الفقه السياسي عند الإمام حسن البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الفقه السياسي عند الإمام الشهيد حسن البنا


بقلم / د. محمد أبو فارس


المقدمــــة

الإمام حسن البنا

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مُضّلَّ له ومن يُضلل فلا هادي له ولن تجد له من دون الله ولياً مرشداً، ونُصلي ونُسلم على رسوله الرحمة المُهداه والنعمة المُسداه للبشرية الجمعاء، ورضي الله عن صحابته الغُرِّ الميامين والذين اتبعوه بإحسان إلى يوم الدين.

إنَّ دراسة التراث الذي خَلَّفه الإمام البنا جديرةٌ بالاهتمام، وبخاصة الفقه السياسي عنده رحمة الله، فهو مُجدد القرن العشرين بلا منازع، كان مهموماً بقضايا العالم الإسلامي وبأحوال المسلمين، وبخاصة المؤامرة على الدولة الإسلامية، فقد عاصر الصليبيين وهم يغزون العالم الإسلامي ويقضون على الدولة العثمانية الإسلامية ويعلن أتاتورك علمانية الدولة وإلغاء الخلافة، ثم تقتسم فرنسا وبريطانيا المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى بموجب ما اتفق عليه مندوباً بريطانياً وفرنسا "سايكس" و "بيكو" وقد سميت الاتفاقية بأسمهما. (اتفاقية سايكس بيكو).

لقد شاهد الإمام رحمة الله تمزق العالم الإسلامي إلى دويلات مستعمرة، تستعمرها دول الكفر الصليبي الحاقد، وتشاركها في الاستعمار الدولة البلشفية الوالغة في دماء المسلمين في بلاد الشيشان والشراكسة وغيرهم.

وحاول الأستاذ البنا أن يجمع العلماء وذوي الجاه من أجل العمل على استئناف الحياة الإسلامية وتحرير بلاد المسلمين. وكان يرى رحمة الله تثبيطاً من معظمهم، وجُبْناً ملموساً من كثير منهم.

ولكنه لم ييأس من هذه الأحوال المثبطة. بل بادر هو بنفسه بالعمل والتجميع والتنظيم. وأنشأ مع نفر قليل من المسلمين جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية. وشاعت فكرته في نفوس الناس، فأحبوه حباً لم يكن لزعيمٍ من زعماء المنطقة، واتبعوا طريقه وفكرته وصاروا من جُنْده وأتباعه.

ومما لا شك فيه أن دعوته إسلامية تلتزمُ بالإسلام عقيدةً وشريعة ونظام حياة. وقام هو رحمة الله بشرحها من شتى جوانبها السياسية والدعوية والحركية والتنظيمية والاقتصادية.

والمتأمِّل لما كتبه في رسائله ومذكراته يجد أن الإمام البنا رحمه الله قد كان قائداً سياسياً انقادت له الجماهيرُ، وكان ذا فقه سياسي إسلامي أخذ بلُبِّ ذوي الألباب من الناس.

حقاً لقد كان رحمه الله فقيهاً بحق، وكان سياسياً بارعاً، ذا حنكة وفطانة وزكانة شَهد له كل مَنْ عرفه من الأعداد والأصدقاء على حد سواء بذلك.

لقد التقى روبير جاكسون بالأستاذ البنا عام 1946 فقال: (كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل على الزعامة الشعبية لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله).

ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيويورك د. كمجيان: وظهور البنا مثال يُجسِّدُ الشخصية الآسرة التي تظهر أوقات الأزمات لتقوم بمهمة الخلاص الاجتماعي الروحي.

ويقول طنطاوي جوهري: حسن البنا في نظري أعظم من الأفغاني ومحمد عبده، إنه مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسي، إنه قلب علي وعقل معاوية، رأيتُ فيه صفات القائد الذي يفتقده العالم الإسلامي.

ويقول روبير جاكسون في زعامته: (كان فيه من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن العلماء حججهم، ومن الصوفية إيمانهم، ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم، ومن الكتاب رسالتهم، وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابع خاص في الوقت المناسب. لقد كان من سياسية الاستعمار أن يفتن قادة الشعوب عن جهادهم السياسي لتحرير الأوطان ويحولهم إلى عملاء له عن طريق رشوتهم بالمال وإغرائهم بالنساء وإيقاعهم في حبائلهن، وإسقاطهم بتتويجهم حكاماً ومسؤولين لكنهم لا يخرجون عن سياسته. أما حسن البنا رحمه الله فقد أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه.

قال روبير جاكسون: وهذه المغريات الثلاث التي سلطها المستعمر على المجاهدين قد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه.

وقال روبير جاكسون عنه: كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نُزعت منها. بعد أن قيل: إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان.

هذا وقد اقترح عليَّ بعض الإخوة ممن أحبهم ولا يطاوعني قلبي أن أعصي لهم أمراً أن أكتب في الفقه السياسي للأستاذ البنا رحمة الله، خدمة له ولفكرته بعد مماته، وفائدة لأتباعه ومحبيه، وقد وجد هذا أيضاً في نفسي رغبة توافقت مع أمر مَنْ لزمت طاعتهُ وعدم مخالفة أمره.

فانكببتُ على قراءة رسائلة رحمة الله ومذكراته وما أتيح لي من كتاباته وما كتب عنه فأعانني الله تبارك وتعالى أن أكتب هذا البحث القصير وسميته:

"الفقه السياسي عند الإمام البنا رحمه الله".

وهذا البحث يتكون من الموضوعات التالية:

  • المراد بالفقه السياسي.
  • مؤهلات الإمام البنا الفقهية والسياسية.
  • مصادر فقهه السياسي.
  • الإسلام والسياسة.
  • الإسلام الغربي الاستعماري.
  • مطالب في الناحية السياسية.
  • الحكومة الإسلامية: مفهومها، أهميتها، واجباتها، حقوقها، الموقف من انحرافها.
  • الموقف من الحكومات التي لا تطبق الإسلام.
  • التدرج في التغيير.
  • ظرف التغيير وتطبيق الأحكام الشرعية.
  • فقهه في إنكار المنكر باليد.
  • القوانين الوضعية والتحاكم إلى محاكمها.
  • رئاسة الدولة الإسلامية: مسؤولية رئيسها. هل يفوض رئيسها غيره.
  • الخلافة: شكل الدولة في الإسلام.
  • أهل الحل والعقد.
  • النظام الانتخابي.
  • المرأة والعمل السياسي.
  • الأقليات غير الإسلامية.
  • الاستعانة بغير المسلمين.
  • وعي سياسي يدل على فقه سياسي.
  • ما في الوصية من فقه سياسي.
  • الطاعة في فقه الإمام السياسي.
  • دراسة سياسية في قيام الدولة الإسلامية وأسباب انحلالها وكيف نعمل لها.
  • الموقف من الغرب المعتدي والاحتلال البريطاني والأحزاب السياسية والوحدة العربية والإسلامية.
  • مفاهيم سياسية إسلامية في القومية والوطنية.
  • إنشاء الجهاز الخاص أو النظام الخاص.

أرجو أن أكون في هذا البحث قد قدمت عن جانب من جوانب حياة البنا وفقهه ما يفيد القارئ الكريم، وما يفيدُ منه أصحابُ الدعوات والحركات الإسلامية، وفقهاء الفقه السياسي الإسلامي. والقادة المصلحون الغيورون، والأتباع المخلصون.

وكاتب هذه الأسطر لا يزعم لنفسه ولا لغيره العصمةَ، فإنَّ العصمة لا تكونُ من الشر إلا للرسل، ولا يرى العصمةَ فيما كتب، فقد يكون فيه الخلل، فمن وجد في هذا الكتاب خللاً أو خطأ فليبادر إلى نُصح الكاتب فإنه يسر لذلك كل السرور، كيف لا؟ وهذا من قبيل النصيحة فالنصيحةُ إرادةُ الخير للمنصوح له، وهذا عونٌ للكاتب، والله في عونِ العبد ما كان العبدُ في عون أخيه.

وختاماً إني أهرع إلى الله تبارك وتعالى جلت قدرته، وعزت عظمته بالشكر الجزيل والتسبيح والتمجيد والثناء على أنْ أعانني ومكّنني من الكتابة في هذا الموضوع وفي غيره واسأله تبارك وتعالى أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل كل ما كتبت في ميزان حسناتي وأن يعاملني بما هو أهله إنه أهل التقوى وأهل المغفرة بأنْ يغفر لي ذنبي وإسرافي في أمري ويثبتني وينصرني على نفسي وعلى القوم الكافرين.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

المراد بالفقه السياسي

الفقه في اللغة: مصدر مأخوذ من الفعل الماضي "فَقُهَ". وفَقه الأمر معناه أحسن إدراكه، وفلان لا يفقه: لا يعلم ولا يفهم، والفقه: الفهم والفطنة.

فالفقه ليس مجرد العلم، بل هو الفهم الذي يتوجّب إعمال الذهن، وشحذ العقل وبذل غاية الجهد في ذلك.

والفقه في الشرع لا يحصل لجميع الناس بل لفئةٍ من الناس ذات قدرات عقلية متفوقة، وذات مستوى إيماني عالٍ، وصلاح مميز. قال تعالى: (قد فصلنا الآيات لقومٍ يفقهون) [الأنعام].

وهو لا يحصل لكافر ولا لمنافق: قال تعالى: (بأنهم قومٌ لا يفقهون) [الأنفال]، وقال تعالى في المنافقين: (قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون) [التوبة]، وقال تعالى: (ولكن المنافقين لا يفقهون) [المنافقون].

والفقه في الإصطلاح الشرعي: هو استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.

أما لفظ السياسي فمأخوذ من لفظ "ساس" واسم الفاعل سائس والمصدر سياسة ومعناه ومعناه الرعاية، فسائس الخيل يرعاها، وساس الأمة: رعى شؤونها.

والسياسي: الذي يهتم بشؤون الأمة ويدركها بدقة فهمه ويعالجها بصواب رأيه وفكره. والسياسي الإسلامي: هو المسلم الملتزم بالإسلام الذي يعالج شؤون الأمة من وجهة نظر الإسلام وحكم الشرع. والفقه السياسي: هو الفهم الدقيق لشؤون الأمة الداخلية والخارجية وتدبير هذه الشؤون ورعايتها على ضوء أحكام الشريعة وهديها.

فالسياسة نوعان: سياسة شرعية وسياسة غير شرعية، والسياسة الشرعية تعني حمل الكافة أي جميع الناس على مقتضى النظر الشرعي والخلافة تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به. وأما السياسة غير الشرعية أو الوضعية فهي السياسة التي تحمل الناس على مقتضى النظر البشري المترجمة إلى دساتير وضعية وقوانين وضعية تكون بديلاً للشريعة الإسلامية ومغايرة لها. وهذه السياسة التي ترفضُ التوجه بالسياسة الشرعية سياسةٌ لا دين لها. والسياسةٌ التي لا دين لها سياسة جاهلية.

مؤهلات الإمام الفقيه والسياسية

إن الذي يقرأ ما كتبه الإمام البنا رحمه الله وما حاضَرهُ في المحاضرات العامة والخاصة وما حفظه من مُتونٍ في العلوم المختلفة يدرك بسهولة أن الإمام كان على جانب كبير من الفقه، وكان مستوعباً لقضايا عصره في العالم العربي والإسلامي، وكان مُطَّلعاً على الأحداث العالمية، وكان مدركاً لحقيقة الحضارة الغربية أنها حضارة المتع والشهوات.

فهو رحمه الله واسع الإطلاع منذ نعومة أظفاره نشأ في بيئة علمية فقهية خاصة، فأبوه من مشاهير العلماء المُحَدِّثين في العصر الحديث، وله من المصنفات في الحديث النبوي وشروحه ما أثار إعجاب العلماء في عصره، فقد نثر أحاديث مسند الإمام الشافعي وسننه على أبواب الفقه وسماه "بدائع المنن في ترتيب المسند الإمام الشافعي والسنن". وكذلك مسند "الإمام أبي حنيفة" وأهم انجازه هو نثر أحاديث مسند الإمام أحمد (بما فيها زيادات ولده عبد الله) التي بلغت أربعين ألف حديث على أبواب الفقه وخَرَّج هذه الأحاديث، في كتاب سماه "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني" وشرح أحاديث الفتح الرباني وذكر ما فيها ن حِكَم وأحكام في كتاب سماه: "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني" ولما وجد ضخامة بلوغ الأماني اختصره فسماه "مختصر بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني" وهو يتكون من أربعة وعشرين جزءاً بالحجم الكبير.

والذي يقرأ "مذكرات الإمام البنا" يجد أن الرجل كان على جانب كبير من الذكاء، فهو قد تخرَّج من دار العلوم وهو لا يتجاوز واحداً وعشرين عاماً وقد كان الأول على طلبة العلوم في ذلك العام، ودار العلوم فرع من جامعة الأزهر، وفيها تدرس علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية، وهذا ردٌّ على أولئك الذين يزعمون أن البنا لم تكن دراسته شرعية.

هذا وزيادة على سَعَةِ مطالعاته في كتب التفسير والفقه والحديث والقانون، كان يحفظ متوناً متنوعة في اللغة والفقه والتوحيد والمنطق.

فهو كما يُخبر في مذكراته: مذكرات الدعوة والداعية، أنه حفظ "ملحةَ الإعراب" للحريري و "ألفية ابن مالك في النحو وقواعد اللغة".

وحفظ عن ظهر قلب "الياقوتية في الحديث النبوي الشريف".

"وحفظ الجوهرة في علم التوحيد".

وحفظ "الرحيبة في علم المواريث".

وحفظ بعض "السلم"، وهو كتاب في علم المنطق.

وحفظ في فقه أبي حنيفة "فتح القدوري".

وحفظ في فقه الشافعي "متن الغاية والتقريب" لأبي شجاع.

وحفظ في فقه الإمام مالك بعض "منظومة ابن عامر".

وكان أبوه يشجعه على المطالعة وحفظ المتون ويقول له: من حفظ المتون حاز الفنون، والفنون هنا العلوم المختلفة.

و أو لا وقبل كل شيء يَسَّر الله له حفظ القرآن الكريم وفَهْمَ معانيه، فكان في محاضراته وكتاباته يُكثِرُ من الاستدلال بالآيات القرآنية، ويذكر وجه الاستدلال فيها، كما كان يؤيد وجه الاستدلال بما يحفظ من الأحاديث النبوية الشريفة. وهذا ما نجده في رسالته الجهاد وسائر رسائله التي كتبها للمسلمين عامة وللإخوان المسلمين خاصة. وكذلك مقالاته في الصحف والمجلات.

أضف إلى ذلك ثقافته القانونية ومعرفته الدقيقة بالدساتير الوضعية والقوانين الوضعية وبخاصة الدستور المصري والقوانين المصرية، وما كتبه شُرّاحُ الدستور والقانون، ويظهر ذلك في تقويمه للدستور والقانون تقويم المطّلع الخبير والعالم التحرير.

أما سعة إطلاعه على كتب الفقه العام وكتب الفقه السياسي فيدلّك على هذا اقتباس الأحكام الفقهية من كتب الفقه العام وكتب الفقه السياسي في كثير من رسالاته وكتبه ومقالاته.

وإن المقام يتسع لذكر هذه الحادثة الطريفة الدالة على سعة إطلاعه وهو غلام ومفادها أن الطالب البنا رحمه الله وهو لا يتجاوز عشر سنوات قد شكل جمعية في المدرسة اسمها جمعية منع المحرمات، وتولى رئاستها، تقوم هذه الجمعية إذا رأت من شخص من أهل البلد مخالفةً لحكم شرعي نبّهته إليه بطريقة طريفة هي أن ترسل له رسالة تذكر له ذلك وتطلب منه أن يلتزم بالحكم الشرعي. وقد كانت نشيطة إذ لم يمض وقت قصير على إنشائها إلا ووصل لأغلب المواطنين في بلده كتب بذلك، وأخذ الناس يتساءلون عن الجهة التي ترسل إليهم الرسائل، وظن أهل البلدة أن شيخ الطلاب وأستاذهم الشيخ زهران هو وراء ذلك فكان ينفي ذلك حتى وصله رسالة –وكان ضريراً- تلفتُ نظره إلى أنه صلى الظهر بين سواري المسجد وذلك مكروه وهو عالم البلد فيجب عليه أن يبتعد عن المكروهات ليبتعد غيره من العوام عن المحرمات. فأخذ الشيخ يسأل أنا لا أعرف هذا الحكم واستعان بالطالب حسن الذي كان يرافقه ويقرا له وسأله عن الحكم فقال: موجود يا سيدي في كتاب "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" قال الطالب حسن: فقرأتُ له الحكم وأنا أضحك. أنظر مذكرات الدعوة والداعية 14-15.

تأمل هذا الحديث وما فيه من دلالة على سعة إطلاع هذا الرجل ومعرفته للأحاديث والأحكام، فهو يعرف ما لا يعرفه إمامه وشيخه وأستاذه. وصدق الله العظيم (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) [البقرة].

وقد كان خبيراً بالقضايا الإسلامية والأحداث السياسية في العالم الإسلامي وخارج العالم الإسلامي، ويُحدِّث المسلمين ومنهم الإخوان المسلمون بهذه الأحداث والقضايا، ويقدم المواقف الشرعية من هذه الأحداث. فإنك تجد في رسائله الحديث عن الاستعمار الغربي، والدول الاستعمارية وما استعمرته من بلاد المسلمين، وحركات الجهاد في تلك البلاد، ويحدد بوضوح أن العلاج هو الجهاد فقط.

وعن سعة اطلاعه قال روبير جاكسون: (لم تكن هناك دعوة، ولا نزعة ولا رسالة مما عرف العالم في الشرق أو في الغرب في القديم أو في الحديث، لم يبحثها أو يقراها، أو يدرس أبطالها وحظوظهم من النجاح أو الفشل، يعرف لغات الأزهريين والجامعيين والأطباء والمهندسين، والصوفية، وأهل السنة. ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا وفي الصحراء وفي الصحراء وفي مصر الوسطى والعليا وتقاليدها .. التربية السياسية عند جماعة الإخوان المسلمين ص 132 نقلاً عن كتاب حسن البنا الرجل القرآني.

وقال عنه الدكتور إسحاق الحسيني: "هو دائرة معارف واسعة كاملة يتحدث في أي موضوع بدون إعداد مهما كان نوع هذا الموضوع، ويتخير في أحاديثه الأسلوب السهر والتعابير المناسبة". الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية للدكتور زكريا سليمان سليمان بيومي ص77. وكان رحمه الله خبيراً بالأحزاب السياسية من حيث فكرها وولائها وأهائها ومصالحها ولهذا قد حدد الموقف منها بشكل واضح وحازم في أكثر من موطن.

أضف إلى ذلك أنهم أسهم في الأحداث السياسية وهو طالب وبعد عهد الطلب، بل كان يجمع العلماء وهو طالب ويحاورهم في ضرورة العمل لدين الله واستئناف الحياة الإسلامية. بل كان هذا الهمّ السياسي المنبثق عن فقه سياسي إسلامي يُؤرِّقه ويؤَهّل نفسه إليه ويعدّها معاهداً الله تعالى على العمل لذلك.

وها هو ذا في سنة التخرج من المدرسة وقبل أن يتخرج طلب الأستاذ منه ومن زملائه أن يكتبوا موضوع إنشاء بعنوان: أعظم آمالك بعد إتمام دراستك وبيّن الوسائل التي تعدها لتحقيقها. فيكتب موضوعاً طويلاً جاء فيه:

وأعتقد أن قومي بحكم الأدوار السياسية التي اجتازوها، والمؤثرات الاجتماعية التي مرت بهم وبتأثير المدنية الغربية والشبه الأوروبية والفلسفة المادية والتقليد الفرجي بعدوا عن مقاصد دينهم ومرامي كتابهم، ونسوا مجد آبائهم.

كل ذلك أعتقده عقيدة تأصلت في نفيسي جذوتها، وطالت فروعها، واخضرّت أوراقها، وما بقي إلا أن تثمر. فكان أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان: خاص: إسعاد أسرتي وقرابتي، وعام: وهو أن أكون مرشداً مُعَلماً، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار ومعظم العام، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم ومسرات حياتهم. تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف بالكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة. ذلك عهدٌ بيني وبين ربي أسجله على نفسي وأشهد عليه أستاذي في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير، وليل لا يطّلع عليه إلا اللطيف الخبير (ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً) [الفتح] انظر مذكرات الدعوة والداعية 54-57.

أخي القارئ الكريم: تأمل هذه العبارات الرائعة وهذه الاصطلاحات التي لا تجدها عند أساطين السياسة، وهذا التشخيص البارع لأمراض الأمة والتحليل الرائع للأحداث السياسية، والفقه الواعي لحقيقة المدنية الغربية القائمة على الفلسفة المادية المنغمسة في الشهوات إلى الأذقان ومدى تأثير هذه المدنية في المسلمين وانحرافها بهم عن دينهم، ويضع العلاج الناجع وهو العودة إلى الإسلام والعمل لاستئناف الحياة الإسلامية من خلال عمل السياسية، والتعميم على ذلك، وقطع العهد مع الله كذلك ببيعة بينه وبين الله ويشهد أستاذه عليها لأنه سيقرأ ما كتب.

كل هذا من طالب مدرسة لم يتخرج إلى الحياة والعمل، إنه الفقيه الإسلامي السياسي الذي فقه واقع العالم الإسلامي واستنبط فقه السياسي من كتاب الله وسنة رسول الله (ص).

وبعد أن تخرج للحياة أنشأ جماعة الإخوان المسلمين وقادها حتى استشهد. وأسهم في الأحداث السياسية وأثر فيها سواء كانت في مصر أو في العالم الإسلامي. ووضع لهذه الحركة الإسلامية منهاجاً إسلامياً رائعاً وفقهاً سياسياً عجز غيره أن يصل إليه، وبخاصة إنه فقه سياسي حكم فيه على الواقع الآسن الذي يعيشه المسلمون، وحدد فيه كذلك وجوب العمل لتغيير هذا الواقع وفق مراحل محددة، ووسائل واضحة ومتعددة.

هذه المراحل ليست متناقضة، ولا متناثرة، وإنما هي مراحل متناغمة، كلُّ مرحلة لها صلةٌ بما قبلها وما بعدها، فهي مبنية على ما سبقها وتستند إليها، وما تلاها كان مكملاً لها، وكانت كل مرحلة اقترح لها من الوسائل ما يناسبها.

