القرضاوى يكتب عن ذكريات السجن والدعوة مع عز الدين إبراهيم.. الرجل الذى أعاد مسلمى أمريكا السود إلى الإسلام الصحيح

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
القرضاوى يكتب عن ذكريات السجن والدعوة مع عز الدين إبراهيم.. الرجل الذى أعاد مسلمى أمريكا السود إلى الإسلام الصحيح


مقدمة


من أعظم المصائب التى تنزل بالأمة أن تفقد علماءها وحكماءها، الواحد بعد الآخر، ولا تجد منهم عوضا، فإنما الأمة برجالها، وقديما قالوا: الرجال قليل. وإذا كان الرجال قليلا، فإن العلماء منهم قليل، وإذا كان العلماء قليلا، فإن العاملين منهم قليل، وإذا كان العاملون قليلا، فإن المخلصين منهم قليل، ومن هنا تجد الرجال العلماء العاملين المخلصين، هم قليل من قليل من قليل، وصدق الله تعالى إذ يقول: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» [سبأ:13]، ويقول تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» [ص:24].


علماء ربانيون

ومن هنا كان فقد الأمة لرجالها الأقوياء الأمناء، أو الحفَّاظ العلماء، نكبة أعظم من فقد الأموال، ونقص الثمرات، وخصوصا إذا كان هؤلاء الرجال من أهل العلم والدعوة، وأهل الرأى والحكمة، فإن المصيبة بفقدهم تتضاعف، والخسارة برحيلهم تتفاقم، حتى يُخْلِف الله على الأمة مَن يسدُّ مسدَّهم، أو يقوم ببعض دورهم، وهذا ما نبَّه عليه الحديث النبوى الصحيح المتَّفق عليه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالما، اتَّخذ الناس رءوسا جُهَّالا، فسُئلوا فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا».

أقول هذا بمناسبة ما أُصيبت به الأمة الإسلامية، والدعوة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، والتربية الإسلامية، من فقد رجل من خيرة رجالاتها، وحاديا من أهدى حُداة ركبها، إنه الأخ الحبيب، والصديق الأثير، العالم الباحث الأديب، والداعية المربى الكبير، الأستاذ الدكتور عز الدين إبراهيم، الذى ربطتنى به روابط عدَّة منذ نحو ستين عاما، حتى فرَّق بيننا هادم اللَّذات، ومفرِّق الجماعات (الموت).

لقد عرَفتُه قبل أن ألقاه، فقد كان من طلاَّب الإخوان المسلمين المتميِّزين فى جامعة القاهرة، (جامعة فؤاد الأول)، مع مصطفى مؤمن وسعيد رمضان، وغيرهما، وكنا نحن طلاَّب الإخوان فى الثانوى حينذاك نعتزُّ بهم ونفخر.

أول ما استمعتُ إليه

أما أول ما لقيتُه واستمعتُ إليه، فأظنُّه كان فى سنة 1946م، حين كنتُ فى القاهرة لمناسبة من المناسبات، وكان شأننا إذا كنا فى القاهرة أن نزور المركز العام للإخوان، ونحاول لقاء الأستاذ المرشد حسن البنا، وقلَّما كان يُتاح لنا ذلك، وفى هذه المرَّة قيل لنا: فى هذه الليلة يُقام احتفال بذكرى المولد النبوى بشُعبة السيدة عائشة بالقلعة، وسيخطب فيه بعض الدعاة الشباب، ومنهم عز الدين إبراهيم، وحرصتُ على أن أشهد الاحتفال لأستمع إليه، لقد عشقته أذنى قبل أن يراه بصرى. والأذن تعشق قبل العين أحيانا.

