بائع الورد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
بائع الورد

20 اغسطس 2009

بقلم: نيفين مسعد


اعتادت أن تتفقده كل يوم فى مكانه المحفوظ على كورنيش النيل وهى فى طريق عودتها من العمل، لم تكن تصادفه فى الصباح لأنها لا تذهب إلى عملها من هذا الطريق، لكنها فى كل المرات التى تركت مكتبها فى الساعة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة كان دائما هناك.

تضع المفتاح فى محرك سيارتها كل يوم وتنطلق قافلة من عملها، فلا تضع CD فيروز أو على الحجار إلا بعد أن تصادفه وتمازحه وتطمئن عليه ومن بعد تعطى قلبها وعقلها لملائكية الرحابنة وحكمة صلاح جاهين.

كان عم محمود كما أخبرها باسمه لاحقا عندما اقتربت منه وتعرفت عليه ودردشت معه يشبه كثيرا من المصريين، نحيل الجسم قصير القامة نصف حليق اقترب من نهاية عقده السابع بعام أو عامين، باختصار لا ملامح خاصة تميزه، حتى فكرت ذات مرة أنه لو طلب أحد منها أن تصفه فلن تستطيع، لكن لماذا تحاول وصفه طالما أن أحدا لن يطلب منها وصفه؟

بالتأكيد لا أحد سيطلب منها ذلك. كان عم محمود يبيع الورد فى حى يسكنه الدبلوماسيون وبقايا الطبقة الأرستقراطية المصرية القديمة، ويعلم أنه حيث يقف سيمر عليه المترددون على مستشفى قصر العينى وطلاب مدرستى الميردى ديو والإبراهيمية، وأن هؤلاء سوف يشترون منه الورد ويتهادون به ويتبادلونه بمناسبة عيد الحب أو بمناسبة الحب نفسه لكن فى غير عيد. اختار إذن عم محمود موقعه بعناية، لكن هل هو اختار فعلا؟

لم يتخلف عم محمود ولا يوم واحد عن حمل الورد، ولا غير شيئا من هيئته، يأتى الصيف ويروح ثم يجىء الشتاء ويذهب، وهو كما هو بلا برنيطة خوص تحمى رأسه الأشيب من لهيب الشمس أو سترة كاكى تقى جسمه الضامر من برد الشتاء، كانت الفصول عنده كأنما هى بلا ملامح مناخية، غريب أمر هذا الرجل.

كان عم محمود يبيع الورد فى زمن القبح الشديد فى الذوق والأخلاق والنفوس، بضاعته غير رائجة لكنه لا يستبدلها، ورده بلدى يتسق تماما مع هيئته وعمره أيضا فهل كان يقصد أن يتسق ؟..

مسكين عم محمود، لم يعد الورد البلدى وحده على الساحة فهناك أشكال وألوان من الورد المستورد يكلف العود الواحد منه خمسة وعشرين جنيها وربما أكثر، لكنه بهاء بلا رائحة، وجاذبية بلا روح، أما الورد البلدى فلا أطيب من رائحته ولا أزهى من ألوانه فقد كان عم محمود يحسن اختيار ألوان ورده ويجعل فيها الأحمر والأصفر وما عداهما يتغير، يخطف اللونان الأبصار من بعيد وينبهان قادة السيارات الناعسين بفعل إملال الزحام وبطء حركة السير، ينبهانهم إلى أنه هناك.

لم يكن عم محمود متسولا فى ثوب بائع كما يفعل كثيرون تجدهم فى الإشارات المكتظة يلوحون بالمناديل الورقية ولعب الأطفال ومستلزمات السيارات، ولا كان يلح على الناس كى يشترون منه كما يلح آخرون يبتزون قادة السيارات بعاهاتهم أو يحرجونهم بالتطلع فى فضول إلى ساندويتش هامبورجر يقضمه طفل صغير.

إنها تعلم علم اليقين أن هذا بالضبط هو الفقر الذى يُعوز شريحة واسعة بل وواسعة جدا من المصريين، لكن عم محمود كان يجسد معنى «نبيلا» ولعله استثنائيا للفقر ذلك هو معنى الفقر مع الكرامة، كان يلوح بورده الأحمر والأصفر ويترك قرار الشراء لمن يريد.

كانت تحب جدا فيه ذلك، وكانت تشترى منه بين يوم وآخر على حسب حالتها المزاجية، ولا أكثر تقلبا من مزاجها.

كان يدهشها أن ورد عم محمود دائما متفتح ونضر كأنه قطفه لتوه من حديقة وأكثر من مرة مازحته بالقول: ألن تخبرنى كيف تحافظ على نضارة وردك أيها الرجل الطيب؟ وبخفة دم فطرية وابتسامة واسعة تكشف عن سنة يتيمة فى فكه العلوى كان يرد: أبدا دا سر المهنة!

كان يرد؟ نعم كان، ففى ظهيرة أحد الأيام غادرت مكتبها كالعادة واتخذت طريقها إلى المنزل، ولم يكن عم محمود واقفا فى مكانه على الناصية، جالت ببصرها بين أرتال السيارات لعله يبيع أحدها وردا فلم يكن يبيع، تلفتت بحثا عمن تسأله فطاردتها كلاكسات بحر السيارات الذى يغمرها.

غاص قلبها وغالبت ظنونها، غدا تراه، غدا يظهر، غدا يجىء، لكن مر غد وثان وثالث واختفى عم محمود، ربما ذهب إلى غير رجعة ومعه سر نضارة ورده الأحمر والأصفر لم يبح به لمخلوق. عاد قادة السيارات إلى خمولهم وزحف الباعة المتسولون إلى المكان ولفها القبح كما لف الجميع.

المصدر