغيب عن أذهاننا وفهمنا أن نتدارك هذه الحقيقة، التى تجمع القلوب، وتهذب الأخلاق.

ذات مرة كنت فى مسجد فى كرموز بالإسكندرية.، وتحدثت مع الإخوة فى هذا الشأن، وحين أنهيت كلمتى تقدم منى شاب، وقال لى: إنه فرح جدا بهذا الحديث!!! لأنه من عمال النظافة!، ويعمل كناس، فقلت له: أليس الكناس كالناس!!

وكانت المفاجأة طيبة..."

الباب الثالث- ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة

الجدل والمراء

لما كانت وسائل دعوة الناس إلى الله كثيرة متنوعة، وكان أكثرها مخاطبة: العقول والوجدان، بالحديث والكتابة، وكثيرا ما يجر الحديث إلى المناقشة والجدل، وليس كل داعية على مستوى الاستيعاب والإحاطة بالتفاسير والتفاصيل، مما يزيد الجدل سخونة، وكل يريد أن ينتصر لرأيه، وفى مثل هذه الظروف لابد من غالب ومغلوب.. (و فوق كل ذي علم عليم) يوسف: 76، والحق الواضح الجلى يكون بالآيات البينات، والواقع الحى من سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم، ثم الواقع الحى الذى لا يمارى فيه أى عاقل بصير.

والأصل فى البلاغ هو النهى عن الجدل الذى لا يأتى بخير، والقرآن الكريم يشير إلى هذا (و لقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل و كان الانسان أكثر شيء جدلا) الكهف:154، (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) هود: 32، (إنك لا تسمع الموتى و لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) النمل:80. 81، فالجدل مع هؤلاء وأمثالهم عقيم، يصل بهم إلى طريق مسدود، فالله تعالى أوجب على سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأوجب على المؤمنين أن يجادلوا غيرهم بالتى هى أحسن، فذلك يتلاءم مع روح الدعوة وقدسيتها، وهو حق مقرر بما يحمله المسلم من تبعة نحو معتقداته (ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين) النحل: 125

وبعض الشباب يستهويه الجدل والمراء، والاستطراد فى المناقشة المملة دون هوادة، رغبة فى الظهور والغلبة، أو لأمر يعلمه الله تعالى، وفى مثل هذه الحالات ينبغى للاخ الداعية أن يختصر الحديث بعد أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، فإن الجدل والمراء بلا اتفاق ونهاية يشحن النفوس بالبغضاء، ويخيم عليها غيوما وضبابا يفسد مودة القلوب، لأنه استنزاف الجهود فيما لايفيد، ولا يعود على الدعوة بجديد، كما أن الدعوة ليست وقفا على هذه العقول، فإن فى هذه الأمة ملايين من قلوب مؤمنة سهلة ميسرة تنتظرمن يسعى إليها، ويدق على قلبها، أما الوقوف عند المجادلين بلا حدود فهو تعطيل وضياع للوقت- والوقت هو الحياة- ولسنا فى ظروف الترف الفكرى فنبذل الجهد فى مناقشات لا نخرج منها بطائل.

وكم هو جميل لو صادفك أحد على هذا المثال، وطال معه الجدال بعد أن يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود كوضوح الشمس، وهو لا يزال مصرا على المناقشة، فدعه حفاظا على أدب المجادلة بالتى هى أحسن، ولا يكن تصرفه هذا ليستفز العاقل المستبصر، وسيكون أدبك وصبرك وحلمك مما يكثر أنصارك عليه، ولسوف يبلغ ما تريد من الحق والعدل ولو بعد حين، ويأتى بعد ذلك راضيا مطمئنا.

وفى الوصايا العشر للإمام ""حسن البنا "":

"" لا تكثر الجدل فى أي شأن من الشئون أيا كان، فإن المراء لا يأتى بخير"" ."

الدعوة الفردية: محصلة الدعوة الجماعية

الدعوة الجماعية تعتمد على الخطابة والحماسة وإثارة المشاعر، والدعوة الفردية لها خصائص وأسلوب ومراحل، فهى المرحلة الثانية للشرح، والتوضيح، والتبيين بالحجة، والدليل، والبرهان، وفى النهاية هى بيت القصيد وجنى الثمار.

فإن الأخ الذى ندعوه للفهم لا يعتنق الفكرة بين يوم وليلة!، وليس فى أى حال، سواء نفسيا أو صحيا أو اجتماعيا، بل أحيانا تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن!!، وإنما تبنى وتتركز الفكرة على القراءة، والحوار، وعلى مدى سنوات طوال، وأحيانا على المراجعة، حين تتدخل عوامل، وهواجس نفسية أو ظنية، بفعل الحوادث التاريخية، وكذب وتضليل الإعلام وأصحاب الأقلام العدائية.

لهذا ينبغى أن نتأنى على الفرد، حتى تتاح له فرصة أوسع، فى جو آمن نفسيا، بعيد عن ضغوط الزملاء، الذين ربما يكون منهم من تنتابه مشاعر الكراهية أو العداء الخفى، الذى يكمن فى أعماقه، فيكون عاملا مثبطا أو معكرا لجو المناقشة، أو عنده عادة الجدل والمراء الذى لا يأتى بخير.

ولكن الدعوة مع الفرد فى جو سمح هادئ ودود تتيح فرصة للتفاهم، والرد على ما يوجهه من أسئلة أو تهم، أو شبهات، مما يكون قد قرأها، أو سمع بها، أو تدور فى نفسه، ويكن الرد عليه فى صراحة ووضوح كامل لا لبس فيه ولا غموض، بحيث لا يكون هناك مجال للجدل بعد ذلك، فتضيع الثقة، وينهار البناء، ومع الأيام يدعم هذا النقاش الفكرى: السلوك الإسلامى الرفيع، الذى نتعايش به معا فى مجموع الإخوة، بما يعمق فى نفسه تقديرا للفكرة والجماعة: من حسن المعشر، وحسن السمت، والحكمة فى التعامل، والتصرف اللائق، والحدب والحب، والعون فى قضاء حاجات الإخوان، والسؤال عن غائبهم، والتكافل فيما بينهم، وحب الخير للناس كافة.

إن معايشة الأخ فى الدعوة الفردية لها أهميتها الكبرى فى توثيق الروابط بينهما، والتقاء قلبيهما، والتعاطف والحب الذى يوثق هذه الرابطة، ويقوى أواصر العقيدة، مع الحرص على تهيئة المناخ للاندماج فى محيط الجماعة، وحين ذاك تستقبله القلوب بالحب والترحاب."

قصة خارقة فى الإخلاص والتجرد

من كتاب (الوسائل النفسية فى سياسة الدعاة ).

"" انتهت حركة الارتداد، قضى عليها أبو بكر، وعلى خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينشر رسالة الإسلام فى العالمين، فليبعث إذن المسلمين إلى العراق والشام.

وأخذ يعد الجيشين، وأخذ يفكر فيمن يختاره أميرا على جيش الشام، فلم ير خيرا من ""خالد بن سعيد""، إن أبا بكر ليدرك أن الرجل ما تخلف عن بيعته إلا لحبه لآل بيت النبوة والرسالة، فعقد له اللواء وجاءوا باللواء إلى بيته.

ولكن وزيره ""عمر"" لم يكن يغفر لـ "" خالد "" موقفه فى بيعة أبى بكر، الذى كان يخشى منه تفريق كلمة المسلمين!.

فذهب إلى "" أبى بكر"" وقال له: تولى ""خالدا"" وهو القائل ما قال، فلم يزل ""عمر"" به حتى أرسل "" أبو بكر"" ""أبا أروى الدوسى"" فقال لـ"" خالد "": إن خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: اردد علينا لواءنا، فأخرجه "" خالد "" ودفعه إليه وقال: والله ما سرتنا ولايتكم، ولا ساءنا عزلكم، و إن المليم لغيرك!.

وبعد ساعات جاء إليه ""أبو بكر"" يعتذر، ويرجوه ألا يذكر ""عمر"" بحرف.

ومازال "" خالد "" يترحم على ""عمر"" حتى مات!.

