المستقبل لهذا الدين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
المستقبل لهذا الدين


بقلم : الأستاذ سيد قطب

الإسلام منهج حياة

لإسلام منهج. منهج حياة. حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها. منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)، ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الإعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر. كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه. والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته. والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته. والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته..

ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا الاعتبار. باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض. المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات (الإنسان) الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية.

وهذا الدين - بهذا الإعتبار - ليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية - إن صح أن هناك ديناً إلهيا يمكن أن يكون مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية (1) - وليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين ، فتكون لهم صفة هذا الدين ! وليس مجرد طريق إلى الآخرة لتحقيق الفردوس الأخروي؛ بينما هناك طريق آخر أو طرق أخرى لتحقيق الفردوس الأرضي، غير منهج الدين، وغير نظم وتنظيمات الدين !

وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى - ومن العمق والقوة كذلك - بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة الوجدانية المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا – في واقع مجتمعهم – أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هذا. ولم يكن هذا. ولا يمكن أن يكون هذا.. ربما استطاعت أية نحلة في الأرض تزعم لنفسها أنها (دين) ويزعم لها أهلها أنها (دين) أن تكون كذلك! أما (هذا الدين) فلا. ثم لا. ثم لا..

ونحن نعرف أن هناك جهوداً جبارة تبذل-منذ قرون- لحصر الإسلام في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية، وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة الكاملة على كل نشاط واقعي للحياة البشرية-كما هي طبيعته، كما هي حقيقته، وكما هي وظيفته.

لقد كانت هذه الخصائص في هذا الدين.. خصائص الشمول والواقعية والهيمنة.. هي التي تعبت منها الصليبية العالمية في هجومها على (الأمة المسلمة) في (الوطن الإسلامي). كما أنها هي التي تعبت منها الصهيونية العالمية كذلك، منذ عهد بعيد! ومن ثم لم يكن بد أن تبذلا معاً الجهود الجبارة لحصر هذا الدين في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية؛ وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة على نشاط الحياة البشرية.. وذلك كله كخطوة أولى، او كموقعة أولى، في معركة القضاء عليه في النهاية!

وبعد أن أفلحت تلك الجهود الجبارة؛ ونالت انتصارها الحاسم على يد (اتاتورك)-البطل!!!- في إلغاء الخلافة الإسلامية؛ وفصل الدين عن الدولة؛ وإعلانها دولة (علمانية) خالصة. عقب محاولات ضخمة بذلت في شتى أقطار (الأمة المسلمة) في (الوطن الإسلامي) التي وقعت في قبضة الاستعمار قبل ذلك، لزحزحة الشريعة الإسلامية عن أن تكون هي (المصدر الوحيد) للتشريع؛ والاستمداد من التشريع الأوروبي؛ وحصر الشريعة في ذلك الركن الضيق المسدود: ركن ما سموه (الأحوال الشخصية)!

بعد أن أفلحت تلك الجهود الضخمة، ونالت انتصارها الحاسم على يد (البطل!!!) أتاتورك.. تحولت إذن إلى الخطوة التالية - او الموقعة التالية- ممثلة في الجهود النهائية، التي تبذل الآن في شتى أنحاء (الوطن الإسلامي) - او بتعبير أدق الذي كان إسلامياً- لكف هذا الدين عن الوجود أصلاً؛ وتنحيته حتى عن مكان العقيدة، وإحلال تصورات وضعية أخرى مكانه ؛ تنبثق منها مفاهيم وقيم، وأنظمة وأوضاع ، تملأ فراغ ( العقيدة ) ! وتسمى مثلها .. عقيدة ..

وصاحب هذه المحاولة ضربات وحشية تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان على ظهر هذه الأرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي لا تلتقي على شيء في مشارق الأرض ومغاربها، إلا على الخوف من البعث الإسلامي الوشيك؛ الذي تحتمه طبائع الأشياء، وحقائق الوجود والحياة، ودلالات الواقع البشري من هنا و من هناك ..

ولكننا نعلم كذلك أن هذا الدين اضخم حقيقة، واصلب عوداً، واعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود كلها، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج اكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.

إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة. وترتفع من الحناجر المتعبة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلِّص). وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه. وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!

فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وان له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وان دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه.

إن البشرية قد تمضي في إعتساف تجارب متنوعة هنا وهناك- كما هي الآن ماضية في الشرق وفي الغرب سواء- ولكننا نحن مطمئنون إلى نهاية هذه التجارب، واثقون من الأمر في نهاية المطاف.

إن هذه التجارب كلها تدور في حلقة مفرغة، وداخل هذه الحلقة لا تتعداها- حلقة التصور البشري والتجربة البشرية والخبرة البشرية المشوبة بالجهل والنقص والضعف والهوى – في حين يحتاج الخلاص إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وبدء تجربة جديدة أصيلة، تقوم على قاعدة مختلفة كل الاختلاف: قاعدة المنهج الرباني الصادر عن علم (بدل الجهل) وكمال (بدل النقص) وقدرة (بدل الضعف) وحكمة (بدل الهوى).. القائم على أساس: إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه.

إن مفرق الطريق بين منهج هذا الدين، وسائر المناهج غيره: أن الناس في نظام الحياة الإسلامي يعبدون إلهاً واحداً، يفردونه-سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة - بكل مفهومات القوامة- فيتلقون منه -وحده- التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات والأخلاق والآداب.. بينما هم في سائر النظم يعبدون آلهة وأرباباً متفرقة، يجعلون لها القوامة عليهم من دون الله، حين يتلقون التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين والتوجيهات والآداب والأخلاق، من بشر مثلهم. فيجعلونهم - بهذا التلقي- أرباباً، و يمنحونهم حقوق الألوهية والربوبية والقوامة عليهم.. وهم مثلهم بشر.. عبيد كما انهم عبيد..

ونحن نسمي هذه النظم التي يتعبد الناس فيها الناس-كما يسيمها الله سبحانه- نظماً جاهلية. مهما تعددت أشكالها وبيئاتها وأزمانها. فهي قائمة على ذات الأساس الذي جاء هذا الدين-يوم جاء- ليحطمه، وليحرر البشر منه، وليقيم في الأرض ألوهية واحدة للناس؛ وليطلقهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ بالمعنى الواسع الشامل لمفهوم (العبادة) ومفهوم ( الإله) ومفهوم (الرب) ومفهوم (الدين) (2).

لقد جاء هذا الدين ليلغي عبودية البشر للبشر، في كل صورة من الصور، وليوحد العبودية لله في الأرض، كما أنها عبودية واحدة لله في هذا الكون العريض.

(أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، واليه يرجعون)..

[ آل عمران: 83 ]

والمنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين- بهذا الاعتبار- ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما انه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، لتبقى هذه الحياة دائرة حول المحور الذي ارتضى الله أن تدور عليه أبداً، وداخل الإطار الذي ارتضى الله أن تظل داخله أبداً، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي اكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله..

وهذا المنهج حقيقة كونية قائمة بإزاء البشرية المتجددة قيام النواميس الكونية الدائمة. التي تعمل في جسم الكون منذ نشأته، والتي تعمل فيه اليوم وغداً، والتي يلقى البشر من جراء المخالفة عنها، والاصطدام بها، ما يلقون من آلام ودمار ونكال!

والناس.. إما أن يعيشوا بمنهج الله هذا بكليته فهم مسلمون، وإما أن يعيشوا بأي منهج آخر من وضع البشر، فهم في جاهلية لا يعرفها هذا الدين.. ذات الجاهلية التي جاء هذا الدين ليحطمها، وليغيرها من الأساس. ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله..

والناس إما أن يعيشوا بمنهج الله بكليته فهم في توافق مع نواميس الكون، وفطرة الوجود، وفطرتهم هم أنفسهم. وإما أن يعيشوا بأي منهج آخر من صنع البشر، فهم في خصام مع نواميس الكون، وتصادم مع فطرة الوجود، ومع فطرتهم هم أنفسهم، بوصفهم قطاعاً في هذا الوجود.. تصادم تظهر نتائجه المدمرة من قريب او من بعيد..

ونحن- كما قلنا- نستيقن أن الناس عائدون إلى الله؛ عائدون إلى منهجه هذا للحياة. وان المستقبل لهذا الدين عن يقين.

ونحن مستيقنون كذلك أن كل الجهود التي بذلت او سوف تبذل لزحزحة هذا الدين عن طبيعته هي انه منهج للحياة البشرية الواقعية، في كل مجالاتها العملية والشعورية، سوف تبوء بالفشل والخيبة. وقد بانت بوادر الفشل والخيبة.. لأن هذه العزلة ليست من طبيعة هذا الدين. كما أنها في الحقيقة ليست من طبيعة أي دين!!!

كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة

هنالك ارتباط وثيق بين طبيعة(النظام الاجتماعي) وطبيعة(التصور الاعتقادي) .. بل هنالك ما هو اكبر من الارتباط الوثيق. هنالك الانبثاق الحيوي: انبثاق النظام الاجتماعي من التصور الاعتقادي.. فالنظام الاجتماعي بكل خصائصه هو أحد انبثاقات التصور الاعتقادي؛ إذ هو ينبت نباتاً حيويا وفطريا، ويتكيف بعد ذلك تكيفاً تاما بالتفسير الذي يقدمه ذلك التصور للوجود، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية وجوده الإنساني.

وهذا الانبثاق ثم هذا التكيف هو الوضع الصحيح للأمور. بل هو الوضع الوحيد. فما من نظام اجتماعي يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية سوية، وان يقوم بعد ذلك قياماً صحيحاً سليماً، إلا حين ينبثق من تصور شامل لحقيقة الوجود؛ ولحقيقة الإنسان، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية الوجود الإنساني.. إذ أن غاية أي نظام اجتماعي ينبغي أن تكون هي تحقيق غاية الوجود الإنساني.. كذلك فان الحقوق المخولة للإنسان بحكم حقيقة مركزه في هذا الوجود هي التي ترسم خط سيره، وتحدد وسائله التي له حق استخدامها لتحقيق غاية وجوده، كما تحدد نوع الارتباطات التي تقوم بينه وبين هذا الوجود، ونوع الارتباطات التي تقوم بين أفراد جنسه ومنظماته وتشكيلاته.. إلى آخر ما يعبر عنه باسم (النظام الاجتماعي)..

وكل نظام اجتماعي يقوم على غير هذا الأساس، هو نظام غير طبيعي. نظام متعسف. لا يقوم على جذوره الفطرية.. ولا أمل في أن تعمر مثل هذه النظم طويلاً. ولا أمل في تناسق حركة (الإنسان) في ظلها مع الحركة الكونية. ولا مع الفطرة البشرية؛ ولا مع احتياجات الإنسان الحقيقية.

ومتى فقد هذا التناسق فلا مفر من تعاسة الناس وشقوتهم بمثل هذه النظم، مهما استطاعت أن توفر لهم من التسهيلات المادية والإنتاجية.. ثم لا مفر بعد ذلك من تحطم هذه النظم، لتعارضها مع فطرة الكون، وفطرة الإنسان..

هذا الانبثاق ثم هذا التكيف وجه من وجوه الارتباط بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي.. يمكن تعميمه حتى يشمل لا مجرد النظام الاجتماعي، بل منهج الحياة كله، بما فيه مشاعر الأفراد وأخلاقهم وعباداتهم وشعائرهم وتقاليدهم؛ وكل نشاط إنساني في هذه الأرض جميعاً.

كما أن للمسألة كلها وجهاً آخر.. إن كل (دين) هو منهج للحياة بما انه تصور اعتقادي.. او بتعبير أدق بما انه يشمل التصور الاعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي. بل من منهج يحكم كل نشاط الإنسان في هذه الحياة الدنيا.

كذلك عكس هذه العبارة صحيح.. أن كل منهج للحياة هو (دين). فدين جماعة من البشر هو المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة..

غير انه إن كان المنهج الذي يصرف هذه الجماعة من صنع الله-أي منبثقاً من تصور اعتقادي رباني- فهذه الجماعة في (دين الله).. وان كان المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة من صنع الملك، او الأمير او القبيلة او الشعب-أي منبثقاً من مذهب او تصور او فلسفة بشرية- فهذه الجماعة في (دين الملك) او(دين الأمير) او(دين القبيلة) او(دين الشعب) .. وليست في (دين الله) لأنها لا تتبع منهج الله، المنبثق ابتداء من دين الله، دون سواه(3)!.

والمحدثون من أصحاب المذاهب والنظريات والفلسفات الاجتماعية لم يعودوا يحجمون، او يتحرجون، من التصريح بهذه الحقيقة: وهي انهم إنما يقررون(عقائد)؛ ويريدون اخذ الناس بها في واقع الحياة؛ وانهم يريدون إحلال هذه العقائد الاجتماعية او الوطنية او القومية محل العقيدة الدينية..

فالشيوعية ليست مجرد نظام اجتماعي.. إنما هي كذلك تصور اعتقادي. تصور يقوم على أساس مادية هذا الكون، ووجود المتناقضات في هذه المادية.. هذه المتناقضات المؤدية إلى كل التطورات والانقلابات فيه. وهو ما يعبر عنه بالمادية الجدلية، كما يقوم على التفسير الاقتصادي للتاريخ، ورد التطورات في الحياة البشرية إلى تطور أداة الإنتاج.. الخ. ومن ثم فهي ليست مجرد نظام اجتماعي، إنما هي تصور اعتقادي يقوم عليه-او يدعي انه يقوم عليه-نظام اجتماعي.. وذلك بغض النظر عما بين اصل التصور وحقيقة النظام الذي يقوم الآن من فجوات ضخام!

كذلك سائر مناهج الحياة وأنظمتها الواقعية، يسميها أصحابها (عقائد) ويقولون: (عقيدتنا الاجتماعية) او(عقيدتنا الوطنية) او(عقيدتنا القومية).. وكلها تعبيرات صادقة في تصوير حقيقة الأمر: وهو أن كل منهج للحياة او كل نظام للحياة هو (دين) هذه الحياة، ومن ثم فالذين يعيشون في ظل هذا المنهج او في ظل ذلك النظام.. دينهم هو هذا المنهج او دينهم هو هذا النظام.. فان كانوا في منهج الله ونظامه فهم في (دين الله).. وان كانوا في منهج غيره او نظامه، فهم في (دين غير الله).

والأمر فيما نحسب واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ونظراً لهذه الحقيقة البسيطة لم يكن هناك دين الهي هو مجرد عقيدة وجدانية، منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية. ولا مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى او مجتمعين. ولا مجرد (أحوال شخصية) تحكمها شريعة هذا الدين، بينما تحكم سائر نواحي الحياة شريعة أخرى مستمدة من مصدر آخر، تؤلف منهجاً آخر للحياة غير منبثق انبثاقاً من (دين الله).

وما يملك أحد يدرك مفهوم كلمة (دين) أن يتصور إمكان وجود دين الهي ينعزل في وجدان الناس، او يتمثل فحسب في شعائرهم التعبدية، او(أحوالهم الشخصية)، ولا يشمل نشاط حياتهم كله، ولا يهيمن على واقع حياتهم كله، ولا يقود خطى حياتهم في كل اتجاه، ولا يوجه تصوراتهم وأفكارهم ومشاعرهم وأخلاقهم ونشاطهم وارتباطاتهم في كل اتجاه..

لا.. وليس هناك دين من عند الله هو منهج للآخرة وحدها، ليتولى دين آخر من عند غير الله وضع منهج للحياة الدنيا!

هذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري.. وذلك أن مقتضى هذا التقسيم المفتعل أن يكون لله-سبحانه-جانب واحد من جوانب هذه الحياة ينظمه، ويشرف عليه، وينحصر (اختصاصه) فيه، ويكون لغير الله جوانب أخرى كثيرة ينظمها ويشرف عليها (أرباب) اخرون، يتعلق بها اختصاصهم.

انه-كما ترى- تصور مضحك للغاية، مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا النحو، سيضحكون من أنفسهم، ومن تفكيرهم، ويسخرون من سذاجتهم وركة أفكارهم.. لو انهم رأوا الأمر حقيقة من هذه الزاوية الصحيحة، وتحت هذا النور الهادئ الهادي..

على أن للمسالة وجهاً آخر.. إن (الشخصية الإنسانية) (وحدة). وحدة في طبيعتها وكينونتها. وحدة تؤدي كل وظائفها كوحدة. وهي لا تستقيم في حركتها ولا تتناسق خطواتها إلا حين يحكمها منهج واحد منبثق في اصله من تصور واحد..

فأما حين تحكم ضمير الإنسان ووجدانه شريعة، ثم تحكم واقعه ونشاطه شريعة.. وكل من هذه وتلك ينبثق من تصور مختلف .. هذه من تصور البشر، وتلك من وحي الله.. فان شخصيته تصاب بما يشبه داء الفصام (شيزوفرنيا)! ويقع فريسة لهذا التمزق بين واقعه الشعوري الوجداني، وواقعه الحركي العملي، ويصيبه القلق والحيرة.. كما نشاهد اليوم في أرقى البلاد الأوروبية والامريكية، ثمرة للصراع بين بقايا الوجدان الديني الذابلة وواقع الحياة العملية، القائم على تصورات وقيم لا علاقة لها بالوجدان الديني.. وذلك بعد (الفصام النكد) الذي وقع هناك بين الدين والحياة، وكانت له أسبابه الخاصة في تاريخ النصرانية بها(4).

