الفرق بين المراجعتين لصفحة: «المتساقطون على طريق الدعوة»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
 
سطر ٩١٧: سطر ٩١٧:
'''بقاع صفرين في 1 من ذى الحجة 14.3 هـ'''
'''بقاع صفرين في 1 من ذى الحجة 14.3 هـ'''


[[تصنيف:مكتبة التاريخ]]
[[تصنيف:المكتبة العامة]]
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]

المراجعة الحالية بتاريخ ١١:٠٢، ١٨ مايو ٢٠١١

المتساقطون على طريق الدعوة - كيف .... ولماذا ؟


بقلم / الداعية فتحي يكن


المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

ظاهرة التساقط على طريق الدعوة ظاهرة عامة وخطيرة ومتكررة وهي لذلك تستدعى التأمل والدراسة بعمق وتجرد وموضوعية لمعرفة أسبابها ومسبباتها ولاستكشاف العوامل الحقيقة التي تقف وراءها ...

والذي يتتبع تاريخ الحركة الإسلامية في كل قطر وعلى امتدا العالم الإسلامي يمر بأسماء كثيرة بلغ بعضها شأواً في مجال العمل والمسئولية ثم لم يلبث أن اختفي من حياة الدعوة بشكل أو بآخر ..

فمن هؤلاء من ترك الدعوة ولم يترك الإسلام .. ومنهم من ترك الدعوة و الإسلام معاً .. ومنهم من ترك الجماعة وأنشأ جماعة أخرى أو التحق بجماعة أخرى وهكذا تتكاثر وتتعدد ظواهر التساقط .

وفي أكثر الحالات والأحيان تصبح ظاهرة الانسلاخ والتساقط هذه عاملا مساعداً على انتشار وشيوع ظاهرة مرضية أخرى هي ظاهرة التعددية في العمل الإسلامي

وبالتالي سقوط العاملين والدعاة في حمأة الصراع على الساحة الإسلامية ؟؟

من هنا كانت هذه المحاولة المتواضعة خطوة على طريق دراسة ظاهرة التساقط دراسة متأنية تهدف إلى ملامسة الأسباب واستكشاف البواعث وهي كائناً ما كانت تؤكد وجود خلل ما عيب ما وخطأ ما من هذه الجهة أو تلك علها تساعد على المعالجة وعلى حفظ الإنتاج من التلف والتآكل ..

ثم لا بد من الإشارة هنا إلى أن ظاهرة التساقط هذه تتناول أشد ما تتناول وتصيب أكثر ما تصيب الصف الأول والذين عملوا على تأسيس الحركة والسابقين وإن كانت لا تستثنى اللاحقين كذلك .

وظاهرة التساقط هذه تسببت وتتسبب بكثير من الإساءات البالغة على الساحة الإسلامية يكفينا أن نعرض هنا لبعضها ..

-لقد تسببت هذه الظاهرة في أكثر الأحيان بهدر طاقات الحركة وأوقاتها في المعالجات التي قل أن تجدي نفعاً ..

- وتسببت في إشاعة الفتن والتفسخ والتسمم في أجواء الحركة مما يعتبر عاملاً مساعداً على خسارة قريبي العهد بالإسلام وبالدعوة ..

- وتسببت في كشف خبايا وأسرار ما كان لها أن تنكشف لولا أجواء الفتنة الضاغطة ووقوع الألسن والآذان في قبضة الشيطان ..

-وتسببت بأضعاف الحركة وبإغراء العدو بها والاستعجال في ضربها وتصفيتها .

- وتسببت في بعد الناس عنها وزعزعة الثقة بها والتطاول عليها مما يعطل دورها وقد يوقف بالكلية سيرها .

وإذا كان البعض يعتبر سقوط بعض المتساقطين ظاهرة عافية لابد منها لتجديد الخلايا والتخلص مما يعيق الحركة ويثقل كاهلها ويعتبر كلا عليها فإن النتيجة حتى ضمن هذا التفسير والمعنى لم تكن خبراً محضاً وإنما كانت أشبه بسيل أخذ معه الغث والثمين وصدق الله العظيم حيث يقول {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } الأنفال 25].

فكم من أشخاص لم ينتهوا من حياة الدعوة إلا بعد أن أحدثوا فيها شروخات عميقة وواسعة وكم من آخرين خرجوا منها وأصبحوا حرباً عليها بل وتأمروا عليها مع أعدائها ..

وأذكر أن ركناً من أركان جماعة خرج من صفوفها على أثر خلاف معها فأرغى وأزيد وهدد وتوعد وأقسم ليهدمن بناءها حجراً على حجر ..

إن القلة ممن إذا تساقطوا تساقطوا بهدوء ومن غير أن يثيروا وراءهم غباراً في حين أن معظم أولئك يصطنعون كل المبررات لتغطية مسئوليهم هم عن الانشقاق والسقوط ..

وفي كثير من الأحيان تختفي الحقائق وتهتز الرؤى وتختلط الأحكام فلا يعرف الظالم من المظلوم ولا يتميز البريء من المذنب والمحسن من المسيء بانتظار محكمة من لا يظلم مثقال ذرة { وهو خير الحاكمين } الأعراف 78 ].

إنها محاولة كما قلت تعرض لهذه الظاهرة بشكل عام تتناول بعض أسبابها وخلفياتها فقد يكون السبب في الأشخاص وقد يكون في الحركات وقد يكون في الظروف ودراسة كل قضية في ضوء الجوانب الثلاثة مجتمعة بعيداً عن الغلو والتطرف وبشيء من التجرد يمكن أن يعيد كثيراً من الأمور إلى نصابها وبالتالي يساعد على المعالجة ابتداءً وانتهاءً وبالله المستعان وعليه قصد السبيل .

المؤلف

الفصل الأول - ظاهرة التساقط في عهد النبوة

لم تبرز ظاهرة التساقط في عهد النبوة على نحو من بروزها في العصر الحديث ..

وجلً الذي كان يحدث في تلك المرحلة سقوط أشخاص في أخطاء كان بعضها جسيماً بدون شك .. وطبيعة العمل في تلك المرحلة والتي جعلت الناس أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما : خيار الإسلام أو خيار الجاهلية كانت تحول ولو خوفاً من عقوبة الارتداد دون الخروج على الصف الإسلامي ..

أما اليوم فلاعتبارات عديدة أهمها أن الحركة الإسلامية لا تعتبر هي جماعة المسلمين بمعنى أن الخارج عليها خارج من الإسلام مرتد عن الدين وإنما اعتبرت جماعة من المسلمين ليس إلا . وبالتالي فإن المسلمين خارج إطارها التنظيمي لا يعتبرون مرتدين.

وإنهم ماداموا كذلك فإن الخروج عليها لا يعتبر ارتداداً عن الدين وإنما هو ارتداد عن الجماعة والتنظيم ..

هذا التصور لطبيعة موقع الحركة الإسلامية اليوم من المسلمين يساعد إلى حد كبير على التفلت من صفوفها حيث لا يشعر المتفلت أنه بعمله هذا قد ارتكب معصية وإنما وقد يجد البعض تشجيعاً ودعماً بل إكباراً وإجلالً في البعض الأوساط الإسلامية لما فعل .

وسبب آخر كان يساعد على سلامة الصف في الماضي وهو موقف الإنكار من المسلمين لمن يحاول أن يشق صفوفهم أو يبدو منه ما يعتبر مخالفة لقيادتهم أو سياستهم أو جماعتهم ..


المتخلفون عن غزوة تبوك

فيوم تخلف النفر الثلاثة عن غزوة (تبوك) قاطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاطعهم المسلمون جميعاً وفيما يلي الحادثة كما رواها ابن هشام في سيرته :

[ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين وتخلف أولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ((لا تكلمن أحداً من هؤلاء الثلاثة وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعذرهم الله ولا رسوله واعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة .

(حديث كعب عن تخلفه ):

قال ابن إسحاق : فذكر الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن أباه عبد الله وكان قائد أبيه حين أصيب بصره قال :

سمعت أبى كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وحديث صاحبيه قال : ما تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير أنى كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحد تخلف عنها وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وحين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها قال : كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ووالله ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً واستقبل غزو عدو كثير فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يعنى بذلك الديوان يقول : ر يجمعهم ديوان مكتوب .

قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفي له ذلك ما لم ينزل فيه وحي من الله وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحبت الظلال فالناس إليها صعر فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه وجعلت أغدو لا تجهز معهم فأرجع ولم أتقضى حاجة فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر الناس بالجد .

فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً فقلت : أتجهز بعده بيوم أو بيومين ثم ألحق بهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفرط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم أفعل وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت يحزنني أنى لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بنى سلمة : يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت ! والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيراً فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرنى بثي فجعلت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً وأستعين على ذلك كل ذي رأى من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عنى الباطل وعرفت أنى لا أنجو منه إلا بالصدق فأجمعت أن أصدقه وصبح رسول الله صلى الله عله وسلم المدينة وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يحلفون له ويعتذرون وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت فسلّمت عليه فتسم تبسم المغضب ثم قال لي : تعاله فجئت أمشى حتى جلست بين يديه فقال لي : ما خلفك ؟ ألم تكن ابتعت ظهرك ؟ قال : قلت : إني يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأحرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كذبا لترضين عنى وليوشكن الله أن يسخطك علىّ ولئن حدثتك حديثاً صدقاً تجد على فيه إني لأرجو عقباي من الله فيه ، ولا والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدقت فيه فقم حتى يقضى الله فيك . فقمت وثار معي الرجال من بنى سمة فاتبعوني فقالوا لي : واله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسم بما اعتذر به إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسو الله صلى الله عليه وسلم لك فوالله مازالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكذب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا أحد غيري ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل مقالتك وقيل لهما مثل ما قيل لك قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمرى من بنى عمرو بن عوف وهلال بن أبى أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة فصمت حين ذكروهما لي ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي والأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علىّ أم لا ؟ ثم أصلى قريباً منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلى وإذا التفت نحوه أعرض عنى حتى إذا طال ذلك علىّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة وهو ابن عمى وأحب الناس إلى فسلمت علي فو الله ما رد علىّ السلام فقلت : يا أبا قتادة أنشدك بالله ل تعلم أنى أحب الله ورسول ؟ فسكت فعدت فناشدت فسكت عنى فعدت فناشدت فسكت عنى فعدت فناشدت فقال : الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي ووثبت فتسورت الحائط ثم غدوت إلى السوق فبينا أنا أمشى بالسوق إذا نبطي يسأل عنى من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك ؟ قال : فجعل الناس يشيرون له إلى حتى جاءني فدفع إلى كتاباً من ملك غسان وكتب كتاباً في سرقه من حرير فإذا فيه : ((أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك)) قال قلت حين قرأتها : وهذا من البلاء أيضاً قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك قال : فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله يأتيني فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال قلت : أطلقها أم ماذا ؟ قال : لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي بمثل ذك فقلت لامرأتي : ألحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضى الله في هذا الأمر ما هو قاض قال : وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له أفتكره أن أخدمه ؟ قال : لا ولكن لا يقربنك قالت : والله يا رسول الله ما به من حركة إلى والله مازال يبكى منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ولقد تخوفت على بصره قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال : فقلت : والله لا أستأذنه فيها ما أدرى ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال : فلبثنا بعد ذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا ثم صليت الصبح صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت على نفسي وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع فكنت أكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أوفي على ظهر سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر قال : فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج .

(توبة الله عليهم ) :

قال : وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلىّ الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب نحو صاحبي مبشرون وركض رجل إلى فرساً وسعى ساع من أسلم حتى أوفي على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه بشارة والله ما أملك يومئذ غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله فحياني وهنأني ووالله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره قال : فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحة .

قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرق من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال : قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : بل من عند الله قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر قال : وكنا نعرف ذلك منه قال : فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي إلى الله عز وجل أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال قلت : أنى ممسك سهمي الذي بخيبر وقلت : يا رسول الله إن الله قد نجاني بالصدق وإن من توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقاً ما حييت والله ما أعلم أحداً من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلانى الله والله ما تعمدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقى .

وأنزل الله تعالى :{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا } ... إلى قوله { وكونوا مع الصادقين } التوبة 117-119 ].

قال كعب : فوالله ما أنعم الله على ّ نعمة قط بعد أن هداني للإسلام كانت أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله تبارك وتعالى قال في الذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد قال : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاءَ بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } التوبة 95-96 ]. قال : وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فعذرهم فيه واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ما قضى فبذلك قال الله تعالى { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }. وليس الذي ذكر الله من تخلفنا لتخلفنا عن الغزوة ولكن لتخليفه إيانا وإرجائه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه ].


حاطب ابن أبى بلتعة

ويوم وقع (حاطب بن أبى بلتعة ) فيما يعتبر اليوم كشفاً لأسرار الدولة وخيانة عظمى برز موقف الإنكار الشديد من القاعدة وموقف الإعذار الشديد من القيادة .. وفيما يلي الحادثة كما جاءت في سيرة ابن هشام .

[ قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قالوا : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبى بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة وزعم لي غيره أنها سارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث علىّ بن أبى طالب والزبير بن العوام رضى الله عنهما فقال : أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبى بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم . فخرجا حتى أدركاها بالخليقة بنى أبى أحمد فاستنزلاها فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئاً فقال لها على بن أبى طالب إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك فلما رأت الجد منه قالت : أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً فقال : يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فقال : يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت ولكنى كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله تعالى في حاطب { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } .. إلى قوله { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين مه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } الممتحنة 1-4] إلى آخر القصة ].


