خسائر الانشقاق(7): الثبات والوفاء 3/3

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
خسائر الانشقاق(7): الثبات والوفاء 3/3
نحناح9.jpg

بقلم: علي حلواجي

على الطريقة الحذيفية(حذيفة بن اليمان رضي الله عنه) تستمر هذه السلسلة في كشف ما يُخشى تكرار الوقوع فيه من خسائر ضارة بالمشروع الذي يفترض أن يكون كل صادق في الانتماء إليه قد نذر حياته من أجل تحقيقه وتحصينه والدفاع عنه... وهو العمل الذي نسأل الله عز وجل أن يكون إنتاجه والاطلاع عليه قربة مقبولة في هذه الأيام المباركة.

هـ - مظـاهر الخســائر:

بعد ما أثبتنا أن من خسائر الانشقاق كونه يتنافى والثبات والوفاء الكاملين على أهميتهما نؤكد الآن هذه الفكرة بتفصيل مظاهر هذا النوع من الخسائر:

1ـ نقض العهد:

بمجرد ذهاب الثبات يكون قد حصل نقض العهد لأن محتوى العهد هو مواصلة العمل والاستمرارية عليه ، وعدم الثبات هو انقطاع أو اضطراب في العمل على النهج السليم، إلا أن هناك من يعلن ذلك قولا وفعلا، وهذا لا نقاش فيه، وهناك من تظهر في حقه شبهه نقض العهد عمليا فقط وذلك بالتخلي عمن كان يعمل معهم(بالكيفية المشروحة سابقا) مع إعلانه أنه على العهد مع جهات أعلى وهذه الحالة هي التي تحتاج إلى وقفة نؤكد فيها هذه الشبهة ليس من باب الفتوى الشرعية ولكن من باب تحليل ما هو ظاهر ومعلوم ، وذلك من وجهين:

- الوجه الأول : يتضح بمثال من الحياة ، فلو أن شخصين أو أكثر انطلقا في عمل واحد لتحقيق أهداف مشتركة ، وقبل النهاية انقطع بعضهم عن العمل المشترك وانشغل بغيره وربما أخذ معه بعض الزاد والوسائل اللازمة وتخلى عن تحمل أعباء بلوغ الهدف مع من انطلق معهم فسبّب لهم حرجا ومشقة، فلا شك أن ذلك يعد نقيصة منافية للوفاء.

- والوجه الآخر: تنظمي ، فإن الأصل في العهود التي نعرفها تتم على مستوى رقعة جغرافية واحدة مع من يمثل ذلك التنظيم ، فإذا حدث خلاف ذلك فإنه خلل قد يدخل فيه ما يشبه التحايل الذي يتنافى مع الوفاء والصدق أيضا ، وهنا نحتاج إلى التذكير بقول الإمام على (رضي الله عنه) الذي يتحدث فيه عن أهل زمانه الذين يتخذون عدم الوفاء حكمة وحسن حيلة كما تُفهم السياسة في زماننا الحالي، فيقول :

«إن الوفاء توأم الصدق [أي هما قرينان] ولا وأعلم جُنة [وقاية] أوفى منه ، ولا يغدر من علم كيف المرجع [إلى الله]،ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا[ذكاء وحكمة]ونسبهم أهل الجهل إلى حسن الحلية .. قد يرى الحوّل القلّب [البصير بتحويل الأمور وتقليبها] وجه الحلية ودونه مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة [لا حرج] له في الدين»(ج.2/205)*

كما نذكّر أيضا بما جاء في الظلال في قوله تعالى : (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ )النحل91

«والوفاء بعهد الله إذا عاهدتم ، يشمل بيعة المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل كل عهد على معروف يأمر به الله »(14/93)

وفي قوله تعالى :( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ )النحل92 «فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي ، تفتل غزلها ، ثم تنقضه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة » (14-94)

وشتان بين خسارة غزْل وخسارة دين أو حركة تعمل له!!