وحدد بفقهه السياسي أهداف الحركة العامة والخاصة، ووسائلها العامة والخاصة وحدد موقف الحركة من الأحزاب السياسية والحكومات الوضعية والإصلاحات القانونية واتخذ من الخطوات العملية ما يترجم فقهه السياسي على أرض الواقع، وحقق في كثير من المواقف انتصارات وتأثيرات شهد لها القاضي والدتي. ثم سار على فقهه السياسي أنصاره وتلامذته فأحدثوا في العالم الإسلامي وعياً سياسياً ملموساً ليس في مصر وحدها وإنما هو في العالم الإسلامي كله، بل تعدى ذلك أرجاء العالم الإسلامي إلى شتى أنحاء المعمورة. فلا تكاد تجد بقعة من الدنيا إلا ولفقهه أثر بل آثار على اختلاف الأجناس والألوان واللغات.

مصادر الفقه السياسي عند الإمام البنا رحمه الله

1-القرآن الكريم: فقد حوى القرآن الكريم حديثاً عن الحكم والحاكمية والحاكمين، والعدل في الحكم، والطاعة م المحكوم للحاكم، والشورى بين الحاكم والمحكوم وغير ذلك من الشؤون السياسية.

وكذلك فقد حوى القرآن الكريم حديثاً مسهباً عن المال وطرق تحصيله سواء كانت مشروعة فأحلها أو كانت غير مشروعة فحرمها، وحق الكسب والتملك والإرث، وحق الفقراء في أموال الأغنياء والغنائم والفيء، والاقتصاد في الإنفاق، فلا إسراف ولا تقتير وغير ذلك من الأمور.

2-السنة النبوية: ولقد اعتمد الإمام البنا رحمه الله كذلك على السنة في فقهه السياسي والاقتصادي إذ حوت أحاديثها على كثير من الأمور السياسية والاقتصادية.

3-كتب الفقه: ففيها ثروة هائلة من مسائل الفقه السياسي كالحاكم وشروطه وحقوقه وواجباته وتعيينه وعزله وأهل الحل والعقد ومواصفاتهم، وكذلك الوزارة والولايات العامة. كما حدثتنا عن القضاء وشروط توليّه ودرجاته كقضاء المظالم وقضاء الخصومات، ثم قضاء الحسبة، كما تحدثت عن موارد الدولة من خراج وجزية وغنيمة، وطرق الكسب المشروع وغير المشروع والاقتصاد في النفقة، وحدثتنا حديثاً مفصلاً عن الزكاة وحكمها، والأموال الواجبة فيها وأنصبتها وشروط وجوبها، ووجوه أنفاقها.

ولقد ألف فقهاؤنا وعلماؤنا كالماوردي الشافعي رحمه الله وأبي يعلى الفراء الحنبلي والقلقشندي وأبي يوسف وأبي عبيد ويحيى بن أدم وغيرهم كتباً في الفقه السياسي والاقتصادي اعتمد عليها الأستاذ البنا رحمه الله وأشار إلى بعضها كما اقتبس منها.

ومما يجدر ذكره أن الأستاذ البنا رحمه الله مُطّلع على الدساتير الوضعية وبخاصة الدستور المصري، وكذلك الأنظمة السياسية، سواء كانت رئاسية أو نيابية، وكان يحكم على هذه الأنظمة بناء على مدى موافقتها للإسلام أو مخالفتها له.

الإسلام والسياسة

لقد أدرك الأستاذ البنا رحمه الله تأثر الحكام في بلاد المسلمين بأوروبا حين فصلت الدين عن السياسة والحكم. ونبّه إلى خطورة هذا الخطأ الفادح الذي أقدم عليه الحكام فأقصوا الإسلام عن السياسة وإدارة شؤون الأمة ورعايتها، وأعلن أن رجال الحكم والسياسة في بلاد المسلمين أفسدوا الذوق الإسلامي في الرؤوس، والنظرة الإسلامية في النفوس، والجمال الإسلامي في الأوضاع، باعتقادهم وإعلانهم وعملهم على أن يباعدوا دائماً بين توجيه الدين ومقتضيات السياسة، وكما قال: وهذا أول الوهن والفساد. انظر رسالة مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي من مجموعة الرسائل ص 359.

وقد أكد الإمام البنا أن الإسلام دين شامل لجميع أمور الحياة، وانتقد أن يُفصلّ بين الدين والسياسة، وأعلن أن أيّ حركة إسلامية تستبعد السياسة من أهدافها لا تكون إسلامية بالمفهوم الشامل للإسلام؛ ففي مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين المنعقد في شهر المحرم سنة 1357 قال رحمه الله:

"أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسياً، بعيد النظر في شؤون أمته، مهتماً بها، غيوراً عليها، وأستطيع أن أقول: عن هذا التحديد والتجريد أمر لا يقره الإسلام، وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية وإلا كانت هي نفسها تحتاج إلى أن تفهم معنى الإسلام".

  • أنظر رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في شهر المحرم 1357هـ من مجموعة الرسائل نشر المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر صفحة 159.

نعم إنها الحقيقة القائلة لا خيرَ في دينٍ لا سياسة فيه، ولا خير في سياسة لا دين لها، بل هي سياسة كافرة مرفوضة، واٍلإسلام جاء بسياسة لإسعاد الناس في الدنيا والأخرة، سياسة ترعى شؤونهم كلها، ويوم أن ساس المسلمون أنفسهم وغيرهم بهذه السياسة سعدوا وأسعدوا من عاش بكنفهم فعاشوا آمنين على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

الإسلام والاستعمار الغربي

ومما أدركه الإمام البنا وحذر المسلمين منه الهجمة الشرسة الغربية على الإسلام ومحاولة تشويهه من جهة، ومن جهة أخرى إعطاء معنى استعماري للإسلام، بمعنى تصوير الإسلام أنه دين تعبدي لا علاقة له بالحكم وبالقوة والإعداد والسياسة والجهاد، وأنه لا يطلب من معتنقيه الدفاع عن أوطانهم وتحريرها من غاصبها.

وقد أطلق رحمه الله على هذا المفهوم الغربي للإسلام الذي أشاعه المستعمرون: الإسلام الاستعماري الغربي الذليل. انظر مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين المنعقد في المحرم 1357هـ من مجموعة الرسائل161-162.

ومما يؤسف له أن هذا المعنى الذي حرص عليه أعداء الإسلام من مستعمرين وغيرهم شاع عند كثير من المسلمين، فخنعوا وخضعوا لهذا الكافر المستعمر، ووقفوا من الحكم والجهاد والإعداد والتصدي موقف الجبان الذي يتبرأ من هذه الأمور والفرائض الإسلامية.

ووصل الأمر إلى غايته من السوء حين تأثر بعض من ينسبون إلى العلم والعلماء والمستشرقين المعادين للإسلام والمسلمين وأخذوا يرددون كلامهم الكفري القبيح. ومن هؤلاء علي عبد الرزاق الذي ألف كتاباً سماه "الإسلام وأصول الحكم" بعد سنة من سقوط الدولة العثمانية وإعلان الكافر أتاتورك علمانية الدولة وإقصاء الإسلام من واقع الحياة، ومحاربة كل مظاهره في الدولة العثمانية. يؤيد أتاتورك في فصل السياسة عن الدين وينكر في وقاحة وجهل أو تجاهل أن الإسلام لا علاقة له بالحكم، ولا يوجب إقامة دولة، بل إن الخلافة الإسلامية كانت شراً على المسلمين، ويزعم في غباء وضلال أن وظيفة النبي (ص) أن يبلغ دعوة ربه للناس، وليس من وظيفته إقامة كيان سياسي للمسلمين، وينفي أن يكون في الكتاب والسنة دلل واحد على وجوب الإمامة والحكم بالإسلام، فهو يقول: "ولم نجد فيما مرّ بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض، من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآيةٍ من كتاب الله الكريم، ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه إليه، والإشادة به، أو لو كان في الكتاب ما يشبه أن يكون دليلاً على وجوب الإمامة، لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين، وإنهم لكثير، من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلاً".

  • الإسلام وأصول الحكم ص13-14.

والحق أن في كتاب الله وسنة رسوله أكثر من دليل على ذلك، من ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء]، وقوله تعالى: (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم) [النساء]. والمعلوم أن أولي الأمر في الآيتين المذكورتين الأمراء وعلى رأسهم الإمام.

ومما تجدر الإشارة إليه أنه أخذ كلامه هذا عن كتاب المستشرق الكافر توماس أرنولد وأحال عليه، فهو يقول: (وإذا أردت مزيداً في هذا المبحث فارجع إلى (كتاب الخلافة) للعلامة السير توماس أرنولد، ففي الباب الثاني والثالث منه بيانٌ ممتعٌ مقنع).

  • الإسلام وأصول الحكم ص15.

لقد عاصر الأستاذ البنا رحمه الله هذا الكلام وسمعه وردّ عليه دون أن يذكر اسم صاحبه وسمّى هذا المفهوم الغربي للإسلام الذي أشاعه المستشرقون وأمثالهم: الإسلام الاستعماري الغربي الذليل.

وكان دور الإمام البنا رحمه الله ورسالته شرح الإسلام كما أراده الله للناس عقيدة وشريعة ونظام حياة، وإبطال هذه المفاهيم الاستعمارية للإسلام، هذه المفاهيم التي تدعو المسلمين إلى الخنوع والذل والاستسلام لأعدائهم ليحتلوا أوطانهم ويدنّسوا مقدساتهم ويسوقوهم إلى مجازر الحروب مع أعدائهم في أكثر من حرب ظالمة استعمارية أثاروها، فكان هؤلاء الخانعون من المسلمين وقوداً لها.

وشاع مفهوم للإسلام بعد الإمام البنا قريب من هذا المفهوم، وصاحبُ هذا المفهوم أمريكا الشيطان الأكبر، وهو ما يسمى بالإسلام الأمريكي، فإن زعماء أمريكا وعملاء أمريكا من المسؤولين في بلاد المسلمين يقولن لك: الإسلام دين لا سياسة فيه، ويحرم أن تدخل الدين بالسياسة، ولا سياسة في الدين، ولا جهاد في الدين، بل هو الإرهاب والعنف والتطرف، وإن الذي يقاتل اليهود الذين احتلوا أرضه وطردوه من بلده إرهابي وما قام به أو يقوم به إرهاب لا يُقره الإسلام، بل ليس هذا من الإسلام في شيء‍!؟.

والإسلام الأمريكاني هو الإسلام الذي لا جهاد فيه، ولا سياسة فيه، ولا حكم فيه، ولا دولة فيه، ولا خلافة فيه، ولا ضرب المصالح الأمريكية الظالمة المسروقة من أموال الناس فيه، ولا مطاردة لشذاذ الآفاق الذي نشروا الفسق والفجور في البلاد والعباد.

إن لابناء رحمه الله قد أحدث وعياً سياسياً، بهذا الفقه السياسي الإسلامي، وقامت على هذا الفكر حركات جهادية ترى أن الإسلام جاء ينظم جميع شؤون الحياة، فلا بد أن يحكمها، ولا بد أن يسود، ولا بد أن تطرد أمريكا وسائر دولة الكفر من بلاد المسلمين، ولابد أن يحارب الإسلام الأمريكاني بتوعية الناس وتفقيههم سياسياً.

الإخوان المسلمين والسياسة

Ikhwan-logo1.jpg

وبعد أن أقام الحُجة على أن الإسلام جاء بسياسة تسعد الناس جميعاً وأكد ذلك بنصوص من الكتاب والسنة، وأبان أن فصل الدين عن السياسة جرثومة غربية انتقلت عدواها إلى حكام المسلمين في بلاد المسلمين، وأعلن أن الإخوان المسلمين حركة إسلامية تدعو إلى الإسلام بالمفهوم الشامل، هذا الإسلام الذي يقوم على سياسة شؤون الناس وتدبير أمورهم.

فقال رحمة الله: "عَلِم الله أيها السادة أن الإخوان ما كانوا يوماً من الأيام غير سياسين، ولن يكونوا يوماً من الأيام غير مسلمين، وما فرقت دعوتهم بين السياسة والدين".

انظر رسالة مؤتمر الإخوان المسلمين المنعقد في شهر المحرم من مجموعة الرسائل نشر المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر صفحة 160.

وأعلن رحمة الله أن من ظن الإسلام لا يعرض للسياسة أو أن السياسة ليست من مباحثه فقد ظلم نفسه وظلم علمه بهذا الإسلام ولا أقول ظلم الإسلام، فإن الإسلام شريعة الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وجميل قول الغزالي: اعلم أن الشريعة أصل والملك حارسٌ، وما لا أصل له فمهدومٌ، وما لا حارسَ له فضائع، فلا تقوم الدولة الإسلامية على أساس الدعوة حتى تكون دولة رسالة لا تشكيل إدارة، ولا حكومة مادة جامدة صمّاء لا روح فيها، كما لا تقوم الدعوة إلا في حماية تحفظها وتنشرها وتبلغها وتقويها.

  • مجموعة الرسائل 358-359

وقد أوضح الأستاذ البنا رحمه الله سياسة الإخوان كل الوضوح وأبانها كل الإبانة حين ذكر تحت عنوان:

نحن والسياسة من رسالة "إلى أي شيء ندعو الناس: كلاماً هو: يا قومنا إننا نناديكم، والقرآن في يميننا والسنة في شمالنا وعمل السلف الصالح من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام وهدي الإسلام، فإن كان هذا من السياسة فهذه سياستنا، وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسياً فنحن أعرق الناس في السياسة...

إن للإسلام لسياسة في طيها سعادة الدنيا وصلاح الآخرة، وتلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلاً، فسوسوا بها أنفسكم، واحملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الأخروية ولتعلمنّ نبأه بعد حين.

  • رسالة إلى أي شيء ندعو الناس من مجموعة الرسائل طبعة دار الأندلس ص131.

وفي رسالة المؤتمر السادس يقول رحمه الله: "وأما أننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشؤون أمتنا، ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل في نطاقه وتندرج تحت أحكامه. وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركنٌ من أركانه، وفريضة من فرائضه، وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية فنحن كذلك، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد، فهذا هو المعروف عند كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة ونحن لا نعلم دعوتنا، ولا نتصور معنى لوجودنا إلا تحقيق هذه الأهداف، ولم نخرج بذلك قيد شعرة عن الدعوة إلى الإسلام. والإسلام لا يكتفي من المسلم بالوعظ الإرشاد ولكنه يحدوه دائماً إلى الكفاح والجهاد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) [العنكبوت].

  • رسالة المؤتمر السادس من مجموعة الرسائل طبعة المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر صفحة 213.

مطالب في الناحية السياسية

وانطلاقاً من فقه البنا رحمه الله السياسي الذي كان يريد أن يخرج إلى حيّز التطبيق طالب الحكومات في العالم العربي وخاطب الملوك والرؤساء والأمراء بأنْ يُطبِّقوا أحكام الشريعة، وقدّم مطالبات سياسية تفصيلية.

ومن هذه المطالب التفصيلية العملية ما جاء في رسالة "نحو النور" التي وجهها إلى زعماء العرب وأمرائهم. فقد ضمت هذه الرسالة مطالب واقتراحات عملية وكانت تحت عنوان: بعض خطوات الإصلاح العملي، وهذه في النواحي التالية:

- في الناحية السياسية والقضائية والإدارية.

- في الناحية الاجتماعية والعلمية واقترح فيها ثلاثين اقتراحاً عملياً يمكن تطبيقها كلها لو وجدت النية الصادقة.

- في الناحية الاقتصادية: واقترح فيها عشرة اقتراحات عملية تُصلح الاقتصاد على أسس إسلامية. أما في الناحية السياسية فقد اقترح ما يلي:

1- القضاء على الحزبية التي فرَّقت الأمة الإسلامية ومزّقت الشعب الواحد إلى فرق كلها لا تطالب بالإسلام، وتتصارع على مصالح مادية وأغراض شخصية، ولا يهمها المصالح العامة وتوجيه قوى الأمة السياسية في وجهة واحدة وصف واحد.

2- إصلاح القانون حتى يتفق مع التشريع الإسلامي في كل فروعه.

3- تقوية الجيش والإكثار من فرق الشباب وإلهاب حماستها على أسس من الجهاد الإسلامي.

4- تقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية جميعاً، وبخاصة العربية منها تمهيداً للتفكير الجدي العملي في شأن الخلافة الضائعة.

5- بث الروح الإسلامية في دواوين الحكومة بحيث يشعر الموظفون جميعاً بأنهم مطالبون بتعاليم الإسلام.

6- مراقبة سلوك الموظفين الشخصي وعدم الفصل بين الناحية الشخصية والناحية العملية.

7- تقديم مواعيد العمل في الدواوين صيفاً وشتاءً حتى يعين ذلك على الفرائض، ويقضي على السهر الكثير.

8- القضاء على الرشوة والمحسوبية، والاعتماد على الكفاية والمسوغات القانونية فقط.

9-أن توزن كل أعمال الحكومة بميزان الأحكام والتعاليم الإسلامية، فتكون نظم الحفلات والدعوات والاجتماعات الرسمية والسجون والمستشفيات بحيث لا تصطدم بتعاليم الإسلام، وتكون الدوريات في الأعمال على تقسيم لا يتضارب مع أوقات الصلاة.

10-استخدام الأزهريين في الوظائف العسكرية والإدارية وتدريبهم.

  • انظر رسالة نحو النور من مجموعة الرسائل – طبعة الأندلس ص192-193.

وفي خطابه في اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد المنعقد بالقاهرة في 3 شوال سنة 1364 هـ الموافق 8 أيلول سنة 1945. جاء قوله رحمه الله:

"وعلى هذا فنحن نطلب من أية حكومة مصرية أولاً وعربية أو إسلامية بعد ذلك أن تعود في نظام حياتها الإسلامية والمدنية إلى الإسلام، ويكون من المظاهر العملية لذلك:

1-أن تعلن أنها حكومة إسلامية تمثل فكرة الإسلام دولياً تمثيلاً رسمياً.

2-أن تحترم فرائضه وشعائره وأن تُلزم بأدائها كلَّ موظفيها وعمالها، وأن يكون الكبارُ في ذلك قدوةً لغيرهم.

3-أن تُحرِّمَ الموبقات التي حرّمها الإسلام من الخمر وما يلحق بها، ومن الزنا وما يمهد له، والربا وما يتصل به من أنواع القمار والكسب الحرام، وأن تكون الحكومات قدوة في ذلك، فلا تبيح شيئاً من هذا ولا تعمل على حمايته بسلطة قانون، ولا تتعامل مع شعبها على أساسه.

4-أن تجدد مناهج التعليم بحيث تقوم على التربية الإسلامية والوطنية، ويعنى بها باللغة العربية والتاريخ القومي عناية فائقة، وتؤدي إلى طبع نفوس المتعلمين بتعاليم الإسلام وتثقيف عقولهم في أحكامه وحكمه.

5-أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأول للقانون.

6-أن تصدر الحكومات عن هذا التوجيه الإسلامي في كل التصرفات.

ذلك هو حَقُّ الإسلام علينا وقد بَلَّغنا، اللهم اشهد، ولا نرى لهذا وقتاً أنسب من هذا الأوان.

  • مجموعة الرسائل – نشر المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر ص267-268.

الحكومة الإسلامية

1- مفهومها:

يرى الأستاذ البنا رحمه الله أن الحكومة الإسلامية تتكون من أعضاء مسلمين يؤدون الفرائض الإسلامية ولا يتجاهرون بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه؛ فالحكومة إسلامية من حيث ديانة الأشخاص والتزامهم الأخلاق الإسلامية وتنفيذ الأحكام الشرعية، وعليه فالحكومة التي لا تطبق أحكام الشرع الإسلامي ليست حكومة إسلامية.

  • انظر رسالة التعاليم من مجموعة الرسائل ص13.

2- أهمية الحكومة في الإسلام:

يعتبر الأستاذ البنا رحمه الله الحكومة ركناً من أركان الإسلام بمعنى أنها فريضة من فرائضه، ولكنها ليست كأي فرض، فالركن كما هو معروف ما يقومُ عليه الشيء وهو جزء داخل في ماهيته وينهدم بانهدامه وفقدانه.

فالإسلام لا يتحقق كما أراد الله إلا إذا قامت حكومة تطبق أحكامه في جميع شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والقضائية والدولية وغيرها.

قال رحمه الله يؤكد هذا المعنى: "وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركناً من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد".

  • رسالة المؤتمر الخامس – مجموعة الرسائل ص271-272.

وقال في رسالة "مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي":

"يفترض الإسلام الحنيف قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس فهو لا يقر الفوضى، ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام". مجموعة الرسائل 358.

ويستدل لذلك بالحديث: (إذا نزلت ببلدٍ وليس فيه سلطان فارحل عنه) وبحديث: (إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا عليكم رجلاً).

  • نفس المرجع السابق ص358.

3- واجبات الحكومة الإسلامية:

لقد حدد البنا رحمه الله واجبات الحكومة الإسلامية:

-صيانة الأمن وإنفاذ القانون الإسلامي.

- نشر التعليم.

- إعداد القوة.

- حفظ الصحة.

- رعاية المصالح العامة.

- تنمية الثروة وحراسة المال.

- تقوية الأخلاق.

- نشر الدعوة.

وهذه الواجبات قد استنبطها من كتاب الله وسنة رسوله، وهي موجودة في كتب الفقه السياسي الإسلامي. وذكر رحمه الله أن من صفات هذه الحكومة الشعور بالتَّبعة والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعِفّة عن المال العام والاقتصاد فيه.

  • رسالة التعاليم، مجموعة الرسائل ص13.

4- حقوق الحكومة:

وذكر الإمام البنا رحمه الله حقوق الحكومة بعد واجباتها، لأنه لا تثبت لها حقوقها إلا إذا قامت بواجباتها، وهذا فقهٌ حسن. تأمل قوله: ومن حقّها – متى أدت واجبها- الولاء والطاعة والمساعدة بالنفس والأموال.

  • رسالة التعاليم، مجموعة الرسائل ص13.

ومما يجدر ذكره أن القرآن رتّب ثبوت الحقوق بعد أداء الواجبات في قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيرا(58) يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (59) ) [النساء].

فالآية الأولى: تذكر الواجبات على الحاكم بأن يقيم العدل على نفسه بإعطاء الحقوق وهي الأمانات إلى أصحابها وأن يقيم العدل بين الآخرين إذا تحاكموا إليه.

والآية الثانية: تفيد بعد ذلك ثبوت الحقوق له – أي للحاكم- على الناس وأهمها طاعته والامتثال لأمره ما دام موافقاً لأمر الله وأمر رسوله ومطيعاً لهما.

وخلاصة القول: إن أقام الحاكم العدل على نفسه وعلى الناس – وهذه أهم واجبات الحاكم- فإنَّ حقوقه في الولاء والطاعة والامتثال تثبتُ له بعد ذلك.