مسجد الضرار

ويوم أراد بعض المنافقين من المسلمين أن يشقوا الصف الإسلامي ويقيموا مسجداً ظاهره الرحمة وباطنه فيه المكر والضرار بالمسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هدمه .. وفيما يلي الحادث كما يرويه ابن هشام في سيرته :

[ قال ابن إسحاق : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه فقال : إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه .

(أمر الرسول اثنين بهدمه ) :

فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بنى سالم بن عوف ومعن بن عدى أو أخاه عاصم بن عدى أخا بنى العجلان فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا سريين حتى أتيا بنى سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لمعن : أنظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشغل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل { والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقا بين المؤمنين } التوبة 1.7 ] ... إلى آخر القصة .


حديث الإفك

ولما رمى أهل الإفك من المنافقين والمرجفين رسول الله صلى الله عليه وسلم في رضه بغية إضعاف مكانته وتخذيل المسلمين من حوله تأثر من الصحابة من تأثر وصمد من صمد يذب ويدافع عن رض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء حكم الله في ذلك وهو أحكم الحاكمين وفيما يلي الحادثة كما رواها ابن هشام : [ قال ابن إسحاق : حدثنا الزهري عن علقمة بن وقاص وعن سعيد بن جبير وعن عروة بن الزبير وعن عبيد الله بن بد الله بن عتبة قال : كل قد حدثني بعض هذا الحديث وبعض القوم كان أوى له من بعض وقد جمعت لك الذي حدثني القوم .

( شأن الرسول مع نسائه في سفره ):

قال محمد بن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة وعبد الله بن أبى بكر ن مرة بنت عبد الرحمن عن عائشة عن نفسها حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعاً يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه وكل كان عنها ثقة فكلهم حدث عنها ما سمع قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فلما كانت غزوة بنى المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

(سقوط عقد عائشة وتخلفها للبحث عنه ):

قالت : وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يهجهن اللحم فيثقلن وكنت إذا رحل لي بعيري جلست في هودجي ثم يأتي القوم الذين يرحلون لي ويحملونني فيأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به قالت : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجه قافلاً حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً فبات به بعض الليل ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس وخرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي في جزع ظفار فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدرى فلما رجعت إلى الرحل ذبت ألتمسه في عنقي فلم أجده وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير وقد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج وهم يظنون أنى فيه كما كنت أصنع فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب قد انطلق الناس .

(مرور ابن المعطل بها واحتماله إياها على بعيره ):

قالت : فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إلى قالت : فوالله إني لمضطجعة إذ مربى صفوان بن المطل السلمي وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علىّ وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم !وأنا متلففة في ثيابي قال : ما خلفك يرحمك الله ؟ قالت : فما كلمته ثم قرب البعير فقال : اركبي واستأخر عنى قالت : فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي فقال أهل الإفك ما قالوا فارتج العسكر ووالله ما أعلم بشيء من ذلك .

( إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عنها ):

ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ولا يبلغني من ذلك شئ وقد انتهي الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى لا يذكرون لي منه قليلاً ولا كثيراً إلا أنى قد أنكرت من رسل الله صلى الله ليه وسلم بعض لطفه بي كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي فلم يفعل ذلك بي في شكاى تلك فأنكرت ذلك منه كان إذا دخل علىّ وعندي أمي تمرضني قال ابن هشام : وهي أم رومان واسمها زينب بنت عبد دهمان أحد بنى فراس بن غنم بن مالك بن كنانة قال : كيف تيكم لا يزيد على ذلك .

(انتقالها إلى بيت أبيها وعلمها بما قيل فيها ):

قال ابن إسحاق : قالت : حتى وجدت في نفسي فقلت : يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه لي : لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني ؟ قال لا عليك . قالت : فانتقلت إلى أمي ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة وكنا قوماًً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم نعافها ونكرهها إنما كنا نذهب في فسح المدنية وإنما كانت النساء يخرجن كل ليلة في حوائجهن فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح بنت أبى رهم بن المطلب بن عبد مناف وكانت أمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم خالة أبى بكر الصديق رضى الله عنه قالت : فوالله إنها لتمشى معي إذ عثرت في مرطها فقالت : تعس مسطح ! ومسطح لقب واسمه عوف قالت : قلت : بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً قالت أو ما بلغك الخبر يا بنت أبى بكر ؟ قالت : قلت : وما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك قالت : قلت : أوقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله لقد كان قالت : فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت فوالله مازلت أبكى حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدى قالت : وقلت لأمي : يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً ! قالت : أي بنية خفضي عليك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها .

(خطبة الرسول في الناس يذكر إيذاء قوم له في عرضه ):

قالت : وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق والله ما علمت منهم إلا خيراً ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً وما يدخل بيتاً من بيتي إلا وهو معي


(أثر ابن أبى و حمنة في إشاعة هذا الحديث ) :

قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبى بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة ببنت جحش وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن من نسائه امرأة تناصينى في المنزلة عنده غيرها فأما زينب فعصمها الله تعالى بدينها فلم تقل إلا خيراً وأما حمنة بنت جحش فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادنى لأختها فشقيت بذلك .

( ما كان بين المسلمين بعد خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ):

فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن حضير : يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفكهم إن يكنوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك فالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم قالت فقام سعد بن عبادة كان قبل ذلك يرى رجلاً صالحاً فقال : كذبت لعمر الله لا نضرب أعناقهم أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ولو كانوا من قومك ما قلت هذا فقال أسيد : كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين قالت : وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على .

( استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى وأسامة ):

(قالت ) فدعا علىّ بن أبى طالب رضوان الله عليه وأسامة بن زيد فاستشارهما فأما أسامة فأثنى علىّ خيراً وقاله ثم قال : يا رسول الله أهلك ولا نعلم منهم إلا خيراً وهذا الكذب والباطل وأما علىّ فانه قال : يا رسول الله إن النساء لكثير وإنك لقادر على أن تستخلف وسل الجارية فإنها ستصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها قالت فقام إليها علىّ بن أبى طالب فضربها ضرباً شديداً ويقول : اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فتقول والله ما أعلم إلا خيراً وما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أنى كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتى الشاة فتأكله .

( نزول القرآن ببراءة عائشة ):

قالت : ثم دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي وعندي امرأة الأنصار وأنا أبكى وهي تبكى معي فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا عائشة إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس فاتقى الله وإن كنت قد قارفت سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عبادة قالت : فوالله ما هو إلا أن قال لي ذلك فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئاً وانتظرت أبوي أن يجيبا عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما قالت : وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأناً من أن ينزل الله في قرآناً يقرأ به في المساجد ويصلى به ولكنى قد كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه شيئاً يكذب به الله عنى لما يعلم من براءتي أو يخبر خبراً فأما قرآن ينزل في فوالله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك قالت : فلما لم أر أبوي يتكلمان قالت : قلت لهما : ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : فقلا : والله ما ندرى بماذا نجيبه قالت : ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر في تلك الأيام قالت : فلم أن استعجما علىّ استعبرت فبكيت ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً . والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أنى منه بريئة لأقولن ما لم يكن ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقونني قالت : ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت : ولكن سأقول كما قال أبو يوسف : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } قالت : فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه فسجى بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزعت ولا باليت قد عرفت أنى بريئة وأن الله عز وجل غير ظالمي وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس قالت : ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات فجعل يمسح العرق ن جبينه ويقول : أبشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك قالت : قلت : بحمد الله ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم .

( أبو أيوب وذكره طهر عائشة لزوجه ) : قال ابن إسحاق : وحدثني أبى إسحاق بن يسار عن بعض رجال بنى النجار : أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى وذلك الكذب أكنت يا أم أيوب فاعله ؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله قال : فعائشة والله خير منك .

( ما نزل من القرآن في ذلك ) :

قالت : فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال من أهل الإفك فقال تعالى { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } النور -11] وذلك حسان بن ثابت وأصحابه الذين قالوا ما قالوا .

قال ابن هشام : يقال : وذلك عبد الله بن أبى وأصحابه .

قال ابن هشام : والذي تولى كبره عبد الله بن أبى وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في هذا الحديث قبل هذا ثم قال تعالى : { لولا إذا سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } النور 12] أي فقالوا كما قال أبو أيوب وصاحبته ثم قال { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } النور 15 ] .

( هم أبى بكر بعدم الإنفاق على مسطح ثم عدوله ):

فلما نزل هذا في عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته : والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً ولا أنفعه بنفع أبداً بعد الذي قال لعائشة وأدخل علينا قالت : فأنزل الله في ذلك { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر لكم والله غفور رحيم } النور 22]


حادث أبى لبابة

وعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبا لبابة بن عبد المنذر) إلى بنى قريظة استجابة لطلبهم بعد أن خانوا العهد ونقضوا الميثاق وتأمروا على المسلمين بدا منه ما يعتبر خيانة لرسول الله ولكن الرجل ما أن وقع منه ما وقع حتى ثاب إلى رشده وسخط على نفسه وندم على فعلته ولم يكن منه إلا أن ربط نفسه في عمود المسجد تكفيراً لذنبه وفيما يلي الحادثة كما يرويها ابن هشام في سيرته :

[ قال ابن هشام : وتلاحق به الناس فأتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحد العصر إلا ببنى قريظة فشغلهم ما لم يكن منه بد في حربهم وأبوا أن يصلوا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تأتوا بنى قريظة فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك في كتابه ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني بهذا الحديث أي إسحاق بن يسار عن بن كعب بن مالك الأنصاري .

( حصارهم ومقالة كعب بن أسد بهم ):

(قال ) : وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب .

وقد كان حيى بن أخطب دخل مع بنى قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم قالوا : وما هي ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل وأنه للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره قال : فإذا أبيتم علىّ هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلاً حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلاً نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء قالوا : نقتل هؤلاء المساكين ! فما خير العيش بعدهم ؟ قال : فان أبيتم علىّ هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة قالوا نفسد سبتنا علينا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ ! قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمة ليلة واحدة من الدهر حازماً .

( أبو لبابة وتوبته ) :

(قال) : ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بنى عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس لنستشيره في أمرنا فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا له : يا أبا لبابة ! أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح قال أبو لبابة : فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال : لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علىّ مما صنعت وعاهد الله : أن لا أطأ بنى قريظة أبداً ولا أرى في بلد خنت الله ورسول فيه أبداً .

( ما نزل في خيانة أبى لبابة ):

قال ابن هشام : وأنزل الله تعالى في أبى لبابة فيما قال سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبى خالد عن عبد الله بن أبى قتادة : ({ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } الأنفال 27] .

( موقف الرسول من أبى لبابة وتوبة الله عليه ) :

قال ابن إسحاق : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه .

قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط :أن توبة أبى لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو في بيت أم سلمة (فقالت أم سلمة) : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك قالت / فقلت : مم تضحك يا رسول الله ؟ أضحك الله سنك قال : تيب على أبى لبابة قالت : قلت : أفلا أبشره يا رسول الله ؟ قال : بلى إن شئت قال : فقامت لي باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهم الحجاب فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك قالت : فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه .

( ما نزل في التوبة على أبى لبابة ) :

قال ابن هشام : أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته في كل وقت صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط بالجذع فيما حدثني بعض أهل العلم والآية التي زلت في توبته قول الله عز وجل { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم } التوبة : 1.2 ].

وهناك أمثلة عبر التاريخ كثيرة منها : حادثة ثعلبة وقضية المرتدين وحادثة جبلة بن الأيهم والذين تمردوا على الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه وغيرهم ...

فيما تقدم يتبين لنا أن حوادث التساقط في صدر الإسلام كانت محدودة وكان أكثرها ينتهي بعودة أصحابها عن خطئهم ومبادرتهم إلى التوبة والإنابة من غير إصرار على موقف أو استمرار فيه ... وكان يتجلى من خلالها صفاء السريرة وسلامة القصد وأصالة المعدن والحرص على وحدة الصف والتزام الجماعة .. كما كان يظهر كذلك مظهر آخر لموقف الخارجين على الجماعة وفي هذا ما فيه من عقوبة رادة ومانعة من انتشار الظاهرة ... ولو أن المتساقطين اليوم واجهوا نفس المصير الذي واجهة أمثالهم بالأمس لخجلوا من أنفسهم ولأدركوا أنهم اجترحوا ذنباً ليس له من كفارة إلا التزام أمر الجماعة والسمع والطاعة لها في المكره والمنشط ولكنها المجتمعات والبيئات التي تبارك الانحراف وتعين عليه وتصفق للمنشق وتملى له وتأخذ بيد المسيء ولا تأخذ على يده ...

ويتلازم م هذه الظاهرة ويساعد عليها مرض عات وداء خبيث عضال ذلك هو ضياع الوفاء وكفران العشير ولا تنكر للجميل والامتلاء بالغل والحقد على المسلمين .. فاته لا يكفي المنشقين أنهم انشقوا وتسببوا بشق الصف وإنما قد يتحولون حرباً على إخوانهم يرمونهم بألسنة حداد ولا يرعون فيه إلا ولا ذمة وهذا من غير شك ليس من أخلاق وخصال الإسلام في شئ .. بل هذا ما ندد به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه ...

فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((يطلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين : مشاحن وقاتل نفس )).

وفي حديث للبيهقى كذلك عن العلاء بن الحرث أن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هذه ليلة النصف من شعبان إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحق كما هم ...)) .

وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :((ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً :رجل أم قوماً وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها ساخط عليها و إخوان متصارمان )).

والساحة الإسلامية المعاصرة شاهدت أنماطاً من الناس إذا اختلفت معهم في الرأي تحولوا وحوشاً كاسرة يمتلئون بالحقد وحب الانتقام ..

