العلاّمة الداعية المجاهد (الفضيل الورتلاني) رجل الفكر والسياسة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العلاّمة الداعية المجاهد ( الفضيل الورتلاني ) رجل الفكر والسياسة
الفضيل الورتلاني.gif

من أعلام الفكر والأدب والسياسة والإصلاح في ( الجزائر ) خصوصاً، وفي الوطن العربي عموماً، العلاّمة الداعية المجاهد الشيخ ( الفضيل الورتلاني : 1900 - 1959 ) الذي كان ذا أثر فكري إصلاحي بالغ في العالم الإسلامي بصفة عامة، ومنه (الوطن العربي) خاصة.‏

خاض النضال السياسي على الجبهة الجزائرية مع الاحتلال الفرنسي، كما خاض النضال الفكري والإصلاحي عربيا‌ً خصوصاً، وإسلامياً عموماً، جاعلاً من قضية العرب والمسلمين شاغله حتى عن أوجاعه، وأمراضه المتألبة التي لم تمهله حتى أجهزت عليه ذات يوم في (أنقرة) يوم (12 مارس 1959 ).‏

ولد (الفضيل بن محمد حسين الورتلاني) في بلدية (بني ورتلاني) بولاية (سطيف) في ( الجزائر ) يوم ( 2/6/ 1900 م) لأسرة عريقة في العلم، والثقافة الإسلامية، حيث حفظ القرآن الكريم، ودرس مبادئ العربية والعلوم الشرعية، لينتقل بعد ذلك إلى مدينة (قسنطينة) سنة ( 1928 ) حيث درس على أستاذ الجيل المصلح الجزائري، الشيخ (عبد الحميد بن باديس) ولم يلبث حتى بات منذ سنة (1932 ) مساعداً له في التدريس، و"متجوّلاً لصالح مجلة (الشهاب) ومرافقاً لابن باديس في بعض رحلاته بالوطن، مشاركاً بقلمه في كل من (البصائر) و(الشهاب) بروح وطنية متوثبة، وشعور ديني ملتهب.‏

ولإمكاناته الفكرية ومعارفه العلمية الدينية وقدرته على الخطابة وإجادة الاتصال، أوفدته (جمعية العلماء المسلمين الجزائرين) إلى (باريس) سنة 1930 لنشر فكرها الإصلاحي، وتعهّد شؤون المغتربين الدينية"(1).‏

فاستطاع أن يكون (الداعية) المخلص الناجح الذي أحدث نحو ثلاثين مركزاً ونادياً للدعوة، في فرنسا، خصوصاً في (باريس) حيث عمل لتوثيق روابط الأخوة والمحبة والتعاون بين أبناء الجاليات الإسلامية، انطلاقاً من قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وهو الموضوع الذي عالجه في إحدى مقالاته بعنوان "التعاون مقدس، والتعارف أقدس" فكتب بعد التمهيد بالآية السابق ذكرها: "هذا كلام عربي مبين، ومع ذلك فإنا نجد العرب والمسلمين في هذه الأيام أزهد خلق الله في التعارف، وأزهد ما يكونون مع أخوانهم في الجنس واللغة والدين والمصلحة".‏

هذا النشاط القومي الديني الإصلاحي بمضمونه السياسي جعله موضع ترصّد واهتمام لدى السلطات الفرنسية، خصوصاً ونذر الحرب (العالمية الثانية) تلوح في الأفق، حتى بات مستهدفاً من (البوليس الفرنسي) للقبض عليه وسجنه فعمل للفكاك مما يدبّر له في أجهزة البوليس الفرنسي، فكان الشخص الذي "أنقذه.. وساعده على الخروج سراً من فرنسا ونجا بأعجوبة من إلقاء القبض عليه هو أمير البيان العربي شكيب أرسلان، وكان من أعزّ أصدقاء الشيخ الورتلاني.. مع نخبة من علماء المشرق العربي من مختلف الأقطار العربية الإسلامية المتواجدين آنذاك بالعاصمة الفرنسية خلال فترة مهمته بفرنسا".‏

فكانت وجهته إذن سنة 1940 ( القاهرة ) حيث آثر الانتساب إلى (الأزهر) فحصل على شهادته (العالمية) في "كلية أصول الدين والشريعة الإسلامية" مواصلاً جهاده القومي الوطني، للتعريض بالاستعمار الفرنسي في ( الجزائر ) وخدمة "القضية الجزائرية، وقضايا المسلمين عموماً، فأسس مثلاً سنة ( 1942 م) (اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر) كما أسس سنة ( 1944 ) (جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا) ثم مكتب (جمعية العلماء المسلمين) في ( القاهرة ) سنة ( 1948 م) الذي استقبل فيه الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي) سنة ( 1952 م) وقد صار عضواً في تنظيم حركة الأخوان المسلمين ) حتى اتهم بالمشاركة في محاولة انقلابية في (اليمن) قتل فيها (يحيى حميد الدين) إمام اليمن ( 1869 - 1948 م) فقبض عليه هناك ثم أفرج عنه مع من شملهم العفو الذي سخر منه (الإبراهيمي) في مقالة نشرها في البصائر معرّضاً بالنظام القائم على الهوى لا على القانون(1).‏

ولم تعلن الثورة الجزائرية ( 1954 ) حتى أعلن مساندته لها، وعمله في صفوف جبهة التحرير، فعمل في وفدها الخارجي في ( القاهرة ) بهمّة عالية وجدّ وإخلاص لا يعرف مللاً ونفاقاً اعتاده السياسيون بينهم في علاقاتهم، الأمر الذي أزعج بعضهم في (الوفد الخارجي) لـ (جبهة التحرير) في ( القاهرة ) من الذين يؤثرون الراحة في "صالونات" السياسة، حتى وصفه أحدهم بالوباء، فأجهد نفسه غير عابئ بأكثر من داء كان يستوطن جسمه، مؤجلاً العلاج، معجلاً بالمبادرة في ميدان العمل والنشاط، حتى تمكّن منه الداء فصرعه في إحدى مستشفيات ( تركيا ) حيث كانت وفاته في (12 مارس 1959 ).‏

وبعد الاستقلال (1962 ) في الجزائر ، نقلت رفاته من ( تركيا ) ليعاد دفنها في مسقط رأسه يوم (12 مارس 1987 ) لكنه كان أحد الذين شملهم (الجحود) بعدما استحوذ على دواليب الحكم في بلده (طلقاء) الثورة الجزائرية، فعاثوا فيه فساداً مستفيدين إلى أبعد حد من أسلوب "عفا الله عما سلف" الذي جعل (أبناء فرنسا) بالتبني و(الولاء) أسياداً في بلد الشهداء، والأحرار الذين أجهضت آمالهم، وتلاشت أحلامهم الوردية في أتون المؤامرات الاستعمارية الأوروبية، لكن (الورتلاني) بقي حياً في الوجدان الوطني والإسلامي، بجهوده الميدانية الشاهدة، وبأعماله المادية الناطقة بحبّه لوطنه، وأمته الإسلامية الكبرى، كما تعبّر عنها حشود من مقالاته في الصحف والدوريات الجزائرية، والعربية، والإسلامية عموماً، مما ضمّ جانباً منه كتابه "الجزائر الثائرة"(3).‏

وهو مجلد ضخم حوى كثيراً من عناصر التعبير عن معاناة ( الجزائر ) تجاه الاحتلال الفرنسي، ومعاناة العرب تخلفهم وتطاحنهم كمعاناة المسلمين تشرذمهم وتشتّتهم، محبباً التعاضد والاتحاد في بلده الذي أعلن ثورته، قائلاً عنه: "ليس في الجزائر اليوم من حيث الرأي والعمل إلا هيئة واحدة اسمها ومسماها الأمة الجزائرية الثائرة"(3) لائحاً باللائمة على التفرق والاختلاف بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة، وهو كما يقول: "من أثر الواقع المرّ الذي باعد بين عقولهم وأفكارهم، وبين قلوبهم وإحساساتهم، حتى كثرت أممهم وهم أمة واحدة، وحتى تعددت دولهم.. لأنهم فقدوا المصلحين الأكفاء دراية وإخلاصاً" لتوفير "الوسائل الصالحة لخلق الأمة العربية الواحدة" وبناء الأمة الإسلامية المتماسكة، القوية المتعاضد أبناؤها جميعاً في السراء والضراء.‏

مهما يكن من شيء يبقى ( الفضيل الورتلاني ) شخصية عربية إسلامية ذات أثر بعلمها، ودعوتها، فهو الوطني الجزائري الغيور على وطنه ( الجزائر ) المحتل، وهو العروبي المشوق إلى وحدة هذه الأمة كلبنة جوهرية أساسية أولى في بناء وحدة المسلمين، وتعاونهم على الخير، وتآزرهم في مواجهة الأعداء والخصوم.‏

رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته، بين الذين رضي الله عنهم، والخالدين في ضمائر أممهم.‏

هوامش‏

(1) د.عمر بن قينة، الشكل والصورة في الرحلة الجزائرية الحديثة، ص: 191، دار الأمة، الجزائر، 1995.‏

(2) عيون البصائر، محمد البشير الإبراهيمي، ط:2، ص:689، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1971.‏

(3) الفضيل الورتلاني، الجزائر الثائرة، ط:2، ص:68، دار الهدى، الجزائر، 1992.‏ ‏‏‏‏‏‏‏ الغسيري‏

الأديب الرحالة‏ ‏‏ ولد محمد المنصوري الغسيري ( 1912 - 1974 ) في (غسيرة) بولاية (باتنة) في الشرق الجزائري، وهو من أقطاب الحركة العلمية والتعليمية والإصلاحية والأدبية في ( الجزائر ) قبل الثورة المسلحة، وعند اندلاعها انخرط فيها عاملاً في صفوف جبهة التحرير الوطني، فصار ممثلها في (دمشق) سنة 1957 ، وقد استمر بعد الاستقلال ( 1962 ) في السلك الدبلوماسي، فكان سفيراً للجزائر في عدة أقطار عربية، بحس حضاري عربي إسلامي، من الدبلوماسيين الجزائريين الشرفاء الذين بقوا بعيداً عن شتى الانحرافات حتى لقي ربه في صمت سنة 1974 تاركاً آثاراً مختلفة، في اللغة والتاريخ، والدين والأدب، من بينها رحلته المشهورة إلى (المشرق العربي) التي لما تنشر بعد في كتاب، نتوقف هنا عند مسارها من (الجزائر) إلى (القاهرة) ثم (السعودية).‏

جاءت البداية في رحلة (محمد المنصوري الغسيري) إلى ( مصر) في وفد (الكشافة الإسلامية الجزائرية) استجابة لدعوة (الكشافة المصرية) للمشاركة في احتفالات الذكرى الأولى لثورة 1952 م وكانت بداية الرحلة في 21 جويلية 1953 انطلاقاً من (قسنطينة) ليلاً في اتجاه (القاهرة ) ثم امتدت بالنسبة للكاتب إلى ( السعودية ) للحج أساساً واتسعت إلى ( سوريا ) و( لنبان ) فجمع ملاحظاته وانطباعاته وكتبها في رحلة حملها مشاعره ومواقفه بعد عودته من هناك، ونشرها في جريدة "البصائر" تحت عنوان رئيسي عام هو "عدت من الشرق"(1) في تسع عشرة حلقة(2)، وكان هذا العنوان الرئيسي متبوعاً بعناوين فرعية أساسية متبوعة بدورها في بعض الحلقات بعناوين أخرى جزئية،

فكان العنوان الفرعي في الحلقة الأولى (في طرابلس الغرب) وكان في الحلقة الثانية (في كنانة الله مصر) وفي الثالثة (في مصر كنانة الله) وفي الرابعة (مظاهر التدين في مصر) وفي الخامسة (الجزائريون في مصر) وابتداء من الحلقة السادسة وانتهاء بالحلقة الثامنة عشرة(3) كان العنوان الفرعي الدائم هو (في البلاد العربية السعودية ) أضيف تحته عنوان جزئي في الحلقة السابعة عشرة ما نصه (الشباب الإسلامي في الجزائر) وأضيف آخر في الحلقة الثامنة عشرة نفسها ما نصه (في المدينة المنورة) وبينما كان العنوان الفرعي في الحلقة التاسعة عشرة (في سوريا ولبنان) فإن العنوان الفرعي في الرقم (20) كان عاماً هكذا (خاتمة) ضمت الحديث عن العودة إلى ( مصر) ثم إلى ( الجزائر ) عبر ( ليبيا ) و ( تونس ).‏

وهكذا نلاحظ من البداية أن الرحلة شملت عدة بلدان عربية إسلامية، فبعد المرور بتونس في الذهاب حل الوفد بليبيا، حيث يتحدث الكاتب عن الوصول إلى (زوارة) ويذكر الاستقبال الحسن لدى الإخوة الليبيين ويتمعن في آثار الوجود الإيطالي المنهزم، ويذكر بالخصوص مدينة (طرابلس) الجميلة التي لم تنل منها الحرب العالمية الثانية، كما يصف مدناً أخرى مثل (سرت) و(درنة) و(بنغازي) التي أصابها الكثير من الحرب، وقد استقبل أهلها وفد الكشافة "أحسن استقبال، وليس في المدينة ما يوصف إلا هذه الخربات التي تركتها الحرب، وإلا هذا الموقع الطبيعي الجميل الذي تقع فيه المدينة، ولعل الأجمل من ذلك أن نمر إلى الجبل الأخضر وكفى، وليس بعد الخضرة من وصف للجبال"(4).‏

ونلمس هنا جنوحاً إلى وصف أدبي للطبيعة ولبقايا الاحتلال الإيطالي نفسه وبعض آثاره فيما أصاب الشعب الليبي، كما يبدي في الوقت نفسه ضيقاً بالحدود التي رآها شراً لا مفر منه، لكنه يعلن غبطته بالاستقلال الوطن وبشهادة الليبي المجاهد، فأثنى لذلك على ( ليبيا ) المجاهدة المنتصرة وعلى رجالها وشبابها من (الكشافة) خاصة، فيقول في الأخير "فسلام على ليبيا، وسلام على شبابها الناهض، وسلام على ولاتها ما عدلوا في الحكم وثأروا لأنفسهم ولبلادهم من العبودية والجهل".‏

وقد أصاب الكاتب في صياغة تحيته هنا. فإن كانت تحية للمواطن والكشاف ورجل الإعلام في ليبيا مطلقة مفعمة وداً وحباً لا حدود لهما فإنها بالنسبة للحكام جاءت متأخرة مشروطة بعدلهم في الحكم وإخلاصهم في خدمة الوطن بالعمل للتخلص من النفوذ الأجنبي ودفع مسيرة الوطن في طريق التقدم والرفاهية، والأخذ بأسباب العلوم وتجاوز الواقع الذي يطبعه الجهل والتخلف الحضاري والعلمي.‏

وفي منقطة (السلوم) الحدودية بين ( ليبيا) و( مصر ) في الطريق إلى القاهرة يصف الكاتب الحشود غير المنتظمة على المركز الحدودي حيث معاناة شرطة الحدود مع مواطنين يجهلون إجراءات قانونية، فيكلفهم جهلهم بدورهم متاعب شتى، كما يصف ما حول هذا المركز الحدودي آثار الحرب العالمية الثانية من دبابات مهشمة وطائرات محطمة.‏

وعند الوصول إلى ( مرسى مطروح ) يشرع يصور جمال المدينة وطيبة الإنسان فيها، والسلوك الحسن الذي يطبع حياة المصطافين المصريين "إن مرسى مطروح على صغرها فيها عدة مساجد كبرى، وبها شاطئ رملي خلاب يقصده كثير من المصطافين، وما شاهدنا أية مظاهر مزرية في تلك القرية رغم تجوالنا فيها أمسية كاملة، وفي هذه المدينة لمسنا الظرف المصري في سائر من اتصلنا بهم، وبدأنا نشعر بأن الطبع الجزائري الجاف يجب أن يذوب هنا قبل مغادرة المدينة، حتى إذا انتهينا إلى قاهرة المعز كنا أناساً آخرين(5) وقد بدأ بعضهم يتدرب على اللهجة المصرية فيتخذ الكاتب من ذلك وسيلة للتنكيت، وعند الوصول إلى ( القاهرة ) يستقطب اهتمامه أمران رئيسيان النظام السياسي الوطني الحازم والمراكز العلمية في مدينة القاهرة ) حيث "المعاهد العلمية والكليات الإسلامية ما يجعلها قبلة دائمة للعرب والمسلمين في سائر أنحاء العالم،

أضف إلى ذلك هذا الجمال الطبيعي الذي حباها الله به من مرور النيل المبارك وسطها، وإقامة هذه الجسور الجميلة فوقه"(6) وفيها الجامعة الحديثة التي "تضارع أكبر الجامعات في العالم" أما النظام السياسي فقد وصف فيه رجال الثورة بالخصوص بالجد والإخلاص يعملون يومياً أكثر من ضعف الدوام اليومي للعامل في مصر، من أجل تقديم "المثل يومياً على أن الدولة وقواها يجب أن تسخر دائماً لخدمة المواطن الفرد كيفما كان لونه وكيفما كان مذهبه وشيعته ودينه، ولا يجوز أبدأ أن يستنزف المواطن من طرف الدولة الجشعة" كما كان يفعل النظام السابق من أجل "تضخيم مرتبات الموظفين ولو كسالى عجزة، وظفتهم المحسوبية وحدها وحمتهم من الحساب حتى كشفهم رجال الشعب وفضحوهم" لكنه في الوقت نفسه يلاحظ على المواطنين المصريين ضرباً من الكسل المقيت "يغطون في نومهم العميق، وما يزالون صرعى الماضي اللاهي الساخر، الماضي الفاضح".‏

توزع وصفه في ( القاهرة ) إذن بين أول معالمها الذي لفت نظره وحظي بإعجابه وهو جامعتها بهياكلها وحدائقها الغناء، ووصفه الانضباط السياسي ووطنيته القائمة على أنقاض نظام ترك إرثاً من التخلف اعتاد فيه المواطن الكسل، بفضل تشجيع الكسالى من بطانة النظام وقهر المواطن العادي الذي لا ملاذ له غير همّ يجتره، يقذف به في مهاوي الكسل والتيه واللامبالاة.‏

وهي أحكام استمدها الكاتب من أول انطباع له من الوضع في قطر عربي إسلامي، يحكمه أبناؤه وتسود فيه لغته، ولدينه فيه مكانته، ولم يتسع الوقت للمقارنة والتحليل أكثر، لأنه أولاً وقبل كل شيء كاتب رحلة بعين أديب ورجل ثقافة لا محللاً سياسياً أو باحثاً في علم اجتماع، فالنظام في رأيه تنهض به "حكومة الحق والعدالة الاجتماعية، تسخر للثقافة والتربية حتى قصور فاروق الرائعة، وتمهد في بلادها للوحدة العربية والإسلامية، بفتح المعاهد في وجوه بنيها وإيفاد العلماء إليها وعلى نفقتها تمهيداً يبوئها مكاناً رفيعاً بين أمم العالم ويعطيها عن جدارة زعامة العالم الإسلامي في المستقبل.‏

ويعطي الكاتب في الحلقة الرابعة صورة حية عن القاهرة العامرة بمساجدها إلى جانب المؤسسات الثقافية الأخرى فيها، فتبرز من خلال ذلك أيضاً صورة مضيئة للإنسان المسلم في ( مصر ) حيث تكتظ المساجد بالمصلين خاصة في يوم الجمعة، حتى إن القطار حين يصل المحطة وقت الصلاة يجدها "مسجداً جامعاً" وقد أضحت العبادات والمعامل نفسها تتوفر على أماكن للصلاة، فتبرز هنا روح الإيمان وسمات التقوى في مختلف المستويات الاجتماعية، حيث نلمس الإقبال الشديد على المساجد وخطب الجمعة التي يتولاها علماء مؤهلون فكرياً وعلمياً، ويقوم "الدعاة" في ذلك بدور مهم، يتجلى فيه فكر نخبة واعية ناضجة لا غوغاء جاهلة تمارس الدجل والتهريج، لأن خطباء المساجد في القاهرة "هم في الغالب من الفئة الصالحة في البلاد ومن مصاقيع خطباء الجمهور المصري، وما أجمل أن يصلي الحجاج المغاربة صلاة الجمعة في الجامع الأزهر، ويستمعوا إلى خطيب الإخوان المسلمين الأستاذ عبد المعز عبد الستار في صلاة لـه بالجامع فيسمعوا ما يحيي ويعوا ما يبقي ويعودوا بما‏

يجدي..."(7).‏

وفي حديثه عن الجزائريين في ( مصر ) يبرز الانطباع الإيجابي الواضح عن ( مصر ) البلد العربي المسلم المضياف الذي كان محط رحال لكثير من الجزائريين "في أزمان مختلفة" فصارت وطناً لبعضهم، كما باتت مورد علم للطلبة وساعداً أيمن للجزائر العربية المسلمة التي تناضل للدفاع عن هويتها الحضارية، حيث رحبت القاهرة بالشيخ الإبراهيمي واحتضنت مكتباً لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي صار "يعد بمثابة سفارة غاصة دائماً بالزوار من رجال العلم والأدب والسياسة كامل اليوم وزلفاً من الليل"(8) فمثلما أعطى الكاتب صورة مضيئة عن (مصر) قدم صورة جيدة أيضاً عن الجزائري في (مصر) بجديته وأخلاقه وحبه (مصر) مثل حبه بلده الجزائر " ما يجعل الجميع أحياناً يفكر لمصر أكثر مما يفكر للجزائر" وهو عربون وفاء وتقدير وإيمان بالهم الواحد والمصير الحضاري المشترك، فشرف هؤلاء الجزائر في (مصر) ونهض بعضهم بمهمة التعريف بقضية (الجزائر) المسلمة ولغتها بين أبناء الأمة العربية الإسلامية، فكان من بين أولئك رئيس جمعية العلماء الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي) والشيخ (الفضيل الورتلاني) "الذي مهد لأداء مهمة الأستاذ الرئيس في غير ما موطن، وفي غير ما وسط.. ذلك الرجل الذي يمثل النبل والكرامة والشمم في أروع صورها".‏

هذه الصورة الإيجابية للجزائري في (مصر) بعامة انبثقت من ذلك المحيط الصحي الجديد في (مصر) بشكل عام، حيث تتراجع بالتدريج الصور الجزئية لمظاهر سلبية في القطر مثل الخمول والكسل الذي برز للكاتب من فعل النظام السابق حين شجع الخاملين وأفسح المجال للمحسوبية، كما شجع الولاء العائلي والإداري، وثبط همم الكفاءات.‏

تنطلق من أنقاض هذه الصور صور أخرى إيجابية لوطن شرع يشجع النضال العربي الإسلامي لمكافحة الاستعمار، ويحتضن أبناء الأمة العربية والإسلامية بود، ومن أولهم الجزائريون الذين شرفوا وطنهم وأسهم بعضهم في خدمة (مصر) بفكرهم وعملهم، كما بدأ يسهم آخرون في التعريف ب الجزائر العربية المسلمة، لما يعانيه الإسلام فيها من تضييق والعربية من اضطهاد.‏

صاغ الكاتب ذلك بمستويات مختلفة من التعبير، تراوحت بين الأسلوب التقريري السردي والوصف الحي الذي عكس كثيراً مما كان ينفعل به الكاتب من مشاعر ود وحب إنساني وافتتان بالطبيعة، إضافة إلى ذلك الابتهاج بطبيعة الإنسان المصري وجامعة القاهرة ومساجدها العامرة ورجالها المخلصين، يضاف إلى ذلك دور الجزائري الفاعل في صورة إيجابية لصالح وطنه (الجزائر) و(مصر) انطلاقاً من حس حضاري يجمع (الجزائر) و(مصر) بعمقه العربي وبعده الإسلامي.‏

وقد عكست هذه التجربة الإنسانية حس الكاتب القومي بوجهه: العربي والإسلامي، فتألم للجوانب السلبية من دمار خلفه الاستعمار وحروبه على الأرض العربية كما ضاق بمظاهر التخلف وما يشيع فيه من خمول وكسل وسلبية، مثلما طرب لمظاهر النهضة العلمية والسياسية والدينية في (مصر).‏

فكان في كل منعرج يفكر كعربي مسلم، يضيق بالسلبيات فينبه إليها، ويبتهج للإيجابيات فيثني مشجعاً شاكراً سعيداً، توقاً إلى مستقبل سعيد لأبناء الأمة العربية كلها.‏

غير أن أهمّ مرحلة في رحلة (الغسيري) كانت مرحلة السعودية، التي حظيت بأكبر حيز، فخصّها بفيض من المشاعر والأفكار استحوذ على مساحة تجاوزت مساحة سائر الأقطار العربية الأخرى مجتمعة، للمناسبة الدينية (مناسبة الحجّ) التي جعلت للبقاع المقدّسة نفوذاً روحياً في نفس الكاتب، فتحوّل معه في بعض المواقف إلى صوفي يذوب شوقاً وهياماً في أجواء المكان وظلاله الروحية والإنسانية.‏

فأجاد تصوير الأماكن وما توحي به من ظلال دينية، وما تؤثر به في النفوس المؤمنة التقية، فتصفو النفس، تتوق لطهر من أدران دنيوية مقيتة.‏

وقد طرأت فكرة الرحلة إلى (السعودية) بقوة على ذهن الكاتب حين صادف وجوده في (مصر) فترة الحجّ، فشجّعه على الفكرة زملاؤه في (الكشافة الإسلامية الجزائرية) وكذلك الشيخان (محمد البشير الإبراهيمي) و( الفضيل الورتلاني) الأمر الذي جعله يظفر بتنفيذها مسروراً، وقد أسعفه الحظ في أن يكون ذلك على حساب الحكومة (السعودية) التي وجهت دعوة إلى الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي) للحجّ مصحوباً بالغسيري وغيره، فصوّر الكاتب ظروف تلك الرغبة والاستعداد للسفر إلى الحجّ، وظروف إقبال الحجاج بفضل نشاط الشيخ (الورتلاني) كما يصوّر ظروف التوديع والطائرة التي أقلتهم من (مصر) "طائرة جبارة ذات أربعة محركات، تقلّ ما يربو على ستين راكباً، وقد خصص معظم مقاعدها لضيوف الحكومة السعودية الشرفيين، وكلهم من الشخصيات العلمية والسياسية البارزة في البلاد العربية، وكان بين الركاب أسرة الرئيس العظيم محمد نجيب"(9).‏

كما يصور لحظة العبور قرب أجواء ( فلسطين الأمر الذي أثار شجناً في النفس، لما تعانيه (فلسطين) من اغتصاب صهيوني كأرض عربية إسلامية "رغم أنف العرب والأمم المتحدة"، ثم يصف الهبوط في مطار (جدة) وكله بشر وسعادة تأهباً للتوجّه إلى (مكة) المكرّمة.‏

وقد أعدّت السلطات (السعودية) للرحّالة مع (الإبراهيمي) سيارة للتنقل وأداء الفريضة في أرض النبوّة والوحي، فوصف الغبطة بحفاوة الاستقبال والعناية التي أولاها المسؤولون الكثيرون ورجال العلم هناك لوفد العلماء القادم من (مصر) ويجنح الكاتب خلال ذلك للحديث عن حال الجزائر على سبيل المقارنة، فيذكر محنتها التي حرم فيها التعليم الديني كما حرم المسجد من أوقاف المسلمين "أيّ محنة أشدّ هولاً من أمة ذلّ فيها المسجد وحزن فيها الجامع"(10).‏

وحين يتأمل (مكة) يشرع يصفها وصفاً جغرافياً بخلفية تاريخية دينية، يعود بها إلى عهد (إبراهيم) الخليل، فيتمكن من نفسه توق روحي يتشوق فيه إلى عزة ينهض بها المسلمون، وقد استشفّ معالم نهضة في (السعودية) بدأها (عبد العزيز(11) بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود) الذي كان على قيد الحياة إبّان هذه الرحلة زماناً، فأثنى الكاتب على الملك وعلى جهوده بمثل قوله: "..

