النظام الدولي.. من الفوضى إلى الهيمنة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مقالة-مراجعة.gif
النظام الدولي.. من الفوضى إلى الهيمنة

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

مقدمة

رسائل.gif

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..

مَن ينظر إلى سياسات الدول الكبرى يَلْحَظ وجود دعوات لفرض حالة فوضى، سواءٌ في العلاقات بين الدول أو في النظم السياسية المحلية، وهي دعواتٌ غريبةٌ وشاذةٌ في مضمونها ومحتواها؛ إذ إنها تهدف إلى تجاوز القواعد القانونية المتعارف عليها دوليًّا، وتسمح لنفسها بالتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى بشكل يؤدي إلى حدوث حالة اضطراب تفضي إلى هدر مقدرات وموارد الدول الصغيرة والمتوسطة، وبما يصب في مصلحة القوى المهيمنة.

الحرب العالمية الأولى والثانية

يُذكر أن النظام الدولي مرَّ بحالات فوضى كثيرة، عرَّضت العالمَ في النصف الأول من القرن المنقضي لحربَين عالميتَين، أدَّتا إلى موتِ وجرحِ وتشريدِ ملايينٍ من البشر وخلَّفَتا وراءَهما الكثيرَ من المآسي والآلام التي طالت البشرية جمعاء.

فبعد الحرب الأولى والتي أودت بحياة 10 مليون قتيل وضِعفِهم من الجرحى كان من الطبيعي أن يسود الاعتقاد بأن الحيلولة دون اندلاع فوضى عالمية جديدة سيكون هو الهدف الأساسي للسياسة الدولية للقوى الكبرى، إلا أن الترتيبات التي تبعت هذه الحرب قامت على الإجحاف في حق بعض الأمم؛ مما كان سببًا في اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد أقل من عشرين عامًا.

وعقب الحرب الثانية قامت الدول المنتصرة (دول الحلفاء) بالدعوة إلى إنشاء كيان دولي يقوم بإدارة نظام للأمن الجماعي يسمح بمنع نشوب حرب عالمية جديدة، ومن ثم تم تأسيس هيئة الأمم المتحدة..!!

توازن الرعب النووي.. ومرحلة الحرب الباردة

وإذا كانت هذه الهيئة لا تزال قائمةً حتى الآن وبعد مُضيِّ نحو 60 عامًا على إنشائها فإن الفضل في ذلك لا يعود إلى كفاءَتها وفاعلية نظام الأمن الجماعي الذي أسستْه، بقدر ما يعود إلى ما عُرف بتوازن الرعب النووي الذي حال دون اندلاع حرب عالمية ثالثة، وإن كان لم يمنع تفجر مئات الحروب الإقليمية التي خاضتها الشعوب الفقيرة في آسيا، أفريقية، وأمريكا اللاتينية، نيابةً عن القوى الكبرى في صراعها المستمر على الهيمنة والنفوذ.

ورغم أن الرغبة كانت تحدو البشرية بعد انتهاء الحرب الثانية في إقامة نظام دولي قوامُه العدل والمساواة واحترام سيادة الدول واستقلالها وخياراتها الثقافية، وتهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار والقضاء على التوتر في البيئة الدولية، وتوفير ظروف ملائمة لتعاوُن شعوب العالم في تحقيق التنمية والرخاء لجميع الأمم.. إلا أن ما حدث كان تأسيسًا لنظام افتَقد إلى العدالة ولم يراعِ سوى مساواة شكلية بين الدول، وفشَل في تحقيق الأمن والاستقرار، وشكَّل في بعض جوانبه امتدادًا للنظام الذي ساد في فترة ما بين الحربين.

فمشروع النظام الأساسي للأمم المتحدة صاغتْه الدول الثلاث الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتي، وأقرته فيما بينها قبل أن تعرضه على بقية الدول في مؤتمر سان فرانسيسكو التأسيسي، وكنتيجة لانفراد هذه الدول الثلاث، إضافةً إلى فرنسا والصين- التي ضمتها الدول الثلاث بمحض إرادتها إلى نادي الكبار- بكتابة الميثاق وهندسة معالم النظام الجديد حدث نوعٌ من التمييز بين مجموعة الدول الكبرى وباقي دول العالم.