5- الموقف من انحراف الحكومة المسلمة وتقصيرها:

ومما يجدر ذكره أن الأستاذ البنا رحمه الله قد طوّر النظرية السياسية لأهل السنة، حين رأى بوضوح أن المسؤول الحكومة المسلمة إذا قصرت في أداء واجباتها ولم تستمع لنصائح أهل العقد والحل وتستجب لتقويم اعوجاجها والقيام بواجباتها فإنها تُخْلع وتُبْعد.

والخلع والإبعاد يحتاج إلى قوة ملزمة تجبر المسؤول والحكومة على التنحي عن المسؤولية.

جاء في رسالة التعاليم قوله رحمه الله عن الحكومة بعد أن ذكر واجباتها وحقوقها: فإذا قصرت، فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

6- الموقف من الحكومات التي لا تطبق الإسلام:

يرى الأستاذ البنا رحمه الله أن الحكومات التي لا تطبق الإسلام يجب ألإ تقر على ذلك ، ويجب على المسلمين أن يخلعوها و يستخلصوا الحكم منها . ذلك لأنه يرى تطبيق الأحكام الشرعية عزيمة من عزائم هذا الدين وعدم القيام بها والعمل لها جريمة أن يتاب منها بالعمل على إستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذي لايطبقون الأحكام الشرعية.

قال رحمه الله في رسالة المؤتمر: (والحكم في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع . فالإسلام حكم وتنفيذ كما هو تشريع وتعليم ، كما هو قانون وقضاء . لاينفك واحد منها عن الآخر).

واستمر في الحديث رحمه الله يضرب الأمثلة إلى أن قال :( أما والحال كما نرى، التشريع الإسلامي في واد والتشريع الفعلي في واد آخر ، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف".

  • مجموعة الرسائل 272.

ومعنى الذين لا يدينون: لا يخضعون ولا يقومون بتطبيق أحكام الإسلام الحنيف.

وأكد هذا المعنى في نهاية حديثه فقال: وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطالبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لهذا العبء وأداء هذه الأمانة، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله.

  • مجموعة الرسائل 272-273.

وقد كان الإمام البنا رحمه الله واضحاً كل الوضوح من الحكومات الجاهلية التي ترفض تطبيق الإسلام، فأعلن أن التوقيع الإداري لا ينفع معها وأنه لابد من تغييرها بالطرق السلمية أولاً وهو الأصل الذي استنبطه من كتاب الله وسنة رسوله (ص) ولكنه استنبط حكماً آخر من كتاب الله وسنة رسوله حين لا يمكن من الدعوة إلى الله. ويحال بينه وبين الاتصال بالناس ودعوتهم وتوعيتهم بسياسة التغيير التي تقوم على بناء الفرد المسلم، ثم الأسرة المسلمة، ثم الشعب المسلم، ثم الحكومة المسلمة التي يفرزها الشعب المسلم.

إن هذا الحكم الذي استنبطه هو استخدام طريق القوة التي بدأ بقوة العقيدة والدين ثم قوة الوحدة والارتباط وأخيراً قوة العضد والسلاح.

قال رحمه الله: يتساءل كثير من الناس: هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟.

ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة، بل إني أنتهز الفرصة، فأكشف اللثام عن الجواب السافر لهذا في وضوح وفي جلاء، فليسمع مَنْ يشاء.

وبعد أن تحدث عن مراتب القوة قال:

أقول لهؤلاء المتسائلين: (إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيثُ لا يُجْدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء، وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك، ثم يُقدمون في كرامة وعزة، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضا وارتياح).

  • انظر رسالة المؤتمر الخامس من مجموعة الرسائل 268-271.

التدرج في التغيير

لقد حدد الإمام البنا رحمه الله في دعوته مراحل هذه الدعوة واعتبر أن الهدف النهائي وهو تغيير الأوضاع الجاهلية واستئناف الحياة الإسلامية يقوم على مراحل متدرجة كل مرحلة تسلم إلى التي تليها وكل مرحلة لها من الوسائل ما يناسبها:

فالمرحلة الأولى: مرحلة تعريف الناس بأهداف الجماعة ووسائلها وإقناعهم بالفكرة الإسلامية التغييرية التي يدعو إليها الإخوان المسلمون.

والمرحلة الثانية: تكون باختيار العناصر التي تكونت لديها القناعة بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية. وتربية هذه العناصر تربية متكاملة روحياً وعقلياً وجسدياً حتى يكونوا الجنود الأوفياء لهذا الذين يجاهدون في سبيل إعلاء رايته وإقامة دولته.

والمرحلة الثالثة: مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج وهي الخطوة العملية التي تظهر بعدها الثمار الكاملة لدعوة الإخوان المسلمين، وهذه المرحلة لا تظهر نتيجتها إلا بعد أن تسبقها مرحلة التعريف ثم مرحلة التكوين.

وفي الحق إن هذه المراحل قد سلكها رسول (ص) في دعوته الأولى، كما تبعه أصحابه من بعده، إنها مرحلة التعريف ثم التكوين ثم التنفيذ.

وهذه المراحل تحتاج إلى وقت طويل وصبر وتحمل. وأخطر شيء عليها التسرع والتهور، فإن النفس تغامر دون دراسة وحساب للظروف المحيطة فتهلك وتهلك من معها.

وقد يوجد في صف الجماعة من هو عاطفي مُتسرّع هاجت به عاطفته وثارت فحملته على الفعل في غير وقته. ولقد كان الإمام البنا رحمه الله حازماً مع هؤلاء المتعجلين صريحاً كل الصراحة حين قال:

"أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم .. إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول – أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب. فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها، فلست معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدوات، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجرُ المحسنين إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة.

أيها الإخوان المسلمون: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف.. ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحوِّلوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض ، وترقبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد.

إن التجاري في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم، ولا إنتاج إلا مع خطتكم، ولا صوابَ إلا فيما تعملون، فلا تغامروا بجهودكم، ولا تقامروا بشعار نجاحكم".

  • المؤتمر الخامس من مجموعة الرسائل ص256-257.

وفي نهاية الرسالة يقول رحمه الله: "لقد خاطبت المتحمسين منكم أن يتريثوا وينتظروا دورة الزمان، وإني لأخاطب المتقاعدين أن ينهضوا ويعملوا، فليس مع الجهاد راحة. (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69) ) [العنكبوت]. المرجع السابق 298.

ظرف التغيير وتطبيق الأحكام الشرعية

ويرى رحمه الله أن الإخوان المسلمين وإن كان من خطتهم استخلاص قوة التنفيذ من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله – سيقدمون على خطوتهم هذه في ظروف مواتية ومناسبة، لا في ظروف تسود فيها الحضارة الغربية المادية، حضارة المادة والشهوات، وتسود فيها القيم الجاهلية والعادات الجاهلية.

ولقد حدد هذه الظروف بتكون جو إسلامي عام تسود فيه الأخلاق الإسلامية والقيم الإيمانية التي هي مبادئ الإخوان المسلمين.

قال رحمه الله في رسالة المؤتمر الخامس: وعلى هذا فالإخوان المسلمين أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال، فلابد من فترة تنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثِرُ المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

  • رسالة المؤتمر الخامس من مجموعة الرسائل ص 273.

وقد أضاف البنا رحمه الله أمراً آخر وهو استكمال عدة الإيمان والوحدة، أي تغلغل العقيدة في قلوب أتباعه من الدعاة وتماسك صفهم ووحدة قلوبهم وتجمّعهم حول فكرتهم وقادتهم. المرجع السابق ص271.

وذكر رحمه الله أن التغيير يكون بعد تكون جيل مجاهد مخلص في جهاده قد فطم نفسه عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها، وقد بلغ هذا الجيل اثني عشر ألف مجاهد، قد جهزت روحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة. مستنبطاً هذا العدد بهذه الصفات من حديث رسول الله (ص): (لن يُغلَبَ اثنا عشر ألفاً من قلة).

قال رحمه الله: (في هذا الوقت بالذات طالبوني بأن أخوض بكم لجاج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء. وأغزو بكم كُلَّ عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله) ...

إني أقدّر لذلك وقتاً ليس طويلاً بعد توفيق الله واستمدادِ معونته وتقديم إذنه ومشيئته.

  • انظر – المؤتمر الخامس من مجموعة الرسائل 258.

فقهه في إنكار المنكر باليد وظرفه

إن الأستاذ البنا رحمه الله يرى أنه لابد من إنكار المنكر باليد واللسان والقلب وهذا مأخوذ من حديث رسول الله (ص) الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

وقد قام رحمه الله بإنكار المنكر باللسان منذ نعومة أظفاره وظل كذلك بعد أن أنشأ هذه الجماعة. أما إنكار المنكر الجزئي باليد كتحطيم الخمارات ومشاريع الفساد التي تناقض أحكام الشريعة، فرأيه يتلخص في أن الحكومة ينبغي أن تراعي شعور المسلمين فلا تأذن بفتح أي خمارة أو حانة، وحمّل المسؤولية كاملة للحكومة إن أذنت بفتح الخمارات، واعتدى عليها أحد المواطنين من غير الإخوان المسلمين، وعلى السلطة أن تشرع قوانين تمنع ذلك.

ففي عهده رضي الله عنه قام حزب مصر الفتاة بتحطيم الحانات، فحدد الأستاذ البنا موقف الإخوان فقال:

" إنه ما من غيور في مصر يتمنى أن يرى فوق أرضها حانة واحدة، وقد كتب الإخوان يلقون تبعة هذا التحطيم على الحكومة قبل الذين فعلوه، لأنها هي التي أحرجت شعبها المسلم هذا الإحراج، ولم تفطن إلى ذلك التعبير النفساني والاتجاه الجديد القوي الذي طرأ عليه، من تقديس الإسلام والاعتزاز بتعاليمه – وقديماً قيل: قبل أن تأمر الباكي بالكف عن البكاء، تأمر الضارب أن يرفع العصا، ونحن نعتقد أن هذا التحدي لم يحن وقته بعد، ولا بد من تخيُّر الظرف المناسب، أو استخدام منتهى الحكمة فيه وإنفاذه بصورة أخف ضرراً وأبلغ في الدلالة على المقصد من لفت نظر الحكومة إلى واجبها الإسلامي، وبالرغم من أن المقبوض عليهم لم يعترفوا فقد وجه الإخوان خطاباً إلى وزير العدل يلفتون نظر معاليه إلى وجوب النظر إلى هذه القضية نظرة خاصة تتناسب مع الدافع الشريف فيها، وأن يسرع بتشريع يحمي البلاد من هذه المهالك الخلقية".

  • المؤتمر الخامس من مجموعة الرسائل 292.

فهو يرى رحمه الله بوضوح أن فتح الحانات منكر في حكم الشرع الإسلامي، وأن الحكومة قد اقترفت منكراً بالإذن بفتح هذه الحانات، ويرى أيضاً أن هذا المنكر يجب إنكاره وتغييره، وتغييره بإغلاق الحانات وسن قانونٍ بذلك. وقد اعتبر البنا رحمه الله أن الذين أقدموا على تحطيم الحانات قاموا بذلك تحت دافع شريف وهو الغيرة لهذا الدين، وإنكار المنكر إلا أنه لم يعتبر الوقت مناسباً لإزالة هذا المنكر بالقوة وتحدي الحكومة في ذلك.

الموقف من القوانين الوضعية ومحاكمها

إن المطلع على ما كتبه الأستاذ البنا في هذا المجال يجد أنه مطلع على حقيقة القوانين الوضعية، ويستخلص أن ثقافته واسعة في هذا المجال وغيره. ويجد أيضاً أنه قد بيّن الحكم الشرعي في تطبيق هذه القوانين والتحاكم إلى المحاكم القضائية التي تحكم بها.

فهو يرى أن القوانين الوضعية التي تخالف الأحكام الشرعية قوانين باطلة لا يحل لمسلم أن يحكم بها، ولا يحل لمسلم أن يتحاكم إليها، ولا يحل لمسلم أن يحكم بها، ولا يحل لمسلم أن يتحاكم إليها، ولا يحل لمسلم أن يلتزم بأحكامها.

قال رحمه الله: فمن غير المفهوم ولا المعقول أن يكون القانون في أمة إسلامية متناقضاً مع تعاليم دينها وأحكام قرآنها وسنة نبيها مصطدماً كل الاصطدام بما جاء عن الله ورسوله وقد حذر الله نبيه من ذلك من قبل فقال: (وأن احكم بنهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيراً من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) [المائدة]، وذلك بعد قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) –والظالمون – والفاسقون.

فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته إذا سمع هذه الآيات البينات وغيرها من الأحاديث والأحكام. ثم رأى نفسه محكوماً بقانون يصطدم معها ..

وإذا كان الله ورسوله قدم حرم الزنا، حظر الربا، ومنع الخمور وحارب الميسر، وجاء القانون يحمي الزانية والزاني، ويلزم بالربا ويبيح الخمر وينظم القمار فكيف يكون موقف المسلم بينهما.. أما الإخوان المسلمون فهم لا يوافقون على هذا القانون أبداً، ولا يرضونه بحال وسيعملون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامي العادل الفاضل.

  • مجموعة الرسائل 277-278.

أما المحاكم الذي تحكم بهذا القانون فقد حدد الموقف منها وذكره في واجبات الأخ العامل فقال: (أن تقاطع المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي).

  • رسالة التعاليم من مجموعة الرسائل ص23.

رئاسة الدولة

مسؤولية رأس الدولة:

يرى الأستاذ البنا رحمه الله أن رأس الدولة له حقوق وعليه واجبات، ومن حق الأمة أن تحاسبه إن قصر في واجباته، فهي التي عقدت العقد معه بموجب بيعتها له أن يقوم بالواجبات حتى تثبت له حقوق النصرة والولاية والطاعة.

ويرى رحمه الله في الأصل الخامس من أوصل الركن الأول من أركان البيعة وهو الفهم أن رأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهاً عدة، وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية.

وقد استدل رحمه الله على مسؤولية الحاكم بين يدي الله، وبين يدي الناس، وأنه أجيرٌ لهم وعامل لديهم بقول رسول الله (ص): "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وبقول أبي بكر الصديق: "أيها الناس كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم، فأنا الآن أحترفُ لكم، فافرضوا لي من بيت مالكم".

وهذا تعاهد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة، فإن أحسن فله أجره، وإن أساء فعليه عقابه.

  • انظر مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي ص360.

أقول: إن تولي رئيس الدولة يكون بموجب عقد يتم بين الأمة وبين الحاكم، وهذا العقد ليس كعقد البيع، لأن العلاقة بين المتبايعين تنتهي بمجرد العقد والتقابض، وإنما هو عقد وكالة مقيدة بشروط، وهذها لشروط مفادها قيام رئيس الدولة بواجباته من تدبير شؤون الأمة الداخلية والخارجية وتحقيق مصالح المسلمين ودرء المفاسد عنهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم. ورأس الأمر تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في جميع نواحي الحياة، وفي مقابل ذلك وجب على الأمة أن تطيعه وتساعده وتنصره.

فالأمة كما ترى موكّلة ورئيس الدولة وكيل عنها – فإذا أحسن رئيس الدولة وكالته وقام بكل ما وكل إليه وأجاد في ذلك فيبقى رئيساً للدولة تدعمه وتساعده وتنصره وتطيعه، وإن قصّر في وكالته ولم يحقق مصالح الأمة فلها أن تعزله وتوكل غيره، لأنها هي صاحبة الحق.

  • انظر النظام السياسي في الإسلام ص312-313.

رئيس الدولة وتفويض صلاحياته لغيره:

ومن الفقه السياسي الذي أخذ به الإمام البنا أن رئيس الدولة عليه واجبات وله حقوق، وهذه الواجبات يجب أن يقوم بها، ويقدم حساباً للأمة بذلك، فإن أحسن في ذلك أعانته، وإن أساء قوّمته وأمرته ونهته. وهذا منهج الخلفاء الراشدين في الحكم، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الحكام العادلين من المسلمين كعمر بن عبد العزيز رحمه الله.

ويرى أيضاً رحمه الله أن لرئيس الدولة أن يختار رجلاً تتوافر فيه من الصفات والشروط ما تتوافر في رئيس الدولة ويفوض الحكم إليه، بحيث يمارس صلاحيات رئيس الدولة، كرئيس الوزراء اليوم. وقد استند في رأيه هذا إلى ما ذكره الفقهاء المسلمون كالماوردي الشافعي المتوفى سنة 450هـ وأبي يعلى الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458هـ، وقد اعتمد على كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي الشافعي ونقل منه دليله على جواز وزارة التفويض قوله:

"فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على مقتضى اجتهاده، وليس ممتنع جواز هذه الوزارة، قال تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام: (واجعل لي وزيراً من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد به أزري (31) واشركه في أمري (32)) [طه]، فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز، لن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرُّده بها، ليستظهر بها على نفسه، وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل".

  • الماوردي – الأحكام السلطانية ص22.

يقول البنا رحمه الله: (ولا مانع في الإسلام في أن يفوض رئيس الدولة غيره في مباشرة هذه السلطة وتحمل هذه المسؤولية، كما عرف ذلك في وزارات التفويض في كثير نم العهود الإسلامية، ورخّص الفقهاء المسلمون في ذلك، وأجازوه ما دام فيه مصلحة، والقاعدة في مثل هذه الأمور رعاية المصلحة العامة). انظر مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي من مجموعة الرسائل 367-368.

الخلافة

أعلى الولايات العامة في الإسلام، ويسمى متقلدها خليفة، وهو رأس الدولة الإسلامية، وعليه واجبات وله حقوق، فصّل فيها الماوردي رحمه الله، وغيره من فقهاء الفقه السياسي.

وتسمى الخلافة أيضاً الإمامة الكبرى، ويسمى متقلدها الإمام، وهو يقوم بحراسة الدين من الأعداء والمبتدعين ويسوس الدنيا به.

وفي فقه الإمام البنا رحمه الله أن الخلافة شعيرةٌ إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها وإعادتها، ولكن إعادتها يحتاج إلى جهاد طويل وممهدات كثيرة.

ونستخلص مما كتبه الأستاذ البنا في هذا الأمر أن الخلافة الإسلامية يسبقها قيام حكومات إسلامية في البلاد الإسلامية، بحيث يقوم كل شعب بإفراز الحكومة الإسلامية التي تحكمه بالإسلام، ثم تتوثق الصلاة بين هذه الحكومات الإسلامية وتندمج في دولة إسلامية عالمية، وقد سمى ذلك: الكيان الدولي للأمة الإسلامية.

فقد ورد في ركن العمل من أركان البيعة مراتب العمل يبدأ بإصلاح الفرد ثم تكوين الأسرة المسلمة، ثم تكوين الشعب المسلم، ثم بتحرير الوطن من أي سلطان أجنبي، ثم العمل على إصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، ثم إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافاتها وجمع كلمتها حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة.

  • انظر رسالة التعاليم من مجموعة الرسائل ص12-14.

وقد ورد في رسالة المؤتمر الخامس تحت منهاج الإخوان المسلمين عنوان: الإخوان المسلمون والخلافة، قول الأستاذ الإمام رحمه الله: إن الإخوان المسلمين يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر ارتباط بين أمم الإسلام .. والخليفة مناط كثيرٍ من الأحكام في دين الله ..

والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام وبيان أحكام الإمامة لا تدع مجالاً للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حوِّرت عن مناهجها ثم ألغيت بتاتاً إلى الآن. والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات، لابد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد.. ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الاجتماع على الإمام الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة.

  • مجموعة الرسائل ص284-285.

وأكد هذا المعنى الذي استخلصناه في رسالة (الإخوان المسلمون تحت راية القرآن) حين قال: نحن نريد:

الفرد المسلم...

والبيت المسلم...

والشعب المسلم...

والحكومة المسلمة...

والدولة التي تقود الدول الإسلامية، وتضم شتات المسلمين، وتستعيد مجدهم وترد عليهم أرضهم المفقودة، وأوطانهم المسلوبة، وبلادهم المغصوبة، ثم تحمل علم الجهاد ولواء الدعوة حتى تسعد العالم بتعاليم الإسلام.

  • مجموعة الرسائل ص311.

أقول: إن الإسلام يوجب على الأمة الإسلامية أن تتوحد تحت قيادة إمام واحد أو رئيس واحد هو رئيس الدولة الإسلامية. ويحرم عليها أن تنقسم إلى دول، كل دولة لها خليفة أو إمام، وهذه الدول تتنازع فيما بينها، والله قد حرم التنازع لأنه يؤدي إلى الفشل فقال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (46) ) [الأنفال].

ففي الحديث الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه قول رسول الله (ص): إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما، صحيح مسلم متن شرح النووي 12/242.

فهذا الحديث ينص صراحة على تحريم تنصيب أكثر من إمام على الأمة الإسلامية، وينص أيضاً أنه يجب على الأمة الإسلامية أن تقاتل الخليفة المتأخر وتقتله إن أصرَّ على موقفه، حفاظاً على وحدة الأمة ومحاربة التنازع والشقاق الذي يترتب على تعدد الأئمة.

  • النظام السياسي في الإسلام169.

وقد روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيٌ خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم".

  • صحيح مسلم متن شرح النووي 12/231.

والواقع التاريخي قديماً وحديثاً يؤكد أنه مرت فترات على المسلمين أكثر سوءاً من تلك الفترات التي كان العالم الإسلامي يتمزق إلى دول وإمارات عديدة، والتاريخ ينئنا عن العلاقة السيئة بين دولة الأمويين في الأندلس ودولة العباسيين في المشرق، وما تُكنُّه كل واحدة للأخرى من حسد وحقد وشحناء وتباغض.

  • انظر النظام السياسي في الإسلام ص168.

شكل الدولة في الإسلام

يرى الإمام البنا رحمه الله أن الحكومة في الإسلام – وهي هنا بمعنى الدولة الإسلامية – تقوم على ثلاثة قواعد معروفة مقررة هي الهيكل الأساسي لنظام الحكم الإسلامي، وهذه القواعد هي:

1-مسؤولية الحاكم بين يدي الله وبين الناس.

2-وحدة الأمة الإسلامية على أساس العقيدة الإسلامية.

3-احترام إرادة الأمة بوجوب مشاورتها والأخذ برأيها وقبول أمرها ونهيها له.

فإذا توافرت هذه القواعد في أي دولة، فهي دولة إسلامية، أياً كان شكلها وأياً كان اسمها، فلا عبرة لذلك بالأسماء والأشكال.

مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي – نظام الحكم- من مجموعة الرسائل ص359. هذا وقد فصل الأستاذ الإمام رحمه الله في هذه القواعد وشرحها، واستدل في شرح كل قاعدة بالكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين والخلفاء من بعدهم كعمر بن عبد العزيز في الصفحات 360-362 من نفس الرسالة.

هذا وقد بين الإمام البنا رحمه الله أن هذه القواعد أو الدعائم قد تحققت بأكمل صورة في عهد الخلفاء الراشدين، وساق شواهد على ذلك يتسع المقام لذكرها وقد نذكرها في موضع آخر. هذا والذي يستعرض شكل الدولة في الإسلام تاريخياً، فأحياناً كانت تسمى خلافةً، والحاكم يسمى خليفة، كعهد الخلفاء الراشدين، وأحياناً تسمى سلطنة ورئيس الدولة سلطان وهذا في زمن الدولة العثمانية الإسلامية، وأحياناً تسمى مملكة ورئيسها ملك، وأحياناً تسمى إمارة وحاكمها أمير المؤمنين، والمهم أن تتوافر هذه القواعد في الدولة الإسلامية، ولا يهمنا الأسماء متى وضحت المسميات وإن كنت أوثر أن تسمى الدولة الإسلامية ولا تسمى الجمهورية أو الملكية أو غيرها.

دستور الإخوان المسلمين

أو القواعد الدستورية للإخوان المسلمين:

إن مما لا شك فيه أن الدستور يحدد شكل الدولة ونظام الحكم وحقوق المواطنين وعلاقة الدولة بالرعايا والسلطات الثلاث، السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وصلاحيات كل سلطة، كما يحدد نوع النظام الاقتصادي الذي ينظم الأمور الاقتصادية والمالية، يتم ذلك كله من خلال مواد قانونية إلزامية للجميع.

وقد وضع رحمه الله عشرين أصلاً من أصول الفهم نظمت نظام الحكم ومصادرة ورئيس الدولة وسلطته والحرية العلمية والتعبدية وحرية الرأي والخلاف في الرأي والاجتهاد وغير ذلك والأسس العقدية والتشريعية التي تقوم عليها الجماعة والدولة. ومنها مفهوم المنكر وإنكاره، والعرف المعتبر هو ما وافق الشرع الإسلامي والعرف الخاطئ ما خالفه وهو مرفوض، وختم هذه الأصول بالأصل العشرين فقرر أن العمل جزء من الإيمان وأن المؤمن القائم بالفرائض لا يُكفَّر بذنبٍ اقترفه.

ولقد اعتبر رحمه الله: أن هذه الأصول هي القواعد الدستورية للإخوان المسلمين، وهي مستمدة من كتاب الله تبارك وتعالى ومن سنة رسول الله (ص).

وعلى ضوء ذلك كان هتاف الإخوان المسلمين: القرآن دستورنا، أي هو الذي ينظم جميع شؤون حياتنا عقيدةً وشريعة ونظامَ حياة، وعليه فإن الدساتير الوضعية المخالفة كلياً أو جزئياً للقرآن الكريم وأحكامه ليست دساتير معتبرة في نظر الأستاذ البنا رحمه الله.

فقد قال رحمه الله بعد أن عرض الأصول العشرين: (وإذا علم الأخ المسلم دينه في هذه الأصول فقد عرف معنى هتافه دائماً: القرآن دستورنا والرسول قدوتنا).

  • انظر رسالة التعاليم – من مجموعة الرسائل – دار الأندلس ص11.

ومما ينبغي ذكره أن الأستاذ البنا رحمه الله لم يقل إن الدستور الوضعي سواء كان في مصر أو في غيرها هو دستور الإخوان المسلمين.

وقد انتقد رحمه الله الدساتير الوضعية في مصر وفي غيرها من حيث الصياغة وغموضها ودلالتها على الأحكام وما ترتب على ذلك من فساد، كما انتقد الدستور المصري من حيث التطبيق العملي.

أما نظام الانتخابات الذي ينص عليه الدستور فقد ذهب مع غيره من فقهاء القانون الدستوري من أن النظام الانتخابي لم يحقق الغرض المطلوب منه، فهو أوجد هيئة ناخبة لا يمكنها تحقيق الغرض من الانتخابات على الوجه المطلوب، وأنه لم يحقق تمثيل الأمة تمثيلاً صحيحاً، ولم يصل إلى إيجاد هيئة تعمل للصالح العام مجردة من كل قيد.

ويستأنس بالدراسة التي قدمها الدكتور سيد صبري في كتابه (مبادئ القانون الدستوري) ويؤكد قوله: (إن قرارات البرلمان المصري في أدواره المختلفة لا تعبر عن رأي الأمة، ولا عن رأي أكثريتها، ولا عن رأي أقلية محترمة من أبنائها ...

ثم يقول الأستاذ البنا رحمه الله: فكيف يقال بعد هذا إن ذلك تعبير عن رأي الأمة وتمثيل لها تمثيلاً صحيحاً ؟؟

  • انظر مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي – نظام الحكم من مجموعة الرسائل ص378-379.

ويقول رحمه الله بعد أن ساق قواعد النظام الإسلامي والنيابي معاً في مسؤولية الحاكم فماذا فعلنا في مصر؟ وقفنا في منتصف الطريق نصاً وتطبيقاً، وجاء دستورنا في هذا المعنى غامضاً مقتضباً غير واضح ولا مفصل، مع أنها أهم نقطة في تحديد لون الحياة النيابية والإسلامية التي نحياها.

ويختم قوله قائلاً: (ولا نظن أن فيها ما يكفي مطلقاً لحل أي مشكل من المشاكل التي أشرنا إليها، والمهم أن هذه النقطة وهي لب الأمر تحتاج إلى إيضاح واستقرار، وهي القاعدة الأولى من قواعد النظام الإسلامي أو النيابي على السواء، وبغير ذلك لا يمكن أن تستقيم الأمور أو تسلم).

  • انظر المرجع السابق 369-371

أهل الحل والعقد

هذا المصطلح عرف في كتب الفقه السياسي وغيرها من كتب الفقه العام، فأهل الحل والعقد هم الذين يُستشارون في قضايا الأمة ويبتون فيه بالإجماع أو بالأغلبية، وهؤلاء لم يعينوا بأسمائهم وإنما بأوصافهم.

وقد استخلص البنا رحمه الله من مطالعاته في كتب الفقه أن الظاهر من أقوال الفقهاء أن معنى هذا المصطلح ينطبق على ثلاث فئات هم:

- الفقهاء المجتهدون الذي يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام.

- أهل الخبرة في الشؤون العامة.

- من لهم نوع قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤساء المجموعات.

ويرى البنا رحمه الله أن هؤلاء يمكن أن يختاروا من خلال نظام انتخابي مدروس، يضع شروطاً ومواصفات مضبوطة مَنْ تتوافر فيه يرشح ومن لا تتوافر فيه لا يرشح ولا ينتخب.

انظر مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي – نظام الحكم- من مجموعة الرسائل ص277-278.

النظام الانتخابي:

ومما يجدر ذكره أن الأستاذ البنا يأخذ بالنظام الانتخابي في إفراز أهل الشورى أو أهل الحقل والعقد، وأنه لا يتناقض مع قواعد الإسلام وأحكامه، بل هو متفق معها وهو ممارسة حقيقية للشورى على أوسع نطاق.

ومع هذا فقد انتقد الانتخابات التي تجري في مصر لن المنتخبين لا يمثلون إرادة الأمة، وهذا يعود إلى الهيئة الانتخابية وعدم قدرتها لاختيار الأكفاء، كما يعود أيضاً إلى عدم كفاءة المرشحين وشيوع التزوير والرشوة وشراء الذمم.

وإزاء هذا فقد نادى رحمه الله بتعديل قانون الانتخابات حتى يفرز الممثلين الكفؤين للشعب، وذكر خمسة وجوه للإصلاح هي:

1-وضع شروط للمرشحين فإن كانوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهم برامج واضحة وأغراض مفصلة يتقدم على أساسها هؤلاء المرشحون.

2-وضع حدود للدعاية الانتخابية، وفرض عقوبات على من يخالف هذه الحدود كتجريح الأشخاص والأسر التي لا دخل لها في أهلية المرشح، وينبغي أن تدور الدعاية حول المناهج والخطط الإصلاحية.

3-إصلاح جداول الانتخابات وفرض التصويت إجبارياً.

4-وضع عقوبة قاسية للتزوير من أي نوع كان، وللرشوة الانتخابية كذلك.

5-تبني الانتخابات بالقائمة لا الانتخاب الفردي حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية في تقدير النواب والاتصال بهم.

انظر مشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي ص379-380.

أقول: إن دعوة الإمام إلى اعتماد القوائم في الانتخابات، وهذه القوائم مبنية على توجهات معينة وقناعات معينة، ومنهج في الإصلاح والتغيير لكل توجه، وكل توجه يعرض منهاجه على الناس ويتعرض لمناقشتهم ومحاورتهم، فإن أيدوا هذا التوجه انتخبوه، وإن لم يؤيدوه لم ينتخبوه، والتوجه نفسه أو الهيئة ذات التوجه هي التي تفرز مرشحيها وتختارهم بناء على مدى إخلاصهم وتفانيهم لتحقيق المنهاج الذي يعملون إليه.

وأقول أيضاً: إن اعتماد القوائم المبنية على توجهات ذات أفكار ومبادئ تفرز رجالاً أكفياء لتولي الحكم، ولا مكان للجهلاء ولا الأغنياء الأغبياء، ولا أهل الفجور ولا الخونة الذين يعتدون على المال العام ويتاجرون بمصالح الأمة.

إن هذه الدعوة التي دعا إليها الإمام – وهي اعتبار الانتخاب إجبارياً، يُشعرك بأهمية ذلك، فهو شهادة، وعلى هذه الشهادة تتقرر مصائر الناس ومصالحهم، وإنَّ ترك الأغلبية الساحقة من الناس (كما حدث في الانتخابات في عهد البنا) الانتخابات ومقاطعتها تمكينٌ للقلّة أن تُفرز قلة لا تمثل الأغلبية ولا تسعى لتحقيق مصالحها.

هذا إذا كانت الانتخابات تجري على وجه سليم نزيه، أما إذا تأكد التزييف لإرادة الأمة فقد تكون المقاطعة أجدى وأهدى.

ولكن اقتراحات الأستاذ رحمه الله يكمل بعضها بعضاً، فإذا أخذ بها جميعاً وروعيت بشكل دقيق فينبغي أن يجبر الناس على الانتخاب حتى يفرزوا الأكفياء الحريصين على المصالح العامة لهم.

تأمل الوجه الرابع أو الاقتراح الرابع وهو وضع عقوبة قاسية للتزوير وللرشوة ويعني ذلك الحكم بهذه العقوبة حتى ينزجر الناس ويزجروا لقسوة العقوبة. لا أن تبقى هذه العقوبات حبراً على ورق، كما هو كائن في كثير من البلاد، بل إن المسؤولين في الجزائر وغيرها قد ألغوا إرادة الأمة وزيَّفوها بالحديد والنار.

المرأة والعمل السياسي

إن الإمام البنا رحمه الله وكل باحث منصف أدرك ويدرك أنَّ ما يسمى بمشكلة المرأة وحقوق المرأة التي يُنادي بها في بلاد المسلمين، وبخاصة خروجها من البيت وإهمال رسالتها في تربية الأجيال لتحرير الإنسان والأوطان مسألة جاءتنا من الغرب وهي مشكلة المرأة الغربية، لما تخلى عنها الرجل سواء كان أباها أو أخاها أو ولدها، وقضت التشريعات الغربية بذلك حينما تبلغ أن تُعيل نفسها، وتنفق على حاجاتها، فاضطرت إلى العمل في المصانع والوظائف العامة، ولكنها مظلومة كذلك إذ كانت تشغل نفس العمل الذي يقوم به الرجل إلا أنَّ أجرتها لا تعادل نصف أجرة الرجل، ففكرت أن تطالب بحقوقها وأن تتساوى مع الرجل في ذلك.

فوجدت أنها ينبغي أن تشارك في إدارة المصانع والمؤسسات التي تصدر القرارات وبخاصة قرارات الأجور والحقوق وغيرها، ثم رأت أن ذلك يكون بناء على تشريعات وقوانين، وبناء على ذلك يجب أن تعمل جاهدة للوصول إلى المجالس التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية حتى تنصف نفسها وتصل إلى حقوقها. وقد كان ذلك نظرياً بعد صراع طويل وشاق ومضنٍ.

أما في عام الواقع فلا زال الرجل هو المهيمن على جميع الأمور وما وصل من النساء إلى بعض الوظائف العامة والولايات العامة كالوزارة والمجالس النيابية والقضاء إلا عدد قليل جداً لأمور يمتاز بها الرجل عن المرأة.

وانتقلت هذه العدوى إلى بلاد المسلمين مع أن المرأة في الإسلام إذا بلغت سن البلوغ ليست مكلفة بالعمل لتعيل نفسها وتنفق من كسبها لسد حاجاتها، وإنما يقوم بكفالتها الرجل منذ ولادتها وحتى وفاتها، وفي أثناء زواجها وقبل زواجها وبعده، فقبل أن تتزوج يجب على وليها الإنفاق عليها وهو أبوها أو أخوها أو غير ذلك من أقربائها إن لم يكن لها أب، أما بعد زواجها فالزوج مكلف بالنفقة عليها، وإن كانت موسرة، فإذا ما فارقها زوجها بطلاق أو وفاة انتقلت النفقة إلى وليها سواء كان أخاها أو أباها أو ولدها أو غيرهم من أقاربها.

ولذلك تراه رحمه الله يناقش هؤلاء المفتونين بالمدينة الغربية مدينة المتع والشهوات، وينكر عليهم فكرة إخراج المرأة من بيتها إلى الأماكن العامة على حساب تربية أبنائها.

كما يهاجم رحمه الله فكرة الاختلاط بين الرجل والمرأة ويرد على أولئك الذين ينادون بهذا مفنداً حججهم ومظهراً بطلانها.

إن الإمام البنا رحمه الله يعتبر المرأة نصف المجتمع وهي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ تأثير، لأنها المدرسة التي تكوّن الأجيال وتصوغ الناشئة.

والإسلام كما يفهمه الإمام البنا رحمه الله قد سمح للمرأة أن تزاول العمل السياسي وحتى الحربي، فلها أن تحدد موقفها السياسي وتبشر به، وتقنع غيرها به، وقد استنبط هذا من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة الرسول (ص)، فالمرأة بايعت الرسول(ص) بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية وبايعت الرسول في بيعة الحديبية حينما قرر الرسول (ص) قتال أهل مكة ودخولها عنوة لما أشيع أن سفيره وصهره عثمان بن عفان قد اعتدى عليه المشركون، وأن المرأة تبشر بفكرتها ودعوتها إلى بنات جنسها وتقوم بتنظيم شؤونهن في الأمور الدعوية، كما أن للمرأة أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر من ارتكب منكراً سواء كان رئيس دولة أو غيره، ولها أن تطالب بحقوقها عن طريق القضاء وفي غيره القضاء، وقد أقر الرسول (ص) شكواها وفعلها حينما قالت مستفتية في فتح مكة وأثناء البيعة: إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطيني ما يكفيني وولدي وأنا آخذُ من ماله فهل عليّ من جناح فقال الرسول (ص): "خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف"، رواه الإمام البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجة – الجامع الصغير – متن مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي 2/3.

لقد حذر الإمام البنا رحمه الله من تأثير الغزو الفكري الغربي وبخاصة بما يتعلق بالمرأة، على بلاد المسلمين وأخلاق المسلمين، وحذر من أولئك الذي تربوا في أحضان المستعمرين من أبناء المسلمين فدانوا بفكرتهم وعاشوا حياتهم يريدون أن ينقلوها إلى المسلمين في بلاد المسلمين.

قال رحمه الله: (لا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد، بل هم يحاولون أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية والنظم الأوروبية، ويستغلوا سماحة هذا الدين ومرونة أحكامه استغلالاً سيئاً يخرجها عن صورتها الإسلامية إخراجاً كاملاً. ويجعلها نظماً أخرى، لا تتصل به بحال من الأحوال، ويهملون روح التشريع الإسلامي، وكثيراً من النصوص التي لا تتفق مع أهوائهم).

  • انظر الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية ص202 مقال للأستاذ البنا.

ونوجز كلام الأستاذ البنا رحمه الله في حكم الإسلام بالنسبة لحقوق المرأة بما يلي: أولاً: الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة للرجل في الحقوق والواجبات، وقد اعترف لها بحقوقها الشخصية والمدنية والسياسية.

ثانياً: الإسلام فرّق بين الرجل والمرأة في الحقوق تبعاً للفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة وتبعاً لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل منهما، وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما، وأكد أنّ تكوين المرأة الجسماني والروحي ليس كتكوين الرجل، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يدّعي أن الدور الذي تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به الرجل فالتكوينان مختلفان والمهمتان مختلفتان.

ثالثاً: بين الرجل والمرأة تجاذب فطري هو الأساس للعلاقة بينهما والغاية من الاستمتاع هي حفظ النوع الإنساني.

ثم تحدث عن العلاقة بين المرأة والرجل في المجتمع في النقاط التالية:

1-وجوب تهذيب خُلْق المرأة وتربيتها على الفضائل والكمالات النفسانية منذ نشأتها، ويحث الآباء وأولياء الأمور على تربية البنات وتعليمهن، وساق على ذلك نصوصاً من الكتاب والسنة كثيرة، ونادى بوجوب تعليم المرأة – بما هي بحاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها-: تدبير المنزل ورعاية الطفل.

2-التفريق بين المرأة والرجل فيقول رحمه الله: (يرى الإسلام في الاختلاط بين الرجل والمرأة خطراً محققاً، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج).

ويرد الإمام البنا رحمه الله على دعاة الاختلاط الزاعمين (أن التفريق بينهما حرمان للجنسين من الاجتماع وحلاوة الأنس التي يجدها كل منهما في سكونه للآخر، التي توجد شعوراً يستتبع كثيراً من الآداب الاجتماعية من الرقة وحسن المعاشرة ولطف الحديث ودماثة الطباع وأن التفريق بين الجنسين سيجعل كلاً منهما مشوقاً أبداً إلى الآخر، ولكن الاتصال يقلل من هذا الشأن ويجعله أمراً عادياً في النفوس (وأحب شيء للإنسان ما مُنع وما قللته اليد هوته النفس) فيقول بصراحة ووضوح: إن ما يعقب هذا الاتصال والاجتماع بين الجنسين هو ضياع الأعراض واختلاط الأنساب وفساد النفوس وتهديم البيوت وشقاء الأسر، ويستلزم هذا الاختلاط طراوة الأخلاق ولين في الرجولة إلى حد الخنوثة.

وأن ما يقال أن الاختلاط يهذب الغريزة ، والتباعد يهيجها فغير صحيح؛ فإن الاختلاط يزيد قوة الميل بين الجنسين ويؤجج الغرائز الشهوانية وقديماً قيل: (إن الطعام يقوي شهوة النهم)، والرجل يعيش مع امرأته دهراً، ويجد الميل إليها يتجدد في نفسه، فما باله لا تكون صلته بها مذهبة لميله إليها. والمرأة التي تخالط الرجال تتفنن في إبداء ضروب زينتها، ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها، وهذا أيضاً أثر اقتصادي من أسوأ الآثار التي يعقبها الاختلاط، وهو الإسراف في الزينة والتبرج المؤدي إلى الإفلاس والخراب والفقر.

ويقول الأستاذ البنا رحمه الله: (لهذا نحن نصرّح بأن المجتمع الإسلامي مجتمع يكره الاختلاط، للرجال فيه مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهم، ولقد أباح الإسلام للمرأة شهود العيد وحضور الجماعة، والخروج في القتال عند الضرورة الماسة، ولكنه وقف عند هذا الحد، واشترط له شروطاً شديدة...

كل ذلك إنما يراد به أن يسلم الرجل من فتنة المرأة، وهي أحب الفتن إلى نفسه وأن تسلم المرأة من فتنة الرجل، وهي أقرب الفتن إلى قلبها، وقد أورد نصوصاً من الكتاب والسنة على ذلك. وبعد أن يسوق النصوص يقول رحمه الله: (ومنه يُعلم أن ما نحن عليه ليس من الإسلام في شيء، فهذا الاختلاط الفاشي بيننا في المدارس والمعاهد والمجامع والمحافل العامة، وهذا الخروج إلى الملاهي والمطاعم والحدائق... كل هذه بضاعة أجنبية لا تَمُتُّ إلى الإسلام بأدنى صلة.

ثم يستمر رحمه الله يناقش الذي يزعمون أن الإسلام لم يحرّم على المرأة أن تزاول الأعمال العامة، ويفنّد هذه المزاعم بفقهٍ دقيق للنصوص ويخلص إلى أن المرأة لا تلي الولايات العامة وينبغي أن تعمل في مهمتها الطبيعية وهي المنزل والطفل فإذا اضطرت إلى العمل لفقرٍ أو لحاجة فلتعمل بشروط وأن يكون ذلك العمل من قبيل الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، لا أن يكون هذا نظاماً عاماً تترك فيه مهمتها الأساسية وهي تربية الأجيال على الإسلام.


أقول: وهذا الذي ذهب إليه الإمام البنا رحمه الله من جواز مزاولة المرأة للعمل السياسي قد ثبت في القرآن والسنة كما علمت، ولهذا فقد أسس شعب الأخوات المسلمات وكان يفصل بينهن وبين الإخوان المسلمين الرجال، فكان للرجال نشاطهم وللنساء نشاطهن، وكل يعمل في مجاله في نشر الدعوة، وفي التربية الروحية والسياسية، وكان لهن مسؤولة اسمها لبيبة أحمد توجههنّ وترشدهنّ وتتابع نشاطهنّ من خلال لجنةٍ ترأستها.

وأما تولي المرأة الولايات العامة كالقضاء والحكم والوزارة وأن تكون من أهل الحل والعقد الذين يقررون مصير الأمة في السلم والحرب فقد منعه الإمام رحمه الله. وهذا المنع يؤيده قول الرسول (ص) : "لن يفلح قومٌ ولّو أمرهم امرأة" فلا تلي المرأة إدارة الأقاليم ولا ولاية الجهاد ولا ولاية المظالم ولا ولاية الحسبة ولا ولاية ولا ولاية القضاء ولا ولاية الحج ولا ولا ية الخراج وغيرها من الولايات العامه .