كان الملك عبد العزيز عظيماً حقاً، مصلحاً حقاً، وعربياً صريحاً حقاً، ومؤمناً قويّاً صالحاً حقّاً، كان مجدداً يهوى الإصلاح ويتخير له الفرص، ويرتاح للإنشاء والتعمير، فبنى القصور والمنشآت الخيرية والثقافية، وشقّ الطرق في كثير من المناطق الجبلية" فقدّر فيه نهجه الإصلاحي في محاربة الخرافة والدّجل وإشاعة التعليم لإعداد المهندس والطيار، والاهتمام بالعمران والمساجد وطرق المواصلات، وهي أشياء بدت من قيم الكاتب في الحاكم الذي ينبغي أن يكون قريباً من العلماء: يجلّهم ويرجع إلى رأيهم، كما يشجّع العلم ويأخذ بالإصلاح في كل الاتجاهات، وهو ما بدا له ظاهراً في الملك (عبد العزيز) ثم -خلفه فيما بعد- ابنه الأمير (سعود(12) بن عبد العزيز) أيضاً الذي كان وليّ عهد في تلك الفترة، فأعدّ في قصره "حفلة عشاء للضيوف البارزين من حجاج العالم الإسلامي"(13) الذين كان من بينهم (الغسيري) و(الإبراهيمي) حيث وصف الكاتب مأدبة العشاء الفاخرة جداً في أبّهة ذات طابع رومانسي خلاّب، في قصر اتّسع طابقه الأول للألوف حيث توجد قاعات فخمة فسيحة للاستقبال والأكل، قد يضيق بها من يمقت الترف الزائد عن الحدّ الطبيعي، لكنه يطمئن حتماً لذوبان الفروق الطبقية في الحفلة بين المدعوين، وبينهم وبين الأمير وإخوته كما تقتضي الأخلاق الإسلامية: "صعدنا إلى الطابق الأول أين توجد قاعات الاستقبال وأبهاء القصر الزاهرة، وهناك رأينا أضخم ما أنتجته حضارة القرن العشرين من وسائل الراحة وأسباب النعيم، هذه أبهاء فسيحة تتّسع للألوف الجلوس قد فرشت أرضها بالطنافس الفارسية الموشاة بأفخر أنواع الوشي، صفّت عليها أرائك وثيرة مذهبة تسطع تحت أشعة الأنوار الكهربائية المتألقة في سماء الغرفات، ومن خلال الثريات المرصّعة بقطع البلور الفاتن...

وانتقلنا إلى غرفة الأكل، وكان بها من الاستعدادات ما أدهش، وجلسنا -الضيوف والأمراء- حيث انتهى بكل منّا المجلس، وعرفنا ديمقراطية لم يحلم بها ديمقراط، ومساواة لم تحلم بها الثورة الفرنسية أو لم تطبقها يوماً على الأقل، فما كان سعود وإخوته إلا كأفراد من المؤمنين العاديين الذين جاؤوا من سائر أنحاء العالم".‏

وقد تحوّلت أروقة القصر إلى "سوق عكاظ" فيختال الشعراء ويزهو المستمعون ومن بينهم الأمير (سعود) الذي بدا قريباً من قلوب ضيوفه كما يستشف من تعبير الكاتب الذي وصف مظاهر الأبهة الملكية والثراء الأرستقراطي إلى جانب مظاهر التوادد والتعاطف في ضرب محبب من التآخي بين المسلمين الحاضرين عموماً، وبينهم وبين ولي العهد حينئذ خصوصاً.‏

إلى جانب هذه الصورة الأرستقراطية في القصر الملكي التي بدت للكاتب إيجابية وإجلاله للأمير: هناك أيضاً إعجابه بالملك (عبد العزيز) نفسه، في سياسته خاصة، لديمقراطيته وعدله، فكانت المناسبة أيضاً تقدير الكاتب للملك ونظامه وجهده في بناء الدولة والاستفادة في ذلك من إنجازات الحضارة المعاصرة، وكذا كرمه واهتمامه بالحجاج خاصة منهم ضيوفه من رجال علم وسياسة.‏

وحين يخرج الكاتب من الفندق لطواف القدوم يسمع صيغ الدعاء الجاهز فيدرك أن وطنه (الجزائر) تقتضي ظروفه صيغ دعاء جديدة تراعي حاله لخلاصه مما يعاني تحت وطأة احتلال بغيض تمارسه دولة صار "يحمي قانونها في نظر الإسلام كل أنواع الرذائل.. وذلّ المسجد.. ولا وظيفة للإمام فيه إلا الصلاة وخطبة الجمعة ثم لا وعظ ولا إرشاد ولا تبليغ"(14).‏

ثم يتأثر لجلال الموقف خاصة حين يرى الشيخ (الإبراهيمي) في "نوع من التأثر العميق.. يتحوّل إلى طفل صغير يبكي ويغمغم ويدعو الله ويسأله المسألة"(15) فأحسن الكاتب تصوير الموقف في إدراك ذلك السّموّ الروحي عند تفكير المخلوق في خالقه، في لحظة يدقّ فيها الإحساس فتشعّ في النفس صور الإيمان أكثر وتتّسع آفاقها في الإحساس بالخالق وفضله وخوف عقابه، كما يكبر شعوره بضآلته وضآلة شكره النعمة عليه في الحياة، فيلوذ بكل ما يقرّبه إلى الله رجاء في رحمته، فيمده ذلك بما يملأ روحه من سعادة ورضى وطمأنينة.‏

وبعد وصف الطريق الصعب إلى (عرفات) والعودة منها إلى (مكة) في العاشر من ذي الحجة -وقد أصبح الجميع في هيئة العيد شرع الكاتب يحدّثنا عن المواقع المختلفة التي زارها، ومنها "بيت مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والمعلاة حيث قبر سيدة نساء الدنيا خديجة بنت خويلد (ض) ودار أبي سفيان، و... بعض المدارس والمستشفيات العظيمة وبعض الدور الخاصة والمتاجر وإدارات الدولة"(16).‏

فيتحدث في المناسبة عن لقاءات مع رجال الحجاز وعلمائه، وعلماء من العالم الإسلامي خاصة في فندق (مصر) بـ (مكة) الذي صار "المركز الرئيسي لتجمع خيرة رجال العروبة والإسلام"(17) حيث أقيمت حفلتا تكريم عظيمتان، كانت إحداهما لتكريم الشخصيات البارزة من حجاج العالم الإسلامي من أبناء المسلمين "حيث بدأ الكاتب يتحدث عن بعض الأوضاع في (السعودية) منها جوانب مختلفة من التطور الجاري في بعض الميادين ومنها التعليم حيث نما وعي البدوي نفسه بضرورة التعليم كأمر واجب وقيمة العلم للرجل والمرأة أيضاً، لتعليمها في مختلف المراحل الدراسية: شؤون دينها من ابتدائية إلى عالية حتى تعيد للدنيا صورة نموذجية في التربية النسوية تذكرها بأمهات المؤمنين"(18).‏

وقد أثنى الكاتب هنا على الملك (عبد العزيز) وابنه ولي العهد- عند حدوث الرحلة - (سعود) الذي خلف أباه على رأس المملكة بعد أقل من سنة من رحلة الكاتب، كما أثنى على وليّ عهد هذا الأمير (أخيه) عند كتابة الرحلة في 1373هـ (1954م) (فيصل (19) بن عبد العزيز) وكان ثناؤه انطلاقاً من قيمه الخاصة في الحاكم كما بدت في تعبيره: رجل مؤمن، صادق متديّن، مصلح، مجدد حازم، متواضع كريم، توّاق إلى تطوير بلاده، عامل لصالح العروبة والإسلام.‏

وبعد نظرة عامة عن مظهر الحجاج في (مكة) من مختلف الأقطار وأعمارهم حيث يقل عنصر الشباب(20) ينطلق الكاتب في وصف انتقاله إلى المدينة المنوّرة جوّاً، فتراه يتألق فكرياً وروحياً، فيشرع يناجي النبي (محمدا) (ص) في خطاب اتّسم بضرب من الاندماج الروحي المشرق في ظلال صوفية، مضى فيها الكاتب يشكو إلى رسول الله (ص) حال الأمة الإسلامية، فيعطي صورة قاتمة عن وضع المسلمين المتخلف تحت احتلال أوروبي أو وراء تبعية، ثم يعرّج عن وضع الإسلام في (الجزائر) خاصة وغدر الاحتلال الفرنسي ونشاطه الكنيسي في صفوف ضعفاء الإيمان والعقيدة من الجزائريين خاصة منهم الشباب "إن الشباب في الجزائر سرق له عقله.. شككوه في نفسه وفي مقوّماته من تاريخ ولغة وأدب ودين، فأصبح تلميذاً لديكارت وداروين.. فلا يعبأ بالمحافل الدينية ولا يرود المساجد ولا يرعوي عند ذكر الله.. يا حبيب الله - ليس في مساجدك كثير من طبقة المثقفين أو أدعياء الثقافة.. ليس في مدارسك الدينية إلا أبناء الفقراء والعمال وصغار الموظفين.. إن شبابك في الجزائر لم يقدم من الأعمال عشر ما قدّمه شباب أيّ نبي لنبيه في الجزائر، وإن أعدل دليل على ذلك هذا الزهوّ الذي تمتاز به الكنيسة.. إن المساجد غير حرّة حقاً، وليس بها رجال يحبّبون الدين للناس إلا قليلاً، ولكن المساجد الحرة أيضاً لا يغشاها الشباب، فإليك نشكو الشباب والأئمة والعلماء والمربيّن ورجال الطرق الصوفية الذين خلت زواياهم من معاني الربانية والهدى، وإليك نشكو حالنا السيئة وتدهورنا في ميدان الأخلاق والتدين.."(21).‏

هذه الرؤية القاتمة لحال المسلمين عموماً والجزائريين خصوصاً أملاها جلال الموقف في الحرم النبوي، وظلال الرسالة المحمدية التي شقّت طريقها إلى القلوب عبر العالم بفضل الإيمان القوّي والصدق والتفاني والإخلاص في إعلاء كلمة الله ورسالة الإسلام الأمر الذي رأى معه في واقعه تقصيراً كبيراً في الحفاظ على بريق الرسالة المحمدية وأثرها في النفوس وتأثيرها في حياتهم، وقد بلغ به الشطط في هذه الرؤية القاتمة درجة يخيل للمرء فيها أن وضع الإسلام في الجزائر في حال خسوف أمام المدّ (التبشيري) المسيحي الغربي الذي يدعمه الاحتلال، وقد صدر منه هذا بفعل رؤية مثالية لأمته ووطنه الجزائر الذي يريده وطناً حراً، تتوغل العقيدة في كل النفوس وفي كل المواقع، وتجد لها انعكاساً جلياً دالاً في حياة جميع الناس وسلوكهم شباباً وشيوخاً من مختلف الفئات والطبقات، يسود صوت الإسلام وقيمه في سلوك الفرد وتفكيره ويتحكّم في طبيعة علاقته بالله والناس، والموقف من تاريخه وانتمائه: العربي اللسان الإسلامي العقيدة.‏

غير أن النأس لا يمسك بتلابيب الكاتب حتى النهاية، فمن أنقاض الإحباط وأكداس اليأس تلوح بوارق أمل تبدأ تنبثق من ثقة في الله ورحمته، وتبدأ تكبر وهو يتوسل بالرسول (ص) أملاً في أن ينقذ الله أمته مما هي عليه من انحطاط وتخلّف وخضوع للاستعمار وتبعية له إلى النهوض والتطور، وأن يبصّر شبابها بوضعه ويرشده إلى الخير، له ولوطنه وعقيدته الإسلامية.‏

هنا في محطة (المدينة المنورة) اهتمّ الكاتب خلال خمسة أيام بالمواقع التاريخية، ومن بينها مقابر الصحابة والأئمة، فوصف ذلك وصفاً رفيعاً، متحسّساً بخياله وشعوره صوراً من إشعاع الوحي وانتشار الرسالة المحمدية، فعبّر بذلك عن حسّ ديني عميق، واستعداد صوفي لدى الكاتب، وحبّ مكين في نفسه للإسلام والمسلمين "كلما دلفت فوق ثرى مدينة رسول الله تخيّلت أن كل شبر منها يهمس في أذني: هنا تشرفت بلقاء سيد الكائنات أو أحدا من أصحابه في يوم من الأيام، هنا وقف الرسول عليه الصلاة والسلام موليا وجهه شطر المسجد الحرام راكعاً ساجدا، من هنا هبّ غازياً مدافعاً منتصرا، هنا ظلّ داعياً إلى اللّه بإذنه وسراجا منيراً مدى عشر سنوات، هنا شاء لـه الله أن يلفظ نفسه الأخير ويلتحق بالرفيق الأعلى، وتضمّ جسده الشريف أقدس بقعة على وجه الأرض بعد الكعبة، من هنا شعّت أنوار رسالة حوّلت الأرض ليلها كنهارها ولو كذب المبطلون"(22).‏

هكذا طالت وقفة الغسيري أكثر في هذه المحطة من رحلته في البقاع المقدسة، فأسهب في الحديث عنها، فصور ما للبقاع المقدسة من أثر في الحضارة الإسلامية، كما رصد باهتمام واضح العلاقات هناك بين أبناء الأمة الإسلامية، وما للإسلام من دور إنساني أخلاقي في إذابة الفوارق بين الناس وما له أيضاً من دور تحريري، يحرّر المرء من سلطان الهوى ويعضده في رفض العبادة لغير الله. من هنا يبرز في ذاكرته وطنه (الجزائر) في كل منعرج، فيدين الاستعمار وجبروته والشباب وانصياعه لإغراءات المحتلين، واستسلام فئات مثقفة من محامين وأطباء وغيرهم لغزو الفكر الاستعماري وهيمنته السياسية، فلا يؤمّون حتى المساجد.‏

كما يلوح بالأئمة من جهة أخرى على أولئك الذين تلهيهم قشور الحياة الدنيا، ومنهم من خالطهم من الحجاج (الجزائريين) أنفسهم الذين جاؤوا إلى الحجّ من دون استعداد مادي وروحي بالخصوص، فسقط بعضهم أخيراً في ورطة الديون، حيث شغلت بعضهم عملية اقتناء الهدايا عن التأمل في ظلال ما توحي به الأماكن المقدسة، حتى رأى الواحد من هؤلاء الحجاج يعود وحده بما يتجاوز عشر حقائب محشوة بكثير من الأشياء، مثل "الكؤوس والطؤوس والقباقيب والسبح والمنادل والثياب"(23)، بل حتى "الأكفان" نفسها.‏

وهو لذلك بقدر ما كان منفعلاً بما توحي به الأماكن المقدسة في النفس كان مهموماً بمظاهر التخلف في المسلمين ومعاناتهم وسطحية تعاملهم مع شعائرهم الدينية، لا فرق في ذلك بين الجزائري وسواه.‏

وهو في تحليله ظاهرة ووصفها أو في تطلعه إلى واقع بديل أو في مشاعره وأحاسيسه المختلفة يبقي دائماً على صورة وطنه في ذهنه مقارنا بين واقع الإسلام في (العربية السعودية) أو غيرها، وحال الشعب الجزائري يعاني تحت الاحتلال الفرنسي متطلعاً دائماً إلى حال أحسن لسائر الأقطار العربية والإسلامية ومن بينها (الجزائر) فكان يغتنم لحظات تألقه الفكري ووجده الروحي في البقاع المقدسة ليلوذ بخالقه طالباً الهداية لأبناء وطنه كي ينهضوا من سباتهم راجيا من الله النصر لدينه الإسلامي في الجزائر، ولغة القرآن التي اضطهدها المحتلّ الفرنسي، ولاحقها في كل المواقع، في المساجد والمدارس الحرة والزوايا.‏

إنه صوت من الأعماق، من التاريخ، يعبّر عن الانتماء الأصيل للأمة الجزائرية العربية المسلمة، صوت أديب مفكّر مناضل عاش بشرف ونظافة، مجاهداً بقلمه وعلمه وعمله، ومات نظيفاً في عالم انطلقت تكتنفه الوساخة فتتراجع القيم الأصيلة وتطفو القيم الهجينة.‏ ‏ ( هوامش‏

1- نشرت في (البصائر) ابتداء من العدد: 250 سلسلة2، سنة: 6، الصادر في ربيع الثاني 1373هـ (ديسمبر 1952) وانتهاء بالعدد 267، سلسلة سنة: 7، الصادر في 24 شوال 1373هـ (25 جوان 1954 م).‏

وقد تحدث الكاتب مرتين أخريين عن هذه الرحلة في غير هذا السياق، كان حديثه في إحداهما على شكل تغطية صحفية بعنوان: "مصر الشقيقة تحتفل بالكشافة الإسلامية الجزائرية" حيث تحدث عن بعض مظاهر الاستقبال في (مصر) خاصة تلك الحفلة التي أقامها الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي) للوفد. نشر الكاتب هذا في حلقتين من جريدة (البصائر) الأولى في العدد: 240، الصادر في 2 محرم 1373هـ (11 سبتمبر 1952) والثانية في العدد: 241، الصادر في 12 محرم 1373هـ (25 سبتمبر - هكذا أصلا- 1953 م).‏

أما في المرة الثانية فقد كان حديثه مرتبطاً بالمسار العام لرحلة وفد الكشافة فانتهى حديثه هنا في (مصر) وتركز الكلام فيه على الكشافة، ونشر هذا القسم في مجلة الكشافة الجزائرية (الحياة) رقم: 1 من السلسلة الجديدة، عدد مارس - أبريل 1954 م‏

ينبغي أن أنبه هنا إلى اعتمادي في هذا الموضوع بشكل تام على كتابي الاثنين:‏

- اتجاهات الرحالين الجزائريين في الرحلة العربية الحديثة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1995.‏

- الشكل والصورة في الرحلة الجزائرية الحديثة، دار الأمة، الجزائر، 1995 .‏

2- ترقيم الحلقات في (البصائر) بدأ بالحلقة رقم: 1 وأنهي بالحلقة التي أعطيت رقم: 2 بينما عدد الحلقات تسع عشرة لا أكثر، ففي تتبعنا لذلك عثرنا على خطأ الترقيم حيث سها قسم التحرير عن رقم: 15 من الحلقات، فلم يكن له وجود أصلاً، حيث تبعت الحلقة (16) التي نشرت في العدد: 268، الحلقة (14) التي نشرت في العدد: 267، فعدد الحلقات واقعاً إذن تسع عشرة حلقة، وإن رأينا الترقيم في الجريدة ينتهي بحلقة تحمل رقم: 20.‏

3- مع إسقاط الحلقة (15) من الاعتبار لعدم وجودها أصلا كما سبقت الإشارة في الهامش السابق هنا.‏

4- البصائر، سلسلة: 2، سنة 6، عدد: 250، في 5 ربيع الثاني 1373هـ (11 ديسمبر 1953 م).‏

5- البصائر، سلسلة: 2، سنة 6، عدد:252، في 26 ربيع الثاني 1373هـ (جانفي 1954 م).‏

6- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 6، عدد: 253، في 3 جمادى الأولى 1373هـ (8 جانفي 1954 م).‏

7- البصائر، سلسلة: 2، سنة 2، عدد 254، في 10 جمادى الأولى 1373هـ (15 جانفي 1954 م).‏

8- البصائر، سلسلة: 2، سنة 2 عدد 256، في 23 جمادى الأولى 1373هـ (29 جانفي 1954 م).‏

9- البصائر، سلسلة ثانية، عدد: 257، الصادر في 1 جمادى الثانية 1373هـ (فيفري 1954 م).‏

10- البصائر، سلسلة: 2، عدد: 253، الصادر في 2 جمادى الثانية 1373هـ (12 فيفري 1954 م).‏

11- كان على قيد الحياة حين زيارة الكاتب للسعودية، توفي بعد أقل من سنة، عاش نحو ثلاث وسبعين سنة (1880- 1953 م).‏

12- خلف أباه سنة 1953 ، وتنازل لأخيه فيصل سنة 1964 عاش نحو سبع وستين سنة (1902 -1969 م).‏

13- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 6، عدد: 260، في 22 جمادى الثانية 1373هـ (26 فيفري 1954 م).‏

14- البصائر، سلسلة: 2، سنة: عدد: 261، الصادر في 29 جمادى الثانية 1373هـ (5 مارس 1954م).‏

15- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 2، عدد: 262، الصادر في 6 رجب 1373هـ (1373هـ (12 مارس 1954م).‏

16- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 6، عدد: 263، الصادر في 13 رجب 1373هـ ( مارس 1954 م).‏

17- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 6، عدد: 266، الصادر في 6 شعبان 1373هـ (أفريل 1954م).‏

18- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 6، عدد: 267، الصادر في 13 شعبان 1373هـ (16 أفريل 1954 م).‏

19- فيصل بن عبد العزيز آل سعود (1906 -1975) خلف أخاه، اغتيل في ملابسات ربما لا تزال غامضة.‏

20- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 7، عدد: 268، الصادر في 20 شعبان 1373هـ (23أفريل 1954 م).‏

21- البصائر، سلسلة:8، سنة: 271، الصادر في12 رمضان 1373هـ (15ماي 1954 م).‏

22-- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 6، عدد: 273، الصادر في 26 رمضان 1373هـ (28 ماي 1954 م).‏

23- البصائر، سلسلة: 2، سنة: 6، عدد:268 ، في20 شعبان 1373هـ (28 أفريل 1954 م).‏ ‏‏‏‏‏‏‏ ( أبو اليقظان )‏

من أعلام الفكر القومي.. المغمورين‏ ‏‏ بين كوكبه من أعلام الفكر القومي (العربي - الإسلامي) يحتل المفكر الجزائري الشاعر الصحفي (أبو اليقظان) مكانة معتبرة، لنضاله بالكلمة الشجاعة على الجبهة الإعلامية، مقارعا قوى البغي الاستعماري الفرنسي، بمقالاته وبشعره، في صحفه العربية المتلاحقة في صدورها وانتشارها، فلا تكاد تسقط واحدة شهيدة حتى تخلفها أخت لها حاملة الراية نفسها، بالعزم والإصرار الذي لا يلين أمام قمع القوات الاحتلالية، وهي تصادر هذه الصحيفة، وتمنع ثانية، وتخنق ثالثة، وتلاحق ناشرها ذا الصوت القومي والقلم العربي، والموقف النضالي، الذي لا يساوم ولا يهادن، فيثبت في الخندق حتى آخر ما في (الجعبة) من طاقة، وإمكانيات.‏

ولد (إبراهيم أبو اليقظان بن الحاج عيسى) بمدينة (القرارة) في الجنوب الجزائري سنة (1888م) حيث تلقى مبادئه الأولى في التعليم، سافر بعدها إلى (تونس) حيث التحق بجامع (الزيتونة) سنة ( 1912 م) فتولّى رئاسة البعثة الدراسية فيها حتى سنة ( 1925 م) ممارسا الكتابة والنشاط الطالبي، وبعد التاريخ المذكور منذ حين عاد إلى ( الجزائر ) لممارسة العمل والنضال بقلمه ولسانه في الصحافة، فأصدر في هذا المضمار (ثماني جرائد) عربية، خلال ثلاث عشرة سنة ( 1926 - 1939 م) أي منذ عودته حتى إعلان (الحرب العالمية الثانية) وتلك الجرائد هي: (وادي ميزاب)، (ميزاب)، (المغرب)، (النور)، (البستان)، (النبراس)، (الأمة)، (الفرقان) فكان كلما أوقف له الاستعمار واحدة أصدر هو أخرى، نضالاً وتحدياً، وقد توفّر على حسّ صحفي، ربّما بدأ يتكون لديه "منذ صباه، فقد آنس من نفسه ميلالا يقاوم لقراءة الجرائد والمجلات العربية.. ويتابع بنهم.. أخبار الوطن العربي، والتطورات السريعة التي كان يمرّ بها العالم آنئذ" وقد ترك مؤلفات مختلفة، في الفقه والتاريخ والأدب، من أهمها: ديوان شعري في جزأين اثنين.‏

وفي هذا الديوان نفسه تطل على القارئ هموم ( الجزائر ) والوطن العربي، والعالم الإسلامي عبر مختلف أقسام الديوان، هموم معاناة ( الجزائر ) الاحتلال أولاً، والمؤامرات ثانياً: مثل هموم العالم الإسلامي، كما يطل نضال ( الجزائر ) وجهادها في ثورة نوفمبر ( 1954 م) وانتصارها في ( 1962 م) فرأى في ذلك نصرا عربياً عاماً، في (المغرب) مثلما هو انتصار لإرادة الانتماء لحضارة عنوانها (العربية) وروحها (الإسلام) حين كانت ممارسة العقيدة تعاني العنف ويعاني تدريس العربية الملاحقة والتضييق من الاحتلال، كما عانت القيود عليها، دورانا على الألسنة، ومقالات وقصائد في كتب ودوريات، فكانت (لغة العرب) و(القرآن) أولى بتهنئة الشاعر (لأبي اليقظان) في اليوم الرابع من إعلان وقف القتال بين المجاهدين الجزائريين (أي جيش التحرير الوطني) و(الجيش الفرنسي المحتل) حين قال في الثالث والعشرين من شهر ( مارس 1962 م).‏