كانوا جميعا طلاب حق وهدى، و لما عزل ""أبو بكر"" ""خالدا"" ولى ""يزيد بن أبى سفيان"" جنده، ودفع إليه لواءه، كما ولى على جيش آخر ""شرحبيل بن حسنة"" و ""عمرو بن العاص"" وبعث ""أبو بكر"" إلى "" خالد "" يخبره: أى الأمراء أحب إليك؟ لكى يسير "" خالد "" تحت لوائه، فأجابه ""خالد"": ابن عمى أى ((عمرو بن العاص)) أحب إلى فى قرابته، وهذا، أى "" شرحبيل "" أحب إلى فى دينى، فإن هذا أخى فى دينى على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وناصرى على ابن عمى.

فتأثر ""أبو بكر"" تأثرا شديدا، فأوصى "" شرحبيل بن حسنة "" بقوله: انظر"" خالد بن سعيد "" فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق لو خرج واليا عليك، وقد عرفت مكانه من الإسلام، وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم توفى وهو له وال، وقد كنت وليته، ثم رأيت عزله، وعسى أن يكون ذلك خيرا فى دينه، ما أغبط أحدا بالإمارة، وقد خبرته فى أمراء الأجناد، فاختارك على ابن عمه، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأى التقى الصالح فليكن أول من تبدأ به "" أبا عبيدة بن الجراح "" و "" معاذ بن جبل "" وليكن ""خالد بن سعيد"" ثالثا، فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا، اياك واستبعاد الرأى عنهم، أو تطوى عنهم بعض الخبر.

وهكذا سار "" خالد بن سعيد "" فى جيش المسلمين جنديا بسيطا، وفى ""مرج الأصفر"" صفت الروم صفوفها، ثم تقابلوا مع المسلمين، واستمر القتال، و "" خالد بن سعيد "" يقاتل يمينا وشمالا حتى قتل شهيدا."

مشكلة الشباب

بعض الشباب يشكون من أن والديهم أو أحدهم يصدونهم عن الصلاة فى المسجد، أو حضور الندوات والمحاضرات، أو مسايرة بعض الشباب المتدين؟ ويحدث من هذا الجدال خصومة ومقاطعة أو ""عكننة""!.

والواقع أن هذا الذى يحدث من الوالدين يعود إلى قصور منهما فى فهم الدعوة على حقيقتها، والخوف من أن ينزلق الأبناء فى أخطاء تؤدى بهم إلى مشاكل ومتاعب قد تصل إلى ما يسمعونه، ويقرأونه، من معتقلات وسجون وخلافه!.

ثم إذا طلب من الشباب أن يشترى للمنزل بعض الحاجيات من أطعمة، أو قضاء مصلحة، أو ذهاب مع أخته إلى الطبب "" مثلا ""، أو المذاكرة والمدارسة، فإنه لا يستجيب!!، فى الوقت الذى يجدانه يسير مع إخوانه، ويحرص على لقائهم، والذهاب معهم فى رحلات وزيارات، ويقطع وقته فيمما لا يفيد- فى عرفهم-، فذلك أمر يستنكرانه!!.

إن الوالدين لم يفهما حقيقة الدعوة، ولا مراميها، ولا منهاجها فى التربية!.

وهما فى هذه الحالة معذوران بما يفعلان ""ومن يجهل شيئا يعاديه"" وشعورهم بالخوف والحذر: فطرة لا تنكر.

فما هو العلاج؟

إذا تميز الابن بطاعة الوالدين، وحسن الخلق، وكان تصرفه على مستوى أخلاقى رفيع، ثم كان متقدما متميزا فى دراسته، حسن المعاملة مع أشقائه، ولم يكن ليتأخر عن موعده ليلا، حتى لا يشغلهم عليه- بعد كل هذا- فإن الوالدة سوف تكون رسول سلام بينه وبين والده فى السماح له بتحقيق ما يطمع فيه، مما سبق حرمانه منه، وهذا هو سبيل بلوغ الغاية، والوصول إلى القلوب."

الحب فى الله طريق إلى القلوب

الحب فى الله سبيل إلى القلوب، ولكن أحيانا تحدث تصرفات تكون سببا فى تعويق هذا الحب .

فالاندفاع إلى إظهار عواطف الحب فى غير تدرج أو روية، وفى غير تلاؤم وتواؤم، وفى غير مناسبة أو محاسبة.. يأتى بنتائج عكسية .

فليس الحب فى الله، والمؤاخاة فى الله، وسيلة لاستمتاع عاطفى، أو إضاعة الوقت فى المناجاة، وفى غير فائدة أو جدوى، و اذابة صلابة المؤمنين فى تهوين أعباء الدعوة ومسؤلياتها الجسام، وإظهار طريق الجنة سهلا، يمر عليه الإنسان بجلسات، وصداقات، حفلات، ورسائل، وكثيرا ما يستمتع الإخوة بجلسات طويلة فى زيارات عند إخوانهم ممن يضيق وقتهم بالمسئوليات والواجبات، وليس لديهم فائض من الوقت ""فالوقت عندهم هو الحياة"".

وإنما الأخوة فى الله بذل العواطف، والجهد فى تعاون الإخوة فى سبيل الارتقاء معا، بالتربية والتكوين، وبذر البذور، وجذب البراعم، وتنشيط وبعث الهمم، ونشر الدعوة بالصحبة الصادقة، والعبادة العميقة، والدأب على تبليغ الدعوة بالتى هى أحسن. وليس أعظم فى بلوغ درجة الحب فى الله تعالى، من أن يكون الحب وسيلة إلى إظهار عظمة الدعوة، وبناء هيكلها، وإقامة دولة الإسلام."

الأخ (الانسيابي)

أحد الإخوة يسير مع أخ جديد، لا يعرفه أحد من إخوانه، فإذا لقيه أحدهم تراه يصافحه مصافحة حارة، ويصافح صديقه هذا مصافحة باردة! يلاحظها ذلك الصديق، فيتألم فى نفسه من هذه المفارقة!.

فالواجب على الأخ أن لا يفرق فى أسلوب المصافحة، إلا إذا لم يكن له هدف كداعية، لجذب الجديد من الناس.

وعلى الأخ الداعية، أن يفهم أنها فرصة مواتية ليتعرف على هذا الجديد، فيكون سلامه، وتحيته له، وسيلة دعوية؟ ومن ثم يحيط الإخوة بهذا الأخ الجديد، فيدعونه إلى الندوات والمحاضرات والرحلات، ويقدمون له كل المساعدات والهدايا فى المناسبات الطيبة، ويتواصى به كل الإخوة، بعواطف صادقة، ومشاعر حية.. فيتأثر بهم، ويجد فى رحابهم كل معانى الحب، ودفء الحياة.

و اذا قام كل أخ بهذا الواجب الإسلامى، بروح الأخوة الصادقة، وتواصوا به كوسيلة إسلامية فى الصميم؟ فإن هذا الإنسان سوف يجد نفسه محاطا بقلوب تؤنسه وتحبه، فيتجاوب معها شعوريا، ويحس كأنه واحد منهم، حين يذوب فى مجموعهم، فلا يدرى- بعد مدة من الزمن- إلا أنه صار واحدا منهم،، هذا يكون بطريقة انسيابية؟ لا يدرى كيف حدثت!."

موقف

قالت ""السيدة عائشة "" رضى الله عنها:

دخل "" أبو بكر"" على رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهو مضطجع وعليه ثوب، فقضى حاجته وخرج، ودخل ""عمر"" فقضى حاجته وخرج، ثم جاء ""على"" فقضى حاجته وخرج، ثم جاء ""عثمان "" فجلس له رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقالت له عائشة: لم تصنع هذا بأحد!، فقال: إن ""عثمان"" رجل حيى، وإنى أخشى إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلى فى حاجته.

وقريب من هذا الخبرما جاء فى بعض الأحاديث:

فقد أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم للناس، فكان آخر من دخل عليه "" أبو سفيان بن حرب ""، فقال: يارسول الله.. لقد أذنت للناس قبلى، حتى ظننت أن حجارة الخندق ليؤذن لها قبلى!، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ""كل الصيد فى بطن الفرا"".

أى: لك وحدك مثل ما لهم كلهم.