وقد حضرتُ مع بعض الإخوة إلى الشعبة المذكورة، وشاركنا فى هذا الاحتفال بالاستماع إلى خطبائه، الذى كان فى طليعتهم الشاب الجامعى عز الدين إبراهيم، الذى تحدَّث عن السيرة النبوية، وانتقد ما يقدَّم للشَّعْب فى (قصة المولد)، التى تُتلى على الناس فى كلِّ شهر ربيع الأول، واستمعتُ إلى عز الدين إبراهيم يتحدَّث عن واجبنا نحو السيرة النبوية، حديثا جديدا، عن قصص المولد النبوى التى تُعرض على الناس فى المساجد، وقد تُقرأ فى البيوت، وضرورة تصفيتها من هذه الشوائب التى لا تتَّفق مع قرآن ولا سنة، ولا علم محقَّق. وعرض السيرة السليمة التى تُتَّخذ منها الأسوة المحمدية، ويقتبس الناس من دروسها النيرة ما ينفعهم، ويرقى بهم فى دينهم ودنياهم.


اكتشاف داعية مصلح

وكان أهم ما اكتسبتُ من هذا الحفل: اكتشافى هذا الداعية المعلِّم والمصلح، وإن لم تُتَح لى فرصة للتعرُّف به فى تلك الليلة، لتزاحم الحضور عليه، ولأنى غريب ومغمور لا يعرفنى أحد، أو يهتمُّ لى. كما كنتُ متعجِّلا لأبحث عمَّن يستضيفنى لأبيتُ عنده تلك الليلة، فهذا ما كان يهمُّنى ويشغلنى طوال مقامى فى القاهرة.


لجوؤه إلى ليبيا

وحين اعتقلنا سنة 1949م فى معتقل هايكستب والطور، لم يكن معنا عز الدين، فقد عرَفنا أنه واثنين من إخوانه غادروا مصر عن طريق الصحراء الغربية، ورحلوا إلى ليبيا، ولقوا الملك إدريس السنوسى، وطلبوا منه اللجوء السياسى، بعد خطبة بليغة ألقاها عز الدين، فأجارهم الملك، فشعروا بالأمان، كما شعر موسى حين قصَّ قصَّته على الشيخ الكبير فى مدين، فقال: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].

وبعد أن أفرج عن المعتقلين فى مصر، وهدأت الأحوال، عاد عز الدين ورفيقاه إلى القاهرة، وبدأ يمارس نشاطه فى (قسم الأُسَر)، مع الدكتور عبد العزيز كامل فى عهد الأستاذ الهضيبى. وهذا يتَّفق مع اتجاهه الذى عُرف به هو ومجموعة من إخوانه، عبد الحليم أبوشقة، وجمال الدين عطية، ويوسف عبد المعطى، وغيرهم، الذين أسَّسوا ما عُرف باسم (لجنة الشباب المسلم)، التى كانت تُعنى بتقوية الجانب الفكرى والثقافى وتوسيعه، فى مقابلة ما تُعنى به جماعة النظام الخاص، وهو يوجِّه العناية الكبرى إلى الجهاد والجانب العسكرى.

إنكاره احتلال المركز العام من التنظيم الخاص

وقد كان صوته من أقوى الأصوات التى أنكرت على شباب (التنظيم الخاص)، الذى احتلَّ المركز العام فى وقت من الأوقات، تنفيذا لأوامر رئيسهم السابق عبد الرحمن السَّنَدِى، ثائرين على المرشد الشرعى المبَايع من الهيئة التأسيسية ومن جماهير الإخوان، الأستاذ حسن الهضيبى، وقد أنهى هؤلاء الإخوة احتلالهم بتوسُّط عبد العزيز كامل وغيره، وانعقد مؤتمر كبير فى المركز العام ضمَّ الألوف، تحدَّث فيه كثيرون، كان منهم عز الدين إبراهيم، الذى ركَّز فى حديثه على أن هؤلاء الشباب خرجوا عن أدب الإسلام فى توقير الكبير، ومعرفة حقِّ العالم، وطاعة مَن ولَّيته أمرك، واحترام نظام الجماعة.