فكم من إنسان دفعه حقده إلى أن يتعاون مع أعداء الإسلام لينتقم من جماعته ويشفي غليله ..

إن كل هذا وذاك إنما يكشف زيف الإنسان أحياناً وزيف انتمائه إلى الإسلام .. كما يطرح من جديد القضية الأساسية التي يجب أن تكون محل الاهتمام الأكبر ومناط التفكير الأول على الساحة الإسلامية تلكم هي قضية التربية ..

إن أكثر المشكلات والأزمات التي تعانى منها الساحة الإسلامية ويعانى منها العمل الإسلامي مصدرها سوء التربية وعدم الالتزام بشرع الله والوقوف عند حدوده ...

فسوء الأمانة وحب الزعامة وقلة الوفاء وكفران العشير والنفعة والوصولية والغيبة والنميمة والبغضاء والحسد وإيقاظ الفتنة وإذكاؤها وإنكار الفضل والإعجاب بالنفس والتطرف والغلو إلى ما لا نهاية له من أمراض وعلل تنهش البنية الإسلامية وتشوهها وتسممها إنما هي وليدة انحراف في التربية الإسلامية وتشوه في الشخصية .

وهذا ما يؤكد ضرورة اهتمام الحركات الإسلامية بالجانب التربوي التعقيدي والروحي والمسلكي والحيلولة دون طغيان الجوانب الأخرى التنظيمية والسياسية والحركية على هذا الجانب لأنه بمثابة صمام الأمان في الشخصية وجهاز التحكم فيها .

لقد منيت ساحة العمل الإسلامي بشخصيات ذاع صيتها وعمت شهرتها الآفاق ثم تبين من خلال تعاملها اليومي إنها أبعد ما يكون عن الإسلام أخلاقاً وسلوكاً .. كما تبين أن هذه الشخصيات لم تأخذ حظها من التربية في حياة الجماعة وإنما نمت وترعرعت في ساحات الأعمال السياسية والاجتماعية أمام الأضواء ووراء الكواليس وفي الصالونات والمجتمعات المخملية فمن أين تأتيها التربية في هذه الحالة وكيف يمكن أن تنشأ عندها المناعة من الانحراف ؟

روى ابن حبان والبيهقى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((كرم المؤمن دينه ومروءته عقله وحسبه خلقه )) .

وروى الطبرانى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلح له إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه )).

وصدق الشاعر حيث يقول :

أحب مكارم الأخلاق جهدي

وأكره أن أعيب وأن أعابا

وأصفح عن سباب الناس حلما

وشر الناس من يهوى السبايا

ومن هاب الرجال تهيبوه

ومن حقر الرجال فلن يهابا

الفصل الثاني - أسباب التساقط

(1)أسباب تتعلق بالحركة .

(2) أسباب تتعلق بالفرد .

(3) أسباب تتعلق بالظروف .


إن من الإنصاف القول بأن تساقط الأفراد على طريق الدعوة إنما يعود إلى أسباب متعددة وليس إلى سبب واحد ...

فقد يكون السبب من الحركة نفسها .

وقد يكون السبب من الفرد نفسه ..

وقد يكون السبب من الظروف الضاغطة ..

والآن لنأخذ كل جانب من هذه الجوانب على حدة لنحدد مسئولية وأثر كل منها في حدوث ظاهرة التساقط تلك ...


أولاً : أسباب تتعلق بالحركة

كثيرة هي الأسباب التي تساعد على تساقط الأفراد من الدعوة والتي تقع مسئوليتها على عاتق الحركة نفسها والتنظيم نفسه من ذلك :

1- ضعف الجانب التربوي : فالجانب التربوي قد يأخذ من الحركة حيزاً محدوداً في حين تطغى الجوانب الأخرى الإدارية والتنظيمية والسياسية على كل شئ .

ويبرز هذا بشكل واضح وجلى ودائم في حياة القادة والإداريين والذين يتولون الشؤون السياسية والاجتماعية مما يجعلهم مقطوعي الصلة بالتربية والشؤون التربوية نظرياً وعملياً وبالتالي يجل علاقاتهم واجتماعاتهم وممارساتهم جافة خالية من طلاوة الربانية وعذوبة الروحانية ..

والأجواء الجامدة الجافة تبعث دائماً على التوتر والحساسية بعكس الأجواء الروحية التربوية الرطبة بذكر الله ورقابته .

والمسئول السياسي أو الإداري أو الاجتماعي وغيره وهو على ثغرة مسئوليته قد يظن أنه بلغ سنام الأمر وحقق ذروة النصر من غير أن يحس بالحواء النفسي والروحي والانكفاء التربوي ومن غير أن يشعر بالتآكل الإيماني في حياته .. وهو إن لم يفطن لذلك ويبادر لاستنقاذ نفسه فإنه ساقط لا محالة

فالإيمان كما هو معروف يزيد وينقص بدليل قوله تعالى : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } الفتح :4] وقوله تعالى { وزدناهم هدى } الكهف : 13] وقوله { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } مريم :76] وقوله { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } محمد “17] وقوله { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } المدثر : 31 ].

ولقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدى بن عدى (إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكمله لم يستكمل الإيمان وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم )).

فتعهد الأفراد بالتربية جنوداً وقياديين يجب أن يكون شغل الحركة الشاغل كائناً ما كان الظروف من حولها .. بل إن الظروف السيئة التي تمر بالدعوة أحياناً تفرض المزيد من الاهتمام التربوي وليس العكس لأن احتياج الناس إلى الرعاية والاهتمام والتذكير إنما يكون أكبر في الظروف الاستثنائية ..

إن منطقاً يجب رفضه بالكلية وهو منطق اعتبار بعض الأشخاص فوق التربية أو بدون حاجة إلى التربية أو تجاوزوا مرحلة التربية .. وهذا المنطق هو الذي يورد هؤلاء الناس موارد التهلكة ويتسبب في إسقاطهم أو سقوطهم ..

إن هذا المنطق يتناقض بالكلية مع الإسلام وفلسفة التربوية التي تعتبر الإنسان في امتحان دائم مع دعوته وفي اختبار مستمر مع دينه .. والتي تفرض عليه دوام العناية بنفسه والرقابة لربه والتعهد لسلوكه والتنمية لإيمانه فقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن والفتن تعرض على القلوب كالحصير عوداً عوداً والمؤمن يخشى دائماً سوء المنقلب ويسأل الله تعالى حسن الختام ..

فالحركة التي تضعف قدرتها التربوية عن متابعة أفرادها كل أفرادها بما يحتاجون من تعهد وتربية ستصاب بنيتها ويصاب جسمها بقدر ضعفها كما ستكون مناعتها بنسبة ما يتوفر لديها من اهتمامات وممارسات تربوية ..

فالمناهج التربوية يجب أن تكون دائماً موضع دراسة وتعديل بما يتوافق مع الاحتياجات والظروف التي تمر بها الحركة ...

والنشاط التربوي يجب أن لا يتوقف أو ينقطع بسبب ظرف طارئ أو لحساب جانب من جوانب العمل ...

وأفراد الحركة جميعاً وبدون استثناء يجب أن تطالبهم المتابعة التربوية بشكل أو آخر ..

وارتباط الفرد بالحركة يجب أن يكون قائماً على أساس من ارتباطه بالله وبالإسلام وإن الحركة والتنظيم إنما هما وسيلة لا غاية .. وهي وسيلة لتحقيق أمر الله وكسب رضاه وليست وسيلة لتحقيق مصالح أفرادها والعاملين فيها ...

أذكر أن لقاء جمعني بأحد الأعضاء البارزين في حركة إسلامية .. وكان متهماً بحب الأضواء والبروز الشخصي ومن خلال المناقشة اكتشفت شرخاً مخيفاً في تربيته وبصمة سيئة في تكوينه حين ابتدرني قائلاً (أنا لا أنكر أن عندي تطلعات شخصية وهل يمنع الإسلام من ذلك ) ثم أردف قائلاً (كل فرد في الدعوة نده تطلعات أو ليست عندك تطلعات ؟) .

قلت له مستغرباً (أنا لا أفهم الإسلام هكذا .. وإنما أفهمه استخلاصاً لنا من كل تطلعات الشخصية وإنكاراً لذواتنا أمام أهداف الإسلام العلية .. ) ثم أكملت قائلاً (إن كان لي من تطلع فأن أرى راية الإسلام منتصرة خفاقة ) قال : ( وما المانع من أن نحقق الأمرين معاً تطلعاتنا وتطلعات الإسلام ؟) قلت : (إن ذلك يذكرني بالأعرابي الذي جاء محمداً صلى الله عليه وسلم يعرض عليه أمره ويقول : ((إنني أنزل المنزل أريد وجه الله وأن يرى موقعي )) فنزل فيه قول الله تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل ملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } الكهف 11. ].

روى عن طاووس قال : قال رجل : يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني ؟ فلم يرد ليه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } .

وجاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال : أنبئني عما أسألك عنه .. أرأيت رجلاً يصلى يبتغى وجه الله ويحب أن يحمد ويصوم يبتغى وجه الله ويحب أن يحمد ويتصدق يبتغى وجه الله ويحب ن يحمد ويحج يبتغى وجه لله ويحب ن يحمد ؟ فقل عبدة : ليس له شئ .. إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن كن له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه ..

وروى الإمام أحمد عن شداد بن أوس رضى الله عنه أنه بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبكني سمعت رسول لله يقول : أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية )) قلت : يا رسول الله : أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : (( نعم أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكن يراءون بأعمالهم والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه )).

وعن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعرض أعمال بنى آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله ك القوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيراً فيقول : إن عمله كان لغير وجهي ولا اقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي )).

2 - عدم وضع الفرد في المكان المناسب : وهذه المشكلة تؤدى باستمرار إلى فشل العمل وخسارة العاملين ..

والحركة الواعية الناضجة هي الحركة التي تعرف قدرات أفرادها وميولهم ومواهبهم وتعرف نقاط القوة والغضب عندهم ومن خلال ذلك تختار لكل فرد ما يناسبه ويتناسب مع قدراته وميوله وطبيعته ومستواه ..

فإذا كانت الحركة على غير معرفة دقيقة بمعطيات أفرادها فلن تنجح في اختيار الموقع المناسبة لهم .

وإن كانت الحركة لا تعرف ما يحتاجه كل موقع من مواقع العمل فإنها لن تتمكن من ملئه بشكل سليم وحسن ..

وإن تحكمت في عملية الاختيار هذه غير الاعتبارات الموضوعية اختل التوازن في عموم المعادلة .

فمثلاً .. حين تتخذ حركة ما قراراً بخوض معركة انتخابية قبل أن تهيئ لها أكفاءها والمؤهلين لتمثيل أفكارها فيها فإنها ستضطر حتماً إلى تقدم كفاءات ليست في المستوى وستكون خاسرة بدون أدنى شك ..

وحين تضطر حركة ما تحت ضغط الاتساع الأفقي لرقعة عملها إلى تقليد عناصر مؤهلة مسئوليات القيادة فإنها تكون بذلك قد سلكت طريقاً غير سوى يمكن أن يضر بالقاعدة وبمن انتدب لقيادتها معاً ..

وحين لا يخضع العمل لقواعد وأصول مدروسة ولا يقوم وفق مخططات ومناهج موضوعية وحين لا يعرف ما ينبغي عمله اليوم وما يجب تأجيله إلى الغد وحين لا يفرق بين ما هو مهم وبين ما هو أهم ولا ترتب الأعمال وفق الأولويات .. عندئذ يحدث الخلل وتضطر الحركة إلى ملء الشواغر والفراغات بأسماء وليس بأكفاء فيوسد الأمر لغير أهله وإذا وسد الأمر في الحركة لغير أهله فانتظر ساعتها ..

إن على الحركة أن تصنف طاقات عناصرها بحسب اختصاصاتهم ونجاحاتهم ...

ففريق يفرز للشؤون التربوية ..

وفريق يفرز للشؤون السياسية ..

وفريق يفرز للشؤون المالية والاقتصادية ..

وفريق للشؤون الرياضية ..

وهكذا في كافة الشؤون الأخرى ..

ثم إن عليها أن تحدد خطواتها وفق القدرات التي تجمعت عندها في كل جانب .. فإن هي فعلت غير ذلك سيفلت الزمام من يدها وستفقد القدرة على التحكم في سيرها واختيار الشخص المناسب للجانب المناسب في عملها وعندئذ سيكون حالها كحال مركبة تعطل مقودها فهي تسير إلى المجهول

أعرف إنساناً اختير لعضوية (مجمع ) وهو لما يصبح أهلاً لهذا المكان بعد .. وندما انكشف واقعة واستبان خطأ اختياره وتكررت إساءاته وبات لزاماً على قيادته معالجة أمره واستبداله بغيره لم يكن منه إلا أن قدم استقالته وترك العمل إلى غير رجعة .

وأعرف آخر اختير لمنصب إداري عام بالرغم مما يشتكى منه من غلظة وقسوة واستعلاء ما جعله موضع نقد من الناس كما جعل المؤسسة التي يديرها مرتعاً للمشاكل والأزمات .. وعما اضطرت المؤسسة إلى الاستغناء عن خدماته انقلب عدواً لها وحرباً عليها مستخدماً منابر المساجد للتشهير بها والنيل منها .. وإمعاناً منه في التحدي والنكاية عمد إلى إنشاء مؤسسة أخرى شبيهة بها سامحة الله وعفا عنه ...

وأعرف آخر اختير لمسئولية تربوية قبل أن تكتمل تربيته وتستقيم أخلاقه .. والذي رشحه لذلك قدرته الخطابية والفكرية ليس إلا .. وعندما تسبب بأخطاء ووقع بانحرافات يصعب وصفها ولا يصح ذكرها وقعت المأساة التي ذهبت به وبمن كنوا معه وسقطوا من حياة الدعوة بالكلية .