""كل الصيد فى بطن الفرا"" لم يقصد إلى الدلالة على مكانته وحدها، وإنما خرج بهذا الكلام من مقام حرج!، فإن قول "" أبى سفيان "": حتى طننت أن حجارة الخندق ليؤذن لها قبلى، ليصور أوضح تصوير ثورة أعصابه، وهيجان نفسه، وشدة غضبه، ومن يدرى ما كان يجر إليه هذا الكلام، لو لم يسرع إلى التخفيف من هذه الثورة والغضب!

إن "" محمدا "" صلى الله عليه و سلم قد رأى فى وجه "" أبى سفيان "" هذا كله، فتلافى الأمر بمحاسن كلمته، ولطائف فطنته، فإن قوله عليه السلام : "" كل الصيد فى بطن الفرا"" قلب "" أبا سفيان "" من حال إلى حال فى أقل من رد النفس، فقد قلبه من الغضب إلى الرضا، ومن الثورة إلى الهدوء!، ومهما يقل الرسول صلى الله عليه و سلم "" لأبى سفيان "" هذا الكلام.. فقد كان "" أبو سفيان "" مستعدا لقبوله!!.

وأسلوب مثل هذا الأسلوب فى معاملة الناس المتميزين.. ليس بالأمر الهين، فليس الأمر باليسير، أن يدخل عليك رجل يستشيط غيظا، ويتلظى غضبا، وترى هذا كله فى وجهه، ثم تخرجه فى أقل من لمحة من حاله إلى حال أخرى!.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عالما بنفوس جماعته وصحابته، واقفا على دقائق أخلاقهم، محيطا بغوامض أمزجتهم، يعلم ما يغضب له فلان من الصحابة، وما يرضى فلانا، ويعرف ما يستثير فلانا، وما يهدأ به فلان، فعامل كل واحد منهم المعاملة المناسبة له، اللائقة به، حتى أشربت القلوب محبته، وانطوت على طاعته، فلم ينفض أحد من حوله، وهذا منتهى الحذق فى سياسة الناس (و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران: 159"

الوافدون الى المساجد

الإخوة الذين يتمركزون فى المساجد، لا يهتمون بالمصلين الذين يفدون لأداء الصلاة، ظنا منهم أن مثل هذا التصرف يخالف عادة تعود عليها غيرهم!! فهم لا يستقبلون الوافدين! ولا يسلمون عليهم! ولا يرحبون بهم!.

وقد يكون عدم السلام طبيعة أهل القرى، حيث إن الناس هناك متعارفون لقلتهم، أما فى المدن الكبيرة فإن عدد المصلين كبير جدا، وبهذا يهمل الشباب المسلم انتهاز هذه الفرصة للتعارف الذى لا حرج فيه، وخاصة فى المساجد، فقد تعلمنا أن نسلم، ونتعرف على من نعرف ومن لا نعرف.

و واجب إمام المسجد، أو القائمين على شئونه، وخاصة أصحاب الدعوة الإسلامية، أن يحرصوا على التعارف، وجذب القلوب، وهى فى المساجد سنة، فصلاة الجماعة فى المسجد تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، من أجل أن يتم التعارف بين المسلمين. فبعض الشباب حين يمن الله عليه ويذهب إلى المسجد لأول مرة، فإنه ينتابه شعور من الرهبة، تزداد أحيانا حين يقابله بعض المصلين بوجوم وتجاهل!!، بينما الواجب أن يستقبله المصلون بشعور من السرور والبهجة والإيناس، حتى ينساب بينهم راضيا مرضيا، فيذوب فى القلوب.

وفيما سبق من السنين، كان خدم المساجد يطردون الأطفال حين يدخلون المساجد، ظنا منهم أن الأطفال يشوشون على المصلين حينما يصلون، إذ يلهو بعض الأطفال ويرفعون أصواتهم. وهؤلاء الذين يطردون الأطفال غافلون عن أن المسجد هو المحضن الوحيد الذى ينشئ أعظم الأجيال على العقيدة الصادقة، والعبادة الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والرجولة والشجاعة.

فالواجب حسن استقبالهم ورعايتهم، فلعل الله تعالى يجعل منهم ذخرا للإسلام، و (لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم). حدثنى أحد الإخوة: أنه وهو فى المدرسة الابتدائية كان يظن أن من يدخل المسجد يشترى تذكرة!!."

حكمة بالغة

فى أحد الأحياء، بنى أحد رجال الأحزاب مسجدا عرف باسمه!.

وانتهز شباب الدعوة هذه الفرصة، وتكاثروا للصلاة فيه، بل وتقدم بعضهم لإعطاء بعض الدروس فيه.

ولم تمض أيام حتى تحرش بهم صاحب المسجد!، وحرض عليهم المصلين بدعوى أنهم شباب متطرف!!، وبهذا طردوا من المسجد!، ولم يعودوا يستطيعون الصلاة فيه ظلما وبغير حق!!.

وكان من الأفضل لهذا الشباب أن يتحسسى جمهور هذا المسجد واتجاهاته الفكرية؟ قبل أن يصطدم به، ويعوق الطريق إلى قلوب المسلمين.

فالأصل فى مثل هذه المشكلة؟ أن يتواصى قلة من الشباب بالذهاب للصلاة فقط فى هذا المسجد لمدة أسابيع، ومن ثم ينتحون بعد صلاة المغرب- مثلا- ركنا من المسجد يتلون كتاب الله تعالى، فردا فردا، مع التجويد، حتى يؤذن للعشاء، ثم يستمرون على هذا الحال مدة شهر أو أكثر، وفى هذه الحالة فإن بعضا من رواد هذا المسجد سوف يميلون إليهم، ثم ينضمون إلى هذه الحلقة، يشاركون فى التلاوة، وتستمر هذه الحلقة لمدة شهور، لا يتجاوزن التلاوة فقط، وبعد مدة يمكن أن يقترح أحدهم أن يأتى بكتاب تفسير مبسط، وسيرحب المشاركون فى الحلقة بهذا الاقتراح، ويكون قد كبر عددهم أضعاف ما كان أول الأمر، وفى هذه الفترة من الزمن؟ يكون قد حدث تعارف بينهم وتالف، وربما دعوات للزيارة فى مناسبات الحياة التى لا تنقطع؟ وبعد شهور عدة، ربما تكون سنة أو أكثر.. حينئذ سوف يتعرفون على أخلاقهم ودعوتهم، ويطمئنون إلى سلوكهم الإسلامى، فقد يغيب الإمام يوما عن حضور صلاة الجمعة، فيدعونهم للإمامة والخطابة ويكون السبيل- بذلك- قد مهد أمامهم بالحكمة والكياسة، والصبر الجميل."

عظمة الداعية

زارنى فى المكتب أربعة من الإخوة، وكانت فرصة- كما تعودنا - أن نسأل السؤال الذى درجنا عليه فى حالة التعارف، وكان الأربعة على رأسهم الأخ الشيخ "" عبد الدايم ضيف "" وهو من سكان عزبة البر القبلى بالإسكندرية.

فسألته: كيف تعرفت على جماعة الإخوان المسلمين يا شيخ عبد الدايم؟.

قال: كنت أعيش فى مدينة طنطا، وكنت أنتمى إلى الطريقة الأحمدية، نسبة إلى الشيخ ""السيد البدوى"" صاحب المقام الكبير فى مدينة طنطا، وهى طريقة صوفية ذائعة الصيت، وكان ذلك عام 1940.

وأضاف: ذات يوم حدثنى أحد الزملاء فى الطريقة الأحمدية، وقال: إنه قد جاء إلى طنطا رجل اسمه الشيخ ""حسن البنا"" يقوم بإعطاء دروس ومواعظ للناس فى المساجد، ويتهم الطرق الصوفية بأنها تقوم بطقوس وأعمال منافية لروح الإسلام، مما استفزنى أنا واخوانى فى الطريقة..!، وعزمنا على التصدى له حين يجئ إلى طنطا مرة أخرى، وترقبنا ذلك اليوم بلهفة واهتمام..، وفعلا، ذات يوم أعلنت جمعية الإخوان فى طنطا عن إقامة حفل فى ميدان الساعة، وسيخطب فيه الشيخ ""حسن البنا""، فعقدنا العزم على حضور هذا الاحتفال، وارتدينا الملابس الخاصة بالطريقة الأحمدية، وذهبنا مبكرين، وجلسنا فى الصف الأول فى انتظار حضور الشيخ .. وعند قدومه تعالت الهتافات: الله أكبر ولله الحمد، ووجدنا الشيخ ""البنا"" قادما، ولما اقترب منا لم يكن فى عزمنا أن نستقبله.. أو نقف له، ولكنه أقبل علينا: باشا، مبتسما، وسلم علينا بشوق وحرارة! ثم جلس إلى جوارنا مرحبا بنا..! وبقينا جالسين فى صمت ووجوم، رغم ما أبداه نحونا من مشاعر و إيناس.

