حول رؤية الشيخ الغنوشى للعلمانية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حول رؤية الشيخ الغنوشى للعلمانية
راشد-الغنوشى-مسئول-النهضة-التونسية.png

د رفيق عبد السلام

كتب الاستاذ غازي التوبة على صفحات الجزيرة نت ردا على مقال الشيخ راشد الغنوشي الإسلام والعلمانية"، وقد جاء هذا الرد طافحا بالاختزال والتعميم، فضلا عما خالطه من تبن لتصورات أقل ما يقال عنها أنها مضرة ب الإسلام ومهددة لاستقرار المجتمعات الإسلامية في الصميم، فقد أراد د.غازي التوبة أن ينقض المقدمات النظرية المركبة التي بنى على ضوئها الشيخ الغنوشي مقاربته للعلمانية لينتهي به المطاف إلى بناء مقدمات هشة والوصول إلى نتائج ضعيفة لا تصمد أمام البحث العلمي الرصين.

لم يكن غرض الغنوشي من كتابة هذا المقال تقديم قصيدة مدح في العلمانية والعلمانيين، فالرجل لا ينتظر منه ذلك وهو الذي أمضى ما يربو عن ثلثي عمره في تصدر المعركة ضد ما أسماه بالتسلط العلماني في تونس وفي غيرها من البلاد العربية، وكتاباته شاهدة، بل كان غرض المقال واضحا في تقديم رؤية اجتهادية جادة لقضية كانت ومازالت تشغل قطاعا واسعا من النخب العربية والإسلامية، وأن يصدر مثل هذا المقال عن أحدى الشخصيات الفكرية والزعامات السياسية الإسلامية مثل الشيخ الغنوشي فهو أمر يستحق الثناء بدل هذا التحامل والقذف في وجهه بتهمة العلمانية، أو إثارة هذه الشبهة أصلا.

ما ذهب إليه الشيخ الغنوشي من أن العلمانية كانت في أصلها عبارة عن تسوية سياسية وحلا إجرائيا هو عين الصواب، وليس الامر كما ذهب اليه الاستاذ التوبة من كون البعد الفكري والفلسفي كان مزامنا للعلمانية ابتداء، فذلك ادعاء لا تشهد عليه معطيات التاريخ الغربي وسياقاته العامة.

لقد تبين لي فعلا من خلال بحثي لأطروحة الدكتوراه التي استغرقت ما يزيد عن سبع سنوات متتالية والتي نشرتها فيما بعد تحت عنوان "في العلمانية والدين والديمقراطية" أن العلمانية كانت فعلا عبارة عن حل عملي فرضته أجواء الحروب الدينية التي شقت عموم القارة الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ولم تكن منتج نظريات فلسفية جاهزة ، أي هي في أصلها محاولة للسيطرة على داء الانقسام الديني والأفكار الفتنوية التي مزقت النسيج الديني والسياسي لعموم القارة الأوروبية قبل أن تكون مشروعا فلسفيا أو نظرية محددة في الدين والعقائد وإن أخذت هذا المنحى في بعض الوجوه لاحقا.

مرت أوروبا وعلى امتداد مائة وثلاثين سنة متتالية ( 1559-1689) أي منذ ظهور الحركة البروتستنانتية في الشمال الأوروبي، ومنه محاولة التمدد نحو الوسط، بحالة واسعة من الاضطرابات السياسية والحروب الدينية المفزعة.

ففرنسا مثلا امتدت حروبها الدينية زهاء ست وثلاثين سنة تقريباً (ما بين 1562 إلى 1598) قبل أن تتجدد مرة أخرى في القرن السابع عشر، مخلفة وراءها ركاماً هائلاً من القتل والتدمير والانتقام المتبادل بين الأغلبية الكاثوليكية والطائفة البروتستانتية الكالفينية.

أما ألمانيا فقد امتدت حربها الدينية هي الأخرى ما بين 1618 إلى 1648 في إطار ما عرف وقتها بحرب الثلاثين سنة.

ورغم أن حروب بريطانيا وثوراتها الداخلية لم تكن لأسباب دينية محضة، إلا أن العامل الديني لم يكن غائباً عنها تماماً، سواء أكان ذلك فيما عرف وقتئذ بالثورة الطهورية التي امتدت ما بين 1660 إلى غاية 1688، أم ثورة المجد ما بين سنتي 1688-1689. وقد مرت اسبانيا والنمسا وأغلب ممالك أوروبا الغربية بأجواء مشابهة تقريباً.

