الميزانين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الميزانين

31 ديسمبر 2009

بقلم: نيفين مسعد

فى كثير من الفنادق والمصالح يوجد طابق يطلق عليه اسم «الميزانين» أو الطابق المسحور، وهو طابق يقع بين الطابقين الأرضى والأول، ويوصف بالمسحور لأنه لا يتخذ رقما مستقلا وعادة ما تقدم فيه بعض الخدمات الإدارية. وللعجب فإنها على مدار الأيام العشرة الأخيرة تملكها إحساسا طاغيا بأنها تعيش فى طابق من هذا النوع ولكن لسبب لا علاقة له لا بالفندقة ولا بهندسة البناء من الأصل.

فجأة بدا وكأن العمارة التى تسكن فيها قد اجتاحها مرض إنفلونزا الخنازير، أصيب زوجان شابان بالمرض فى الطابق السادس الذى يعلو طابقها، وأصيبت أم صغيرة السن وابنها الطفل فى الطابق الرابع الواقع أسفل طابقها، وأحست أنها وأسرتها محشورون بين طابقين مُعتَلين، ويسكنون طابقا مسحورا أو بمعنى أوضح يودون لو كان مسحورا حتى لا تصيبه سهام الإنفلونزا اللعينة.

بدأت القصة مع جار الطابق السادس طبيب العيون الذى لا يعرف أحدا على وجه الدقة من أهداه تلك الهدية غير المرغوب فيها، وإن كان على الأرجح هو أحد مرضاه فى ذلك المستشفى الحكومى الشهير: ارتفاع فى درجة الحرارة وضيق فى التنفس ورشح، تحركت الهواجس وعرفت أول علبة من دواء التاميفلو طريقها إلى العمارة. لاحظ هنا أن تعاطى جرعة الدواء جاء بالتوازى مع أخذ مسحة من الزور لتحليلها فى أحد المعامل الخاصة أى قبل أن تظهر نتيجة التحليل ويتضح أنها إيجابية.

عرفت صاحبتنا من تكرار العدوى لاحقا أن هذا الأسلوب أى تعاطى التاميفلو قبل التحقق من المرض هو الأسلوب الأنجع فسرعان ما تماثل الطبيب الشاب للشفاء.

لاحظ هنا أيضا أن من تمرد على نصيحة الطبيب هو نفسه طبيب، وتلك فرصة لتقول إنها تأكدت فى أكثر من مناسبة أن نصائح الأطباء موجهة لمرضاهم لا لأنفسهم، وأن حديثهم عن أهمية الكشف الدورى وحماسهم للجراحة سببهما أن أجساد الآخرين هى التى تستلقى على طاولة الكشف وتخضع لمشرط الجراح، أما هم أنفسهم فيؤمنون بقاعدة «دع الصندوق مقفولا ــ يقصدون الجسد». لكن على أى حال فإن تلك قصة أخرى.

تمسكت الزوجة الوفية، وهى أيضا طبيبة، بملازمة زوجها وتمردت على كل الضغوط لإبعادها عن مرمى العدوى، فلم تغادر شقتها والتقطت الإنفلونزا مع الزوجة أيضا تكرر السيناريو السابق وإن تفاوتت الأعراض، ومثل زوجها استبقت نتيجة التحليل الإيجابية وتعاطت التاميفلو، فلم تمضِ أيام خمسة إلا وكانت تدير محرك سيارتها فى طريقها إلى العمل.

همس أحد الخبثاء من الوسط الطبى فى أذن صاحبتنا بتلك النميمة التالية: كل التحاليل تأتى إيجابية. سَألت: هو إذن دليل على سرعة انتشار المرض؟ جاءها الرد: هذا احتمال، أما الاحتمالان الآخران فهما إما وجود شبهة تواطؤ بين بعض المختبرات الخاصة وبعض الصيدليات، وإما الأخذ بالأحوط على أساس أنه خير لغير المريض أن يتعاطى العقار من ألا يتعاطاه المريض.