ولما حان وقت إلقاء حديثه، توجه إلى المنصة، تحيط به مشاعر إخوانه بالهتافات الإسلامية.

فوقف على المنصة بروح مشرقة، ووجه وضاء، وتحدث إلينا حديثا جذابا منعشا، وبعد أن جال وأفاض فى معانى الدعوة الإسلامية، التى أنعشت الآمال، وأحيت موات القلوب.

وفى حديثه العذب، قال:

أيها الإخوان الكرام.. كثير من الناس يظن أن الطرق الصوفية فى مصر، قامت وتأسست بصورة عشوائية، وأنها ليس لها مبادئ، ولا أهداف، ولا غايات عظيمة للنهوض بالمسلمين لتحقيق مجد الإسلام، وبناء دولته التى تحكم بالقرآن، ويجهل كثير من الناس.. أن الطرق الصوفية لها تاريخ أصيل فى كل العالم الإسلامى العربى وغير العربى، وأنتم ترونهم بملابسهم وأزيائهم التقليدية التى ترمز إلى كل طريقة.. يسيرون فى الشوارع، فى طوابير منظمة، تتقدمهم أعلامهم المميزة، وهذا دليل على أنها طرق منظمة، على نسق فرق الجهاد فى سبيل الله، فهم رصيد عظيم لخدمة الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها.

يقول الشيخ ""عبد الدايم"": لقد انتابنا شعور بالفرح والاعتزاز، وكأننا نسمع هذا الكلام لأول مرة فى حياتنا! فلما نزل الشيخ من على المنصة، ذهبنا إليه مسلمين، وحاولنا أن نقبل يده.. فلم يمكنا من ذلك..!، وبعد أن كنا قد حضرنا أعداء مخاصمين! غادرنا ونحن إخوان مسلمون..!!.

وأضاف: ثم شاء الله تعالى، ونقلت من طنطا إلى الإسكندرية عام 1947، وانضممت إلى شعبة "" الإخوان المسلمين "" فى محرم بك، وانتقلت نقلة واسعة فى فهم دعوة ""الإخوان المسلمين""، حتى إذا دعا داعى الجهاد فى فلسطين فى إبريل 1948، تطوعت جنديا مع متطوعى جماعة "" الإخوان المسلمين ""، ومعى الإخوة الحاضرون، وشاركنا فى المعارك الإسلامية ضد فصائل اليهود- وأخرج لنا بعض الصور الفوتوغرافية التى يحتفظ بها للذكرى، وهو يرتدى البدلة العسكرية ويقف وراء مدفع هاون وكان الإخوة: الأخ ""محمد الريس"" والأخ ""عبد المنعم سعيد"" والأخ ""الحاج عيسى شحاته"" والإخوة الثلاثة كانوا معه فى هذا اللقاء.

إن الذى يقرأ هذه القصة، يتبادر إلى ذهنه أن الإمام "" حسن البنا "" قد اصطنع هذا الموقف كى يجذب هذه القلوب نحو الدعوة... وهو ظن يجافى الحقيقة.. بل هو فهم خاطئ فى ظن وفهم من يقول به.

فـ ((حسن البنا)) داعية لكل الناس، على اختلاف طبقاتهم وفهمهم للإسلام، فإن الداعية يصدر عن فطرة مستكنة فى ضميره، وفهم شامل كامل لأهداف الدعوة التى تقول: نحن قوم نجمع ولا نفرق، نبنى ولانهدم، فأهداف "" حسن البنا "" أن يجمع شتات هذه الامة على فهم الإسلام الصحيح، (إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون) الأنبياء: 92، فهو يقترب من الناس، ويتودد إليهم، وهذا هو فهمه الصحيح كداعية، وتلك رسالته، وهذا منهجه وفطرته التى انطبع بها، وذاب فيها.

فالناس- كلهم أو جلهم- للدعوة، إلا ما ضاع منا بإهمالنا وتفريطنا، أو بسبب خلل فى مراكز اليقظة، إن اهتمام "" حسن البنا "" و اخلاصه العميق حول هؤلاء الإخوة من حال ""سلبية"" إلى ساحة الجهاد فى فلسطين!!، إن الاهتمام بالناس يجذب القلوب!، وهذه فطرة كل داعية مطبوع بالأمل: أن يفتح به القلوب على نغم حلو، أو حديث طيب، أو موقف يهز القلوب والمشاعر، ""لأن يهدى الله بك رجلا واحدا، خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت "".

إن "" حسن البنا "" حين يدخل السرادق ويجد هذا النفر من أبناء الطريقة الذين جاءوا ليستفزوه! يتهلل وجهه، وينشرح صدره، حيث يريدهم هو، وهى فرصة لا تعوض، ففى عقيدته (و ترجون من الله ما لا يرجون) النساء: 104، وهكذا تكون رسالة الداعية أوسع وأعظم وأجل من حدود الأنانية، أو الذاتية، أو القومية (إنما المؤمنون أخوة)الحجرات: 10."

حكمة رسول الله صلى الله عليه و سلم

حدث أن كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم إبل ترعى بناحية الغابة؟ وهى من مراعى المدينة الممتازة، فأغار على إبل رسول الله رجل من غطفان، وهو سيد فى قومه، هذا الرجل هو ""عيين بن حسن الفزارى"" فقتل راعى الإبل، وساق عشرين ناقة من نياق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، واختطف امرأة كانت هناك، وذهبوا بالإبل والمرأة إلى ديارهم، وسمع بهم ""سلمة بن الأكوع"" من صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم، وكان عداء، فصعد الجبل الذى يشرف على المدينة، وأخذ يستصرخ القوم ويسألهم الغوث فأخذوا فى العدو وراء القوم حتى لحقوا بهم، فأنقذوا عشرة من الإبل، ثم احتالت المرأة فنجت بنفسها على ناقة من نياق من رسول الله فى اليوم التالى.

فلما قدمت المرأة المدينة، ودخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يتحدث إلى اصحابه قالت: يارسول الله.. إنى قد نذرت لله أن أنحر الناقة إن أنجانى الله. فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لها: ""بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك أن تنحريها!، إنه لا نذر لأحد فى معصية الله، ولا لأحد فيما لا يملك إنما هى ناقة من إبلى"".

لقد نطق رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحكمة والقول الفصل الذى لايسمو عليه قول قائل."

العلماء و الأمراء

إذا أصلح الأمراء والعلماء حالهم انصلح حال الأمة، وإذا فسدوا فسدت الأمة، وإن كان فيها الاف الصالحين، لماذا؟، لأنهم هم القدوة، إذا كانت صالحة تسابق الناس لتقليدها، والتمثل والتأسى بها، وإذا كانت فاسدة فجر الناس دون أن يردعهم رادع.

والعلماء هم أهل "" القول "" أما الأمراء فهم أهل "" الفعل "" ومن المهم كثيرا أن يكون قول العالم مثل فعله، وإلا أصبح عالم سوء، وعلماء السوء يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا إلى الهدى، قالت أفعالهم: لاتسمعوا منهم، فهم فى ظاهر الأمر: أدلاء، وفى الحقيقة: قطاع طرق!

وتخيل أنت أى مأساة تكمن فى أن تعطى مصير القافلة لدليل هو فى حقيقته قاطع طريق!

جاء العبيد فى عهد "" الحسن البصرى "" يزورونه، ويشكون له أن رق العبودية قد آذاهم، وسألوه أن يعظ الأغنياء ويحثهم على عتق عبيدهم، لعلهم يحصلون على الحرية.