2- كفران العشير:

إن المنقطع عن العمل مع من كان يعمل معهم يؤول حتما إلى نسيان ودّ ومحبة أناس كُثر كان قد عاشرهم وألفهم وألفوه وتبادلوا معا الحلو والمر، وينسى بذلك جميلا واسعا وفضلا كبيرا قد وصله منهم، كجماعة أو كأفراد ، وقد نهانا القرآن عن ذلك فقال :( وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)البقرة237

فهذا النوع من النسيان صفة ذميمة - والعياذ بالله- تسمى " كفران العشير" وقد جاءت في الحديث الصحيح أنها سبب من سببين يكثر بهما وجود النساء في النار «...تكفرن العشير وتكثرن اللعن» .

وفي فتح البارئ «"تكفرن العشير"أي تجحدن حق الخليط - وهو الزوج - أو أعمّ من ذلك » (1/406) .

وفي واقعنا المرّ صور مؤسفة نراها لا تؤدي إلا إلى هذه الصفة . فلك أن تتصور حالة ذلك الأخ الذي كنت تكاد تقضي كل الليالي في العمل معه وقد كدت بعد الانشقاق لا تراه في السنة مرة ، حتى صار المثل الذي يضربه العامة عندنا حقيقة ملموسة وهو:« الأحباب عادوا معارف»!!

ولعل العامة أكثر ورعا(مع شيء من الغلو) من بعض الخاصة في هذا المجال فهم يعظمون "العِشرة " لدرجة القداسة والحلف بها أحيانا ، ويرمزون لها "بالملح" كناية على الطعام الذي تناوله الخلطاء معا، مثلما يكنون على قرابة الرحم "بالدم " .

وإنا لنسأل أمام الله المتسببين في ما حدث عن الحالة التي آلت إليها أوضاعنا، وإنا لنسألهم عن العواطف التي كانت بيننا فأما توها باستهانة سخيفة .. فحسبنا الله ونعم الوكيل!!.

وقد عبّر الشافعي (رحمه الله)عن هذه المعاني بطريقة أخرى فقال في قولته المشهورة :«الحر من راعى وداد لحظة ،أو انتمى لمن أفاده لفظه » وعلق الراشد (حفظه الله) على هذا القول تعليقا حركيا يصلح أن يسمعه الصنف المجاهر بالانشقاق على الخصوص :فقال «وهذه الدعوة علمتك دهرا معنى الوداد ، وأفادتك كل الألفاظ لا مجرد لفظة ،[ونقرّ بهذا] فإن كنت حرا راعيت ودادها ، وأخلصت لها ، وابتعدت عن فتن تتربص بها وإن سلبك الانتصار للنفس حريتك فشأنك وما اخترت ولا ينتصب أحد لفتنة بعد ستر ، ولا يكسل كسلان فينقطع ويترك وستبدل أصحابا بأصحاب ،إلا لنقص معنى الحرية فيه، وإلا لتقمّصه بعض أثواب عبودية الدنيا »(هـ.11)

3- خسارة ركن :

إن خسارة "الثبات " هي خسارة ركن من أركان الدعوة كما صار واضحا (في مستوى معين على الأقل)، ولا تخفى على أحد خطورة وضعية البناية إذا انهد أو تزعزع ركن من أركانها .

هذا بركن واحد .. فكيف بركن وركن وآخر.. وقد سبق الكلام عن ركني الأخوة والجهاد كخسائر ولعلها تكون لنا فرصة للكلام عن وضعية سائر الأركان في الانشقاق ، ونكتفي الآن بنقل ما قاله سعيد حوى (رحمه الله) عن ضرر فقدان الثبات :«لنفترض أن كل من حمل الدعوة سار بها زمنا وترك،ففي هذه الحالة تكون المحصلة دائما صفرا ، ويكون الصف في هذه الحالة في حكم المعدوم ،فلا مراحل تقطع ولا أهدافا تحقق ، وبالتالي فإن تفريطا خطيرا في فرائض كثيرة يكون قد وقع ، ولذلك كان الثبات ركنا من أركان البيعة في دعوتنا»(ز.116)