بجهادنا، بقطوفها الأثمار‏ ‏‏ بشرى لمغربنا فقد دنت‏ ‏ من بعد هذا للقيود قرار‏ ‏‏ بشراك يا لغة العروبة لم يكن‏ ‏ لحقتك منهم بيننا أضرار‏ ‏‏ فلأنت صاحبة البلاد وإن هم‏ ‏ فجر السلامة، وانتهت أكدار‏ ‏‏ فلينطلق ذلك المقيّد إذا بدا‏ ‏ وبهذا الحسّ الوطني الثوري نفسه طعّم (أبو اليقظان) قصيدته الإخوانية إلى : أمير شعراء المغرب العربي (محمد العيد آل خليفة) معلنا ارتباط الهمّ الوطني بالهمّ الشخصي لدى الأدباء الشرفاء الذين يعيشون أفراح أمتهم الكبرى والصغرى معاً وأتراحها، بوجدانهم، وبكل مشاعرهم، فأضاف في شهر (أفريل) من سنة (1962م) مخاطباً الشاعر (محمد العيد):‏

صوت العروبة من ربى الصحراء‏ ‏‏ هيّا بنا يا عندليب لنسمعن‏ ‏ ولواءها، ورسالة الشعراء‏ ‏‏ وتعال نرفع للجزائر ذكرها‏‏

سجّل الشاعر هذه الإرادة والأشواق بروح الفتوة والشباب وهو الذي بات في الرابعة والسبعين من العمر، كله آمال لا تقف أمامها حدود في عزة ( الجزائر ) وتقدم الأمة العربية وازدهارها.‏

غير أن الواقع البشع في حياتنا يطحن الآمال، ويمزّق الأشواق ويدمي القلوب، فتسقط مهيضة، كسيرة نازفة.‏

هو الواقع الذي ما لبث أن لفّ الشاعر فيه صمت كئيب، وتجاهل مريب، وتعتيم حالك بغيض، فسقط مريضاً، مقعداً، حبيس بيته بمدينة (القرار) حيث لقي ربّه في (30 مارس 1973 ) بعد نضال فكري طويل، أسهم به في الحياة الأدبية، بنثره، وبشعره الذي لا يفارقه فيه وطنه، وقضايا مجتمعه، حتى وهو يتحدّث في أموره الشخصية، والإخوانية، فيذكر إبان الاحتلال معاناة وطنه، والآفات التي تفتك بمجتمعه: مادية ومعنوية، كما عكست ذلك مادة ديوانه، بموضوعاتها المختلفة.‏

لقد حمل ديوانه آماله، وهمومه الوطنية والقومية والشخصية، كما صور تجارية وعكس شخصيته بكلّ أبعادها، خصوصاً منها الجانب الإنساني، مثلما عكست مقالاته الصحفية شخصيته الإصلاحية، وجهوده المختلفة، في (الإعلام الوطني) الشعبي أثناء الاحتلال الفرنسي، كما عبّرت عن ميوله القومية والوطنية عناوين جرائده، ومن أهمّها دلالة على ذلك "النبراس" "الأمة" و"الفرقان".‏

فيقدر ما هي صحف وطنية عروبية بلغتها وفكرها، واتجاهها هي إسلامية بقضاياها، وحتى بعناوينها نفسها ذات التعبير الدقيق عن الهوى الإسلامي كجوهر لهواه العروبي.‏

جهد (أبي اليقظان) و(جهاده) بالكلمة يجعله من (أعلام الفكر) القومي، غير أن التعتيم على الرجل أبقاه (مغموراً) بعد (فجر الاستقلال) فلم أعلم أنه حظي بدراسة منصفة لفكره وتراثه، ولا في رسالة (ماجستير) ولا في أطروحة (دكتوراه) كما حظي سواه، ممن قد لا يستحقون ذلك.. فهل في مقدور هذه الكلمة المتواضعة أن تسهم بشيء يسير جداً، في إنصاف الرجل الذي وهب في خدمة أمته العربية، شبابه، وجهده، بالرأي، والكلمة، وانتهى إلى صمت مطبق، كشأن معظم المجاهدين والشهداء الميامين، ويبقى الجزاء الأوفى عند ربّ العالمين، منصف كل العاملين المخلصين الجادين.‏ ‏‏‏‏‏‏ محمد البشير الإبراهيمي‏

(الشيخ المجاهد بلسانه وقلمه)‏ ‏‏ أولاً: آثار الشيخ الإبراهيمي:‏

ليس هناك أحبّ إلى النفس من كلمة حقّ تقال، وموقف وفاء يعلن، يكبر ذلك في حقّ جيل أعطى الكثير لأمته، ولم يأخذ شيئاً ذا بال، بل كان جزاؤه الصّدود، والتناسي، حتى صارت في هذه السنوات الأخيرة تمرّ الذكريات الخاصة بوفاة بعض أعلامنا الفكرية في صمت مطبق، في حضور ضجيج حزبي، وانتهازية سياسية وإعلامية، ومن بين هؤلاء: المفكر والأديب والمصلح الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي 1889- 1965 م) وإن كان الشيخ غنيا عن التعريف بالنسبة لجيله ولاحقه، ولبعض الباحثين والمثقفين، فهو يكاد يكون مجهولاً بالنسبة لأغلبية من قراء العربية في الوطن العربي.‏

لقد ولد الشيخ (الإبراهيمي) سنة 1889 في قبيلة (أولاد إبراهيم) بولاية (سطيف) وانتقل إلى (الحجاز) فأقام مع والده في المدينة المنوّرة، ثم انتقل إلى دمشق ( 1916 ) وعاد إلى ( الجزائر ) في ( 1920 ) حيث استقرّ وأسهم في الحركة الإصلاحية، وكان نائبا لرئيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) (عبد الحميد بن باديس) حين تأسست في ( 1931 ) ورئيساً لها بعده حتى ( 1952 ) ثم انتقل إلى ( القاهرة ) في رحلة، سنة ( 1952 ) ليزور عدّة أقطار عربية وإسلامية، حتى اندلعت ثورة التحرير الجزائرية ( نوفمبر 1954 ) فأقام في القاهرة مؤازرا للثورة، وبعد الاستقلال سنة ( 1962 ) عاد إلى ( الجزائر ) حيث اندلع الخلاف بينه وبين النظام الذي لاحظ فيه الشيخ انحرافا على الإسلام في نهجه السياسي والاجتماعي حتى كانت وفاته في (19 ماي 1965 ) مخلّفاً وراءه عدة آثار.. وبعض الأثر الأدبي والفكري.‏

للشيخ إنجازات معتبرة في الحركة الإصلاحية منذ العشرينيات إذن في هذا القرن: خطيبا، واعظا، وكاتبا، وربّما كان الأثر الأكثر اتساعاً ورسوخاً بكتاباته في (الشهاب) جريدة أولا، ومجلة ثانيا، و(البصائر) في سلسلتيها، خصوصاً افتتاحياته في هذه الجريدة الأخيرة التي جمعها في كتاب (عيون البصائر) الذي صدر أول مرّة في القاهرة سنة 1963 بإشرافه في دار (المعارف) بالقاهرة، فحوى هذا الكتاب مقالاته التي كانت (افتتاحيات) في السلسلة الثانية من (البصائر)، بين سنوات ( 1947 ) و( 1953 ) وأعيد طبعه مرتين اثنتين في ( الجزائر ) بعد وفاته واعتبر جزءاً ثانياً، أما الجزء الأول فقد كان بداية الجهد الذي شرع يبذله بعض تلامذته وأصدقائه بعد وفاته بمساعدة ابنه (د. أحمد)، من أجل جمع آثاره الفكرية والأدبية ونشرها‏

هذا الجزء الأول صدر عن (المؤسسة الوطنية للكتاب) في (الجزائر) سنة (1398هـ / 1978 م) وهو يشتمل على ما كتبه بعد عودته الأولى من المشرق العربي ابتداء من منتصف العشرينيات، فضمّ خطباً ومحاضرات إلى جانب ما نشره في (الشهاب) و(البصائر) في سلسلتها الأولى، أما الجزء الثالث فقد صدر سنة ( 1982 م) عن نفس الدار، بينما صدر الجزء الرابع سنة ( 1985 ) فضمّ الثالث ما نشره في (البصائر) خصوصاً، ممّا لم يتضمّنه الجزء الثاني، أما الجزء الرابع فمعظم مادته سبق نشرها خارج ( الجزائر ) في الصحافة العربية: جرائد ومجلات، مثل (الأخوة الإسلامية)، (المسلمون)، (المنهل)، (منبر الشرق)، (الإرشاد)، (الأهرام).‏

وبعد صمت بلغ عشر سنوات صدر كتاب جديد للشيخ عن (دار الأمة) ذات التوّجّه القومي، بعنوان: (في قلب المعركة 1954 - 1964 ) ضمّ كتابات (الإبراهيمي) في قضايا ساخنة، سواء أثناء الثورة التحريرية أو بعد الاستقلال، منها ما نشر سابقاً، ومنها ما لم ينشر، حتى كانت الفرصة في هذا الكتاب. وقد أشرف على جمع المادة في هذه المرة ابنه (د. أحمد طالب الإبراهيمي) الوزير السابق في عهد كلّ من (هواري بومدين) و(الشاذلي بن جديد) وزيرا للتربية، والإعلام والثقافة، والخارجية.‏

والكتابة إضافة جديدة جادّة في المكتبة العربية ومنها الجزائرية، ليس بأسلوبه المتميز دائماً فحسب، وإنما بمادته، وبما تقدّمه هذه المادة من حقائق موثقة، كانت مجهولة أو غامضة بالنسبة للبعض، من بينها دور (جمعية العلماء) في الثورة التحريرية ( 1954 - 1962 م).‏

وقام بكتابة تصدير للكتاب الأستاذ الجامعي الباحث المؤرخ الدكتور أبو القاسم سعد الله، الذي قال في تصديره عن مادة الكتاب، إنها "وثائق حول الثورة من بيانات وبرقيات وتصريحات وخطب وأحاديث ونداءات حررّها أو ألقاها باسم جمعية العلماء وجبهة التحرير الوطني، وإذا شئت باسم الشعب الجزائري بين 1954 - 1964 ".‏

كما ذكر صاحب التصدير في المناسبة بطبعة بيان (أول نوفمبر 1954 ) الذي أعلن الثورة، حيث يلاحظ غيابا "لمبادئ" جمعية العلماء التي رسمتها الجزائر ماضيا ومستقبلاً، كما يلاحظ أن البيان لا يجيب على بعض النقاط بوضوح كالهوية والإسلام والعروبة، وأنه ليس ميثاقاً أو عريضة مرجعية ذات فلسفة وتصورات حضارية، وإنما هو وثيقة سياسية صحفية"(1) كتبت على عجل، ليس من اليسير أن يبادر فورا أمثال (الإبراهيمي) لتبنّيها، وهو كلام ينبّه إلى ما يردّد عن تقاعس ينسب للجمعية التي لم تبادر بإعلان الانضمام إلى الثورة المسلحة حين اندلعت (فجر 1نوفمبر 1954م).‏

وهذا جانب من التهمة التي يحاول التيار اليساري بالخصوص إلصاقها بجمعية العلماء، وفي قيادة هذا التيار ما كان يسمى بالحزب الشيوعي الجزائري قبل الثورة، وخرج في جبة جديدة بعد: ( 1989 ) تحت أسماء مختلفة.‏

ومن هنا تأتي الأهمية الكبيرة لهذه الوثائق التي تضمنّها الكتاب، بما فيها من أفكار وآراء ومواقف وقضايا، وتوقيعات لشخصيات سياسية في قيادة الثورة بالخارج، وفي مقدمتهم (أحمد بن بلة) و(الورتلاني) و(خيضر) و(آيت أحمد) وغيرهم.‏

والكتاب حافل بمقالات ومحاضرات وبيانات وخطب وسواها، بعضها أفكار ملتهبة عن احتدام الصراع الحضاري بين (فرنسا) و( الجزائر ) على مستوى الفكر وبعضها مواقف في المواجهة المسلحة التي خاضها المجاهدون الجزائريون في وجه الغزاة الفرنسيين، وبعضها الآخر عن مشاكل ذات علاقة بالفعل الاستعماري خلال قرن واثنتين وثلاثين سنة، ومنها ما هو ذو طابع حضاري بوجهه القومي في مثل موضوع "مشكلة العروبة في الجزائر" وهو الموضوع الذي لا تزال له حيويته عربياً عموماً وجزائرياً خصوصاً، وفيه يقول (الإبراهيمي):

"أما الأمم الجارية مع الحياة فإنها تحلّ مشكلاتها القديمة لتتفرغ للمشكلات الجديدة، ومن سلك هذا السبيل لم يبق له مشكلة، لأن المشكلات إذا وجدت العقول متهيأة لحلها قادرة عليه متفرغة له لم تعد مشكلة، وما صيّر قضايا العرب مشكلات إلا العرب وعقول العرب، فهم فيها بين حالات ثلاث إما أن يسكتوا فتبقى إشكالاً، وإما أن يعتمدوا في حلّها على غيرهم فيزيدها تعقيداً أو يحلّها لصالحه لا لصالحهم، وإما أنّ يعالجوها بأنفسهم ولكن بنيات مدخولة وضمائر مريضة وعقول ناقصة وغايات متباينة وإرادات مستبعدة ومقاصد تافهة، فلا يكون العلاج علاجاً، وإنما يكون بلاء مضاعفا"(2) ثم يضيف بعد هذا بقليل "والعروبة لغة: غمرتها الرطانات الأعجمية واللهجات العامية، واللغات الأجنبية، والرطانات الأعجمية أخذت منها ثم تعالت عنها، واللهجات العامية مزّقتها، وأصبحت حجّة عليها ومداخل ضيم لها، واللغات الأجنبية زاحمتها في ضعفاء الهمم والعزائم من أبنائها، وهذه كلها مشكلات ذات أثر سيء وعميق في المجتمع العربي".‏

وإن كبرت مشكلات العروبة، فهي في ( الجزائر ) صغيرة، كما كان ينظر إليها الرجل، من دون أن يلغي إحساسه بقوى تجعل من العروبة انتماء: مشكلة وعقدة لدى بعض، تنجب مشكلة أخرى، خصوصاً في ( الجزائر ).‏

أما على المستوى السياسي فإن بيانات (الإبراهيمي) و(الورتلاني) في إعلان المؤازرة للثورة (54-62) باسم (جمعية العلماء) واضحة، تتصدّر صفحات الكتاب، وهي بيانات تنطلق ابتداء من (الثاني نوفمبر 1954 ) نشرتها صحف وبثّتها إذاعات، كلها تبارك الثورة المسلحة التي انطلقت في وجه الاستعمار الفرنسي بالجزائر في الفاتح من نوفمبر ( 1954 ).‏

جاء ذلك عموماً بأسلوب (الإبراهيمي) بعربيته المتينة الغنية، المركّزة كواحد من أمراء البيان في النثر العربي، ويتجسّد ذلك في أكثر من موقع بهذا الكتاب نفسه، في مثل مقالته (حرية الأديب) وتدخّله في (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة يخاطب زملاء في المجمع - الذي كان عضواً فيه: "أيها الأخوة الكرام: حيّاكم الله وبيّاكم، وأدامكم وأحياكم، وأبقاكم للعروبة تصونون عرضها، وتستردّون قرضها، وللغة العرب تجمعون شتاتها وتحيون مواتها، وترعون على تجهّم الأحداث وسفه الورّاث متاتها، ولهذا المجمع تعلون بنيانه وترفعون على العمل النافع أركانه"(3).‏

كتاب (في قلب المعركة) إضاءة جديدة لجوانب في فكر (الإبراهيمي) ومواقف (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) ودورها في ثورة التحرير، كما يتوفّر على عناصر ذات أهمية كبيرة في كتابة تاريخ الثورة الجزائرية، الموضوع الذي لا يزال وسيبقى جديراً بالبحث والتقصي والتأمل والفرز والتقييم.‏

وإني لعلى يقين تام أن فكر الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي) القومي: مؤثرات وآثارا، منطلقات ومقاصد: لا يزال في انتظار جهد كبير، لكن من باحث متأن في إنجاز جامعي (أكاديمي) ينير تلك الجوانب: من واقع حياة الرجل وآثاره التي نتمنّى ألا يتأخّر باقيها عن النشر، مهما قلّت مادتها، وضعف شأنها العام: تاريخيا، وفكرياً وفنياً، تيسيرا على الباحثين، ثم إنصافاً للرجل ولرعيله - في زمن قلّ الإنصاف فيه وكبر الحجود- وإنصافاً لمرحلة تاريخية من نضال (الجزائر) القومي، وجهادها دفاعاً عن هويتها وانتمائها الحضاري، وقوفاً بإباء في وجه المسخ الأوروبي، ومحاولاته الشرسة للهيمنة: لغة وفكراً وقيما.‏

ثانياً: الرأي ومسؤولية الكلمة لدى (الإبراهيمي)‏

الكلمة الصادقة ضرب من ممارسة الفعل الناقد في (القلوب) وفي (العقول) فوقع قطرة حبر صادقة أشدّ فتكا، بالأعداء من طلقة رصاص، فالقلم من هذه الزاوية (كتائب) متراصة هادرة: وقليل هو حامله: اقتناعاً بالمهمة وصدقاً في القول، وطهرا في النيات..

المبرأة من الأهواء الظرفية، أهواء الذات، والطمع الرخيص كحال زمننا هذا الذي نشهد فيه (ركام) الأقلام (المغلولة) الفاسدة الأداء، أين هي من تلك الأقلام الرائدة المفعمة، عزماً.. وصدقا.. وإيمانا.. وحبا؟

فهل لي أن أبحث عن (قلم) من تلك الأقلام (المجاهدة) أقدمه صورة من صور (الجهاد) بالكلمة؟ في زمن غدا (الجبن) سمته الغالبة، والخنوع طابعه، و(التملق) دربه، فإن غفرنا لأحد هذه في سلوكه اليومي المحدود، فلن نغفره لمن يمسك (القلم) فهكذا علّمنا رجال بواسل من الرعيل الرائد في نهضتنا الحديثة، فهل أتأخّر في إعلان (قلم) الإبراهيمي من تلك الأقلام الفذة، لكن ما أقلها، وما أحبّها إلى النفس في الوقت ذاته، وهو الذي تشبّع منذ شبابه بالفكر القومي الوحدوي، وبالروح الإسلامية، مما عكسه قلمه الذي صال بمسؤولية كاملة، وعناد وطني شرس، لمحاربة الاستعمار وأذنابه، في الصحافة العربية، خصوصاً منها جريدة (البصائر) بالجزائر، وبشكل أخصّ في سلسلتها الثانية بعد الحرب العالمية (من: 1947 حتى 1956 ) التي كانت افتتاحياتها بقلمه حتى سنة (1952م) بجرأة وقوة لتشخيص الأدوار بحثاً عن سبل استئصالها، فباتت لقلمه نكهة خاصة من بين سائر الأقلام الوطنية القومية في (الجزائر) وفي (الوطن العربي) عموماً لتميّز نثره الذي يعتبر من غرر النثر العربي الحديث بقلم جاد قوي، سيال، انطلق من هموم وطنية محلية، ليعمّم المعالجة لما تعانيه أمة العرب والإسلام، من مكائد ومؤامرات، كقضية (فلسطين) التي حذّر مما ينتظرها من مآل قبل الاحتلال الإسرائيلي، حتى صار هذا الاحتلال واقعا، بل دولة عربيدة.. طاغية تهدّد من حولها، وما حولها.‏

في وطنه ( الجزائر ) صارع الاحتلال: سياسياً، ودينيا، وثقافياً، دفاعاً عن ( الجزائر ) وطنا، وهوية، فكان نائباً لرئيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) الشيخ (ابن باديس) ثم رئيساً لها بعد وفاة (ابن باديس) سنة ( 1940 ) مسخّرا هذا القلم للدفاع عن ( الجزائر ) ودينها، ولغتها (العربية) التي كانت تلقى التشويه، والتعتيم، والعمل لتهميشها والتشكيك فيها لغة لجزائريين حرصاً على (التمكين) للفرنسية، تحت جناح (البربرية) فكتب سنة ( 1941 ) في جريدة (البصائر) مقالة بعنوان: "اللغة العربية في الجزائر : عقيلة حرة ليس لها ضرّة" قال في مقدمتها:‏

"اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل، ممتدة مع الماضي، لأنها دخلت هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين، ترحل برحيلهم، وتقيم بإقامتهم، فلما أقام الإسلام بهذا الشمال الإفريقي إقامة الأبد وضرب بجرانه فيه أقامت معه العربية لا تريم ولا تبرح، ما دام الإسلام مقيماً لا يتزحزح، ومن ذلك الحين بدأت تتغلغل في النفوس، وتنساغ في الألسنة واللهوات، وتنساب بين الشفاه والأفواه، يزيدها طيباً وعذوبة أن القرآن بها يتلى، وأن الصلوات بها تبدأ وتختم، فما مضى عليها جيل أو جيلان حتى اتسعت دائرتها وخالطت الحواس والشواعر، وجاوزت الإبانة عن الدين إلى الإبانة عن الدنيا، فأصبحت لغة دين ودنيا معاً، وجاء دور القلم والتدوين فدونّت بها علوم الإسلام وآدابه، وفلسفته وروحانيته، وعرف البربر على طريقها ما لم يكونوا يعرفون، وسعت إليها حكمة يونان تستجديها البيان وتستعديها على الزمان، فأجدت وأعدت، وطار إلى البربر منها قبس لم تكن لتطيره لغة الرومان.. وسلطت سحرها على النفوس البربرية فأحالتها عربية، كل ذلك باختيار لا أثر فيه للجبر، واقتناع لا يد فيه للقهر، وديمقراطية لا شبح فيها للاستعمار، وكذب وفجر كل من يسمي الفتح الإسلامي استعمارا، وإنما هو راحة من الهمّ الناصب، ورحمة من العذاب الواصب، وإنصاف للبربر من الجور الروماني البغيض"(4).‏

وبقدر ما شغل هذا القلم بالجهاد في صراع ( الجزائر ) مع محتلها (الفرنسي) الحريص على (إلغاء) لغتها، ومحاربة دينها، اهتم بالقضايا القومية الكبرى في شؤون العرب والمسلمين، مستغلاً شتى المناسبات التاريخية والدينية، لما لها من وقع في النفوس، وفي مقدمتها مناسبات (رمضان) و(المولد النبوي) و(العيدين) محفّزا الهمم للعمل بما يأمر به دينها من محاربة المستعمر الظالم، ففي سنة (1947 م) كتب في جريدة (البصائر) بالجزائر بمناسبة (عيد الأضحى) قائلاً في ختام مقالته: "أما والله لو ملكت النطق يا عيد لأقسمت بما عظّم الله من حرماتك، وبما كانت تقسم به العرب من الدماء المراقة في أيامك ومناسكك، ولقلت لهذه الجموع المهيضة الهضيمة من أتباع محمد، يا قوم: ما أخلف العيد، وما أخلفت من ربكم المواعيد. ولكنكم أخلفتم، وأسلفتم الشرّ فجزيتم بما أسلفتم.. فلو أنكم آمنتم بالله حقّ الإيمان، وعملتم الصالحات التي جاء بها القرآن، ومنها جمع الكلمة، وإعداد القوّة، ومحو التنازع من بينكم لأنجز الله لكم وعده، وجعلكم خلائف الأرض، ولكنكم تنازعتم ففشلتم وذهبت ريحكم، وما ظلمكم الله، ولكن ظلمتم أنفسكم. أيها المسلمون: عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم، لا تظنوا أن الدعاء وحده يردّ الاعتداء، إن مادة (دعا يدعو) لا تنسخ مادة (عدا يعدو) وإنما ينسخها (أعدّ يعدّ) و(استعدّ يستعدّ) فأعدّوا واستعدوا تزدهر أعيادكم، وتظهر أمجادكم"(5).‏

ولا تزال هذه الكلمات في حاجة إلى أن تبلغ الأفئدة والعقول بعد أكثر من نصف قرن، والمسلمون على حالهم من (التباغض) و(التدابر).‏

هذا الهاجس بقي في ذهن (الإبراهيمي) بعد اندلاع الثورة المسلحة في ( الجزائر) فقال في الخامس من (جوان 1955) من إذاعة (صوت العرب) بالقاهرة مخاطباً العيد: كأنك يا عيد تقول لنا: "لو أحسنا الإصغاء: لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً، ولا خيراً ولا شراً، ولا أسوق إليكم نحساً ولا سعدا، ولا برقاً ولا رعداً، فأصلحوا أنفسكم واتقوا ربّكم، واعملوا صالحاً، واجمعوا كلمتكم، وصحّحوا عقائدكم وعزائمكم، وتحابوا في الله، وتآخوا على الحق، وتعاونوا على البر والتقوى.. ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب ريحكم".‏

همّ ( الجزائر ) خصوصاً، وهمّ (العرب) عموماً، وهمّ (المسلمين) بشكل أعمّ كان محط اهتمام الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي) وميدان قلمه الذي أبلى البلاء الحسن، فكان هذا النضال القلمي: اجتماعياً ودينياً، وسياسياً، صورة من صور الجهاد بالكلمة الحية، القوية الصادقة، يعضدها إيمان الرجل بربّه، وحبه وطنه، وثقته في أمته، فالرحمة عليه في كل ذكرى تمرّ بعد وفات‏ ( هوامش‏

1- محمد البشير الإبراهيمي، في قلب المعركة، ص:7، دار الأمة، الجزائر، 1995.‏

2- المصدر نفسه، ص102.‏

3- المصدر نفسه، ص:230.‏

4- محمد البشير الإبراهيمي، عيون البصائر، ط:2، ص221 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1971.‏

5- المصدر نفسه، ص:529-531.‏‏‏‏‏‏‏ ابن عمر..‏

هذا المسلم العربي الجزائري (الأمازيغي)‏ ‏‏ هذا رجل أديب، عالم دين، مفكر مصلح، ممن يسمّون (بربرا) أو (أمازيغ) لكنه أكثر اهتماماً بعروبته وأقوى تشبثاً بإسلامه الذي خلّص البشرية أو بعضها من الوثنية، هو الشيخ (ابا عزيز بن عمر).‏

أجيز لنفسي عنونة هذا الموضوع عن الأديب المفكر المصلح (ابا عزيز بن عمر) بهذه الصفات الأربع (المسلم، العربي، الجزائري، الأمازيغي) وهي عناصر لم يكن قدرها التنافر، بل تكاملت لديه -كسائر الشرفاء من طاهري القلوب والعقول في شعوره وتفكيره وتعبيره، كواحد من أقطاب الحركة الصحفية والفكرية والإصلاحية في (الجزائر) أثناء القرن العشرين في نشاطه العام، أو في صفوف (جمعية العلماء المسلمين) بعضويته فيها.‏

أقدّم بهذا إذن للحديث عن شخصية الشيخ (باعزيز بن عمر) رحمه الله ( 1906 -1977 م) الأديب المفكر الإصلاحي، ربّما المقل، لكنه الجيد في تفكيره وتعبيره وأسلوبه.‏