وفي مواجهة ذلك حاولت الكنيسة الكاثوليكية منذ أواسط القرن السادس عشر وإلى غاية منتصف القرن السابع عشر استعادة وحدة المسيحية البابوية بكل ما هو متاح من أدوات القتل والانتقام وألوان التنكيل ولكن مع ذلك ظل الشرخ عميقاً ولم تقدر على رأبه أو إلغائه، بل زادت الكنيسة من استفحال الأزمة بدل مداواتها.

وتبعاً لذلك فقدت الكنيسة قدرتها على ضمان التوحّد الاجتماعي و السياسي.

لقد انتهى الحل العلماني هنا إلى إفراز حقيقتين أخذتا في التبلور إن على صعيد الفكر أو الممارسة السياسية في عموم القارة الأوروبية، أولهما إحلال سلطة الدولة فوق سلطة الكنيسة في إطار مقولة أن الدولة تقع فوق الكنيسة والكنيسة تحت طائلة الدولة، ثانيا تبلور ما يمكن تسميته بالحل الهوبسي (نسبة إلى الفيلسوف الأنجليزي هوبس في القرن 17 والذي عاصر الحروب الدينية) القائم على تجريد الناس من كل ما بين أيديهم من أسلحة وأدوات قوة ووضعها تحت تصرف الدولة باعتبارها حامية ما يسمى بالسلم المدني، في إطار ما صار يعرف فيما بعد الاستخدام المشروع للعنف من طرف الدولة الحديثة، وقد أدى ذلك فيما أدى إليه إلى تشكل الممالك الإطلاقية المرعبة.

إذا تجاوزنا المصطلحات المستخدمة أو طبيعة النموذج النظري الذي استند له الغنوشي فيما يتعلق بمقولة العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة والذي استعاره من المرحوم المسيري، فإن الأهم من كل ذلك هو أنه أراد أن يخرج من دائرة التعميم إلى التدقيق والتفصيل في هذا المبحث (ولا علم إلا بالجزئيات والتفاصيل)، فيلفت انتباه القراء (ومنهم الاستاذ غازي التوبة) إلى كون العلمانية ليست على نمط واحد أو صورة واحدة بل هناك علمانيات متنوعة ومتعددة، بعضها شمولي متطرف، وبعضها الآخر معتدل، مثلما أن هناك علمانيات تصالحية وتوافقية مع الدين وعلمانيات أخرى ذات نزوعات دهرية جذرية ومعادية للدين وأهله ، وحتى لا يعسر الأمر أكثر على أحد يكفي أن يقارن بين العلمانية الدهرية السوفييتية واللائكية الفرنسية مع العلمانية الأمريكية مثلا، حتى يدرك حجم المسافات والفوارق، فبينما عملت العلمانية الفرنسية والشيوعية على إخلاء المجال العام من كل مظاهر الحضور الديني لصالح تصورات دهرية ومادية جامحة سواء أكان ذلك على صعيد الوعي الفردي والجماعي أم على صعيد الفضاء العام اكتفت العلمانية الأمريكية بإقامة ما أسماه الدستور الأمريكي بإقامة جدار جفرسون الفاصل بين الكنيسة والدولة، بل إنه لا يمكن تصور ظاهرة المحافظين الجدد مثلا من دون الدور المتعاظم الذي تمارسه الكنائس الانجيلية خاصة في الحزام الجنوبي الأمريكي.

وقد سبق للمؤرخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل الذي عاصر وأرخ للثورة الأمريكية أن نبه إلى حقيقة مهمة ومازالت ماثلة إلى يومنا هذا وهي كون الكنيسة تعد أهم مؤسسة سياسية في الولايات المتحدة الأمريكية.

طبعا لا السيد غازي التوبة ولا الغنوشي قد طالب بتبني نموذج العلمانية الجزئية أو اعتبارها الحل السحري أو المثالي لأوضاعنا، فإحدى آفاتنا الكبرى تعود إلى التعلق بالنماذج الجاهزة، ولكن ما هو مطلوب منا جميعا هو فهم الظواهر الكبرى في تعقيداتها وألوانها المختلفة قبل التسرع في إطلاق الأحكام وبناء النتائج الخاطئة.

إنه لأمر مفزع فعلا أن يتم تحويل دائرة النقاش حول قضايا فكرية شائكة إلى ضرب من التقابل الثنائي والحدّي بين من يدافع عن الدين والشريعة من جهة، وبين من ينافح عن العلمانية واللادينية من جهة أخرى، فما عرف الشيخ غازي التوبة بأكثر حمية على الدين من الشيخ الغنوشي، ولا الشيخ الغنوشي بأكثر إسلامية من الشيخ غازي التوبة، القضية المطروحة هنا وتتعلق بمدى تدخل الدولة في الشان الديني، تظل في نهاية المطاف موضع اجتهاد وتقدير في الرأي وليست موضعا للحل والحرمة على نحو مما ذهب إلى ذلك الاستاذ غازي التوبة.

