رحلة الحج في ظلال التوحيد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
رحلة الحج في ظلال التوحيد

18-01-2005

بقلم فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب*

الحج كله دعوة إلى طاعة الله ورسوله، دعوةُ تعظيم الله وذكره، دعوةٌ إلى ترك المعاصي والفسوق والخلاف والجدال؛ لأن هذه الأمراض تجلب الشحناء والعداوات، وتفرق المسلمين، لكن الجدال بالتي هي أحسن لا مانعَ منه، بل نحن مأمورون به في كل زمان ومكان، قال تعالى ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).

جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، وعن جابر- رضي الله عنه- أنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "هذا البيت دعامة الإسلام فمن خرج يؤم هذا البيت- من حاجٍّ أو معتمر- كان مضمونًا على الله إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده ردَّه بأجر وغنيمة".

فزوَّار بيت الله في أشد الحاجة إلى التوجيه إلى الخير، والإعانة على الحق، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (الحج: 27).

قالوا لما أوحى الله إلى إبراهيم بهذا تصوَّر الأمر فوجده خطيرًا، فقال يا رب: كيف أؤذن في الناس بالحج ليأتوا من كل فج عميق؟! وما عسى أن يبلغ صوتي من المسافات والآماد؟! فأوحى الله تعالى إليه "عليك أن تؤذن وعلي أن أبلغ صوتك لمن أشاء"، ومن هنا استنبطوا لطيفةً روحيةً، هي أن كل حاج أو معتمر- ينهض لزيارة بيت الله- إنما جاءت نهضته لا عن عزيمة عنه- وإن كانت العزيمة ظاهرةً- وإنما عن انبعاث ألقى الله في نفسه، وهو سرٌّ يتضمن دعوة إبراهيم وصوت تأذينه في الناس، وتولى الله إلقاءه إنجازًا لوعده السابق.

فكأن الله- سبحانه وتعالى- هو الداعي بنفسه إلى زيارة بيته، فكل من انبعث إلى هذه الزيارة فقد انبعث بإشارة غيبية أو بدعوة إلهية وُجِّهت إليه من صاحب البيت، ولأمر ما كان على من لبَّى الدعوة إلى الحج أو العمرة أن يقول: "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك"، فلبيك هي مظهر الاستجابة لنداء الله تعالى لا لنداء غيره.

وينبني على هذا الاستنباط الدقيق المشرق أن القلوب الغليظة المظلمة المنصرفة عنه سبحانه ليست أهلاً لأن يشرفها بشرف الدعوة، وكرامة الزيارة، فعلى القادر- الذي يملك النفقة وصحة البدن- أن يفكر في معنى إعراضه عن الله، وفي معنى إعراض الله عنه، وفي ذلك الكساد المعنوي الروحي الذي يلمُّ به ويجعله في عباد الله همَلاً رخيصًا غير جدير بشرف توجيه الدعوة إليه.. عليه أن يفكر في ذلك طويلاً، وأن يهتم له، وأن يقبل على الله مستغفرًا راغبًا خاشعًا مادًّا له يد الضراعة والإنابة، راجيًا منه عز العبودية وشرف القبول؛ فإن ذلك حقيق بإقبال الله عليه.

أما الذي سبق له الحسنى وتوجَّهت له الدعوة من ملك الملوك سبحانه فعليه أن يقدر هذا المعنى حق قدره، وقدرُه أن يجعل الهمة كلها لله، ويجرد قصده كل شائبة رياء أو غرض دنيوي، فتجريد القلب والنية من كل خاطر دخيل أمر حتمي لإقامة الحج والعمرة أو لإقامة زيارة بيت الله على أصدق أسس التوحيد وعبادة الله.

وليس هذا التجريد مطلوبًا عند التلبية فحسب بل هو مطلوب منذ انبعاث الهمة إلى ما أراد الله لعبده من كرامة؛ حتى ينتهي من كل المناسك والشعائر، وليس معنى هذا أننا نُبيح للمرء أن يستغرق فيما يشاء من خواطر، وبعد فراغه من أمر نسكه، فإن ذلك هو عزيمة المؤمنين العارفين في كل وقت، بل في كل لحظة، وعلى كل إنسان أن يشمر للبقاء على هذه العزيمة.