اخترته -عامدا- لأمرين جوهريين: أولا، لهذا الصمت المطبق عن رجل أعطى الوطن حبّه وإخلاصه، شملا أمته الكبرى في وطن العروبة والإسلام، ووراء هذا الصمت مؤامرة قوى العمالة في الدرجة الأولى، ركيزتها المثلث الشيطاني (اللائكي- البربري- الفرانكوفوني) رغم أنه ثلاثي يكرع في نبع واحد، هو ثدي الأم الحاضنة لأيتام أو منبوذين، هي (فرنسا الاستعمارية) أما الأمر الثاني فالرجل من منطقة (القبائل) التي تحاول جاهدة قوى العمالة تلك باستماتة تامة أن تجرّها إلى حمأة المسخ الحضاري، تجسيداً وتتميما لما شرعت فيه فيالق (التبشير) النّصراني، حين تكوّنت للغرض فرق من (الآباء البيض) مدججة بالفكر الاستعماري الصليبي وماله وسياسته، منذ أكثر من قرن ونصف، فبقى (ابن عمر) في (المنطقة) من بين رجال أفذاذ رفضوا المؤامرة كما تنبّه إلى أبعادها المختلفة سواهم، ووقفوا بحزم في صفّ أمتهم متموقعين في خندق الفكر، سلاحهم: إيمان حي، وقلم نابض، وفكر متّقد، ورأي صريح واضح.‏

وقد كان الرجل يوقّع بعض مقالاته باسم (الفتى الزواوي) ليعلن - من قلب نظيف- أن منطقة (زواوة) أي (القبائل) ينبغي ألا تنحاز لغير مجالها الحضاري (العربي - الإسلامي). وللرجل خلفية في ذلك من آثار رجال فكر وعلم وأدب سابقين خدموا العربية والإسلام، أمام هجوم الأعداء، من آخرهم: (أبو يعلى الزواوي: 1862-1952 م) و(طاهر الجزائري: 1852-1920 م) الذي صار ثالث ثلاثة في نهضتنا العربية الإسلامية الحديثة، بعد (جمال الدين الأفغاني) و(محمد عبده) فخدم العرب والمسلمين، وعمل للتمكين للغة العربية في العلوم المعاصرة خصوصاً في (سورية) عاملاً لرقي الأمة العربية، وبناء دولتها القوية التي كانت أمنيته الأولى، قبل وفاته، رافضاً في الوقت نفسه الفكر الشعوبي البغيض(1).‏

وهو النهج الذي لم يبتعد عنه أديبنا المفكّر (باعزيز بن عمر) طموحاً إلى بناء دولة عربية قوية، وسيادة دينها الإسلامي: دستور حياة وعزّة ومجد.‏

إلى هنا في مقدمة -ربّما طالت- لم أقل من هو (ابن عمر) وهي المرحلة التي تفرض عليّ إذن أن أقدم الرجل باختصار شديد، فهو (عبد العزيز بازي ) الاسم الإداري في (مصالح الحالة المدنية) للسيد (باعزيز بن عمر) في قرية (آيت حماد) بولاية (تيزي وزو) دائرة (أزفون). ولد في (10/2/ 1906 م) درس على يد والده وفي زاوية (عبد الرحمن اليلولي) في (القبائل) كما درس على (ابن باديس) في (قسنطينة) وفي (الزيتونة) بمدينة (تونس) لفترة وجيزة غير أن تكوينه العام في علوم العربية والدّين نهض على روح عصامية، شقّ بها طريقه ومكنته من الإسهام في الجهود التعليمية والإصلاحية والفكرية، كمعلم في (مدرسة الشبيبة الإسلامية) لجمعية العلماء بمدينة (الجزائر) مع (محمد العيد آل خليفة) وكعضو في الجمعية، وكاتب لامع خصوصاً في (الشهاب) و(البصائر) ولقي ربّه يوم (6/5/ 1977 ) مدثّرا بالتجاهل والتناسي كسائر أولئك الذين لا معسكر أيديولوجيا لهم خارج معسكر (الجزائر) الحضارية. فكان.. كما مات.. خندقه الوحيد ( الجزائر ) مثلما أيديولوجيته الوحيدة مجالها الحضاري الطبيعي، بروح متفتحة: ترفض التقوقع، كما ترفض التمذهب الرخيص وهو ما عكسته مختلف كتاباته الفكرية والصحفية.(2).‏

كتب في السياسة، والإصلاح الاجتماعي، كما كتب في الأخلاق والتاريخ والأدب، بحسّ المفكّر الأديب الفنان كثيرا.‏

وقد كتب في هذه الموضوعات عشرات المقالات المختلفة تارة باسمه الذي عرف به أدبيا (باعزيز بن عمر) وتارة باسم (الفتى الزواوي) فنقرأ له في السياسة مثلاً (قضية الجزائر على حالها) في (البصائر سلسلة: 2، ع: 6-1947" و"على هامش الانتخابات الجزائرية" في (البصائر، س:2، ع 252، جانفي 1954 ) و(الاتحاد الفرنسي في مهبّ الريح) (البصائر، س: 2، ع: 245، أكتوبر 1954 ) وغيرها كمقاله المركز عن "المؤتمر الإسلامي الجزائري العام" في مجلة (الشهاب، ج: 4، م:12، جويلية 1936 م).‏

وتعدّدت موضوعاته في الأخلاق والتاريخ والإصلاح الاجتماعي، منها "دفع شبهة في تعليل ظاهرة نموّ النسل في الجزائر " في (البصائر، س:2، ع: 251-17/12/ 1953 ) وقد فتح له ركناً في (البصائر) بعنوان (في مجتمعنا الجديد) عالج فيه قضايا اجتماعية مختلفة، مثل (المرأة والعمل خارج البيت) في العدد: (296/ 10-12- 1954 ) و"آفة البطالة" في (ع: 297/ 17-12- 1954 ) و"الضمان الاجتماعي.. والأمومة" في (ع: 311- 25/3/ 1955 م).‏

إلى أخر ما هنالك من قضايا، من عمق انشغالات ( الجزائر ) و(الجزائريين) فكان (ابن عمر) نغما متميزا في التعبير عن هموم ( الجزائر) واهتمامات أبنائها)، ومنهم أبناء منطقته التي تعتزّ بنسبته إليها (الزواوي) وهي التي كان رجالها الأفذاذ في العمق الأصيل يعلنون ولاءهم لمجالهم الحضاري باستماتة تامة رفضاً لما يريده الاستعمار بالمنطقة في سياسته الجهنمية المحبكة، كما عكست ذلك تلك العريضة التي نشرتها (البصائر) تحت عنوان: (زواوة الكبرى تستمسك بعروبة الإسلام الوثقى وتطلب الرجوع إلى الأصل) في العدد (59) من سلسلتها الثانية، يوم 6/12/ 1948 وقد وجهها رجال زواوة عبر الجريدة مطالبين بإلغاء القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية في (زواوة) فمهد لها (البشير الإبراهيمي) بقوله عنها: "تلك القوانين التي تستند على العوائد والأعراف لا على أحكام الشريعة الإسلامية المطهّرة، ويطلبون الرجوع إلى الأصل، وهو أحكام الشرع الإسلامي.. والحكم بالعوائد مطلب عزيز من مطالب الاستعمار الفرنسي، زرع بذوره في أرض زواوة وتعهّدها بالسقي والعلاج، وقوّاها بتقوية مراكز التبشير وإطلاق يد المبشّرين، وظن أنها استغلظت واستوت على سوقها واطمأنت إليها النفوس، فجاءت هذه العريضة مجتثة لما غرس من أصله، وأقامت الدليل للمغرورين بالظواهر على أن زواوة معقل من معاقل الإسلام والعروبة.. إن الغاية التي يرمي إليها الاستعمار من تمكين العوائد وجعلها أساساً للأحكام هو إبعاد طوائف من المسلمين عن الإسلام بالتدريج حتى تضعف فيهم النعرة الدينية وعاطفة التآخي الإسلامي، وتصير الأمة الواحدة أمتين أو أمماً"(3).‏

الحرص على التموقع في محيط حضاري مغزوّ يواجه فكرا حضارياً غازياً جعل (ابن عمر) في كتاباته الأدبية نفسها يصرّ على الصلة المتينة بين المشرق العربي ومغربه، كما نرى في مقال له بمجلة الشهاب (ج:5-م:11، أوت 1935) بعنوان: "اشتغالنا بالشرق أنسانا أنفسنا" قال في مقدمته: "إن علاقتنا بالشرق والشرقيين علاقة متينة قوية، تزداد على مرّ الأيام متانة وقوّة، تغذيها عدّة روابط روحية من دينية ولغوية وأدبية نشعر بها كلها، شعورا لولاه لضاق بنا العيش، ولذهبت النفوس حسرات.. ولكن لا يسرّنا بحال أن ينسينا هذا الشعور أنفسنا أننا من قوافل الحياة.. فلا نكتب إذا كتبوا ولا نؤلف إذا ألفوا..".‏

كما كتب في المجلة السابق ذكرها نفسها (ج:2- م: 12، ماي 1936) مقالاً بعنوان: "العروبة" قال فيه: العروبة "كلمة تخفق بها اليوم قلوب الملايين من الناطقين بالضاد على نحو جديد من الشعور القومي الفياض، كشفت عنه الأيام المتداولة، ونمته الأحداث الشداد التي أحدثت بالأمة العربية الكريمة من جهات مختلفة، فنالت من عزّتها القومية وطمست على كثير من سجاياها الحسنة وأخلاقها السامية، فتمزّق إهاب اتحادها وترامت عليه الذئاب تنهشه.. فالعروبة حيّة فينا، ونحن أحياء فيها ما دامت السماوات والأرض.. وحي العروبة العام... يهزّ اليوم أوتار قلوب أبنائها ويحرّك ما كان كامناً من القوى المعنوية في نفوس أحفاد أنصارها الذين تجمعهم اليوم آمال واسعة قوية يتخطون إليها الوعور الكثيرة، ويسعون في سبيل تحقيقها بإيمان ثابت، وعزائم صادقة، وهمم عالية، يحدوها صوت العروبة ويغذّيها الإسلام بتوجيهه السامي، وتعاليمه القويمة".‏

وكثيراً ما تألق فكر الرجل في مثل هذه الموضوعات، وسما خياله، وهو يصف روح التآزر والنضال، وأشواق الوحدة والحبّ، مثلما يدّق وصفه وهو يعالج قضايا أو يصوّر مواقف، ومناظر، كما نرى في قطعة أدبية له بعنوان: "عظمة جبال زواوة وجمالها الطبيعي" نشرها في (الشهاب، ج: 12- م: 11، مارس 1936) فصوّر إحساسه في الموقف معرّضاً بالانهزاميين وأمثالهم، مدبرين عن صوت التاريخ والحضارة في العمق "كل شيء جميل وساحر وبهيّ ومعجز لهذه القوى الأرضية فوقك يا جبال الزواوة، ففيك رمز العلوّ لمن يريد أن يعتلي ورمز القوة لمن يتطلب القوة، ورمز الخلود لمن يبغي الخلود..‏

علّمينا يا جبال - علّمينا كيف نثبت في السراء والضّراء ثباتك ونغضب للحق والكرامة غضبك حتى نطاول معك سماءك العافية ونستضيء بنجومها الساطعة، فنحسّ إذ ذاك ببعض اللذّة والابتهاج، ونعرف ما هو الجمال والجلال والسمو، وندرك الفرق بين الظلام والنور..‏

وما أبدع مناظرك الطبيعية المتلألئة في تعاريج هندسية هام بها شيوخنا الأقدمون فكانوا يبكّرون إليك في الأسحار.. ذاك هو موقف من مضوا من رجال الصلاح والإصلاح حقاً بجبال زواوة، أما من يمتّون إليهم اليوم بنسب فقد طغت المادة.. عليهم، فلم يسيروا في طريقهم، ولم ينهجوا منهجهم في ثنايا هذه الجبال ووعورها، فخلت قلوبهم.‏

عودوا أيها المدّعون إلى ضمائركم وحققوا نسبتكم إليهم بالعمل والسير في طريقهم، واعلموا أنكم الآن ذكر خامل وشمل ممزّق ونفوس لا تستفزّها إلا الشهوات المتبعة وراء المغانم والمكاسب الخصوصية. فاشهدي أيتها الجبال أن هؤلاء قد طمسوا طريق أجدادهم إليك، وسجّلي عليهم أنهم ما أحيوا سنة ولا أماتوا بدعة وأنهم ليسوا أهلاً لاستنشاق هوائك، وإرواء غلّتهم بمائك، ما داموا لم يعملوا في مستقبل الأيام على وقاية الجدود العواثر، وإحياء المآثر".‏

عاش الرجل مجاهداً بعلمه وفكره وأدبه، مهموماً بقضايا وطنه وأمته الكبرى، ثمّ مات في صمت قانعاً برضى الضمير، مثل مئات غيره، بعدما انطلق الناهبون من الداخل ينهشون الوطن، ويبتزونه، ويعبثون بتاريخه، ويستغلون كلّ شيء فيه.‏

تبقى ملاحظة أرى من واجبي أن أعلنها قبل أن أضع نقطة النهاية هنا: وهي مسؤولية أقاربه - خصوصاً- في جمع تراثه، ونشره مبوباً، إنصافاً له، وإثراء لمادة الحركة الثقافية والأدبية في فترة صعبة من تاريخنا الجزائري العربي الإسلامي الحديث.‏

( هوامش‏

1- د. عمر بن قينة، صوت الجزائر في الفكر العربي الحديث، ص: 83-91، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1993 .‏

2- انظر المرجع السابق، ص325-340‏

3- محمد البشير الإبراهيمي، آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج:3- ص: 145- الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981 .‏ ‏‏‏‏‏‏‏ الشاعر العربي محمد العيد آل خليفة‏

(والمرأة رمزاً وموقفاً)‏‏‏

الشاعر العربي:‏

هذا النغم الشعري (الإسلامي العروبي المغاربي) الذي أختاره للحديث اليوم بمناسبة ذكرى وفاته (العشرين): بكّر في العصر الحديث لحمل الهمّ (المغاربي العربي، الإسلامي) فضلاً عن همّه الشخصي القاسم ظهره منذ فجر شبابه، وهو في العشرين، حين شرع يمارس (مسؤولية الكلمة): تحريراً وقولاً، مقروناً بالفعل النضالي النهضوي في المؤسسة التعليمية...‏

هو الشاعرالجزائري، محمد العيد آل خليفة ( 1904 - 1979 م)، الذي كان شعره في ( الجزائر ) خصوصاً، وفي (المغرب العربي) عموماً، صوت العروبة و الإسلام.. في مقارعة المحتل الأوروبي الفرنسي النصراني، فحمل لذلك أكثر من لقب واحد، منها "شاعر الشباب".. في فترة مبكّرة، و"أمير شعراء الجزائر"، و"شاعر المغرب العربي"، و"رائد الشعر الحديث"، في الجزائر خصوصاً، وفي (المغرب العربي عموماً).. لأن شعره كما حكم عليه أمير البيان المغاربي (محمد البشير الإبراهيمي)، هو: "أول شعر حيّ رافق النهضة العامة وحدا قوافلها المغذّة فأطرب، وأوّل شعر جرى في عنانها وسجّل مراحلها"..‏

فهو في تقييم (الإبراهيمي) من أساطين النهضة الحديثة أدبياً وفكرياً في (المغرب العربي) ومن القوّامين "عليها بجدّ وصدق".. وهي (قوامة) كانت تتطلب من (محمد العيد).. و"نفر قليل.. أن يهدموا ويرفعوا الأنقاض، ويبنوا ويشيّدوا، ويعمّروا ويربّوا، ويعلّموا، كل ذلك في آن واحد، وأن يحاربوا عدّة أعداء في عدة ميادين، يحاربون الاستعمار، ويحاربون التدجيل في الدين، والضلال في العقائد، ويحاربون الإلحاد، كلّ ذلك مع قلّة الأنصار، وقلّة المال"، حسب تعبير (الإبراهيمي) الذي يضيف قائلاً:"إن لمحمد العيد الشاعر أثناء الاحتلال الفرنسي: دعوات صارخة إلى الثورة‎، في الوقت الذي كانت فيه كلمة الثورة بلفظها المفرد كافية لنزول العقاب الأليم بلافظها قبل أن يتم تركيب الجملة"..‏

ولد الشاعر في: (27-5 -1323هـ / 28-8- 1904 م)، في قرية (عين البيضاء)، حيث شرع يتلقى مبادئ العربية، وتابع دراسته في (بسكرة) قبل أن ينتقل إلى ( تونس) سنة ( 1921 م) ليقضي سنتين طالباً في (جامع الزيتونة) عاد بعدها إلى ( الجزائر ) مسهماً بما له من معارف في التعليم، مشاركاً في الحياة الأدبية بشعره، فعلم في مدارس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) كما تولّى إدارة بعضها وهي "مدرسة الشبيبة الإسلامية"، في ( الجزائر ) العاصمة، من سنة (1928 م) حتى سنة ( 1940 م)، و"مدرسة التربية والتعليم"، في (باتنة) من: ( 1940 ) إلى (1947 م) ثم (مدرسة العرفان)، في (عين مليلة) من ( 1947م) حتى ( 1954 م) أي سنة اندلاع الثورة التحريرية، وفي هذه المدرسة الأخيرة قبض عليه ليسجن في (قسنطينة) ويحاكم، ثم يفرج عليه، وتفرض عليه (الإقامة الجبرية) في بيته بمدينة (بسكرة) حتى الاستقلال سنة ( 1962 م)..‏

كان الشاعر (محمد العبد) إلى جانب عمله في التعليم يسهم بفكره وبشعره، في الصحف العربية الجزائرية الوطنية، خصوصاً صحف (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين)، وكان عضواً في (الجمعية) منذ تأسيسها (سنة 1931) ملتزماً خطها الوطني الإصلاحي، وحين فرضت عليه (الإقامة الإجبارية) وحظرت (جمعية العلماء) سنة (1956 م) رسمياً، غرق في الصمت إلا ماكان يكتب سراً من شعر، ثم يمزّقه خوفاً من المداهمات الدورية لجنود الاحتلال الفرنسي، فاستمرّ على ذلك حتى الاستقلال الذي سعد به كثيراً، فقال: إن ذلك كان أكبر أحلامي التي تحققت، فما كنت أحسب أنني سأعيش لأشهد استقلال (الجزائر) ورحيل قوافل المحتلين؛ بمجنزراتهم ودباباتهم وطائراتهم، وبعض أعوانهم (الأعيان)..‏

لكنه أدرك الاستقلال وقد أحدث فيه جهد السنين أثراً بالغاً، مع ذلك قاوم معاناته المتعددة المصادر والوجوه: فمضى حادياً للأمل العربي في ثورة ( الجزائر )، المنتصرة، وبعد انتصارها تحقّقت أمنيتاه التاليتان أداء فريضة الحجّ على نفقة (وزارة الشؤون الدينية) ونشر ديوانه الضخم على نفقة (وزارة التربية الوطنية) قبل أن تداهمه المتاعب الصحية، فيقبع لائذاً بالصمت في بيته بمدينة (بسكرة) أو بمدينة (باتنة) صيفاً، حيث لقي في هذه الأخيرة ربّه يوم ( 7-9-1399هـ/ 31-7-1979م) ليدفن في (بسكرة) تاركاً الأثر الطيب والذكر الحسن، وآثاراً أدبية فكرية أهمّها ديوانه الشعري الضخم الذي ضمّ معظم الأغراض الشعرية، من أهمها شعر النضال السياسي والاجتماعي والإصلاحي، لكن الحس القومي (عربياً وإسلامياً)، يبقى حجر الزاوية في الديوان، توقاً لصفوف تتراص، وتتعاون على رقي الأمة العربية:‏

ملء القلوب وعهدنا المتأبّد..‏ ‏‏ وليحيى في ظلّ العروبة ودّنا‏ ‏ وكثيراً ما كانت كلمة "آل" في اسمه الكامل موضع تساءل وسؤال، فلعلّه عناها بالرد عن السائلين حين قال مؤكداً انتماءه لغة وديناً:‏

عليّ وعن شعري وعن كنه مطلبي‏ ‏‏ يسألني عن نسبتي كل وافد‏ ‏ وديني هو الإسلام والقدوة النبي.‏ ‏‏ فقلت لهم أرض العروبة موطني‏ ‏ فالشيخ (محمد العيد آل خليفة) شاعر المغرب العربي إبّان الكفاح التحريري والنضال السياسي قبله يعتبر صوتاً قومياً متميزاً بمواقفه الفكرية التي عكسها شعره الذي رافق مرحلة اليقظة والإصلاح، والنضال السياسي منذ عشرينات القرن الذي كان شاهد حق عليه، شاهدا على جرائم البغي الأوروبي، والاستعمار الفرنسي، وشاهدا على كفاح أمة عربية لا تهن، ولا تستكين، دفاعاً عن وجودها، وهويتها الحضارية كما عكس تمسكها بالعربية لسانا، وبالإسلام عقيدة وحياة؛ فجسّد شعره جوانب مختلفة ممّا كان ويتفاعل في المحيط حتى مطلع السبعينيات، من قضايا وانشغالات، وطموح وآمال فكان بذلك نغماً جوهرياً في صوت الجزائر بوجهها العربي الإسلامي، وملامحها الإنسانية، منساقاً في كل الأحوال لقيم الخير والحرية والعدل والمودة والمحبة، والرحمة والتكافل والبذل، مما يعكس حقاً شخصية شاعر فنان يهزّه الحدث الكبير، كما تطربه اللفتة الصغيرة والصورة الجميلة، مثل الفكرة العابرة..‏

ورغم ما قدّم عن شعر (محمد العيدآل خليفة) من دراسات، وبحوث أكاديمية، فأحسب أنه لا يزال منجماً زاخراً للبحث، لم يطرق الدارسون بعض (مجاهله) وأغواره، كما لم يعنوا بعد، بالجانب الشخصي الخاص، والاجتماعي العام، كما عكسهما شعره، وحده من دون حاجة إلى شواهد مادية، ولا‏

وثائق ثبوتية..‏

ولعلّ من أبرز الأشياء الصغيرة الدالة في شعر (محمد العيد) التي بقيت بعيدة عن الضوء، موضوع(المرأة) رمزاً وموقفاً،مما أوثر أن أجنح إليه، وهو غير مفصول عن وجدانه القومي..‏

ثانياً:المرأة رمزاً وموقفاً في شعر (العيد):‏

المرأة في أدب المغرب العربي عموماً، والجزائري خصوصاً بدأت تطلّ في الحركة الشعرية منذ فجر تاريخها على استحياء، بل إن أول شاعر على مستوى المغرب العربي الإسلامي في القرن الثالث الهجري لم يذكرها بكلمة واحدة، فيما انتهى إلينا من شعره: بكر بن حماد ( 200 -296) وبقي ورودها متردّداً بعد ذلك في العهد (العبيدي ـ الصنهاجي) أما في العصر الحديث فقد تواجدت بأشكال مختلفة، بدت في أول الأمر أكثر ارتباطاً بالمطلب الجسدي لدى (الأمير عبد القادر) نفسه (1807-1883)، في القرن التاسع عشر الميلادي، وكذلك استمرت في مطلع القرن العشرين، لكنها سرعان ما أخذت دورها كما قرّرته له طبيعتها ومحيطها الجزائري نفسه، وإن برؤى عديدة، بل مختلفة لدى الشعراء الجزائريين، حتى لدى الشاعر (محمد العيد آل خليفة) رحمه الله(1904-1979)، الذي شئنا أن نتناول هذا الجانب في شعره؛ بعنوان:"المرأة رمزاً وموقفاً...."، من خلال ديوانه الضخم الذي يبلغ ست مئة صفحة (600) من الحجم الكبير(1) وهو مجلّد ثري بالقضايا والمواقف الفكرية والاجتماعية والسياسية وسواها.‏

والشاعر الجزائري (محمد العيد) من مواليد ( 1904 م) بعين البيضاء، درس في الجزائر ، وفي تونس ، وعلّم منذ مطلع شبابه في مدارس جمعية العلماء، وتولّى إدارة أكثر من مؤسسة تربوية لهذه الجمعية، كما كان صاحب الحضور الواضح شعرياً في الصحافة العربية الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي، حتى قبض عليه بعد اندلاع ثورة التحرير بشهور، فزجّ به في السجن، ثم فُرضت عليه الإقامة الجبرية في بيته بمدينة (بسكرة) حتى الاستقلال، حين استأنف نشاطه الشعري رغم المتاعب الصحية، وكانت آخر قصيدة له سنة 1972 م، في الذكرى العاشرة للاستقلال، التزم بعدها الصمت حتى لقي ربّه سنة 1979، بمدينة (باتنة) ليُدْفَن في (بسكرة) مخلّفاً وراءه أهمّ أثر له وهو ديوانه الشعري الضخم الحافل بالقضايا الكبرى ذات البعد الوطني والإنساني والاجتماعي، إلى جانب القضايا العامّة الصغيرة ذات الدّلالات المختلفة.‏

ومن أهمّ ما يلفت النظر في ديوانه (محمد العيد) إطلالَةَ المرأة على استحياء فيه، ولكن للإطلالة مذاقها الشعري: فكرياً وفنياً، واجتماعياً، وسياسياً، فإن لم يكن من الذين انجذبوا كثيراً للمرأة في صورتها المادية الصارخة غزلاً وتشبيباً، فقد انجذب إليها من زاوية وطنية وإنسانية، موظّفاً إيّاها كرمز في حب الوطن، متوسّلاً بها كعنصر فاعل في التغيير السياسي والاجتماعي، وفي بناء الأمم، من دون أن يهمل الجانب الآخر، وهي كونها إنساناً له همومه، وقضاياه، ومن دون أن تغيب أيضاً هذه المرأة تماماً كمصدر للوحي ورمز للجمال، ومطلب أيضاً للرجل تتعاضد في هذا المطلب رغبات الجسد والروح، وإن ورد ذلك بشكل موح غير سافر في معظم الحالات، وهو يصفها وصفاً مباشراً، أو يعالج قضيتها، أو يتوسل بها رمزً.‏

هذه الملاحظات العامة كمقدّمة للحديث عن المرأة رمزاً وموقفاً لدى الشاعر (محمد العيد آل خليفة) تسمح لنا بمباشرة الموضوع انطلاقاً منها كرمز أولاً:‏

المستوى الأول:‏

لقد أطلّت المرأة في شعر (العيد) منذ البدايات الأولى في تجاربه الشعرية من زاوية مادية، موشّاة بقيم جمالية في المرأة لدى الشاعر، لم تخرج فيها الرؤية لديه عن قيمه الموروثة من الشعر العربي، وأول النماذج المبكرة في ذلك، قصيدته" آفة العين" حيث يصوّر الأثر الشديدة للنظرة الفاتنة، من عينين جميلتين فوقهما حاجبان دقيقان فبدا ذلك رمز فتنة ولحظة امتحان، في تجربة ينبغي الخلاص منها، كما كتب سنة 1936 م:‏