ووجه الاستدلال في هذا الحديث أن الرسول أخبر بحرمة توليه الأمور العامة للمرأة ، ذلك لأن كلمة (أمرهم) كما يقول الأصوليون من ألفاظ العموم، فهي تشمل الولايات العامة والولايات الخاصة كولايتها على مالها وعلى نفسها وعلى كسبها وغير ذلك، إلا أن الولايات الخاصة خرجت من العموم بنصوص أخرى كقوله تعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن (32) ) [النساء]، وقوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهنّ وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح (237) ) [البقرة].

ويؤيد ذلك أيضاً: قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء (34) ) [النساء]، فالقوامة في الأسرة للرجل وهي ولاية خاصة فإذا كان ليس لها أن تلي ولاية الأسرة فكيف تلي ولاية الأمة في أي ولاية عامة ؟‍‍! والرجال أكفأ من النساء من حيث القدرة الجسمية والعقلية، وهذا نص عليه قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)، فالقوامة لسببين: الأول الكفاءة والثاني الإنفاق.

وأقول هنا: إن الرجل أكفأ من المرأة عقلاً وقدرةً حتى في خصوصياتها واختصاصها كالطهي وصنع لباسها وخياطته وتصحيحه، فمن المعلوم أن أعظم طهاة العالم رجال وكذلك أعظم مصممي الأزياء للنساء رجال. والاجماع العملي الذي انعقد على عدم تولية المرأة الولايات العامة، فطيلة الحكم الإسلامي منذ عهد الرسول (ص)وعهد الخلفاء الراشدين واستمر حتى سقوط الدولة العثمانية الإسلامية لم تُعين امرأة واحدة في ولاية عامة والقول بأن لها أن تلي الولاية العامة حقٌ مقررٌ فلا أدري من أين تقرر هذا الحق، فكيف يتقرر هذا الحق ولا يبينه رسول الله (ص) ولم يعين امرأة واحدة قط ويعطها هذا الحق المزعوم.

ولقد كان الرسول (ص) يختار أهل الحل والعقد وتختار الأمة من بعده رجالاً ليس من بينهم امرأة، وحتى في بيعة العقبة الثانية، لما أمرهم أن يختاروا اثني عشر نقيباً ليس من بينهم امرأة واحدة، مع وجودهن وبيعتهن للرسول (ص).

وكذلك حين كان الرسول (ص) يجمع المسلمين ويستشيرهم في كثير من الأحداث الهامة لم يدع امرأة واحدة لتشارك في اتخاذ القرار في غزوة أحد وفي غزوة الأحزاب وفي غزوة فتح مكة وفي غزوة حنين وغير ذلك من الأحداث.

الأقليات غير الإسلامية في بلاد المسلمين

لقد ذكر رحمه الله أن الإسلام قد نظر إلى غير المسلمين بحسب موقفهم من المسلمين، فإن سالموهم وأوفوا بالتزاماتهم نحوهم، ولم يساعدوا عدواً عليهم، فقد أوجب على المسلمين أن يبروهم، ويحسنوا معاملتهم ويحموهم ويؤمنوهم على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

أما إذا كان غير المسلمين قد نقضوا ما بينهم وبين المسلمين من عهود وغدروا بهم وقاتلوهم ومالأوا أعداءهم عليهم، وأسهموا في إخراج المسلمين من ديارهم، فيحرم على المسلمين أن يتولوهم، فإن فعلوا ذلك كانوا ظالمين لأنفسهم لأنهم عرّضوها لسخط الله وسخط الناس، وكانوا ظالمين لإخوانهم المسلمين لأنهم أعانوا عدوهم عليهم ولم يقوموا بواجب نصرتهم.

وقد استدل على تحديد هذه العلاقة بقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) [[الممتحنة].

  • انظر نحو النور من مجموعة الرسائل ص184-186.

والواقع التاريخي يؤكد هذا، فإن هذه الأقليات عاشت تحت الحكم الإسلامي قروناً عديدة، وأعطيت الحرية الكاملة في اختيار الدين وممارسة العبادة ولو كانت شركاً وكفراً، فقد عاش النصارى يتعبدون في كنائسهم ويعتقدون العقائد الشركية التي تؤلّه عيسى – عليه السلام- وتؤله أمه وتفتري عليه أنه ابن الله وأنه ثالث ثلاثة.

والتاريخ يخبرنا أن المسلمين قد حكموا الهند قروناً عديدة وفيها ما ينوف على ثلاثمائة ديانة كفرية شركية، وبقيت هذه الديانات، وبقي أهلها يعيشون في كنف الدولة الإسلامية والشريعة الإسلامية، ولم يفتنوا عن دياناتهم المحرّفة والمنحرفة.

الاستعانة بغير المسلمين

ومن فقه الإمام رحمه الله جواز استعانة الحكومة الإسلامية بغير المسلمين وقيد ذلك بقيدين هما:

1- حالة الضرورة.

2- ألا تكون في مناصب الولاية العامة.

قال رحمه الله في الحديث عن الحكومة الإسلامية: ولا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة.

ومناصب الولاية العامة كثيرة منها القضاء سواء كان قضاء حسبة أو مظالم أو خصومات، ومنها أهل العقد والحل الذين يكون من بينهم الخليفة ويختارونه، وكذلك ولاة الأقاليم وولاية الصلاة وولاية الحج وولاية الخراج وولاية الجهاد وولاية الصدقات وولاية الفيء والغنيمة، ووزارة التفويض وغيرها من مناصب الولاية العامة.

أقول: لقد قيّد الإمام رحمه الله الاستعانة بغير المسلمين بقيدين: الضرورة وألا تكون في مناصب الولاية العامة.

أما الضرورة: فتعني المصالح التي تقوم الحياة الإنسانية عليها، وتحقق مقصود الشريعة في المحافظة على الأصول الخمسة وهي المحافظة على دين الناس وأنفسهم وأموالهم ونسلهم وعقولهم، وفقدان هذه المصالح أو منعها يؤدي إلى استحالة الحياة الإنسانية التي أرادها الشارع الحكيم، ويؤدي ذلك إلى الفوضى والاضطراب والتهارج والتقاتل وإزهاق الأرواح وسفك الدماء.

فإذا كانت الدولة الإسلامية قد شغر فيها منصب هام جداً وليس في المسلمين من يملؤه وفي غيرهم من يسدُّ هذا الأمر ويصلحه فيجوز أن يستعان بغير المسلمين من قبيل الضرورة، والقاعدة العامة تقول: الضرورات تبيح المحظورات.

وهذا يعني أن الأصل في الظروف العادية حرمة ذلك وعدم جواز وعدم جوازه إلا إذا قامت الضرورة بذلك. والضرورة تبيح المحظورة وتقدر بقدرها ولهذا رفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعيّن أبو موسى الأشعري كاتباً نصرانياً وأمره بعزله، فقال له: يا أمير المؤمنين لا تقوم البصرة إلا به، فقال له عمر: مات النصراني والسلام، فقد كان عمر لا يرى ضرورة لتعيينه فأخبر أبا موسى الأشعري بذلك بقوله: مات النصراني والسلام أي ما كنت صانعه بعد موته فاصنعه الآن واستغن عنه بغيره. انظر الكشاف للزمخشري ج1/ص619.

هذا وقد ورد في القرآن والسنة نصوصٌ لا تجيز الاستعانة بالمشركين من نصارى أو يهود أو عبدة أوثان. قال تعالى: (يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) ) [آل عمران]. وذكر ابن كثير في تفسيره أن ابن أبي حاتم روى بإسناده عن أبي الدهقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هاهنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً فقال: قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين.

  • تفسير ابن كثير 2/3103-104 طبعة دار الأندلس – بيروت.

قال ابن كثير بعد ذكر الآية والأثر: (ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يغشوها إلى الأعداء من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى: (لا يألونكم خبالاً). تفسير ابن كثير 2/104.

وقد أنكر القرطبي رحمه الله على بعض الأمراء الجهلة في عصره اتخاذ بعض أهل الكتاب كتبة فقال معقباً على الخبر الذي ساقه هو وساقه ابن كثير أيضاً: (وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة والأغبياء من الولاة والأمراء). الجامع لأحكام القرآن 4/179.

أما مناصب الولاية العامة فتشمل الوزارة بنوعيها التفويض والتنفيذ والقضاة والولاة وقد ذكر الماوردي رحمه الله أنواع الولايات العامة في كتابه الأحكام السلطانية والولايات الدينية فذكر ولاية الجهاد وولاية الحسبة وولاية القضاء وولاية الأقاليم وولاية المظالم وولاية الأنساب وولاية الصدقات وولاية الجزية وولاية الخراج وغيرها من الولايات.

فهذه الولايات وما شابهها وما هو أقوى منها أو في مستواها لا يجوز تولية غير المسلمين عليها.

وعي سياسي يدل على فقه سياسي:

حين حدثنا الإمام البنا رحمه الله في المؤتمر الخامس عن خصائص دعوة الإخوان المسلمين ذكر من خصائصها: البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان: لقد كان رحمه الله يحرص على أن تكون هذه الدعوة وهي دعوة الرسل دعوة للفقراء، وابتعد عن الكبراء والأعيان لا سيما في العشر السنوات الأولى من عمرها، ذلك لأن هؤلاء الكبراء والأعيان لهم أطماع وأهواء ومصالح شخصية سيسيرونها – ولا سيما إذا كانوا أكثرية ولهم نفوذ – لخدمة مآربهم الشخصية وأهدافهم الدنيوية ومن ثم ينحرفون بها ويحرفونها عن أهدافها الإصلاحية الإسلامية ووسائلها الشرعية في استئناف الحياة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية، القائمة على الجهاد والتحرير.

وإني أدعو القارئ الكريم إلى تأمل ما كتبه الأستاذ البنا رحمه الله في رسالة المؤتمر الخامس وهو يعلل تعمده إبعاد هؤلاء عن الجماعة فيقول:

(لأننا معشر القائمين بدعوة الإخوان تعمدنا هذا لأول عهد الدعوة بالظهور حتى لا يطمس لونها الصافي لون آخر من ألوان الدعوات التي يروّج لها هؤلاء الكبراء، وحتى لا يحاول أحد منهم أن يستغلها أو أن يوجهها في غير الغاية التي تقصد إليها، وذلك لأن كثيراً من العظماء ينقصه الكمال الإسلامي الذي يجب أن يتصف به المسلم العادي فضلاً عن المسلم العظيم). وعلى هذا فقد ظل هذا الصنف بعيداً عن الإخوان اللهم إلا قليلاً من الأكرمين الفضلاء يفهم عن فكرتهم ويعطف على غايتهم ويشارك في أعمالهم ويتمنى لهم التوفيق والنجاح.

  • انظر مجموعة الرسائل ص352.

وذكر من خصائصها أيضاً: البعد عن الهيئات والأحزاب لنفس السبب تقريباً حتى لا يؤثروا على هذه الجماعة ووحدتها وتماسك صفها فينقلوا إليها خلافاتهم واختلافهم وتشاحنهم، وحتى لا يوجهوها الوجهة الخاطئة، ويسيّروها نحو الهاوية والدمار والتنافر والتناحر الذي لا يتفق مع أخوة الإسلام، لهذا آثر أن يتجنب الجميع – هو وإخوانه – رحمهم الله جميعاً.

وكان هذا الموقف تكتيكاً مؤقتاً، كان في بداية عهد الدعوة وقلة أنصارهم وكفاءاتها. وبعد أن أصبحت الجماعة كثيرة في عناصرها وأصدقائها ومحبيها المنضمين إليها والمنضبطين بأوامرها ولا خشية من وجود هؤلاء مع توجههم وإرشادهم وتربيتهم.

فها هو ذا يقول رحمه الله: (ونحن الآن وقد اشتد ساعد الدعوة وصلب عودها، وأصبحت تستطيع أن تُوجِه ولا تُوجَهن وأن تؤثر ولا تتأثر نهيب بالكبراء والأعيان والهيئات والأحزاب أن ينضموا إلينا، وأن يسلكوا سبيلنا وأن يعملوا معنا وأن يتركوا هذه المظاهر الفارغة التي لا غناء فيها ويتوحدوا تحت لواء القرآن العظيم ويستظلوا براية النبي الكريم، ومنهاج الإسلام القويم فإن أجابوا فهو خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وتستطيع الدعوة بهم أن تختصر الوقت والجهود وإن أبوا فلا باس علينا أن ننتظر قليلاً، وأن نلتمس المعونة من الله وحده حتى يحاط بهم، ويسقط في أيديهم ويضطرون إلى العمل للدعوة أذناباً وقد كانوا يستطيعون أن يكونوا رؤساء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

  • انظر مجموعة الرسائل ص 253-254.

ما في الوصية من فقه سياسي

إن المتأمل لهذه الوصية يجد فيها دروساً وفقهاً سياسياً يستفاد منه ومن هذا الفقه:

1-إن الرجل يتوقع أن يُؤذى وأن يبعد عن جماعته وعن إخوانه، وأن هؤلاء الطواغيت لا يرضون أن يعمل الأستاذ البنا وإخوانه لاستئناف الحياة الإسلامية من جديد، وإقامة الدولة الإسلامية والخلافة الراشدة التي توحد المسلمين وتحررهم تحريراً عاماً، وفي جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والأخلاقية، وتحررهم من حكم الغرب الكافر وتحررهم من ظلم الطواغيت، الذين سرقوا سلطاتهم وامتيازاتهم في غفلة من الجماهير.

تأمل قوله في وصيته: (أردت بهذه الكلمات أن أضع فكرتكم أمام أنظاركم فلعل ساعات عصيبة تنتظرنا يحال بيني وبينكم إلى حين، فلا أستطيع أن أتحدث معكم أو أكتب إليكم).

وهذا يفيد أن الطواغيت سيفرقون بين القائد وجنده بالسجن أو الأذى وأعلى صورة القتل وهو الشهادة.

2-الإخوان المسلمون جماعة جاءت لبعث الإسلام في نفوس الناس من جديد، وفي حياتهم العامة والخاصة، جاءت لإحياء هذه الأمة التي غزاها أعداؤها في عقر دارها، وهيمنوا على جميع مقدراتها، واستعبدوا أفرادها وأذلوهم أيما إذلال، واحتلوا أرضها واغتصبوا مقدساتها، فهم جماعة تدعو لتطبيق جميع أحكام الإسلام، ومن ثم فهي ليست جمعية خيرية لأن عمل الجمعية الخيرية محصور في جمع الصدقات وتوزيعها على الفقراء ولا تعنى بالجوانب الإسلامية الأخرى، وهي ليست حزباً سياسياً لأن الحزب السياسي يسعى لتشكيل الوزارة واستلام الحكم ليحقق مصالح شخصية لأفراده وقادته.

3-دعوة الإخوان تدعو إلى الإسلام بشموله، الإسلام الذي ينظّم علاقة الفرد بربه، وبنفسه، وبأسرته، وبغيره من الناس في المعاملات، وبالسلطة الحاكمة يطيعها ما أطاعت الله ويتمرد عليها ما تمردت على الله، وينظم علاقة المسلمين بغيرهم بما يسمى العلاقات الدولية.

والإخوان المسلمون يدعون إلى الإسلام ويسعون لإقامة الحكومة الإسلامية وتوفير الحريات العامة للناس في هذه الحكومة أو الدولة.

4-لقد كان في أذهان الناس أثناء الخطاب مفهوم للسياسة هو تحقيق المطامع والمصالح الشخصية، عن طريق الوصول إلى الحكومة فنفى هذا المعنى عن الجماعة. وأعلن أن الإسلام لا يتحقق في واقع الحياة إلا من خلال حكومة أو دولة تطبق أحكامه وتوفر الحريات للناس.

5-الإخوان المسلمون لا يستبيحون دماء الناس الأبرياء في ثورة عمياء يصيب نارها الأطفال والنساء والعزّل الأبرياء.

6-من سياسة الإخوان وتعاليم الإسلام أن يدافع الرجل عن نفسه إذا أُوذي بغير حق وعليه أن يثبت على دعوته وأن يتصدى لعدوه إذ استباح دمه وماله وعرضه.

تأمل قوله رحمه الله: (فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين).

فالدفاع عن النفس وردِّ الصائل مشروع في الإسلام، بل يرى بعض الفقهاء ذلك واجباً.

  • مجموعة الرسائل ص231

7-الإخوان المسلمون لا يستعينون بالهيئات المشبوهة ولا الحكومات العملية ولا بالأشخاص المنحرفين والمشبوهين، بل يعتمدون على أنفسهم وعلى أموالهم في نشر دعوتهم.

وقد وضّح الأستاذ البنا –رحمه الله- ذلك في رسالة المؤتمر الخامس بقوله: أن الإخوان لم يمنح مكتب الإرشاد العام إعانة واحدة من حكومة أياً كانت، وهو يباهي ويفاخر، ويتحدى الناس جميعاً أن يقول أحدهم أن هذا المكتب قد دخل خزانته قرش واحد من غير جيوب أعضائه، ولسنا نريد إلا هذا، ولن نقبل غلا من عضو أو محب، ولن نعمد على الحكومات في شيء، ولا تجعلوا في ترتيبكم ولا منهاجكم ذلك، ولا تنظروا إليه، ولا تعملوا له، واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً).

  • مجموعة الرسائل ص267.

8-الموقف من الخصومة الفاجرة الطاغية والكلام الجارح الذي يحمل الاتهامات الظالمة هو عدم المشاركة فيه والرد عليه بمثله من الاتهامات والمهاترات، بل هو الإعراض والإهمال، فإن الوقت أثمن من هذا ينبغي أن يصرف في طاعة الله ونشر دعوته بين الناس وتعليمهم أحكام دينهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والعمل لتحررهم وإسعادهم في الدنيا والآخرة.

تأمل قوله رحمه الله: فإن لجوا في عدوانهم فقولوا: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

  • مجموعة الرسائل ص232.

الطاعة في فقه الإمام السياسي

لقد أدرك الأستاذ البنا رحمه الله أن العمل لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة الكيان السياسي للمسلمين لا يقوم إلا من خلال جماعة منظمة لها أهدافها ووسائلها ومراحلها ومنهاجها في التربية وفي الحكم والاقتصاد وسائر نواحي الحياة. ومن هنا فقد أنشأ هو ونفر قليل من إخوانه هذه الجماعة التي نمت وترعرعت شجرتها وضربت جذورها في أعماق القلوب.

وهذا استنبطه من كتاب الله وسنة رسول الله (ص) ، أما من القرآن فقوله تعالى: (كنتم خير أمّةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ويؤمنون بالله (110) ) [آل عمران]، وقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ) [آل عمران].

ولقد اعتبر رحمه الله طاعة الجندي لقائده ركناً من أركان البيعة التي يبايعها العضو لقيادة العضو لقيادة الجماعة، وفسر الطاعة بقوله: (وأريد بالطاعة امتثال الأمر وإنفاذه تواً في العسر واليسر والمنشط والمكره).

  • مجموعة الرسائل ص15.

وذكر أن الطاعة تختلف باختلاف المرحلة التنظيمية التي يمر بها الأخ وهذه المراحل هي: التعريف والتكوين والتنفيذ.

أما في مرحلة التعريف التي يكون الناس فيها قد تعرفوا على الجماعة وأعلنوا تأييدهم لها وتعاطفهم معها فالطاعة ليست تامة والمطلوب احترام النظم والمبادئ العامة للجماعة.

وأما مرحلة التكوين التي يتم فيها استخلاص العناصر الصالحة للتنظيم وأعباء الجهاد، فالطاعة تكون بتلقي الأمر وتنفيذه دون تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج والطاعة هنا طاعة تامة.

وأما مرحلة التنفيذ التي يباشر فيها بالجهاد العملي فالطاعة المطلوبة هي الطاعة الكاملة والتي تقتضي العمل المتواصل في سبيل الوصول إلى الغاية.

  • انظر رسالة التعاليم طبعة دار الأندلس من مجموعة الرسائل ص15-16.


والبيعة في حد ذاتها عقد سياسي بين القائد والجنود، وهي إعطاء العهد للقائد على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر، وتفويض الأمر إليه في إدارة الجماعة والفرد عنصر من عناصرها.

دراسة سياسية لقيام الدولة الإسلامية وأسباب انحلالها وكيف نعمل لها

لقد كان الإمام البنا رحمه الله يقوم بتوعية الناس سياسياً ويعتني بأتباعه عناية خاصة من خلال المحاضرات والندوات والمؤتمرات والرسائل التنظيمية التي كانت تصدر عنه.

ومما يدل على فقهه السياسي ما يقوم به من توعية سياسية، وهذا جلياً في رسالة بين الأمس واليوم، حيث عرض بوضوح قيام الدولة الإسلامية الأولى في عهد رسول الله (ص)، واستنبط القواعد العامة التي قامت عليها هذه الدولة من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله  وذكر إحدى عشرة قاعدة منها:

-إعلان الأخوة بين الناس.

-تأمين المجتمع بتقدير حق الحياة والملك والعمل والصحة والحرية والعلم والأمن لكل فرد وتحديد موارد الكسب.

-ضبط الغريزتين: غريزة حفظ النفس وحفظ النوع، وتنظيم مطالب الفرج والفم.

-تأكيد وحدة الأمة والقضاء على كل مظاهر الفرقة وأسبابها.

- اعتبار الدولة ممثلة للفكرة، وقائمة على حمايتها، ومسؤولة عن تحقيق أهدافها، وإبلاغها لناس جميعاً.

وبعد ذلك يذكر تطبيق هذه القواعد في الدولة الإسلامية وبخاصة في عهد النبوة ثم في عهد الخلفاء الراشدين، وكيف طاردت الدولة الفكرة الوثنية في الجزيرة العربية وبلاد فارس، وقضت على القبائل اليهودية المعادية للفكرة الإسلامية والمتعاطفة مع الفكرة الوثنية والمتآمرة على الدولة الإسلامية والعاملة على تدميرها. وطاردت فلول المسيحية القائمة على أوضار الشرك وعقيدة التثليث، وأخرجتها من بلاد العرب، وبقيت تطاردها خارج البلاد العربية بعد تحريرها حتى غزتها في عاصمتها القسطنطينية وفتحتها، وأصبحت مدينة إسلامية، وحاصرتها في أوروبا بل وصلت الجيوش الإسلامية إلى عمق أوروبا وحكت الدولة الإسلامية الأندلس.

وظلت الدولة الإسلامية قروناً عديدة أعظم دولة في العالم تتوسع رقعتها حتى تعرضت إلى غزو التتار في القرن السابع الهجري، وسقطت بغداد حاضرة الدولة الإسلامية تحت أيدي هذه الشعوب المتوحشة فسفكت دم ألفي ألف مسلم (مليونين) في بغداد وحدها كما يذكر ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية.

  • الجزء الثالث عشر ص202.