التقاؤنا فى محنة 1954م

الشيخ عز الدين إبراهيم

وقد جمعنا الاعتقال فى (الحلِّ الأول) للإخوان فى عهد الثورة فى يناير 1954م، حين التقينا فى معتقل العامرية، وقد عملنا على تحويل المعتقل إلى جامع وجامعة وجمعية: جامع للعبادة، وجامعة للتثقيف، وجمعية للتعاون على الخير. يبدأ يومنا من قبل الفجر بالتهجُّد، وتلاوة القرآن، وذكر الله، والتضرُّع إليه بالدعاء والاستغفار، ثم صلاة الفجر فى جماعة، ثم قراءة الأذكار والأدعية المأثورات، ثم درس علمى رُوحى، أُلقيه أنا، أو الأخ العسال، أو الأخ عز الدين إبراهيم، أو الأستاذ عطية الشيخ، أو غيرهم من دعاة الإخوان.

وما هى إلا أيام قليلة ونحن فى معمعة هذا النشاط، حتى نُودى على ستة من المعتقلين دون غيرهم، لينقلوا إلى القاهرة، كان عز الدين واحدا منهم. وهم: محمود عبده، ومحمود حطيبة، ومحمود نفيس حمدى، وأحمد العسال، ويوسف القرضاوى.

فى أول الأمر ظنَّ الإخوان أن هذا أول كشف من كشوف الإفراج! ولكن بالنظر فى الأسماء التى نُودى عليها، يستحيل أن يفرج عنها قبل غيرها، وهم من قادة العمل الطلابى والشبابى والدعوى، وذهبت ظنون الإخوان وتفسيراتهم مذاهب شتى، لماذا هؤلاء دون غيرهم؟ وهل هم مفرج عنهم؟ ولماذا؟ وكيف؟ وهم من أنشط الإخوان؟ حتى قال بعضهم: إنهم أخذوهم ليحرموا الإخوان فى المعتقل من نشاطهم ومحاضراتهم، ولكن قد ينطبق هذا على عز الدين والعسال والفقير إليه تعالى.

وقال بعض الإخوان: لعلهم يريدون أن يتفاوضوا مع شباب الإخوان خاصة، وكله ظن وتخمين، والظن لا يغنى من الحق شيئا.


إلى السجن الحربى

على كل حال أخذنا نحن الستة فى سيارة كبيرة، ووصلتنا إلى مكان فى ضواحى القاهرة، أدخلنا إليه، فإذا هو السجن الحربى الذى بتنا فيه ليلة اعتقالنا، وقد وضعنا فى سجن رقم (4) فى زنازين انفرادية، وكان هذا هو السجن الذى ضم بعد ذلك الأستاذ الهضيبى المرشد العام وعددا من قادة الإخوان، ورغم أن كلا منا كان فى زنزانة انفرادية، فقد سمحوا بفتح الزنازين معظم النهار، وكنا نتزاور، ونصلى فى جماعة، وقد أمرنى الأستاذ المرشد أن أكون إماما لهم، فكنت أصلى بهم، وأطيل فى الصلاة الجهرية، بحيث أقرأ ربعا أو أكثر أحيانا فى الركعة، فنصحنى الأستاذ أن أخفف، وكان هذا من فقهه رحمه الله، رعاية للكبير والضعيف وذى الحاجة.

وأراد الأخ عز الدين أن يصدر مجلة باسم المعتقل، وطلب إلى أن أشارك فيها بقصيدة، فأنشأت قصيدة (زنزانتى) المنشورة بديوانى (المسلمون قادمون) ومن قارن وصف الزنزانة فى هذه القصيدة ووصفها فى قصيدتى (النونية) الشهيرة يعرف الفرق بين الاعتقال الأول فى يناير 1954م والاعتقال الآخر فى أكتوبر 1954م وما بعده.


سفره إلى سوريا

بعد خروجه من السجن الحربى، واصطلاح رجال الثورة مع الإخوان، فى ظاهر الأمر على الأقل، فى أواخر مارس 1954م فكر عز الدين وجماعة من أصدقائه أن يغادروا مصر إلى سوريا الشقيقة، وكانت الأجواء فيها آمنة بعد زوال حكم الشيكلى، وكانوا لا يأمنون تغير الأحوال فى مصر، وبخاصة أن العسكر غير مأمونين. فخرج عز الدين هو وعبد الحليم أبوشقة وحسن المعايرجى، وإخوة آخرون، للعمل هناك، وقد تزوج عز الدين من سورية، كما تزوج صديقه المعايرجى من لبنان.