القضية الأخرى التي توقف عندها الاستاذ غازي التوبة وأراد أن يجعل منها أم معاركه ومنازلاته الكبرى ، هي كون الغنوشي قد ميز بين الديني والسياسي ومن ثم اتهامه ضمنا أو صراحة بالدعوة إلى الحل العلماني، والجواب على ذلك هو أن التمييز لا يعني الفصل ضرورة، ولا هو يعني تبني الرؤية العلمانية، فكل المجتمعات، وخصوصا في عصرنا الراهن، تقوم على التمييز الوظيفي بين حقول اجتماعية وسياسية مختلفة، وخاصة في ظل حالة التركيب والتعقيد التي باتت تطبع الاجتماع السياسي الحديث. لم يعد من الممكن اليوم الجمع بين كل الوظائف والمهام في شخص واحد أو هيئة واحدة، فليس مطلوبا من المشايخ والعلماء أن يتولوا مهام رجال الدولة وبيروقراطها، ولا هو مطلوب من هؤلاء أن يحلوا محل رجالات الفتوى والفقه ، كل ميسر لما خلق له. بل إن وضعنا الراهن في العالم الإسلامي أدعى إلى رفع الصوت عاليا في المطالبة بإبعاد الدولة عن التحكم في الدين وتوظيفه في التسلط على المجتمع ، وذلك بالتمييز ما أمكن بين مختلف المجالات والحقول درءا لشر هذه الدولة وآفة تسلطها على الدين وعلى كل شيء، بدل المناداة بجمع كل شيء تحت سلطة واحدة أو إمرة رجل واحد (ولو كان الخليفةالفرد العالم المجتهد الذي يحلم به البعض)

وهب أن الدولة الإسلامية تطبق أحكام الشريعة فهل يعطيها ذلك عصمة أو قدسية خاصة على نحو ما توحي بذلك قراءة الأستاذ غازي التوبة.

الخشية هنا أن يتم تحت عنوان شمولية الإسلام وعلاقة الدين بالسياسة إكساء الدولة طابعا قدسيا، إذ يغدو وقتها معارضة هذه الدولة ضربا من محاربة الدين والتطاول على المحرمات، وهو ما نبه إليه الشيخ الغنوشي فعلا.

يجب أن يتم التخلي فعلا عن هذا التصور المثالي للدولة الإسلامية الذي يرى فيها مجالا لتجسد الفضائل الدينية والروحية، مقابل التأكيد على كونها وأيا كان شكلها ولونها تميل بطبعها إلى الانفراد والهيمنة بحسب القاعدة الخلدونية الذهبية (الملك يميل للمجد والانفراد)، وأن تطبق هذه الدولة أحكام الشريعة على النحو الذي يتصوره أو يختزله غازي التوبة في "أحكام الحدود والمال والأسرة" فلن يجعلها ضرورة مبرأة أو محصنة من آفة الاستبداد والانزلاق نحو التسلط سواء باسم الدين أو باسم أي إدعاءات أخرى، فالتزام دول الاسلام قديما وعلى نحو ما حديثا بذلك لم يمنعها غالبا من الاستبداد والعدوان باسم الدين على الأنفس والأعراض والأموال.

بل أقول هنا إن هذه النزعة الدولتية (أي التعلق بالدولة) مدمرة للدين ومفسدة للسياسة على السواء والمطلوب الحذر منها اليوم قبل الغد حتى لا نتمادى أكثر في التعلق بالأوهام والأحلام الكاذبة.

الشريعة ليست إيديلوجيا دولة ولا هي مدونة ضبط قانوني وعقابي بل هي أولا وقبل كل شيء خطاب الأمة والمجتمع ومصدر قيمها العام ونهجها الأقوم لتحقيق العدل.