وفي القرن العشرين استطاعت الصليبية أن تقضي على الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية. هذا وقد حلل الأستاذ البنا الأسباب والعوامل التي أدت إلى القضاء على الدولة العثمانية تحليلاً يدل على وعي سياسي منبثق عن ثقافة إسلامية وفقه سياسي إسلامي وعن معرفة بأحداث التاريخ وإدراك لخصائص الأجناس البشرية، فمما لا شك فيه أن لكل جنس خصائصه وميزاته، فقد يكون شعب كالشعب التركي شعباً مقاتلاً متقناً لفنون الحرب، ولا يكون مهتماً بالعلوم كعلم الشريعة وأحكامها وقوانينها.

وأهم العوامل التي أدت إلى سقوط الدولة الإسلامية العثمانية عند الإمام البنا هي:

1-الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه:

وهذا لا شك يدمر وحدة الأمة ويمزقها ويوهن قواها، وقد حذر القرآن منها فقال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم (46) ) [الأنفال].

وحين تتحكم بالمسؤولين شهوة الحكم والحرص عليه ويجري التنازع بينهم على الرياسة والزعامة، وتنقسم الأمة في تأييد هؤلاء المتخاصمين وتذهب قوتها وسطوتها على الأعداء، بل تنقلب ضدها وتتفجر داخلها فتفجرها وتمزقها.

2-الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ، ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة، وإهمال كتاب الله والسنة النبوية، والجمود والتعصب للآراء والأقوال. وهذه أمراض خطيرة حذر الإسلام منها المسلمين، فإن الرسول أخبر أن هذه الأمة موفّقة ما دامت متمسكة بكتاب الله وسنة رسوله  فقال: "تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي".

أضف إلى ذلك التعصب للآراء والأقوال المذهبية المختلفة التي تقسم الأمة وتفرقها فلا يكون لها تأثير على أعدائها، بل تكون لقمة سائغة لهم. ولقد وصل التعصب المذهبي مداه في أواخر الدولة العثمانية حيث شاع البُغض بين أصحاب المذاهب وأدى هذا البغض إلى الخصام والتنازع والفشل. فلا يقبل الحنفي إمامة الشافعي، ولا يقبل الحنبلي إمامة الشافعي، وكانت تنشب بينهم مشاجرات وخصومات تراق فيها دماء، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

3-الانغماس في ألوان الترف والنعيم والإقبال على المتع والشهوات:

وهذا المرض فشا في المسلمين وحكام المسلمين منذ قرون عديدة قبل سقوط الدولة وظل يتفاقم خطره ويستشري أمره حتى ضعفت الأمة الحامية لهذه الدولة والقائمة على حراسة الدين وسياسة الدنيا به. وقد حذر الله تبارك وتعالى من هذا المرض الفتاك بقوله سبحانه: (وإذا أردنا أن نُهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميراً (16) ) [الإسراء].

4-انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب:

والذي يقرا التاريخ الإسلامي يجد أنه مر على المسلمين أزمان وسد الأمر إلى غير أهله، وهؤلاء لم يتمكن الإسلام من قلوبهم، ولم يفقهوا أمور دينهم.

5-إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية. والانشغال في فلسفات نظرية فارغة:

والدولة القوية هي الدولة التي تقوم بعد تطبيق أحكام الشريعة على إتقان العلوم والمعارف الكونية والاستفادة من اختراعاتها لتقوية الدولة وتثبيت أركانها.

6-غرور المسلمين بقوتهم وإهمال غيرهم والتهوين من شأنهم وعدم مراقبتهم ومعرفة أحوالهم المادية والعلمية وقدراتهم وخططهم الهادفة إلى محاربة الإسلام والمسلمين ومن ثم فلم يعدوا العدة الكافية لغزو هؤلاء ودحرهم، بل كان العكس تماماً، الغلبة لهؤلاء الغزاة.

7-الانخداع بدسائس المتملقين من أعداء المسلمين والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم وتقليدهم في أهوائهم وشهواتهم، وقد نهى الإسلام عن التشبه بهؤلاء الكفار واتباعهم قال تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إن تُطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) ) [آل عمران].

ونتج عن ذلك استيلاء الكفار على بلاد المسلمين وتقاسمها الكفرة المستعمرون من إنجليز وفرنسيين وإيطاليين وهولنديين وبلجيكيين وشيوعيين. وأقصوا الإسلام عن الحكم ونشروا الإلحاد والإباحية في كثير من بلاد المسلمين، وفتنوا المسلمين عن دينهم، بل وطغت المادة على بلاد المسلمين.

ثم يذهب الأستاذ البنا إلى أن الأحوال التي آلت إليها بلاد المسلمين دعت كثيراً من المسلمين ليفكروا في رفع هذه الأخطار. وكان في مقدمة هؤلاء الأستاذ البنا وإخوانه حينما أنشأوا جماعة الإخوان المسلمين لتكون مهمتها بالنسبة للأحوال الاستعمارية السائدة في بلاد المسلمين إيقاظ المسلمين من سُباتهم وبعثهم من جديد وإنقاذهم مما هم فيه من الذل والهوان والاستعمار فحدد أهداف الإخوان العامة والخاصة.

أما الأهداف العامة فهي: تحرير العالم الإسلامي من أي سلطان أجنبي وإقامة ودولة إسلامية.

وأما الأهداف الخاصة فهي: إصلاح التعليم ومحاربة الفقر والجهل والمرض والجريمة، وتكوين مجتمع نموذجي يستحق أن ينتسب إلى شريعة الإسلام.

وقد حارب الأستاذ البنا الجهل بالتعليم، فأنشأ المدارس، وحارب الفقر بالعمل، فأنشأ الشركات والمصانع، وحارب المرض بالعلاج فأنشأ المستوصفات الطبية.

وحدد الوسائل العامة لتحقيق الأهداف في ثلاث وسائل: الإيمان العميق، والتكوين الدقيق، والعمل المتواصل.

وهذه الأهداف العامة والوسائل العامة تثير حنق المستعمرين الكافرين وأذنابهم، وعملائهم في بلاد المسلمين، فتحملهم على معاداة الدعوة والدعاة ووضع العقبات في طريقهم من أجل الحيلولة بينهم وبين تحقيق هذه الأهداف، فذكر لهم هذه العقبات وصوّرها، وأعدّهم للثبات على لأواء الطريق، والصبر على المكاره التي سيجدونها من هؤلاء الطواغيت وأعوانهم وعملائهم.

وختم دراسته هذه بوصية تتضمن دروساً حركية وسياسية ودعوية، وذكر واجبات للإخوان تُعينهم على تحقيق أهدافهم ووسائلهم العامة، باثاً الأمل في النصر والتمكين بقوله: وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده، والفرصة آتيةٌ لا ريب فيها (ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5) ) [الروم].

هذا وقد فصل الإمام البنا رحمه الله في الرسائل الأخرى في مراحل إقامة الدولة الإسلامية، وقد تعرض لها عند الحديث لها عند الحديث عن مراحل العمل في رسالة التعاليم، والمؤتمر الخامس، ومشكلاتنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي.

الموقف من الغرب المعتدي

إن الذي يقرأ رسائل البنا رحمه الله يجد بوضوح لا لبس فيه أنه يحدد الموقف الإسلامي وهو الحكم الشرعي من الدول الغربية المعتدية على بلاد المسلمين ويذكر الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها.

وبعد أن يحدثنا رحمه الله عن جرائم هذه الدول التي ارتكبتها بحق المسلمين في بلاد المسلمين يقرر أنّ الوطن الإسلامي وحدة لا يتجزأ وأن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله، وأن على المسلمين أن يقاتلوا الدول المعتدية ويحرروا أوطانهم منها.

ويوصي شباب الدعوة أن يبينوا للناس اعتداء الدول الكافرة وجرائمها بحق المسلمين وأن يُعلموهم أن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال فضلاً عن السيادة وإعلان الجهاد ولو كلفهم ذلك الدم والمال، فالموت خير من هذه الحياة، حياة العبودية والرق والاستذلال، ويبشرهم بالنصر إن صدقوا الله في جهادهم مستدلاً بقوله تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قويٌ عزيز (21) ) [المجادلة]. انظر المؤتمر الخامس – مجموعة الرسائل 294-296.

الموقف من الاحتلال البريطاني لمصر

لقد تكلم الأستاذ البنا رحمه الله في الرسائل عن مصر التي نشأت فيها الجماعة وذكر ما تعاني من احتلال إنجليزي استذلّ رقاب الناس وسيطر على الاقتصاد والصناعة والتجارة وقناة السويس، وهجم على خيرات البلد وحرم أهلها منها.

وقد بين بوضوح أن الموقف الناجح من هذا الاستعمار هو إلغاء ما بينه وبين مصر من معاهدة، وقتال الإنجليز وإخراجهم من مصر صاغرين بعد تعنتهم ومناوراتهم وخداعهم.

قال رحمه الله: (لم يبق إذاً غلا النبذ على سواء بأن نعلنهم بالخصومة الصريحة السافرة، ونقرر في صريحة إلغاء ما بيننا وبينهم من معاهدات واتفاقات، ونعلن اعتبار أمة الوادي معهم في حالة حرب (ولو سلبية) وتنظيم حياتنا على هذا الاعتبار اقتصادياً واجتماعياً وعملياً بتدريب الشعب كله تدريباً عسكرياً.

ويطالب الحكومة السير في هذا الطريق ويحذرها من استمرارها في ترددها وتراخيها، واضطرابها بأن هذا الموقف منها يؤدي بالشعب إلى الثورة أو الموت.

  • انظر مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي – مجموعة الرسائل ص346-351.

الموقف من الأحزاب السياسية المصرية

لقد أيقن الأستاذ البنا أن هذه الأحزاب المصرية التي عاصرها قد مزَّقت الشعب وفرقته شيعاً، وأنها لا تعمل إلا لمصالح شخصية ومنافع مادية، وليس لديها برامج للتحرير والتغيير، وعلى هذا فقد طالب في أكثر من موطن بحلها وإلغائها ومن ثم اندماجها في هيئة شعبية واحدة تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام.

ومما يجدر ذكره أن الأستاذ الإمام رحمه الله كان صريحاً واضحاً في هذا الموطن يخاطب الأحزاب فيقول لهم: أحب أن أقول لإخواننا دعاة الأحزاب ورجالها: إن اليوم الذي يُستخدم فيه الإخوان المسلمون لغير فكرتهم الإسلامية البحتة لم يجئ بعد ولن يجئ أبداً، وإن الإخوان المسلمين لا يُضمرون لحزبٍ من الأحزاب أياً كان خصومة خاصة به، ولكنهم يعتقدون من قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا أن تُحَلَّ هذه الأحزاب كلها وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن.

وبهذه المناسبة أقول: إن الإخوان المسلمين يعتقدون عقم فكرة الائتلاف بين الأحزاب، ويعتقدون أنها مُسكِّنٌ لا علاج، وسرعان ما ينقض المؤتلفون بعضهم على بعض، فتعود الحرب بينهم جذعة على أشد ما كانت عليه قبل الائتلاف، والعلاج الحاسم الناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها، وانتهت الظروف التي أوجدتها، ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون.

  • مجموعة الرسائل ص289-290.

الوحدة العربية والإسلامية

لقد أعلن البنا رحمه الله أن ضعف المسلمين في تفرقهم وتمزقهم، وأن قوتهم في اتحادهم واجتماعهم على هذا الإسلام. ووضّح بما لا يدع مجالاً للبس أن الإسلام يؤلف بين قلوب أتباعه، ويوحدهم تحت لوائه على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وبلادهم، ودعا إلى وحدة العالم العربي والعالم الإسلامي، وساق على ذلك من الأدلة في الكتاب والسنة والتاريخ الإسلامي ما يؤكد هذه الوحدة الإسلامية. كما وضح أن الدسيسة الكبرى التي اقتحمت على المسلمين عقولهم وقلوبهم أولاً، ثم أرضهم وبلادهم ثانياً، هي تأثرهم بالعنصرية والشعوبية، واعتداد كل شعب أو جماعة بجنسها وتناسي ما جاء به الإسلام من القضاء على عصبية الجاهلية والتفاخر بالأجناس والألوان والأنساب.

لقد بين رحمه الله أن حكم الشرع في اجتماع المسلمين ووحدتهم فرض من فروض الإسلام فقال تحت عنوان: "وحدتنا في ضوء التوجيه الإسلامي" من رسالة "مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي": نحن أمام كل هذه الأوضاع العالمية الجديدة، وأمام تشابه قضاياها ومشاكلها، فهي كلها قضية واحدة، معناها استكمال الحرية والاستقلال وتكسير قيود الاستغلال والاستعمار، لابد أن نلجأ من جديد إلى ما فرضه الإسلام على أبنائه منذ أول يوم حين جعل الوحدة معنى من معاني الإيمان، يجب أن نتكتل ونتوحد.

ولهذا تراه رحمه الله دعا إلى وحده عربية ثم إلى وحدة إسلامية وإلى تكوين هيئة الأمم الإسلامية.

  • انظر مجموعة الرسائل 352-356.

ومما يجدر ذكره أن دعا إلى وحدة الشعب المصري على أساس الإسلام وإلغاء الأحزاب السياسية المصرية لأنها مزقت الشعب المصري، وكانت عقبة في تحريره واستقلاله وتوحيده مع نفسه ومع غيره من الشعوب والأمم ثم دعا إلى الوحدة العربية ومن ثم الوحدة الإسلامية.

  • المرجع السابق نفس الصفحات ومجموعة الرسائل 376.

مفاهيم سياسية إسلامية

ومما يجدر ذكره أن الأستاذ البنا رحمه الله قد أعطى مفاهيم سياسية إسلامية لبعض الاصطلاحات الشائعة في مصر والدول العربية والعالم الإسلامي، ومن هذه المصطلحات: اصطلاح القومية، واصطلاح الوطنية. لقد طرح البنا رحمه الله مصطلحات للقومية وحكم الإسلام في كل مصطلح على النحو التالي:

قومية المجد:

لقد ذكر رحمه الله إن كان الذين يعتزون بمبدأ القومية يريدون من ذلك أن يسير الأحفاد على طريق الأجداد، والأخلاف على طريق الأسلاف، الذين آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد (ص) نبياً ورسولاً ونشروا الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، وحكمزا الناس بعدل الإسلام وأناروا عقول البشرية بنور الإيمان، فهذا مقصد نبيل ومعنى حسن جميل يُقره الإسلام ويشجعه.

فالإسلام يأمر المسلمين أن يقتدوا بالرسول (ص)ويقتدوا بالخلفاء الراشدين الملتزمين بهذا الدين الناشرين له المجاهدين في سبيله، وبكل عمل صالح وصفة حسنة يتمتع بها الأسلاف وأخذوها من كتاب الله وسنة رسوله (ص)وغير ذلك مما أجمع عليه المسلمون.

قومية الأمة:

وإذا كان يراد الاصطلاح أن أمته أولى بخيره وماله وجهده من غيرهم من الأمم فهذا معنى يشجعه الإسلام، ويعتبر الانفاق على الأقرباء له أجرين: أجر الصدقة وأجر القرابة.

  • انظر رياض الصالحين – رقم 326 قال النووي في الرياض: متفق عليه.

وهذا ما قرره الله في كتابه بقوله تعالى: (يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فلوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم (215)) [البقرة]. ويؤكد هذا المعنى أيضاً قول الرسول (ص) لأبي طلحة رضي الله عنه لما أراد أن يتصدق ببستانه من النخيل وهو أحبُّ ماله إليه: "إني أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقسمها في أقاربه وبني عمه. الحديث متفق عليه.

  • انظر رياض الصالحين رقم 320.

قومية الجاهلية:

ولقد حذر الأستاذ البنا رحمه الله من هذه القومية ورفضها بشدة، ذلك لأن هذه القومية عند المنادين بها تعني إحياء عادات الجاهلية التي قضى عليها الإسلام والتعصب للجنس والتعالي على الآخرين وإن كانوا مسلمين، والمناداة بالقيم الجاهلية بديلاً عن القيم الإسلامية والمعاني الإيمانية والأخلاق الإسلامية الفاضلة، كما تنادي الأحزاب العلمانية القومية وتعتبر الإسلام رجعياً يجب أن يُقصى عن واقع الحياة وأن يعم الفكر العلماني أو الاشتراكي أو الشيوعي.

يقول الأستاذ البنا رحمه الله عن ذلك: فذلك في القومية معنى ذميم وخيم العاقبة سيِّئ المغبة، يؤدي بالشرف إلى خسارة فادحة، يضيع معها تراثه وتنحط بها منزلته ويفقد أخص مميزاته، وأقدس مظاهر شرفه ونبله ولا يضر ذلك دين الله شيئاً، قال تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38) ) [محمد].

  • انظر رسالة دعوتنا من مجموعة الرسائل ص109.

قومية العدوان:

وهذه القومية يدل عليها عنوانها ومصطلحها فهي تقوم على انتقاص حقوق الناس وظلمهم والاعتداء عليها بغير وجه حق، وكانت هذه في الجاهلية بأبشع صورها، جاءت على لسان شاعرها: ومَنْ لا يظلم الناس يُظْلَم، بل قد ساد عند أهل الجاهلية اعتبار الظلم مَنْقبة وعدمه مَثْلبة يستحق صاحبها الذم والهجاء، وهذا معنى قول الشاعر الجاهلي يعيب بني عجلان ويهجوهم: لا يظلمون الناس حبة خردل. انظر أسس في التصور الإسلامي ص113.

وقد اعتبر هذه القومية نقيضة للدين الإسلامي، منعدمة الإنسانية، وهذا معنى ذميم نتيجته المُرَّة أن يتناحر الجنس البشري في سبيل وهْمٍ من الأوهام لا حقيقة له ولا خير فيه. انظر رسالة "دعوتنا" من مجموعة الرسائل ص109.

وبعد أن استعرض البنا هذه المصطلحات ذات المدلول غير الإسلامي قال:

(الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني ولا بأشباهها، ولا يقولون: فرعونية وعربية وفينيقية وسورية، ولا شيئاً من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس، ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله : "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".

  • انظر المرجع السابق ص109-110.

القومية الإسلامية:

ويرى الأستاذ البنا رحمه الله معنى إسلامياً للقومية، وهذا المعنى يقوم على رابطة العقيدة فكل من آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد (ص)نبياً ورسولاً في عقيدة الإخوان المسلمين – هو من الأمة الإسلامية وعلى المسلمين أن يحبوه وينصروه ويبذلوا دماءهم وأموالهم في الدفاع عنه وحمايته.

وقد وضح رحمه الله المفهوم الإسلامي الذي يدعو إليه حين كتب في رسالة "إلى أي شيء ندعو الناس" هذا العنوان: قوميتنا وعلى أي أساس ترتكز: وساق الآيات الكريمة والدالة بل الناطقة بالولاء لله ورسوله والمؤمنين وأن السلف الصالح رفعوا نسبتهم إلى الله تبارك وتعالى فاعتصموا بحبله المتين وأصبحوا إخوة متحابين على اختلاف فئاتهم وبلدانهم وأجناسهم وأحوالهم حتى افتخروا بهذه النسبة فقال أحدهم حين سأله رجل عن نسبه: أتميميٌّ أم قيسيٌّ؟ فقال: أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم. مجموعة الرسائل 132-134.

من هذا يتبين لنا أن القومية الإسلامية قومية إنسانية تستوعب جميع الأجناس والألوان والبلدان ولهذا قال في نفس الرسالة: قوميتنا نسبة عالمية.

إنه رحمه الله يرى أن رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدم والعشيرة والمصالح ورابطة الأرض، وهي وحدها تصلح لتجمع النوع الإنساني في أمة إسلامية إنسانية.

  • انظر رسالة دعوتنا من مجموعة الرسائل 111-112.

الوطنية

يذكر البنا رحمه الله في رسالة دعوتنا أن هناك دعوات طغت في هذا العصر وأنه يجب أن توزن بميزان الإسلام، فما وافقه فمرحباً به وما خالفه فنحن براءٌ منه.

ومن هذا المنطلق ناقش الإمام البنا الوطنية وذكر وجوه الخير فيها وأيدها وذكر وجوه الشر فيها فرفضها، وخرج بعد ذلك بمفهوم إسلامي سياسي للوطنية بعد ذلك.

وأكد أن الإسلام يوجب على المسلمين أن يحبوا أوطانهم وأن يدافعوا عنها، بل لا يكاد المرء يجد كتاباً في الفقه أو الحديث إلا وفيه باب الدفاع عن الأوطان بعنوان الجهاد، فالجهاد هو الدفاع عن الأوطان والمواطنين وأموالهم وأعراضهم.

ويستدل رحمه الله بحب الرسول (ص)لمكة، فقد سمع رسول الله (ص)وَصْفَ مكة من أصيل فجرى دمعه حنيناً إليها وقال: يا أصيل دَعِ القلوبَ تقر.

رسالة دعوتنا من مجموعة الرسائل ص103.

وقد جاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله قول الرسول (ص)في مكة: "والله إنك لخير أرضِ الله، وأحبُّ أرضِ الله إليِّ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت".

  • صحيح البخاري متن فتح الباري 8/264.

وكان بلال بن رباح الذي لم يكن له شبر واحد من أرض مكة، ولكنه عاش فيها وسار على أرضها وتغلغل قلبه بحبها، وكان إذا ذكر مكة بكى وأجهش في البكاء وقال:

ألا ليتَ شعري هل أبيتن ليلةً

بواد و حـولي إذخرٌ وجليل

وهل أَرِدَنْ يوماً ميـاه مجنّةٍ

وهل يَبدُونْ لي شامةٌ وطفيل
  • المرجع السابق ونفس الصفحة

إنه يحب أن ينام ليلة بواد من وديانها، ويعشق أن يرى نباتاتها الصغيرة طيبة الرائحة وأن يشرب من مياهها، وتكتحل عيونه برؤية جبليها شامة وطفيل.

وأوضح رحمه الله أن تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد على أساس التقوى وتحقيق مصالحهم الدنيوية والأخروية فريضة من فراض الإسلام، ويستدل بقوله (ص): "وكونوا عباد الله إخواناً". رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، الجامع الصغير 2/354 متن مختصر شرح الجامع الصغير.

وقوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتُّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) ) [آل عمران].

كما أوضح أن توسيع السيادة الإسلامية واتساع رقعة الوطن الذي تسوده العقيدة وأحكام الشرع عن طريق الجهاد، فهذا فرض من فراض الإسلام، إذ أوجب الإسلام على المسلمين أن يجاهدوا حتى يفتحوا بلاد الدنيا كلها وتسود عليها أحكام الشريعة وترفرف عليها راية العقيدة.

واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله (193) ) [البقرة]. انظر رسالة دعوتنا من مجموعة الرسائل 102-105.

وطنية الحزبية

ويحدد الأستاذ البنا رحمه الله موقف الإسلام من هذه الوطنية بأنها مرفوضة، وباطلة لأنها تقوم على تفريق الأمة وتمزيقها أو تشرذمها إلى طوائف متناحرة ومتضاغنة تتراشف بالسباب وتترامى بالتهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشبع بمناهج وضعية أملتها الأهواء، وشكلتها الغايات والأغراض وفق المصالح الشخصية.

والعدو يستغل كل هذه التشاحنات والاختلافات لمصالحه، بل ويزيد أوارَ نارها اشتعالاً حتى يبقى جاثماً على البلاد والعباد.

قال رحمه الله في هذه الوطنية: (فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس). انظر رسالة دعوتنا من مجموعة الرسائل ص105.

الوطنية في الفقه السياسي الإسلامي

ويرى الأستاذ البنا رحمه الله أن الوطنية بالمفهوم السياسي الإسلامي هي التي تقوم حدودها على العقيدة، وليست على التخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله وطنٌ إسلامي له حُرْمَتُه وقداسته وحبه، والإخلاص له بالجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية سواء كانوا في مصر وسوريا والأردن والعراق والباكستان وإيران وأفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين هم أهلنا وإخواننا، نهتم لهم ونشعر بشعورهم.

والفرق بين دعاة الوطنية الحزبية ودعاة الوطنية الإسلامية هو أن الوطنية عند دعاة الوطنية الحزبية محدودةٌ بالحدود الأرضية، في حين أن الوطنية الإسلامية محدودة بحدود العقيدة الإسلامية.

وعلى هذا فالوطن الذي يعمل له المسلمون هو العالم كله، ينبغي أن تسود فيه رسالةُ الإسلام العالمية، تنظم شؤونه وترعى مصالح سكانه على اختلاف الألوان والبلدان.

ولئن اكتفى دعاة الوطنية الحزبية بتحرير بقعة الأرض التي يسكنون عليها والدفاع عنها والاستفادة من خيراتها، فإن الإخوان المسلمين يعتبرون هذا جزءاً من الطريق أو مرحلة واحدة من مراحله، ويرون أن يستمروا في جهادهم حتى ترفع رايةٌ الوطن الإسلامي، رايةُ لا إله غلا الله على كل بقاع الأرض، ويخفقَ لواءُ المصحف في كل مكان.

  • انظر رسالة دعوتنا من مجموعة الرسائل 105-107.

إنشاء الجهاز الخاص

لقد كان الإمام البنا رحمه الله يدرك أن أعداء الدعوة – من مستعمرين ويهود وغيرهم – كثيرون، ويدرك أن الأهداف التي يسعى إليها من تحرير العالم الإسلامي، وإقامة دولة إسلامية فيه، وجهاد أعداء الأمة في الداخل والخارج وسيقف أعداء المسلمين بعنف في وجه دعوته وجماعته بكل قوة وسيستخدمون كل صور الاعتداء، ولهذا رأى أنه لا مناص من تكوين جهاز عسكري مدرب ومعد إيمانياً وروحياً وجسدياً وعسكرياً وأمنياً للتصدي لأعداء الأمة الإسلامية والدعوة الإسلامية.

وهناك باعث مهم أيضاً وهو وجود الإنجليز على أرض مصر يحتلونها ويغتصبون خيراتها، ويذلون المواطنين فيها، ويحكمونهم عن طريق حكومات عميلة لهم، فكان لابُدّ والحالة هذه من وجود جهاز عسكري مدرب يتصدى لهؤلاء الغزاة المحتلين، فكان تكوين الجهاز الخاص، وكان سرياً في قيادته وتحركاته، وأخذ البيعة من أفراده، وكان مرتبطاً بالإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.

وهناك باعث آخر كذلك، وهو مقاتلة اليهود على أرض فلسطين المقدسة المباركة التي يبذل اليهود كل ما يستطيعونه من أجل تهويدها، وإزالة سيادة الإسلام عنها.

لقد أنشأ الإمام البنا هذا الجهاز ووضع هيكله التنظيمي سنة 1940م وكلف الإمام البنا خمسة من الإخوان ليكونوا لجنة قيادية له، فضم صفوة الإخوان المسلمين، الذين يتصفون بالجد والاتزان واللياقة الصحية ويقدرون على القيام بالأعمال الفدائية، وكان التدريب على فنون القتال سرياً وبنظام خاص، فيشمل التدريب تعلم المصارعة بفنونها المختلفة، والسباحة والجري والقفز، والتدريبات العسكرية على الأسلحة والقنابل والمتفجرات، والقيام بذلك عملياً بعد فهمها نظرياً، ورصد المعلومات بدقة عن العدو، وذلك عن طريق التدريب على التخاطب والتراسل بالشفرة، والقيام بدراسات ميدانية عن اليهود في مصر وشركاتهم وتحركاتهم.

وقد كان النظام الخاص يقوم بالتربية السياسية لأعضائه ليكونوا حراساً لفكرتهم ودعوتهم، وأهم المفهومات السياسية التي ركز عليها النظام الخاص: مفهوم الجهاد في سبيل الله، ومبدأ الاستقلال والتحرر السياسي، ويقوم أيضاً بالتوعية السياسية لعناصره، وقد شارك أعضاؤه فعلاً في مقاومة الإنجليز في قناة السويس فيما سُمي بالمقاومة السرية، كما شاركوا في حرب 1948م ضد اليهود على أرض فلسطين.

قال صاحب كتاب التربية السياسية: (الإخوان المسلمون أنشأوا النظام الخاص لوضع فكرة الجهاد ضد الاستعمار وضد الاستبداد موضع التطبيق عن طريق جهاز دقيق يربي نخبة من الإخوان تربية عقائدية وسياسية وعسكرية ليمارسوا الجهاد ضد أعدائهم.

إن إنشاء الإخوان للجهاز أمر بدهي بل من غير الطبيعي ألا يكون موجوداً في جماعة، ذكر قادتها أن سماته المميزة العمل والإيجابية، وهم ما فتئوا يعلنون أن الوسيلة للتخلص من الاستعمار وعلاج قضية فلسطين –هي الجهاد- هذه الوسيلة تحتاج إلى إعداد تربوي وعسكري لمن يمارسونها. انظر "التربية السياسية عند جماعة الإخوان المسلمين 483".

مشاركة الأستاذ البنا في الأحداث السياسية

ومما يجدر ذكره أن الأستاذ البنا رحمه الله كان سياسياً إسلامياً منذ عهد الطلب وهو في المدرسة، يهتم بقضايا شعبه وأمته، ويقاوم الاستعمار البريطاني المحتل لأرضه والناهب لخيراته والمذل لشعبه. ويحكم على الأحداث بما حكمَ الشرع فيها، ويعالجها بمعالجة الشرع لها، يحاول جاهداً أن ينظم الشعب للوصول إلى أهدافه في التحرير والاستقلال والحكم بالإسلام.

لقد تزعم المظاهرات والاضرابات ضد قوات الاحتلال البريطاني في مصر لما حدثت الثورة المصرية سنة 1919 وكان لا يتجاوز ثلاثة عشر عاماً، وكان مدير المدرسة يخشى من تبعات هذه الأعمال حتى إنه أخذ مجموعة من الطلاب برئاسة الشيخ حسن البنا إلى مدير البحيرة وألقى مسؤولية الأحزاب عليهم، وقال للمدير: هؤلاء هم الذين يستطيعون أن يقنعوا الطلاب بالعدول عن إضرابهم، وعبثاً حاول المدير أن يقنعهم بفك الإضراب فلم يفلح.

وكان رحمه الله يعقد الاجتماعات للتخطيط للمظاهرات والإضرابات في بيته الذي يسكن ولا يخشى من البوليس وبطشه، بل كان جريئاً في مواجهة رجال الشرطة ويؤثر فيهم بجرأته وشجاعته.

يقول في مذكراته رحمه الله:

ولست أنسى يوم أن أضربَ الطلابُ في يوم من الأيام الثائرة، واجتمعت اللجنة في سكننا في منزل الحاجة خضرة شعيرة في دمنهور، وداهم البوليس المجتمعين، واقتحم البيت يسأل عنهم، فكان جوابها أنهم خرجوا منذ الصباح الباكر، ولم يعودوا، وأنها مشغولة كما رآها (بتنقية البقلة) ولكن هذا الجواب غير الصادق لم يَرُقْني فخرجتُ إلى الضابط السائل وصارحته بالأمر – وكان موقف الحاجة خضرة حرجاً للغاية – وناقشته بحماس وقلت له: إن واجبه الوطني يفرض عليه أن تكون معنا، لا أن يُعطّل عملنا، ويقبض علينا، ولا أدري كيف كانت النتيجة أنه استجاب لهذا القول فعلاً، فخرج وصرف عساكره أو انصرف معهم بعد أن طمأننا، ورجعت إلى الزملاء المختبئين وأنا أقول لهم: هذه بركة الصدق، ولابد أن نكون صادقين ونتحمل تبعة عملنا ولا لزومَ للكذب مهما كانت الأحوال.

  • انظر مذكرات الدعوة والداعية ص28-29.

المؤتمرات السياسية

وقد عقد الأستاذ البنا عدة مؤتمرات سياسية متنوعة، فبعض هذه المؤتمرات دورية عامة لعموم الإخوان المسلمين وقد بلغ عددها ثمانية مؤتمرات ابتدأت سنة 1933 وانتهت سنة 1945 وبعضها كان مؤتمرات الهيئة التأسيسية التي كانت تناقش القضايا السياسية العامة، وبعضها مؤتمرات رؤساء الشعب والمناطق، وبعضها مؤتمرات إقليمية وبعضها مؤتمرات طلابية، وبعضها مؤتمرات شعبية خاصة بالاستقلال الوطني.

هذا وقد عقد الإمام البنا رحمه الله مؤتمرات سياسية لتوجيه الأحداث السياسية ومن أهم هذه المؤتمرات:

1-المؤتمر السادس في 9/1/1941 وقد تناول الإمام البنا في خطابه في هذا المؤتمر شؤون مصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية واحتكار الشركات الأجنبية.

2-في عام 1945 عقد الأستاذ البنا مع إخوانه سبعة مؤتمرات شعبية سياسية في القاهرة والإسكندرية وعواصم الأقاليم بهدف شرح الحقوق القومية السياسية شرحاً واضحاً وشاملاً، والعمل على محو الأمية وشرح حقوق الناس المواطنين وواجباتهم.

3-عقد البنا للإخوان اجتماعين في عام 1945، 1946 لرؤساء المناطق ومراكز الجهاد والشعب للنظر في الموقف من الأحداث السياسية.

وكانت هذه المؤتمرات تنتهي بقرارات منها:

1-مطالبة الحكومة المصرية بقطع المفاوضات مع الإنجليز وإعلان بطلان معاهدة 1936 وسحب القوات البريطانية من مصر بلا قيد ولا شرط.

2-المفاوضات غير مجدية ودعوة الشعب لأن يُهيّئ نفسه لتحمل أعباء الجهاد.

3-الحكومة التي لا تحقق هذه المطالب من قطع المفاوضات وإعداد الأمة للجهاد وغيرها هي أداة استعمارية تسقط طاعتها عن المحكومين.

انظر التربية السياسية عند الإخوان المسلمين 152-155.

الإضرابات والمظاهرات

ومن صور التوعية السياسية والتأثير على الأحداث السياسية في مصر:

1-عقد الأستاذ البنا اجتماعاً للهيئة التأسيسية لمناقشة انتزاع حقوق الشعب المصري من الإنجليز بالقوة كان ذلك في 5/2/1946 ونتج عن ذلك مظاهرات ومسيرات إلى قصر عابدين حيث يقيم الملك فاروق يطالبون بالحقوق المغصوبة، وحدثت مذبحة كوبري عباس في 9/2/1946 وعلى إثر هذه المسيرات سقطت وزارة النقراشي وبخاصة المسيرة التي قادها مصطفى مؤمن زعيم طلاب الإخوان في الجامعة.

2-خروج الإخوان بمظاهرات في عهد حكومة إسماعيل صدقي التي جاءت بعد حكومة النقراشي يطالبونه بالعمل على إعادة الحقوق الوطنية للشعب المصري، وفي مقدمتها جلاء الإنجليز عن مصر ووحدة وادي النيل.

3-تنظيم إضرابين عامين لتأكيد المطالب السابقة في 10/5/1946 و 8/6/1946 بدعوة من اللجنة السياسية للإخوان.

وأصدروا بيانات إلى الشعب المصري تنادي بتحصيل حقوق الشعب المصري، ورفض معاهدة سلطة الاحتلال البريطاني، وطالبوا بمقاطعة الإنجليز مقاطعة تامة اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. انظر المرجع السابق 155-157.

نشاطات سياسية أخرى

ومن النشاطات السياسية التي قام بها البنا وقاد إخوانه فيها:

1-لما سافر النقراشي إلى مجلس الأمن دعا الأستاذ البنا جميع فئات الشعب يوم 5/8/1947 أن يتوجهوا إلى المساجد في صلاة الظهر من أجل قضية وادي النيل، ثم قاد البنا مظاهرة كبيرة من الأزهر تهتف بمطالب البلاد. 2- أبرق البنا إلى النقراشي على إثر تأجيل البحث في قضية وادي النيل وطلب منه أن يعلن بطلان معاهدة 1936 وإعلان الجهاد لإخراج الإنجليز بالقوة وأن الإخوان على استعداد للقيام بذلك.

هذا وقد كان لهذه النشاطات السياسية المختلفة من مؤتمرات ومظاهرات وإضرابات ومسيرات ضغط شديد على الحكومات المصرية وعلى السلطات الإنجليزية في جعلها تفكر جدياً في إلغاء اتفاقية 1936.

  • انظر المرجع السابق 157-159

3-ومن صور هذه النشاطات الأخرى: القيام بحملات سياسية تتعلق بقضية التحرر من الاستعمار ومنها حملة تمزيق مصادر الثقافة الإنجليزية في مصر حيث قام الإخوان في كل الأقاليم بجمع الكتب والمجلات والصحف الإنجليزية وأحرقوها في الميادين العامة استنكاراً لسياسة بريطانيا الاستعمارية.

وحملات تدعو إلى مقاطعة كل ما هو مكتوب باللغة الإنجليزية وتحطم اللافتات المكتوبة باللغة الإنجليزية في المؤسسات والمجلات التجارية واستجابت المؤسسات لذلك وأبدلتها بلافتات باللغة العربية .

وقامت لجنة الدفاع عن وادي النيل بالمركز العام للإخوان المسلمين لعمل عدة ملايين من شارة الجلاء – وهي على شكل قلب ذات لون أحمر في وسطها كلمة الجلاء – ووزعوها في جميع البلاد، فخرجت الأمة في يوم واحد تعلق هذه الشارة على صدورها، فكان ذلك إجماعاً رائعاً.

  • انظر التربية السياسية ص381-382.

قضية فلسطين

هذا ومن أهم القضايا السياسية التي أخذت على الإمام البنا جُلّ تفكيره وكثيراً من جهده وجهاده، المؤامرة على أقدس مقدسات المسلمين فلسطين المباركة، فيها أولى القبلتين وفيها ثالث ثلاثة مساجد تُشدُّ إليها الرحال وكانت له جهود مباركة في هذا الشأن.

أ- التوعية السياسية

لقد كان رحمه الله يبذل جهوداً مضنية في تعريف الناس وتوعيتهم بكثير من المؤامرات على بلاد المسلمين، وفي مقدمة ذلك فلسطين. فكان حريصاً أن يعلم كل مصري وكل مسلم خارج مصر أن الإنجليز قد احتلوا فلسطين وحكموا أهلها بالحديد والنار وأنهم يمهدون لإقامة دولة يهودية عليها، وطرد أهلها منها، ويقومون بتدريب اليهود وتأهيلهم، وفي الوقت ذاته يطاردون كل مسلم على أرض فلسطين إن تدرب على حمل السلاح ويحكمون عليه بالإعدام.

وقد بذل من نشاطات مختلفة من ندوات ومحاضرات ودروس لتوعية الشعب المصري ما يجب عليه إزاء ذلك الشعب المسلم في فلسطين.

فها هو ذا رحمه الله يعلن في المؤتمر الخامس لجماعة الإخوان المسلمين أن الوطن الإسلامي كلٌ لا يتجزأ والاعتداء على جزء منه اعتداء عليه كله، ولابد أن يعمل المسلمون لتخليص البلد المعتدى عليه، وإنّ إنجلترا قد احتلت فلسطين وفلسطين وطن كل مسلم باعتبارها من أرض الإسلام ومهد الأنبياء وعلى المسلمين أن يحرروها من أيدي غاصبيها كما يجب عليهم أن يحرروا غيرها ممن اغتصبوها.

قال رحمه الله: (ونذكر الوفود الإسلامية بمكر إنجلترا وخداعها، ووجوب القيام على حقوق العرب كاملة غير منقوصة، ولنا حساب بعد ذلك مع إنجلترا في الأقاليم الإسلامية التي تحتلها بغير حق، والتي يفرض الإسلام على أهلها وعلينا معهم أن نعمل لإنقاذها وخلاصها).

  • انظر المؤتمر الخامس – مجموعة الرسائل 293-295.

ومن وسائل التوعية السياسية التي سلكها أنه كان يرسل شباب الأخوان إلى المساجد ليحدثوا الناس عن ظلم الإنجليز وبطشهم وقساوتهم على أهل فلسطين ويجمعوا التبرعات منهم من أجل الدفاع عن فلسطين ومن المعلوم أن الإنسان حين يتبرع إلى قضية يتعاطف على أهلها ويعيش همومها، ويبشر بها ليكثر أنصارها.

وقد كانت نتائج هذه الوسائل تحقيق الأمور التالية:

-إحاطة الناس علماً بأن هناك بلداً إسلامياً بجوارهم اسمه فلسطين يراد بيعه لليهود.

-إيقاظ الروح الإسلامية في الشعب المصري بعد أن ظلله الاستعمار وأعوانه وعملائه، وإيجاد وعي لدي الشعب بأن الإنجليز أعداء لهم وللإسلام.

-إظهار عمالة الحكومة المصرية للإنجليز.

إن مما يؤسف له أن كثيراً من الناس في مصر في ذلك الوقت كانوا يجهلون أن هناك بلداً اسمه فلسطين، وأن هذا البلد أقرب إلى القاهرة من أصوان، فأحدث البنا رحمه الله هذا الوعي السياسي في هذا الشعب، فبذل الدم والمال من أجل إنقاذه.

ومن وسائل التوعية أن الإمام رحمه الله قام بتوزيع كتاب (النار والدمار في فلسطين) وهو كتاب يعرض بالصور والوثائق الجرائم التي ارتكبتها بريطانيا ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، ومن هذه الصور هجوم الإنجليز على البيوت، وصورهم وهم يمزقون المصحف الشريف ويدوسونه بأحذيتهم وصور من الجرائم والتعذيب بلغت 50 صورة.

لقد أمر البنا رحمه الله بتوزيع عشرات الآلاف من هذا الكتاب فجن جنون الإنجليز في مصر وأوعزوا للحكومة المصرية بمنع هذا الكتاب وملاحقة من وزعه، فداهمت المركز العام قوات من البوليس المصري فوجدت من الكتاب 150 نسخة.

وسأل رئيس القوة عن صاحب هذه الكتب فتقدم الأستاذ البنا وقال: أنا صاحبها، فطلب الضابط من الإمام البنا أن يصحبه إلى النيابة وجرى التحقيق التالي مع البنا رحمه الله.

س: هل أنت صاحب هذا الكتاب؟

ج: أنا صاحبها.

س: ألا تعلم أن هذه الكتب تهاجم السلطات وتثير الشعب ضد دولة صديقة وحليفة بحكم المعاهدة؟

ج: أعلم ذلك، وقد قصدت مهاجمة هذه السلطات، ومهاجمة هذه الدولة الحليفة.

س: ألا تعلم أن القانون يعاقب على هذه الجريمة؟

ج: أعلم، وأنا ولا أمانع في إحالتي للقضاء، لأني معترف بهذه الجريمة ومصر عليها.

وأنها وكيل النيابة التحقيق ورفعه للنائب العام ليحاكمه وكان الإمام البنا كما رأيتم يرغب بالمحاكمة لتكون له فرصة أمام القضاء ووسائل الإعلام ليبشر بفكرته وموقفه.

وهذا ما فطن إليه العملاء بتوجيه سادتهم الإنجليز والقادة الإنجليز في القاهرة، فقد قال السفير للنائب العام بعد أن قرأ التحقيق: إنك بهذا التحقيق قدم لحسن البنا أعظم خدمة دون أن تدري... لقد استطاع هذا الرجل أن يضحك عليكم ... لقد وزع الكتاب وأصبح في أيدي الناس في كل مكان وما صادرتموه منه لا يعد شيء يذكر بجانب ما تم توزيعه. إن أمنية هذا الرجل هي أن يقدّم للقضاء ليتخذ من منصة الدفاع عن نفسه في هذه القضية السياسية وسيلة إلى نشر أفكاره، وإلى التشهير بنا، وفضيحتنا، وتوصيل ما تضمنه الكتاب إلى أسماع من لم يصل إليه عن طريق الصحف التي ستتبارى في نشر ما يقال في القضية كدأب الصحف في القضايا السياسية... هذا التحقيق يجب أن يحفظ ويفرج عن الأستاذ البنا في الحال.

ومن صور التوعية السياسية أن طلب الأستاذ البنا إلى الإخوان المسلمين وسائر المسلمين في المساجد أن يقنطوا في صلواتهم من أجل فلسطين، ووجه بذلك كتباً إلى شعب الإخوان ذاكراً مشروعية هذا القنوط في النوازل ونازلة فلسطين من أشد النوازل، واقترح دعاء مفاده طلب النصر من الله لإخواننا أهل فلسطين على أعدائهم وإزالة الكرب عنهم وتأييد جهادهم.

  • "مذكرات الدعوة والداعية" للأستاذ البنا ص211-212.

هذا ومما يدلك على الوعي السياسي الذي أحدثه البنا ما كان يجري من تحقيقات مع شباب الإخوان في المعتقلات والتي تدل على جهل المسؤول وغبائه.

المحقق معه: مرسي الصوت، صياد. يقول له النائب العام: مالك ومال فلسطين، دي دولة، واحنا دولة. مرسي الصوت: فلسطين دولة عربية ومسلمين وتربطنا بهم صلة الجوار وصلة الإسلام والقرآن.

النائب: لكن أنت صياد ومالك تدخل في صفوف الطلبة.

