بحثًا عن الخلود

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
بحثًا عن الخلود

10 يونيو 2009

بقلم: نيفين مسعد

عادة ما تنتابنا حالة من عدم الاتزان النفسى فى أعقاب فقدان الأب، فالأب هو العزة والسند والحكمة وهو الصديق، نشعر أننا ريشة تذروها الرياح ويختفى إحساسنا بالأمان، ندخل فى نفق مظلم تعلوه لافتة لا شىء يهم، نتأكد أن الموت حق وأن الحياة لا قيمة لها ونفقد رغبتنا فى الناس والأشياء والوجود.

نحتاج وقتا يطول أو يقصر حسب درجة التصاقنا بآبائنا حتى نعتاد أن نستبدل بوجودهم صورة فى برواز، وبحكيهم حديث الروح، ونستخدم الفعل الماضى للتعبير عن أنهم كانوا وكنا.

يتركنا فقدان الآباء فى محنة وتتسرب برودة أطرافهم إلى خلايانا.

وعندما نفيق من ذهولنا، والبعض منا لا يفيق، ينتابنا هاجس جنونى هو هاجس تخليد ذكرى الأب. مع أن الأب مخلد فى أسمائنا ذكورا وأيضا إناثا، فبالنسبة لها فإنها تحترم جدا ذلك التقليد المميز لحضارتها الإسلامية الذى يجعل اسم الأب لصيقا باسم البنت وإن تزوجت، تعتبر هذا التقليد نوعا من العرفان بالجميل لمن ربى ورعى ولا تستكثر عليه أن يحتفظ ببصمته على ابنته مرة وإلى الأبد.

لكن التخليد بالاسم لا يكفى، فهو تخليد مكتسب لا حيلة فيه لمن يريد أن يقول شكرا لأبيه، لذلك فإنك سوف تجد من يخلد أبيه بصدقة نقدية جارية، أو بسبيل لرى المارة فى الطريق، أو بإهداء مكتبته إلى تلك الكلية التى تخرج فيها أو درّس فيها، أو ببناء مسجد أو بكفالة يتيم.

لكن أندر سبل التخليد وأدومها هو التخليد المؤسسى. هو نادر لأن العمل المؤسسى لم تتجذر بعد ثقافته فى مجتمعاتنا العربية التى تدور حول الأشخاص، وهو دائم لأنه يتجدد بتجدد الأجيال التى تؤم المؤسسة وتقصدها،ولأنه يضع أسسا وقواعد تستمر حين يغيب الآباء المؤسسون.

ومن وجهة نظرها فإن مؤسسة عبدالمنعم الصاوى أو ساقيته هى واحدة من أخلص جهود الأبناء لتخليد ذكرى آبائهم ولا تبالغ حين تقول من أنجحها. فإذا كان المسلسل التليفزيونى الشهير الذى جسد رواية الساقية قد عرف بصاحبها على نطاق أوسع من نطاق عشاق الأدب وقرائه، فإن مؤسسة الساقية قد نقلت ذكرى الروائى عبدالمنعم الصاوى من مستوى القراءة والمشاهدة إلى مستوى المعايشة، ونجحت فى أن تخلق علاقة انتماء بين المواطنين البسطاء وبين الساقية مقابل ثمن زهيد.

بدأت الساقية مشروعا متواضعا مطلا على نيل الزمالك، وبالتدريج اتسع المشروع واتخذ له فروعا خارج القاهرة. جسد المشروع فكرة المجمع الثقافى إذا جاز التعبير ففيه من الموسيقى والمسرح والتصوير والفن التشكيلى وصالونات الأدب والدين والسياسة الشىء الكثير.

شد إليه الأسرة المصرية بتقديم دروس للأبناء فى تعلم اللغة العربية والعزف على العود والحياكة والتجميل، وحاول أن يكسر الثنائية التقليدية التى تتجاذب المصريين ثنائية الإيغال فى الدين والتعصب للكرة بطرحه العلم والفن كبديلين.

وجمع بين عنصرى الأمة دون افتعال عبر مزج الإنشاد الصوفى بالترانيم القبطية، واستحدث مجموعة من الأطر المؤسسية التى تستوعب شرائح مختلفة من المصريين من خلال المهرجان والمسرح وفريق الكورال واللقاء الشهرى كما وضع قواعد للسلوك داخل الساقية تضمن احترام المكان وترفع الكارت الأحمر لمن ينتهك حرمته أو يحاول.

عندما بدأت تقصد الساقية نمت علاقة حميمة بينها وبين عبدالمنعم الصاوى بالتدريج، وهى علاقة لم تنشأ بينهما من قبل من خلال إنتاجه الأدبى ولا من خلال عمله السياسى لأسباب مختلفة،لكن وفاء الابن جذبها إلى المكان وصاحبه. فلماذا لم تنشأ مؤسسة بالحجم نفسه لتخليد ذكرى زعيم بقامة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر؟

سؤال طرحته على نفسها لأن المقارنة تفرض أن يسأل.هى تعرف كما يعرف غيرها كم تعبت الابنة الكبرى لعبدالناصر فى جمع تراث الأب من كل مكان استطاعت يدها أن تطاوله ولا عجب فإذا كان يقال إن كل فتاة بأبيها معجبة فما بالك إن كان الأب هو عبدالناصر، وتعرف أنه بجهد هذه الابنة الوفية أصبح لوالدها موقع يزوره كل من يريد أن يطلع على تفاصيل مرحلة سياسية مهمة من تاريخ مصر الحديث، كما تعرف أن ثمة محاولة جنينية لتحويل الموقع إلى نواة لمؤسسة تتجاوز التوثيق إلى أنشطة أكثر تعددا.

لكن العمل لايزال فى بدايته كما أن الإعلام عنه محدود بعكس مؤسسة الصاوى.

نجح مشروع مأسسة ذكرى الصاوى وراج لأنه مشروع ثقافى خالص، ولأنه مؤسس على عمل أدبى صار هو الأشهر بين كل أعمال الرجل. أما مشروع مأسسة ذكرى عبدالناصر فدونه كثير من العراقيل لأنه مشروع سياسى بامتياز، ولأنه مؤسس على تجربة سياسية لها خصومها تماما كما أن لها أنصارها بل إن انبهار بعض الأنصار بالتجربة لا يقل قوة عن اللدد فى عداء بعض الخصوم لها.

لم تتبلور مؤسسة عبدالناصر لأننا لسنا فى زمن عبدالناصر، ليس الزمن بمعنى التاريخ لكن الزمن بمعنى الفكر وبمعنى الرسالة. وسوف نجد أن أول جهد شبه مؤسسى لتخليد ذكرى هذا الرجل قد جاء عن غير طريق الابنة وفى غير الوطن الذى عاش فيه الرجل ومات، واقتصر على وقفية لتمويل أنشطة كلها يرتبط باسمه، ومن عجب أن صاحب الوقفية من أبناء المملكة العربية السعودية.

لديها ضعف خاص تجاه جهود الأبناء لتخليد ذكرى آبائهم لأن الأب كان له دور معتبر فى حياتها، ولأنها بعد عشر سنوات كاملة من غيابه عنها تحس أن منسوب العِرفان والحب له لم ينقص قطرة واحدة ولا حتى نقص منسوب الحنين. تود لو تستطيع ذات يوم أن تخلد ذكرى أبيها كما فعل الصاوى الابن ولكن فى تخصصه الذى نذر له حياته، فوالدها لم يكن أديبا لكنه رحمه الله كان قاضيا عادلا بقدر ما كان إنسانا جميلا.

المصدر