في حد الأقطار خاضت الحركة الإسلامية الانتخابات النيابية وفاز فيمن فاز شيخ معمم ما كان له أن يفوز لو لا دعم الحركة له وخوضه المعركة باسمها .. وعندما أصبح هذا الشيخ في البرلمان أعجبه لمكان وطاب له الحكم والسلطان فقلب للحركة ظهر المجن ووقف منها مواقف لؤم متناهية ما أدركت الحركة أنها أخطأت الاختيار وكان الأولى أن تتريث حتى يتهيأ لها الثقاة الأخيار ..

وفي قطر آخر تعجلت حركة إسلامية الخطى ووسعت خطواتها أكثر من اللازم ودفعت ببعض عناصرها إلى منابر الوعظ والتوجيه وإرشاد الناس قبل الأوان مستعينة على ذلك بمجموعة من (العمائم واللحى) ولقد قصمت بذلك ظهورهم وظنوا أنهم بارتدائهم زي العلماء قد أصبحوا كذلك والمجتمع من حولهم ظنهم ذلك كذلك فأنزل منازل العلماء فأخذهم العجب بأنفسهم والخيلاء وتساقطوا الواحد تلو الآخر وتسببوا لدعوتهم بالبلاء .

إن عملية اختيار المكان المناسب للفرد عملية يجب أن تخضع لدراسة دقيقة وعميقة بعيداً عن التشنج والعاطفية والاستعجال ...

لابد وأن تحدد الحركة أولاً طبيعة المرحلة التي تمر بها وما تحتاجه هذه المرحلة من قدرات وطاقات .

وينبغي أن تتوفر الطاقات للحركة قبل المباشرة بالمرحلة ودخولها لأنها إن هي بدأت بالتنفيذ قبل اكتمال العدة فإنما حتماً ستضطر إلى الاستعانة بأية طاقة صالحة كانت أم غير صالحة مكتملة كانت أم غير مكتملة ومن هنا يبدأ الخلل ويتعاظم مما يتهدد العاملين والعمل بأفدح العواقب ..

3- عدم توظيف كافة الأفراد في العمل : وهذه الظاهرة من أخطر الظواهر على الحركات حيث يتراكم العمل بيد فئة محدودة في حين تبقى الفئة الأكبر من غير عمل .. ومع الأيام وتقلب القلوب والعقول وشعور الفرد بعدم الإنتاج بسبب ضعف ارتباطه العضوي بالحركة وتجاه الجواذب والمشاغل والمغريات المختلفة تنكفئ في أعماقه البواعث والدوافع الرسالية والجهادية إلى أن يختفي عن المسرح ويسقط في لجة المجتمع ومتاهاته أو تشده يد إلى هذا الطريق أو ذاك ..

إن نجاح الحركة في توظيف طاقات أعضائها هو بداية النجاح واطراده .. والحركة الإسلامية قد تكون الأغنى بما تمتلك من طاقات لكنها في الحقيقة غير موظفة كلها والموظف منها موظف جزئياً أو بشكل شئ ..

فالحركة التي تمتلك طاقات متعددة متنوعة يجب أن تضع من البرامج والمشاريع ما يتناسب ويتكافأ مع كل توجه وتخصص ...

والحركة يجب أن تكتشف ميول أعضائها وتوجههم من خلال ميولهم بما يصب في المصالح الإسلامية التي تحددها وترسمها ..

وكل فر في الحركة يجب أن يشعر أنه على مسئولية وموقع وأنه عضو منتج ومتفاعل .. كائناً ما كانت مهنته أو مستواه .. والتوظيف الصحيح للطاقات هو التوظيف الذي لا يفرط بأية طاقة صغيرة كانت أم كبيرة كاللبنات أو الحجارة وشكلاً .. فإذا بالبناء قد اكتمل من لبنات متفاوتة الأشكال والأحجام ولكنها متراصة منسجمة ومتناسقة .

في بعض الأقطار يكون توظيف الحركة لطاقات أفرداها في سنوات التلمذة ومرحلة الشباب حتى إذا استدار الزمان وانتقل الفرد من طور التلمذة إلى طور العمل ومن مرحلة الشباب إلى مرحلة الرجولة فغدا رب عائلة أو صاحب مركز اجتماعي مرموق تبدأ العلاقة بالفتور بينه وبين الحركة بسبب من انشغالاته هو وبسبب من عدم توفير الحركة لمجالات العمل التي تتناسب ووضعه المستجد . وقد ينتهي الأمر إلى القطيعة التي يسببها عقم الحركة وإخفاقها في توظيف إمكاناته التوظيف السليم وإذا به خارج إطارها لا تربطه بها إلا ذكريات تاريخية قديمة ..

4- عدم متابعة الأفراد : ومن العوامل التي تساعد على تساقط الأفراد من الحركة عدم متابعتها لهم واهتمامها بالظروف الخاصة والعامة ذات الأثر عليهم .

فالأفراد كسائر الناس تمر بهم ظروف صعبة ويتعرضون لأزمات ومشكلات مختلفة منها العاطفي والنفسي ومنها العائلي والمالي إلى غير ذلك فإن وجد من يعينهم ويساعدهم على مواجهتها ومعالجتها وحلها تجاوزوها بسلام وامتلأت نفوسهم ثقة بحركتهم وتابعوا المسيرة بمزيد من الحماس والعطاء .. وإن حصل عكس ذلك فإنهم سيصابون حتماً بخيبة أمل ثم بإحباطات نفسية تقذفهم خارج إطار الحركة بل خارج إطار الإسلام ..

وحتى تتمكن الحركة من متابعة أفرادها يتعين عليها تحقيق التوازن بين الاتساع الأفقي والتجميع العددي وبين تهيئة الأجهزة القيادية والبدائل بحيث تبقى الإمكانات القيادية في كل الظروف قادرة على استيعاب القاعدة وتأمين احتياجاتها المتنامية على كل صعيد .

إن العلاقة التي يفرضها الإسلام على الجسم الإسلامي والبيئة الإسلامية والمجموعة المسلمة تصنع من انصهارها الفكري والروحي والحسي أشبه بالجسد الواحد الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )).

وعضو الحركة يجب أن يشعر بهذا الانصهار وهذه الوحدة مع حركته وإخوانه ... هذا الشعور لا ينشأ من فراغ وإنما ينشا من خلال الممارسة التي تؤكد دائماً وباستمرار على حقيقة هذا الانصهار والتلاحم ينشأ من خلال التكافل والتضامن النفسي والحسي المعنوي والمادي ومن خلال السهر الدائب والمتابعة المستمرة ..

أذكر أنه في أعقاب هزيمة عام 1948 م قامت ردات فعل مختلفة في المنطقة العربية كان منها ولادة حركة إسلامية في إحدى العواصم استقطبت في عام واحد عشرات الآلاف من الشباب المسلم .. وبسبب من عدم توفر إمكانات المتابعة والتعهد لدى هذه الحركة الوليدة ترضت للتفسخ وتعرض أفرادها للتساقط بشكل جماعي ومأسوي ..

والمتابعة يمكن أن تقوم في الحركة من جانبين اثنين ك جانب التنظيم نفسه من خلال الأجهزة وجانب الأخوة من خلال الأفراد وتعاون الجانبين وتآزرهما من شأنه أن يسد الحاجة ويكمل العجز ويراب أي صدع .. وهذا في الحقيقة سمت المجتمع الإسلامي الذي يقوم على تعاون الدولة والأفراد في المجالات الرعائية والإنمائية والتكافلية وما المبادرة الرعائية الجماعية التي قام بها الأنصار تجاه إخوانهم المهاجرين إلا دليلاً عملياً على ذلك ..

إن وحشة الغربة وقسوة الظروف وضراوة التحدي التي يواجهها الداعية لا يخفف منها ويزيلها إلا صدق التوجه إلى الله والاحتساب له والشعور بالحدب الأخوي من حوله والحركة الإسلامية حين تتمكن من إشاعة روح الأخوة وتوثيق العرى على الحب في الله فإنها حتماً ستوفر على نفسها وعلى أفرادها كثيراً من المشكلات والأزمات

5- عدم حسم الأمور بسرعة : وهذا السبب لا يقتصر ضرورة على جانب معين وإنما يتسبب بتعقيد الأمور والمشكلات والوصول بها إلى طريق المسدود ..

إن من الطبيعي أن كل حركة تعترضها قضايا عادية تحتاج إلى حسم كما تعترضها مشكلات تحتاج إلى حل ومن الطبيعي كذلك أن كل حركة تعتمد صيغاً معينة وأساليب محددة لمعالجة قضاياها ومشكلاتها تلك .. وبقدر ما تكون صيغ المعالجة وأساليبها سهلة وواضحة وسريعة بقدر ما يكون سير الحركة منتظماً وأجواؤها سليمة وبقدر تباطؤ الحركة ن تابعة قضاياها وحسم مشكلاتها بقدر ما يتسبب ذلك بتراكم القضايا وتعطل الأعمال وتزايد المشكلات ..

فالمشكلة قد تبدأ صغيرة محدودة وتركها من شأنه أن يضخمها من جانب ويتسبب بتوالد مشكلات أخرى عنها ..

أحياناً قد لا تحتج مشكلة لأكثر من كلمة أو قرار أو زيادة أو لقاء أو اعتذار أو معاتبة أو نصيحة أو مواساة أو توضيح أو مكاشفة أو غير ذلك من التكاليف السهلة اليسيرة أما حين تترك وتؤجل فقد تأخذ من الحركة كثيراً من الطاقات والأوقات وقد تنجح الجهود بعد ذلك وقد لا تنجح ..

أذكر أن أحد الأخوة كان على مسئولية تنظيمية في أحد مراكز العمل ولقد بدر منه ما يعتبر مخالفة شرعية وكان من السهل معالجة القضية لتوها لولا أن القيادة تأخرت في ذلك .. فماذا حصل ؟

الذي حصل .. أن المخالفة الشرعية تكررت من الأخ إلى أن أفتضح الأمر وأصبح على كل شفة ولسان وتطورت القضية أكثر حتى شغلت عدداً من المسئولين والأجهزة فشكلت اللجان وأجريت التحقيقات وصدرت العقوبات وتبعتها ردود الفل داخلياً وفي الخارج جرى توظيفها توظيفاً سيئاً .

والحقيقة أن السرعة في حسم الأمور ومعالجة المشكلات من شأنه أن يغنى الحركات ن كثير من المتاعب ويجنبها العديد من الخضات الداخلية التي لا تنتهي في أغلب الأحيان إلا بخسارة البعض وتساقطهم والتسبب بتساط غيرهم ..

ولدى البحث عن أسباب عدم الحسم في الحركات يمكن الوصول إلى النتائج التالية :

(أ)قد يكون ذلك عائداً لطبيعة العناصر القيادية التي لا تملك عادة القدرة على الحسم .

(ب) وقد يكون ذلك عائداً للروتين التنظيمي الذي يفترض مرور كل قضية عبر الأجهزة التنظيمية وبالتالي لا يعطى المسئول صلاحيات الحسم .

(ج) ويكون ذلك عائداً لاتساع القاعدة وضمور القيادة وعدم تمكنها من تغطية احتياجات العمل المختلفة والتي لا يمكن أن تنهض بها في كثير من الأحيان إلا أجهزة متفرغة ذات قدرات وخبرات عالية ..

والنتيجة في النهاية تكون واحدة وهي مزيد من المشكلات والأزمات والخسائر على كل صعيد ..

6- الصراعات الداخلية : وتعتبر من أخطر ما يصيب الحركات من أمراض ومن العوامل التي تفت في عضدها والمعاول التي تتسبب في هدمها ..

فهي من جهة تسمم الأجواء وتكهربها ومن جهة أخرى تفسد علائق الأفراد ومن جهة ثالثة تورث الجدل والمراء وتوف العمل والبناء .. ثم هي فوق هذا وذاك توهن الدعوة وتغرى بها من حولها .

وأسباب نشأة الصراعات الداخلية كثيرة ...

-فقد تكون بسبب ضعف القيادة وعدم تمكنها من إمساك الصف وضبط الأمور ..

- وقد تكون بسبب أياد خفية وقوى خارجية تعمد إلى إثارة الفتنة ..

- وقد تكون بسبب اختلاف الطباع والتوجهات التي أفرزها تناقض النشأة التربوية ولبيئية ..

- وقد تكون بسبب التنافس على المواقع وبخاصة الحركية والسياسية ..

- وقد تكون بسبب عدم التزام سياسة الحركة وقواعدها وأصولها وعدم الانصياع لقرارات أجهزتها وبروز (الشخصانية ) والتصرفات الفردية ..

- وقد تكون بسبب القعود عن العمل والإنتاج الذي من شأنه أن يشغل العاملين بدعوتهم ويفرغ جهودهم في العمل لها و الجهاد في سبيلها ..

من خلال هذا وغيره تنشأ الصراعات في الحركات وتتفجر الخلافات حتى لتكاد تأتى عليها إن لم تبادر إلى إنقاذ الموقف قبل فوات الأوان ..

وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ظواهر كثيرة من هذا المرض العضال .

وفي تاريخ الدعوة ومنذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ظواهر هذا المرض العضال تبدو وتختفي تقوى وتضعف الظروف المحيطة وقدرة القيادة على الحسم إلى غير ذلك من معطيات ...

- من هذه الظواهر : الصراع الذي تفجر في المدينة بين (الأوس والخزرج) من المسلمين والذي تولى كبره اليهود وعلى رأسهم اليهودي الماكر (شماس بن قس ) ...

ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره أن رجلاً من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم (بعاث) وتلك الحروب ففعل .. فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتشاوروا ونادوا بشعارهم (أي شعار الجاهلية -ياللأوس ويا للخزرج ) وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى( الحرة).