ولا شك أن هذا الضرر يحصل لا محالة في حالة الانقطاع الكلي أو في حالة التنقل بالدعوة من وعاء إلى وعاء ، طال الزمن أم قصر، لسبب بسيط هو أن المتنقل سيبدأ كل مرة من الصفر أو ما يشبه الصفر، فيقضي عمره في نشوة التأسيس وفي المراحل الانتقالية كنتيجة لعدم ثباته .

4- خسارة خلق:

وهذه الخسارة أسوأ وأكثر ضررا من سابقاتها ،لأن الخلق يتعلق بالشخصية كاملة وحياتها العامة وما فيها من تعامل مع الناس، كل الناس، ويكمن الضرر في اهتزاز ثقتهم بصاحبها ، فمن يراه الناس أنه لم يثبت ولم يكن وفيا في مجال ما ، فلا يأمنوا أن يحدث ذلك منه في تعامله معهم.

وهذا الضرر ماثل في واقع المجتمعات (البسيطة على الخصوص ) لدى الدعاة المنشقين أو المتوقفين عن الدعوة ، فالجميع يعرف أن نظرة الناس إليهم تتغير بسبب مخالفتهم لما كانوا عليه،ولما كانوا يقولونه لهم.

والناس يفعلون هذا لأنهم (في العموم ) يؤمنون فطريا ومنطقيا ، بما يقوله العلماء من أن"الخلق لا يتجزأ"، أي أن المتخلق الحقيقي بخلق ما يكون ثابتا عليه ومستمرا في الاتصاف به في كل الأحوال، فلا يتلوّن ولا يتغيّر فيه حسب الظروف والأشخاص وإذا كان الخلق سلبيا فإنه يظهر ولو عفويا، ولذلك قديما قال زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة - وإن خالها تخفى على الناس تعلم .

وفي الجانب الإيجابي أكدت السنة الشريفة هذه الحقيقة ، حيث أن الرسول ( لا يتغير في مواقفه الأخلاقية ولو مع الكفار ، ففي تداعيات صلح الحديبية - مثلا - كان بإمكانه أن يغدر وينقض العهد في عدة فرص هي في ظاهرها لصالح المسلمين ولكنه لم يفعل ونصح المعنيين بالصبر ، وذلك لتجذر خلق الوفاء فيه ) ، كما كان عليه الصلاة والسلام لا يكذب ولو كان يمزح وطرائفه في ذلك معروفة ...

والمهم في كل ما سبق أن الخلق الراسخ سواء كان إيجابيا أم سلبيا يلزم صاحبه في كل الأحوال، وبالتالي فإن خسارة الثبات والوفاء بالانشقاق تكون خسارة متكررة في غير هذه الحالة أو هذا المجال، ولعل الواقع أثبت هذا في عدة مرات تبيّن فيها أن المنشقين لا يثبتون حتى في مواقفهم الجديدة بعد"فترة العسل" وغالبا ما يكون انقسامهم انشطاريا ، وفي الساحة الجزائرية الواسعة أمثلة حية تؤكد ذلك وتؤيد بالتالي مقولة "اللي فيه طبع ما يتبدل ".. فليحذر الأبرياء !!.

ومجمل القول في الموضوع كله:إن للثبات والوفاء فضلا عظيما ودورا كبيرا في الدعوة وإن الانشقاق مهما كان مبرره يذهب بقيمتهما وفي ذلك خسارة كبرى للداعية ومحيطه، فإذا أردنا أن نبقى محافظين عليهما مستفيدين بفضليهما حاملين لشعارهما علينا أن نلتزم بالشروط العشرة التي تضمن السلامة من الانحراف مبتعدين عن الانشقاق وشبهاته ، وإلا فلا مفر من تحمّل خسائره .

المصدر