فى غضون يومين قفزت الإنفلونزا من الطابق السادس إلى الطابق الرابع وتمكنت من طفل لا يتجاوز عمره العامين، كيف انتقل المرض إلى هذا الصغير؟ عبر الأسانسير مثلا؟ ربما، وإن كان الصغير مقلا فى الخروج مع أهله بشكل ملحوظ، على أى حال إلى أن تثبت براءة الأسانسير قررت صاحبتنا أن تستخدم الَدرج.

مع الطفل المصاب ظهرت مشكلة البحث عن الدواء فشراب التاميفلو المخصص للأطفال لا يُصرف إلا فى قلة من مستشفيات الدولة المكتظة بحالات الإصابة، وأقراص التاميفلو ذات التركيز المخفف فى الصيدليات يصل ثمن العلبة منها إلى ستمائة جنيه، فضلا عن صعوبة تعاطيها بواسطة الأطفال.

لكن لا بأس فقد تحايلت الأم الشابة على الوضع وأفرغت محتويات الحبوب فى أكواب العصير، فتماثل الابن للشفاء وإن ارتبط لديه مذاق العصير بطعم الدواء فكره كل أنواع الشراب، والتقطت الأم العدوى.

عندما التقت صاحبتنا عامل الصيدلية عند مدخل العمارة كان يحمل العبوة الرابعة من عقار التاميفلو ولاحظت أنه يتلكأ بعض الشيئ قبل أن يوجه لها السؤال الذى يشغله: هى كل العمارة عيانة؟.. هزت صاحبتنا رأسها بالنفى، وقالت: لا دول ناس فى الدورين الرابع والسادس بس. اكتشفت أنها تحرك رأسها بشدة وأدركت أن ذلك كان من باب تأكيد النفى فقد كانت تحتاج إلى أن تطمئن نفسها قبل أن تهدئ من روع عامل الصيدلية.

استخلصت صاحبتنا من خبرة الأيام العشرة الماضية، ومن حالات الأنفلونزا الأربع حتى كتابة هذه السطور وربنا يستر، استخلصت أن الإلحاح على إشراك المعامل الخاصة فى التحليل كان جهادا فى غير معركة،فمن الناحية الفعلية لا قيمة لنتيجة فحص العينة، وعرفت أن فى السوق أنواعا عديدة من التاميفلو كالسويسرى والفرنسى والألمانى وحتى الباكستانى، وسألت نفسها: لماذا الباكستانى وليس التايوانى كما هى العادة مع بعض البضائع المقلدة؟ ولماذا الباكستانى وباكستان ليست من بؤر انتشار المرض بل إنه لو كان لأحد أن يجتهد فى مكافحة إنفلونزا الخنازير لوجب أن تكون المكسيك أول المجاهدين.

وتأكدت أن أرقام المصابين أكبر بما لا يقاس من تلك الأرقام الرسمية المعلنة ليس تعميما من حالة عمارتها، لكن لأن كثيرين من المعارف والأصدقاء فى بيئات مختلفة وأعمار مختلفة وبدرجات مناعة مختلفة أصابهم المرض، وتعجبت فى قرارة نفسها من قدرة الحكومة على أن تُكذب عيوننا وآذاننا.

خلت مصر من لحم الخنازير ومع ذلك انتشرت الإنفلونزا، فما الحكمة إذن من إلصاق المرض بالخنازير إن كان ينتقل عن غير طريقها؟ تَّذَكرت صاحبتنا التصريح الشهير لوزير الصحة عندما قال إن المرض قادم إلى مصر لا محالة وعندها فإننا «سنضرب لخمة»، وتساءلت طالما ينتقل المرض من شقة لأخرى بلا ضابط وطالما أن كثيرين منا غير قادرين على تحمل نفقات العلاج العالية، فهل يكون ذلك مقدمة للخمة التى حذرنا منها السيد الوزير، أم أن اللخمة موجودة فعلا على أرض الواقع مع أن الوضع وفق إعلام الدولة ما زال تحت السيطرة؟

المصدر