وعدهم "" الحسن البصرى "" خيرا.

وفى الجمعة الأولى بعد وعده، لم يخطب "" الحسن البصرى "" فى هذا الموضوع، ومرت الجمعة الثانية والثالثة دون أن يشير إلى الموضوع الذى وعدهم بأن يتكلم فيه، وفى الجمعة الرابعة قام "" الحسن البصرى "" وخطب خطبة عن ثواب من يعتق عبده، ولم يأت مساء هذا اليوم إلا وكان معظم العبيد قد أعتقوا.

وزاروه ليشكروه على كلمته، وليعاتبوه على تأخيرها عنهم شهرا كاملا، واعتذر "" الحسن البصرى "" عن تأخيره.. فقال:

الذى أخرنى أنى لم يكن عندى عبد، ولم يكن عندى مال!، فانتظرت حتى أكرمنى الله بالمال، فاشتريت به عبدا وأعتقته، ثم قمت خطيبا، أحث الناس على العتق، فبارك الله فى كلمتى، لأن فعلى كان يصدقها.

هذه صورة لعالم من علماء الزمان القديم، نسأل الله أن يهدى علماءنا لمعرفة قدرهم وأثرهم فى الامم.

أحمد بهجت

"" الأهرام فى 18 من شوال 1410- 13/ 5/ 1990 ""

هناك عنصر أساسى لنجاح الداعية تلك هى فضيلة "" الصدق "".

ولاتنس كلمة الصحابى الجليل "" أسعد بن زرارة "" حين خرج "" مصعب بن عمير"" لمقابلة "" سعد بن عبادة ""، قال ""أسعد"" لـ ""مصعب"": "" اصدق الله فيه "" ذلك أن أهمية "" الصدق "" فى النفس عند الدعوة إلى الله تعالى مما يجمع عليه القلوب، ويكتب له القبول لما يدعو به اليه عند سامعيه، أو من يعايشونه، وهو أن يكون صادقا مع نفسه، مطبقا لما يدعو إليه، من أخلاق، وسلوك، وآداب، على نفسه أولا (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف: 2، 3."

الدعوة إلى الله رزق

فى عام 1937 وأنا طالب فى مدرسة محمد على الصناعية بالإسكندرية وفى وقت الظهيرة كنت ألقى فى مجموعة من زملائى الطلاب "" موعظة "" وكان يحضر هذا اللقاء، طالب اسمه "" محمد صبحى هلال "" رحمه الله تعالى وقد تحدثت عنه فى الجزء الأول من كتاب "" فى قافلة الإخوان المسلمين "" وكان هذا الطالب يسكن قريبا منى، ونصلى فى مسجد حجاج فى شارع الفردوس، ومع هذا لم يحاول أن يتعرف إلى إلا أنى كنت حريصا على أن أتعرف إليه.

وفى يوم افتتاح شعبة للإخوان فى محرم بك- رأيت الأخ "" محمد عبد الرازق ""، وهو أخ متيم بالدعوة، رأيته يدخل الشعبة وبصحبته الأخ الكريم "" محمد صبحى هلال ""، فسررت كثيرا ودهشت لهذه المفاجأة التى كنت أتمناها.. وعجبت كيف أننى زميله فى المدرسة نصلى معا وأقيم قريبا منه.. ومع هذا لم يكن من حظى أن أغتنم هذا الأجر.. ""لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"" فقلت فى نفسى: ""الدعوة إلى الله رزق""، فقد يحدث أن صيادا للاسماك يقف بجوار صياد آخر على نفس شاطىء النهر، فهذا يرزقه الله- وهذا يعود ولا شىء معه! ولله فى ذلك حكمة."

موقف فى مسجد عصر الإسلام بالإسكندرية

أذن للمغرب فى مسجد عصر الإسلام فى سيدى جابر بالإسكندرية، فقدمنى الإخوة كى أصلى بهم ودخلت المحراب، ثم اتجهت إلى المصلين أقول لهم سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة، فوجدت بين المصلين شيخا جليلا من رجال الأزهر الشريف، فتقدمت إليه وطلبت منه أن يؤمنا فى الصلاة، فقبل بإلحاح، وبعد الصلاة توجه إلى المصلين بكلمة طيبة، امتدح فيها موقفى، ودعا لنا دعوة صالحة، وبعد أن غادر المسجد، جلست مع إخوانى وتحدثت معهم قائلا: كيف لو أننى، بعد أن رأيت هذا الشيخ الجليل فى الصف ثم تابعت الإمامة، فإن هذا الموقف سوف يترك فى نفس الشيخ أثرا غير كريم، وربما يبنى عليه فكرة تسىء إلى دعوتنا وتربيتنا، وربما يحملها إلى غيره من العلماء، وليس هذا فى الحقيقة من أسلوبنا فى الدعوة إلى الله تعالى. فالذى حدث اليوم سوف يكون له أثر طيب يرد عنا ما يصوب إلينا من اتهامات.

وقد حدثنى فضيلة الشيخ "" نجيب المطيعى ""، العالم المحدث الذى توفاه الله فى "" المدينة المنورة "" ودفن فى "" البقيع ""، قال: إن الإمام "" حسن البنا "" جاء إلى الإسكندرية، وذهب إلى مسجد "" أوده باشا "" وهو فى شارع متفرع من "" فرنسا"" ليؤدى صلاة العصر فطلب منه المصلون أن يؤمهم فى الصلاة، فقال: وأين إمام المسجد، فقالوا: إن الإمام شاب صغير طالب بالمعهد الدينى الثانوى، فقال: ولكنه هو الإمام الراتب، وجاء هذا الطالب وتقدم للإمامة، وبعد أن انتهت الصلاة وجد المصلين يقبلون على شيخ يسلمون عليه بحرارة، فسأل عمن يكون هذا الشيخ؟ فقالوا: هذا هو الشيخ "" حسن البنا "" فقام يسلم عليه ويعتذر أن لم يكن يعرف بوجوده وكانت لهذه الواقعة أثرها العميق فى نفسه حتى إذا تخرج من الأزهر الشريف انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين واعتقل معهم وعايش محنتهم، وأصبح من دعاتهم رحمه الله رحمة واسعة، و غفر له و جمعنا و إياه في جنة الرضوان."

المدخل

المدخل الى القلوب الجديدة فيه نوع من المعاناة و الحيرة و التردد، و بعد هذه السياحة هناك الكثير من الوسائل، فهل من المقبول أو من المعقول أن تذهب الى انسان ليس لك به سابق معرفة فتقول له لو سمحت.. أنا أريد أن أتعرف اليك. لا شك ان هذا الرجل ينظر اليك في دهشة و استغراب، و ربما في سخرية.

و لكن لو حدث هذا في احدى الصلوات في مسجد ربما يكون ذلك مقبولا نوعا ما، لأن الذين يفدون الى المساجد لا يظن بهم مثلما يظن في رجل الشارع، و كذا لو تم ذلك في حفل ما، فيه تقارب و أنس و محبة، فماذا لو لم تحظ بمثل هذه الظروف؟ فكيف السبيل؟ هذا هو ما أرشدنا اليه الرسول صلى الله عليه و سلم حين قال: ""و الذي نفس محمد بيده.. لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"" صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم.

إن أول خطوة الى القلب أن تلقي عليه السلام، تلقيه على من تعرف و من لا تعرف، لأن دعوة الاسلام عامة، و انت تريد الناس، فاذا القيت عليه السلام- وهو سنة – فيجب عليه ان يرد السلام لأن رد السلام أصبح عليه فرضا كفائيا (و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) النساء:86.