و(دين الله) هو الذي يقدم التفسير الشامل الكامل للوجود، وعلاقته بخالقه العظيم. ولمركز الإنسان في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم يحدد تحديداً سليماً نوع الارتباطات التي تحقق غاية وجود النوع البشري، في حدود مركز هذا النوع في الوجود، وحقوقه المخولة له بحكم هذا المركز، والوسائل التي يبلغ بها هذه الغاية، ولا تخرج عن حدود حقوقه ومركزه، والتي يبلغ بها من ثم رضى خالقه العظيم؛ وسعادة الدنيا والآخرة، بمنهج واحد لا يمزقه كل ممزق؛ ولا يصيب شخصيته بداء الفصام اللعين! ولا ينتهي به إلى التصادم مع فطرته وفطرة الكون كله في نهاية المطاف!

من ثم جاء كل دين من عند الله، يقدم للبشر الأساس التصوري الاعتقادي، الذي يقوم عليه نظام حياتهم كلها: الوجدانية والعملية.. جاء ليرد البشر إلى ربهم؛ ويرد نظام حياتهم إلى منهجه المتفرد.. كما يقع التواؤم والتناسق بين ضميرهم وواقعهم؛ وبين وجدانهم ونشاطهم؛ وبين حركتهم ونواميس الكون أيضاً..

وجاء كل دين من عند الله لينفذ في الدنيا الواقع، وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي كله، لا ليبقى مجرد شعور وجداني قابع في ضمائرهم. ولا مجرد تهذيب روحي في أخلاقهم. ولا مجرد شعائر تعبدية في محاريبهم ومساجدهم؛ ولا مجرد أحوال شخصية في جانب واحد من حياتهم: "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"..

[النساء: 64]

وهكذا جاءت التوراة تتضمن عقيدة وشريعة، وكلف أهلها أن يتحاكموا إليها في كل شؤون حياتهم؛ لا أن يجعلوها مواعظ تهذيبية لا تتجاوز وجدانهم، ولا شعائر تعبدية يقيمونها في هياكلهم:

"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور. يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا، والربانيون والاحبار، بما استحفظوا من كتاب الله، وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالاذن، والسن بالسن، والجروح قصاص. فمن تصدق به فهو كفارة له. ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون".

[المائدة:44-45]

وهذا الذي ذكره القرآن من شريعة التوراة مثل للكثير الذي تحتويه، والذي نظم به موسى-عليه السلام- ومن بعده أنبياء بني إسرائيل حياتهم الواقعية عدة قرون.

ثم جاء المسيح-عليه السلام- بالنصرانية.. أرسله الله إلى بني إسرائيل -فهو أحد أنبيائهم- ومن ثم جاء مصدقاً لشريعة التوراة- مع بعض تعديلات خفيفة، لرفع بعض الأثقال التي فرضت عليهم في صورة عقوبات تأديبية، او كفارات عن معصية؛ كالذي أشار إليه القرآن الكريم:

"وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر. ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها-إلا ما حملت ظهورهما او الحوايا او ما اختلط بعظم- ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون"..

[الأنعام:146]

وقد أقرت هذه الشريعة المعدلة لتكون نظاما للحكم والحياة أيضاً:

"وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم، مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما انزل الله فيه. ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون".

[المائدة:46-47]

ثم جاء محمد-صلى الله عليه وسلم- بالاسلام، لا ينقض الشرائع السماوية الصحيحة قبله،ولكن يصدقها، ويهيمن عليها. بما انه الرسالة الأخيرة الشاملة للبشرية كافة، المعلنة عن الرشد الانساني، المتضمنة للتفسير الواسع الكلي، الذي يقوم عليه نظام الحياة الإنسانية، الذي يخرج الناس من (الجاهلية) إلى (الربانية) ويكل واقعهم إلى شريعة الله، كما يكل ضمائرهم إلى تقوى الله:

"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه.. فاحكم بينهم بما انزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم. فاستبقوا الخيرات. إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.. وان احكم بينهم بما انزل الله؛ ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما انزل الله إليك. فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله إنَّ يصيبهم ببعض ذنوبهم. وان كثيراً من الناس لفاسقون.. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون".

[المائدة:48-5.]

ومن قبل هذه الديانات الرئيسية جاء كل دين ليرد الناس إلى ربوبية الله وحده؛ والى منهج الله وحده.. ومنذ نوح-عليه السلام- توالت الرسل على هذا المنهج الواحد، يختلف في تفصيلات الشريعة ويتفق في اصل التصور؛ وفي الغاية الأساسية الكبرى؛ وهي: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله دون سواه. وإبطال الألوهيات والربوبيات الزائفة ورد الألوهية والربوبية إلى الله دون سواه..

وفي موضع آخر يُجمل القرآن الكريم هذه الحقيقة.. ويبين طبيعة ذلك المنهج الواحد الموصول بالله. بما ان الله هو خالق الكون والناس، وبيده مقاليد الكون والناس؛ ويبين كذلك مقام هذا الدين الأخير، وسبب مجيئه مهيمناً على الجميع، ويعلن المفاصلة بين أهل هذا الدين، وسائر الجاهليين:

"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله. ذلكم الله ربي، عليه توكلت، واليه أنيب. فاطر السموات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، ومن الأنعام ازواجاً، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. له مقاليد السماوات والأرض،يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم. شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب. وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، بغياً بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضي بينهم. وان الذين أوتوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.. فلذلك فادع واستقم كما امرت، ولا تتبع أهواءهم. وقل: آمنت بما انزل الله من الكتاب، وأمرت لأعدل بينكم . الله ربنا وربكم. لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمع بيننا واليه المصير".

[الشورى:1.-15]

وفيما يروي لنا القرآن عن شعيب-عليه السلام-وعن قومه، أهل مدين، يرد ذكر التشريع للحياة العملية، واعتراض القوم عليه، لعدم إدراكهم طبيعة الدين: وانه منهج للحياة شامل، لا للضمير المكنون وحده، ولا للشعائر التعبدية في الهياكل-شأنهم شأن أهل الجاهلية الحاضرة سواء!:

"والى مدين أخاهم شعيباً. قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره؛ ولا تنقصوا المكيال والميزان. أني أراكم بخير، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما انا عليكم بحفيظ.. قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ انك لأنت الحليم الرشيد..!".

[هود:84-87]

كذلك تبدو تلك الحقيقة في حكاية القرآن الكريم لقول صالح-عليه السلام-لقومه:

"فاتقوا الله وأطيعون. ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون"..

[الشعراء:15.-152]

فهو يردهم إلى دين الله ومنهجه للحياة، عن دين المسرفين المفسدين ومنهجهم.. أي انه يردهم من العبودية للعبيد، إلى العبودية لله في نظام الحياة.

وفي موضع آخر يحدد الله وظيفة الرسل كافة، ووظيفة كتاب الله عامة: بأنها الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه:

"كان الناس أمة واحدة. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وانزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"..

[البقرة:213]

فينتهي كل جدل في وظيفة الكتاب وفي وظيفة الرسل. ويتحدد معنى دين الله، ومرادفته لنظام الحياة الذي يريده الله..


ولا حاجة بنا إلى الإطالة اكثر من هذا-في البحث المجمل- عن طبيعة (الدين) وشموله لنظام الحياة الواقعية. فانه لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة، فهذه الحياة الإنسانية لابد أن يقوم نظامها الأساسي على قاعدة التصور الاعتقادي، الذي يفسر حقيقة الوجود، وعلاقته بخالقه، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني، ونوع الارتباطات التي تحقق هذه الغاية. سواء الارتباطات بين الإنسان وربه. او الارتباطات بين الإنسان والكون من حوله. او الارتباطات بين الإنسان وسائر الأحياء. او الارتباطات بين بني الإنسان. كما يرتضيها الله لعباده.

وإلا يجئ هذا التفسير الشامل الكامل من عند الله، وإلا يقيم نظام الحياة كله على هذا التفسير الشامل الكامل، فهي إذن أهواء البشر. وهي إذن ( الجاهلية) التي جاء كل دين من عند الله لإخراج الناس منها، ورفعهم إلى (الربانية).

وإلا تكن العبودية لله وحده-ممثلة في التلقي عنه في هذا كله-فهي العبودية للعبيد.. وقد جاء دين الله لتحرير العباد من عبادة العبيد!

لا حاجة بنا للإطالة اكثر من هذا في هذه الحقيقة البديهية التي ما كان يجوز أن تكون موضع جدال. لولا تلك الملابسات النكدة التي قامت في أوروبا، وأدت إلى ذلك ( الفصام النكد) بين الدين والدولة. بل بين الدين والحياة.

إنما المهم أن نلقي الآن نظرة سريعة على تلك الملابسات النكدة.. التي عصمنا منها الله في تاريخنا وديننا. فاجتلبنا ثمارها النكدة لأنفسنا من هناك!

الفصَــامُ النَّكِـــدْ

ليس من طبيعة (الدين) أن ينفصل عن الدنيا وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، والأخلاقيات التهذيبية، والشعائر التعبدية. او في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية.. ركن ما يسمونه (الأحوال الشخصية).

ليس من طبيعة (الدين) أن يفرد لله -سبحانه- قطاعاً ضيقاً في ركن ضئيل-او سلبي- في الحياة البشرية، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقين، يضعون القواعد والمذاهب، والأنظمة والأوضاع، والقوانين والتشكيلات على أهوائهم، دون الرجوع إلى الله!

ليس من طبيعة (الدين) أن يشرع طريقاً للاخرة، لا يمر بالحياة الدنيا! طريقاً ينتظر الناس في نهايته فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الارض، وعمارتها، والخلافة فيها عن الله، وفق منهجه الذي ارتضاه!

ليس من طبيعة (الدين) أن يكون هذا المسخ الشائه الهزيل! ولا هذه الألعوبة المزوقة التي يلهو بها الأطفال! ولا هذه المراسم التقليدية التي لا علاقة لها بنظم الحياة العملية!

ليس من طبيعة (الدين) -أي دين فضلاً عن دين الله- أن يكون هذا العبث الممسوخ الهزيل.. فمن أين إذن جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذن وقع ذلك (الفصام النكد) بين الدين والحياة ؟.

لقد تم ذلك (الفصام النكد) في ظروف نكدة! وكانت له آثاره المدمرة في أوروبا.. ثم في الأرض كلها، حين طغت التصورات الغربية، والأنظمة الغربية، والأوضاع الغربية، على البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها..

ولم يكن بد-وقد انفصمت حياة المخاليق عن منهج الخالق- ان تسير في هذا الطريق البائس؛ وان تنتهي إلى هذه النهاية التعيسة؛ وان تحيط بالبشر الدائرة التي يتعذبون الآن في داخلها، ويذوق بعضهم بأس بعض، بينما هم عاجزون عن معرفة طريق الخلاص منها.. وهم يصطرخون فيها..!!.

وليس هنا مجال الحديث عن الشقوة التي تصطرخ فيها البشرية فسيجيء شيء عنها في الفصول التالية. فلنعد إلى الحديث عن تلك الظروف النكدة، التي وقع فيها ذلك (الفصام النكد).

لقد جاءت اليهودية لتكون منهجاً لحياة بني إسرائيل-كما جاء كل دين قبلها ليكون منهج حياة لمن جاءهم- كذلك جاءت النصرانية - بعد اليهودية - لتكون المنهج المعدل لبني إسرائيل.

ولكن اليهود لم يقبلوا رسالة المسيح-عليه السلام- ولم يقبلوا منه التخفيف الذي جاءهم به من عند الله. وهو يقول لهم-كما حكى القرآن الكريم:

"ومصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم، فاتقوا الله وأطيعون"..

[آل عمران:5.]

ومن ثم قاوموا المسيح-عليه السلام- وقاوموا دعوته إلى السماحة والسلام والتطهر الروحي، والتخفف من المراسم الشكلية التي لا رصيد لها من تقوى القلوب! وانتهى بهم الامر إلى إغراء (بيلاطس) الحاكم الروماني على ارض الشام يومئذ بمحاولة قتل المسيح-عليه السلام-وصلبه. لولا أن توفاه الله ورفعه إليه (في صورة لا نعلم كيفيتها لأنه ليس عندنا نص قاطع من قرآننا ولا سنة نبينا عليها).

وأيا ما كان الأمر، فقد سارت الأمور بعد ذلك الحين بين اليهود واتباع عيسى-عليه السلام- سيرتها البائسة. فبذرت بذور الحقد على اليهود في نفوس الذين صاروا نصارى. كما بذرت بذور الكره في نفوس اليهود على هؤلاء! وانتهت بانفصال اتباع المسيح عن اليهود، وانفصال النصرانية عن اليهودية (وهي جاءت في الأصل لتكون تجديداً لليهودية وتعديلاً طفيفاً في أحكامها، مع الإحياء الروحي والتهذيب الخلقي العميق الواضح في دعوة المسيح عليه السلام).

ولما وقعت الجفوة والفرقة-بل البغضاء والحقد- بين اتباع عيسى عليه السلام واليهود، انفصل كتابهم الإنجيل-في حسهم- عن التوراة-وان بقيت التوراة وكتبها معدودة عندهم من الكتاب المقدس- وانفصلت شريعتهم عن شريعة التوراة. بينما جسم الشريعة لبني إسرائيل كلهم في التوراة.. وبذلك لم يعد للنصرانية بهذا الانفصال شريعة مفصلة تنظم الحياة!

ولكن التصور الاعتقادي-كما جاء به المسيح عليه السلام من عند الله- كان كفيلاً-لو ظل سليماً- أن يقدم التفسير الصحيح للوجود، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية وجوده الإنساني.. هذا التفسير الذي يمكن ان يقوم عليه نظام اجتماعي. كما كان ذلك التصور - لو ظل سليماً كما جاء من عند الله- كفيلاً أن يرد النصارى إلى الشريعة التي تضمنتها التوراة، مع التعديلات التي جاء بها المسيح للتخفيف في بعض تكاليف العبادة وتكاليف الحياة.

غير ان الذي حدث، هو ان عهداً طويلاً من الاضطهاد الفظيع قد اظل اتباع عيسى عليه السلام. سواء من اليهود المنكرين، او من الرومان الوثنيين، الذين كانوا يحكمون وطن المسيح. مما اضطر الحواريين-تلاميذ المسيح- واتباعهم وتلاميذهم الى التخفي، والتنقل والعمل سراً، فترة من الوقت طويلة. ومما اضطرهم كذلك إلى تناقل نصوص الانجيل، وتاريخ عيسى عليه السلام، وأحداث الفترة التي عاشها بينهم تناقلاً خاطفاً، في ظروف لا تسمح بالدقة ولا بالتواتر.. مما انتهى إلى رواية نصوص الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى-عليه السلام- في ثنايا روايات عن حياته وأعماله؛ يختلف بعضها عن بعض؛ فيما سمي بالأناجيل.. وهي كلام هؤلاء التلاميذ ورواياتهم عن حياة المسيح، متضمنة في ثناياها بعض ما يروى من كلام السيد المسيح.. وقد كتب اقدم هذه الأناجيل بعد المسيح بجيل كامل، ويختلف المؤرخون للنصرانية اختلافاً كبيراً في تحديد تاريخه ما بين4. سنة و64 سنة، كما يختلفون في اللغة التي كتب بها.. إذ لم توجد سوى ترجمة له..

ولقد كان من نصيب (بولس) ( الذي لم ير المسيح -عليه السلام- وإنما دخل النصرانية من الوثنية الرومانية) أن يتولى نشر النصرانية في أوروبا. مطعمة بما رسب في تصوراته من الوثنية والفلسفة الإغريقية.. وكانت هذه كارثة على النصرانية منذ أيامها الأولى في أوروبا.. فوق ما لحق بها من تحريف في فترة الاضطهاد الأولى. فترة تناقل الروايات في ظروف لا تسمح بتمحيصها ولا بتواترها!.

(وكتب بولس رسائله بعد ذلك-بعد القرن الأول الميلادي- وهي شاهد على امتزاج الأمثلة الدينية بصور الفلسفة-ولا سيما فلسفة الحلول- وكان يقول: ان المسيح جالس على يمين الله، ويدعو لمن يطلب لهم الخير "أن تسكن فيهم كلمته" ويسأل لهم الغفران منه، ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الأرض! ويبدو من جملة كلامه انه كان ينتظر معاده في زمن قريب. وكثيراً ما أشار إليه-صلوات الله عليه- باسم:"ربنا يسوع المسيح"! وسمى نفسه باسم:"رسول يسوع المسيح بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح!") (5).

ولكن الكارثة العظمى كانت في الحدث الذي تم بعد ذلك. وكان ظاهره انتصار النصرانية، وهو دخول الإمبراطور الروماني (قسطنطين) في النصرانية، واستطاعة الحزب النصراني أن يصبح هو الحاكم سنة 355م.

ويصف درابر الأمريكي في كتابه(الدين والعلم) هذا الحادث وآثاره النكدة يقول:

( دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين، الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومية، بتظاهرهم بالنصرانية ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوما من الأيام.. وكذلك كان (قسطنطين).. فقد قضى عمره في الظلم والفجور؛ ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره (سنة 337م).
( ان الجماعة النصرانية، وان كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية، وتقلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها ان اختلطت مبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتا، ونشر عقائد خالصة بغير غبش ..
(وان هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين-النصراني والوثني-ان يوحدهما ويؤلف بينهما: حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة! وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها) (6).