حولَهُ فافتتنْ‏ ‏‏ ما لطرفي رنا‏ ‏ بالضني وامتحنْ‏ ‏‏ سامني في الدُّنا‏ ‏ لا طعمت الوسن‏ ‏‏ يا مذيقي الضنى‏ ‏ ني بقوسين‏ ‏‏ يا لرام رما‏ ‏ آفة العين‏ ‏‏ أفة العين ما‏ ‏ نظرة عن رجاء‏ ‏‏ نظرة عن سؤال‏ ‏ وإذا الغيّ جاء‏ ‏‏ فإذا الرّشد زال‏ ‏ إن أردْت النجاءْ‏ ‏‏ فافتكرْ في المآلْ‏ ‏ م بهُدْبَيْن‏ ‏‏ لا تُشرْ للحِمَا‏ ‏ آفة العين(3‏‏ آفة العينيِ مَا‏ ‏ وتبدو هنا النزعة الدينية واضحة في مقاومة الإغراء، وردع نوازع النفس، بالتفكير في المآل بالآخرة، وللخلاص من نظرات الفتنة، والإثارة لدى المرأة في نفس الرجل، ودفع ذلك بغضّ البَصَر، ولو تطلبَ الأمر تمنّي (العَمَى) على السقوط صريع نظرة وحاجبين:‏

حِ بغضّ البَصَرِ‏ ‏‏ فادْرع للْملا‏ ‏ غارة الزّينْ‏‏‏

ذُدْ ولو بِالعَمى‏ ‏ آفة العين‏ ‏‏ آفة العين ما‏ ‏ وإن بدا الرّمز هنا مبسطاً، في استغلال عناصر جمالية في المرأة مركبة من صورة توفرت على عناصر الملاحة، وقد تعاضد فيها جمال العينين والحاجبين، الذي يبقى في جميع الحالات جمالاً مباشراً، لم يلبث الشاعر حتى تاق للخلاص منه تحت صوت الوازع الديني أولاً وأخيراً..‏

هذا الوازع الديني هو الذي جعل المرأة هنا تستحيل رمز فتنة وغواية، بأسلحة مادية، تتجه إلى الشعور والغريزة مباشرة، فكادت صورتها تستحيل رمزاً للشيطان، أي رمزاً للغواية، كما نرى في قصيدة (فتاة العصر):‏

في الرأي فاقرأ عليها سُورة النّور‏ ‏‏ في كلّ مرحلة تزداد ظُلْمَتُها‏ ‏ وبقدر مافي سورة (النّور) من ردع و(حدود) ووعيد وغيره، ففيها تحذير أيضاً من الانسياق وراء الشيطان، كما في الآية الواحدة والعشرين: "يا أيّها الذين آمنوا لا تَتّبعوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ومن يتَّبِعْ خُطُواتُ الشَّيطان فإنِّهُ يأمُرُ بالفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ"..‏

وتبقى المرأة هنّا رمزاً مبسّطاً للإغراء بالإثم، يكاد لا يبرح السطح من زاوية دينية خالصة، وهو أمر طبيعي لدى شاعر إصلاحي، نشأ في أحضان بيئة محافظة تحدّد مهام المرأة، وتحدّ من صلاتها بالمحيط العام، اتقاء لعواقب ذلك: فتنة وضياعاً لكرامتها، وامتهاناً لأنوثتها نفسها.‏

وقد تستحيل المرأة رمزاً للغموض السحري، والغيبيات الأسطورية في عالم الجنّ، لكنه هنا ترد عرضاً والشاعر يخاطب الحكم الفرنسي الاحتلالي سنة ( 1937 ) من خلال مناجاته نهر (السان) في (باريس): فيتحدث عمّا قدّمه الجزائريون من تضحيات في الوقوف إلى جانب (فرنسا)، الاستعمارية في الحرب العالمية الأولى من دون أن تعيد إليهم حقوقهم المغتصبة، التي بدا كأن نهر (السان) يحول دون وصولها، فهي حقوق ضائعة ضياعاً أجبره على التساؤل عن غموضها نفسه وتيهاً وراء ذلك الضياع والغموض..‏

عن كلِّ قاص من الرّائينَ أو داني‏‏ أمْ أَلْحقتِ بِبَناتِ البحرِ فاحتجبتْ‏ ‏ إلى هنا بقي الرّمز مبسّطاً، في مستوياته الأولى لكنه سرعان ما يشرع يتّسع فكرة، وأُفُقاً، ورُؤَىً، متجاوزاً هذه المرحلة إلى مرحلة ذات ظلال صوفية، في خطابه (بنات الجِنَان) أي (بنات الجنّة) التي قد تكون فردوساً أرضياً أوسماوياً،رامزاً بالصورة الأولى المادية المرئية إلى الثانية الرّوحية المتخيّلة، كما توسّل بالمرأة البشرية إلى تلك التي يبدعها خياله:‏

يا بناتَ الجنّان‏ ‏‏ يا بنات الجنّان اسفري‏ ‏ في قديمِ الزّمان‏ ‏‏ اذكري يوم كنّا اذكري‏ ‏ في العَلالَي حِسان‏ ‏‏ نتناجى على عبقري‏ ‏‏ وصَفَا في الكؤوسِ‏ ‏‏ يا رحيقاً حَلاَ في المذاقِ‏ ‏ طائفاً بالشّموس‏ ‏‏ خفَّ ساقيه مثل البُراقِ‏ ‏ منْكِ تحيي النُّفوسِ‏ ‏‏ حبَّذا رَشْفُ كاسِ دِهَاقِ‏ ‏ وقد صارت المرأة هنا (رمزاً)، (الحوريات) (الجنّة) ينحو نحواً صوفياً في التفكير والتّصوير، كما استمدّ الشاعر من صورة مادية لحدائق (الحياة الدنيا)، صورة أخرى للحياة، (الآخرة) التي وعدَ الله بها عباده المتّقين، كما ورد ذكرها في القرآن الكريم.‏

فالصورة الشعرية اتكأت على الظلال القرآنية في الرمز لشيء غير مُحَسّن، بشيء مادي ملموس..‏

نشير بهذا إلى مستوى من التّصوير لدى الشاعر، ابتداء من الكلمة نفسها كمفردة تحمل قيمة ودلالة خاصة بها"موسيقية ومُسْتَحَضَرَةٌ تُضاف إلى قيمة الكلمة، وفي بعض الأحيان تناقضُها كعلامة إيديولوجية"(2).‏

وإن بقي (الرمز) مرحلة أولى دونَ الرمزية كمذهب أدبي ذي نشأة أوروبية في القرن التاسع عشر، فإنه ينهض بنفس الوظيفة من أكثر من زاوية مع بقاء الفارق الفلسفي والفكري والإيديولوجي، وتقاسم المنحى الأسطوري أو الديني أو غيرهما..‏

و(محمد العيد) الشاعر استخدم الرمز في مستواه الأول لقناعة مستمدّة من محيطه، فهو يبني التجربة من الخبرة ولا يفتعلها افتعالاً، ومن ثم فرمزه ذو وظائف عديدة مختلفة مهما كانت البساطة في صور من هذا الرّمز كامتطاء، (التلغيز) حيث تغدو المرأة أو الأنثى رمزاً تختلط فيه السلبية والإيجابية، فهي مكروهة محبوبة في الوقت نفسه، وهي، عذبة، متمنّعة يبرح غيابها بالجميع، وقد صاروا لها عشاقاً.‏

تمثل الصورة الأولى قصيدته عن أجواء (الحرب العالمية الثانية) وهي تدق الأبواب، فكتب الشاعر قصيدته سنة (1938م) حيث رمز للحرب بالأنثى، والأنثى هنا حبلى، وهي ليست كالأخريات، يتغزل بها بعض عن حب وهيام، وطلب جادّ، ويفتعل آخرون حبّها، لكنها في النهاية من حظّ القوي، فهو سيّدُها الآمر ومعشوقها المطلوب المستجاب، بينما الضعيف ضحيتها، تنكّل به، بل تُبيدهُ من دون رحمة، حيث لا إنسانية في هذا المستوى من العلاقة، فوصف الشاعر هذه العلاقة بقوله:‏

بها كثر التّغزّل والنّسيبُ‏ ‏‏ فما أنثَى نبتْ عن كلّ أنثى‏ ‏ مبين والقويّ لها حبيبُ‏‏‏

تجنّت فالضّعيفُ لها عدو‏ ‏ ثم أشار إلى (ألمانيا) من خلال شعارها (النّسر) كقوّة عسكرية صاعدة، كما أشار إلى حلفها مع (إيطاليا) لعلاقة (النّعل) كصورة لإيطاليا على الخريطة الجغرافية، وكذا حلفها مع (اليابان) لعلاقة التلويح لها باليد، وقد نُعت بجنسه (الصفرة) لذا، أقبل النّسر على أنثاه معتداً يجرّ وراءه نعله، ويد (بالصفرة) تُلوِّحُ لهُ:‏

يَدٌ بالزّعفرانِ لـه خطيبُ‏ ‏‏ أتاها النّسْرُ مُنتعلاً تحيّي‏ ‏ فهو رمز امتطى (التلغيز) عن (الحرب العالمية الثانية) التي لم تلبث حتى نشبت (1939-1945 م)، وكانت (فرنسا) ممّن خاضوها، فأذلَّت فيها إذلالاً بشعاً، لم تسلم من نتائجه الجزائر نفسها، وقد هرب إليها العسكريون الفرنسيون تحت سياط الجيش الألماني وهو يحطُّ رحاله بباريس.‏

حين صارت هذه الحرب التي رمز إليها الشاعر (محمد العيد) بالأنثى واقعاً طاحناً في الجزائر، نفسها: أفرزت نتائج مختلفة، في مثل هذه الظروف، من بينها صعوبة التموّن بالمواد الغذائية الأساسية ذاتها، فضلاً عن الكمالية، و(القهوة) كمشروب شعبي في (الجزائر) كانت عرضة للمضاربة، ثمّ الاختفاء التّام من السوق، مما حزّ في نفوس عشاقها من (المواطنين) فرمز إليها الشاعر بالجارية (السوداء) ورمز لعشاقها بالبيض، أما الجواري الأخريات غير المرغوبات فيهن فبقينَ من دون تحديد، وهنّ لا ريب ألوان من المشروبات (شيحا) و(زعترا) و(زنجبيلا) وما شابه ذلك، قال الشاعر:‏

على البيض واستعصى عليهم وصالها‏ ‏ وجارية سوداء عزّ منالها‏ ‏ جواري أخرى لا يطاق احتمالها‏ ‏‏ تولّت وصدَتْ عنْهمُ فتعوّضوا‏ ‏ أما حين وضعت الحربُ أوزارها، وحلّت أزمة التّموين بالسلع والبضائع، فقد عادت (القهوة) إلى السّوق، كما عادت تبعاُ لذلك لاحتلال موقعها المتميز في البيت الجزائري، فكان الشاعر (محمد العيد) في طليعة المرحبين، شعراً بالجارية السوداء، معشوقة للجميع:‏

لنا بعدما غابت وطال ارتحالها‏ ‏‏ وهاهي قد عادت وجادت بِوصْلها‏ ‏ فهي إذنْ إذا حضرت في مجلس طاب أنسه وأغناه عن شرب الحرام حلالها..‏

غير أن أجمل الرموز في شعر محمد العيد هو رمز (الحرية) الذي صارت فيه المرأة رمزاً عذباً أنيقاً، فنراه مبكّراً يرمز في عزّ الاحتلال الفرنسي (سنة1938 م) إلى الحرية بالرمز الجميل الخالد (ليلى) يتوق إلى وصالها ويعذّبه الشوق إليها، لكنه لا يسمع وهو يتغنّى بها! إلا صدى اسمها.‏

حيل بيني وبينها‏ ‏‏ أين ليلاي أينها‏ ‏ وأذاقَتْهُ حَيْنَها‏ ‏‏ أصْلت القلب زَارَها‏ ‏ وتعشّقتُ زَيْنَها‏ ‏‏ مُذْ تعرّفت سرّها‏ ‏ فِ اللواتي حَكَيْنَها‏ ‏‏ فتعلّقتُ بالطيو‏ ‏ مهجات فدَيْنَها‏ ‏‏ ما لليلاي لم تصل‏ ‏ وعيوناً بَكَيْنَها‏ ‏‏ وقُلوباً علِقْنَها‏ ‏ لكن الإحساس بالمأساة تحت كابوس الاحتلال الفرنسي يجعله يحسّ باليأس، فيتمكن منه القنوط، وقد خيّل إليه أن (ليلاه) نفيت إلى الأبد من عالمه:‏

لَنْ تَريْ بعدُ عيْنَها‏ ‏‏ إيهِ يا عيني أذْرفي‏ ‏ ضي جميعاً نفينها‏ ‏‏ السّماوات والأرا‏ ‏ أنْهُجاً ما حوينها‏ ‏‏ كم تساءَلتُ سالكاً‏ ‏ أين (ليلاي) أينها؟ ‏‏ لم يجبني سوى الصَّدى‏ ‏ فغدا الشاعر مجنوناً بليلاه، في ليل احتلال بغيض اختصرته إرادته أمّة في العزّة والكرامة التي أخذت طريقها عبر الثورة (54-1962 م)، حتى كان الانتصار، فعانق الشاعر ليلاه عناق الشّوق والرضى تغمره حبّاً وسلاماً:‏

فشفّت به مجنونها المستهترا‏ ‏‏ ليلاي فيكِ تعطّف بِوِصالها‏ ‏ ورغم ذلك فإن المرأة كرمز لدى الشاعر (محمد العيد) بقيت أقرب إلى الماديات، ولم تكد تسمو وتدق إلا في جزئيات، وهذا راجع من دون شك إلى رؤية الشاعر غير المفصولة عن واقعه، وتكوينه، ونهجه الإصلاحي، مع ميل إلى ضرب من الترفيه عن النّفس جعله ينحو نحو رمْز اكْتَسى طابع الألغاز، تَجَاوزاً لرتابة قاتلة في الحياة اليومية، وتفتيقاً لقرائح قرائه، وزملائه وتلاميذه أيضاً، وبقي الرمز في شكل محدّد بمستويات لم تستدرج أسطورة من التراث، أو خارجه ولا نحواً فلسفياً أو إيديولوجياً بأبعاد فكرية مكثّفة، وإنما بقيت أكثر ارتباطاً بالجانب الاجتماعي وخلفيته الدينية، من رؤية إصلاحية، بالخصوص.‏

فماذا عن المرأة كموقف، كصاحبة قضية في الحياة، كوجود مؤثر في المجتمع كفعل في حياة الوطن نفسه، في حياة معاصرة لم تعد تستسيغ ظاهرة الجزء المشلول في الحياة الوطنية والاجتماعية، فبقدر ماهي ربّة بيت، ومدرسة الأبناء، فهي الساعد والعضد للأب والأخ، والزوج والابن، أي الوجود المؤثر على أوسع نطاق في الحياة الوطنية والاجتماعية بعد الحياة الأسرية الخاصة.‏

من هذه الزاوية نفسها تنطلق رؤية (محمد العيد) إلى دور المرأة الجزائرية خصوصاً، لتجاوز وضعها وتخلّفها، فقال يخاطب (نساء الجزائر):‏

وتحرّكْن للعمل‏ ‏‏ قُمْنَ من رقْدَةِ الكسَلِ‏ ‏ يا نساء الجزائر‏ ‏‏ غير أن الجانب الديني سرعان ما ينبثق من رؤية الشاعر لموقف المرأة، فبقدر ما هي مطالبة بصون عرْضها، وحماية شرفها، هي مطالبة أيضاً في هذه القصيدة أن تكون في البيت مربية صالحة للأجيال:‏

مرشدات وأعيُنَاً‏ ‏‏ عشن للجيل السُنّاً‏ ‏ يا نساء الجزائر‏ ‏‏ في حمى الله والوطنْ‏

‏‏ عشن للصّالحِ الحَسَنْ‏ ‏ يا نساء الجزائر‏ ‏‏ وهي رؤية شاعر، يعبّرمن منطلق اجتماعي إصلاحي، يتماشى والفترة التي كُتِبَتْ فيها القصيدة (سنة 1937م)، حين بدأ الاهتمام بتعليم المرأة، وتربيتها، وقد حرصت جمعية العلماء منذ مطلع العشرية الثالثة هذه في القرن العشرين تولي عناية لتعليم الفتيات في مدارسها، موازاة مع الخط الاجتماعي في صحافة الجمعية ونواديها وخطبها لتنأى الفتاة الجزائرية عن (المدرسة الفرنسية) بقيمها وتقاليدها التي تبعدها عن حضارتها وقيمها، وتقبل على المدرسة العربية، للتّشبع بلغتها ودينها في محيطها الحضاري، من أجل رعاية (أحمد) ابن (عبد الله) أو (محمد) لا رعاية (جاك) ابن (عيسى) أو (موسى)، والشاعر (العيد) كان الصوت الصادق في نقل الحسّ الاجتماعي في هذه الفترة، والتّعبير عن تطلّعات الحرية الاجتماعية والفكرية من منطلق إصلاحي يراعي المرحلية في معالجة القضايا المختلفة في الجزائر..‏

والمرأة القضية عند (العيد) ذات دور، تبدأ فيه إذن مسؤوليتها: من تعليمها وحسن إعدادها للإسهام في بناء وطن، وإعداد جيل مؤمن قويّ بإيمانه ووطنيته، وحول هذه النقطة تمحورت رؤاه الإصلاحية في الحديث عن المرأة، التي تبقى ذات هموم أخرى، وبوجهها الاجتماعي، ففي مطلع الخمسينات من هذا القرن نقرأ نموذجاً عن المرأة الموقف في شعر (محمد العيد) ببعده الاجتماعي خصوصاً، كما تمثله قصيدة تحمل عنواناً معبّراً، هو: "دمعة منهمرة على فتاة منتحرة" عن فتاة من أسرة إصلاحية في (قسنطينة) سهت في لحظة قنوط عن إيمانها، فضاع صوابها، بعدما "ألم بها عارض طغا فيه اليأس على الرجاء والهوى على العقل شأن الفتيات الغريرات فانتحرت بالتردّي من شاهق بوادي (قسنطينة) الشهير (وادي الرمال، وتركتْ لأبَوْيها حزناً يمده الدّمع".. والوادي.. كما يبدو من الجسر المعدني المعلّق في سمائه، يجعل الرأس يحسّ بالدوار، فأثّرت الفاجعة على الشاعر فكتب قصيدته ذات الخمس والخمسين بيتاً: فطرحت أكثر من قضية، فهناك الحسرة والأسى بوجهيهما الاجتماعي والنّفسي، وقد تجرأت الحسناء على مايهابه الأسود، لكنها الجرأة السلبية التي تأتي في غير أوانها، فتجني على صاحبها ولا تخدمه، فقال يخاطبها:‏

يا زهرة عصفتْ بها النّكباء‏ ‏‏ أَذْرت عليك دموعها الأنداء‏ ‏ وعرَتْكَ فيها نظرة سوداء‏ ‏‏ ماذ دهاك من الحياة فَعِفـتها‏ ‏ يخشى الوقوفَ بِجنْبهِ الجُرآءُ‏ ‏‏ ألقيت نفسك من شفير شاهق‏ ‏ قَدَرت عليهِ الظَّبْيةُ الهَيفاَءُ‏ ‏‏ ماهابه اللّيثُ الهصور من الرَّدَى‏ ‏ وطواك منه لدى الهَويِّ هَوَاء‏ ‏‏ صدمتك من وادي الرمال صخورهُ‏ ‏ قبل الجني وجَنَى عليه جَفاءُ‏ ‏‏ أسفي عليك ذوى شبابُكَ فجأة‏ ‏ وسعتك أرض أو وقتك سماء‏ ‏‏ ضاقت بك الدّنيا بما رُحبتْ فما‏ ‏ من هنا يمكن أن نلتقط الخيط عن القضية والموقف؟ فما قضية هذه الفتاة التي أذنبت في حقّ نفسها، وقد سهت عن عقلها ودينها؟ إن نشأتها في أسرة إصلاحية كانت كفيلة بأن تجنبها هذا المصير البغيض: اجتماعياً ودينياً وإنسانياً، هل هناك طاقة جبّارة تجاوزت إمكانياتها الفكرية والعقلية وحسها الدّيني الرّخْو؟‍ إنها من دون شك طاقة القلب الجموح الصغيرة أصغت لقلبها أكثر من عقلها وعقيدتها، إن الأمر من دون شك قضية عاطفية عصفت بوجدانها، فالمرجح أنها دخلت في تجربة عاطفة صاخبة حال دون اكتمالها حتى النهاية ذووها لأمر ما أو أجهضت هذه التجربة بتحويل مسارها لإرادة الأسرة، ربّما، رغم أن أسرة إصلاحية متعلمة يصعب أن تفرض على فتاة مالا تريد، لكنه من المحتمل أنها فشلت في أسلوب الحيلولة بين الفتاة وما يريد قلبها الطري غير الناضج، فلم تُزَف لا إلى هذه الوجهة ولا إلى تلك، بل إلى الوادي الصاخب:‏

زوجاً، وباء بِصدّكِ الخُطباءُ‏ ‏‏ الموت جاءك خاطباً فرضيته‏ ‏ لكن خِضَابُك يا عروس دماءٌ‏ ‏‏ فزُفِفْتِ في عُرسٍ لزوجكِ صَاخب‏ ‏ حرّى تذوب بنارها الأحشاءِ‏ ‏‏ أما صداقك ياعروس فلوعة‏ ‏ رغم اضطرارك زلّة نكراءُ‏ ‏‏ لا أستبيحُ لك التَّردّي إنه‏ ‏ إنّها "زِلّة" هكذا يمكن أن يكون الاتّفاق، لكن ماطبيعة الاضطرار؟ إن الشاعر يُوعز لنا أن الفتاة وجدت نفسها، أمام واقع صعب تجاوزه، وقد تعذر عليها احتمال التجربة، فأقدمت على الفعل الشنيع!...‏

ذَنْبٌ يشينُ وفكرة حمقاء‏ ‏‏ أْخْطَأَتْ رأيّاً في انتحارك إنّه‏ ‏ لم يعالج الشاعر القضية من وجهتها الاجتماعية، فاقتصر في البدء، وهو يخاطبها على ما لحق أبويها من بؤس، محاولاً دفع الظنون التي قد تساور النّاس ممّا يمسّ عرْضَها وشرفها، كذلك النزوع إلى الإرواء العاطفي الذي قد لا يجد ملاذَهُ في النهاية إلا في أحضان الموت، كتجربة عاطفية جموحة بين اثنين غاب فيها العقل والمنطق في حضور النزوات وحدها، وهو ما يشتم هنا، حتى والشاعر يخاطبها في عز الألم:‏

إن الظنون مطية عمياء‏ ‏‏ عرّضت عرِضْك للظُّنون وعَسْفِها‏‏

ولعلّهُ مّمايقال بَراء‏ ‏‏ أزْرى بِعَرضِكِ مايقالُ توهّما‏ ‏ أو عثْرةٌ في السيّر أو إغماءُ‏ ‏‏ ولعل رُزأَكَ نوبة نفسية‏ ‏ منك الحجى ومن الذكاء ذكاءُ‏ ‏‏ أو لَفْحَة بك من ذكائكِ أَحْرَقتْ‏ ‏ فالقضية الاجتماعية هنا كما تلوح خيوطها هو تغييب رأي المرأة أساساً، إنه حتى في لحظة جموح العاطفة لدى هذه الفتاة كان يمكن الإصغاء إليها، وإقناعها بمختلف الأدوات التي تتآزر فيها مختلف العناصر، عقلاً وديناً وعاطفة، بكل عناصر هذه العاطفة الخاصة والعامة.‏

الملاحظ هنا أن التجربة نقلها الشاعر في زمن لم تكن فيه آفة الانتحار ذات شيوع، ولم تكن ضغوط الحياة المختلفة بمستوى تستطيع فيه أن تنتهي بالضحية إلى هذا المصير، إضافة إلى أن ذلك في محيط جزائري إسلامي عربي لم يتلوث بعد بآفات العصر المختلفة، والتي تحتل فيها قيم الانتحار حيزاً معتبراً كمنقذ للخلاص من واقع صعب احتماله، أو تعذّر الصّمود في وجه ضغوطه المختلفة.‏

لكن يبقى العنصر الأساسي في قضية المرأة هي معاناتها، متاعبها الخاصة، ومعاناتها تغييب رأيها، ثم المعاناة الأشدّ ضراوة ألسنة النّاس، التي تنسج من كلّ صغيرة تأتيها أشياء كثيرة لم ترد على بالها، ولم تفكّر فيها، ولا مارستها.‏

غير أن الشاعر لا يضيع الفرصة، فيعرّض بالانسياق وراء المشاعر الشخصية، والاستبداد بالرأي، كما يرى في الانتحار ضرباً من الجبن في غياب الرأي السّديد، والشجاعة في الانتصار على الأهواء الذاتية والعمل بالرأي الصائب من وحي الحكمة والعقل والمنطق والدّين وحتى العاطفة الإنسانية السامية في أناقتها وطهرها:‏

المستفزّة وَجْدهُ الأهواءُ‏ ‏‏ قل للشباب المستبدّ برأيه‏ ‏ تُلهِمْهُ وجْه صوابِهِ الأخطاءُ‏ ‏‏ من يتّعظ بسواهُ في أخْطائِهِ‏ ‏ عظّمى، يبوءُ بخزيها الجُبَناءُ‏‏‏

إن انتحار اليائسينِ جناية‏ ‏ رأيٌّ أسدّ وهمةٌ قعساءُ‏ ‏‏ دنياك معركة يفوز بكسْبها‏‏

غير أن المرأة قضية سرعان ما تشمخ عالياً بعيداً عن الأنانية والذاتية، وتتوق لصنع المستقبل، مجاهدة، معتدة بنفسها ذات ثقة في إمكانياتها المختلفة، وإيمان قويّ بوطنها، وهي تندفع في معركة التحرير (1954-1962م)، جندية تستبسل في المعركة، كما تدير بيتها، مثلما تتأبّط رشاشها، وتضمد جراح المجاهدين الثائرين المندفعين لتحرير الجزائر من براثن الاحتلال الأوروبي النّصراني، وهي ذات ارتباط بشعبها وقيمه.‏

فالمرأة القضية هنا أخذت منحنى حضارياً، لتكون نعم الخلف الحديث، لنعم السلف عندما حرّر الإسلام المرأة من رقّها وعبوديتها، كما حرّر الرّجل من وثنيته، واستعباده من غيره، أو استعباده لغيره..‏

واعدّي الفدا لنَصْر البلادِ‏ ‏‏ ساهمي في الجهاد جند الجهاد‏ ‏ فاستجيبي بعَزمةٍ للمنادي‏ ‏‏ يا فتاة البلاد شعبُك ناد‏