و ليست العبرة ان تلقي السلام كما اعتاده الناس، بلا شعور و لا تأثير، فأحيانا تقول: السلام عليكم، فبعضهم يرد: سلام!! و هذا خطأ.. و إنما يجب أن نلقي تحية السلام بـ السلام عليكم و رحمة الله و بركاته لأن بعض الناس يقولونها عادة، و نحن نقولها عبادة، فحين نلقي السلام نستشعر أنه دعاء و يجب أن نلقيه بروح الدعاء ، و نتوجه بالسلام على الانسان في مواجهته، فرسولنا يقول: ""و أن تأتيه من قبل وجهه"" لأن الوجه هو مرآة الانسان، و تستطيع أن تلاحظ تأثير القاء السلام عليه بانطباعات وجهه، فترى ان كان قد استأنس بك أو تجهم عند لقائك، ثم يتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمرحلة الثانية حين يقول: ""تبسمك في وجه أخيك صدقة"" فهو يدعونا عليه السلام أن نبتسم في وجه من نلقى، لأن الابتسامة المشرقة لها تأثير كبير في تحريك قلبه، و انعاش فؤاده "" بسمة كضياء الشمس مشرقة تجلو عن القلب ما قد ران من نكد"" ثم نتبع الابتسامة بنظرة معبرة عميقة.

إنك قد تحس بالأسى والخجل حين يصافحك أحدهم مصافحة متجاهلة خاطفة، باردة بليدة، لاتجدى ولا تفيد! ثم هو حين ذاك ينظرإليك نظرة ميتة، بابتسامة باهتة!، أو طيف ابتسامة!، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يضع أيدينا على معالم الطريق إلى القلوب، بخطوات طبيعية فطرية، غير مصنوعة، وغير متسرعة، فيها تؤدة، وتدرج، وصبر، فإذا كان الشيطان يستعين على الشر بأسلوب التدرج والخطوات، فإنه أجدى بالداعية أن يستعين بها على الخير والإنقاذ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" حق المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، واذا عطس فحمد الله فشمته، وإذامرض فعده، وإذا مات فشيعه"" رواه مسلم.

وقد تحدثنا عن الفقرة الأولى من الحديث ""إذا لقيته فسلم عليه""، وفى حديث آخر: "" أن تبدأه بالسلام ""، ذلك لأنك أنت الذى تطلبه وتسعى إليه، فلابد إذن أن تبدأه بالسلام، فأنت إذا كنت فى حاجة إلى نوع معين من الدواء.. فلا شك أنك تبحث عنه فى كل الصيدليات حتى تجده.

فإذا ربطت تحية السلام بعد حين بينكما، وتعارفتما، وعرف كل منكما اسم أخيه، ثم حدث فاصل من الزمن فغاب عن لقائك، فغيابه ظرف مناسب، فيجب عليك أن تتفقده، أى تسأل عنه لتطمئن عليه، وهكذا تمضى الأيام، ولا صلة بينكما موصولة بلا تسرع ولا لهفة، فيغيب فترة أخرى، فإذا هو مريض ""فإذا مرض فعده "" فتذهب إليه لتعوده ومعك هدية رمزية بلا تكلف، ثم تدعو له بالمأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء، ولا تطيل.

وبما أن القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الأحداث، فإن الأحداث والظروف إذن مما يساعد على تكوين الروابط، وتدعيم العلاقات، فإذا حدثت لصاحبك مناسبات سعيدة تدعوك لزيارته فزره، فهى كذلك من الخطوات التى تدعم ما قبلها بما بعدها، وترسب فى الأعماق الأساس الأخلاقى، الذى ينمو بمحاسن الأخلاق.

هى الأخلاق تنموكالنبات إذا سقيت بماء المكرمات

وفيما أنت تعيش فى المجتمع الواسع الفسيح، لن تعدم فرصة أو مناسبة تناديك للمبادرة، فحين يصادفك من يعطس ويحمد الله، تتجه إليه بوجهك على المنوال الذى سبق شرحه، وتقول له: يرحمك الله يا أخى، فيقول لك: يرحمنا ويرحمك الله، فتقول له: جزاك الله خيرا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، وفى الحال تقول له: من أى بلد أنت يا أخى؟ فيقول لك مثلا: أنا من طنطا، فتقول له: من بلد الرجل الصالح السيد البدوى؟ وهل تعرف فلانا؟ وتذكر له من الأسماء الإسلامية المعروفة، فإذا قال إنه يعرفه، تذكر له اسمك، وترجوه أن يبلغه تحياتك، وحين تذكر له اسمك أولا يطمئن حين ذاك ويذكر لك اسمه ومن هنا يبدأ التعارف.

ومن المفيد أن نوضح للاخ الداعية أن التدرج والتؤدة وعدم التسرع الذى ننهجه فى الوصول إلى القلوب، والذى نقطع فى سبيله أياما وسنين، ليس أمرا بلا هدف ولا غاية، فإن الدعوة الإسلامية لاتخرج عن نواميس الكون فى النشأة والتكوين والتربية، فالطفل حين يولد يرضع لبنا بغير دسم، يسمى عند الفلاح "" لبن سرسوب ""، ويستمر حينا حتى تبرز أسنانه وتفطمه أمه، ئم يبدأ أكل الطعام، ثم يكبر، ثم يدخل روضة الأطفال، ويتدرج إلى ما شاء الله، وفيما هو فى هذا الطريق تتشكل شخصيته حتى يكون رجلا سويا، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يولد الطفل ويصير رجلا بين يوم وليلة!

فالوقت فى الدعوة- سواء الفردية أو غيرها- عامل أساسى للتربية والتكوين وترسيب المعانى، وتساعد على ذلك كل الظروف الطبيعية والاختيارية والجبرية."

إفشاء السلام يؤدى إلى إفشاء الحب بين الناس

عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""ليبعثن الله أقواما يوم القيامة، فى وجوههم النور، على منابر اللؤلؤ، يغبطهم الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء"".

قال: فجثا أعرابى على ركبتيه فقال: يا رسول الله حلهم (أوضح لنا صفاتهم الجميلة) لنا نعرفهم، قال: ""هم المتحابون فى الله، من قبائل شتى وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه "" رواه الطبرانى بإسناد حسن.

إن المسلم الذى يقرأ هذا الحديث، وقد سبقت له الحسنى، بدقة الحواس، ويقظة فى الوجدان، ليقف مبهورا بتلك المنح الربانية، التى وهبها الله تعالى لأناس ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الناس لمكانتهم عند الله تعالى!، إن هذه الصفات والأوصاف التى تسامت حتى ارتفعت بأصحابها؟ هيجت مشاعر وعواطف الأعرابى، حتى سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزيده معرفة بهؤلاء حتى ينجذب إليهم، ويحبهم، وليزداد بهم سعادة وقوة ومنعة، ويكون عونا لهم على الحق، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنهم المتحابون فى الله من قبائل شتى وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه. لقد يسر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق، لتتصل القلوب بالقلوب، وتتعانق الأرواح، وتنجذب الأفئدة، وتتوهج العواطف والمشاعر.

وبهذا الأسلوب النبوى الشريف، هذا الأسلوب الدعوى العبقرى الذى يجعل قلوب المؤمنين تهفو بتطلع وأشواق حارة إلى حب إخوانهم، وتمنى اللقاء بهم، وما أعظم قول الأعرابى رضوان الله عليه: "" يا رسول الله صفهم لنا لعلنا نحبهم "" فكلما وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم صفاتهم العظيمة، ومحاسن أخلاقهم الرقيقة، كلما ازدادت الأشواق إليهم ""فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف"".

إن الداعية الموفق المسدد بعون الله تعالى يشيع معانى الخير والفضائل ومحاسن الأخلاق بين الإخوان وغير الإخوان، حتى تكون مبررا وداعيا إلى الحب والتسامى والتسامح، وعلى أن يذكروا محاسن إخوانهم، وكريم سلوكهم، مما يكون مجهولا عند إخوانهم، فيكون هذا الوصف رسولا إلى قلوبهم، وأن تكون أساليب الداعية مفعمة موحية بهذه التوجهات النبوية الشريفة.

أحببته قبل أن أراه لحسن وصف عنه قد جرى

وكذا الجنة محبوبة لحسنها قبل أن تبصرا"

الدعوة محطات

الاستعجال والرغبة فى تحقيق الآمال والغايات بسرعة؟ شىء من طبيعة النفس البشرية (خلق الانسان من عجل) الانبياء:37، ولكن ليس ذلك فى كل الأمور.

فهناك أمور تحتاج إلى التمهل حتى تنضج وتستوى على سوقها، وتؤتى أكلها، وهناك أمور تحتاج إلى سرعة المبادأة وسرعة المبادرة، فربما لاتعود ولا تتكرر!