ولكن الديانة الجديدة لم تتخلص-بعد ذلك- قط من أدناس الوثنية وأرجاسها-كما أمل النصارى الراسخون- فقد ظلت تتلبس بهذه الأساطير والتصورات الوثنية. ثم زادت الطينة بلة. فأصبحت تتلبس كذلك بالخلافات السياسية والعنصرية، وأصبحت العقيدة تغير وتنقح لتحقيق أهداف سياسية:

يقول (الفرد بتلر) في كتابه: (فتح العرب لمصر) ترجمة الأستاذ (محمد فريد أبو حديد):

(إن ذينك القرنين-الخامس والسادس- كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين. نضال يذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين. وكان اختلاف الدين اشد من اختلاف الجنس إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت، تلك العداوة بين (الملكانية) و (المونوفيسية) وكانت الطائفة الأولى-كما يدل عليها اسمها- حزب مذهب الدولة الإمبراطورية، وحزب الملك والبلاد. وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة-وهي ازدواج طبيعة المسيح- على حين أن الطائفة الأخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين-أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حرباً عنيفة، في حماسة هوجاء، يصعب علينا ان نتصورها، او نعرف كنهها في قوم يعقلون. بله يؤمنون بالإنجيل!)..

ويقول (ت.و.أرنولد) في كتابه: (الدعوة إلى الإسلام) ترجمة حسن إبراهيم وزميليه، عن هذا الخلاف الطائفي السياسي العنصري وآثاره في الابتداعات والإضافات والتعديلات في النصرانية:

"… ولقد افلح (جستنيان) قبل الفتح الإسلامي بمئة عام في ان يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قوي مشترك، يربط الولايات وحاضرة الدولة".
(أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى-لسوء الحظ- إلى زيادة الانقسام، بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس، ان يقف ما يمكن ان يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات، وان يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الارثوذكسية؛ وبينهم وبين الحكومة المركزية) (7).
(وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتيه، لا اختلاط بينهما، ولا تغير، ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منها بخصائصها، وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد. لا كما لو كانت متجزئة او منفصلة في أقنومين. بل مجتمعة في أقنوم واحد: هو ذلك الابن، والله، والكلمة)..
(وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: انه مركب الأقانيم. له كل الصفات الإلهية والبشرية. ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم..

وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين، عن طريف المذهب القائل بان للمسيح مشيئة واحدة.. ففي الوقت الذي نجد فيه. هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد-الذي هو ابن الله-يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي، بقوة إلهية إنسانية واحدة. ومعنى هذا انه لا يوجد سوى إرادة واحدة، في الكلمة المتجسدة..

لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام. ذلك بان الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب. بل إن هرقل نفسه قد وصم بالالحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء(8).

هذه الملابسات التي عاجلت النصرانية في بدء نشأتها أولاً، ثم عند انتصارها السياسي على ذلك النحو ثانياً، ثم ما تلا ذلك الانتصار من خلافات سياسية وعنصرية وتحريفات وتعديلات في العقيدة بسببها ثالثاً..

كل أولئك قد ملأ التصور الاعتقادي فيها بعناصر غريبة كل الغرابة على طبيعتها، وعلى طبيعة(الدين الإلهي) كله.. ومن ثم لم يعد التصور النصراني-كما صنعته التحريفات المتوالية أولاً ثم كما صاغته المجامع المقدسة العامة والخاصة أخيراً(9) - قادراً على أن يعطي التفسير الإلهي للوجود وحقيقته، وحقيقة صلته بخالقه. وحقيقة هذا الخالق وصفاته، وحقيقة الوجود الإنساني وغايته وطريقه.. هذه المقومات التي لابد أن تصح كي يصح النظام الاجتماعي الذي ينبثق منها، ويقوم بعد ذلك عليها.

غير أن الأمر لم يقف عند فساد التصور الاعتقادي على هذا النحو؛ بل مضت الملابسات النكدة في طريقها خطوات أخرى عاثرة!

لقد أرادت الكنيسة أن تقف في وجه الترف الروماني، والسعار الشهواني الذي كانت الإمبراطورية الرومانية قد انتهت اليه، قبل دخولها في النصرانية، والذي يصفه درابر الأمريكي في كتابه (الدين والعلم) بقوله:

"لما بلغت الدولة الرومية في القوة الحربية والنفوذ السياسي اوجها، ووصلت الحضارة إلى أقصى الدرجات.. هبطت في فساد الأخلاق، وفي الانحطاط في الدين والتهذيب إلى أسفل الدركات.. بطر الرومان معيشتهم واخلدوا إلى الأرض، واستهتروا استهتاراً، وكان مبدؤهم ان الحياة إنما هي فرصة للتمتع، ينتقل فيها الإنسان من نعيم إلى ترف، ومن لهو إلى لذة. ولم يكن اعتدالهم إلا ليطول عمر اللذة! كانت موائدهم تزهو بأواني الذهب والفضة مرصعة بالجواهر، ويحتف بهم خدم في ملابس جميلة خلابة، وغادات رومية حسان، وغوان كاسيات عاريات غير متعففات تدل دلالاً. ويزيد في نعيمهم حمامات باذخة، وميادين للهو واسعة، ومصارع يتصارع فيها الأبطال مع الأبطال، أو مع السباع؛ ولا يزالون يصارعون حتى يخر الواحد منهم صريعاً يتشحط في دمه. وقد أدرك هؤلاء الفاتحون الذين دوخوا العالم، انه ان كان هناك شيء يستحق العبادة فهو القوة، لأنه بها يقدر الإنسان ان ينال الثروة التي يجمعها أصحابها بعرق الجبين وكد اليمين، وإذا غلب الإنسان في ساحة القتال بقوة ساعده، فحينئذ يمكن أن يصادر الأموال والأملاك، ويعين إيرادات الإقطاع، وان راس الدولة الرومية هو رمز لهذه القوة القاهرة، فكان نظام رومة يشف عن أبهة الملك. ولكنه كان طلاء خادعاً كالذي نراه في حضارة اليونان في عهد انحطاطها(10).

أرادت الكنيسة أن تقف في وجه هذا السعار الجامح، وهذا التردي الكاسح.. ولكنها لم تسلك إليه طريق الفطرة السوية المعتدلة المتزنة، ولا كان قد بقي بين يديها من حقيقة التصور النصراني الصحيح ما تقيم به الميزان بين الناس بالقسط، ولا ما تقيم به الميزان بين الإفراط والتفريط في وظائف فطرتهم الطبيعية.

عندئذ اندفع في الجانب الآخر تيار من (الرهبانية) العاتية، لعلها كانت اشأم على البشرية من بهيمة الرومان الوثنية. واصبح الحرمان من طيبات الحياة، وسحق الخصائص الفطرية في الإنسان، ومحق الطاقات والاستعدادات التي خلقها الله فيه لتكفل بقاء النوع من ناحية، كما تكفل عمارة الأرض والقيام بفرائض الخلافة فيها من ناحية أخرى.. اصبح هذا الانحراف العاتي عن الفطرة هو عنوان الكمال والتقوى والفضيلة.. الأمر الذي لم يأذن به الله، ولا يمكن أن تستقيم معه حياة!

ولم ينشئ ذلك علاجاً لذلك الانحلال. ولكنه انشأ صراعاً بين طرفين جامحين، كلاهما بعيد عن جادة الفطرة وحقيقة حاجات الإنسان.

ويصور (ليكى) في كتابه: (تاريخ أخلاق أوروبا) ما كان عليه العالم النصراني في ذلك العصر من التاريخ بين الرهبانية والفجور.. بقوله:

"إن التبذل والإسفاف قد بلغا غايتهما في أخلاق الناس واجتماعهم. وكانت الدعارة والفجور، والإخلاد إلى الترف، والتساقط على الشهوات، والتحلق في مجالس الملوك وأندية الأغنياء والأمراء، والمسابقة في زخارف اللباس والحلي والزينة في حدتها وشدتها.. كانت الدنيا في ذلك الحين تتأرجح بين الرهبانية القصوى والفجور الأقصى. وان المدن التي ظهر فيها اكثر الزهاد كانت اسبق المدن في الخلاعة والفجور(11).

وهكذا عجز نظام الرهبنة، المنبثق من تصورات كنسية ومجمعية منحرفة عن اصل التصور النصراني الرباني، عن أن يكون حتى نظاماً أخلاقياً للعالم النصراني. وخلف في النفوس جفوة للدين-والدين منه براء!-وترك فيها تحفزاً للانتقاض عليه وعلى نظامه الذي لا تطيقه الفطرة.. وكان عاملاً نكداً من عوامل ذلك ( الفصام النكد) في نهاية المطاف!

ثم كانت الطامة يوم اكتشف الناس، الذين تأخذهم الكنيسة بهذا الحرمان القاسي، وتنذرهم باستحالة نفاذهم إلى الجنة إذا هم زاولوا من طيبات الحياة شيئاً!..

نقول: كانت الطامة يوم اكتشف الناس ان حياة رجال الكنيسة الشخصية، لا تعج بالمتاع بالطيبات فحسب! ولا تسقط في الترف فحسب! وإنما هي تعج بالفواحش والمناكر في اشد صورها شذوذاً وفحشاً ونكراً!

يقول درابر في كتابه: (الدين والعلم):

لم تكن الرهبانية والنظام الديني السلبي إلا مصادمة للفطرة. فبقيت مقهورة بعوامل الديانة الجديدة وسلطانها الروحي، وساعدتها عوامل أخرى. ثم قهرت الطبيعة، وتسرب الضعف والانحراف إلى المراكز الدينية، حتى صارت تزاحم المراكز الدنيوية-وربما تسبقها في فساد الأخلاق والدعارة والفجور. لذلك وقفت الحكومة المآدب الدينية، والأولياء وذكرياتهم، التي وجدت فيها الخلاعة والفجور حمى ومرتعاً، واتهم القسوس بكبائر ومنكرات.

(ويقول الراهب جروم (jerume) : ان عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين. وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، وعدوا طورهم، حتى انهم كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون ارض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران، ويأذنون بنقض القانون، ويمنحون شهادات النجاة، وأجازات حل المحرمات والمحظورات، كأوراق النقد وطوابع البريد، ويرتشون ويرابون. وقد بذروا المال تبذيراً، حتى اضطر البابا (إنوسنت الثامن) أن يرهن تاج البابوية! ويذكر عن البابا (ليو العاشر) انه انفق ما ترك البابا السابق من ثروة واموال، وانفق نصيبه ودخله، واخذ إيراد خليفته المترقب سلفاً وأنفقه! ويروى ان مجموع دخل فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم!) (12).

ومسألة صكوك الغفران التي يشير إليها درابر في الفقرة السابقة، كانت الكنيسة قد قررت أن تمنح لنفسها الحق في إعطائها في أحد المجامع الكنسية الكثيرة، التي كانت تجتمع بين الحين والحين. وتغير وتبدل وتحرف وتنشئ وتضيف ما تشاؤه الأهواء (المقدسة!) إلى العقيدة النصرانية!

(وقد جاء في كتاب: تاريخ الكنيسة في بيان قرار المجمع الثاني عشر في هذا الشأن:

(أنهى المجمع تعليمه، فيما يتعلق بأمر الغفران، فقال: ان يسوع المسيح لما كان قد قلد كنيسته سلطان منح الغفرانات ، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلي منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجمع المقدس وأمر، بان تحفظه للكنيسة، في الكنيسة، هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، والمثبتة بسلطان المجامع.. ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون ان الغفرانات غير مفيده، او ينكرون على الكنيسة سلطان منحها. غير انه قد رغب في ان يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز، حسب العادة المحفوظة قديماً، والمثبتة في الكنيسة، لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل).

"…وهذا نص صك الغفران، الذي كان يباع بيع السلعة":

(ربنا يسوع يرحمك (يا فلان)، ويحلك باستحقاقات الآمة الكلية القداسة. وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي، احلك من جميع القصاصات، والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها وأيضاً من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها-مهما كانت عظيمة وفظيعة- ومن كل علة-وان كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي- وأمحو جميع أقذار الذنب، وكل علامات الملامة، التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة. وارفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر؛ وأردك حديثاً إلى الشركة في أسرار الكنيسة، وأقرنك في شركة القديسين. أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك، حتى انه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطأ إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي الى فردوس الفرح. وان لم تمت سنين مستطيلة، فهذه النعمة تبقى غير متغيرة، حتى تأتي ساعتك الأخيرة.. باسم الأب والابن والروح القدس..) (13).

فإذا أضفنا هذه إلى تلك.. إذا أضفنا عنت الكنيسة في اخذ الناس بالحرمان القاسي، باسم الدين-والدين بريء!- إلى ترف رجال الكنيسة وفساد حياتهم.. إلى مهزلة صكوك الغفران، أدركنا طرفاً من تلك الملابسات النكدة، التي أدت في النهاية إلى (الفصام النكد) في تاريخ أوروبا المنكود!..

غير أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود.. فقد دخلت الكنيسة في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك-لا على الدين والأخلاق- ولكن على السلطة والنفوذ.

وبدأ النزاع والمنافسة بين البابوية والإمبراطورية في القرن الحادي عشر، فاشتدت بعنف، وحمى وطيسها، وانتصرت فيها البابوية أولاً حتى أن هنري الرابع ممثل الإمبراطورية اضطر في سنة 1.77م أن يتقدم بخضوع نحو البلاط البابوي في قلعة كانوسا.. ولم يسمح له البابا بالدخول إلا بعد أن يشفع له الرجال، فسمح له بالمثول بين يديه، فدخل الإمبراطور حافياً. لابساً الصوف، وتاب على يديه؛ فغفر له البابا زلته.. وكانت الحرب بين البابوية والإمبراطورية بعد ذلك سجالاً حتى ضعفت البابوية(14).

وقد حدث في سنة 1245-كما جاء في كتاب (سوسنة سليمان)-أن المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا، بأمر البابا. (إنوسنت) الرابع، لأجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمه. ولكن كنيسة فرنسا لم تسلم بصحته او بسلطانه! (15).

ولما كانت الكنيسة-إلى جوار صراعها مع الأباطرة والملوك على السلطة- قد فرضت لنفسها سلطاناً على الجماهير؛ واستغلته ابشع استغلال، في فرض الإتاوات المالية الباهظة التي تجبى إليها مباشرة؛ مما جعل الناس يئنون تحت هذا الإرهاق، فقد استغل الحكام الساخطون هذا الضغط العام ليثيروا السخط العام على الكنيسة؛ واستخدموا لهذه الغاية كل وسيلة؛ وفي أولها فضح رجال الدين؛ وكشف أقذارهم وأدناسهم، وبيان خبايا حياتهم الشخصية، التي يخفونها وراء وقار الزي الكهنوتي والمراسم الكنسية!!!

وكانت القاصمة التي تم بها ذلك (الفصام النكد) وانتهى بها الأمر في أوروبا بين الدين والحياة، وانقطع بها نهائياً ما بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي من سبب.. بل كانت الجناية الكبرى التي جنتها الكنيسة الغربية على نفسها، وعلى الدين النصراني، ثم على الدين كله في الأرض جميعاً-إلى أن يأذن الله بتغيير الأحوال- هي ذاك:

لقد احتجزت (الكنيسة) لنفسها حق فهم (الكتاب المقدس) وتفسيره، وحظرت على أي عقل من خارج (الكهنوت) أن يحاول فهمه او تفسيره.

ثم اتبعت هذا بإدخال معميات في العقيدة لا سبيل لإدراكها او تصورها او تصديقها.. وقد ذكرنا مثلاً من هذه المعميات في النص الذي نقلناه عن (سيرت.م.أرنولد)عن حقيقة السيد المسيح وطبيعته..

ثم أدخلت مثل هذه المعميات في الشعائر التعبدية.. والمثال الصارخ لها هو مسألة (العشاء الرباني) الذي كان أحد الحالات التي ثار عليها مارتن لوثر وكالفن وزنجلي فيما سمي (بالإصلاح الديني).

ومسألة العشاء الرباني مسألة مستحدثة ما جاء بها (الكتاب المقدس) عندهم، وما تعرض لها النصارى الأولون، ولا (المجامع المقدسة) الأولى.. وقصتها كما يلي:

إن النصارى يأكلون في الفصح خبزاً، ويشربون خمراً، ويسمون ذلك (العشاء الرباني).

وقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك. فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد ادخل المسيح في جسده. بلحمه ودمه...

وقد فرضت الكنيسة على الناس قبول هذا الزعم ومنعتهم من مناقشته. وإلا عرضوا أنفسهم للطرد والحرمان.

ثم لم تكتف الكنيسة بتلك المعميات والخرافات في العقيدة وفي الشعائر-مع كف الناس عن البحث عن أصولها في (الكتاب المقدس) ومحاولة فهمه او تفسيره- بل اتبعتها بأمثالها في الكون والحياة. فادعت آراء ونظريات جغرافية وتاريخية وطبيعية مما كان سائداً في عصرها، مليئة بالخطأ والخرافة عن الكون والحياة والإنسان. وجعلتها (مقدسة) لا تجوز مناقشتها ولا تصحيحها ولا تجربتها، ولا القول بسواها.