فالدول الكبرى هي الدول الخمس التي حددها الميثاق وسمَّاها وميَّزها عن باقي الدول الأعضاء بأن جعلها تقوم بالدور الأساسي في حفظ الأمن الدولي، ومن ثم منحها مقاعد دائمةً في مجلس الأمن وحق الاعتراض على قراراته فيما ظلت باقي دول العالم ساحةً للصراع الدولي ووقودًا لنزاعات الدول الخمس الكبار؛ ونتيجةً للتغاضي عن حق الأمم الأخرى (غير الغربية) في التنمية المستقلة التي تتم وفق أنساقها القيمية والثقافية الخاصة بها، انقسم العالم إلى حفنة قليلة من الدول الغنية التي تجمعت في تكتلات تدعم مِن وضعها المتميز في قيادة الاقتصاد العالمي ومجموعة كبيرة من الدول الفقيرة العاجزة في ظل الترتيبات الاقتصادية العالمية القائمة والآليات التي يسير بها الاقتصاد العالمي عن تحقيق مستوى ملائم من التنمية والعدالة التي ترتقي بمستوى معيشة هذه الشعوب.

ومع الإعلان عن إنشاء حلفي الأطلسي ووارسو في عامي 1949، و 1955، دخل العالم مرحلة "حرب باردة"، سادتها الاضطرابات والفوضى نتيجةً لتقسيم العالم إلى مناطق للنفوذ بين المعسكرَين، وتحولت دول العالم النامي إلى ساحة مفتوحة للصراع بين القوى الكبرى؛ مما تسبب في شيوع حالة من عدم الاستقرار شهدتها مناطق عدة في العالم النامي، وهي حالة ساهمت في عدم تحقيق أهداف التنمية المنشودة داخلها، مع ما صاحب ذلك من وقوع هذه البلدان في فخ المديونية التي لا زالت تعاني منها حتى اليوم، وزيادة الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة؛ حيث ارتفعت من 1:16 في بداية الستينيات إلى 1:80 في مطلع القرن الحادي والعشرين.

النظام العالمي الجديد

ومع تفكك الكتلة الشيوعية وُلد نظام دولي جديد شهد تدخلاتٍ دوليةً متعددةً في شئون كثير من الدول، فقد تدخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر في أكثر من منطقة (الصومال، البلقان، أفريقيا، أفغانستان، العراق)، وفي أحيان أخرى دعمت اتجاهات انفصالية (حالة أكراد العراق) أو أجَّجت صراعاتٍ عرقيةً (نيجريا)، أو ضغطت لإقصاء قوى اجتماعية وسياسية داخلية (حالة المقاومة الإسلامية في فلسطين وحزب الله في لبنان)؛ ما أدى إلى وقوع العالم في حالة من الفوضى المستهدفة وضعته على حافة احتكاكات وحروب حضارية ستكون ولا شك أكثرَ الحروب ضراوةً في التاريخ.

ورغم أن انهيار المعسكر الشرقي كان بمثابة انتهاءٍ للقطبية الثنائية التي سادت مرحلة الحرب الباردة إلا أن العالم لم ينعم بالسلام الذي روَّج له متحمِّسو النظام الجديد، فلم تتوقف الحروب الأهلية بل زادت (18 حربًا أهليةً عام 1992)، وأصبحت تهدد كثيرًا من الدول، ليس فقط في العالم النامي بل وفي أوروبا أيضًا.

كما أخذ التنافس العالمي أشكالاً جديدةً، كان أبرزها زيادة حدة التنافس الاقتصادي وشراسة الحروب التجارية، وأخذت الهيمنة- أيضًا- صورًا شتى، كان أكثرها بروزًا في الحقبة الجديدة مساعي الهيمنة الثقافية، وفرض اقتصاد السوق والنظام السياسي الليبرالي على دول وشعوب العالم، دون اعتبار لخصوصية ثقافية أو اختلافات بيئية، إلى جانب إحداث فوضى داخل الدول لأجل مزيد من السيطرة والتحكم.