من سوريا إلى قطر

ثم فتح لهم باب جديد، هيأه الله لهم، وهو (قطر)، والتى كانت فى بداية نهضتها، ووصلها قبلهم زميل لهم من الإخوان، وهو الأستاذ عبد البديع صقر، الذى تولى إدارة المعارف، فى عهد الشيخ على، وتحت إشراف الشيخ قاسم درويش، رئيس لجنة المعارف، وأضحى فى حاجة إلى رجال ثقات يعاونونه فى التدريس والإدارة والتفتيش.

كانت قطر واحة طيبة وارفة الظلال لعز الدين وإخوانه، وقد التقى بهم فيها إخوة جاءوا من السودان مثل كمال ناجى وعلي شحاتة، ضمتهم المعارف. وذلك قبل أن أجىء إلى قطر بعدة سنوات.

وبعد مدة حدثت فيها تغيرات، غادر عز الدين قطر إلى لندن للحصول على الدكتوراه فى اللغة العربية من جامعة لندن، ثم عاد إلى قطر، وقد أصبح زميله وصديقه كمال ناجى مديرا للمعارف، فأصبح الساعد اليمنى له. وكان وزير التربية والتعليم فى ذلك الوقت هو الشيخ قاسم بن حمد آل ثانى رحمه الله.


شخصية حكيمة محببة

قد كان لعز الدين (بصماته) الواضحة فى معارف قطر، فهو الذى قاد مسيرة تأليف كتب معاصرة فى اللغة العربية، واجتهد أن يراعى فى هذه الكتب كلَّ المتطلَّبات والتوازنات العلمية والدينية والتربوية والاجتماعية والسياسية، بدقَّة وأمانة وإتقان. ثم عُيِّن الدكتور عز الدين مساعدا لمدير المعارف، وهو الأستاذ كمال ناجى، بعد أن استقال المدير السابق الأستاذ عبد الرحمن عطية، وكان عز الدين مكمِّلا لصديقه ناجى، وكان تعاون مثل هاتين الكفايتين جدير أن يُثمر خيرا.

وكان لعز الدين مبادرات مبتكرة وبناءة، ومنها: ما اقترحه من عقد مؤتمرات دوريَّة لمديرى المدارس، لمناقشة المشكلات التى تواجهها المدارس، وهى التى وضعت لوائح المدارس الداخلية، ومنها لائحة المعهد الدينى. وأذكر أنه كان فى مقدمة هذه اللوائح: أن هدف هذه الوزارة بمدارسها ومؤسساتها: تكوين جيل جديد، مؤمن بالله، معتزٌّ بالإسلام، مستمسك بتعاليمه، متكامل النماء فى جسمه وعقله وروحه ووجدانه، يعمل لرفعة وطنه ودينه وعروبته وأمته والإنسانية جمعاء.

وكان لنا مع الدكتور عز الدين جلسات أخوية روحية وفكرية، نتبادل فيها الأحاديث ونتذاكر فيها المعارف، ونتواصى فيها بالحق والصبر، ونتعاون على البر والتقوى، وكان عز الدين يسمى هذه الجلسات (جلسات التسليك) أخذا من (تسليك) الصوفية لمريديهم فى الطريق، حين يرتقون بأتباعهم من درجة (مريد) إلى درجة (سالك).

وكان حضور هذه الجلسات هم: عبد الحليم أبو شقة، وحسن المعايرجى، وعز الدين إبراهيم، وأحمد العسال، ويوسف القرضاوي. وكل واحد من هؤلاء (شيخ) فى نفسه وفى حقيقة الأمر، فلم يكن بيننا شيخ ومريد. ولكن إخوة متحابون، يتناصحون ويتذاكرون، وإن كان أنشطنا هو الأخ عبد الحليم رحمه الله. وقد ظلت هذه الحلقة تجتمع اجتماعات غير منتظمة، حتى فرق بينها الزمن بعد ذلك، فسافر المعايرجى إلى ألمانيا لدراسة الدكتوراه، وتعاقد عز الدين مع جامعة الملك سعود بالرياض ليعمل بها أستاذا، وعقد عبد الحليم العزم على أن يتخلى عن الوظائف الرسمية، وينشئ (دارا للنشر) بالكويت، ليتفرغ للبحث والدراسة.