وكانت هذه هي القاصمة! لأنها الباطل الذي يسهل على التجربة بيان بطلانه، وكشف زيفه! ولأنها المنطقة التي أطلق الله فيها العقل الإنساني ليرتادها، وهو مزود بكل المؤهلات التي تمكنه من كشفها وتحقيقها، ولم يفرض عليه فيها نظرية معينة!

وفي هذا يقول السيد أبو الحسن الندوي ما يغنينا عن الإعادة، ويصور اثر هذه القاصمة في ذلك (الفصام النكد) تصويراً مختصراً دقيقاً في كتابه القيم " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " :

( .. ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا، ومن اكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه، انهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة، معلومات بشرية، ومسلمات عصرية، عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني.
( وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فانه لا يؤمن عليه التحول والتعارض. فان العلم الإنساني متدرج مترق فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصراً على كثيب مهيل من الرمل. ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان اكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين فان ذلك كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم، الذي انهزم فيه الدين، ذلك الدين المختلط بعلم البشر، الذي فيه الحق والباطل، والخالص والزائف.. هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده. وشر من ذلك كله وأشأم: أن أوروبا أصبحت لا دينية.

ولم يكتف رجال الدين بما ادخلوه في كتبهم المقدسة، بل درسوا كل ما تناقلته الألسن، واشتهر بين الناس، وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية. وصبغوها صبغة دينية، وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها، ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافيا التي ما انزل الله بها من سلطان: (الجغرافيا المسيحية) (Christian Geography) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يدن بها.

وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني. فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب؛ وأعلنوا اكتشافاتهم واختباراتهم. فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون في زمام الأمور في أوروبا وكفروهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي، وأنشأوا محاكم التفتيش، التي تعاقب-كما يقول البابا-(أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن والبيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول!).. فجدت واجتهدت وسهرت على عملها، واجتهدت ألا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الانفاس، وناقشت عليها الخواطر، حتى يقول عالم نصراني: " لا يمكن لرجل ان يكون مسيحياً ويموت حتف انفه" ( يقصد الموت موتة طبيعية).

( ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلاثمئة ألف. احرق منهم اثنان وثلاثون ألف أحياء! كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو)، نقمت منه الكنيسة آراء من اشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بان لا تراق قطرة من دمه! وكان ذلك يعني أن يحرق حياً! وكذلك كان! وكذلك عوقب العالم الطبيعي الشهير (جاليليو) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس!.

( هنالك ثار المجددون المتنورون، وعيل صبرهم، واصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة، والمحافظين على القديم، ومقتوا كل ما يتصل بهم، ويعزى إليهم، من عقيدة، وثقافة، وعلم، وأخلاق، وآداب، وعادوا الدين المسيحي اولاً، والدين المطلق ثانية، واستحالت الحرب بين زعماء الدين المسيحي-وبلفظ اصح الديانة البولسية- حرباً بين العلم والدين مطلقاً! وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وان العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان؛ فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني. وإذا ذكروا الدين ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة وجباه مقطبة، وعيون ترمي بالشرر، وصدور ضيقة حرجة، وعقول سخيفة بليدة؛ فاشمأزت قلوبهم؛ وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء، وكل ما يمثلونه، وتواصوا به، وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم!

( ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمصابرة على الدراسة والتفكير، ومن الوداعة والهدوء، ومن العقل والاجتهاد، ما يميزون به بين الدين، ورجاله المحتكرين لزعامته، ويفرقون به بين ما يرجع إلى الدين من عهدة ومسؤولية. وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود واستبداد وسوء تمثيل، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة.. ولكن الحفيظة وشنآن رجال الدين، والاستعجال.. لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار، في أكثر الأعصار والأمصار!!!.)


هذه-باختصار وإجمال شديدين- أهم الملابسات النكدة لذلك (الفصام النكد) الذي تعاني أوروبا-وتعاني معها البشرية كلها اليوم مع الأسف- آثاره التعيسة، وتتجرع كأسه المريرة.

وهذا هو (الدين) الذي ثارت عليه أوروبا.. ثم تابعها في الثورة الببغاوات والقرود في الأرض كلها، دون تفرقة بين دين ودين!

وهذا هو(الدين) الذي ثارت عليه أوروبا.. الدين الذي شوهت معالمه منذ أول خطوة. ثم زيفت خصائصه الربانية، وتصوراته السماوية، وقيمه وأسسه.. ذلك التزييف الشنيع!

هؤلاء هم (رجال الدين) الذين قدموا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الدين، وعلى البشرية المنكودة، بقيادة الغرب الموتور من الدين المزيف، ومن رجال الدين المزيفين!

وهي كلها-ولله الحمد- ملابسات (أوروبية) بحتة، وليست إنسانية عالمية-ومتعلقة بنوع معين من (الدين) لا بحقيقة الدين. وخاصة بحقبة من التاريخ خاصة، تملك البشرية أن تتخلص من آثارها التعيسة، حين تفتح أعينها على الحقيقة من وراء دخان المعركة التاريخية!

ولكن هذا الخلاص لن يجيء أبداً عن طريق العقلية الغربية، ولن ينبثق أبداً من هذه العقلية المكبلة بأغلال ذلك التاريخ المرير، وبالرواسب التي خلفتها تلك المعركة التعيسة، وبالموجات التي أطلقتها في الفكر والضمير، وفي الأدب والفن، وفي السياسة والاقتصاد، وفي كل أوضاع الحياة التي قامت على ذلك (الفصام النكد) بعد ما تعمقت جذوره في تربة الغرب المنكود!

انتهى دور الرجل الأبيض

يقول الفيلسوف الإنجليزي المعاصر( برتراند رسل):

لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة. واعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياماً رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون.. إن الروسي هو الرجل الأبيض الوحيد الذي تسنح له الفرصة لنشر نفوذه في آسيا. والشعوب الآسيوية تمقت الاستعمار، وهم لا يعتقدون أن (للكريملين) غايات استعمارية.. لأنهم لم يجربوه.. بينما رزحوا أجيالاً طويلة تحت سلطان الرجل الغربي، واصبحوا يكرهون تلك التجربة. ولهذا لست اعتقد أن للدولة الغربية فرصة في آسيا. ولكني اعتقد أن الهند قد تعيش في توافق مع العالم الغربي. أما العالم العربي-وكذلك مصر والباكستان- فستنحاز إلى المعسكر الشيوعي!.

أطلق (برتراند رسل) نبوءته هذه عام 195.. وربما يبدو أن الوقائع التي تلت ذلك-وبخاصة سقوط الصين في قبضة الشيوعية- تصدق أساس هذه النبوءة.. ولكننا نلاحظ أنها نظرة قريبة الجذور سطحية المقدمات، مادية الأسباب- وهو ما لا نستغربه من مفكر غربي أياً كانت قيمة تحرره العقلي الذي اشتهر عنه.. فهو أسير عقلية وبيئة ووراثات وحضارة معينة، لا تسمح له بأن يفكر وراءها؛ ولا ان يخرج من إسارها، ليرى الأمر كله جملة، ومن زاوية أخرى جديدة!

إن المسألة اعمق من هذا بكثير..

لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض، لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم، تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين.. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة (الإنسانية)..

لقد أصيبت بالعقم-او كادت- بعد ما ولدته في (الماجنا كارتا) الإنجليزية. ومبادئ الثورة الفرنسية. ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمونه (التجربة الأمريكية).

وكلها كانت قيماً محدودة تروج في فترة خاصة . وتواجه حالات محدودة وأوضاعاً خاصة. ولم تكن رصيداً لبني الإنسان يصلح للبقاء مدة أطول من الفترة التي عاشتها تلك المبادئ الموقوتة!

وكلها كانت مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية، ولا تعيش المبادئ والقيم، إلا إذا انبثقت منه، وقامت عليه. الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم كانت قيماً محدودة موقوتة لأنها في الأصل قيم مبتوتة!.. (نبات شيطاني) لا جذور له في أعماق الفطرة البشرية، لأنه ليس آتياً من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية.

ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الأصل؛ ولم تجئ من هذا المصدر، فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة الحياة، ولفطرة الإنسان؛ ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيه.. لم تراع في هذا كله احتياجات (الإنسان) الحقيقية، المنبثقة من طبيعة تكوينه، واصل خلقته وحقيقة فطرته وأهملت إهمالاً شنيعاً أهم مقوماته-التي بها صار الإنسان إنساناً- ولم تهملها فحسب، بل طاردتها في جفوة وعنف..

وكان ذلك كله بسبب تلك الملابسات النكدة، التي أثمرت ذلك (الفصام النكد). فقامت تلك الحضارة-من ثم- على أسس معادية للدين.. أسس فكرية وشعورية وواقعية.. وسارت كذلك-من ثم- في طريق معارض للحقيقة الإنسانية، وللحاجات الحقيقية لبني الإنسان وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة الإنسانية وتميزها.

ومن ثم اخذ (الإنسان) يشقى شقاءً مريراً بالحضارة، التي قامت أصلاً-او المفروض أنها قامت أصلاً- لخدمته وترقيته وإسعاده.. وحين تتناقض(الحضارة) مع (الإنسان) فالنتيجة الحتمية بعد فترة-تطول او تقصر- من صراع الإنسان مع الحضارة، ومن الآلام والتضحيات، والخسائر والمرارات، ان ينتصر الإنسان، لأنه هو الأصل. ولأن فطرته اعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها..

وعندما يكون هذا هو مقياس البقاء، فإن الروسي يقف مع الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والسويسري والسويدي.. وسائر البيض.. على قدم سواء!

لا بل إن الروسي ليبدو متخلفاً بنظامه المتعسف، الذي لا يملك البقاء بغير الوسائل البوليسية البشعة، وبغير(حمامات الدم) و( حركات التطهير) الدورية، ومعسكرات الاعتقال، ومعسكرات الموت... لشدة مصادمته للفطرة الإنسانية في الكليات والجزئيات!

إن الماركسية-من الوجهة النظرية- تقوم على جهالة عميقة بالنفس البشرية وطبيعتها وتاريخها- فضلاً على الجهالة العميقة بالحقيقة الكونية، وتفسير الكون والحياة- فهي إذ تصور جميع الدوافع الإنسانية قائمة على جوعة المعدة والصراع على لقمة الخبز، وتصور جميع الحركات التاريخية منبثقة من تغير أدوات الإنتاج.. تلغي أهم مقومات الإنسان التي تفرق بين تاريخه وتاريخ البهيمة! وتلغي أهم وظائف الإنسان. وهي أن يكون العامل الإيجابي الأول في هذه الأرض وفي أطوار التاريخ.. ثم هي-فجأة- تتصور المستقبل خلواً من كل وراثات البشرية؛ وتفترض أن الناس سيتحولون ملائكة خيرين، ينتج كل منهم أقصى ما في طوقه، ولا يأخذ إلا قدر ما يكفيه.. وكل هذا بدون رقابة، وبدون حكومة، وبدون عقيدة سماوية تطمعه في جنة او تخيفه من نار. وبدون أي سبب معقول.. اللهم إلا ذلك الانقلاب الخرافي العجيب، الذي يتم في طبائع البشر، بمجرد تحطيم العناصر البرجوازية، وتسليم الأمر للبروليتريا.

وإذا كان هذا التصور (العلمي) عن المستقبل يبدو (خرافة) فان ذلك التصور عن التاريخ لا يقل عنه إمعاناً في الجهالة (العلمية) بحقيقة النفس البشرية، وطبيعتها، وتاريخها على السواء.

حين يكون هذا الجهل العميق، وهذه الخرافة الطاغية، هما أساس التصور الماركسي، فإننا لا ننتظر أبداً أن يقوم على أساسه واقع عملي في الحياة التي يزاولها البشر، إلا أن يكون فيه من الاعتساف قدر ما في هذا التصور من رغبة جامحة في مجانية حقائق الفطرة، التي تصطدم اصطداماً عنيفاً بذلك التصور.

ومن ثم اضطرت الماركسية-عند التطبيق العملي- ان تتخلى عن أهم مقدساتها الماركسية! وعللت هذا التخلي الذي يكاد يكون كاملاً، بان الماركسية مذهب متطور، على حين أن ليس هنالك مذهب يحتشد (بالحتميات) احتشاد النظرية الماركسية!

لقد تحطمت النظرية (العلمية) الماركسية تحت مطارق الفطرة في معظم أجزائها الرئيسية. ولم يبق إلا (الدولة) وإلا الأنظمة الديكتاتورية البوليسية، التي تعرفها روسيا جيداً في أيام القيصرية!

ووفق النظرية (المحطمة) فان (الدولة) كان ينبغي أن تكون الآن-وبعد حوالي نصف قرن- في طريقها إلى الذبول والزوال.. ولكن الذي يعلمه كل أحد أن الدولة هناك، تتضخم يوماً بعد يوم، وتبتلع كل شيء – بما في ذلك الشعب نفسه!

ولعله من المفارقات الطريفة أن الماركسية التي تفترض إمكان قيام المجتمع بدون حكومة في نهاية المطاف، هي التي تنتهي فيها الحكومة إلى أن تصبح هي الشيء الوحيد الذي له وجود! حيث لا وجود (للفرد) ولا وجود (للشعب) ولا وجود (لفطرة الإنسان) في ظل ذلك النظام!

إن الماركسية-كمذهب- لا تزيد على أن تكون جهالة (علمية) منقطعة النظير. أما النظام البوليسي الذي قام باسمها ، فهو نظام تعرفه روسيا من قبل أيام القيصرية. وهو نظام يمكن أن تطيقه الشعوب المتخلفة-بعض الوقت- ولكن الآدميين الذين يستشعرون وجودهم (الإنساني) لا يصبرون عليه طويلاً.. وحتى هذه الشعوب التي ترزح تحت وطأته فان فطرتها تقاومه مقاومة عنيفة-على الرغم من طول خضوعها قبله للقيصرية الطاغية- وهو لا يعيش إلا في ظل الإرهاب البوليسي؛ على الرغم من سيطرة (الحزب الشيوعي) القليل العدد، على مرافق البلاد؛ وعلى الرغم من احتكار كل موارد الارتزاق والمعاش في يد الدولة، الأمر الذي يذل لها الرقاب! وعلى الرغم من بلشفة الصغار عن طريق المنظمات الخاصة للأطفال وللشباب. وعلى الرغم من سيطرة الدولة على كل أجهزة التوجيه والإعلام. وعلى الرغم من أن المدرسين جميعاً يتبعون(الأيديولوجية الشيوعية). وعلى الرغم من حركات التطهير لكل من يشك في عدم ولائه للنظام الشيوعي.. فلابد ان يكون هذا النظام من الكراهية والاصطدام بالفطرة إلى الحد الذي لا تجدي كل هذه العوامل الساحقة في جعله آمناً على نفسه من انتقاض الجماهير-او بتعبير آخر من انتقاض الفطرة، التي يستحيل أن تصبر طويلاً على مثل هذا النظام المتعسف- وآية الفشل لأي نظام لا يقوم إلا في حراسة الإرهاب.

من ثم تبدد نبوءة (برتراند رسل) قريبة الجذور سطحية المقدمات مادية الأسباب. لا تخرج عن نطاق التفكير المادي المحدود. سجين هذه الحضارة المادية على كل حال!

إن القضية اعمق من هذا واشمل بكثير. أنها قضية الحضارة المنبتة عن الله، وعن منهجه للحياة. قضية الأنظمة الاجتماعية والمناهج الفكرية والمذاهب الوضعية، التي لم تنبثق من اصلها الواحد الصحيح؛ ومن ثم لم تعط الإنسان التفسير الواحد الصحيح لحقيقة هذا الوجود وعلاقته بخالقه؛ ولحقيقة هذا الإنسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني ووسائل بلوغها المشروعة.

إنه (الفصام النكد) الذي تستوي في القيام على أساسه كل الأنظمة السائدة في عالم (الرجل الأبيض)؛ والذي يستوي فيه الروسي والأمريكي، والإنجليزي والفرنسي، والسويسري والسويدي.. وسائر من يتبعهم في الشرق وفي الغرب سواء.

انه ليس هنالك فارق حقيقي-من ناحية الأصل الوضعي لهذه الأنظمة كلها!- ولا عبرة بان تكون الكنائس مثلاً مفتوحة الأبواب في أمريكا الرأسمالية؛ او مغلقة الأبواب في روسيا الشيوعية؛ او مهملة لا لها ولا عليها-مع ضمان حرية الإلحاد- في السويد الاشتراكية!

لا عبرة بهذه الفوارق الشكلية ما دام أن النظم الاجتماعية، والمذاهب الفكرية في هذه البلاد كلها ليست منبثقة انبثاقاً من التصور الاعتقادي الإلهي، الذي يكفل-وحده- التفسير الصحيح لحقيقة الوجود وعلاقته بخالقه؛ ولحقيقة الإنسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني.. هذه العناصر الأساسية التي تنبثق منها أسس النظام الاجتماعي، كما تنبثق منها مناهج الفكر الصحيحة، الموصولة بفطرة الإنسان الحقيقية، الملبية لحاجات الإنسان الحقيقية كذلك.

هذه هي القضية في جذورها العميقة الشاملة. لا كما يتصورها-داخل القضبان الفكرية!- (براتراند رسل) شأنه في التفكير من داخل القضبان شأن كل مفكري الغرب، أسارى بيئتهم وحضارتهم وتاريخهم التعيس مع كنيستهم الغاشمة، وفصامهم النكد الذي طبع حياتهم كلها خلال خمسة قرون مريرة!