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدرك أنها فتنة يهودية فخرج لتوه دونما تأخر أو تأجيل حتى جاءهم في حيهم فقال ((يا معشر المسلمين .. الله الله .. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله تعالى للإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم به أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف بين قلوبكم )).

ولقد فعلت مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها في نفوس (الأوس والخزرج)) وأدركوا أنهم استدرجوا من قبل اليهود وأن الشيطان قد نزغ بينهم ولم يكن منهم إلا أن تباكوا وتعانقوا وعادوا أشد مما كانوا لحمة وتواثقاً وتعاضداً وحباً فيما بينهم ..

ولقد نزل في هذا الحادث قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك بين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم }

بالصف والمحافظة عليه في كل المراحل والظروف ..

فهناك قيادة قد تتمكن من الإمساك بزمام الأمور عندما يكون الأفراد في سن معينة وثقافة معينة وظرف معين فإذا تقدم السن ونمت الثقافة وتغير الظرف بان عجزها وانكشف ضعفها فإن أمكن تدارك الأمر وسد العجز القيادي في الحركة بشكل أو بآخر انتهت المشكلة وإن لم يمكن ذلك لسبب أو لآخر تعرضت الحركة لتفسخات وانقسامات قد تودي بها بالكلية .

وضعف القيادة قد يكون ناجماً ن عدة أسباب وعوامل ..

-فقد يكون الضعف في الإمكانات الفكرية عموماً بحيث لا تتمكن القيادة من تغطية هذا الجانب وإشباع الجوعة الفكرية عند الأفراد .. أو قد تكون قادرة في جانب فكرى وعاجزة في الجوانب الأخرى ..

- وقد يكون الضعف في الإمكانات التنظيمية بحيث تكون العناصر القيادية غير متمتعة بالمواهب والقدرات التنظيمية الشخصية التي تمكنها من ضبط التنظيم ووضع القواعد والأصول التنظيمية اللازمة له وبذلك يختل العمل وتختطط الصلاحيات وتنمو المشاكل والإشكالات مما يساعد على سقوط الأفراد من حياة الدعوة ..


وأود أن أنقل هنا فصلاً من كتابي (مشكلات الدعوة والداعية ) يتعلق بالقيادة ومسئولياتها والصفات اللازمة لها :

صفات لازمة للقيادة :

أولاً - معرفة الدعوة :

ولمعرفة القائد لدعوته تماماً يلزم أن يكون ملماً إلماماً جيداً بشؤونها الفكرية والتوجيهية والتنظيمية مواكباً لنشاطها مطلعاً على أعمالها وتصرفاتها .

وضمان نجاح القيادة إنما يكون في تلاحمها مع القاعدة وعدم انفصالها عن الموكب المتحرك أو انعزالها في صومعة بل إن المسئولية القيادية لتتطلب من صاحبها الاتصال الدائم بالجنود والتعرف على آرائهم ومشكلاتهم وفي ذلك ما فيه من اطلاع ودراسة تجريبية مفيدة للجانبين .

ثانيا: - معرفة النفس :

ومن واجب القائد أن يرف مواطن القوة والضعف في نفسه والقائد الذي لا يعرف قدراته وإمكاناته لا يمكن أن يكون قائداً ناجحاً بل ربما جر على دعوته الكوراث والأضرار .. ولذلك يجب :

أ-أن يتعرف إلى نقاط الضعف لديه ويعمل على تقويتها . ب- أن يكتشف مواطن القوة عنده ويسعى لدفعها وتنميتها .

ج- أن يحرص على تنمية الثقافة العامة والاطلاع على مختلف الموضوعات والآراء والأفكار السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخ ...

د- أن يعنى بدراسة شخصيات القادة المسلمين وغيرهم والتفرع على طرق وأساليب قياداتهم وأسلوب وعوامل نجاحهم أو فشلهم.

ثالثاً - الرعاية الساهرة :

وقيام القائد بملاحظة الأفراد وتعرفه عليهم جيداً وإطلاعه على أحوالهم وأوضاعهم الخاصة والعامة ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم والعمل على حل مشكلاتهم كل هذا مما يساعده على ضبطهم وكسب ثقتهم وبالتالي على حسن الاستفادة من طاقاتهم .

رابعاً - القدوة الحسنة :

والأفراد ينظرون دائماً ويتطلعون إلى قادتهم كأمثلة حسنة يقتدون بها ويحذرون حذوها .

فسلوك القائد ونشاطه وحيويته وأخلاقه وأقواله وأعماله ذات أثر فعلى على الجماعة بأكملها فالرسول صلى الله عليه وسلم كان نعم القدوة لصحابته { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } الأحزاب :21] وصحابته رضوان الله عليهم كانوا أئمة صالحين وهداة مهتدين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ((صحابتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم )).

خامسا: النظر الثاقب :

وقدرة القائد على إجراء تقدير سريع وسليم لأي موقف والوصول إلى قرار حاسم في شتى الأحوال والظروف من شأنه أن يكسبه ثقة الأفراد وتقديرهم .

أما التردد والغموض والحيرة والارتباك فمن شأنه أن يخلق الفوضى ويضعف الثقة ويفقد الانضباط وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول ((إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات )).

سادساً - الإرادة القوية :

وقوة الإرادة ركن من أركان الشخصية القيادية بها تذلل الصعاب وبها تحل المشكلات وبها تجتاز العقبات وقادة الإسلام أحوج ما يكونون في هذا العصر إلى إرادات فولاذية تهزأ بالمحن والخطوب

سابعاً - الجاذبية الفطرية :

وهي صفة طبيعية إن وجدت في القائد استطاع أن يجذب القلوب بدون تكلف .. وهذا العنصر من أقوى العناصر التي تتكون منها الشخصية القيادية .

ثامناً - التفاؤل :

ويعتبر التفاؤل من الأمور الجوهرية اللازمة للشخصية القيادية ولذا يجدر بالقائد أن يكون دائماً في تفاؤل متطلعاً أبدأ بأمل وانشراح دون أن يصرفه ذلك عن التحسب قد لما تخبئه الأيام من مفاجآت .

إن اليأس عامل خطير من عوامل الانهيار والدمار في حياة الأفراد والجماعات ولا يجوز أن يسمى (اليأس حكمة ( والأمل ) خفة وتهوراً .. كما لا يجوز أن يخضع الأمل لجوامع العاطفة وطفراتها وإنما ينبغي أن يتلازم مع العقل والتقدير .

والقيادة - طليعة الركب ورأس القافلة وتأثيرها على الصف بليغ وعميق فإن هي تخاذلت ويئست عرضت الصف للتخاذل واليأس وإن هي صمدت أمام الملمات وثبتت في وجه التحديات أشاعت في نفوس الأفراد والجنود روح الأمل والإقدام .

من الأمثلة على ضعف القيادة أن مسئولاً عن إحدى الجماعات الإسلامية كان يضيق بجنوده ذرعاً إن شعر أنهم تجاوزوه في العلم أو المعرفة أو الأهلية التنظيمية والتربوية أو غير ذلك ولقد انتهي به الأمر إلى مفاصلة هؤلاء والتخلص منهم والاكتفاء من العمل الإسلامي بتربية الصغار ليس إلا .

وأذكر أن أحد الأخوة كان بارعاً ناجحاً في تجميع الشباب وتربيتهم وتأهيلهم للعمل الإسلامي ولقد تمكن من إيجاد نواة للعمل في أكثر من مكان ولكنه لم يكن قادراً على متابعة وتعهد النواة في المراحل المتقدمة التي تحتاج فيها إلى الضبط والتنظيم .. وهذا ما يفرض الاختيار الحسن الملائم لكل مرحلة ومهمة وعمل فكل ميسر لما خلق له .


ثانياً : أسباب تتعلق بالفرد

إن المسئولية الحركة عن تساقط الأفراد على الطريق الدعوة لا يعفي هؤلاء لأفراد كذلك من المسئولية .

وإذا كان من الإنصاف القول بان مرد ظاهرة التساقط إلى أسباب تتعلق بالحركة فإن من الإنصاف القول كذلك بان كثيراً من أسباب هذه الظاهرة مرده إلى الأفراد أنفسهم .

فلنستعرض بعضاً من الأسباب الخاصة بالأفراد .....


(1) طبيعة غير إنضباطية :

فهنالك أشخاص قد يجتذبون إلى الحركة في ظرف من الظروف وبسبب من الأسباب ثم يتبين انهم غير قادرين على التكيف وفق سياسة الحركة وعلى السمع والطاعة لها ... - إن من هؤلاء من لا يطيق القيود التنظيمية فعندما يشعر بوطأتها يعمل على التلفت التخلص منها بشتى الوسائل والمبررات .- ومن هؤلاء من يرفض ( الذوبان) في البنية الجماعية ويحرص على أن يحافظ على شخصيته ... وعندما يشعر بما يعرض شخصيته للذوبان ورأيه لعدم القبول يولى الأدبار خلف ستار كثيف من المبررات والمعاذير .

اذكر أن رجلاً من هؤلاء ممن نشأوا على الفوضى وعدم التنظيم كافة نواحي حياتهم الخاصة والعامة وممن يعجزون عن التنظيم ولو أرادوا وحرصوا تسبب بشرخ في منطقة من مناطق العمل الإسلامي بعد انسلاخه عن الحركة وتزعمه لتيار إسلامي شعبي ودعوته إلى (التنظيم ) في العمل الإسلامي ....

كان هذا الرجل يخلط بين حقوق الأخوة الإسلامية وواجبات الجندية ومقتضيات التنظيم ..فتحت ذريعة الأخوة كان لا يرى مانعاً من التهاون في واجبات الجندية والخروج على المقتضيات التنظيم .

فالأخوة في نظره مبرر كاف يشفع كل التجاوزات التنظيمية ..فالذين لا يتقيدون بمواعيد .. والمقصرون والمخطئون والمذنبون والمسيئون معذورون ويحب أن لا يعاقبوا لأنهم اخوة في الله معذورون لأنهم اخوة في الله ...والذين يتجاوزون صلاحياتهم معذورون لأنهم اخوة في الله

هذا المنطق (اللاتنظيمى) مرفوض لأنه منطق غير شرعي يؤدى إلى اختلال القيم والموازين وتعطيل مبدأ الثواب والعقاب وشيوع الفوضى والمزاجية ..

ويكفي أن ننقل هنا دليلاً من كتاب الله تعالى وآخر من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيداً على رفض الإسلام لهذا المنطق ...

  • فمن كتاب الله تعالى { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } المجادلة : 22].
  • ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عائشة رضى الله عنها قالت : إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد (حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فكلمه أسامة فقال رسول الله (أتشفع في حد من حدود الله ) ثم قام فاختطب فقال : (أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) .

(2) الخوف على النفس والرزق :

أو الخوف من الموت والفقر .. وأثر هذا السبب بليغ وكبير في النفس البشرية حيث يؤدى إلى إحباطها وزع الوهن فيها ..

والشيطان يدخل من هذا الباب على المؤمنين والعاملين والدعاة يخوفهم .. بعدهم .. ويمنيهم { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} النساء 12.] { إنما ذلك الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } آل عمران : 157 ].

والذين يتساقطون على طريق الدعوة بهذا السبب كثيرون ولكن القليل الذين يعترفون بذلك ويقرون ..

والقرآن الكريم حفل بكثير من الآيات التي تشير تلميحاً وتصريحاً إلى هذا الداء العضال الذي يمكن أن يجرد المؤمنين من إيمانهم ويلقى بهم في هاوية من الضياع ليس لها قرار ...

فمن كتاب الله تعالى قوله :

{ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً بل كان الله بما تعملون خبيراً }

{ قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي ترون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } . (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } .

{ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا : لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } .

أذكر أن جماعة إسلامية لقيت إقبالاً شديداً من الناس في مطلع الخمسينات ... وبينما هي على هذا الحال تعرضت الحركة الإسلامية في مصر لمحنة شديدة استشهد فيها من استشهد واعتقل من اعتقل وفرمن فر ..

ولقد كان انعكاس المحنة على تلك الجماعة رهيباً حيث محص الصفوف تمحيصاً فسقط من حياة الدعوة ومحيطها أكثر الذين جاءوا إليها ولما يدركوا طبيعتها وطريقها والذين ظنوها دعوة بدون تكاليف وسلعة من غير ثمن وكأنهم لم يسمعوا :

- قول نبيهم عليه الصلاة والسلام : (( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا إن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة )).

- وقوله ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )).

- وقوله ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة )).

-وقوله ((أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي )).

-وقوله ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها فيلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدهم بالعطاء )).

أعرف أخاً كان قبل زواجه مقداماً معطاء ولقد نكب بزوجة سيئة وضعت الموت والفقر بين عينيه فكانت كلما رزق منها بغلام ذكرته بحقه (المادي) عليه وأن عليه مضاعفة السعي من أجله ولما تكاثرت ذريته وامرأته على هذه الشاكلة سقط في الامتحان وأصبح عبداً للدينار بعد أن أصبح عبداً للزوجة وهو حتى الآن لم يحس بالجريمة التي ارتكب وبالهاوية التي فيها سقط ولقد نسى ما كان يذكر بهإخوانه والناس ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش )) وقوله صلى الله عليه وسلم (( تعس عبد الزوجة )) ويروى ع الحس ب على أه قال (( والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار )).

وهنالك ظاهرة تكاد تكو مكررة وهي إ أكثر الذين تساقطوا على طريق الدعوة كانوا بخلاء بشكل أو بآخر وفي ذهني الآن أسماء مجموعة من هؤلاء كانت الشكوى منهم دائماً أنهم يبخلون على الدعوة حتى بقيمة الاشتراكات الشهرية الزهيدة .


(3) التطرف والغلو : والتطرف والغلو من الأسباب التي تؤدى إلى سقوط البعض على طريق الدعوة ..