وتبليغ الدعوة إلى الناس رسالة غالية، يجب أن نقدمها بمستواها الرفيع، وأسلوبها الحكيم، فالدعوة فى هذا المجتمع لاتزال مجهولة عند كثير من الناس، لفرط جهلهم بحقيقة الإسلام، وسمو منهجه، لما ران على قلوب أبنائه من غشاوة، وما عاشوا فيه من استبداد وتضليل.

لهذا يحتاج الداعية إلى صبر وفطنة، فليست الدعوة كماء يعب، ولكنها علاج يقدم بعلم وفن ومواقيت، فالزمن جزء من العلاج والتدرج فى ترسيب المعانى، وتأسيس معالم الدعوة حتى تقوى جذورها، وترسخ الأصول والمفاهيم، فإذا اقترن الفهم بالواقع الحى، والحركة المباشرة، وإعطاء المثل أو الأمثل، بالأحداث الجارية، كما يقال: التفسير بالتمثيل، يكون ذلك أعمق تأثيرا، وأشد إيمانا، وأنتج فى التربية والتكوين.

لهذا كان التلهف على صب مفهوم الدعوة بغير قانون الفطرة؟ من التدرج والتؤدة؟ مما يشوه الإنتاج الفكرى، والتطبيق التربوى. فحين يهفو قلب لأخ جديد يريد أن يجذبه إلى ساحة الدعوة، فعليه أن يتوقف قليلا قبل أن يخوض هذه الرحلة؟ ليرسم الوسيلة المناسبة الصالحة، التى تؤتى أكلها، وتصل إلى غايتها، فالاستعجال كثيرا ما يغلق أبواب القلوب، ويسد منافذ الشعور، فالعاصفة تغلق باب الحجرة بشدة وعنف، أما التريث والحكمة وطول النفس، فمما يساعد على بناء روابط يشد بعضها بعضا نحو الهدف المنشود. فالمرحلة الأولى: تعارف، وتواد، وتآلف، حتى تتكون الثقة التى هى هم الدعاة للتصديق والموالاة، ثم تمضى الأيام، وتحدث أحداث طبيعية لاتصنعها أنت، فمرة يغيب فترة تستدعى أن تسأل عنه، ومرة أخرى ينجح فى فصل دراسى؟ فعليك أن تهنئه، ومرة ثالثة يمرض، فعليك أن تزوره، وتدعو له بالمأثور، ولا تطيل، ويمكن أن تقدم له هدية رمزية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "" تهادوا تحابوا))، ومرة يسافر لمدة معقولة؟ فعليك أن ترحب بمقدمه، وأحيانا تحدث لأهله ظروف فعليك أن تكون إلى جواره، وأحيانا يذهب للعمرة؟ فعليك أن تودعه وأن تستقبله، وهكذا فإن الحياة مشحونة بالأحداث والمناسبات، وأنت تتابع ذلك باهتمام حتى لاتضيع منك مناسبة. هذه المحطات التى لايمكن أن يفلت منها إنسان فى السراء أو الضراء؟ هى محطات فطرية غير مصنوعة؟ لأن صناعة الأحداث لا تكون صادقة ولا تحقق هدفا!، وإنما هى أمور وأحوال تقع بقدر الله تعالى، تبادر فيها بأداء الواجبات الشرعية لتوثيق الروابط بلا مبالغة ولا تعمد.

إن الداعية الذى ينهج هذا السبيل الحكيم، سيكون ميدان عمله فى محيط واسع، لايتوقف على شخص واحد، حتى لايرهقه ولا يضايقه، انما هذه رسالة مفتوحة على عدد من الإخوة، يتعايش من ظروفهم، حتى إذا نضجت الثمرة، كان الحصاد، وكان التوفيق فى الله تعالى.

ومع هذا التدرج والتأنى فى الدعوة الفردية، فقد تحدث مفاجآت غيرمتوقعة ولا منتظرة فيهفو قلب على غير أمل ولا ترقب (عسى الله ان يجعل بينكم و بين الذين عاديتم منهم مودة و الله قدير و الله غفور رحيم) الممتحنة: 7،."

الباب الرابع - المظهر والاسم.. أمر هام بالنسبة للدعاة

استثمار إنسانى

فى عهد السلطان "" سليمان باشا القانونى "" سلطان تركيا؟ أعلن عن وظيفة خالية لإمام مسجد اسطنبول.

كانت الشروط التى تضمنها الإعلان هى التالية:

أولا: أن يجيد اللغة العربية واللاتينية والتركية والفارسية.

ثانيا: أن يكون دارسا للقرآن والإنجيل والتوراة.

ثالثا: أن يكون عالما فى الشريعة والفقه.

رابعا: أن يكون عالما فى الطبيعة والرياضة بحيث يستطيع تدريسها.

خامسا: أن يجيد ركوب الخيل والمبارزة بالسيف والقتال.

سادسا: أن يكون حسن المظهر.

سابعا: أن يكون جميل الصوت.

هذه هى صيغة الإعلان عن وظيفة لإمام مسجد منذ ما يقرب من 400 سنة.

وسوف نلاحظ من صيغة الإعلان أن الشروط التى وضعت-رغم صعوبتها فى نظرنا اليوم، أو استحالتها- كانت شروطا عادية وطبيعية، كان الإسلام فى قمته، ولم يكن هناك هذا الفصل بين علوم الدين وعلوم الحياة، كما لم يكن هناك هذا الفصل بين العالم والمجاهد، ويبدو من هذه الوثيقة أن إمامة المسجد كانت عملا ينظر إليه باعتبار دوره الخطير فى نشر الدعوة، ولو تصورنا أن المجتمع الإسلامى قد اختزل إلى جسد إنسانى واحد، فإن خليته الأولى التى تغذى الجسم بالحياة هى المسجد، ولقد ظل اهتمام المسلمين بالمساجد قائما طوال فترة ازدهار الحضارة الإسلامية، وكانت القوة الروحية التى يبعثها المسجد هى الطاقة المؤثرة فى حياة الناس، وهى القوة التى تشكل عقولهم ووجدانهم على امتداد الأيام.

ولو تصورنا أن الطفل المسلم يحضر صلاة الجمعة أربع مرات فى الشهر، وترسب فى وعيه منها ما يستطيع عقله أن يحتمل؟ لو تصورنا هذا.. لعلمنا أى طاقة إشعاع هائلة ينطوى عليها المسجد!!.

إن فترة الطفولة والشباب- كما يحدثنا علماء النفس- هى الفترة التى تتكون فيها المعتقدات الأولى، والأفكار الأساسية، التى يصعب بعد ذلك محوها، أو تحويلها، أو التأثير عليها.

إن الاهتمام بهؤلاء الأئمة "" والدعاة "" ورفع مستواهم المادى والمعنوى، وتمكينهم من أداء دورهم الحيوى؟ هو فى النهاية استثمار إنسانى أهم من أى استثمار مادى.

أحمد بهجت

الأهرام في 22-9-1986م"

الترابط والثقة

دأب الإمام "" حسن البنا "" حين كان يزورنا بالإسكندرية، أن يكون فى صحبته بعض من الإخوة، وكنا نسعد ونفرح كثيرا بلقائهم، ونحس إحساسا صادقا بالسعادة حين نلقاهم، ونعيشى معهم بعض الوقت، فى تقارب وحب.

وحينما كان يغادر الإسكندرية يصحبه بعض من الإخوة من الإسكندرية.

وبهذا استطاع "" حسن البنا "" رحمه الله، أن يربط أواصر الحب والأخوة الصادقة بين أطراف البلاد، والأسر فى أنحاء مصر، بعدما كان هذا النوع من الأخوة باردا، أو مفقودا، واستطاع بهذه الروابط الأخوية الإسلامية، تطعيم الأفكار، وازدهار العواطف، وبناء الثقة والترابط بين أبناء شعب مصر.

وكثيرا ما نتج عن هذا التعارف: التعاون فى التجارة، بل والمصاهرة كذلك."