ثم ماذا؟

ثم انه الخواء ينخر في روح الحضارة الغربية، بمذاهبها جميعاً. وبأنظمتها جميعاً.. الخواء الذي تختنق فيه روح (الإنسان)، وتنهدر فيه قيمة (الإنسان)، وتنحدر فيه خصائص (الإنسان).. بينما تتكدس (الأشياء) وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان!

انه الخواء الذي يهدد الحياة الإنسانية ورقيها بالتوقف. بل يهددها بالنكسة والانحدار-على الرغم من ضخامة الإنتاج المادي والفتوح العلمية والتقدم الصناعي- ذلك أن (الإنسان) ذاته لم تراع فطرته، ولا احتياجاته الحقيقية عند إقامة النظام الحضاري الذي ساد!

إن بريق الحضارة المادية لا يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظل هذه الحضارة. وان الصواريخ المطلقة، والأقمار الصاعدة، لا يجوز ان تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه (الإنسان) ومقومات (الإنسان)!

إن الإنسان هو اكرم ما في هذه الأرض. انه هو الكائن الأساسي فيها، والمستخلف في مقدراتها. وكل شيء فيها في خدمته-أو ينبغي أن يكون كذلك-و(إنسانيته) هي المقوم الأعلى الذي يقاس به مدى صعوده او هبوطه. وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملاءمة لطبيعته أو مصادمة..

فإذا رأينا (الإنسان) ينحدر في صفاته (الإنسانية) وفي تصوره للقيم الإنسانية..
إذا رأيناه وقوداً للآلة، او عبداً لها، او تابعاً ذليلاً من توابعها..
إذا رأيناه- تبعاً لهذا- ينحط في تصوره وذكائه وأخلاقه..
إذا رأيناه يهبط في علاقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة..
إذا رأينا وظائفه الأساسية تعطل وتذوي وتتراجع.
إذا رأيناه يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة والأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والعته والجنون والجريمة..
إذا رأيناه هارباً من نفسه ومن المخاوف والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية ، والأنظمة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفكرية.
إذا رأيناه هائما على وجهه يقتل سآمته وملله ، بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه، من المكيفات والخمور، او ما يشبه المكيفات والخمور من الأفكار السود، ومذاهب اليأس الكابي والقنوط الملبس والضياع الأليم.. كما في (الوجودية) وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة..
إذا رأيناه يئد نسله، او يبيع اولاده، ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية-كما جاءتنا الأنباء عن أوروبا الضائعة..

إذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة.. فان جميع ما يصل إليه (العلم) في معزل عن (روح الإنسان) من تيسيرات للحياة المادية، ومن رفاهيات حضارية.. لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي إليه البشرية؛ ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه؛ ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها.. ثم.. من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها.. ومن ثم حقيقة الحاجة الماسة إلي نظام آخر أصيل، بريء-في أساسه- من العيوب الأساسية التي أفسدت حياة البشر؛ وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري.. نظام يسمح للإنسانية بان تحقق غاية وجودها الإنساني-كما أرادها خالقها العظيم- وان تستخدم (العقل) و(العلم) و(التجربة) استخداماً آخر، يتناسق مع احتياجاتها الحقيقية؛ ومع مقتضيات فطرتها الأصيلة.

لقد انتهى دور الرجل الأبيض.. انتهى دوره سواء أكان روسياً أم أمريكياً، إنجليزياً أم فرنسوياً، ام سويسرياً أم سويدياً.. انتهى لان ذلك (الفصام النكد) في التاريخ الأوروبي، وفي جميع المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم في الغرب.. قد حدد بدوره نهاية دور الرجل الأبيض!

إنه لابد من قاعدة من التصور الاعتقادي لكافة المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم عليها حياة (الإنسان)..

لابد من تفسير صحيح للوجود، ولمركز الإنسان فيه، ولغاية وجوده الإنساني.. وهذا التفسير الصحيح، وذلك التصور المطابق للحقيقة-كما هي في الواقع لاكما يراها الناس من خلال عدسات عقولهم القاصرة وشهواتهم وأهوائهم وانفعالاتهم المتغيرة- ضرورة من ضرورات (الحياة الإنسانية)..

وهذا ما أغفلته حضارة الرجل الأبيض. بل حاربته حرباً شعواء، يستوي في هذا جميع الأنظمة السائدة في الغرب وفي الشرق جميعاً.

والإنسان هو الإنسان منذ نشأ. انه في حاجة إلى (عقيدة) تعمر قلبه؛ وتنبثق منها تصوراته؛ وتقدم له التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلاقته هو والكون بالخالق الأعلى..(عقيدة) ترسم له أهدافاً اكبر من ذاته، واعم من جيله، وابعد من حاضره، وأرفع من واقعه؛ وتربطه بذات علوية، لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها ويخشاها؛ ويتقي غضبها ويطلب رضاها؛ وينتظر عونها على الخير؛ ويستحي من مواجهتها بالشر؛ ويرجو جزاءها العادل الكامل، الذي يعوض عليه ما يفوته في صراعه للشر في هذه الحياة الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛ ويتلقى عنها نظام حياته، ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى عنها شعائر عبادته سواء بسواء.. فتستقيم حياته كلها حزمة واحدة، لا فصام فيها ولا صدام..

ولقد يشغل الإنسان بعض الوقت بجوعة الجسد، وما يتعلق بها من الإنتاج بشتى وسائله وصنوفه، ومن المتاع الحسي بشتى ألوانه ومذاقاته.. ولكن هذه الجوعة وكل ما يتعلق بها لا تستغرق الكينونة الإنسانية. وإشباعها لا يسد سائر الجوعات (الإنسانية). وما أن تهدأ هذه الجوعة حتى تتحرك في الكائن الإنساني جوعة أخرى. جوعة لا يسدها الطعام، ولا يرويها الشراب، ولا يكفيها الكساء، ولا تسكنها كل ضروب المتاع.. إنها جوعة من نوع آخر. جوعة إلى الإيمان بقوة اكبر من البشر؛ وعالم اكبر من المحسوس؛ ومجال اكبر من الحياة الدنيا.. وجوعة إلى الوئام بين ضمير الإنسان وواقعه، بين الشريعة التي تحكم ضميره والشريعة التي تحكم حياته. بين منهج حركته الذاتية ومنهج الحركة الكونية من حوله. جوعة إلى (إله) واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه وشريعة مجتمعه على السواء..

وكل نظام للحياة لا يحقق السعادة للكائن البشري إلا إذا تضمن كفاية هذه الجوعات المتعددة في كينونته الواحدة.. وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل الأبيض!

ولهذا السبب-من وراء كل سبب- انتهى دور الرجل الأبيض..

صَيْحَـــاتُ الخَطــــر

والآن تتعالى الصيحات من هنا ومن هناك ؛ منذرة بسوء مصير البشرية في ظل هذه الحضارة المادية الخاوية من الإيمان خواءها من الروح الإنساني-حضارة الرجل الأبيض- وتتنوع هذه الصرخات.. فتارة تكون نذيراً بانحدار البشرية كلها إلى الهاوية. وتارة تكون نذيراً بانحدارها إلى الماركسية! وتتنوع كذلك الاقتراحات لدرء هذا الخطر او ذاك..

ولكنها كلها تحاول عبثاً.لأنها لا تعالج المشكلة من الأساس. ولا ترجع إلى جذور المشكلة العميقة البعيدة في التربة الأوروبية!

ومن خلال تلك الصيحات، ومن خلال هذه الاقتراحات كذلك يتبين لنا نحن مدى قصر النظر، ومدى العمى النوعي عن الرؤية! في العقلية الغربية!

وإننا نكاد نبصر بهؤلاء الحيارى سجناء في قفص من (العلم)! يشد أقدامهم بالأغلال؛ فإذا أرادوا الوثوب، كان أقصى وثوبهم قفزة في داخل القفص! او سجناء في قفص من (الواقع) يعجزهم عن الاستشراف لما وراءه!

وهي ظاهرة تلقي علينا-نحن أصحاب المنهج الإسلامي- تبعة خطيرة.. إن الإنقاذ الحقيقي للبشرية المهددة في كينونتها الإنسانية، لا يجيء إلا عن طرق تحطيم هذا القفص، والخروج منه، ورؤية الوضع كله من زاوية مستقلة تماماً: وتقديم تصور كلي شامل للمشكلة، واقتراح حلول مبتكرة ، تنبثق من هذا التصور الشامل الجديد.

ولا نريد أن نسبق السياق.. فلنبدأ بإثبات نموذجين من نماذج تلك الصيحات المنذرة بالخطر؛ وتلك الاقتراحات المقدمة من زاوية النظر القصير، او العمى النوعي!

أحد هذين النموذجين لعالم كبير من علماء هذا القرن هو دكتور ألكسيس كاريل. والآخر لسياسي خطير من ساسة هذا الجيل هو مستر دالاس وزير الخارجية الأمريكية..

كتب دكتور ألكسيس كاريل كتاباً تقع ترجمته العربية في ست وسبعين وثلاثمئة صفحة من القطع المتوسط، بعنوان: (الإنسان ذلك المجهول) (16) ضمنه شهادة ضد الحضارة المادية القائمة، لقتلها أهم خصائص الإنسان؛ وأطلق فيه صيحة مدوية بالأخطار التي تهدد الجنس البشري من جراء الاعتداء على القوانين الطبيعية، التي لا تدع المعتدين عليها بلا عقوبة؛ وأعلن جهل (العلم) بحقيقة الإنسان. بل بأبسط حقائق تكوينه الجسدي ذاته!

ونحن هنا نقتطف نتفاً من هذه الشهادة؛ ومن صيحة الخطر المدوية فيها؛ ومن اقتراحاته كذلك لتلافي هذا الخطر الداهم:

(إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا. فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف.. وكثيرون يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث. ولهؤلاء أكتب هذا الكتاب.. كذلك كتبت لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا-ليس فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية- بل أيضاً ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري… ) (ص 11-12 مقدمة الكتاب)
(إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم . وعلى الرغم من انها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا...) (ص38)
(لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال، إهمالاً تاماً عند تنظيم الحياة الصناعية. إذ أن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: " الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف " حتى يستطيع فرد او مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على اكبر مبلغ مستطاع من المال. وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون أي اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد، وأحفادهم...) (ص4.)
(يجب أن يكون الإنسان مقياساً لكل شيء. ولكن الواقع هو عكس ذلك. فهو غريب في العالم الذي ابتدعه! انه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه، لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته... ومن ثم فان التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية... فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا ... إننا قوم تعساء، ننحط أخلاقياً وعقلياً... إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية اعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة، الجماعات والأمم الآخذة في الضعف؛ والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها. ولكنها لا تدرك ذلك، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها… وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التي سبقتها، أوجدت أحوالاً معينة للحياة من شأنها ان تجعل الحياة نفسها مستحيلة.وذلك لأسباب لا تزال غامضة… إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية…) (ص44)
(إننا لن نصيب أية فائدة من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية. وقد يكون من الأجدى أن لا نضفي مثل هذا القدر الكبير من الأهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء. فحقيقة الأمر أن العلم الخالص لا يجلب لنا مطلقاً ضرراً مباشراً. ولكن حينما يسيطر جماله الطاغي على عقولنا، ويستعبد أفكارنا في مملكة الجماد، فانه يصبح خطراً. ومن ثم يجب أن يحول الإنسان اهتمامه إلى نفسه والى السبب في عجزه الخلقي والعقلي. إذ ما جدوى زيادة الراحة والفخامة والجمال والمنظر وأسباب تعقيد حضارتنا إذا كان ضعفنا يمنعنا من الاستعانة بها فيما يعود علينا بالنفع؟ حقاً انه لمما لا يستحق أي عناء أن نمضي في تجميل طريق حياة تعود علينا بالانحطاط الخلقي، وتؤدي إلى اختفاء أنبل عناصر الأجناس الطيبة) (ص6.)
(الإنسان نتيجة الوراثة والبيئة، وعادات الحياة والتفكير التي يفرضها عليه المجتمع العصري.. ولقد وصفنا كيف تؤثر هذه العادات في حسه وشعوره... وعرفنا انه لا يستطيع تكييف نفسه بالنسبة للبيئة التي خلقتها (التكنولوجيا) وأن مثل هذه البيئة تؤدي إلى انحلاله؛ وان العلم والميكانيكا ليسا مسؤولين عن حالته الراهنة، وإنما نحن المسؤولون لأننا لم نستطع التمييز بين الممنوع والمشروع… لقد نقضنا قوانين الطبيعة، فارتكبنا بذلك الخطيئة العظمى. الخطيئة التي يعاقب مرتكبها دائماً.. إن مبادئ (الدين العلمي) و(الآداب الصناعية) قد سقطت تحت وطأة غزو الحقيقة(البيولوجية). فالحياة لا تعطي إلا إجابة واحدة حينما تستأذن في السماح بارتياد (الأرض المحرمة).. إنها تضعف السائل! ولهذا فان الحضارة آخذة في الانهيار، لأن علوم الجماد قادتنا إلى بلاد ليست لنا. فقبلنا هداياها جميعا بلا تمييز ولا تبصر! ولقد اصبح الفرد ضيقاً، متخصصاً، فاجراً، غبياً، غير قادر على التحكم في نفسه ومؤسساته). (ص322).

ولسوف يكون من الصعب أن نتخلص من مذهب ظل يسيطر خلال اكثر من ثلاثمائة عام على عقول القوم المتحضرين..

فإذا كان على الحضارة العلمية ان تتخلى عن الطريق الذي سارت فيه منذ عصر النهضة، وتعود إلى ملاحظة المادة الجامدة ببساطة، فسوف تقع أحداث عجيبة على الفور..

ستفقد المادة سيادتها؛ ويصبح النشاط العقلي كالنشاط الفسيولوجي. وسيبدو ألا مفر من دراسة الوظائف الأدبية والجمالية والدينية، كدراسة الرياضيات والطبيعة والكيمياء..

وسوف تبدو وسائل التعليم الحالية سخيفة، وتضطر المدارس والجامعات إلى تعديل برامجها..

وسيسأل علماء الصحة عن السبب الذي يحدوهم إلى الاهتمام فقط بمنع الأمراض العضوية دون الأمراض العقلية، والاضطرابات العصبية، كما سيسألون عما يجعلهم لا يبذلون اهتماماً بالصحة الروحية؟ ولماذا يعزلون المرضى بالأمراض المعدية، ولا يعزلون أولئك الذين ينشرون الأمراض العقلية والأدبية؟ ولماذا يعتبرون العادات المسئولة عن الأمراض العضوية عادات ضارة، دون العادات التي تؤدي إلى الفساد والإجرام والجنون؟

ولسوف يدرك الاقتصاديون أن (بني الإنسان) يفكرون ويشعرون ويتألمون. ومن ثم يجب أن تقدم لهم أشياء أخرى غير العمل والطعام، والفراغ! وان لهم احتياجات روحية مثل الاحتياجات الفسيولوجية. كما سيدركون أيضاً أن أسباب الأزمات الاقتصادية والمالية، قد تكون أسباباً أدبية وعقلية..

وسوف لا نضطر إلى قبول أحوال البربرية في المدن الكبرى وطغيان المصنع والمكتب، وتضحية الكبرياء الأدبية في سبيل المصلحة الاقتصادية، او تضحية العقل للمال.. ويجب أيضاً أن ننبذ الاختراعات الميكانيكية التي تعرقل النمو البشري.

( وسوف لا يبدو الاقتصاديون، وكأنهم المرجع النهائي لكل شيء.

(ولما كان من الواضح أن تحرير الإنسان من مذهب (المادية) سوف يقلب اغلب جوانب حياتنا، فان المجتمع العصري سوف يعارض بكل قوته هذا التقدم في آرائنا)... (ص329-331)

(مهما يكن، يجب ان نتخذ دواعي الحيطة حتى لا يحدث فشل المادة رد فعل روحي. إذ لما كانت (التكنولوجيا) وعبادة المادة لم يصيبا نجاحاً، فقد يستشعر الناس إغراءً عظيماً لاختيار الطقوس المضادة.. طقوس العقل.. ولن تكون رئاسة السيكولوجيا أقل خطراً من رئاسة الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء! فقد احدث (فرويد) أضراراً اكثر من التي أحدثها أكثر علماء الميكانيكا تطرفاً! فان من الكوارث أن نختزل الإنسان إلى جانبه العقلي، مثل اختزاله إلى آلياته الطبيعية-الكيماوية.. ولا مفر من دراسة الصفات الطبيعية لمصل الدم وتوازنه الايوني، وقابليته اختراق البروتوبلازم... الخ. كما ندرس الأحلام والشهوة والتأثيرات السيكولوجية للصلاة وذاكرة الكلمات... الخ. بيد أن استبدال الروحي بالمادي لن يصحح الخطأ الذي ارتكبته النهضة... فاستبعاد المادة سوف يكون أكثر إضراراً بالإنسان من استبعاد العقل! وإنما سيوجد الخلاص فقط في التنحي عن جميع المذاهب (ص331-332)

هذه هي خلاصة صيحة دكتور كاريل.. فما هي اقتراحاته؟

ما الحل الذي يقترحه للخلاص؟ ما المنهج الذي يصحح غلطة عصر النهضة في الإيمان بالمادة-والمادة وحدها- وفي الوقت ذاته لا يسبب الغلطة الأخرى بإهمال المادة وإنما يسير وسطاً، يلحظ جوانب الإنسان كلها ، وجوانب الحياة الإنسانية كلها ؟ ما المنهج الذي يجعل الإنسان سيداً للمادة، دون ان يهملها او يلجأ إلى سيكلوجية فرويد المضللة، او إلى رهبانية القرون الوسطى المعطلة للحياة؟

وماذا عنده بعد هذا الإدراك العميق للكارثة التي تهدد الجنس البشري. ومناداته بضرورة (قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري) و(التنحي عن جميع المذاهب)؟.