فالذين يحملون أنفسهم فوق ما تطبق ولا يقبلون التوسط في شئ ويصرون على الغلو في كل شئ هؤلاء معرضون بشكل أو بآخر لانتكاسات نفسية وإيمانية ومثل هؤلاء كمثل من يريد أن يقطع صحراء طويلة بسرعة فيهلك دابته ولا يبلغ ضالته وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : ((إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى )) ويقول (( هلك المتنطعون )) قالها ثلاثاً .. ويقول ((إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين )).

إن النفس البشرية ضعيفة .. وهي قد تتحمل العزائم حيناً ولكن لا تقوى على تحملها في كل حين .. ثم إنها قد تتدرج في التحمل حتى تتمكن من ذلك بعد حين ولكنها قد لا تتمكن من ذلك دفعة واحدة ..

والناس متفاوتون في قدراتهم على التحمل ... فما يطيقه هذا قد لا يطيقه ذاك .. ولهذا وجدت في الشريعة العزائم والرخص وهي إحدى سمات التكامل والواقعية في المنهج الإسلامي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا فيقول ((إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة يكره أن تؤتى معصيته )) ويقول ((إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )).

أذكر أن أحد الأخوة أقسم ليحفظن القرآن عن ظهر قلب خلال فصل صيف .. ولقد اجتهد في ذلك ولكنه لم يتمكن فسخط على نفسه سخطاً شديداً وصمم لينتقمن منها أبشع انتقام .. فما كان منه إلا أن حرم نفسه من كل ما أحل الله له ... بدأ بصيام متتابع لا يفطر إلا لماماً وبقيام متتابع لا ينام سهواً .. ثم انقطع عن دراسته وباع كتبه وأثاث غرفته ولقد انتهي به الأمر بعد ذلك إلى (مستشفي للأمراض العصبية) وإلى عيبته عن الدعوة بالكلية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ...

وأذكر آخر كان لا يحب أهل الغنى من إخوانه وكان معدوماً بائساً .. ولم يغير حاله معهم ونظرته إليهم ما كانوا يحيطونه به من اهتمام ومساعدة وعون .. وكان لا يفتأ ينتقدهم كلما سمحت له الفرصة .. فإن اشترى أحدهم شقة عادية للسكن فهي في نظره قصر لا يجوز اقتناؤه والسكن فيه .. وإن اقتنى أحدهم سيارة فهو عنده إسراف وتبذير مستدلاً بقوله تعالى { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً } الإسراء 27 ] ثم لم يلبث هذا الأخ أن اغتنى بعد فقر ودخل في التجربة والامتحان فلم يكن منه إلا أن طلق الدعوة بالكلية وأقبل على الدنيا بدون روية .. فالزاهد إذن ليس الفقير الذي ليس في جيبه دينار ولا درهم إنما الزاهد الذي إن أقبلت عليه الدنيا لا يفرح ولا يطغى وإن أدبرت لا يحزن ولا يكفر ....

وأذكر أنه في الخمسينات انضم إلى الحركة شقيقان اثنان كان أحدهما متطرفاً لا يقبل التساهل أو التوسط في شئ وكان الآخر متساهلاً بعض الشيء وكانت المشاحنات بينهما لا تنتهي بسبب وبدون سبب .. وأذكر أنهما جاءا يوماً يتلاعنان يقول المتطرف إن أخي هذا منافق مرتد ويجب أن يقام عليه الحد قلت : وماذا فعل ؟ قال : لقد صلى الفجر اليوم بعد أن أشرقت الشمس قلت : وهل هذا الأمر يوجب ما أنتما عليه من تنازع وشجار وهل من الفقهاء من يقول بارتداد من فعل فعلة أخيك اتق الله يا رجل مولا تكن من المتنطعين واستهد بهدى النبي صلى الله عليه وسلم وتحر سنته وإلا كنت من الهالكين ...

ولكن هذا الإنسان أصر واستكبر ولم يقبل النصح ثم عتت عليه نفسه فظن أنه لوحده على هدى وكل من حوله على ضلال .. ثم لم تنقض عليه فترة من الزمان وهو على هذا الحال حتى حلق لحيته ووقع في غرام ابنة الجيران التي تمكنت بمكرها وكيدها من استلاب إيمانه وإخراجه من دينه وإسلامه لصبح بعد ذلك شيوعياً لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً نسأل الله تعالى العفو والعافية وحسن الختام .


(4) التساهل والترخص :

وهي من الأسباب التي تؤدى إلى التساقط على طريق الدعوة فكما أن التطرف والغلو من الأسباب كذلك التساهل والترخص ...

فالذين يتساهلون في امتثالهم أمر الله والتزامهم أحكام الشرع سيجدون أنفسهم مندفعين من تساهل صغير إلى تساهل كبير ومن تساهل في قضية إلى تساهل في كل قضية إلى أن يستحوذ الشيطان عليهم وعلى أعماهم وصدق من قال :

لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

إن شرع الله هو شرع الله يجب أن يؤخذ كما هو من غير زيادة ولا نقصان .. فالذي يزيد فيه كالذي ينقص منه وحدود الحلال والحرام يجب التزامها كما جاء به الشرع من غير تحايل عليها أو تأويل لها أو تساهل بها ...

فالذي ر يعرف من صفات الله إلا أنه غفور رحيم يجب أن يصحح معلوماته ويعرف أنه كذلك شديد العقاب ....

والذي تتعود نفسه الرخص في كل حين لن يتمكن من حملها على العزائم في أي حين .. وهنا تقع البليلة حيث يسقط الإنسان في أول امتحان عزيمة ...

أعرف أخاً لا تكاد تعثر في حياته على موقف من مواقف العزيمة .. فحياته كلها رخص في رخص وتساهل في تساهل ... - ففي حياته التجارية لا يرى حرجاً في التعامل بالربا أخذاً وعطاءً ما دامت بنسبة منخفضة لأن الربا في مفهومه ما كان (أضعافاً مضاعفه ..)

- وفي حياته البيتية والعائلية والاجتماعية لا يجد حرجاً في مصافحة النساء وجلسات الاختلاط وتقديم المكروهات كالسجاير إلى الضيوف ...

- وفي حياته الوظيفية لا يجد حرجاً في قبول الرشوة تحت اسم الهدية للاهتمام بقضية من القضايا أو معاملة من المعاملات ... وهكذا في كافة شؤونه لا يكاد يجد حرجاً في شئ ولو رده إلى الشرع وجد فيه انحرافاً وإثماً مبيناً .

شواهد من شرع الله :

  • عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً ))
  • عن أنس رضى الله عنه قال :(( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات يعنى المهلكات ))
  • وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إياكم ومحرقات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وإن رسول الله صلى الله عليه وسم ضرب هن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطق فيجئ بالعود والرجل يجئ بالعود حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها )).

من هنا كان على العاملين في الحقل الإسلامي السائرين على درب الإسلام أن يحذروا الترخص والتساهل لأنها منافذ الشيطان إلى النفوس وأن يأخذوا بالعزيمة ما استطاعوا من غير مغالاة أو تطرف وبدون إفراط أو تفريط متحرين في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا يحيد عنها إلا زائغ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول ((ومن رغب عن سنتى فليس منى ))..


(5)- الغرور وحب الظهور :

ومن أسباب وخلفيات التساقط على طريق الدعوة داء الغرور وحب الظهور وهو داء عضال يفتك بالدعاة فتكاً يحبط عملهم ويمحو ثوابهم ويشقى عاقبتهم ...

ولو أن هؤلاء نظروا فيمن سبقهم واعتبروا بمن قبلهم لما وقعوا فيما وقعوا فيه ولما سقطوا في الامتحان الذي سقط فيه إبليس وكان من الخاسرين ...

أذكر أن أحد (الأخوة) جاءني مستاءً في أعقاب اجتماع ضمه مع وفد رسمي حيث جاء ترتيب اسمه في الخبر الذي أعطى للصحافة متأخراً فقال معاتباً : أو لم يكن من المناسب أن يكون ترتيب أسماء على غير هذا النحو ؟ قلت : استعذ يا أخي من الشيطان الرجيم واتق الله واذكر قول رسولنا صلى الله عليه وسلم ((إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله أما أنى لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية )) .

وذكر لي بعض الناس ممن يحصون علينا الأنفاس ويتصيدون السقطات والعيوب أنه التقى سالف الذكر في الطريق وكان على (الرصيف ) الآخر فتقدم نحوه ليصافحه وانتظر أن يبادره الأخ بذلك ولكنه بقى مسمر فيها الغيبة عن نفسه فضلاً عن أن يقاتل التحية بأحسن منها ولقد هزني هزاً حين قال : الله رب العزة والجبروت يقول عن نفسه في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ون تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشى أتيته هرولة ) .

ثم تكلم بكلام أستحي أن أنقله إلى القراء لما فيه من تقريع جارح ودون أن يترك المجال لي بالرد والتعقيب وتطييب النفس ولو بكلمة ..

وأذكر أن واحداً ممن يدورون في رحى ذواتهم ولا يكادون يخرجون منها أو يتجاوزونها وصل متأخراً لحضور حفل خاص في أحد البيوت وكان صدر المكان قد امتلأ بالحضور فألقى السلام ودخل وبدل أن يجلس حيث ينتهي به المجلس وحيث المكان الفارغ اتجه نحو أحد الجالسين في المقدمة ممن يعتبرهم دونه في المكانة الاجتماعية حيث تخلى له عن مكانه بانكسار وحرقة .. وفي مناسبة أخرى دخل (المذكور) إلى القاعة ولما لم يجد المكان الذي يرضيه سلم على الحضور وبقى واقفاً هنيهة في صدر (الصالة) حتى شعر الجميع بمراده وأنه يريد من أحدهم أن ينهض ويتخلى له عن مكانه وهكذا كان وسقط هذا الإنسان في الامتحان ..

إن هذا وغيره ممن كبرت نفوسهم حتى أعمتهم عن معرفة حقيقة أنفسهم إن هؤلاء بحاجة إلى صفعة في الدنيا توقظهم قبل فوات الأوان صفعة تفهمهم أنهم خلقوا من (بصقة) ومن (منى يمنى) ومن ( نطفة أمشاج) فعلام يتكبرون وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بصق على كفه بصقة ووضع إصبعه عليه يقول الله تعالى : (( ابن آدم تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد؟ جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقى قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟)).

إن على العاملين في الحقل الإسلامي والدعاة إلى الله أن يدركوا أن دعوة الإسلام لا يصلح لها ويثبت عليها من كان مختالاً فخوراً أو متكبراً مغروراً فالداعية بحاجة لأن يجلس مع الناس ويتواضع للناس ويخدم الناس ويخفض جناحه للناس ويتقبل النصح والنقد من الناس هكذا كان الداعية الأول صلى الله عليه وسلم وهكذا كان الدعاة الأولون ممن تربوا في مدرسة النبوة رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين ...

-فعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل متكئاً يقول ((آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد )) .

وعن جرير رضى الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم من بين يديه فاستقبلته رعدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد )).

وكان رسو الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف ولا يستكبر أن يجلس إلى المسكين والضعيف أو يذهب معه حتى يفرغ من حاجته وتستوقفه امرأة في الطريق حتى يقضى لها حاجتها فيفعل ويشارك أهل بيته والمسلمين الأعمال كلها كأي واحد منهم ...

على هذا الخلق سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لم يتسلل العجب إلى نفوسهم ولم يداخل الغرور قلوبهم بل تواضعوا لله فرفعهم الله وأكرمهم في الدنيا والآخرة ...

_أخرج الدينورى عن محمد بن عمر المخزومى عن أبيه قال : نادى عمر بن الخطاب (الصلاة جامعة) فلما اجتمع الناس وكثروا صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال ((أيها الناس : لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بنى مخزوم فيقبضن لي القبضة من التمر والزبيب فأظل يومي وأي يوم )) .. ثم نزل فقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه : (( يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قمئت نفسك (يعنى عبتها وحقرتها) فقال : ((ويحك يا ابن عوف .. إني خلوت فحدثني نفسي فقالت : أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك .. فأردت أن أعرفها نفسها )).

- وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال ((رأيت عثمان رضى الله عنه نائماً في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين )).

- وأخرج ابن عساكر عن زاذان عن على رضى الله عنه ((أنه كان يمشى في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال وينشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين } .

وداء الغرور هذا قد يصيب في الدعوة العاملين في الحقل السياسي كما يصيب العاملين في الحقل التربوي . وإن بقيت (الإصابات ) في الحقل التربوي مخبوءة بعكس ما هو الحال على الساحة ذات الأضواء الكاشفة الفاضحة .

إن مناخ العمل السياسي في مجتمعاتنا مناخ فاسد التعامل فيه يقوم على الغش والخداع والتحايل والذي يبرع في هذا يعتبر ذكياً وناجحاً .. أما الذي يمارس السياسة بمصداقية وأخلاق ويلتزم بالموقف العقائدية الثابتة فيعد غبياً وفاشلاً ..

هذا المناخ الفاسد .. وهذا المنطق الأعوج له أثر حتمي على كل من يدخل حلبة العمل السياسي ولا يكون على جانب من الالتزام الإسلامي من التقوى إذ سرعان ما يألف الجو ويتأثر به تلقائياً بدون شعور ومن ثم يكون السقوط ..

أما الغرور الذي قد يصيب المربين والعابدين والزاهدين فإنه لا يقل خطورة من حيث النتيجة عما يصيب السياسيين .. يبدأ المرض لديهم من خلال العجب والزهو بأنفسهم ومن خلال شعورهم أنهم أفضل من غيرهم .. فهم الأتقى والأنقى والأعبد والأروع وينتهي إلى نتائج وخيمة وردود فعل سيئة قد تخرجهم من حظيرة الإيمان بالكلية ...