ـبُ مع الرّكب للمدّى باتحاد‏ ‏‏ جَدّ جَدّ النّساءِ وانطلق الرَّكْـ‏ ‏ أي سَعْد لم يستفد من سعاد؟‏ ‏‏ نحن عون الرّجال في كلّ حال‏ ‏ وانتصار على الخطوب الشّداد‏ ‏‏ والجميلات ذكريات اصطبار‏ ‏ بالبطولاتِ في كفاحِ الأعادي‏ ‏‏ صهرتنا الخطوب حتّى ظهرنا‏ ‏ فأسونا جِرَاحَه بالضَّماد‏ ‏‏ كم غدونا إلى جريح طريح‏ ‏ وانْتَطَقْنا به على الأكبادِ‏ ‏‏ واتّخذنا من الرّصاص عقودا‏ ‏ شاهرات لـه على استعداد‏ ‏‏ واعتنقنا رشاشنا ساهرات‏ ‏ وبَهْرْنا العدا بقدْحٍ الزُّنادِ‏ ‏‏ وقدحْنا زنادَنا فقهرنا‏ ‏ وشريف في ساحة الأمجاد‏ ‏‏ فإذا جنسنا اللّطيفِ عنيفٌ‏ ‏ يُلاحظ القارئ، هنا أن قضية المرأة سمت عن الابتذال من خلال النموذج السابق، وارتقت إلى قضية حضارة، إلى دور جهادي في صنع التاريخ، فبقدر ما هي زوج وأمّ، هي مجاهدة تقبض على الزناد في إصرار.‏

كما تنهض بمعالجة الجرحى في المواجهة مع جيوش الاحتلال الفرنسي إبان الثورة المسلحة (54-1962 م)، من دون أن تتهتك أو تتنازل عن مكانتها كامرأة، ولا في عفتها وشرفها،‏

لذا تبقى المرأة قضية مرهونة بها نفسها، فكلّما سمت بمواقفها ومشاعرها، وأخلاقها: سمت مكانتها، ووجدت من يعبّر عنها، ولا تبقى قضية (زواج) و(طلاق) و(وَأْدٍ) و(انتحار)، بل قضية بناء أمّة قوية متزنة متماسكة، تحكمها قيم دينية وأخلاقية وإنسانية سامية، وهو ما عبّر عن جانب منه شاعر الجزائر الكبير (محمد العيد) رحمه الله.‏

فهي في النهاية بقدر ماهي رمز عذب جميل، هي إرادة وقوّة واعتداد وقيم إنسانية سامية، تحاول العبور على واقع كان يعاني التخلّف، كما يعاني استيطاناً احتلالياً أوروبياً أفرز أمراضاً عديدة، سلمت منها المرأة الجزائرية، التي بقيت في النهاية بكل سماتها الجميلة في مجالها الحضاري رمزاً جميلاً، وموقفاً إن تعثّر حيناً، ثبت أبداً..‏ ‏ ( هوامش:‏

(1)- طبع أول مرّة على نفقة وزارة التربية الوطنية في مطبعة (البعث)، قسنطينة، الجزائر ، 1967 . أما الطبعة الثالثة والأخيرة، فصدرت عن المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر ، 1992.‏

(2)- فيليب، فان تيغيم، المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، ترجمة فريد أنطونيوس، ص: 273، عويدات، بيروت، 1975.‏

(3)- اعتمد في هذا البحث الطبعة الثالثة، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1992.‏ ‏‏‏‏‏ شاهد القرن:مالك بن بني‏

(1905 -1973)‏ ‏‏ من أعلام الفكر الإسلامي العربي في القرن العشرين (مالك بن نبي) رحمه الله (1905-1973م)، الذي ولد في مدينة (قسنطينة) في (الشرق الجزائري) سنة ( 1905)، في أسرة فقيرة، بين مجتمع جزائري محافظ، حيث فتح (مالك) عينيه على تحوّلات حوله في (قسنطينة) أو قريبة منه في (عنابة) أو بعيداً عنه، شرع يدرك آثارها لاحقاً في (الجزائر) العاصمة أو نذرها في الجنوب.‏

انتقل بعد مولده صحبة أسرته إلى (تبسة) حيث زاول تعليمه الابتدائي والإعدادي، ونجح في "امتحان المنح، ذلك الذي كان ذا دلالة لطفل من (الأهالي) ماكان في وسع أبويه أن يرسلاه إلى المدرسة الثانوية"(1) بقسنطينة، حيث قضى سنته الدراسية الأولى (1921-1922م) وقد شرعت (قسنطينة) ذاتها تمور بالحس الوطني، والفكر الإصلاحي بعد الحرب العالمية الأولى، فتتلمذ في المدرسة نفسها على أساتذة وطنيين، في العربية، زرعوا في نفسه بذرة العمل الوطني، كما درس على أساتذة فرنسيين عنصريين، أشعروه بالخط الاستعماري الفرنسي لمسخ الشخصية الإسلامية العربية في الجزائر، وتشويه تاريخ الوطن.‏

من هنا شرع فضوله يكبر، واهتمامه بالشيخ (عبد الحميد بن باديس) يزداد اتساعاً، لكنه ماكاد ينهي تعليمه في هذه الثانوية حتى عاد إلى العزلة في (تبسة) باحثاً عن عمل، مفكراً في مشاريع لذلك، ثم في (آفلو) بالجنوب الجزائري، موظّفاً بمحكمتها، راضياً بذلك، في محيط عام بدأ يتصعلك منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى "ولم يبق للشباب إلا الرغبة في الحصول على بعض المقاعد يتبوأونها في ظل الاستعمار"(2).‏

تخرج (مالك) بعد سنوات الدراسة الأربع، في مدرسته التي اعتبرها "سجناً يعلّم فيه كتابة صك زواج أو طلاق"(3) وتخرج في (جوان 1925) وفي نفسه مع زميل له توق إلى (فرنسا) من أجل "أن نفتح لأنفسنا باباً على العالم، لأن الأبواب موصدة في الجزائر"(4)، فركبا (الباخرة) من (سكيكدة) إلى (مرسيليا)، بحثا عن عمل لهما (مالك وقاواو)، زميله لكن (مالك) في (مرسيليا) يبيع معطفه الجديد بثلث ثمنه كي يستطيع السفر إلى (ليون) التي ظفر فيها مرافقان من (الجزائر) يهودي وفرنسي بعمل، الأول في بيرلييه(Birlier) والثاني في (زينيت(Zénith) ) وأخفق (مالك) وصاحبه (قاواو) فباتا يضيقان "ذرعاً بالحياة بعد قضاء سحابة نهارنا ننتظر الفرج من غير طائل في مكاتب الاستخدام"(5)، لكنهما عثرا على عمل في مصنع للإسمنت في (Noterdame - lorette) لحمل الآجر والأكياس، ذات الخمسين كيلو غراماً، وسرعان ما تركه للعمل بباريس، في مصنع للمشروبات، لكن على "رصيف الزجاجات الفارغة"، باقتراح من (تبسي) سبقه هناك، لكن سعير الحرارة في (جهنّم) الموقع أكل روحه وجسده، فأرسل إلى أهله في (تبسة) "ابعثوا مالاً للعودة" فكانت مراسلته الأولى، "ولم أعرف من باريس إلا أرصفة نيكولا الفارغة والمملوءة، وعرفت عن بعد برج (إفل).... عدت إلى الجزائر وعاد معي السؤال: ما العمل؟ ذلك السؤال الذي دفعني إلى المغامرة البائسة التي عشتها مع قاواو"(6).‏

وبعد العودة تبدأ تجارب جديدة في الاهتداء إلى عمل، كان أهمها، عمله في محكمة (آفلو) حيث وصل في (مارس 1927م)، في محيط بدا له غريباً: "لكن العشرة الحسنة للناس الذين رحبوا بي في آفلو طمأنتني، وبلغ بها الأمر أن شغفتني حباً"(7)، بل" كانت آفلو المدرسة التي تعلمت فيها أن أعرف أكبر معرفة فضائل الشعب الجزائري التي ما تزال سليمة لم يمسها شيء، كما كانت حقاً في الجزائر كلها قبل أن يعيث الاستعمار فيها فساداً"(8).‏

لكنه اكتفى بقضاء سنة واحدة هناك، فعاد إلى (تبسة) في (مارس) أيضاً‏

(1928م)، ليدخل في مشروع تجاري مع زوج أخته انتهى بالخسران وخيبة الأمل الطاحنة، مما آلمه أكثر لكون شريكه ذا أسرة في حاجة إلى طعام، فتجدّد مشروع السفر إلى الخارج من جديد، لكن بطريقة معقولة، زكّاها والداه، فقالت له أمّه: "اذهب إلى باريس وتابع دراستك"..‏

وأتمّ أبي تفكيرها فقال:‏

ـ تعلم أن (ابن ستيتي) درس سنة في مدرسة اللغات الشرقية، بعد أن أتمّ دراسته في المدرسة مثلك، وهكذا أعفي من شهادة الدراسة الثانوية فسجل نفسه في كلية الحقوق..‏

سوف نبعث إليك ما أنت في حاجة إليه كلّ شهر"(9)..‏

فلم تمض سوى ثلاثة أيام حتى استقل الباخرة من (عنابة) إلى (مرسيليا)، ومن هنالك إلى (باريس) بالقطار، حين نزل في (محطة ليون) صباح يوم من شهر (سبتمبر 1930) معلناً في نفسه "لا أعود هذه المرة إلى الوراء مثلما عدت المرة الأخيرة بعد النكسة التي أصابتني مع رفيقي قاواو في صيف‏

1925"(10)..‏

فكانت الرحلة هنا علمية جادة، طمح فيها (ابن نبي) للدراسة "بمعهد الدراسات الشرقية في باريس أملاً في التخرج محامياً، فهيأ نفسه لامتحان الدخول، وانتظره هنالك واستعدّ له". (11)، ثم اجتازه وكله ثقة في النجاح، لكن النتيجة كانت خيبة الأمل، المقررة مسبقاً، فقال عنها: "لقد طلبني مدير المعهد، وفي هدوء مكتبه الوقور شرع يشعرني بعدم الجدوى في الإصرار على الدخول لمعهده، فكان الموقف يجلي لنظري بكل وضوح هذه الحقيقة: إن الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع بالنسبة لمسلم جزائري لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي، ونزلت كلمات المدير على طموحي نزول سكين المقصلة على عنق المعدوم.... وفي ذلك اليوم لم يتحطم فقط أملي، بل شعرت أن حلم والدتي ووالدي قد تحطم أيضاً على صخرة الإرادة المقررة في خبايا الدوائر"(12) الاستعمارية، في (فرنسا) مثلما في (الجزائر).‏

فاضطّر للتعديل في أهدافه وغاياته، فالتحق بمدرسة (اللاسلكي) غير البعيدة عن (معهد اللغات الشرقية) للتخرج كمساعد مهندس، ممّا يجعل موضوعه تقنياً خالصاً، بطابعه العلمي الصرف، على العكس من المجال القضائي والسياسي..‏

لكن تشاء الأقدار أن يدخل (مالك بن نبي) من هذا الباب نفسه إلى عالم (الفكر السياسي): فبدأ الكاتب هنا يرتفع بشعوره إلى مستوى وطني رفيع، يحس بمسؤولية ما تجاه وطنه ومجتمعه للخروج من التخلف، والأخذ بأسباب الحضارة والثقافة الحديثة"(13)‏

وانغمس في الدراسة، وفي الحياة الفكرية، كما تزوج (فرنسية) واختار الإقامة في (فرنسا) مع تردّد على (الجزائر) مع زوجته الفرنسية المسلمة (خديجة) وشرع يؤلف، في قضايا العالم الإسلامي كله، فكان سنة (1946 )، كتابه "الظاهرة القرآنية" ثم "شروط النهضة" 1948، و"وجهة العالم الإسلامي"1954.‏

ثم ينتقل إلى القاهرة بعد إعلان الثورة المسلحة في الجزائر (سنة 1954) وهناك حظي باحترام، فكتب "فكرة الإفريقية الآسيوية" 1956. وتشرع أعماله الجادة تتوالى، وبعد استقلال (الجزائر) عاد إلى الوطن، فعين مديراً للتعليم العالي الذي كان محصوراً في (جامعة الجزائر) المركزية، حتى استقال سنة‏

(1967) متفرغاً للكتابة، بادئاً هذه المرحلة بكتابة مذكراته، بعنوان عام"مذكرات شاهد القرن"، فنشر الجزء الأول بهذا العنوان وحده بالفرنسية، وترجمه إلى العربية السيد (مروان القنواتي)، سنة 1969 وأضيف تحت هذا العنوان في الجزء الثاني الذي نشر في 1970 اسم (الطالب) لكونه يخص مرحلة الدراسة في فرنسا (ابتداء من سنة 1930) أما الجزء الثالث فبقي مخطوطاً بعد وفاة المؤلف في (31-10-1973)...‏

و(مذكرات شاهد القرن)، صورة عن نضال (مالك بن نبي) الشخصي في طلب العلم والمعرفة أولاً، والبحث في أسباب الهيمنة الأوروبية ونتائجها السلبية المختلفة وسياسة الاحتلال الفرنسي في (الجزائر) وآثاره، ممّا عكس صورة حية لسلوك المحتلين الفرنسيين أنفسهم في (الجزائر) ونتائج سياستهم، ووجوهها وآثارها المختلفة: الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية..‏

فحمل الفرنسيون معهم كلّ الآفات الاجتماعية التي لاحظ (ابن نبي) انعكاساتها على محيطه، في (قسنطينة) نفسها (1921-1925) حيث "بدأ يتفشى إدمان الكحول وأثره السيء"، "وبدأ المجتمع القسنطيني يتصعلك من فوق، ويتدهور من تحت، بدأت ملامح التصعلك حتى في التفاصيل الشكلية للرجال الذين تغيرت أزياؤهم في شوارع قسنطينية"(14).. مع اجتياح أوروبي ويهودي، حتى مضت "الحياة الأهلية تتقلص وتنزوي في شوارع ضيقة"(15)، فشرعت تتفشى القيم والسلوكات الأوروبية، والحياة المتهتكة "فكان البورجوازي وفلاح سطيف في حاجة إلى المال حتى يحيي الأوّل عرساً ويشتري الثاني سيارة سيتروين تمكنه من أن يقضي سهراته الماجنة في شارع السلم في قسنطينة، وكان اليهودي مستعداً دائماً لإقراضهما ذلك المال بربّى قدره ستون في المئة، وكان أكل الربا أضعافاً مضاعفة يجعل ملكيتهما تمرّ من أيديهما إلى أيدي المستعمر مروراً آلياً بعد عام أو عامين"(16)..‏

وإذا كانت الآفات المختلفة قد اكتسحت السواحل والمدن الكبرى، فإن عمق الريف بقي على طهره، كما عبرت عنه منطقة (آفلو) في الجنوب حين حلّ فيها (ابن نبي) سنة (1927)، موظفاً في محكمتها: "كانت (آفلو بالنسبة لي المدرسة التي تعلمت فيها أن أعرف أكبر معرفة فضائل الشعب الجزائري التي ماتزال سليمة لم يمسها شيء، كما كانت حقاً في الجزائر كلها قبل أن يعيث فيها الاستعمار فساداً.. وعلى قدر ماكان مقامي يجعلني أحسن معرفة الناس وعاداتهم وتقاليدهم: كان قلقي يزداد، ذلك بأن المنطقة التي جهزتها الطبيعة بالمروج المخضوضرة والمراعي الغزيرة تجهيزاً عجيباً لم يكن الفقر يمنعها من رغبات الاستعمار وشهواته"(17)..‏

غير أن ذلك لا يعني أن (الجزائر) قد استسلمت في شمالها، ووسطها لقدرها المحتوم الزاحف ربما نحو الجنوب وسواه، بل هناك صحوة وطنية سياسية فكرية إصلاحية، لا نتحدث عنها من خلال قوانين وتنظيمات وتفاعلات، بل من خلال (شهادة ابن نبي) في كتابه منذ حط رحاله طالباً، في (مدرسة قسنطينة) الثانوية، في أول سنة دراسية له (1921-1922)، فاستقبله الحدث العادي، لكنه العميق الدلالة في الموقف بين (المستعمر) وأبناء البلد (الأهالي)..‏

"كان مدرسو السنة الثالثة والسنة الرابعة ما يزالون يثيرون في أحاديثهم المأثرة البطولية التي كان واحد من الطلبة القدامى يسمّى (الخطاب) يتحلّى بها، فقد استطاع بجرأته النادرة قبل سنة أو سنتين أن يبث الفوضى وينشر الرعب من على منصات الخطابة المرتفعة العامة في ممثلي المستعمرين، في مجلس قسنطينة العام..‏

ففي يوم كان أحد هؤلاء المنتخبين الأوروبيين يعلق على سرقة بقرة لمستعمر، قائلاً في خاتمة المطاف:‏

ـ إن واحداً من الأهالي طبعاً هو الذي سرق البقرة؟‏

فانفجر (الخطاب) الذي كان في سنته الرابعة حينذاك قائلاً من مقاعدالمستمعين: ولم لا يكون السارق فرنسياً؟!‏

فطنت آذان الإدارة ذلك اليوم، لأنه لم يكن لديها من ردّ على كلمات الخطاب، بينما كانت آذاننا يطيب لها أن تسمع مايثار من حديث عن ذلك الردّ القوي الذي يطلق كلمة الحق مدوية عند سلطان جائر"(18)..‏ ‏‏ هذا المحيط المدرسي يتغذى بطبيعته من المحيط القسنطيني العام، فيكون التفاعل، والحركة، والتطلع، بل الاحتكاك نفسه بين تلاميذ المدرسة الحكومية (الفرنسية) نفسها، وتلاميذ (ابن باديس) فكان ذلك "الاحتكاك بين المدرسين وبعض تلاميذ الشيخ ابن باديس أوثق في قهوة ابن يمينة، حيث كان ولد ابن يمينة الذي خلف أباه الطيب الفاضل الذي توفي منذ وقت أو بعض وقت يدخل التعديلات، فقد ألغى الحصر على وجه التخصيص، وأظن أنه ها هنا: إنما رأيت أول جهاز كبير لصنع القهوة يستقرّ في قهوة عربية، كان ذلك ثورة ولا يفوتني أن أذكر أن هذه الثورة أحدثت في تلك الفترة ضجّة في الوسط المستعمر الذي كان يريد أن يحفظ فضائلنا (الأهلية) أي الحصير الذي يصلح أن يكون مبصقة في الوقت نفسه عندما يقلب لاعبو (الدومينة) طرفه ويقذفون (قشعاتهم) ونخاماتهم تحته نازعين عن حلاقيمهم ورئاتهم بقوة صاخبة ما ران عليها من مفرزات ضارة..‏

وخاتمة المطاف أن قهوة ابن يمينة غدت حي المدرسين العام.‏

وعلى بضع خطوات من هنالك كان مكتب الشيخ(عبد الحميد بن باديس)، يستقبل فيه أصدقاءه وتلاميذه، ويوجّه في صورة شركة أسهم: الإدارة الصغيرة لمجلة (الشهاب) التي ظهرت منذ قليل بعد زوال (المنتقد)( التي لم تظهر إلا مدة قصيرة هي الأمد الذي استقرقته إدارة العمالة [الولاية] في إنشاء مرسوم منعها"(19)..‏

هذا يقودنا إلى جبهة أخرى انطلق منها النضال الوطني في الجزائر، فكانت رافد الكلمة الوطنية السياسية، والإصلاحية، والقومية، هي الصحافة الوطنية، صحافة الرأي، التي يذكر (ابن نبي) أنها انطلقت في (1922) بدءاً "على وجه التقريب بظهور (المنتقد في قسنطينة"(20)، لابن باديس؛ لتجد امتداداً لها بعد تعطيلها في (الشهاب) وسواها، في صحافة الإصلاح، والحركة الوطنية، التي كان (الأمير خالد) حفيد (الأمير عبد القادر) نجمها حينئذٍ، وقد اشتعلت في تلك الفترة "الخصومة الصحفية بين الأمير خالد ومورينو(Morinaud) رئيس بلدية قسنطينة الحاكم بأمره... وكان القوم ينتظرون صحيفتي (L'ikdam) ـ للأمير ـ والجمهوري (Lerepublicain) كل أسبوع حتى يتتبعوا دوران رحاها مثلهم مثل جمهور من الناس حول حلبة يتصارع فيها بطلان، ومهما كانت قيمة قلم بطلنا فأنا أعتقد بعد كل شيء أنه كان أعلى من قلم خصمه، وما هو عين اليقين هو أنه كان يثير عواصف وزوابع في أفكارنا ومشاعرنا وعواطفنا.‏

كانت الإقدام L'ikdam) ( تضع في فكري الموضوعات السياسية الأولى الدقيقة فكانت تفضح مايصيب الفلاح الجزائري من انتزاع للملكية كان يبلغ نسباً تفوق حد التصور في تلك الفترة، إذ كان الاستعمار ـ وقد تمكن من الشمال في أراضي الكرمة والحمضيات والزيتون والتبغ ـ يثب متهالكاً على الجنوب حيث أراضي الحبوب.. وكانت (الإقدام) تفضح تجاوز الإدارة الحدّ وسياستها في إبقاء الجماهير الشعبية في جهل وجاهلية.. وغدا الصراع يشغف القلوب على الحلبة الجزائرية"(21)..‏

عاش (مالك بن نبي) ظروفاً مختلفة في بلده، اتسمت جميعها بالدقة، وهو طالب في (قسنطينة) فيما بعد الحرب العالمية الأولى، ثم إبان الثورة التحريرية (1954 -1962)، كما تفاعل مع القضايا الإسلامية التي عبّرت عنها كتبه المختلفة..‏

لكن مذكراته ممّا عبر بشكل قوي عن صلته بوطنه، وآثار الاستعمار والدمار الذي أحدثه في (الجزائر) سياسياً، وزراعياً، واقتصادياً، وثقافياً، واجتماعياً، فهو شاهد على حقبة مظلمة في تاريخ الجزائر وظروف مواجهة الفعل الاستعماري العنصري، فكانت الشهادة قوية زاخرة، وستبقى من المناجم الثرية للباحثين في أكثر من مجال من مجالات الحياة المختلفة، وفي مقدمتها المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي أولاً وأخيراً، حيث يسجل لنا مالك مواقف مختلفة في مسار الحركة الوطنية نفسها، مما خدم القضية الوطنية في (الجزائر) ومما خذلها منذ أصيب المجتمع بمرض (الكلام) بتعبير (مالك بن نبي) نفسه، بعد إخفاق (المؤتمر الإسلامي الجزائري) سنة (1936) إلى (باريس) في الحصول على مطالبه "ولا يستطيع أحد تقييم ما تكبدنا من خسائر جوهرية منذ استولى علينا مرض الكلام، منذ أصبح المجتمع سفينة تائهة بعد إخفاق المؤتمر" المؤتمر ذلك المشروع الذي قضى نحبه "في الرؤوس المثقفة: مطربشة كانت أم معممة" فكان ذلك عبرة للحركة الوطنية التي فصلت الخطاب فيها ثورة نوفمبر (1954-1962)، في ليل اللغط الحزبي البهيم؛ فكانت هذه الثورة (جهينة الجزائر) التي قادت إلى استقلال مضرج بالدماء والدموع، وسرعان ما عمل العملاء والانتهازيون والوصوليون على اغتصابه، وتهميش الشرفاء الأطهار من صانعيه، وفي مقدمة هؤلاء الشرفاء رجال الفكر والرأي ومنهم (مالك بن نبي) الذي قضى يوم (31/10/ 1973 )، في صمت معدماً، محاصراً منسياً، وهي سبة عار في جبين أولئك الديماغوجيين ومنهم (أشباه المجاهدين) الذين باعوا الوطن ـ مقايضة ـ على (طبق من ذهب) لعملاء الاستعمار، وبيادقه، وأحفاده انتماء، وهوى؛ ليمرغوا سمعته في الأوحال العفنة.‏

رغم ذلك، رغم أنوف الحكام الخونة وحواشيهم من الوصوليين والانتهازيين وعملاء الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً: يبقى (مالك بن نبي) خالداً في ذاكرة التاريخ، وينتهي أولئك إلى قماماته، ويبقى قمة فكرية شامخة في حياة (الجزائر) والعرب والمسلمين عموماً علماً بارزاً، بجهده وجده وإخلاصه بأعماله المختلفة الشاهدة على ذلك الجهد، ومنها الشاهد على عصره، كهذه (المذكرات) بجزأيها التي أدركه الأجل دون نشر الجزء الثالث منها، كغيره من آثاره المخطوطة والمسجلة على أشرطة وهي مسؤولية المؤسسات لو كانوا يفقهون، لكنهم في جهالتهم وسفالتهم وغيهم سادرون، و"سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"..‏ ‏ ( هوامش‏

(1) مذكرات شاهد على القرن، مالك بن نبي، تـ: مروان القنواتي، ص: 60، ط: دار الفكر، بيروت، 1969م.‏

(2) المصدر نفسه، ص: 19.‏

(3) المصدر نفسه، ص: 241.‏

(4) المصدر نفسه، ص: 246.‏

(5) المصدر نفسه، ص:259.‏

(6) المصدر نفسه، ص: 276.‏

(7) المصدر نفسه، ص: 305.‏

(8) المصدر نفسه، ص: 311.‏

(9) المصدر نفسه، ص: 350.‏

(10) مذكرات شاهد القرن، الطالب (ج:2) ترجمة المؤلف، ص:9، ط:1، دار الفكر، بيروت، 1970.‏

(11) الشكل والصورة في الرحلة الجزائرية الحديثة، د. عمر بن قينة، ص: 82، ط: دار الأمة، الجزائر، 1995م.‏

(12) مذكرات شاهد القرن، الطالب (ج:2) ص: 28.‏

(13) الشكل والصورة في الرحلة الجزائرية الحديثة، ص:84.‏

(14) مذكرات شاهد القرن، ج:1، ص:14.‏

(15) المصدر نفسه، ص:15.‏

(16) المصدر نفسه، ص:196.‏

(17) المصدر نفسه، ص311-312.‏

(18) المصدر نفسه، ص:101.‏

(19) المصدر نفسه، ص144-145.‏

(20) المصدر نفسه، ص:46.‏

(21) المصدر نفسه، ص160-162.‏

(22) مذكرات شاهد القرن، الطالب، ج: 2، ص: 263-268.‏ ‏‏‏‏‏‏‏ مالك حداد المبدع‏

الذي عاش في صمت.. ومات فيه؟!‏ ‏‏ تحلّ ذكرى وفاته (2 جوان 1978 م) في ليل حالك السّواد وتنسحب في صمت المقابر. تخلفها ذكرى ميلاده (5 جويلية 1927 م) فتجد الصفحة قد طويت مختومة بشمع أحمر، لأمر مبيّت، مع سبق إصرار، على مصادرة الرجل.. والذكرى.. ذكرى وفاة.. وذكرى ميلاد.‏