إننا نستمع إليه فنسمع عجباً، ونرى عجباً كذلك!

( إنا ضحايا تأخر علوم الحياة عن علوم الجماد)!
( إن العلاج الوحيد الممكن لهذا الشر المستطير هو معرفة اكثر عمقاً بأنفسنا. فمثل هذه المعرفة ستمكننا من أن نفهم ما هي العمليات الميكانيكية التي تؤثر بها الحياة العصرية على وجداننا وجسمنا.. وهكذا سوف نتعلم كيف نكيف أنفسنا بالنسبة للظروف المحيطة بنا، وكيف نغيرها. إذ لم يعد هناك مفر من أحداث ثورة فيها. ولئن استطاع هذا العلم-علم الإنسان- أن يلقي الضوء على طبيعتنا الحقة، وامكانياتنا، والطريقة التي تمكننا من تحقيق هذه الإمكانيات، فانه سيمدنا بالإيضاح الصحيح لما يطرأ علينا من ضعف فسيولوجي. كذا لأمراضنا الأدبية والعقلية.
( إننا لا نملك وسيلة أخرى لمعرفة القواعد التي لا تلين لوجوه نشاطنا العضوي والروحي؛ وتمييز ما هو محظور مما هو مباح؛ وإدراك أننا لسنا أحراراً لنعدل في بيئتنا وفي أنفسنا تبعاً لأهوائنا..

وما دامت الأحوال الطبيعية للحياة قد حطمتها المدنية العصرية، فقد اصبح (علم الإنسان) اكثر العلوم ضرورة.. (ص44-45)

هذا هو كل ما في جعبة العالم العالمي الكبير؛ بعد كل هذا الإدراك العميق للكارثة المحيقة!

وانتهاء الرجل إلى هذا الاقتراح، واعتباره الحل الوحيد الممكن للمشكلة-مشكلة بقاء هذه البشرية متحفظة بإنسانيتها، او انحدارها منها وتراجعها إلى البربرية الوحشية- اعتباره إن الحل الوحيد الممكن هو (مزيد من علوم الإنسان).. هو ظاهرة تلفت النظر بشدة-كما أسلفنا- إلى فعل هذه الحضارة في تفكير أهلها وتصوراتهم، بحيث تضعهم في قفص حديدي من (حدود العلم والواقع) لا يملكون الخروج من إساره! كما ان هذه الظاهرة تجزم بأن الحل لن يجيء من هناك! لأنه يحتاج إلى راقب يرقب الوضع من خارج القفص لا من داخله!

إن تأخر علوم البشر عن علوم الجماد ليس ظاهرة تلقائية-كما يميل دكتور كاريل في كتابه إلى تقريره- وإنما نتيجة طبيعة-تكاد تكون حتمية- لتقدير قيمة الإنسان ودوره، في التصور الزائف الذي قامت عليه هذه الحضارة، حين افترقت في نشأتها عن التصور الاعتقادي الصحيح. الذي يحمل تكريم الانسان، واعتباره خليفة الله في هذه الأرض..

كما أن تلك الآفات التي ذكرها في نظام الصناعة ووسائل الإنتاج، والتي لا اعتبار فيها لإنسانية الانسان، وخصائصه الثمينة، وحاجاته الحقيقية.. إنما ترجع إلى الأنظمة الاقتصادية المنبثقة من تصورات ومناهج تتوخى العداء للتصور الاعتقادي وللأخلاق الدينية؛ وتسخر من فكرة تدخل العنصر الأخلاقي في نظام الحياة الاقتصادي!

كما أن اعتماد الناس على معلوماتهم القليلة.. او بتعبير أدق على جهلهم المطبق-كما يعبر دكتور كاريل- بفطرة الإنسان وحقيقته، في إقامة أنظمتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية.. لم يأت عفواً. إنما جاء نتيجة مباشرة لروح العداء لكل ما يجيء من عند الله؛ ومن كل ما يمدهم به المنهج الإلهي من معرفة بهذا الإنسان على حقيقته .. هذا العداء الذي قامت هذه الحضارة على أساسه. بسبب تلك الملابسات النكدة بين الكنيسة والعلم في أوروبا..

ومن هذه الإيماءات السريعة ندرك أن الأمر اعمق بكثير مما يتصوره هذا العالم العالمي الكبير؛ ويقف عنده، بسبب القيود التي تشده بها عقليته، الناشئة في ظل تلك الحضارة العقيم!

وكما أحس دكتور كاريل بالخطر على مقومات الإنسان وكينونته من الحضارة الصناعية المادية.. كذلك أحس مستر دالاس وزير خارجية أمريكا بالخطر على الولايات المتحدة، وعلى العالم الغربي من الشيوعية التي يقوم نظامها الاجتماعي على أساس من (المذهب المادي) ومن (التفسير الاقتصادي للتاريخ).. ووجه مستر دالاس في كتابه:( حرب أم سلام) صيحة الذعر من هذا الخطر، وطالب بدفعه، ولكن مقترحاته كذلك جاءت جزئية، لا تعالج المشكلة من جذورها.. لقد طلب من رجال الكنيسة عنده أن يقوموا بما ليس من طوقهم، ولا في طبيعة موقفهم ان يؤدوه، بعد ذلك الواقع التاريخي في حياة الكنيسة وحياة المجتمع منذ عهد بعيد..

وفي فصل بعنوان (حاجاتنا الروحية) يقول:

( إن هناك شيئاً ما يسير بشكل خاطئ في امتنا. وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية.. لا يجدر بنا ان نأخذ موقفاً دفاعياً، وان يتملكنا الذعر.. إن ذلك أمر جديد في تاريخنا!
( إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، ان ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي. فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، او الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، او العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، او القنابل مهما بلغت قوتها!
( فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية. فإن النتائج السيئة تصبح أمراً حتمياً.
( وفي بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها. وهناك حيرة في عقول الناس، وتآكل لأرواحهم. وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي-كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن- ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس ان تقوم بحمايتها في هذه الظروف).
( لقد تقابلنا مع أقسى الاختبارات التي يمكن ان يلتقي بها أي شعب.. وهو اختبار الحياة في رفاهية..
( لقد قال يسوع: إن هذه الأشياء المادية سيحظى بها أولئك الذين يعملون من اجل ما أمر به الله، ومن اجل تحقيق عدالته.. ولكن عندما يحدث ذلك فعندئذ يبدأ الامتحان الأكبر. لأن هذه الأشياء المادية-كما انذر يسوع- يمكنها أن تصبح الصدأ الذي ينخر في الأرواح.
( كذلك فإن لدينا نموذجاً معروفاً. فالرجال الذين لديهم إحساس بالواجب إزاء كائن أعلى، يجاهدون لتحقيق إرادته، لأن إيمانهم يمنحهم القوة والفضيلة والحكمة المبسطة .. إنهم لا يبنون ليومهم فقط، بل للغد؛ وليس لأنفسهم وحدهم، وإنما للجنس البشري. ومجتمع هذا أساسه ستكون من نتائجه الثروة والرفاهية للكثيرين إذا ساعدته الأحوال.. وعندما تأتي هذه المنتجات الفرعية فإنها تكون طيبة، إلى درجة أنها تشجع على الاعتقاد بأنها النهاية المرتقبة! وبذا سيبتعد الناس عن بذل الجهود الإنشائية للأجل الطويل؛ ويبدأون الصراع من أجل الحصول على الأشياء المادية.
( ومع ذلك التغير ينمو خطر متزايد. فالأمريكيون قد حصلوا على الأمن بالطريقة الوحيدة التي يمكن بها ضمان الأمن. أعني كنتيجة فرعية لمسعاهم العظيم. وعندما بدأنا نتقاعس عن سعينا، ونطلب الأمن كنهاية في ذاته، أخذ الأمن يزداد بعداً عنا! وستظل الحال دائماً هكذا، ومهما تكن درجة ثرائنا. فالأمن لا يمكن شراؤه بأي ثمن نقدي .. وخمسة بلايين ، أو خمسون بليونا لا تكفي. فالأمن والسلام ليسا سلعتين يمكن شراؤهما. لقد حاول الأباطرة الرومان أيام انحدارهم أن يشتروا السلام. وكانت النتيجة فتح شهية أولئك الذين كانوا يسعون إلى تدميرهم.
( وبينما ينحدر نفوذنا وأمننا، فإن نفوذ الشيوعية السوفيتية وأمنها آخذان في الارتفاع .. إنها تستطيع أن تنفذ –بل هي تنفذ فعلاً- سياسات تحمل طابع " تجربة الشيوعية السوفييتية العظمى" تلك التجربة التي استطاع بها الشيوعيون أن يجتذبوا إليهم خيال شعوب العالم. تماماً كما فعلنا نحن في القرن التاسع عشر بالتجربة الأمريكية العظمى!
( وإننا نعلم أن التصويرات الشيوعية خادعة ومضللة؛ ونعلم أن الشيوعية السوفيتية لن تفتح أبواب التجربة التي قاموا بها في وطنهم للحكم عليها حكماً حرّاً محايداً. ونعلم أن أولئك الذين يقعون في براثنهم من جراء الإغراء الزائف لهذا التصوير، سرعان ما يدركون الفرق بينها وبين الحقيقة .. إن العنكبوت ينسج بيتاً جميلاً يتألق في ضوء الشمس ويدعوا الذباب إلى صالونه! والدعاية الشيوعية جذابة مثل بيت العنكبوت. ومتى وقع في قبضتها شعب فإن الاستبداد يمتص قواه الروحية .. ولكن الشيوعية –كأمل- لها قبول عند الجماهير في كل مكان من آسيا، وفي جزر الباسفيك، وجنوب أمريكا، وأفريقيا .. وحتى في أوروبا الغربية ..
( لقد قال ستالين: إن قوة وحيوية الماركسية –اللينينية، تكمن، في أنها تركز نشاطها العملي في الحاجة في تنمية الحياة المادية للمجتمع.
( ويبدو أن كثيراً من البلاد غير الشيوعية –بما في ذلك الدول المسيحية الغربية- تعطي الأولوية "لتنمية الحياة المادية للمجتمع" وتجعل من "الروحية" أمراً ثانويّاً يتعلق بالأفراد أنفسهم..
( ويتخذ الشيوعيون ذلك مثالاً لكي يثبتوا أنه حتى المجتمعات الغربية كان عليها أن تتبع النظريات المادية للشيوعية! ولا يقوم الزعماء الغربيون بإنكار ذلك بطريقة مقنعة .. وهكذا يرتفع المستوى الأدبي للشيوعية السوفييتية في العالم بدرجة كبيرة!
( إن الصعوبة ناشئة في أننا نقف موقفاً غامضاً من إيماننا؛ ومن العلاقة التي بين هذا الإيمان ونشاطنا!
( إننا نستطيع أن نتحدث ببلاغة عن التحرر والحرية، وعن حقوق الإنسان والحريات الأساسية؛ وعن الكرامة والقيمة الإنسانية للفرد .. ولكن معظم حديثنا مشتق من فترة كان مجتمعنا فيها قائماً على "الفردية" .. ونتيجة لذلك فليس لها أثر كبير عند أولئك الذين يعيشون في ظروف يكون معنى الفردية فيها هو الموت المبكر..
( ونستطيع كذلك أن نتحدث ببلاغة عن التقدم المادي الذي حققناه، وعن روائع الإنتاج الجماعي، وعدد السيارات وأجهزة الراديو والتليفزيون التي يمتلكها أفراد شعبنا.. ولكن المبالغة في وصف الماديات تعطي البعض فكرة بأننا قد أفلسنا من الناحية الروحية؛ وتجعل من البعض حاسدين لنا، وأميل إلى التمجيد الشيوعي (للجهود الجماعية) من أجل تنمية الحياة المادية للمجتمع! ) ..
( إننا لا نستطيع أن نكافح الشيوعية السيوفييتية في العالم، وأن نحبط أساليبها في الخداع والإرهاب والعنف، ما لم يكن لدينا إيمان، واستعانة بالوسائل الروحية في مجتمعنا الحديث المعقد؛ والتي تحول نفسها إلى أعمال خالصة من الدناءة، وظروف الحياة الذليلة، التي لا يمكن أن تنمو فيها الروح! )
( لقد أخفقنا بشكل يدعو إلى الرثاء في أن نرى أن من الممكن الحصول على عدالة اجتماعية، دون أن نمارس الإلحاد والمادية.. إن ذلك يعتمد على الرغبة الاختيارية للفرد في قبول أو التخلي عن الالتزامات الاجتماعية تجاه الفرد الآخر..
( ونتيجة لذلك فإن كثيراً من قومنا قد فقدوا إيمانهم في مجتمع حر. وكأمة فقدنا كذلك إيماننا الديني وممارسة شعائرنا الدينية. رغم أننا ما زلنا متدينين! إننا نفرق بين الدين وممارسة الدين! ولم نعد نؤمن بأن الإيمان يتمشى مع الظروف الحديثة.. ومتى تحطمت الصلة بين الإيمان والعمل، فلن نستطيع بعد ذلك أن ننمي قوة روحية نستطيع نشرها في جميع أنحاء العالم )..
( إن علينا أن نغير كل ذلك. إننا نستطيع-بل يجب- أن نرفض كلية النظرية الماركسية القائلة: إن الأشياء المادية لها الأولوية، والروحية تابعة لها. إن العبودية والاستبداد لا يمكن ان يكونا صواباً، حتى ولو بصفة استثنائية. ويجب ألا نخشى وضع الإيمان في مرتبة الصدارة بالنسبة لحرية الإنسانية والتحرر، وان نتمسك بالرأي الديني القائل: إن الله قد خلق الإنسان لكي يكون اكثر من منتج مادي؛ وان غايته النهائية شيء آخر غير الأمن الجثماني. يجب أن نؤمن بأنه يجب تحرير الناس في كل مكان من التضييق الروحي والعقلي والاقتصادي المتزايد، بحجة أن ذلك سينمي الرفاهية الاقتصادية للمجتمع الذي ينتمون إليه! )..
( ويجب أن نفهم كذلك بوضوح أن مجتمعاً حراً ليس معناه مجتمعاً يسعى كل فرد فيه لنفسه. بل انه مجتمع متناسق. والقيود المفروضة هي، قبل كل شيء، روابط الاخوة المنبعثة من الإيمان. فان الناس خلقوا لكي يعيشوا إخواناً في رعاية الله ) ..

ثم يختم هذا الفصل بقوله:

( لن تكون هناك فائدة من إنشاء (أصوات أمريكا) أخرى عالية الصوت، إلا إذا كان لدينا شيء نقوله، يكون اكثر إغراء مما قيل حتى الآن!.
( وإيجاد هذه الرسالة هو قبل كل شيء مهمة الزعماء الروحيين لأمتنا. وبعثورهم عليها يستطيعون أن يساهموا بشكل حاسم في الإحباط السلمي للأساليب الشريرة، والخطط التي تعدها الشيوعية السوفييتية.
( إن كثيراً من الوعاظ والمعلمين يأسفون لأن المعرفة العلمية قد زادت قدرة الإنسان على الأذى إلى درجة كبيرة. ولا يجب أن نصدق ان المعرفة في حد ذاتها شيء يمكن الهرب منه.
( إن القوة المادية الكبيرة تكون خطرة في عصر المادية فقط؛ وليس في عصر روحي. والمعرفة العلمية الجديدة خطرة اليوم لأنها حدثت في وقت أخفقت فيه الزعامة الروحية أن توضح الصلة بين العقيدة والعمل. ولعله يكون اكثر أهمية لو أن العبادة الروحية تطورت بدلاً من محاولة وقف التقدم العلمي، او الرجوع به القهقري ) .
( لقد كتب الرئيس ولسون قبل وفاته بأسابيع قليلة مقالاً استعرض فيه تهديد المبادئ الثورية وأعمال الشيوعية. وختمه بقول: إن اختصار المسألة بأسرها هو ما يلي: إن حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها..
( هذا هو التحدي النهائي لكنائسنا ومنظماتنا السياسية وللرأسماليين عندنا، ولكل فرد يخاف الله، او يحب بلده! ) ..

ولكن هذه الصيحة التي أرسلها مستر دالاس-كالصيحة التي أرسلها دكتور كاريل من قبل- لا تمكن تلبيتها بهذا السهولة! ولا بهذا التحدي الذي يضعه دالاس أمام كنائسهم ومنظماتهم والرأسماليين وكل فرد يخاف الله او يحب بلده!

إن المسألة اعمق من هذا بكثير. فالكنائس لم يعد لديها من النصرانية-منذ ما أفسدها بولس أولاً. وقسطنطين ثانياً. والكنيسة والمجامع والبابوات ثالثاً- ما يصلح أساساً شاملاً للحياة الإنسانية.