نزوع إلى العمل الأكاديمى

وبعد أن أرسى الدعائم الإدارية والتربوية فى وزارة التربية فى قطر، رأى أن يتفرَّغ للجانب العلمى والأكاديمى، حتى لا يستهلكه العمل الإدارى، ويصرفه عما يحرص عليه من العلم والثقافة، فتعاقد مع المملكة العربية السعودية، وبالذَّات مع جامعة الملك سعود (جامعة الرياض)، ليعمل فى تدريس اللغة العربية، وفى طرق تدريس اللغة العربية، وهو ما درسه فى معهد التربية العالى فى مصر، وقد شجَّعتُه على ذلك، مع أنه سيحرمنا فرصة التلاقى المستمر، الذى كنا نسعد به فى قطر، لما أعلمه من قدرته على العطاء العلمى والفكرى، وحرام أن يظلَّ مثله حبيس العمل الإدارى.

ولكن بقاءه فى السعودية لم يطُل كثيرا، فسرعان ما اختطفته الإمارات، واحتضنته فى رحابها، وأصبح واحدا من رجالها القريبين جدًّا من قيادتها.


مستشار ثقافى للشيخ زايد

عمل فى دولة الإمارات العربية المتحدة وتمتَّع بجنسيتها، منذ سنة 1968م بوصفه مستشارًا ثقافيًّا لمؤسس الدولة الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، حيث كلَّفه بمهام تربوية ودينية وعلمية وثقافية متنوِّعة، من خلال التعاون مع وزارات التربية والتعليم والإعلام والثقافة والشئون الإسلامية، وتولَّى إدارة جامعة الإمارات لمدَّة أربع سنوات.


إنجازات عظيمة

ومن إنجازاته: اقتراح وتنفيذ (المجمَّع الثقافي) فى أبوظبى، وهو صرح مشهود ومتميِّز هناك. والقيام ببرنامج ثقافى واسع باسم ديوان رئيس الدولة فى مطلع السبعينيات، والتعاون مع (الحركة النسائية والاتحاد النسائى) وجمعياته فى نشأتها، وتنفيذ مشروع (مؤسَّسة الشيخ زايد للأعمال الخيرية والإنسانية)، التى امتدَّ نشاطها إلى أنحاء العالم، والإشراف على (كراسيّ الدراسات الإسلامية) التى أنشاها الشيخ زايد رحمه الله فى عدد من البلاد الأوروبية والآسيوية، وتنفيذ مشروع (مَعْلَمَة القواعد الفقهية)، التى اختار لقيادتها الدكتور جمال الدين عطية، ومعه الريسونى والندوى وآخرون، بالتعاون مع مجمع الفقه الإسلامى فى جدَّة، وتمثيل الدولة فى عدد من (المؤتمرات الإقليمية والعالمية) ذات الصفة الثقافية، والمشاركة الفعالة فى (مؤتمرات الحوارات الحضارية والدينية).


ترشيد مسلمى أمريكا

وكان له دور مهم مع الشيخ عبد الله بن علي المحمود عالم الشارقة المعروف رحمه الله، فى ترشيد المسلمين السود فى أمريكا، وإعادتهم إلى الإسلام الصحيح، وإلى حظيرة الأمة الإسلامية، وقد سافر إليهم مرارا، واتصل اتصالا وثيقا بوارث الدين بن أليجا محمد، وهو الذى ورث زعامة الجماعة، وقد عمل عز الدين على إعانتهم بكلِّ ما يحتاجون إليه، ليرجعوا إلى الكتاب والسنة.

له أكثر من (23) كتابًا تعليميًّا وبحوث كثيرة تتَّصِف بالتنوُّع والتركيز والأصالة، منها: رسائل النبى صلى الله عليه وسلم إلى ملوك زمانه، مثل رسالة هرقل ملك الروم، ومسيرة الجامعات الإسلامية، والحوار الإسلامى ــ المسيحى، والسنوات المتأخِّرة من العمر.