ولكن لما كانت زيارة بيت الله معناها قصدًا ملحوظًا في عالم الحس والمشاهدة، وذلك لا يتحقق أبدًا إلا أن ينسلخ المرء من دنياه ظاهرًا وباطنًا، ويقبل على سيده، ولأمر ما لا يدخل المرء إلى الله في بيته إلا وجسمه عار من كل زينة للحياة الدنيا، فإذا كان هذا شأن الجسم فأولى ثم أولى أن تنصرف الهمة لتعريف القلب إلا من لباس التقوى؛ ولكي ندرك حرمة هذا المقام علينا أن نذكر أن الله سبحانه أعلن لعباده أنه لا يعاقب أحدًا منهم خاطر السوء يمر بباله، وإنما يعاقب على ما يقع من الذنوب فقط، هذا هو شأن الله مع عباده، وسنة فضله التي أكرمهم بها، ولكنها سنة لا يجريها إلا في خارج حرمه الشريف.

أما في الحرم وفي جوار بيته الشريف فإنه أغير من أن يترك عباده يقعون في سوء الأدب معه، ويدعون صدورهم مسرحًا لكل ما يلقي فيها الشيطان من خواطر الإثم؛ فأنذرهم، وذلك قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الحج: 25)، والإلحاد هنا ليس معناه الشرك الذريع عن العقيدة الصالحة، وإنما معناه على لون من ألوان الإثم، ومجرد الإرادة في هذا الميل يوجب لصاحبه عذاب جهنم والعياذ بالله.

ومن هنا كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، يفر من مكة ويقيم بالطائف ويقول من لنا بأداء حق الإقامة في بيت الله الحرام، وهو الذي يقول: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الحج: 25).

ومما يجدر بالالتفات إليه في زيارة بيت الله الحرام، أنها رحلة رمزية ترمز إلى الرحلة الكبرى، التي تبدأ بميلاد ابن آدم وتنتهي بالحشر إليه سبحانه، وقد شرع الله هذه الرحلة إلى بيته تذكيرًا لهم، وتنبيهًا إلى ما وراءها فهي بمثابة التدريب على الرجوع إليه والحشر الأكبر بين يديه، ألا ترى أن كلا من الرحلتين تتشابه في مبدئها وفي منتهاها في أن المرء يخرج في كلتيهما من بيته وأهله وولده، وسائر أحبابه، وأنه في الحالتين يتجرد من ثيابه العادية ويلبس ثيابًا متشابهة، وأنه في النهاية يحشر مع خلق الله في صعيد واحد، في مكان لا سلطان فيه لأحد إلا لله وحده فهو سبحانه الهدف الأعلى لتلك الرحلة الكبرى التي جعلت للتنقيح والتدريب وملاقاة الأخطاء، وإتاحة الفرص لنجاح أكمل، حتى إذا ختمت الحياة، ورفع الستار عن الرحلة الكبرى كان صاحبها أكمل ما يكون استعدادًا وتدريبًا على اجتياز مراحلها ولقاء الله على بصيرة.. والويل كل الويل لمن اتخذ الأمر لهوًا ولعبًا، وظنه رحلة عاطفية، ونزهة نفسية وغابت عنه تلك الحقائق النفسية الخطيرة، الويل له حين يرتفع الستار، ويدعى إلى ما لم يتهيأ له، هناك يهلع فؤاده، وتطير نفسه شعاعًا، ويتشبث – عبثًا بأهداب الدنيا، ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون: 99-100).

ولكي ينجح الحاج، أو المعتمر في زيارته لبيت الله الحرام، ويحقق هذا المعنى الذي أشرت إليه، عله أن يستحضر في ذهنه معنى- بيت الله- عليه أن يستحضر نسبته إلى الله ويديم النظر في معنى إضافته إليه- بيت الله.

إن الاختصاص والتميز ضروريا لأمة الإسلام، التميز في التصور والاعتقاد وفي القبلة والعبادة، وفي النفس البشرية ميل فطري ناشئ من تكوين الإنسان من جسد ظاهر وروح مغيب،وعلى الأساس الفطري في تكوين الإنسان أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها، فهي لا تؤدى بمجرد النية فقط ولا بمجرد التوجه الروحي فحسب، لكن هذا التوجه يتخذ له شكلاً ظاهرًا، قيامًا وقعودًا، واتجاهًا إلى القبلة وتكبير أو قراءة، وركوعًا وسجودًا في الصلاة وإحرامًا من مكان معين ولباسًا معينًا وسعيًا وطوافًا وتلبية ونحرًا وحلقًا في الحج، وهكذا في كل عبادة ليوفق الإسلام بين الروح وأشواقها والجسد ومطالبه ويستجيب للفطرة التي فطر الناس عليها.

لقد جاء هذا الدين ليلبي دواعي الفطرة، ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم في الصلاة والعبادة، وتخصيصه كي يتميز، فكانت القبلة إلى يوم القيامة الكعبة قال الله تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ( المائدة: 97).


المصدر

إخوان اون لاين