مظهر الداعية

إن على الدعاة أن يظهروا فى صورة محببة، جذابة، مشرقة، فإن الله جميل يحب الجمال، وإن روعة المظهر له تأثير كبير فى نفوس الناس، وإقبالهم على الداعية، والالتفاف حوله.

لقد كان كبار الدعاة عندما يجلسون للناس؟ يرتدون أفخم ثيا بهم، ويتطيبون، ويتجملون.

على رأس هؤلاء: عبد الله بن عباس، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعى.

وعلى الدعاة أن يتجنبوا التنطع فى الدين، والتشدد فيه!! وأن يأخذوا الجماهير باللين والرفق، فإن الغلو فى الدين مما ينفر الناس منه، ويبعدهم عن سبيله، قال عليه السلام: ""هلك المتنطعون"" ثلاثا، ذلك أن هذا الدين متين، ""فأوغل فيه برفق""، ولقد شكا بعض الناس ""معاذ بن جبل "" أنه يطيل عليهم الصلاة، فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم :""أفتان أنت يامعاذ؟! صل بالناس صلاة أضعفهم، فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة "".

وعلى الدعاة أن يربطوا الحياة بالدين، ولايقيموا بينهما حاجزا. ذهبت لصلاة الجمعة فى مسجد الإخوان فى عمان بالأردن مع مجموعة من الشباب، فصعد المنبر طبيب شاب وسيم، يرتدى بالطو مكويا أبيض تحته بنطلون مكوى أيضا، كانت خطبته قيمة رائعة، وبعد الخطبة سألت الشباب عن ملاحظاتهم عن الخطبة والخطيب، فكانت الإجابة تدور حول بعض الأخطاء النحوية أو بعض الأخطاء فى الآيات القرآنية، ولم يشيروا بكلمة عن صورة الداعية ومظهره ونظافته، فأدركت أن الحواس والأذواق فى حاجة إلى تنمية وتنشيط، وأن المفهوم العام للداعية محصور فى الخطب والأحاديث دون بروز الجانب الاجتماعى فى رسالته الشاملة."

الأسماء الجميلة

حين يذكر لك اسم من الأسماء التى تطلق على الإنسان، فإن خاطرة سريعة تتجسم لك عن صورة هذا الإنسان، فإن كان الإسم جميلا فإن صورته تبدو لك فى شكل إنسان جميل، محبب إلى النفس، وكثيرا ما يتحقق ذلك بالفعل، ويكون لهذا الاسم أثر إيجابى مع نفسك وقلبك.

أما الأسماء الشاذة النادرة فإنها تترك أثرا سلبيا، وفى الوقت نفسه تنعكس على صاحبها!، حتى إنه كثيرا ما يحاول أن يغفلها عند التعارف، ذلك أن الأسماء الشاذة كثيرا ما يكون لها تأثير على نفسية صاحبها، وتصرفات الإنسان يكتسبها من دلالات اسمه، فالأسماء الغريبة التى تسميها بعض الأسرلابنائها فى الصغر درءا للحسد: فتسمى الطفل الذكر باسم أنثى!! أو باسم "" خيشة ""، أو ما ما شابه ذلك بم لاشك أنها تحدث فى أعماق الصغير عقدا نفسية خفية، بسبب سخرية واستهزاء الآخرين منه.

فالأسماء القبيحة التى تشمئز منها الأذواق، تجرح إحساس صاحب الاسم!، فتراه ينكمش وينزوى عن مجالسة الناس!، فإذا تعمد إنسان منا أن يستفزه باسمه، فربما يحدث منه ما يجعله يرد اعتباره بما يخرجه عن العقل بانفعال مفاجئ، قد يصل أحيانا إلى جزعه واستفزازه لما لاتحمد عقباه، والحوادث من هذا النوع كثيرة. وقد يحدث كثيرحين يسأل شخص ما عن اسمه أن لايذكر منه إلاما يستحسنه هو، ويخفى الباقى!، وفى مثل هذا الموقف لاينبغى الإلحاح عليه! احترازا وتأدبا، وقارئ صفحة الوفيات فى أى صحيفة سوف يقرأ أسماء مثيرة للانتباه، لا تجد عند أصحابها غرابة!، حيث إنهم يصرون عليها لما لها من دلالة تاريخية ممتدة من القدم.

فيجب الاحتراز فى التسمية عندما يولد المولود، فإن الناس يحلو لهم استعمال الأسماء الشاذة، أو أسماء "" الدلع "" التى تسبق وتغطى على الأسماء الحقيقية، ويكون من الصعب بعد ذلك إظهارها! فاختيار الاسم الحسن ضرورة نفسية، واجتماعية، وسياج يحمى الطفل من شذوذ التعامل مع أقرانه، وشكل النظرة والتعامل معه. وفى الأحاديث النبوية الشريفة أكثر من توجيه للآباء والأمهات تحثهم على اختيار أسماء محببة لأبنائهم، فقد دخل رجل اسمه "" صعب "" على رسول الله صلى الله عليه و سلم فنصحه أن يسمى نفسه "" سهل "" لأنه اسم يبشر و لا ينفر.

وهناك مجتمعات قد فطنت لهذا الأمر، وأدركت خطورة الأسماء على المسمى، وعلى المجتمع نفسه، وعلى مستقبل الأسرة. وكثيرا ما تدل الأسماء على جنسية صاحبها وموطنه، فكل جنسية لها أسماء مشهورة مميزة، مجرد ذكرها تعرفه بها، كما أن صورة وشكل الإنسان يوحى إن كان مصريا، أو سودانيا، أو سعوديا، أو يمنيا، أو من أندونيسيا، أو ماليزيا، أو من أوروبا، وهكذا.. فالاسم والشكل يدلان على جنسية الإنسان.

كما أن الأسماء توحى بأحداث تاريخية، ففى عهد الملك "" فؤا د "" كثرت أسماء "" فؤاد ""، وفى عهد الملك "" فاروق "" كثرت أسماء "" فاروق ""، وفى عهد "" عبد الناصر"" كثرت أسماء "" جمال "" وهكذا.. فتترك الأحداث التاريخية بصمة على أسماء الأجيال.

وفى عهد الصحوة الإسلامية ظهرت أسماء إسلامية كأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأسماء الصحابة والتابعين، ثم أسماء القادة الصالحين، والمصلحين.

وفى غمرة العاطفة هناك من سمى ابنه: هتلر، ومن سمى ابنه: ستالين، ومن سمى: أبو جهل، ومنهم عائلات تسمى بأسماء النباتات، كعائلات: كمون، كسبر، ليمونة، بصل، كرات، طماطم، زيتون، فلفل!!

وفى هذا الخضم لابد أن يكون للإسلام رأى واضح، ويجب علينا أن نلتزم به، فالإسلام يحث على اختيار الاسم الحسن، وقد بين "" ابن القيم "" فى "" زاد المعاد "" الحكمة من استحباب الاسم الحسن بقوله: "" لما كانت الأسماء قوالب للمعانى، ودالة عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بينهما ارتباط وتناسب، ويلزم الآباء أن يختاروا أسماء الذكور موحية بالرجولة والجدية والشهامة والشرف، وأسماء الإناث موحية بالعفاف والوفاء والإخلاص والصبر"".

ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه و سلم على تغييربعض أسماء من آمن من الناس إلى أسماء إسلامية، لها مسرة وبهجة، فغير اسم "" العاصى "" إلى "" عبد الله "" واسم "" بره "" إلى "" زينب "".

وقد وجه الرسول صلى الله عليه و سلم أمته إلى اختيار أسماء الأبناء، وتسميتهم بأجمل الأسماء وأحسنها، وأخبر صلى الله عليه و سلم أنهم يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وكان صلى الله عليه و سلم يحب الاسم الحسن؟ لما له من جاذبية وإيحاء، ويروى أنه عليه الصلاة والسلام ""ندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجل لحلبها، فقال: ما اسمك؟ قال: فزة، فقال: اجلس، فقام آخر، فقال: ما اسمك؟ قال: أظنه حرب، فقال: اجلس، فقام آخر، فقال: ما اسمك؟ فقال: يعيش، فقال: احلبها "" أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد. والأفضل تسمية الأبناء بأسماء إسلامية غير أجنبية، وخير الأسماء: ما عبد و حمد."