هو الشاعر الكاتب الروائي: مالك حداد (1927-1978 ) من كتاب (الفرنسية) في (الجزائر) لكنه ليس كسائر الكتاب الفرنسيين في (الجزائر) أو المنتمين إلى (الجزائر) (ببطاقة هوية) وحدها، فهو الثائر حتى على نفسه، معتبراً اللغة الفرنسية منفاه محروماً من القدرة على التعبير بلغته الوطنية (العربية) كسائر أولئك الذين "لم يسمح لهم بتعلم لغة بلادهم" كما قال في الصفحة العاشرة من روايته "رصيف الأزهار لا يجيب" فبقى حسب تعبيره "يتيم القراء" في عمق وطنه، وقد تاق إلى التعويض ثأراً لذلك بأن يجعل ولده (حجة في العربية) ربّما! لعلّ! من يدري؟ لست أدري؟‏

من هنا أعلنوا الحصار عليه في حياته وطيّ صفحته بعد وفاته. كيف لا يحدث هذا لرجل أراد أن يكون جزائرياً عربياً: فكراً وشعوراً وهو يعاني بألم عجزاً عن ذلك -لغة- بفعل إرث استعماري؛ فلعن الاستعمار الذي جعله سجيناً في لغته الفرنسية، فكان جزاؤه عن اللعنة والإدانة زجا به في ركام (المهملات).‏

هو (مالك حدّاد) الشاعر، صاحب المجموعة الشعرية الأولى له "الشقاء في خطر" سنة 1956، والروائي الذي أنجز أوّل رواية له سنة 1958 بعنوان: "الانطباع الأخير" تحية للثورة الجزائرية (1954-1962) المتأججة، في عامها الرابع، وقد احتضنها الرجل، فوجد فيها ذاته، بعد ميلاده الفكري السياسي الجديد يوم (8 ماي 1945) الذي دشن فيه الاستعمار مجازره الجماعية، فأدرك (مالك) حقد الاستعمار، وضرورة القضاء على وجوده:‏

"لقد ولدت في 8 ماي 1945 أيحتاج هذا التاريخ إلى تعريف؟" ثم لا يرى في حياته قبل هذا اليوم شيئاً، لقد التزم مالك أيضاً منذ 8 ماي يوم الدمع والدم في الجزائر، طريق الثورة، وصعّد فيه جنباً إلى جنب مع رفاقه حملة السلاح "يحققون وجودهم العزيز ويعطون للحرية وللكرامة الإنسانية معناهما الأصيل" كما تقول (ملك أبيض) في تقديمها لديوان زوجها (سليمان العيسى): "صلاة لأرض الثورة" بعدما ذكرت معاناة (حداد) مع (الفرنسية) وصعوبة التبليغ لأبناء وطنه العربي (الإسلامي) ومنهم أبناء (دمشق) حين حلّ بها محاضراً بالفرنسية والثورة الجزائرية في عنفوانها "كانوا يقرأون كلماته في عبارات وجهه، ويقاطعونه بالتصفيق والهتاف، فلا يملك إلا أن تخضل عيناه بالدموع، ويعلق: إن مأساتي تتجلى الآن بشكل أعمق... إني أقف أمامكم؟ لا أعرف كيف نتفاهم!".‏

بعد رواية "الانطباع الأخير" جاءت رواياته الأخرى "سأهبك غزالة" سنة 1959 و "التلميذ والدرس" سنة 1960، و "رصيف الأزهار لا يجيب" سنة 1961، وهذه من آخر ما كتب، لكنها حبلى بأريج الذكريات، وأوجاع الانكسارات، انطلاقاً من مربع الذكريات (قسنطينة) مسقط الرأس، وهواه، ومدفن آلامه وآماله معاً، وقد مارست ضغطها على الشارع "الرصيف الباريسي" الذي لم يعد يجيب! فيها يرتسم جو (قسنطينة) الخريفي منذ البدء، فتضطرم مشاعر الطالب البطل (خالد بن طبال) بمختلف الأحاسيس، منها أحداث الربيع الدامي برصاص الاستعمار الفرنسي في (8 ماي 1945) "في ذلك الصباح من شهر أكتوبر كانت ثانوية قسنطينة القديمة متأثرة إلى أقصى حدود التأثر... وكانت البلاد تداوي بمشقة جروحها مما أصابها فصل الربيع الدامي، وكانت طيور اللقلاق، تنظّم رحيلها وكانت الأراضي في الجبال المحيطة بالمدينة صفراء اللون"(1).‏

في ثانوية المدينة تلك بدأ الحس الوطني ينمو متفجراً، والطالب (خالد) يلتحق بقسم الفلسفة، حيث جمعته الصدفة على مقعد المدرسة بالطالب الأوروبي (سيمون كاج) "من أجل دراسة آثار برجسون، وديكارت، وإهمال ابن باديس، والشعراء الجزائريين الذين لا يذكر لهم اسم"(2).‏

إنه الوعي المبكر الذي شرع يشحن هذه التجربة الروائية بطاقة وطنية، تدين الاحتلال الفرنسي، وتعلن الوفاء لأرض الأجداد، على عكس الكتاب الفرنسيين الآخرين (في الجزائر) من أمثال (مولود معمري) و (كاتب ياسين) الذين كان ولاؤهم للغة (الفرنسية) لا لهذه الأرض العربية التي ألقت بظلالها على "رصيف الأزهار" نفسه في باريس، ولم يعد هذا الرصيف يجيب!‏

حتى (سيمون كاج) الزميل القديم في (قسنطينة) الذي بات في (باريس) مع أطفاله الثلاثة وزوجه (مونيك) المستهترة، لم يعد يولي اهتماماً لشيء، حتى لشرفه، قال (سيمون) لمرافقه (خالد): "لقد اخترت -كما تراني- أن أكون كسائر الناس... لم يبق مني سوى الهيكل العظمي، وبلغ الرجلان مفترق الطرق الذي يدعى (الأوديون) وحاولا أن يغيّرا موضوع الحديث إلى أسلوب المزاح:‏

-كم كان برجسون مسكيناً! وكم كنا نحب علماء النفس!‏

-أنا متأكد أن برجسون كان رجلاً طيباً، هل تفهم ما أقول يا سيمون؟ كان أسلوبه شاعرياً إلى حد بعيد. وربما كان في حياته الخاصة جديراً بالرثاء ولكنه لم يكن بليداً.‏

إن باريس تموج بالناس وتتسع كل يوم لكنك يا باريس لم تفهمي شيئاً مما يجري في العالم"(3).‏

ورغم الأشواق والآمال وجمال (باريس) نفسها، فالصورة تبقى بشعة، تبقى صورة الموت والدمار الذي عرفته (الجزائر) على أيدي المحتلين، وحتى خيانة (وريدة) في (قسنطينة) نفسها، فبماذا كان يعتمل فكر (خالد) وماذا كان يشغله، إنهم ناس بلده "أولئك الذين أخرجوا من ديارهم، لن يعرفوا الابتسامات في المنفى. سيخيل إليهم أن كل يوم أطول من سابقه، وأكثر حزناً، سيخيل إليهم أن كل يوم يحمل مأساة جديدة. فهذا قد مات وذاك عذب، وذاك لم يسمع عنه خبر وذاك ألقي عليه القبض.‏

وريدة لا تبعث الرسائل أو بالأحرى أنها لم تعد تبعث الرسائل. ماذا حدث لها؟ وأنتظر يوم الاثنين والثلاثاء: لا شيء. وذهب إلى مركز البريد وإلى منزل سيمون كاج، ولكن لا شيء. ومع هذا كله فينبغي أن لا تفارق الابتسامة شفتيه، وأن يحلق اللحية كل صباح، وأن يتظاهر بقراءة الجريدة في المطعم. وهو يقوم بهذا "يقتل الوقت" ويقتل نفسه. وحينئذ يلاحظ بأن الزمن بطئ في عزف سيمفونية الأيام الرتيبة المتشابهة التي لا طعم لها ولا لون. والطيار الشديد الانتباه يلمح الأرض ويراها تزداد اتساعاً. ومن يدري، فلعله أخطأ في ضبط الأجهزة، أو لعله نسي شيئاً هاماً؟ وخالد يقول فيما بينه وبين نفسه:‏

"إنها زوجتي وأنا أعرفها جيداً إنها تشاركني في المصير وتكن في قلبها نفس الآمال التي أكنّها وتجعلني أفكّر فيها بين الحين والآخر. ومن يدري، فلعل تخلف رسائلها ناتج عن التغيرات التي طرأت في البريد.. وأنا شخصياً لا أراسل أحداً. ولكن هل لي الحق في المراسلة؟ وما وضعيتي بالضبط؟ لقد بلغني أنهم جاءوا لإلقاء القبض علي. لا يهم! الأهم من ذلك أن هذا الحب باق، ما دام هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر الإيمان والمحبة.‏

وإلا فالويل للإنسان من هذا الزمان!.."(4)‏

وهكذا تصبح "باريس أمام عينيه وكأنها صحراء لا أنيس بها، وخيل إليه أنه يسير وحيداً في درب الحياة، وأنه سيلتقي في نهاية هذا الدرب بوريدة، ولا شك أن هناك كثيراً من الناس حرموا من التمتع بنعمة الوطن واجتماع الشمل مع الزوجة، وكان خالد لا يفتأ يمني نفسه باللقاء مع وريدة ذات يوم وهذا الأمل في اللقاء لا يعود في الواقع إلى أنانية في طبعه بقدر ما يعود إلى حاجة في نفسه تدفعه إلى أن ينظر إلى الأشياء من زاوية الإنسانية وأن يحكم على الأشياء مستنداً على القيم الإنسانية وحدها ومع ذلك فإن هذا الإنسان أو بالأحرى، هذا الكاتب الذي يفكر تفكيراً سياسياً، ليس في الواقع سياسياً"(5).‏

لكن السياسية تقتحم علينا عالمنا من دون استئذان، ولا اختيار، أليس التفكير في (الوطن) ومصيره: سياسة؟ أليس التفكير في (الجهاد) و (الاستشهاد) سياسة: "سيأتي ذلك الحين الذي يتحتم فيه أن تمجد بطولات أولئك المجاهدين الذين شاركوا في الكفاح من غير أن يرتدوا اللباس العسكري. كان خالد يتمنى أن تقوم الحرب، وفي نفس الوقت كان متخوفاً منها مثلما يتخوف الطبيب الجراح من نتائج العمليات الخطيرة. ومع ذلك، لم يكن هناك حل آخر لأن القوّة لا تعرف سوى القوّة"(6).‏

لكن حي "رصيف الأزهار" الذي كان يقصده (خالد) شرع يفقد طعمه وبهاءه "كان الثلج يتساقط فوق رصيف الأزهار"(7) حتى باتت تحلق "فوق حي رصيف الأزهار سحب الكآبة والحزن"(8).‏

وهو ما يجد الاستجابة التامة له في نفس (خالد) المطبوع على (التجهّم) الذي كانت تضيق به (مونيك) نفسها زوج (سيمون).‏ ‏‏ في "رصيف الأزهار لا يجيب" يلتحم الهمّ الشخصي بالهموم الوطنية والإنسانية، بمشاعر الحنين، والخيانة والوفاء في بوتقة واحدة، صدى لمعاناة وطني على جبهات اختلفت، لكنها جميعاً التهبت نيرانها في روح (خالد بن طبال) الذي ليس سوى (مالك حداد) نفسه، في انكساراته، وأشواقه، هي الواقعية الشفافة، في تجربة روائية، ذات مضمون وطني إنساني.‏

وهذه الرواية مثل معظم روايات (مالك حداد) ترجمت إلى العربية، وأغلبها ترجم ونشر في (لبنان) و(تونس) و (دمشق) و (الجزائر) تحت وهج الثورة الجزائرية، لكن بعد النصر انقلبت الموازين، بفعل جهود (الطلقاء) الجدد في تاريخنا الجزائري المعاصر، وبفعل النشاط الحثيث لقوى الاستعمار العاملة لضرب (الجزائر) العربية المسلمة في العمق، فكيف يسهو الاستعمار وبيادقه عن (مالك) الساخط على (زنزانته) في (الفرنسية) أداة تفكير وتعبير؟ وكله توق في أن ينتقم له ابنه، فيجيد العربية لغة آبائه وأجداده، فيعرف ضميره بعض الراحة والطمأنينة.‏

لقد ولد الرجل في مدينة الوطنية الجزائرية المعاصرة (قسنطينة) مدينة المفكر الجزائري المصلح (عبد الحميد بن باديس) لكنه سرعان ما انتهى كاتباً بالفرنسية، ولم يشعر بمأساته إلا في عمق الثورة، ولم يتمكن من تجاوزها عقبة تؤرّق ضميره، لكنّ أعداءه استغلوها بعدما استحال عليهم ترويضه، فكان الحصار والصمت جزاء تمردّه على أوامر (باريس) وعملائها: فكراً، ولغة، و (أيديولوجية). وقد وجدت في (رجالها) بوطنه (الجزائر) عوناً لها، رجالها في السياسة وفي الثقافة وفي الإعلام، وقد مضى نشاطهم يتّسع ويطرد منذ الساعات الأولى للاستقلال، منذ الساعات الأولى حقيقة لا مجازاً.‏

وها هم اليوم يعلنونها في (الجزائر) صراحة، في زمن الضعف والهوان، وموت الروح الوطنية، والطاقة الجهادية، فيتظاهرون في (1998) في شوارع (تيزي وزو) استنكاراً لتعميم (اللغة العربية) الذي يترتب عنه تقليص هيمنة (الفرنسية) حتى في المواقع البسيطة، هم أحفاد (لاكوست) و (بيجارا) و (غي مولي) و (ديغول) الذين بقوا أكثر ولاء للغة الجد (لاكوست) و (الأخوال) من أمثال (ميتران) و (شيراك) و(ديستان) هو المسخ الثقافي والاستعمار الفكري الذي ناهضه (مالك حداد).‏ ‏ وهذا ما يبرر.. إن كان الأمر في حاجة إلى تبرير سرّ إهمال الرجل، والصمت عنه حتى في الدراسات العليا بالجامعات الجزائرية، فلم تعد عن أعماله ولا رسالة واحدة جامعية، ولا رسالة (ماجستير) كما يبرّر في الوقت نفسه من جهة أخرى هذا الصخب الذي لا يكاد يتوقف في تلميع كتاب (فرنسا) في (الجزائر) أي (الجزائريين) ببطاقة الهوية فقط، الفرنسيين: لغة وفكراً وشعوراً وطموحاً وآمالاً، وانتماء حضارياً في النهاية.‏

والخاتمة: (مالك حداد) المبدع بالفرنسية رقم مهمل، أما غيره من كتاب فرنسيين عاديين جداً أو دون العادي، أمثال (مولود معمري) و (كاتب ياسين) في الأولين، و (طاهر جاووت) و (رشيد ميموني) في الآخرين فهم (أعلام) تدقّ لهم الطبول بمناسبة ما... ومن دونها، تعد عنهم الرسائل الجامعية، والمقالات التحليلية في الصحافة الفرنسية (بباريس) و (الجزائر) يحظون بالتكريم المادي والمعنوي؛ فترصد لهم الجوائز في فرنسا الأم، وتسند إليهم "أدوار" في الجزائر وفي (فرنسا) بعضها "سرّي" وبعضها معلن، كما تطلق أسماؤهم على: جمعيات "ثقافية" فرنسية أو (فرنسية- جزائرية) ومؤسسات فرنسية و(جزائرية)... كما هم موضع دعم سياسي ومادي ومعنوي... في كل الظروف. كما أن (فرنسا) ملاذهم عند (الملمات) في (الزّمن الصعب) فيحلّون بها كأبطال وافدين أو فارين... لحضن الأم... المرضعة... الحنون فتبقى (فرنسا) واللغة الفرنسية: الروح والفكر والانتماء إلى مجال حضاري أوروبي، إنه التمسك بالعبودية، فما ألذّ وقع السياط في أيدي الجلاّدين على ظهور العبيد ذوي القابلية للتبعية للمستعمر الغالب!‏

أما (مالك حداد) الجزائري العربي الوطني المضطهد؛ فقد ثار الإنسان الجزائري الأصيل في أعماقه؛ فحاول رفض واقعه أملاً في تجاوزه، كما أعلن عداءه للاستعمار ومجاله الحضاري، فدفع إلى زاوية مظلمة محاصراً بصمت مطبق... أسلوب النذالة الاستعمارية... واليسار الانتهازي، وخطط التطويق... والعزل، في زمن تسوده ثقافة المسخ والنسيان... ونكران الجميل! في زمن (العمالة) و (الخيانة) وسلطة (الطلقاء)!.‏

فرحمك الله أيها الرجل... وغفر لك! وستبقى في ضمائر كلّ الشرفاء كلما حلّت ذكرى ميلادك أو وفاتك أو انسحبت تلك أو هذه في اكتئاب!‏

وكان الله في عون وطنك... وهو ينزّ جراحات العشرية الحمراء (1992-1999م) بعد العشرية السوداء.. ويعاني آلاماً... ومخاضاً... ربّما! لعلّ! وعسى! أليس مع العسر يسراً؟ بلى... هو وعد الله... والله لا يخلف وعده! كما ينجز وعيده... لكل الطغاة، ومنهم "طلقاء" الثورة، في زمن الغدر.. والخيانة! وقد فجروا... وغدروا!.‏ ‏ (هوامش‏

(1) رصيف الأزهار لا يجيب، مالك حداد، ترجمة: حنفي بن عيسى، ص:9، المطبوعات الوطنية الجزائرية، الجزائر، 1965.‏

(2) المصدر نفسه، ص:10.‏

(3) المصدر نفسه، ص:46.‏

(4) المصدر نفسه، ص:47.‏

(5) المصدر نفسه، ص:57.‏

(6) المصدر نفسه، ص:68.‏

(7) المصدر نفسه، ص:59.‏

(8) المصدر نفسه، ص: 86.‏ ‏‏‏‏‏‏ أحمد توفيق المدني‏

المفكر.. الكاتب المنسي!‏ ‏‏ من أعلام الفكر والأدب الذين لقوا الجحود في حياتهم، وبعد مماتهم في وطنهم، المفكر السياسي، الباحث الكاتب الجزائري: أحمد توفيق المدني (1889-1983). موهبة فذة تكونت ثقافياً بعصامية نادرة، ثم دخلت معترك الحياة الفكرية والأدبية من باب السياسة منذ سنة (1925)، لتكون إحدى القلاع الشامخة في الفكر الوطني والإصلاحي المقاوم، في الإطار الصحفي، وفي خندق (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) ثم في صفوف (جبهة التحرير) بعد إعلان الكفاح المسلح (1954-1962) أداته قلمه ولسانه، ثم جهوده كوزير وسفير، وكباحث مؤلف، وكاتب متميز في المقالة الصحفية، والسياسية، والأدبية، فكان المسلم العربي الجزائري الأصيل بعمله، وبفكره، وبقلمه، منافحاً عن وطنه الصغير، وأمته الإسلامية الكبرى، ومنها العربية خصوصاً التي كانت تعاني أشكالاً من الاحتلال الأوروبي (الفرنسي) و (الإنكليزي) و (الإيطالي) و (الإسباني).‏

بعد الاحتلال الفرنسي في الجزائر (1830م) وفشل ثورة (1871م) انتقلت أسرة (أحمد توفيق المدني) إلى (تونس) هروباً من بطش المحتلين، حيث ولد، يوم (24 جمادى الثانية 1317هـ/1 نوفمبر 1889م) ودرس في جامعة (الزيتونة) مع جنوح إلى تكوين نفسه بنفسه، مما جعله ينغمس تدريجياً في الحياة الفكرية والسياسية، حتى أبعدته من أجل ذلك السلطات الفرنسية من (تونس) التي امتدّ إليها الاحتلال الفرنسي بعد (الجزائر) فكانت وجهته بلده الجزائر، التي حلّ بها سنة (1925) فوجد المناخ مهيأ سياسياً وفكرياً لاستقبال قلمه، وحيويته السياسية، فشرع يؤلف في تاريخ وطنه، ويكتب المقالات المختلفة في القضايا الوطنية والعربية والإسلامية عموماً، كما صار عضواً في (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) فكان من أهمّ شخصياتها، ومن أبرز الأقلام في صحفها، خصوصاً بإسهامه الفاعل والمدوي في (جريدة البصائر) التي ترأس تحريرها، "حتى سنة (1956) حيث أمر بالسفر إلى (القاهرة) ليكون عضواً في الوفد الخارجي لـ (جبهة التحرير الوطني) ثم صار عضواً في الحكومة المؤقتة حتى الاستقلال، فأسندت إليه حينئذ وزارة الأوقات، كما عيّن بعد انقلاب (19 جوان 1965) سفيراً"(1) ووزيراً مفوضاً، في أكثر من بلد إسلامي.‏

بهذه الصفة انتهى نشاطه السياسي الذي بقي فيه بعيداً عن (بؤر) التآمر والمناورات الشيطانية، و (فبركة) المقالب في الصراع الرخيص الدامي على السلطة، و (التكالب) على منافعها، بكل الطرق التي لم تكن فيها يوماً واحدة شرعية؛ فكان من القلائل الذين لم تتلوث أيديهم بدماء الأبرياء، ولا جيوبهم بالمال الحرام، لكنّه خدم وطنه سياسياً، كوجه جاد مخلص في وزارته، أو في سفارته، فكان أيضاً من القلائل الذين حالوا دون الصورة السوداء الكاملة التي كان (يحمّضها) خصوصاً (غلمان الخارجية الجزائرية) بعبثهم واستهتارهم، وقلة جديتهم، وانعدام إخلاصهم في خدمة بلدهم (حكاماً) وحاشية، (وسفراء) وأتباعاً، اللهم إلا إخلاصهم في (الابتزاز) و (استغلال) المواقع التي اغتصبت اغتصاباً، على حساب كرامة وطن (شهيد) وأمة (مجاهدة) قدمت أغلى ثمن للحرية في القرن العشرين.‏

جاهد الرجل سياسياً وفكرياً، حتى كانت وفاته في خريف (1983) فانتهى (أحمد توفيق المدني) السياسي، وبقي المفكر والمؤلف، والأديب خالداً في وجدان أمته، بآرائه، ومواقفه، التي تعكسها آثاره المنشورة ككتب، وكعيون مقالات في صحف عربية وإسلامية، ومنها جزائرية، أهمّها (البصائر).‏

أوّل كتاب صدر له كان سنة (1931): (كتاب الجزائر) عن (الجزائر) تاريخاً، وجغرافيا، وأرضاً، وأعيد طبعه مرة ثانية سنة (1985) بعد وفاته "ومن آخر أعماله:‏

- هذه الجزائر، القاهرة، 1956 للتعريف بالجزائر أرضاً وتاريخاً وثورة.‏

- مذكرات الحاج أحمد شريف الزهار، تحقيق في سلسلة (ذخائر المغرب العربي) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980م.‏

- حياة كفاح (مذكرات) في ثلاثة أجزاء، 76-1982م"(2).‏

وكتابه هذا (حياة كفاح) زبدة المسيرة النضالية على مستوى الجسد والفكر، سياسياً متنقلاً عبر أقطار المعمورة، خصوصاً في البلاد العربية والإسلامية، ومفكّراً، ومؤلفاً وكاتباً تؤرقه قضايا أمته الإسلامية الكبرى، كما يبتهج لانتصاراتها، متطلعاً في كلّ ذلك -يومئذ- إلى خلاص وطنه من الاحتلال الفرنسي أولاً، ونجاته من مخالب (الضباع) والوحوش الكاسرة وهي تنقض عليه بعد الاستقلال فريسة أنهكتها مسيرة الصراع، ليتفرغ لنهشها كلّ أولئك الذين كانوا في راحة ينعمون، في الصالونات المخملية، أو في المنتزهات العالمية، والمنتجعات الخاصة، فتشبث بهم الصعاليك أنفسهم من أجل المشاركة في (الغنيمة) ونهش الضحية.‏

(حياة كفاح) بصفحاته التي تجاوزت الألف وثلاث مئة (بل هي بالضبط 1386 صفحة) الموزعة على ثلاثة أجزاء، يعطي صورة حية عن نضال رجل وعناده، وصمود أمة وغلبتها على مختلف الأعداء الخارجيين، حتى خذلها الخونة من الداخل، وفتّ في ساعدها المرتزقة والانتهازيون، وأشياعهم من (الطلقاء) الجدد بعد النصر المبين في (1962) الذي صودر من أمة منكوبة بأشباه رجال.‏

شمل (الجزء الأول) المرحلة من (1905) إلى (1925) أي من بداية نشاطه السياسي والفكري في (تونس) حتى دخوله (الجزائر) أما (الجزء الثاني) فيغطي مرحلة المد الوطني، والنضال القومي، بروحه الدينية، كما جسده الفكر الإصلاحي، من (1925) حتى (1954).‏

بهذا التاريخ تبدأ مرحلة جديدة في حياة (الجزائر) المسلمة العربية، عندما قررت مخاطبة المحتل باللغة التي لا يصغى إلا لها، لغة السلاح بعدما استنفدت (الحركة الوطنية) لغة السياسة، و (تملّق الحقوق) هبة من (استعمار) ليس في سجله غير جرائم البطش والتنكيل، وليس من المعتاد منه الإصغاء لصوت ضعيف، ولا لموقف هزيل، في غياب لغة الردع منطقاً وحيداً. هذه المرحلة (1954-1962م) كانت موضوع الجزء الثالث.‏

وقد أدركت الوفاة الرجل دون إتمامه (الجزء الرابع) عن مرحلة (ما بعد الاستقلال) في (سنة 1962) وهي فترة دقيقة خضعت فيها (الجزائر) لكثير من (السلخ) و (المسخ) و (الاستغلال) و (التآمر) المحبوك بإرادة استعمارية.‏

وبقدر ما في هذه المذكرات من حقائق: من انتصارات وانكسارات، ففيها الكثير أيضاً من نفس (أحمد توفيق) السياسي والمفكر، والكاتب، والأديب، كما تعبّر عن هذه الصفة بعض مقالاته التي نشرها سابقاً في الأربعينات والخمسينات وضمن بعضاً منها هذه (المذكرات) نفسها للمناسبات التي تستدرجها، كهذه المقالة التي تعكس جانباً من موهبته الأدبية، وقلمه الأنيق، وخياله الواسع، فضلاً عن تشبعه بالثقافة العربية الإسلامية.‏

هي تلك المقالة التي كتبها بعنوان: "ولسوف يعطيك ربّك فترضى" سنة (1956) بمناسبة عودة الملك المغربي (محمد الخامس) من منفاه تحت ضغط الحركة الوطنية المغربية على الحماية الفرنسية الاستعمارية في (المغرب) الأقصى. هي مقالة (سياسية-أدبية) بروح قومية، وحسّ نضالي متوهج جرى بها قلم أديب، في وصفه فرحة الشعب المغربي، وهو ما أسماه "الحقيقة المغربية الجديدة"(3) التي هي "شعب حي، ناهض، شاعر بحقوقه وبواجباته" فيصف -حين حلّ بالمغرب في المناسبة ضمن وفد جمعية العلماء- وهو في الطريق من (المطار) إلى (الرباط) الفرحة في العيون، فيقول: "والعيون الناظرة؟ هل رأيت العيون الناظرة؟‏

لقد كنت طوال الطريق أحدق النظر في أعين الذين يحيطون بنا وقد أطلقوا العنان لسرورهم ولحبورهم، فأول ما لاحظته، وأول صورة ارتسمت على صفحات قلبي فوق تلك الأرض التي صهرها النضال وطهرها الكفاح، هي تغير نظرات القوم. أي والله، لقد تغيرت حتى أصبحت تكاد ترى فيهم خلقاً جديداً نشأ في عالم الحياة أخرى"(4).‏

ليضيف بعد هذا بقليل: "إن لم تكن الليلة هي ليلة القدر التي بشرّ الله بها في القرآن المجيد، فهي ولا ريب ليلة القدر السياسي في المغرب العربي وقد فصل الله بها بين عهدين: عهد الاستعمار الذي مات، وعهد التحرير الرافع الرايات"(5).‏

وكثيراً ما كانت جولات (المدني) ورحلاته عامل حكم عن مشاهدة، ومصدر إبداع في وصف، فقد قال عن الشعب الأندونيسي المسلم: إنه "في مجموعة شعب لطيف، مسالم وديع جداً، لكنه إذا تحمس ثار، وإذا ثار فعل المعجزات، أما إسلامه فيكاد يكون سطحياً... يخشى على هذا الإسلام مع طول الزمن"(6) كما يرسم صورتين في زيارتين إلى (العراق)، الأولى قبل ثورة 14 يوليو 1958، فيتساءل "أين هي بقايا مدينة الرافدين؟ لم أجد هنالك... داراً ولا دياراً... إن شعبنا من العمالقة يحكمه ويرديه جماعة من الأقزام، أي والله، شعب العراق شعب من العمالقة، هم العرب حقاً، هم الماجدون صدقاً، هم الأباة سجية، فكيف يا ترى خضع هذا الشعب لأمثال نوري السعيد، وعبد الله، وفيصل، ومن خلفهم من العناكب والحشرات"(7) أما الثانية فبعد الثورة بعدما حدث (الزلزال)، كما يصف الكاتب ذلك في الزيارة الثانية، حدث "على حين غفلة والناس نيام، زلزلت الأرض في بغداد زلزالاً مروعاً قاتلاً، يوم 14 يوليو 1958 فهوى الظالمون كجلمود صخر حطه السيل من عل"(8).‏

لكن الكاتب يصف الوضع وصفاً سلبياً حين يشخصه وضعاً فوضوياً، عندما وصل (بغداد) قادماً من (دمشق) هكذا "وصلنا، وذهلنا، واندهشنا، وطار صوابنا، لا أبالغ والله! كان المطار خالياً تماماً، كان قفراً بلقعاً: لا مدير، ولا طيار، ولا مرشد، ولا كاتب، ولا عامل!.‏

حطت الطائرة بجهودها الخاصة، ونزلنا، فجاءنا من بعيد جماعة من الجند يرقصون ويهزجون، يعربدون، دون سوء، ويصيحون بأصوات مختلفة: دار الخائن، فيجيبهم آخرون على الفور... محروقة! وخرجنا من حلبة الطيران إلى الطريق العام، دون أن نرى أحداً، أو يعترضنا أحد، وعثرنا على سيارة أجرة أخذتنا إلى فندق بغداد، وكاد أن يكون خالياً.