كما عنى بترجمة بعض الكتب إلى اللغة الإنجليزية، هي: الأربعون النووية، والأربعون القدسية، ومختصر (الكلم الطيب) لابن تيمية، و(رياض الصالحين) للنووى. وكانت طريقته أن يقوم هو بالترجمة، وأن يراجعه أحد الإنجليز الذين يعرفون العربية، وقد اختار لذلك الأستاذ دنيس جونسون ديفيز، الذى أسلم بعد ذلك وتسمى بـ(عبد الودود)، ويرى أن هذه هى الطريقة المثلى فى الترجمة من لغة إلى أخرى.

وكان على وشك إصدار مجلد من مختارات القرآن الكريم المبوَّبة حسب الموضوعات والمترجمة إلى اللغة الإنجليزية.

والدكتور عز الدين إبراهيم عضو فى عدد جمٍّ من المجالس العلمية لكثير من المراكز العلمية والثقافية، والجامعات العربية والإسلامية والأوروبية والآسيوية والإفريقية، وهو مستشار للجنة الاستشارية لجامعة (ممباسا) الإسلامية، وعضو المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، وعضو اللجنة الاستشارية العليا لكلية الدراسات الإسلامية بمؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، ومستشار مركز إسهامات علماء المسلمين فى الحضارة بدولة قطر، وعضو مجلس أمناء كلية الخليج الطبية بعجمان، وعضو مجلس أخلاقيات الطب فى مدينة الشيخ خليفة الطبية فى أبوظبى.

وقد شارك بأوراق عمل فى مؤتمرات متخصِّصة، منها على سبيل المثال: الإنجاب والإجهاض، زراعة الأعضاء، بيع الأعضاء، الاستنساخ، التعاليم الإسلامية الأساسية حول أمور الطب والطبابة.


حوار الحضارات والأديان

وفى مجال حوار الحضارات والثقافات والأديان والإيديولوجيات، شارك الدكتور عز الدين إبراهيم فى العديد من الفاعليات فى هذا المجال حيث شارك فى حوار الثقافات التى نظَّمتها منظمة الإسيسكو داخل الوطن العربى وفى أوروبا وعددها ثمانية ... ودرَّس موضوع حوار الحضارات والثقافات فى المعهد الدبلوماسى التابع لوزارة الخارجية بدولة الإمارات العربية المتحدة، لأكثر من فوج ... وهو عضو مؤسِّس لحركة الإسلام والغرب التى أُنشئت فى منتصف السبعينيات، وشارك على مدى الأربعين سنة الماضية فى معظم الحوارات الإسلامية ــ المسيحية. وناب عن منظمة المؤتمر الإسلامي فى مقابلة البابا بولس السادس سنة 1976م، وهو عضو مؤسس ومشارك فى الفريق العربى للحوار الإسلامي ــ المسيحى ومقره بيروت. وناب عن العالم الإسلامى فى لقاءات السلام العالمية التى نظمتها الكنيسة الكاثوليكية فى روما (2002م) وميلانو (2004م) وليون بفرنسا (2005م)، وأصدر رسالة مطبوعة بعنوان: بعد أربعين سنة من الحوار الإسلامى المسيحى، ما الجدوى؟ وما المستقبل؟

وقد تشاركنا فى عدد من هذه الحوارات، وخصوصا حوارات القمة الإسلامية المسيحية الأولى فى روما (2001م)، والثانية فى برشلونة (2004م)، وكنا على وشك عقد قمة ثالثة فى روما، لولا إساءة البابا فى محاضرته الشهيرة بألمانيا، إلى نبى الإسلام، ورسالة الإسلام، فجمَّد الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين العلاقة مع الفاتيكان، وقبل د. عز الدين وبعض المسلمين ما اعتبروه شبه اعتذار من البابا.