التاريخ ليس مجالا لتجلي الرغبات والأماني الفردية أو الجماعية على نحو ما يتصور ذلك الأستاذ غازي التوبة من خلال تشبثه بما يجب أن يكون لا بما كان فعلا ، بل يجب أن يدرس بأكبر قدر ممكن من التجرد وإرادة الفهم والاعتبار ، وما ذهب إليه الشيخ الغنوشي هو الأقرب إلى الحقيقة التاريخية، فقد تبلور في تاريخنا الإسلامي ضرب من التمايز بين الدين والدولة أو بصيغة أكثر وضوحا ودقة تبلور نوع من تقاسم الوظائف بين ما سمي بأهل السيف وأهل القلم أي بين وظائف الحكام والسلاطين ووظائف الفقه والعلم الشرعي ، وقد كان العلماء والفقهاء قبل غيرهم هم من طالب بكف يدي الدولة عن التدخل في الحقل الديني مكتفين بحملها على الالتزام بأسس الشريعة وعدم التدخل في شؤون الاعتقاد والخيارات الفقهية والمذهبية، وقد كان من نتائج ذلك تبلور مجتمع أهلي إسلامي بالغ الثراء والتنوع والاستقلال قوامه شبكة واسعة من الأوقاف والمدارس والمساجد والأسواق بعيدا عن أهواء الحكام ومفاسدهم، ولعله لهذا السبب بالذات أمكن ضمان استقرار المجتمعات الإسلامية وانتظام وظائفها وحركة سيرها بمعزل عن تقلبات السلاطين والأمراء والسلالات الحاكمة المتقلبة والمتنازعة فيما بينها، ولو ترك مصير المجتمعات الإسلامية لأهواء هؤلاء لما بقي لنا ما نحفظه من ميراث تاريخنا السياسي غير أخبار صراعات السلاطين والأمراء وسل السيوف في وجه بعضهم البعض.

ومن المهم لفت انتباه الأستاذ غازي التوبة بأن تاريخنا السياسي لا يقرأ من خلال مدونات الآداب السلطانية التي هي في جوهرها إعادة إنتاج لمرايا ونصائح الملوك المنحدرة من الآداب الساسانية الفارسية والرومانية القديمة ولا صلة لها بفلسفة الإسلام السياسية من قريب أو بعيد.

وهب أن ما قاله أسلافنا من رجال السياسة الشرعية والآداب السلطانية هو عين الصواب، فالحق أن واقع الدولة الحديثة التي نعيش تحت ظلالها اليوم وربما نكتوي بنارها لا صلة لها من قريب أو بعيد بمدونات الأسلاف، ولا بواقع الدولة السلطانية القديمة. يجب أن نكف عن هذا الإسقاط التاريخي الذي لا يسمح لنا بفهم تجربتنا التاريخية ولا بحسن قراءة واقعنا السياسي الراهن.

وإذا كان ابن حنبل قد اعترض على المأمون لأنه أراد فرض عقيدة فاسدة ورأي خاطئ على الأمة فماذا يقول الاستاذ في الأمام مالك ابن أنس الذي رفض اعتماد الخلافة موطإه رسميا في مختلف الأمصار شريعة لها، هل كان يعتقد هو الآخر بفساد رأيه وانحراف فقهه؟

وأخيرا يمكن القول أن عصارة ما طرحه الأستاذ غازي التوبة يتلخص في شن حرب لا هوادة فيها على أي صورة لحياد الدولة، باسم تطبيق الشريعة ، حرب على أي شكل من أشكال التمييز بين الوظائف والحقول السياسية والاجتماعية، حرب ضد نسبية الحقيقة باسم تطبيق الرأي الصحيح، أما البديل الذي يبشرنا به أو يريد إقناعنا به فهو الدولة التدخلية باسم تطبيق صارم للشريعة،يصادر كل معنى للحرية وللتعددية وللتعايش مع القوى الحديثة في مجتمعاتنا بل حتى مع المذاهب الاسلامية المخالفة التي نجحت مجتمعاتنا التقليدية في احتضانها ضمن تصور رحب للشريعة أفسح المجال أمام بسبب تمايز نسبي بين السياسي والديني.

ولعل هذا ما يسمح بالقول بأن الخشية الزائدة على مجتمعاتنا لا تتأتى فقط من العلمانية والعلمانيين، بل قد تتأتى أشد من ذلك من مثل هذه الأطروحات التي تريد أن تجعل من الإسلام أقفاصا حديدية وباعثا على الشقاق والانقسام، وهو ما يؤكد صحة ما ذكرناه في مقال سابق بأن التشدد الديني هو المغذي الأكبر للحل العلماني في منطقتنا.

وتقدّم الحالة العراقية تحت حكم الاحزاب الاسلامية وكذا الحالة الافغانية تحت حكم أحزاب المجاهدين سابقا شواهد حية على عجز التصورات الدينية المغلقة عن توليد الاجماع، بما ينادي الى الحل العلماني في غياب تصور اسلامي كفيل باستيعاب ما تحفل به مجتمعاتنا من تنوع وتعدد.

المصدر

للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي

مؤلفات وكتابات الشيخ راشد الغنوشي

.

أقرأ-أيضًا.png

مفات متعلقة

مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

ألبوم صور الشيخ

وصلات فيديو

تابع وصلات فيديو

.

أقرأ-أيضًا.png
ملف الإخوان في تونس

.