وتعد الولايات المتحدة هي القوة الأكثر تأثيرًا وتدخلاً، فحتى قبل احتلال العراق استغلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتطوير خطط وبرامج يطال تأثيرُها البنيةَ الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلدان الإسلامية.

مشروع الشرق الأوسط الكبير

فقد قامت الولايات المتحدة بطرح مشروع الشرق الأوسط الكبير كإطار يتم من خلاله إدارة المصالح الأمريكية في المنطقة، وتنظيم إجراء التغييرات المستهدفة في بلدان المشرق الإسلامي؛ ولا مانعَ لدى الإدارة الأمريكية الآن من تحمل حدوث نوع من "الفوضى" ببعض البلدان جرَّاء التدخل لتغيير البنى الأساسية بها في مقابل تكيف المنطقة مع الأهداف الأمريكية بعيدة المدى.

فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة والتحالف الغربي بقيادة العالم أصبح العالم الإسلامي هو المستهدف الأول من الغرب، وتحت ستار محاربة (الإرهاب) تم احتلال أفغانستان والعراق، وإطلاق يد الكيان الصهيوني في البطش بالفلسطينيين، كما زاد التدخل في الشئون الداخلية للبلدان الإسلامية بشكل يسعى للتأثير على هويتها وثقافتها، وقد أتاحت العولمة وإفرازاتها مجالاً واسعًا أمام الغرب للسيطرة الاقتصادية ودمج الاقتصاديات الإسلامية في النموذج الغربي.

الإرهابي الابن بوش

ويعد المنطلق الأساسي للسياسات الأمريكية الحالية هو الحرص على وصول العالم إلى العلمانية والليبرالية السياسية والحرية الاقتصادية؛ باعتبارهم نهاية التطور المحتوم للبشرية، وتعتمد هذه الرؤية على أن شيوع هذه الحالة يحقق مجموعةَ مصالح تضمن استمرار السيطرة والقيادة، فقدر ما مِن النمو الاقتصادي للبلدان النامية يوفر إنعاشًا لأسواق هذه الاقتصاديات، بما يسمح بسير عجلة التبادل التجاري الدولي بالشكل الذي يكرس التفوق الغربي ويحقق ما يمكن تسميته بالسيطرة الناعمة بدلاً من السيطرة الخشنة ذات التكلفة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأخلاقية المرتفعة، وهذا النوع من السيطرة يتطلب السماح بالتقدم بضعة خطواتٍ على سلم النمو لضمان المحافظة على المصالح الغربية على المدى الطويل.

وتعمل هذه السياسات على مسارَين: المسار الأول هو الحكومات، أما المسار الثاني وهو الأهم فهو المجتمعات، فالساحة التي ستتم عليها المواجهة هي المجتمعات وليست النظم، والمطلوب هو تغيير هوية الشعوب وليس أشخاص الحكام، والرهان هو على العمل في ظل ساحة مفتوحة للتنافس بين مشروعَين حضاريَّين:

الأول: هو المشروع الغربي الذي يشهد حاليًا أعلى درجات المد والنمو.

والثاني: هو المشروع الإسلامي الذي تبدو عليه عوامل الضعف والتراجع الحضاري، جرَّاء عوامل تراكمت على مدى قرون، إلا أنه يملك رغم ذلك إمكانياتٍ ذاتيةً تمكنه من العودة مرةً أخرى للإسهام بقسطٍ وافٍ في مسيرة التطور والحضارة الإنسانية، شرطَ أن يُدركَ المسلمون حجم التحديات التي تواجههم، وأن يحسنوا العودة إلى إسلامهم، وأن يؤسَّس النظام الدولي على قواعد من العدالة والأخلاق، تكفل لكل الدول والشعوب الحقوق الأساسية، ومنها الحق في الأمن، وحق الحرية، والحق في التنمية، والحق في الاستقلال والاستقرار.

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والله أكبر ولله الحمد.