مرسي الصوت: ليس في الإسلام عامل وطالب، كلنا في الإسلام إخوان مسلمون، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

ويجري الحوار بين النائب والطالب محمود القبائي.

النائب: من الذي أصدر إليك الأمر بعمل مظاهرة لفلسطين.

الطالب: الإسلام يأمرنا بالتعاون والتساند، ورسولنا (ص) يقول لنا: "مَنْ لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".

النائب: لكن فلسطين دولة غير دولتنا ولا يعنينا أمرها.

الطالب: فلسطين جارة لنا، وهي أقربُ لنا من أسوان، ولابد من الاهتمام بأمر الجار خوفاً من أن يجاورنا اليهود الذي حذّر الله منهم.

ومما يجدر ذكره أن الأستاذ البنا قد زار بعض الطلاب المعتقلين في دمنهور فقال له مأمور القسم يجامله: إن المسألة بسيطة وقريباً سوف تفرج عنهم النيابة.

فقال له الأستاذ المرشد: إن هذه أول دفعة، وسوف تأتيك دفعات أخرى ما بقي حالُ البلاد الإسلامية على هذا لمنوال، فكلّ هذا بالنسبة لنا تربية.

ومن صور التوعية إصدار منشورات تهاجم الإنجليز ومظالمهم في فلسطين وتبيّن خطر اليهود، وكانت توزع على نطاق واسع جداً.

ومن صور التوعية السياسية ما دعا رحمه الله إليه من مقاطعة المجلات اليهودية في القاهرة، فطبع قائمة كشوف بأسماء هذه المجلات وعناوينها، والأسماء الحقيقية لأصحابها، وذُيّلت هذه الكشوف بهذه العبارة: إن القرش الذي تدفعه لمجلة من هذه المجلات إنما تضعه في جيب يهود فلسطين ليشتروا به سلاحاً يقتلون به إخوانك المسلمين في فلسطين.

وقد أثار هذا الفعل الصحف الإنجليزية فحملت عليه مُستعدية الحكومة المصرية على مُصدري هذه المنشورات أو الكشوف.

ومما يجدر ذكره أن الحكومة المصرية وسلطات الاحتلال كانوا جميعاً يفاجؤون بهذه المنشورات، وهي تراها في أيدي الناس في الشوارع والمحلات والمعاهد والمدارس، وكان كبار موظفي الدولة والوزراء يذهبون في الصباح الباكر إلى مكاتبهم فيجدون هذه المنشورات عليها.

ب- عقد المؤتمرات من أجل نصرة فلسطين

لقد استطاع البنا رحمه الله أن يتجاوز حدود مصر في العمل السياسي وبخاصة إلى قضية فلسطين، فدعا إلى عقد أول مؤتمر عربي من أجل نصرة فلسطين، وقرر أن يكون مقر المؤتمر دار المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بالقاهرة، ووجه الدعوات إلى رجالات البلاد العربية، فلبّوا النداء، وحلّوا ضيوفاً على جماعة الأخوان المسلمين.

وفي نهاية المؤتمر تكلم الأستاذ البنا، وختم المؤتمر بقرارات تطالب حكومات الدول العربية بالتدخل من أجل إنقاذ فلسطين من المؤامرة الإنجليزية اليهودية.

وبعد هذا المؤتمر صار يتوافد على دار المركز العام كثيرون من ذوي الرأي والسياسة ليتفاهموا مع الإخوان المسلمين فيما يجب عمله لإنقاذ فلسطين، وتمخضت الكفاءات عن ضرورة عقد مؤتمر برلماني عالمي، فوجهت الدعوات إلى جميع برلمانات العالم لعقد مؤتمر في القاهرة لمعالجة قضية فلسطين. فاستجابت كثير من البرلمانات فأوفدت ممثلين لها وعقد المؤتمر بالقاهرة، وكان هذا أول مؤتمر عالمي من أجل فلسطين، فشرحت القضية الفلسطينية، وانتهى المؤتمر بقرارات موجهة إلى جميع العالم وإلى الحكومة البريطانية بخاصة بوجوب المحافظة على حقوق أهل فلسطين.

لقد كان هدف الإخوان من هذه المؤتمرات هو أن يسمع العالم كله بعدالة هذه القضية وظلم الإنجليز الذين يزيفون الحقائق بتواطؤ مع اليهود.

ج- المظاهرات

إن ما يجدر ذكره أن الشعب الفلسطيني المسلم لم يقف مكتوف الأيدي أمام المؤامرات البريطانية اليهودية لإقامة الدولة اليهودية عليها، بل قام بثورات كثيرة أشهرها ثورة 1936 الذي رافقها أطول إضارب سياسي في تاريخ البشرية ، وكلفت هذه الثورة التي استمرت حتى عام 1939 آلاف الشهداء والجرحى وزجّ بعشرات الألوف في غياهب السجون.

وعلى أثر ذلك سئل رئيس وزراء مصر وكان النحاس باشا، وهو في طريقه إلى فرنسا عن رأيه في الثورة المشتعلة في فلسطين وبيت المقدس فأجاب بقوله: أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيساً لوزراء فلسطين، ونشرت كثير من الصحف العربية والأجنبية هذا التصريح.

ولما بلغ هذا التصريح الأستاذ البنا انتفض أسداً يصدر تعليماته على الفور لجميع شعب الإخوان المسلمين ليتظاهروا احتجاجاً على ما تضمنه التصريح من تخلٍّ صريح عن فلسطين، فعمَّت المظاهراتُ جميع أرجاء القطر المصري، ورفعت شعارات تتضامن مع أهل فلسطين وتندد بالسياسة البريطانية فيها:

- فلسطين تحترق فتنبّهوا أيها المسلمون.

- فلسطين عربية إسلامية.

- تسقط بريطانيا حليفة اليهود ويسقط وعد بلفور.

- الدمار لأعداء الإسلام.

فدفعت الحكومة المصرية أعداداً من البوليس فاعتقلوا شباب الإخوان وفتشت بيوتهم وأسيء إلى أسرهم. انظر عباس السيسي "في قافلة الإخوان المسلمون" 1/34.

هذا وقد قام الإمام البنا رحمه الله بمظاهرة بلغت نصف مليون في 4/12/1947 انطلقت من الأزهر تضم الطلاب والعمال والمحامين والمهندسين ووقف خطيباً في الجماهير المحتشدة وكان مما قال: إن هذا الشباب ليس هازلاً، ولكنهم جادون عاهدوا الله ثم الوطن أن يموتوا من أجله، إن كان ينقصنا السلاح فسنستخلصه من أعدائنا ونقذف بهم في البر.

  • مذكرات الدعوة والداعية 267-268.

د- توجيه المذكرات السياسية

ولقد استخدم البنا رحمه الله صورة أخرى من صور التوعية السياسية، وهي رفع المذكرات إلى جهات متعددة، وإعلام الناس بها، وهذه المذكرات فيها توعية ومطالب وحقوق مهضومة لأهل فلسطين، فقد استولى الأعداء على ديارهم وطردوهم منها، وفي مقدمة هؤلاء المطرودين الحاج أمين الحسيني – رحمه الله- المفتي العام لفلسطين ورئيس اللجنة العربية العليا.

ومن هذه المذكرات ما رفعها إلى رئيس الوزراء المصري وقد جاء فيها:

ليس عليكم إلا أن تكاشفوا الساسة البريطانيين بوضوح وجلاء بحقيقة الموقف، وتطلبوا إليهم حل القضية الفلسطينية على هذه القواعد:

1-إيقاف الهجرة اليهودية إيقافاً تاماً، وأخذ المهربين بأقصى الشدة حتى تظلّ الغالبية بفلسطين عربية.

2-العفو الشامل عن كل المبعدين والمعتقلين والمجاهدين، والسماح بالعودة للمهاجرين.

3-عطف الحكومة على أسر المجاهدين بمنحهم الإعانات والتسهيلات التي تعوِّض عليهم بعض ما فقدوا من أرواح وأموال.

4-اعتراف الحكومة البريطانية باستقلال فلسطين عربية مسلمة.

  • انظر "مذكرات الدعوة والداعية" ص226.

ولقد وجه الأٍستاذ البنا رحمه الله مذكرة إلى السفير البريطاني في القاهرة جاء فيها: إن قضية فلسطين قضية كل مسلم، وإن الحكومات الإسلامية والشعوب الإسلامية إن عبرت عن إظهار هذا الشعور المتمكن من نفوسها.. فإن هذا مما يزيد ألمها، ويضاعف همومها، وبالتالي لابد من الانفجار يوماً للشعور المكبوت، فتخسر إنجلترا صداقة العالم الإسلامي إلى الأبد، نرجو أن تدرك الحكومة البريطانية هذه الحقيقة قبل فوات الوقت بالرغم من كل ما يخدعها به اليهود.

  • انظر "مذكرات الدعوة والداعية" ص226.

قتال اليهود

لقد آمن الإمام البنا رحمه الله أن الطريق السليم للمحافظة على الحقوق وتخليصها من مغتصبيها هو القتال، وتحقيقاً لذلك فقد أرسل كتائب الإخوان المسلمين إلى فلسطين والتزم بأن يرسل الألوف تلو الألوف لتحرير فلسطين من اليهود.

وقبل انتهاء الانتداب البريطاني في 15/5/1948 اجتمع زعماء الدول العربية في بلودان في سورية أرسل البنا رحمه الله برقية لهم يخبرهم بأنه على استعداد أن يقدم عشرات الألوف من شباب الإخوان المسلمين إلى فلسطين لتحريرها أو الاستشهاد فيها، وأن الكتيبة الأولى وعددها عشرة آلاف متطوع مجهزة للدخول والقتال.

ولكن حكومة النقراشي العميلة للإنجليز قامت بما يرغبه الإنجليز في منع كثير من مجاهدي الإخوان المسلمين إلى دخول فلسطين والجهاد فيها، مما اضطر والحالة هذه بعض الشباب من المجاهدين إلى السير على الأقدام مسافات طويلة حتى دخلوا أرض فلسطين.

ومما يجدر ذكره هنا أن الحكومة المصرية التي كان يرأسها إبراهيم عبد الهادي قد شددت حملاتها في مطاردة الإخوان المسلمين وزجهم في غياهب السجون وأخذت تحيك المؤامرة ضد الأستاذ البنا لقتله والتخلص منه، بينما كان المجاهدون من الإخوان على ارض فلسطين قلوبهم تتمزق على ما يجري لإخوانهم على أيدي الطغاة والعملاء أولياء الشيطان.

وإزاء هذا الألم الذي يعتصر المجاهدين على أرض فلسطين بعد حل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالهم وسائر ممتلكاتهم، كان الأستاذ البنا رحمه الله حريصاً على استمرار الجهاد في فلسطين، فأرسل رسالة إلى إخوانه المجاهدين يقول فيها: إن لا شأن للمتطوعين بالحوادث التي تجري في مصر، ما دام في فلسطين يهودي واحد، فإن مهمتهم لم تنته ... ثم يختم رسالته بوصية طويلة للإخوان يوصيهم فيها بالتزام الهدوء وحفظ العلاقات الطيبة مع إخوانهم وزملائهم ضباط الجيش وجنوده المجاهدين.

تقويم الأستاذ البنا للحرب بين العرب واليهود في فلسطين:

لقد تواترت الأخبار من فلسطين بعد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين بأنها لم تكن جادة في تطهير فلسطين من رجس اليهود، ولم تقدر حقيقة اليهود وقوتهم وعددهم في فلسطين، وأنها جمعت السلاح من معظم المجاهدين من أهل فلسطين وأبعدتهم عن ساحات الجهاد، وهم أحق بها وأهلوها. بل ساهمت في سياسية اليهود التي كانت تحرص أن توجد شرخاً بين هؤلاء المجاهدين وبين جيوش الدول العربية، وايقن أيضاً رحمه الله التآمر العالمي على أهل فلسطين وقضيتهم، وتأكد لديه غدر بريطانيا وخيانتها لهذا الشعب المسلم سليم النية والطوية، وظهر له وللجميع أن الضابط الإنجليزي كلوب باشا قائد الجيش الأردني قد أصبح هو بالفعل القائد العام للجيوش العربية التي دخلت فلسطين، وهو صليبي حاقد حانق على الإسلام والمسلمين، وكشف هو وغيره السلاح الفاسد الذي زود به الجيش المصري.

لقد اجتمعت هذه الأدلة للأستاذ البنا، فأدرك طبيعة المؤامرة على أهل فلسطين وعلى المتطوعين المجاهدين من الإخوان المسلمين، وأن هذه الجهود تضيع سدى لأن الإسلام مستبعد عن الحكم والسياسة. لقد وصلت للإمام الشهيد رسالة عن بطولات الإخوان المجاهدين في فلسطين، وعن بعض الذين استشهدوا فدمعت عينه، وتقلص فكاه وبكى وقال:

لهم الله هؤلاء الأبرار .. لهم الله في إيمانهم وجهادهم .. لهم الله فيما هم فيه وفيما ينتظرهم، وإن معركتهم الكبرى لا تزال أمامهم مع الفجرة من حكامهم الذين يخشونهم أشد من خشيتهم لليهود، مع الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، مع فاروق وجيش فاروق وبوليس فاروق، وتلامذة مناهج الاستعمار جميعاً، إن هذا الدم العزيز المسفوح لن نجني له ثمرةً ما دامت هذه الأوضاع الفاسدة، وما دام الإسلام غريباً في ديار المسلمين، إنهم يبذلون دمهم في سبيل الله في معركة زمامها بأيدي قوم لا يبالون بالإسلام، ولا يبالون أن يتخذوا إلى الله سبيلاً .. إنهم غرباء .. غرباء .. غرباء .. ولا أحسب أن غربتهم ستطول.

إن إسرائيل ستقوم لأن حركتها حركة عقيدة رسمت برنامجها واستنفرت قواها، ولم تخشَ في يهوديتها لومة لائم، فأنى لهؤلاء القليل المستضعفين أن يصلحوا، أو حتى أن يستروا ما هو محيط بهم من الفساد والتحليل والخذلان .. إنهم يحاربون ولا ظهر لهم، بل إنهم ليسوا آمن على ظهرهم منهم على خط النار من عدوهم، إنّ الطريق طويل .. طويل رهيب، وهذا الدم العزيز المسفوح لا يعوض .. والمعركة الكبرى، معركة الإسلام التي ربينا لها هذا الشباب لا تزال أمامه، أما إسرائيل فستقوم، وستظل قائمة إلى أن يبطلها الإسلام كما أبطل غيرها. ذلك طريقنا الذي لا يجوز أن تفتننا عنه وجوه المعارك والبطولات .. ووالله لولا الإشفاق على مشاعر شبابنا المؤمن المتحمس، ولولا جهالات الناس لأعلنتها صريحة: أننا بعثنا شبابنا للقتال ونحن نعلم مصير المعركة، وأنا أصحاب رسالة ترفض الأمل الكاذب في كل سياسية لا يحكمها الإسلام، وفي كل جهاد لا تحكمه كلمة الله، وإن على شعوبنا أن تميز بين ذوي العقيدة المجاهدين وبين عبث المتحللين من ساسة وعسكريين، وأننا إنما نحتسب هذا الدم العزيز المسفوح إعذاراً إلى الله وتذكيراً لهذه الأمة، إن كانت تنفع الذكرى.

  • انظر محنة الإسلام ص11-13 نشرة مستلة من مجلة (المسلمون) القاهرة.

وهنا يبرز سؤال في الأذهان هو: لما وقتُ حل الإخوان في هذه الظروف العصيبة بالنسبة للقضية الفلسطينية؟ ولقد أجاب الأستاذ البنا رحمه الله على هذا السؤال فقال: إن رغبة الحكومات العربية في إنهاء قضية فلسطين، وعلى غير ما تريد الشعوب، كان من العوامل التي أوحت للحكومة المصرية بهذا الموقف.

هذا وقد ذكر الأستاذ البنا قبل قتله في مذكرة أسباباً بالانتفاضة إلى تصفية القضية الفلسطينية رداً على المذكرة التي قدمها وكيل الداخلية الأستاذ عبد الرحمن عمار وطلب فيها حل الإخوان ومن هذه الأسباب الضغط الأجنبي، وقد أقر وكيل الداخلية بنفسه للمرشد العام أن مذكرة قدمت إلى النقراشي باشا من سفير بريطانيا وسفير فرنسا، والقائم بأعمال سفارة أمريكا بعد أن اجتمعوا في فايد في 6 ديسمبر 1948 يطالبون فيها المبادرة بحل الأخوان المسلمين، وذلك بالطبع طلب طبيعي من ممثلي الدول الاستعمارية، الذين يرون في الإخوان المسلمين أكبر عقبة أمام امتداد مطامعهم وتشبعها في وادي النيل وفي بلاد العرب، وأوطان الإسلام، وليست هذه أول المرات التي طلب فيها هذا الطلب، بل هو طلب تقليدي كان يتكرر دائماً على لسان السفير البريطاني في كل المناسبات لكل الحكومات. وكانت كلها تحجم عن إجابتها، فلقد طلبت السفارة من رفعت نحاس باشا سنة 1942 والحرب العالمية على أشدها والألمان على الأبواب حل الإخوان المسلمين وتعطيل نشاطهم فأبى أن يجيبهم لذلك واكتفى بإغلاق الشعب كله مع بقاء المركز العام إلى حين.

وكان في وسع دولة النقراشي أن يلفظ هذا الطلب وأن يتفاهم مع الإخوان على وضع يريحهم ويريحه، ولقد كان الإخوان على أتم الاستعداد لهذا التفاهم وخاصة بعد عودة المرشد العام من الحجاز، إلا أنه لم يفعل وخطا الخطوة التي تدل أن مصر لازالت للأجانب قبل أن تكون لأبنائها، وأنه ما زال للأجانب كل النفوذ والسلطان في هذه الأوطان ثم مضى في تفصيل الظروف والأسباب إلى أن قال: (إن هذا من تدبير اليهودية العالمية والشيوعية الدولية والدول الاستعمارية وأنصار الإلحاد والإباحية الذي يرون في الإخوان السد المنيع الذي يحول بينهم وبين ما يريدون).

وأجاب الأستاذ البنا رداً على سؤال صحفي عن الأسباب التي دفعت بالمسؤولين إلى حل الإخوان فقال: كما يقال: إن من هذه الأسباب العوامل الحزبية التي تصاحب موعد الانتخابات النيابية إذ أنه من المعروف أن الحزب السعدي يريد أن يظفر بأغلبية برلمانية تمكنه من الاستمرار بالحكم، ومن المعروف أن الإخوان قوة شعبية، ينتظر منها الصمود في هذا الموقف، فمن التكتيك الحزبي أن يشوه موقفهم بمثل هذا العمل، قبل حلول موعد الانتخابات الذي سيكون في أكتوبر 1949 ما لم تطرأ عوامل أخرى على الموقف.

أقول: إن الذي يقرأ هذا الكلام بتأمل وتدبر يجد أن هذا الرجل قد أوتي فقهاً سياسياً رائعاً ترجمه من خلال هذا الفكر السياسي الرائع الجريء جرأة المؤمن الواثق بربه، المطلع على خفايا الأمور التي تحاك في الظلام، ويكشف حقيقة المؤامرة الاستعمارية الصليبية على هذه الجماعة الإسلامية، التي أخذت على عاتقها العمل لاستئناف الحياة الإسلامية، وإقامة الدولية الإسلامية، وتحرير العالم الإسلامي من أي سلطان أجنبي.

ولقد كتب الأستاذ البنا رحمه الله قبل استشهاده مذكرة فند فيها أسباب الاتهامات الباطلة التي انتحلتها حكومة السعديين للكيد للإخوان، وتدبير قرار الحل الغاشم الذي استصدرته وعنون لهذه المذكرة بعنوان: قولٌ فصل.

وقد جاء في هذه المذكرة فقرة: من الذي يفعل هذا ويحكم به؟

الحكومة المصرية التي أخفقت في المفاوضات مع الإنجليز فقطعتها وذهبت إلى مجلس الأمن فعادت بخفي حنين، وتركت قضية الوطن على رفوف في زوايا الإهمال والنسيان، وتجاهلت الإنجليز بعد ذلك تجاهلاً تاماً، وتركتهم يفعلون ما يريدون حتى أضاعت بهذا التجاهل السودان، واتبعت سياسية التردد والاضطراب في قضية فلسطين، وقبلت الهدنة الأولى. فأضاعت بهذا القبول كل شيء وحرمت الجيش المصري الباسل ثمرة انتصاره وأفقد الوطن ملايين الأموال وآلاف الرجال، فضلاً عن فقدان الكرامة وسوء الحال والمال – ودللت يهود مصر فلم تتخذ أي إجراء يتفق مع موقفهم من مناصرة أعداء الوطن الذي يعيش فيها الأجنبي آمناً مطمئناً على نفسه وماله وعبثه وفساده، ويحمي جنودها حانت مسكرات وبيوت العاهرات، ودور المنكرات، وأبواب الرقص والبارات- والتي عجزت كل العجز عن إنقاذ شعبها من براثن الفقر والمرض والجهل، والغلاء الفاحش الذي يأن منه الأقوياء فضلاً عن الضعفاء- والتي لا يؤيدها ولا يساعدها إلا نفرٌ قليل وضئيل من أصحاب المصالح الشخصية فهي في وادٍ والأمة في واد، هذه الحكومة التي تطارد الأخوان المسلمين، وهم الشعب وتحكم عليهم بالإجرام والنفي والتشريد ومصادرة الأموال والأملاك والحريات.

ولو أخذت الأمور وضعها الصحيح، وكانت الكلمة للحق لا للقوة، لحاكمناكم يا أيها المفرطون على التفريط ولحاسبناكم على هذا الفجور أشد الحساب، ولكن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ولم تكتف حكومة إبراهيم عبد الهادي بمطاردة الإخوان في مصر بل امتدت لتطاردهم في ساحات الجهاد، إذ أصدرت أوامرها باعتقالهم وتجريدهم من السلاح وقد تم ذلك، وبذلك وجهت طعنة نجلاء لفلسطين وأهل فلسطين، وكانت هدية ثمينة لليهود لا تقدر بثمن إذ تخلصوا من عدو جرئ شجاع لا يهاب الموت قد أذاقهم الموت الزؤام في ساحات القتال.

انتهى بحمد الله


للمزيد

ملفات متعلقة للإمام البنا

كتب هامة متعلقة بالإمام البنا

كلمات خالدة للإمام حسن البنا

متعلقات أخرى للإمام البنا

مقالات متعلقة عن الإمام حسن البنا

تابع مقالات متعلقة

مقالات متعلقة بالإمام البنا

تابع المقالات المتعلقة

.

وصلات فيديو للامام حسن البنا

.