ألا فليسمع المغرورون المعجبون بأنفسهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ((ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرْ بنفسه )).

وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام ((لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب )).

قال مطرف : ((لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلى من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً )).

وقيل لعائشة رضى الله عنها (( متى يكون الرجل مسيئاً ؟ قالت : إذا ظن أنه محسن )).


(6) الغيرة من الآخرين :

ومن الأسباب التي تؤدى إلى السقوط على طريق الدعوة الغيرة القاتلة من الآخرين وبخاصة من المتقدمين والمرموقين والذين أوتوا نصيباً من الأهلية التي ينتقدها أولئك ...

فالجماعات تضم بين صفوفها أصنافاً شتى من الناس ومستويات شتى من المؤهلات الشخصية والنفسية والعصبية والفكرية فالذكاء مستويات .. والثقافة مستويات .. والقدرة على الكتابة والخطابة مستويات وهذا ما يجعل العاملين متفاوتين في العطاء والتأثير والتفاعل وفي كل شئ وهو أمر طبيعي وبديهي ...

ولكن بسبب الغيرة أحياناً يرفض (المحدودون ) أن يلتزموا حدودهم فيعمدون إلى (التسلق ) بشكل وبآخر فيجهدون أنفسهم بدون طائل .. وقد يصاب بعضهم بصدمات نفسية تلقى بهم خارج الصف أو تدفعهم إلى الانتقام لأنفسهم ممن يعتبرونهم سبباً في فشلهم .. وهنا قد تقع الطامة حيث يتجاوز المرء حدود كل شئ متفلتاً من كل المثل والقيم والأخلاق لينال من أخيه الذي أضحى عنده عدواً لدوداً لا ترتاح نفسه قبل أن ينتقم منه .

ولكان التاريخ يعيد نفسه وصورة الغيرة القاتلة تتكرر من لدن ابني آدم (قابيل وهابيل ) حيث قال الله تعالى فيهما ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال : لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين } .

والقرآن الكريم يشير إلى داء الغيرة والحسد في مواقع كثيرة من ذلك قوله تعالى { أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً }

والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الغيرة والحسد في أحاديث كثيرة منها :

- فعن أبى هريرة رضى الله نه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا وأشار إلى صدره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله )) .

- وعن ضمرة بن ثعلبة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا ))


(7) فتنة السلاح : وأخطر ظواهر التطرف على الإطلاق ما اتصل منها باستعمال القوة فإنها تصبح آنذاك جائحة لا يقتصر ضررها على الأفراد وإنما قد يأتي على الحركة كلها ..

والساحة الإسلامية تشهد منذ فترة ليست بالقصيرة ظاهرة سوء استعمال القوة بسبب عدم التقيد بالضوابط والسياسات الشرعية في حال استعمال القوة .

وأذكر أننا عانينا في لبنان الأمرين من جراء هذه الظاهرة التي كانت تبرز عقب كل حادث تتعرض فيه الحركة لشدة أو محنة أو إيذاء كما قد يكون بروزها أحياناً من قبيل محاكاة الآخرين وتقليدهم والتشبه بما يفعلون ...

وأرى لزاماً في هذه العجالة أن أقف عند أهم الإشكالات التي تتصل بمفهوم استعمال القوة والتي كانت موضع خلاف بين العاملين وسبب فتنة وبلاء وعامل استدراج الحركة إلى مقاتلها ..

أولاً : عدم وضوح الغاية من امتلاك القوة :

فقد يظن البعض أن الهدف من امتلاك الحركة لأسباب القوة هو إثبات وجودها على الساحة الإسلامية .

وظن البعض الآخر أن الهدف هو اجتذاب الشباب الذي يهوى القوى ويعشقها والذي قد لا تجتذبه الأفكار والقيم والمبادئ المجردة ...

والبعض الآخر يرى الهدف هو رد كل اعتداء يمكن أن يقع على الحركة سواء كان من حاكم أو حزب أو فرد .

وهذا المفهوم أو ذاك من شأنه أن يجر الحركة وأفرادها إلى مشاكل ومواجهات يومية لا تكاد تنتهي كما يمكن أن يخرج بها عن خط سيرها الأصيل وأن يعطل دورها الدعوى الرسالى الذي هو مبرر وجودها وبسبب قيامها ..

إن القوة الحسية في الحركة يجب أن تكون محكومة لا حاكمة ويوم تصبح القوة هي الحاكمة وهي الفاعلة يختل السير ويفقد التوازن وتضيع المعايير ...

فالقوة الحسية يجب أن تأخذ حجمها ومكانها المحددين في نطاق المخطط الإسلامي لتشكل مع بقية القوى حجم الحركة وقدرتها وفاعليتها والتي يجب أن توضع في خدمة التغيير الإسلامي ...

فالغاية من امتلاك القوة كل قوة تحقيق التغيير الإسلامي فإقامة أمر الله وتطبيق شرع الله واستئناف الحياة الإسلامية بدليل قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } البقرة 193] وقوله صلى الله عليه وسلم ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله )) .

فاستعمال القوة يجب دائماً في هذا الإطار ويخدم غير هذا الهدف من شأنه أن يعتق الحركة ويستدرجها إلى معارك جانبية قد تؤدى إلى هلكتها ...

لم يكن استعمال القوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ردات فعل عفوية بل كان فعلاً مدروساً محكوماً بقواعد وأصول واعتبارات ومعطيات متوافقاً مع طبيعة كل مرحلة وسياستها ونهجها ..

لم يكن كل عدوان على الجماعة المسلمة أو على أي فرد من أفرادها مبرراً لإعلان الحرب وشهر السلاح وبدء القتال ... في المرحلة المكية تعرضت الجماعة المسلمة وتعرض نبيها وقائدها لحملات من الاضطهاد والأذى والتنكيل .

ومع هذا لم تصدر الأوامر بالمواجهة أو القتال لأن المرحلة كانت مرحلة إعداد الطليعة المؤمنة إعداداً يؤهلها لمواجهة طويلة ودائمة وثابتة إعداداً يؤهلها لحسم كل مواجهة لمصلحة الإسلام ..

من هنا كان توجيه النبوة في هذه المرحلة توجيهاً يتوافق وطبيعتها وأغراضها بالرغم من الظروف الدقيقة الضاغطة وما نزول قوله تعالى في تلك الفترة الذات { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } إلا أمراً إلهياً مبرماً بالتزام طبيعة المرحلة وسياستها ..

ولم يكن ذلك بطبيعة الحال هيناً وسهلاً على النفوس ولكنها الدعوة ومقتضياتها ومصلحتها والتي يجب أن تعلو على كل اعتبار أو اجتهاد أو نزق شخصي .

ولقد روى أن عبد الرحمن بن عوف ونفر من الصحابة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا : يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم )) .

وروى عن خباب بن الأرت وكان ممن يعذبون بالكي بالنار أنه قال : (( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ولقد لقينا معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة فقلت : يا رسول الله ألا تدعو لنا ؟

فقعد محمراً وجهه فقال : لقد كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه وليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله )).


ثانياً : عدم التقيد بشروط استعمال القوة :

وفيما يلي أبرز الشروط تلك :

(أ‌) إفراغ الجهد بالوسائل الأخرى : حتى يكون استعمال القوة آخر الدواء ولقد أجمع العلماء على ذلك ...

- يقول العلامة الجصاص ((أمر الله بالدعاة إلى الحق قبل القتال )).

- ويقول العلامة الزمخشرى ((يبتدئ بالأسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب )).

- ويقول ابن العربي المالكي ((إن الله سبحانه أمر بالصلح قبل القتال وعين القتال عند البغي )).

- ويقول الإمام القرطبي ((فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعل وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو القتل فليفعل فإن زال بدون القتل لم يجز القتل )).


(ب) إناطته بالإمام وجماعة المسلمين :

وليس بالإفراد والعامة يقول العلامة القرطبي ((الأمر بالمعروف باليد على الأمراء وباللسان على العلماء وبالقلب على الضعفاء )).

- يمكن للأفراد استخدام القوة لمنع المنكر قبل وقوعه ما لم ينتج عنه مفسدة أكبر أما بعد وقوعه فالأمر للإمام مباشرة المعصية وأما بعد الفراغ منها فليس ذلك لغير الحاكم )).

وصرح الفقهاء : بأن استخدام القوة بعد الفراغ من ارتكاب المنكر جناية يؤاخذ عليها ..

ويقرر الإمام الغزالي في ذلك أصلاً كلياً فيقول :((ليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر فلما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر لا حق وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية )).

(ج) أن لا يفضي إلى مفسدة أو فتنة :

ففي الأثر ‎‎دع الخير الذي عليه الشر يربو )) والقاعدة الشرعية أن (درء المفاسد يقدم على جلب المنافع )). وفيما يلي نصوص مختلفة من تصريحات العلماء :- يقول الإمام القرطبي ((فإن لم يقدر أي على إزالة المنكر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجاً إلى الفتنة وأيلاً إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )).- ويقول إمام الحرمين في شرح صحيح مسلم ((يسوغ آحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته العمل إلى نصب قتال أو شهر سلاح فإن انتهي الأمر إلى ذلك ربط الأمر لسلطان)- ويقول العلامة الزمخشرى ((الإنكار الذي بالقتال فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها ))(د) أن لا يخرج عن السياسة الشرعية في هذا الأمر .... من ذلك :- عدم قتال العدو إذا تترس بين النساء والصبيان المسلمين وهو قول الأوزاعى والليث لقوله تعالى : { ولو رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليما } .- عدم التعرض للآمنين وغير المحاربين وللممتلكات وغيرها لقوله صلى الله عليه وسلم ((أعزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً )) وفي وصية أبى بكر رضى الله عنه وهو يودع جيش أسامة قبل مسيره إلى الشام (( لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلو ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة وسوف تمرون بأقوام قد حبسوا أنفسهم في الصوامع للعبادة فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له )) وكذلك صح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قوله : ((ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند شن الغارات ..عدم تعريض المسلمين للتهلكة بما يوجب ملاحظة قوة العدو وعدده .. يقول الإمام الشافعي (( ولا ينبغي أن يولّي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه شجاعاً في بدنه حسن الأناة عاقلاً للحرب بصيراً بها غير عجل ولا نزق وأن يقدم إليه وإلى من ولاه : أن لا يحمل المسلمين على مهلكة بحال ولا يأمرهم بنقب حصن يخاف أن يشدخوا تحته ولا دخول مطمورة يخاف أن يقتلوا ولا يدفعوا عن أنفسهم فيها ولا غير ذلك من أسباب المهالك )).

(هـ ) أن يكون وفق الأولويات :

فالإعداد في الإسلام يخضع لترتيب وفق أولويات لا يجوز التساهل فيها أو عدم تعريض المسلمين للتهلكة بما يوجب ملاحظة قوة العدو وعدده .. يقول الإمام الشافعي (( ولا ينبغي أن يولّى الإمام الغزو إلا ثقة في دينه شجاعاً في بدنه حسن الأناة عاقلاً للحرب بصيراً بها غير عجل ولا نزق وأن يقدم إليه وإلى من ولاه : أن لا يحمل المسلمين على مهلكة بحال ولا يأمرهم بنقب حصن يخاف أن يشدخوا تحته ولا دخول مطمورة يخاف أن يقتلوا ولا يدفعوا عن أنفسهم فيها ولا غير ذلك من أسباب المهالك )).

(هـ ) أن يكون وفق الأولويات :

فإعداد في الإسلام يخضع لترتيب وفق أولويات لا يجوز التساهل فيها أو تجاوزها لأنها مقتضى الصراط المستقيم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

- فكتب الفقه أجمعت على أن للجهاد شروطاً لا بد منها وهي : الإسلام - البلوغ - العقل - الحرية - الذكورة - السلامة من الضرر - وجود النفقة وهذا يدل على أن الأولوية للإسلام قبل الجهاد الجهاد .. وإن الالتزام الإسلامي أوجب من الالتزام الجهادى لأن الأول أصل والثاني فرع وطبيعة المرحلة المكية تؤكد أولوية الدعوة إلى الإسلام والتزامه ثم الجهاد في سبيله ...

- وعدم اعتبار القتال واحداً من أركان الإسلام أو الإيمان مع عظيم فضله ورفيع ثوابه وأجره إنما يؤكد أن الأولوية لهذه الأركان وإن القتال في الإسلام استثناء وليس قاعدة وإن شرط القيام به استكمال أركان الإيمان و الإسلام وإن ترك القتال لا ينقض الإسلام والإيمان في حين ينقضه ترك ركن من هذه الأركان ...

- وترتيب وصف الله تعالى لعباده المؤمنين يؤكد الأولويات هذه من ذلك قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله .. الآية } .

(و) أن يكون إعداداً سليماً متقناً ... ذلك أن (الكيف) في الإسلام مقدم على (الكم) والعبرة في النوع لا في العدد وصدق الله تعالى حيث يقول { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } وقوله { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثن وليتم مدبرين } .

فالإعداد في الإسلام ليس ردة فعل يفرضه موقف أو ظرف أو يمليه نزق واجتهاد أو تعبث به عاطفة مشبوبة غير عاقلة إنما هو منهج متكامل مؤصل بين القسمات واضح المعالم محدد المراحل محدد الأهداف له في شرع الله قواعد وأصول يجب تلمسها والتزامها بل والتشبث بها ...

وإلى هذا المعنى الجلي الواضح أشار الإمام الشهيد حسن البنا في المؤتمر الخامس فقال : ((أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم : اسمعوها منى كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع : إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين إما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة ...

أيها الإخوان ... إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه وذلك مكفول لكم ما دمتم مخلصين ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين وإما مصيبون فلنا أجر الفائزين المصيبين على أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم ولا إنتاج إلا مع خطتكم ولا صواب إلا فيما تعملون فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا نجاحكم واعملوا والله معكم ولن يترك أعمالكم والفوز للعاملين { وما كان الله ليضيع إيمانكم يترك أعمالكم والفوز للعاملين { وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم } .

- إن قوة الحركة وقدرتها قد لا تكون اكتملت بعد فيخشى عليها من أن تصفي أو تهلك وتباد في معركة غير متكافئة وقبل الأوان ...

- وقد تكون قوة العدو وحجمه أضعافاً مضاعفة فلا تلزم المواجهة وإنما تنمية القدرات وتعبئة الطاقات والترقب والانتظار وقد تنفع هنا المناورة والخديعة والتخذيل عن المسلمين ...

-وقد يكون هنالك أكثر من عدو ويحقق إضعاف أحدهم مصلحة للآخر وليس للإسلام فتسعير الحرب بينهم أولى وأمكر .

وأخيراً فإن ردات الفعل لا يحكمها عادة التعقيل والاتزان وإنما تسوقها العاطفة والإرتجال وليس مآل ذلك إلا الفشل ...

(ح) عدم جواز تعريض المسلمين للإبادة في حال عدم تكافؤ القوى :

فقد حاء في شرح المقنع (( ولا يحل للمسلمين ولو ظنوا التلف الفرار لقوله تعالى { ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الادبار } الأنفال 15] وشرطه أن لا يزيد عدد الكفار على مثلى المسلمين وهو المراد بقوله { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } الأنفال 66] قال ابن عباس ((من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر ...)).

وإذا كان لا بد من كلمة في ختام التحدث عن فتنة السلاح فهي إن هذه الفتنة أحدثت شروخاً يصعب أن تلتئم في جسم الحركة الإسلامية وتسببت يسقوط العشرات من الشباب الذين حملوا السلاح قبل أن يحملوا الإيمان ودربوا على استعمال القوة قبل أن يدربوا على الطاعة والانضباط فإذا بالسلاح يتحكم بهم دون أن يتحكموا هم فيه وإذا بمظاهر القوة الخادعة غير المنضبطة وغير العاقلة تقذف بهم إلى هوة ليس لها قرار .. فاعتبروا ياأولى الألباب ..


ثالثا : أسباب خارجية ضاغطة

ومن الأسباب التي تساعد أو تؤدى إلى سقوط بعض العاملين والدعاة على طريق الدعوة ما يتصل منها بالظروف والأوضاع العامة والعوامل الخارجية الضاغطة ...

وهذه الأسباب كثيرة ومتعددة سنجملها بما يلى :

1- ضغط المحن :

إن المحنة في حياة الدعوة والداعية هي المحك الأقوى والامتحان الأكبر فكم من أناس اختفوا عن مسرح العمل الإسلامي بعد تعرضهم لمحنة أو إيذاء ولقد كانوا قبل ذلك من أشد المتحمسين ...

ولقد أكد القرآن الكريم على حتمية المحنة في حياة المؤمنين لتمحيص الصفوف وتصنيف المعادن وسبر أغوار الايمان ...

فقال تعالى { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } وقال { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم } .

وبين صنوف الناس أمام المحنة .. فمنهم الصاعد الصابر المحتسب { الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانهاً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .. { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } ومنهم المنهزم الذي لا يلبث أن يسقط ويختفي من حلبة الصراع { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ...} .

ثم يقرر القرآن الكريم أمرأً لا مناص منه حيث يقول { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } .

لقد كانت المحن على مر التاريخ عاملاً قوياً في تساقط وسقوط البعض على الساحة الإسلامية في الوقت الذي كانت فيه عامل استقواء ومضاء وثقة واعتزاز وصمود وثبات للبعض الآخر .


2- ضغط الأهل والأقربين :

ومن الضغوط التي يواجهها العاملون في الحقل الإسلامي والتي قد تؤدى وتسبب بعضهم ما يتصل منها بالأهل والأقربين آباء وأمهات وزوجات وأولاداً ..

وقل أن ينجو من ضغط الأهل أحد ... فالقاعدة أن الأهل يحدوهم جميعاً الخوف على أبنائهم من أن يصيبهم في كل زمان ومكان من أذى . وبعضهم الآخر تأخذه العزة بالإثم ويكبر عليه أن يسبقه صغيره بالهدى فيحاول صده والضغط عليه بشكل وبآخر .

عرفت أنماطاً غريبة من الآباء كانوا يغرون أبناءهم ممن التحقوا بدعوة الإسلام وساروا في طريق الحق ليحولوا بينهم وبين دعوتهم وإسلامهم ولو بتشجيعهم على الرذيلة وارتياد أماكن اللهو ليصدوهم عن سبيل الله ..

وعرفت آخرين كانوا يضربون أبناءهم ويضيقون عليهم في المال والرزق ليردوهم عن سبيل الله ..

ولقد حذر القرآن الكريم من الإذعان لضغوط الأهل آباء وأنباء وحض على الثبات والصمود و الجهاد في سبيل الله فقال تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 24 ].

ومن النماذج التي حكاها القرآن الكريم عن الضغوط التي يواجهها الدعاة إلى الله من الأقربين والأهل قصة إبراهيم عليه السلام مع عشيرته وأبيه حيث عرض لها في أكثر من موقع فقال تعالى { واذكر في الكتاب إبراهيم أنه كان صديقاً نبياً إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً ياأبت إنى قد جاءنى من العلم مالم يأتك فاتبعنى أهديك صراطاً سوياً يأنبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً قال أراغب أنت عن آلهتى ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا ...} .

وهذا مصعب بن عمير يتعرض لضغوط أمه وكان وحيدها ووريث زوجها الغنى المتوفي ..فقد أقسمت أن تحرمه من ثروة أبيه فلم يبال أو يتراجع .. ثم أقسمت أن لا تذوق طعاماً قط حتى يترك دعوة الإسلام وصحبة محمد صلى الله علي وسلم .

وعندما مرت الأيام وهي على ذلك وقد شحب لونها وهزل جسمها دخل عليها ابنها مصعب ليحسم الأمر معها وليقطع كل أمل في انكفائه إلى الجاهلية من جديد فقال ((والله يأماه لو كانت لك مائة نفس خرجت نفساً نفساً ما تركت دين محمد )).


3- ضغط البيئة :

ومن العوامل التي تساعد على تساقط العاملين وإسقاطهم عن مسرح الدعوة ضغط البيئة ...

فالأخ المسلم قد ينشأ في بيئة محافظة ثم ينتقل منها بسبب الدراسة أو العمل إلى بيئة أخرى عوامل الشر فيها أكثر وجواذب الجاهلية أشد وهنا يبدأ الصراع عنيفاً فأما صمود واستعلاء أو سقوط واستخذاء ...

أذكر أن أحد الأخوة سافر إلى (اميركا للدراسة ) وكان مثال المسلم في بلدته والقدرة الحسنة بين إخوانه ومكث في أميركا بضع سنين وعاد بعدها إنساناً آخر لا يمت بأدنى صلة إلى ماضيه القريب ...

لقد كان أثر البيئة عليه كبيراً جداً بحيث أفقدته كل بريق كان يتحلى به قبل سفره المشؤوم .

وإنسان آخر سافر إلى نفس هذه البيئة ولم يتمكن من التماسك والثبات أكثر من سنة غرق بدها إلى فوق أذنيه في المعاصى ثم انقطعت أخباره واختفي أثره .. ولازلت حتى اليوم أذكر رسائله إلى خلال عامه الأول وهي مليئة بالنقد والتعريض بأكثر العاملين في الحقل الإسلامي من الدعاة والقياديين وكأنه في مستوى من الالتزام لا يدانيه فيه أحد ..ثم كانت النتيجة أنه نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

إن العوامل التي تؤدى إلى انهزام الفرد أمام ضغط البيئة كثيرة :

-فقد يكون تكوينه في الأساس غير صحيح كأن تكون عنده إشكالات واهتزازات في العقيدة أو انحراف خفي في السلوك

- وقد يكون التزامه في بيئته التزام خجل وتقليد ومحاكاة وليس التزام قناعة وإيمان وعندما انتقل منها إلى غيرها سقط مبرر الالتزام بسقوط عوامل الخجل والتقليد والمحاكاة ...

- وقد يكون السبب إعراضه في بيئته الثانية عن محيط الدعوة والدعاة وإقباله على بيئة الجاهلية وعشراء السوء وفي هذا الخطر الكبير المستطير الذي يؤدى حتماً إلى سقوطه إن لم تتدراكه عناية الله ومما يذكر أن الإمام الشهيد حسن البنا كان إذا ودع أخاً إلى بلاد الاغتراب للدراسة أو العمل حذره فيما حذره من اثنتين : من المرأة الأولى والكأس الأول ..


4- ضغط حركات الضرار :

ومن العوامل التي أدت إلى سقوط الكثيرين على طريق الإسلام والدعوة ما اتصل منها بحركات الضرار التي تشهدها الساحة الإسلامية والتي لا عمل لها سوى التشكيات والنقد وكألأنه المعمول المسلط على الحركة الإسلامية لتحطيمها وتهديمها وباسم الإسلام .

ففي كل قطر تبرز بين الحين والآخر فرق تحمل اسم الإسلام تخرب عقول الشباب وتعطل دورهم وتسمم أجواءهم فلا تجتذبهم للعمل معها ولا هي تتركهم حيث هم يعملون ..

إن ظواهر التعددية في العمل الإسلامي لا يمكن أن تكون أو تعتبر ظاهرة صحية لأن انعكاسها على الساحة الإسلامية سلبى ومن شأنه أن يجعل بأس العاملين بينهم ويشغلهم عما هم بصدده من مهام وأعباء .

أعرف كثيرين اختفوا عن حياة الدعوة بسبب انهزامهم أمام حملات التشكيك المستعمرة على الساحة الإسلامية .

إن الشباب اليافع قد لا يستطيع الصمود أمام حملات الإرجاف التي تتعرض لها الحركة الإسلامية فهو لما يكتمل بعد تكوينه ولما يقوى إيمانه بل ليست لديه القدرة على تمحيص الأمور ومعرفة الغث من الثمين ..ولهذا سرعان ما تراه ينهار ويسقط ...

أحد الأخوة كان مضرب المثل في النشاط والإنتاج فجرى تطويقه من قبل إحدى حركات الضرار هذه ... وبدأ الهمس الآثم يقرع أذنيه وإلقاءات الشيطان تعبث في نفسه وإذا به صريع الحيرة والشك وانتهي به المطاف إلى أن ترك العمل الإسلامي وكفر بالعاملين وغدا بعد ذلك شيوعياً ملحداً

أكثر حركات الضرار هذه لها بريق أحياناً يعمى الأبصار ...

- فمنها ما يجعل اهتمامه بالعقيدة مما يلفت النظر إلى قدرتها في هذا المجال دونما انتباه إلى ما تعانيه من ضعف وإفرس في هذا المجالات الأخرى ..

-ومنها ما يجعل اهتمامه بالشؤون العسكرية مما يثير الاعجاب بها في هذا الشأن من غير التفات إلى عجزها في غير ذلك من شؤون ..

- ومنها ما يكون متقدماً في الناحية الروحية ولكن حتماً على حساب الناحى الأخرى التي لا بد منها لصياة الشخصية الإسلامية وإقامة العمل الإسلامي الأصيل ..

وهكذا يؤدى قيام أمثال هذه الفرق الإسلامية إلى تشويه صورة الإسلام وإلى تشويه الشخصية الإسلامية ومن ثم إلى تشويه العمل الإسلامي وملء الساحة الإسلامية بالمتناقضات ... ولكم خربت هذه الظواهر عقولاً كانت سليمة وأطفأت شعلاً كانت متقدة وأتلفت قوى كانت منتجة معطاءة ؟ 5- ضغط الوجاهة :

ومن عوامل تساقط العاملين على طريق الدعوة ما يتعلق بالوجاهة ومشتقاتها .وهذا كله يدخل في مرض العجب والغرور حب الذات والكبر الأنانية التي كانت السبب في سقط إبليس حيث أخذته الغوة بالإثم فقال { أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين } الأعراف 12] .

لقد مر في حياة الدعوة أنماط من الناس كانت (الوجاهة) فتنتهم والمدخل الشيطانى إلى نفوسهم .

كانوا في مقتبل العمر وقبل أن يلجوا إلى المجتمع من بابه الكبير مثال التزام والطاعة حتى إذا أحسوا في أنفسهم أنهم أصبحوا شيئاً أو أصبحت لهم منزلة اجتماعية مرموقة وقد يكونوا بلغوها على حساب الدعوة إذا بهم يتغيرون وإذا لم تتداركهم عناية الله ينقلبون على أعقابهم يحاربون المهد الذي احتضنهم والجماعة التي ربتهم ويكفرون العشير الذي أخذ بأيديهم إلى الإسلام ؟

- فهذا شاب كان منصب القضاء عامل فتنة في حياته ومعمول هدم في سلوكه وسبباً في سقوطه .

-وذاك آخر كانت (العمة) بكسر العين سبباً في طغيانه وهو يحسب أنه قد أحسن صنعاً . - وآحر كان المال فتنته ثم زواجه بابنة أحد الوجهاء مصرعه .

-آخر وآخر وآحر ممن لا عد لهم ولا حصر سقطوا أمام ضغط الوجاهة الزائفة ولو أنهم آمنوا واتقوا لخجلوا من ذواتهم وبكوا على أنفسهم واستعاذوا بالله من نفحة الكبرياء ولكن { قتل الإنسان ماأكفره من أى شىء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقضى ما أمره } عبس 17: 23].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين ونسأله السداد والثبات وحسن الختام ونعوذ به زال النعمة وفجأة النقمة تحول العاقبة وسوء بالمنقلب إنه سميع الدعاء ...

المؤلف

بقاع صفرين في 1 من ذى الحجة 14.3 هـ