وحتى البقية الباقية من التصور النصراني-هذه التي يتحدث عنها مستر دالاس- لم تعد الحضارة الأمريكية المادية تطيقها. هذه الحضارة التي قامت ابتداء على (الفردية) الجامحة، ممثلة في النظام الرأسمالي الربوي الاحتكاري إلى أبعد الحدود..

وما أظن مستر دالاس نفسه قد فكر-وهو يرسل هذه الصيحة في ساعة الخطر- في تطبيق بقية التصور النصراني تلك. فان أول ما تقتضيه: إلغاء النظام الربوي الذي تقوم هذه الحضارة عليه، والذي يساهم بالقسط الأول والأوفر في ويلات البشرية، وويلات الحضارة المادية. والذي تحرِّمه النصرانية، كما يحرمه كل دين سماوي وكل فطرة سليمة!

إنما أراد مستر دالاس صورة باهتة من النصرانية لا تتدخل في صميم النظام الاقتصادي. وفي الوقت ذاته تخدم أغراضه السياسية الأخرى في دفع غائلة الشيوعية!

وحتى لو كان جاداً في أعمال التصور الديني في صميم الحياة كلها.. فان هنالك هوة لا تعبر، ولا يقام عليها معبر بين التعاليم النصرانية الصحيحة، وبين الحياة الواقعية عنده. اشترك في حفرها وتعميقها خمسمائة عام من الصراع المرير!

وهو يكلف رجال الكنيسة عنده والزعماء الروحيين مالا قبل لهم به. حتى يطلب إليهم، بما بين أيديهم من رصيد مهلهل للدين النصراني، ومن تاريخ مرير بين الكنيسة ورجالها والدين وأهله وبين ضمائر الناس وعقولهم، ومن فصام نكد قامت بعده كل جوانب الحياة والفكر والشعور على أساس العداء للدين كله.. أقول يكلفهم مالا قبل لهم به، وهو يطلب إليهم استحداث منهج من ذلك الرصيد المهلهل، يصل بين الإيمان والعمل. وبين الفردية والجماعية. وبين الروح والمادة. وبين التقدم العلمي والهيمنة الروحية على هذا التقدم.

وبين العناية بتنمية الحياة للمجتمع مع سيطرة الروح الإيماني.. منهج لا يفرق بين الدين وممارسة الدين. ويرفض القول: بأنه من غير الممكن الحصول على عدالة اجتماعية بدون ممارسة الإلحاد والمادية. كما يرفض أن يكون للأشياء المادية الأولوية. او أن تكون العبودية والاستبداد وسيلة الإكثار من الإنتاج المادي. او أن يعتدي على الحرية العقلية والروحية والاقتصادية في سبيل هذا الإكثار.. منهج لا يطلب وقف التقدم العلمي باسم (الدين)! ولا يجعل التدين وسيلة واحدة هي عودة العلم والمعرفة القهقري!.. وفي النهاية منهج تتطور (العبادة) فيه حتى يصبح (العمل) إحدى صورها..

فأنى يجدون هذا المنهج في بقايا التصور المهلهل؛ وفي أنقاض التاريخ المرير، وفي الفجوة التي لا تعبر، والتي لا يقام عليها معبر، بين طبيعة الدين الذي عندهم-كما صاغته هذه الملابسات كلها- وبين طبيعة الحياة الإنسانية بصفة عامة، وطبيعة هذه الحضارة المادية بصفة خاصة؟!

إن الذي يملك استحداث هذا المنهج قوم آخرون.. والدين الذي يتضمن مثل هذا المنهج في اكمل صورة ليس هو ما يسمى عند قومه اليوم بالدين!

إن مستر دالاس يريد أن يجند (الدين) لحماية الأنظمة الغربية من الشيوعية.. ولكن الدين لا يملك أن يصنع شيئاً في هذه المعركة الصغيرة! بين أنظمة مادية وأنظمة مادية من نوع آخر! انه لا يملك أن يصنع شيئاً في صورته الباهتة التي تراد له.. لا يملك أن يدافع عن الناس وهو مطرود من حياتهم طرداً قبيحاً!

إن (دين الله) لا يصلح خادماً يلبس منطقة الخدم، ويقف بحضرة (أسياده)، ويوجهونه حيث يريدون! يطردونه من حضرتهم فينصرف، وهو يقبل الأرض بين أيديهم.. ثم يقف وراء الباب-في شارة الخدم- رهن الإشارة!.. ويستدعونه للخدمة، فيقبل الأرض بين أيديهم، وينحني قائلاً: لبيك يا مولاي! كما يفعل من يسمونهم (رجال الدين)!

كلا! إن (دين الله) لا يرضى إلا أن يكون سيداً مهيمناً. قوياً متصرفاً. عزيزاً كريماً. حاكماً لا محكوماً. قائداً لا مقوداً .. وهو لا يحمي الناس من الشيوعية ولا من غير الشيوعية إلا أن تكون حياتهم كلها رهن إشارته. يصرفها بجملتها، وينظمها من أطرافها، وينسقها وفق شريعته .. حين يتحاكم إليه الناس في أمورهم كلها: صغيرها وكبيرها. ثم يرتضون حكمه في ثقة وفي استسلام:

" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً .. "

[النساء: 65]

ويومئذ فقط يؤدي دوره كاملاً .. دور السيد المدبر .. لا دور الخادم الملبي..

ويومئذ فقط ينتهي ذلك الفصام النكد. الذي أنشأ كل هذا الشقاء المرير. وكل هذا الخطر الخطير..

ويومئذ فقط يجئ المخلص، الذي تتعالى الصيحات بصفاته وسماته! هذا المخلص المرتقب للناس أجمعين .. هو هذا الدين ..

المخَلِّــص

"إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك، تنبعث من القلوب الحائرة وترتفع من الحناجر المتعبة .. تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلص)، وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه .. وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على (هذا الدين) ..

جاءت هذه الفقرة في الفصل الأول من هذا الكتاب .. والفصل الذي سلف (صيحات الخطر) يتضمن التفسير الكامل لهذه الفقرة في أقوال دكتور كاريل، وفي أقوال مستر دالاس على السواء! لولا أن كلا منهما –لأمر قد قدر- لا يتجه بدعائه للمخلص الحقيقي الذي عليه وحده تنطبق هذه الأوصاف؛ وفيه وحده تتحقق هذه السمات!

إن دكتور كاريل يطلب منهجاً للحياة غير (دين الصناعة) و (التكنولوجيا).

يريد منهجاً يعتبر (الإنسان مقياساً لكل شيء) ولا يجعله (غريباً في العالم الذي ابتدعه) .. ولا ينهض على الجهل المطبق بخصائصه ومقوماته.

منهجاً ( لا يهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالاً تاماً عند تنظيم الحياة الصناعية) ولا ( ينهض على مبدأ الحد الأقصى من الإنتاج بأقل قدر من التكاليف .. حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال).

منهجاً لا ينشئ بيئة (غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا). ولا يجعلنا ( ننحط أخلاقياً وعقلياً). ولا يكبت ويعطل ( نمو وجوه النشاط العاطفي والجمالي والديني فيخلق أشخاصاً في المرتبة الدنيا. ذوي عقول ضيقة غير صحيحة).

منهجاً لا يلغي شخصية الفرد من حسابه، ولكنه كذلك لا ينسى حاجة الفرد للحياة الجماعية. فلا (نربي ونعيش ونعمل في قطعان كبيرة أشبه بقطعان الأغنام!).

منهجاً لا يلغي شخصية الذكر وشخصية الأنثى. (فإهمال انعدام المساواة بين الجنسين أمر خطر جدّاً).

منهجاً لا يدع حياة بني الإنسان نهباً (لخيالات ماركس ولينين وفرويد) و (شهوات الناس وأهوائهم ونظرياتهم ورغباتهم).

منهجاً لا يعتدي على قوانين الفطرة. ولا يشجع على (ارتياد الأرض المحرمة). ولا يصطدم من الحقائق الحيوية للكينونة الإنسانية ..

وأخيراً .. منهجاً لا يتخذ من فشل (المادية) سبباً للنكسة إلى (الروحية) السلبية التي عرفتها أوربا في نظام الرهبنة ولا إلى سيكولوجية فرويد المضللة!

ولكن دكتور كاريل يطلب هذا المنهج الذي هذه سماته عند (علم الإنسان) الذي يطالب بإنشائه على الرغم من تقريره أن في العقل البشري بطبيعته عجزاً عن العلم بالإنسان!

وما الذي يطلبه مستر دالاس كذلك؟

إنه يطلب منهجاً (لا يعطي الأولوية المطلقة لتنمية الحياة المادية للمجتمع مع إعطاء الروحية أهمية ثانوية، ولا يعتبر الإيمان أمراً ثانوياً يتعلق بالأفراد).

منهجاً (لا يقف موقفاً غامضاً من الإيمان وعلاقته بالنشاط الحيوي)..

منهجاً (لا يقوم على الفردية المطلقة - كما عرفتها التجربة الأمريكية - هذه الفردية التي يكون معناها في بعض الظروف: الموت المبكر)..

منهجاً (لا يخفق –بشكل يدعو إلى الرثاء ! – في أن يرى أن من الممكن الحصول على عدالة اجتماعية بدون ممارسة الإلحاد والمادية).

منهجاً (لا يفرق بين الدين وممارسة الدين. ولا يحطم الصلة بين الإيمان والعمل. ولا يزعم أن الإيمان لا يتمشى مع الظروف الحديثة).

منهجاً (يرفض أن يكون للأشياء المادية الأولوية ولا يجعل الروحية تابعة لها. ويرفض أن يعتبر العبودية والاستبداد صواباً - ولو في حالة استثنائية - ويرفض اعتبار الإنسان أداة إنتاج فحسب. ويرفض الرفاهية الاقتصادية على حساب الحرية الروحية والعقلية).

منهجاً يعيش الأفراد في المجتمع الذي يقوم عليه، إخواناً في الله. روابطهم الأخوية هي القيود التي تشدهم، والتي تحفظ مجتمعهم من الفردية الطاغية ومن الجماعية الطاغية كذلك.

منهجاً يظل الروح الإيماني فيه مهيمناً على المعرفة العلمية. فلا يطلب وقف تقدم المعرفة والعلم بحجة أنها بذاتها خطرة على الإيمان الديني!

وأخيراً .. يريد منهجاً يوضح العلاقة بين العقيدة والعمل، وتتطور فيه (العبادة) حتى يصبح العمل إحدى صورها ...

ولكن مستر دالاس يطلب هذا المنهج عند رجال الكنيسة الأمريكية، وعند الزعماء الروحيين في بلده ... على الرغم مما يعرفه من تاريخ الكنيسة الغربية، ومن (الفصام النكد) بينها وبين المجتمع، ورواسبه المريرة!

ولكن الذي ينبغي أن يكون واضحاً .. أنه لا (علم الإنسان) يملك أن يستجيب لصيحة دكتور كاريل، ولا الكنيسة وآباؤها الروحيون يملكون أن يستجيبوا لصيحة مستر دالاس!

إن هذه الصفات التي يطلبانها في (المخلص) لا تتوافر في أحد إلا في (هذا الدين). وإن هذا المنهج الذي يصفانه لا يملكه إلا الإسلام. من بين سائر المناهج والمذاهب والنظريات التي يعرفها بنو الإنسان!

ودكتور كاريل لا يتجه إلى هذا (المخلص) .. لأنه - على الرغم من سعة أفقه، ومن غزارة علمه - رجل أبيض .. يتجه بتمجيده كله للجنس الأبيض! ويؤلف كتابه لإنقاذ الجنس الأبيض! ويوجه اهتمامه لإنقاذ الجنس الأبيض من الانحلال والبوار.

والإسلام ليس من صنع الرجل الأبيض، ومن ثم لا يمكن أن يتجه إليه العالم العالمي الكبير!

ومستر دالاس كذلك لا يتجه إلى هذا (المخلص) لأنه فوق أنه (رجل أبيض)، فإن له مع هذا الدين شأناً .. إنه الرجل الذي قام بأكبر نصيب قام به سياسي عالمي في العصر الحديث في حرب الإسلام، وإقامة الأجهزة التي ترصد لهذا الدين في كل بقاع الأرض بلا استثناء، وتحاول أن تحل محله تصورات وقيماً أخرى من صنع الإنسان!

ولكن هذا الدين، هو وحده الذي يملك تلبية تلك الصرخات وهو وحده الذي تتحقق فيه هذه السمات. وهو وحده الذي توجد عنده هذه (الوصفة) اللازمة لشفاء بني الإنسان!

إن الإسلام منهج جديد للحياة غير الذي عرفته أوروبا وعرفه العالم في فترة الفصام النكد وقبلها وبعدها كذلك .. منهج أصيل، مستقل الجذور .. منهج شامل متكامل. وليس مجرد تعديل للحياة الراهنة وأوضاعها القائمة .. إنه منهج للتصور والاعتقاد؛ كما أنه منهج للعمل والواقع .. ومن ثم فهو - وحده - الكفء للاضطلاع بمهمة إعادة إنشاء الحياة البشرية على قاعدة جديدة.

لقد أخطأ المجتمع البشري طريقه. لا من يوم أن اتجه إلى تنمية علوم الجماد وترك علوم الإنسان بدون نماء .. ولا من يوم أن ترك الآلة تتحكم في حياته، وتكيفها هذا التكيف المناقض لطبيعة الإنسان .. ولا من يوم أن ترك النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحت رحمة المستغلين يوجهونها لغير صالح البشر، ولغير احتياجاتهم الحقيقية- كما يقرر دكتور كاريل ..

كلا! فهذه مراحل متأخرة في تاريخ الانحراف..

إنما أخطأ المجتمع طريقه يوم أن جعل تلك الملابسات النكدة التي صاحبت عصر الإحياء وعصر التنوير، وعصر النهضة الصناعية .. تصرفه عن منهج الله كله - لا عن تصورات الكنيسة وحدها- وتوقع (الفصام النكد) في حياته، بين التصور الاعتقادي الإلهي، ونظام الحياة الاجتماعي ..

ولم يعد ذلك الترقيع الجزئي عن طريق العناية بعلوم الحياة وعلوم الإنسان –كما يظن دكتور كاريل- فالناس لا يوجه حياتهم ولا يغيرها أن ( يعلموا ) ولكن يوجه حياتهم ويغيرها أن ( يعتقدوا ) والإنسان هو الإنسان!

ولقد انتظرت من دكتور كاريل - وهو يذكر "ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري" – أن يثب وثبة كاملة، فيخرج من قفصه الحديدي "العلمي"! ولكنه لم يستطع هذه الوثبة الكبرى وبقي داخل القفص، يهتف بصيحة الخطر الذي يراه يتهدد البشرية المسكينة الصائرة إلى البوار!

إن الحياة البشرية المهددة في حاجة إلى هذه الوثبة الكاملة، في حاجة إلى أن ترجع إلى فطرتها التي فطرها الله عليها. وهي لا يمكن أن ترجع إلى هذه الفطرة بمبادئ ونظريات أو وسائل تنبع من ذلك التصور الحضاري الذي يكمن فيه الخطر؛ والذي قام ابتداء على أصول معادية لينابيع لفطرة .. لابد من تصور جديد جدة حقيقية كاملة؛ يغير قاعدة الحياة من الأساس ويردها إلى الفطرة؛ ويقيمها على أساس آخر يتفق مع طبيعة التكوين الإنساني المتكامل؛ ومع الحقيقة الكونية – كما هي في الواقع لا كما تبدو من خلال المناظير الملونة، المصنوعة في معامل الحضارة المعادية!

إن علمنا القليل المحدود عن الكائن البشري - أو جهلنا المطبق بهذا الكائن البشري- كما وصفه هذا العالم العالمي الكبير، لا يسمح إطلاقاً بأن نكون نحن - البشر- الذي نتولى وضع (التصميم) الأساسي ابتداءً لحياة هذا الكائن .. ولو كان هذا مدى علمنا - أو مدى جهلنا - بجهاز مادي صغير، ما أمن صاحبه أن يتركه لنا لإصلاحه - بله تركيبه! - ولكننا بهذا الجهل – نتصدى لإقامة نظام (للإنسان) .. أعز وأثمن ما في هذه الأرض جميعاً! ولا نبالي ما يصيبه من جراء (هذا النظام!).

لقد أدركنا الغرور، ونحن نرى العقل البشري يبدع في عالم المادة، ويأتي بما يشبه الخوارق! فوهمنا أن العقل الذي يبدع الطائرة والصاروخ؛ ويحطم الذرة وينشئ القنبلة الأيدروجينية؛ ويعرف القوانين الطبيعية ويستخدمها في هذا الإبداع .. وهمنا أن هذا العقل جدير بأن نكل إليه كذلك وضع (نظام) الحياة البشرية .. وقواعد التصور والاعتقاد، وأسس الأخلاق والسلوك .. ناسين أنه حين يعمل في (عالم المادة) فإنه يعمل في عالم يمكن أن يعرفه، لأنه مجهز بإدراك قوانينه .. أما حين يعمل في (عالم الإنسان) فهو يعمل في متاهة واسعة بالقياس إليه! هو غير مجهز ابتداء بإدراك حقيقتها الهائلة الغامضة.

ومن عجب أن الذي يقرر هذه الحقيقة هو العالم العالمي الكبير الذي يطلب هذه الحقيقة عند (علم الإنسان)!!