ثم عثرنا على الحلقة التي هدتنا إلى بقية السلسلة، وأخذ القوم يتوافدون علينا تباعاً وفيهم من جاءنا بعظم من ساق نوري السعيد وفيهم من جاءنا -أي والله- بقطعة من لحم عبد الإله، مملحة مقددة، كأننا كنا من آكلي لحوم البشر... لا، أما الثورة، فنعم، وأما الانتقام من الظالمين، فيا حبذا، لكن ليس إلى هذه الدرجة من الوحشية والشناعة"(9).‏

صورة مؤسفة تمحو صورة أخرى سليمة، ليرتسم في ذهن القارئ أكثر من شيء عن سلوك، وعن محيط، وعن نمط حياة.‏

(أحمد توفيق المدني) مفكر عربي: إسلامي، ووطني، وكاتب وأديب، نهض بجهود فكرية وسياسية مختلفة منذ (1925) حتى (1983) وترك آثاراً ناطقة بحبه أمته، كما هي ناطقة بأصالته العربية الإسلامية، لكن الجحود شمله، لأنه من رعيل شهم أبي، يرفض التآمر والدجل السياسي، كما يرفض العيش في مستنقع التزلّف والنفاق، وبؤر المقالب في محيط بات موبوءاً.‏‏

( هوامش‏

(1) الدكتور عمر بن قينة، الشكل والصورة في الرحلة الجزائرية، ص: 187، دار الأمة، الجزائر، 1995.‏

(2) المرجع السابق، ص:188.‏

(3) أحمد توفيق المدني، حياة كفاح، ج:3، ص:50، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982.‏

(4) المصدر نفسه، ص:51.‏

(5) المصدر نفسه، ص:52.‏

(6) المصدر نفسه، ص:373.‏

(7) المصدر نفسه، ص:357.‏

(8) المصدر نفسه، ص:391.‏

(9) المصدر نفسه، ص: 393.‏ ‏‏‏‏‏‏‏ محمد الصالح رمضان‏

رحلته (سوانح وارتسامات)(*)‏ ‏‏ عرفت من بعد الأستاذ (محمد الصالح رمضان) كاتباً وشاعراً، ولم أكد أشرع في الاقتراب منه حتى اكتشفت فيه الإنسان الأديب المتواضع الذي يغمرك بمعارفه وودّه البرئ من الرياء، كما لا يبخل عليك إن كنت باحثاً بما يتوفّر عليه من معلومات ومصادر ومراجع، قد تضيع منه لدى بعض أحياناً.‏

عرفت هذا وغيره في الرجل ولم أعرفه كاتب رحلة شغوفاً بالسفر إلا حين نشر رحلته "سوانح وارتسامات عابر سبيل" في حلقات بجريدة (الشعب)‏

(1) الجزائرية، سنة 1407هـ (1987م) وبقيت الصورة في حاجة إلى صقل شرع يتمّ حين بدأت تتواتر جلساتي الأدبية معه في بيته بحي (ابن عمر) في (القبة) بمدينة (الجزائر) ابتداءً من سنة: 1409هـ (1989م).‏

من هنا انطلقت أعيد قراءة الرّجل من أكثر من جانب، وكان أول ما حاز اهتمامي أدبياً في هذه الفترة رحلته هذه التي يدرك فيها القراء كثيراً مما لم تبح به سائر آثاره الأخرى: كاتباً وشاعراً، وقد اتّحد الكاتب والشاعر في هذه الرّحلة أيما اتّحاد، شعوراً وإبداعاً، فتناغمت اللّوحة النّثرية مع الصورة الشعرية تناغماً عذباً لذيذاً.‏

وإن كان الأستاذ (محمد الصالح رمضان) في غنى عن التّعريف بالنسبة للحركة الأدبية الجزائرية فإن ذلك ضروري عربياً وإسلامياً وأجنبياً، فهو من رجال الحركة الفكرية والتعليمية والإصلاحية الحديثة.‏

ولد سنة (1914م) في (القنيطرة) من ولاية (باتنة) بالشرق الجزائري، درس في مسقط رأسه، وعلى يد (عبد الحميد بن باديس) وقد عيّنه هذا معلماً في (مدرسة التربية والتعليم) سنة (1937م) ومرشداً لفوج (الرجاء) في (الكشافة الإسلامية الجزائرية) ثم معلّماً في مدرسة (جمعية العلماء) بمدينة (غليزان) ومديراً لمدرسة (دار الحديث) في (تلمسان).‏

وبعد الاستقلال (1962) عين مديراً للتعليم الديني في (وزارة الأوقاف) ثمّ التحق في (1964م) بوزارة التربية الوطنية أستاذاً في اللغة العربية، حتى أحيل على المعاش سنة (1980م) وهي السنة التي صار فيها عضو (المجلس الإسلامي الأعلى) بعد تأسيسه.‏

له عدة أعمال، مطبوعة ومخطوطة، من المطبوع (جغرافية الجزائر والعالم العربي) 1964م، (ألحان الفتوة) -شعر- 1953، (الخنساء) -مسرحية- 1986 (ط:2) فضلاً عن عشرات البحوث والمقالات.‏

أما رحلته (سوانح وارتسامات عابر سبيل) فقد نشر قسماها: الأول والثاني في حلقات بجريدة (الشعب) سنة (1407هـ/ 1987م) ولم ينشر القسم الثالث لاعتبارات عديدة صحفية وسواها فيما يبدو، لكنها في مجموعها تخاطب عقل القارئ ووجدانه، تفيده وتمتعه.‏

وهي رحلة إلى (بولونيا) سنة (1955م) أعتبرها في مقدمة نماذجه النثرية، وقد تألق الأديب فكراً وأسلوباً في فقرات عديدة، في صلته بالناس والطبيعة، وردّ الفعل تجاه موقف أو حركة أو منظر من صور الطبيعة: في حلة رومانسية زاهية على الأرض الفرنسية.. والسويسرية وسواها، أو صورة الحياة الزّاخرة المشعّة بشراً وأملاً: تنهض من خراب ودمار تركته مدافع النازية وقنابلها في (فرصوفيا) مروراً في كلّ ذلك بالتّوق الوطني الحالم باستقلال (الجزائر) المأمول: لتكون حرّة كسائر الدول ذات التاريخ العريق.‏

كانت الرحلة في وفد رسمي، تعدّد أفراده، واختلفت مشاربهم وغاياتهم، عنوانها: "سوانح وارتسامات عابر سبيل" متلوّاً بعنوان فرعي:‏

"رحلة إلى مهرجان الشباب في فرصوفيا 1955م" وعلى هامش ذلك عنوان دال يقول نصّاً: "نبضات قلب في كلمات، وخطرات فكر في صفحات، وتأملات شاعر في وقفات".‏

وقد (أعدّ) الكاتب -منهجياً- رحلته هذه في ثلاثة أقسام هي: (الرحلة إلى بولونيا)، (فرصوفيا مدينة المهرجان الخامس)، (من وحي الرحلة).‏

ففي القسم الأول شرع الكاتب يصف السّفر بحراً فبراً من (الجزائر) إلى (بولونيا) ابتداء من يوم (25 جويلية 1955م) وقد لاح له (البحر الأبيض) حاجزاً طبيعياً، تاريخياً وجغرافياً بين (الجزائر) المجاهدة يومئذ و (فرنسا) المستعمرة.‏

لكن الأرض الأوروبية: تاريخاً وألواناً طبيعية وأنماط حياة سرعان ما تشرع تمارس هيمنتها وسحرها في فكر الكاتب وعلى عاطفته، ابتداء من الساحل اللازوردي (Lacote dàzur) على الأرض الفرنسية، مروراً بالريفيرا الإيطالية، وطبيعة الحياة في (فيينا) بالنّمسا، و (تشيكوسلوفاكيا) حتى (بولونيا) وحطّ الرحال في (فرصوفيا) خمسة عشر يوماً ليعيش أجواء مهرجان دولي يحضره واحد وثلاثون ألف مشارك، من وفود عالمية مختلفة.‏

وقد آثر الكاتب في نهاية هذا القسم الأول أن يحدّثنا عن العودة ومسارها، في الرابع عشر من شهر أغسطس (أوت) مؤجّلاً تفاصيل انطباعاته إلى القسم الثاني، حيث ذكر خط الرحلة من (بولونيا) إلى (تشيكوسلوفاكيا) فالنّمسا، (وسويسرا) التي خصّها بحديث تاريخي وجغرافي، لينتهي منها إلى الحديث عن الطريق إلى (ليون) الفرنسية ثم (مارسيليا) للعودة منها جواً هذه المرّة إلى (الجزائر).‏

أما القسم الثاني (فرصوفيا مدينة المهرجان الخامس) فقد افتتحه الكاتب بنبذة تاريخية عن فكرة المهرجان الوليدة (سنة 1945م) المجسّدة لأول مرّة في المهرجان الأول (1947م) في (براغ) والثاني في (بودابست 1949م) والثالث في (برلين الشرقية 1951م) والرابع في (بوخارست 1953م).‏

ثم ينصرف إلى وصف أجواء (المهرجان الخامس) الذي ملأ الحياة في (فرصوفيا) بشراً وحبوراً، وحوّل المدينة إلى (عاصمة) عالمية للشباب، تعج بالمرح والحياة والتّوادد، وهي الفرصة التي استدرجت وضع الشاب الجزائري في وطنه تحت نير الاحتلال الفرنسي، فتقتحم الذاكرة صور المجازر الاستعمارية الفرنسية، خصوصاً تلك التي جرت في (1945م) ولم تكن مفصولة في جوهرها عن مجازر (ستالين) خلال (36-1937) ومجازر (هتلر) في (1943) وقبلها وبعدها.‏

في هذا الجوّ الزّاخر: ألقاً وبشراً وحبوراً: كان الكاتب وصديقه المرافق في الرحلة (حفناوي هالي) يعبّان من جمال الطبيعة والبشر وصور الأمل والتوق العنيد، وقد توفّرت عناصر بهجة تزيل كدراً وتمنح دفئاً وسلاماً "الماء والخضرة والوجه الحسن" فقادتهما أقدامهما إلى (حديقة الحيوانات) على ضفاف (الفستول) فأمتعا النظر والقلب بمشاهد الطبيعة الزاخرة: أشجاراً، وطيوراً، وماءً وحيتاناً، وما كادا يتوقفان أمام بركة يتأمّلانها حتى اقتحمت عليهما عالمهما (شقراوان) "كأنهما توأمتان" رافقتاهما، وتبادلتا معهما الحديث (بلغة فرنسية) فكان لسحر جمال وعذوبة لفظ، وحركة وشعور فعل عاصف، تصوّره صاحب الرّحلة يجتاح كيان رفيقه (هالي) فأنجب خيال الكاتب الشاعر (رمضان) قصيدة عذبة عن صاحبه بعنوان: "شيخ من صحراء الجزائر في مهرجان الشباب بوارسو سنة 1955م" بعد تلك الأمسية، وقد خيّل للشاعر في تلك الليلة أن صاحبه يعاني في نومه.. ما أجتاح نفسه من أشواق روح وجسد، حتى هرع إلى الله ملاذاً، أملاً في عفوه، ومغفرته.‏

تحدّث الكاتب في هذا القسم عن الأرض والإنسان في واقع جديد بعد حرب مدمّرة، حيث ينشط الإنسان العامل المستبشر، فقدّم انطباعات غزيرة مختلفة، انطباعات رحّالة فعلاً، لا رجل تاريخ وجغرافيا ولا باحثاً في علم اجتماع، ومن ذلك حديثه عن (قصر الثقافة) العملاق، من دون إقصاء للصور السلبية وهي تقتحم الذاكرة في (حمامات الدماء) التي ارتكبتها (الدكتاتوريات) في كلّ العصور، ومنها (دكتاتورية) الحكم الفرنسي في (الجزائر) حيث القيمة للأوروبي ولو كان منبوذاً في (غابة) ولا قيمة لشعب كامل كالشعب الجزائري -بمنطق الاستعمار- ولو كان شعباً عظيماً بتاريخه، وهو منطق الحقد والعنصرية:‏

جريمة لا تغتفر"‏ ‏‏ "قتل امرئ في غابة‏ ‏ مسألة فيها نظر"‏ ‏‏ "وقتل شعب كامل‏ ‏ لذا سرعان ما تتراجع الصور المبهجة في فقرات من هذا القسم حين تغمرها الذكرى بصور الجرائم الاستعمارية في المعمورة كلّها، وفي مقدّمتها جرائم الاحتلال الفرنسي في (الجزائر).‏

ويتوّج الكاتب رحلته بقسم ثالث عنوانه: (من وحي الرّحلة) وقد جاء في شكل تعقيب وتعليق عن تواريخ، وقضايا، ومواقف، وفيه أدرج الكاتب قصيدتين مطوّلتين له، أولاهما في (110 بيتاً) بعنوان: "فرصوفيا المحطة" صوّر فيها أحاسيسه ومشاعره عن ألوان الدّمار الشّامل الذي أصاب المدينة (في الحرب العالمية الثانية) ثم صورة المدينة الجديدة الناهضة من الحطام والخراب.‏

أما القصيدة الثانية فقد صوّر ما تخيّله من مشاعر وهموم وأشواق باتت رابضة على قلب رفيقه (الحفناوي هالي) -رحمه الله- بعد اللقاء بالفتاتين، فيختلق خيال الشاعر حجّة للغوص في عالم صاحبه الخفي بالنفس بعدما أخلد هذا للنّوم، على إثر تلك الأمسية؛ فيزعم (الكاتب) أنه اخترع (جهازاً) يجسّ به ما كان يدور في نفس صاحبه، بعدما "استسلم للنّوم" و "بدأ يحلم ويستعرض ما مرّ عليه في تلك العشية، ركبت له الجهاز ليسجّل ما يدور بخلده، يهفو له قلبه، وتتطلّع إليه نفسه من أمان عذاب..." وكانت القصيدة بعنوان: "شيخ من صحراء الجزائر في مهرجان الشباب بوارسو سنة 1955م) كما سبق:‏

فيما مضى من سالف الأزمان‏ ‏‏ أمسية ما إن رأيت كمثلها‏ ‏ أوراق حبّي الذابل الأغصان‏ ‏‏ وشربت من ماء الحياة فأينعت‏‏

والحبّ يحيي الرّوح في الإنسان(2)‏ ‏‏ فالماء يحيي الأرض بعد مماتها‏ ‏ وهي قصيدة عذبة، بلغة موحية، وبمضمون إنساني رفيع، تقع في (102 بيتاً) يختمها النائم الحالم تحت "جهاز المراقبة" لصاحب الرحلة بقوله:‏

بتعلّم وتفهّم القرآن‏ ‏‏ خمسون عاماً من حياتي تنقضي‏ ‏ هوجاء من نفسي على إيمان‏ ‏‏ واليوم تعصف بي عواطف فتنة‏ ‏ رحماك، كم للحبّ من سلطان‏ ‏‏ رحماك ربّي لا تؤاخذ من صبا‏ ‏ غير الصبابة للصبا الرّيّان‏ ‏‏ رحماك إني إن صبأت فلم أرد‏ ‏ حقاً جميل فإن أغراني(3)‏ ‏‏ أنت الجميل وكلّ ما أبدعته‏ ‏ وقد أدرج صاحب الرحلة في هذا القسم تعريفاً ببولونياً، ذا طابع تاريخي، جغرافي، اجتماعي، سياسي، اقتصادي، سياحي أيضاً. كتب بعضه إبّان الفترة التي كتب فيها الرّحلة، وكتب أهمّه متأخراً بعد السبّعينات لقرينة مرجع استعمله، فبدا هذا الموضوع مكملاً من الزاوية العلمية، وليس من الناحية الأدبية الفنية الخالصة في الرحلة.‏

من هنا تنبغي الإشارة السريعة إلى منهج الأستاذ (محمد الصالح رمضان) الرحالة في كتابته هذا الفن الأدبي، فقد بدا ساعياً بين القدامى في حرصهم على الجانب التّعليمي: تاريخاً وجغرافيا واقتصاداً وسواها وبين أسلوب الرّحالة الحديث خصوصاً الأديب في حرصه على تسجيل مشاعره وانطباعاته المختلفة: سلباً وإيجاباً، من دون تقيد بما يمكن أن يثبت أو ينفي صورة سلبية أو إيجابية، لأن ذلك موقوف على تجربة الكاتب وعلاقته بالمحيط، وطبيعة الاحتكاك بالناس، وظروف الصّلة التي غالباً ما تكون عرضة للخطأ والصواب.. فتترتب عنها أحكام وانطباعات قد تكون صائبة في موضع وزمان، وخاطئة في زمان آخر، وربّما في نفس الموضع.‏

لقد بقي (محمد الصالح رمضان): المعلم -أكثر من أربعين سنة- والمؤلف الجغرافي حاضراً في هذا التّقسيم، فالنزعة التعليمية والتاريخية الجغرافية وراء ذلك، وهي التي جعلته يقول عند الحديث عن العودة "لم أعرّف بفرنسا كما فعلت بالدول التي مررنا بها، لأنها معروفة لقرائنا أكثر من تلك الدول"(4) وهذا ممّا يجنح به إلى المدرسة القديمة في أدب الرحلات التي لا تقنع بالانطباع العام أو المحدود في الاحتكاك المباشر بوجوه الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بل تنحو نحواً يجعل من الرحلة عملاً تاريخياً، لا مجّرد وثيقة، كنوع أدبي مساعد، مثل الأنواع الأدبية الأخرى، كما بقي أيضاً (محمد الصالح رمضان) الأديب الفنّان متواجداً عبر ذلك كله في الأسلوب الأدبي، في نقل الصوّر الفنية الدقيقة، وإعلان الانطباعات الموحية التي لا يخطّها إلا قلم أديب.. مبدع دقّ إحساسه، واتّسع خياله وامتلك أداة تعبيره.‏

لقد عبّرت هذه الرحلة عن تجربة إنسانية ذات عمق مختلف الأبعاد: شخصية وعامة، ورغم حرص الكاتب في رحلته إفادة قارئه بمعلومات علمية: تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية فإن ذلك لم يجعل منها نصّاً تاريخياً جافاً، كما لم يحل بينها وبين الظلال الإنسانية التي حفلت بها كرحلة معاصرة. مثلما لم يحل بينها وبين الطلاوة المرغوبة في كل رحلة أدبية معاصرة، في الجزئيات الصغيرة نفسها، والكاتب يلوذ بالتأمل في منظر طبيعي، أو في حركة إنسانية، أو في عناق حميمي بين زُرْقة البحر، واخضرار الطبيعة على الساحل، وما يتخلل ذلك من معان جميلة ساحرة، أو من علاقات إنسانية وَدُودَة في سموّ رفيع، أو من انسياب القطار في السهول والجبال في الظلمة الحالكة كخيط ضوء دقيق يشقّ العتمة في صمت مطبق.. يعطي اللحظة نكهتها، وجلالها وجمالها.‏

والرحلة بذلك وبسواه، ممّا قيل ومما لم يقل: معلم من معالم الرحلة الجزائرية الحديثة في القرن العشرين التي اتّجه أصحابها إلى أوروبا، فلم يعلن صاحبها انبهاراً تاماً بحضارة، ولا دعوة إلى مذهب وإن أشاد بقيم الجدّ والعمل، بل صوّر واقعاً وبلداناً حرّة أو متحررة حديثاً وفي نفسه آمال وأشواق إلى تحرّر وطنه من الاحتلال الفرنسي، فعكست الرّحلة في جميع الحالات شخصية صاحبها كأديب أو كاتب -عموماً- مهموم بقضايا أمّته العربية الجزائرية، كما تأخذ بلبّه المواقف الإنسانية الإيجابية والصور الجميلة، مثلما يترع قلبه الشوق إلى الخير والحبّ يملأ عالم النّاس، وقد اغتسلوا من أدران الحقد وإرادة الإبادة والدّمار.‏

خلال ذلك وهذا وغيره في هذه الرحلة يكتشف القارئ في (محمد الصالح رمضان) شغف الرّحالة، وعقل المؤلف ونزوع الجغرافي، وتفكير المعلم وأسلوبه، وروح الأديب وأداته، معظم ذلك بلغة الأديب وأسلوبه، يطربه المنظر، وتهزّ وجدانه الصّورة الموحية، واللّفتة الدّالة، فيصّور ذلك بلغة أنيقة حتى وهو يقدّم حقيقة علمية أو صورة طبيعية مألوفة، وهو مما يجعل هذه الرحلة إضافة نوعية، في مسار أدب الرّحلة الجزائرية خلال هذا القرن الذي ينتظر مزيداً من جهد الباحثين واجتهادهم.‏‏

( هوامش‏

(1) نشر من الرحلة قسمان في الجريدة، من دون القسم الثالث، ابتداء من العدد 7396، في 5 ذي الحجة 1407هـ (أوت 1987م)، وانتهاء بالعدد 7423، في 13 من المحرم 1408هـ (سبتمبر 1987م).‏

وقد تكرّم الأستاذ (محمد الصالح رمضان) علي بنسخة مخطوطة مرقونة في ثمان وتسعين صفحة، ضمّت الأقسام الثلاثة، فاعتمدتها أول مرّة في كتابي (اتجاهات الرحالين الجزائريين في الرحلة العربية الحديثة)، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، جويلية 1995م إضافة إلى اعتمادي ما نشر في الجريدة.‏

(2) سوانح وارتسامات، محمد الصالح رمضان، مخطوط، ص: 87.‏

(3) المصدر نفسه، ص:92.‏

(4) المصدر نفسه، ص:43.‏‏‏‏‏‏

المحتوى‏

مقدمــــة 5‏

الشاعر الناقد: ابن رشيق 7‏

(المسيلي- القيرواني: العربي) 7‏

أبو العباس أحمد المقرْي من (روضة الآس) إلى (نفح الطيب) 14‏

(ابن العنابي) وكتابه (السعي المحمود في نظام الجنود) 20‏

الأمير.. الثائر.. الشاعر العاشق!! 26‏

(ابن قدور) القلم.. ولسان الحال! 30‏

رجل فكر وإصلاح بين (تأليف الرجال) وتأليف الكتب! 34‏

العلاّمة الداعية المجاهد (الفضيل الورتلاني) رجل الفكر والسياسة 41‏

الغسيري الأديب الرحالة 45‏

( أبو اليقظان ) من أعلام الفكر القومي.. المغمورين 59‏

محمد البشير الإبراهيمي (الشيخ المجاهد بلسانه وقلمه) 62‏

ابن عمر..هذا المسلم العربي الجزائري (الأمازيغي) 70‏

الشاعر العربي محمد العيد آل خليفة (والمرأة رمزاً وموقفاً) 76‏

شاهد القرن:مالك بن بني (1905-1973) 91‏

مالك حداد المبدع الذي عاش في صمت.. ومات فيه؟! 100‏

أحمد توفيق المدني المفكر.. الكاتب المنسي! 107‏

محمد الصالح رمضان رحلته (سوانح وارتسامات) 113‏

قالب:روابط الفضيل الورتلانى