وأختير عزالدين لعدَّة سنوات مديرا لصندوق التضامن الإسلامى، الذى يتبع منظمة المؤتمر الإسلامي، ويموِّل بعض المشروعات الإسلامية لبعض الأقليَّات والجماعات الإسلامية التى تفتقر إلى المعونة، وكان بجهوده وعلاقاته الخاصَّة، يجمع للصندوق من بعض الجهات الرسمية والشعبية، ما يقيمه على ساقه. وقد سألنى يوما عن جواز وقف النقود، لتُستخدم فى مثل هذا الصندوق، ودوام نشاطه، بدل أن تُجمع الأموال وتُنفق فى الحال.

وقلتُ له: إن الفقهاء مختلفون فى ذلك، وأنا من أنصار التوسُّع فى إجازة الوقف، لما وراءه من خير للأمة ولأجيالها المستقبلة. وقد رأينا الغربيين يجيزون وقف النقود لسنوات معيَّنة، ثم تعود لأصحابها، ويمكن أن تتجدَّد.


اللقاء الأخير

آخر مرة التقينا فيها كانت فى قطر فى اجتماع اللجنة الاستشارية العليا لكلية الدراسات الإسلامية، وقد كان حريصا على ألا يتغيب عن اجتماعاتها، وكان له إسهام مبارك فى مسيرتها من أول يوم، وقد توادعنا على أن نلتقى، فلم يقدر لنا أن نلتقى. وكان من حسن وفائه أنه قال لى: إن ورائى واجبا أريد أن أؤديه قبل أن أسافر. قلتُ: خيرا ما هو؟ قال: أن أزور الأمير الوالد الشيخ خليفة بن حمد، فقد عملنا معه سنين طويلة، ومن حقه أن نزوره ونطمئن عليه. قلت له: جزاك الله عن وفائك ومودتك خيرا. وكنتُ أود أن أصحبه لزيارة الشيخ خليفة لما له على من حق. ولكن كان يحتاج أن أستأذن الشيخ قبل زيارته، ولم يكن متاحا.


مرضه ووفاته

وفى شهر رمضان اتصل بى الأخ الصديق محمد الشافعي صادق، وقال: هل بلغك خبر الدكتور عز الدين إبراهيم؟ قلت: خير، لم يبلغنى عنه أى شىء؟ قال: عرفت أنه أصابه المرض الخبيث فى كبده، وقد سافر إلى أمريكا للعلاج، والدولة هناك معنية به.

قلت: أسأل الله الذى كشف الضر عن أيوب أن يكشف الضر عنه، هل تعلم له هاتفا كى نتصل به ونطمئن عليه وندعو له؟ قال: عندما أعرفه سأعطيك إياه. وقد اتصل بى بعد ذلك، وأعطانى هاتف ابنته الدكتورة هدى. وقد اتصلت به عدة مرات، فيرد على مجيب الجوال المسجل.

ثم عرفت أخيرا أن حالته تدهورت، وأنهم سينقلونه إلى (أبوظبى).

وأخيرا أخبرنى صديقه وأخوه الدكتور جمال الدين عطية من جدة صباح السبت (30/1/2010م)، أنه وافاه الأجل فى إحدى مستشفيات لندن فى طريقه إلى الإمارات، فلم نملك إلا أن نقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ، وله ما اعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.

من نعزى فى الفقيد الحبيب؟ أنعزى أنفسنا، أم نعزى أسرته التى فقدت أغلى ما لديها، عبد الرحمن ووالدته وشقيقتيه، أم نعزى الأمة الإسلامية فى رجلها المثقف، وعالمها المربى، وداعيتها الكبير؟

بل نعزى الجميع، وندعو الله تعالى لفقيدنا الحبيب بالمغفرة والرحمة، والفردوس الأعلى، وأن يجزيه عن دينه وأمته ودعوته خير ما يجزى الأئمة الربانيين، والعلماء الهادين المهتدين، وأن يحشره مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصديقيين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.

المصدر

موقع جريدة الشروق

للمزيد عن الدكتور عز الدين إبراهيم

مقالات وأبحاث بقلمه

مقالات متعلقة به

.

تابع مقالات متعلقة به

أخبار متعلقة به