وفي مقابل ذلك الوهم الكبير، يوجد وهم آخر كبير!

إن بعض الناس يظن أن هيمنة المنهج الإيماني على الحياة، من شأنه طرد العلوم المادية ونتائجها الحضارية من الحياة!

وهو وهم ساذج - على الرغم من أنه وهم كبير! - بل وهم مضحك! ولكنه - مع الأسف - يرتكن في الغرب وفي التاريخ الحضاري له، على واقع تاريخي طويل. حتى ليحتاج من مستر دالاس إلى ذلك الفصل المطول في كتابه: (حرب أم سلام) .. فصل: (حاجاتنا الروحية) الذي اقتطعنا منه في الفصل السابق تلك الصرخات؛ وتلك التحديات!

غير أن الأمر في المنهج الإلهي الصحيح ليس على هذا النحو .. إن (الدين) ليس بديلاً من العلم والحضارة. ولا عدوّاً للعلم والحضارة. إنما هو إطار للعلم والحضارة، ومحور للعلم والحضارة، ومنهج للعلم والحضارة في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم كل شؤون الحياة.

والإسلام - بالذات - كان هو الإعلان الشامل لحرية العقل البشري تجاه الكون المادي، وقوانينه، وقواه، ومدخراته. وكان الإيذان العام بانطلاق هذا العقل ليعمل ويبدع في ذلك الملك العريض الذي استخلفه ربه فيه. وكانت هذه إحدى الحقائق التي تضمنها التصور الإسلامي عن حقيقة علاقة الخلق بالخالق؛ ومركز الإنسان في هذا الكون، وحدود اختصاصه(17) .. ومن ثم ازدهرت في ظل الإسلام حضارة كاملة بكل مقوماتها الإبداعية التي كانت تتيحها لها الأدوات والوسائل في حينها -والأدوات والوسائل قابلة دائماً للتطور والترقي- والإسلام يدفع هذا النمو ويقوده، ولكنه يحفظه دائماً داخل إطار الفطرة؛ لا يصطدم بطبيعة الإنسان وخصائصه الثمينة، ولا يحطمها ويكبتها، كما يقرر دكتور كاريل عن الحضارة المعاصرة!

ولقد كان الإسلام هو الذي أنشأ - بطبيعة واقعية منهجه - المنهج التجريبي، الذي انتقل إلى أوربا من جامعات الأندلس؛ والذي أقام عليه (روجر بيكون) و (فرنسيس بيكون) - الذي يسمونه افتراء (أبا المنهج التجريبي) - منهجهما كما قرر ذلك بريفولت وجوهرنج من الكتاب الغربيين أنفسهم(18).

إن الإسلام يكل رسم (التصميم) الأساسي للحياة البشرية، إلى العلم الكامل الشامل، المبرأ من الجهل والقصور والهوى كذلك يكله إلى علم الله - سبحانه - بما أن الله هو الذي أبدع الكون وما فيه؛ وأبدع قوانينه وطاقاته؛ وأبدع الإنسان وزوده باستعداداته للعمل في مادة هذا الكون العريض .. وهو الذي يعلم - وحده - كل حقائق الكينونة البشرية وكل حقائق الطبيعة الكونية .. فهو- وحده - القادر على أن يصنع للإنسان نظام حياة؛ شاملاً لحياته الفردية والجماعية؛ ولحياته في الكون المحيط به .. عن (علم مطلق) يقابل (جهلنا المطبق) .. وفي الوقت ذاته لا يلغي العقل البشري - كما أرادت الكنيسة ذات يوم- هذه الأداة العظيمة، التي وهبها الله للإنسان ليعمل بها ويبدع؛ لا ليغلها أو يلغيها! وفقط يحوطها بالسياج الواقي من الهوى، ومن التهور، ومن الخبط في التيه، ومن النكسة والانحدار. ويضع لها المنهج الذي يقوّمها منها فلا تميل؛ ويهديها فلا تضل؛ ويكفل لها حريتها واستقامتها على السواء.

وبهذا يظل (الإنسان) هو سيد (المادة) بضمانة من المنهج الذي أبدعه له مبدع الإنسان والمادة. وبالتصور الذي يشعره بكرامته على الله؛ كما يشعره بعبوديته لله. وفي الوقت ذاته يشعره بأنه مستخلف في هذا الملك العريض ..

ومن هذا كله يتبين أن الإسلام - وحده - هو المنهج الذي يستصرخه مستر دالاس - ولكنه لا يتجه إليه!- المنهج الذي يملك أن يتقدم لتخليص البشرية من بربرية الحضارة الصناعية –كما يعبر دكتور كاريل - ومن مصيدة الشيوعية - كما يقول مستر دالاس- وأننا نحن أصحاب المنهج الإسلام - وحدنا - الذين نملك تلك الوثبة الكبرى!

إن هذه الحضارة الصناعية التي تحيط بالبشرية اليوم، تحطم أهم ما في كيان (الإنسان) وتحارب أرفع مقوماته الإنسانية، وفي الوقت الذي تقدم له تلك التسهيلات الرائعة - وإن كانت هذه التسهيلات قد تكون مؤذية لكيانه المادي ذاته - كما يقرر العالم العالمي الكبير، في مواضع شتى من كتابه القيم ..

والإسلام - بطبيعة تصوره لحقيقة الكون ودور الإنسان فيه، وبطبيعة منهجه الواقعي التجريبي- لن يعمد إلى المصانع فيحطمها! ولن يعمد إلى تلك التيسيرات التي تقدمها الصناعة للحياة البشرية فيلغيها!

ولكن الإسلام سيعمد - ابتداء - إلى تغيير النظرة إلى هذه الحضاريات وقيمتها .. سيمنحها قيمتها الحقيقية بلا مبالغة وبلا بخس كذلك! بحيث يصبح الروح الإنساني المؤمن هو المسيطر عليها. لا أن تكون هي المسيطرة عليه، وعلى تصوراته ومشاعره وأوضاعه وأنظمته ..

إن الإسلام سيقر في خلد الإنسان قيمته العلوية ومقوماته الكريمة .. سيستنقذ الروح الإنساني من المهانة التي فرضها عليه (دارون) و (كارل ماركس) وأشباههم! وعندئذ سيشعر أنه هو السيد، الذي ينبغي أن يسيطر على الآلة، وعلى الإبداع المادي، والحضارة ..

وحين يصبح الروح الإنساني المؤمن هو المسيطر، فيومئذ سيصبح متمتعاً بحريته - في إطار عقيدته - قادراً على الاختيار .. فالاختيار هو العنصر الهام الذي يفتقده الروح الإنساني الآن. وهو مجبر مقهور ذليل للآلة؛ وللتصورات المنبثقة من دورتها الآلية!

والقدرة على الاختيار ستتيح للروح الإنساني المؤمن، أن يستبعد العناصر الضارة في هذه الحضاريات، وينمي العناصر الصالحة، المتفقة مع الحاجات الحقيقية للكينونة الإنسانية. كما أن سيطرة الروح الإنساني المؤمن ستتيح له التحرر من الأوضاع المنافية لكرامته، ومن طرائق الإنتاج وأنظمه العمل التي تهدر فيها مقومات الإنسان الكريمة ، فليست طرائق الإنتاج وأنظمة العمل شرائع مقدسة! إنما هي مجرد وسائل استغلالية لتنمية مقادير الإنتاج المادي، على حساب المقومات الإنسانية! فإذا تقرر أن (الإنسان) أكرم وأغلى من (الأشياء) تغيرت طرائق الإنتاج وأنظمة العمل بحيث توائم بين وفرة الإنتاج ومقومات الإنسان الكريمة ..

وفي حالة نشأة تصورات وقيم جديدة، منبثقة من المنهج الإسلامي للحياة .. وما يتبع هذه النشأة من سيطرة الروح الإنساني المؤمن على الحضارة الصناعية وأدواتها وطرائقها، مع القدرة على الاختيار التي هي وليدة تلك السيطرة .. في هذه الحالة فقط يصبح المزيد من (علوم الإنسان) ذا قيمة حقيقية في إطار التصميم الكلي. كما يصبح من الممكن تلبية هتاف مستر دالاس إلى المنهج الذي يصف سماته، ولا يجده بين يديه؛ ولا تملك كنيسته ولا آباؤه الروحيون - وهو أحدهم! - أن تقدمه له!

ومن حسن الحظ أن الفطرة الإنسانية ذاتها- كما أبدعها الله- متناسقة مع فطرة الكون. وأن فطرة الكون، كفطرة الإنسان، تحتوي على عناصر الحركة والإبداع والنمو والترقي .. ومن ثم ستجد الفطرة أن الكثير من هذه الحضاريات يلبي ويتمشى مع حاجاتها الحقيقية المترقية .. ولن تصطدم إلا بما هو ضار بكينونة الإنسان ذاته. وهذا ما يجب أن يطرد وينفى .. وهذا ما يكفله منهج الله للحياة.. هذا الدين .. المخلِّص الذي يطلبه الغرب ولكنه يأباه !!!

المستَقبل لهذا الدّين

وحين يتقرر أن الإسلام هو - وحده - القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة، تدلف إليها مقودة بسلاسل الحضارة المادية البراقة. وهو - وحده - القادر على منحها المنهج الملائم لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقية. وهو - وحده - الذي ينسق بين خطاها في الإبداع المادي وخطاها في الاستشراف الروحي. وهو - وحده - الذي يملك أن يقيم لها نظاماً واقعياً للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط إلا في النظام الإسلامي - وحده - على مدى التاريخ ..

حين يتقرر هذا كله تتضح معه شناعة الجريمة التي يرتكبها - في حق البشرية كلها - أولئك الذين يوجهون الضربات الوحشية لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان - وفي أولهم مستر دالاس الذي يصرح ويستصرخ في طلب مثل هذا المنهج - والذين يجندون قواهم كلها، لطمس معالم المنهج الإسلامي، ومواراته عن أعين البشرية المتطلعة إلى منقذ، المتلفتة على (مخلص)، وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والأكاذيب!

إنها جريمة بشعة - في حق البشرية كلها - البشرية المسكينة المنكوبة بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقة - كما يقرر العالم الغربي الكبير- المهددة بغلبة الفلسفة المادية عليها - كما ينذر مستر دالاس – البشرية التي تدلف إلى الهاوية، مقودة بسلاسل هذه الحضارة المادية البراقة، وهي في كل لحظة تقترب من الهوة الرعيبة، ولا منقذ لها إلا هذا الدين، الذي يحاربه أعداء البشرية، في كل مكان على وجه الأرض، بشتى الخطط والمؤامرات والأساليب!

إلا أن هذه الحرب المشبوبة على الإسلام لا تفقدنا الثقة المطلقة في أن (المستقبل لهذا الدين).

لقد صمد الإسلام في حياته المديدة، لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية، التي توجه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان. وكافح - وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية- وانتصر، وبقى، وأبقى على شخصية الجماعات والأوطان، التي كان يحميها، وهو مجرد من السلاح!

إن الإسلام هو الذي حمى الوطن الإٍسلامي في الشرق من هجمات التتار؛ كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء .. ولو انتصر الصليبيون في الشرق كما انتصروا في الأندلس قديماً، أو كما انتصر الصهيونيون في فلسطين حديثاً، ما بقيت قومية عربية، ولا جنس عربي ولا وطن عربي .. والأندلس قديماً وفلسطين حديثاً كلاهما شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى فيها لغة ولا قومية، بعد اقتلاع الجذر الأصيل!

والمماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار، لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا من جنس التتار! ولكنهم صمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين، حمية للإسلام، لأنهم كانوا مسلمين! صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم (ابن تيمية) الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف!

ولقد حمى صلاح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها والعرب واللغة العربية .. وهو كردي لا عربي .. ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين. وكان الإسلام في ضميره هو الذين كافح الصليبيين. كما كان الإسلام في ضمير الظاهر بيبرس، والمظفر قطز، والملك الناصر .. هو الذي كافح التتار المتبربرين!

والإسلام هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاماً. وهو الذي استبقى أرومة العروبة فيها. حتى بعد أن تحطمت مقوماتها الممثلة في اللغة والثقافة، حينما اعتبرت فرنسا اللغة العربية –في الجزائر- لغة أجنبية محظوراً تعليمها! هنالك قام الإسلام - وحده - في الضمير، يكافح الغزاة، ويستعلي عليهم، ولا يحنى رأسه لهم لأنهم أعداؤه (الصليبيون)! وبهذا - وحده - بقيت روح المقاومة في الجزائر، حتى أزكتها من جديد الحركة الإسلامية التي قام بها عبد الحميد بن باديس، فأضاءت شعلتها من جديد .. وهذه الحقيقة التي حاول أن يطمسها المغفلون والمضلِّلون، يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيداً لأنهم (صليبيون)!

إنهم على يقين أن (الإسلام)، باستعلاء روحه على أعدائه، هو الذي يقف في طريقهم في الجزائر. ومن ثم يعلنونها حرباً على (المسلمين) .. لا على (العرب) ولا على (الجزائريين)!

والإسلام هو الذي هب في السودان في ثورة المهدي الكبير على الاحتلال البريطاني للقسم الشمالي من الوادي (مصر) ثم القسم الجنوبي (السودان) ومراجعة إعلانات (المهدي) الكبير ، ورسائل (عثمان دقنة) لكتشنر وكرومر وتوفيق، تشهد بحيوية هذا الباعث الأصيل.

والإسلام هو الذي كافح في برقة وطرابلس ضد الغزو الطلياني .. وفي أربطة السنوسية وزواياها نمت بذرة المقاومة. ومنها انبثق جهاد عمر المختار الباسل النبيل..

وأول انتفاضة في مراكش، كانت منبثقة من الروح الإسلامي. وكان (الظهير البربري) الذي سنه الفرنسيون سنة 1931 وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية، وفصلهم عن الشريعة الإسلامية .. هو الشرارة التي ألهبت كفاح مراكش ضد الفرنسيين.

لقد كافح الإٍسلام - وهو أعزل - لأن عنصر القوة كامن في طبيعته. كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية .. كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد؛ وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين .. كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلطين. فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته .. ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.

ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة، لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون!

ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل!

ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيماً أخرى، وتصورات أخرى، لا تمت بسبب إلى هذا المناضل العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!

إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي .. هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل..

ولكن الذي لا شك فيه - على الرغم من ذلك كله - هو أن (المستقبل لهذا الدين)..

( فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين. وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى - كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه ) .. كما قلنا في صدر هذا الكتاب..

ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو. فنكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة عن الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام:

بينما كان (سراقة بن مالك) يطارد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه - وهما مهاجران خفية عن أعين قريش .. وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول وصاحبه، طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد وصاحبه أو يخبر عنهما .. وبينما هو يهم بالرجوع –وقد عاهد النبي- صلى الله لعيه وسلم- أن يكفيهما من وراءه ..

في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا سراقة. كيف بك وسوارى كسرى؟ ) .. يعده سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! (ملك الملوك!).

والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة؛ حول هذا العرض العجيب؛ من ذلك المطارد الوحيد .. إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجــر - سرّا ً- معه!

ولكن كالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عارفاً بالحق الذي معه، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يومذاك .. وكان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل. وأنه لا يمكن أن يوجد (الحق) في صورته هذه، وأن يوجد (الباطل) في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون!

كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها، بحيث لا يصلها ري ولا سماد .. كانت قد خبثت بحيث يتحتم أن تجتث .. وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء .. وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين ..

نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته، وكل سماته. مع الجاهلية كلها من حولنا .. فلا يجوز - من ثم - أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة. العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا. على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا!

إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج، ليست بأقل من حاجتها يومذاك .. وإن وزن هذا المنهج اليوم - بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج - لا يقل عنه يومذاك ..

ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع. ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك، بسبب ما نراه من حولنا، من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية.. إن الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تكال للإسلام. إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات!

إننا لسنا وحدنا .. إن رصيد الفطرة معنا .. فطرة الكون وفطرة الإنسان .. وهو رصيد هائل ضخم .. أضخم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة .. ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة، فلا بد أن يكتب النصر للفطرة .. قصر الصراع أم طال(19).

أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا .. إن أمامنا كفاحاً مريراً شاقاً طويلاً. لاستنقاذ الفطرة من الركام. ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام.

كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له استعداداً طويلاً ..

يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين ..

نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بالله. وفي حقيقة معرفتنا بالله فإننا لن نؤمن به حق الإيمان حتى نعرفه حق المعرفة ..

ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا لله. فإننا لن نعرف الله حق المعرفة إلا إذا عبدناه حق العبادة.

ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا، ومعرفتنا لأساليب عصرنا .. ورحم الله رجلاً عرف زمانه واستقامت طريقته.

ونرتفع إلى مستواه في إحاطتنا لثقافة عصرنا وحضارته؛ وممارسة هذه الثقافة وهذه الحضارة ممارسة اختبار واختيار .. فإننا لا نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها وما ينبغي أن ندع، إلا إذا سيطرنا عليها بالمعرفة والخبرة. فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الاختيار ..

ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الحقيقية المتجددة، فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك!

وهذا كفاح مرير .. وكفاح طويل .. ولكنه كفاح بصير وفاح أصيل..

والله معنا .. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ..

وصدق الله العظيم.