رسالة إلى أصحاب العزة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رسالة إلى أصحاب العزة

أ.د/جابر قميحة

جزاك الله خيرًا يا أخي الدكتور محمد جمال حشمت؛ إذ رفعت عني ركامات من الحزن وأنا أقرأ كلماتك الآتية:

"كلما زرت الإخوان في سجون مبارك تعظم في عيني تلك الدعوة التي ربت هؤلاء على مختلف أعمارهم وبيئتهم، فما من مكان زرته إلا وأجد من يأخذني على جنب بقوله لا مهادنة، ولا تزلف، ولا تنازل بسبب وجودنا هنا، فنحن في أحسن حال أعانكم الله في الخارج؛ فلا تنشغلوا بنا ولا تعتبرونا نقطة ضعف لكم بل قولوا كلمة الحق، وقفوا وقفة الحق، ولا تخشوا في الله لومة لائم، فأجد نفسي بجوارهم صغيرًا، وفي كنفهم فقيرًا فاستمد منهم القوة، والحب، والشموخ، والاعتزاز بالانتساب لله منهجًا وسلوكًا، وأخلاقًا، وحري بدعوة تضم مثل هؤلاء أن تعلو وتسمو، وأن يحقق الله على أيديها الخير كل الخير لمصر وشعبها، فهل نكون عند حسن ظنهم ونلبي نداءهم؟".

أقول جزاك الله خيرًا؛ فقد صدقت وحولت ما كان في نفسي ظنًا إلى يقين راسخ لا يهتز: فأنا أنظر إلى وجوه هؤلاء فلا أجد إلا وجوها ناضرة، إلى ربها ناظرة، أراها وجوهًا متدفقة بالرضا واليقين، وأرى رءوسًا شامخةً باستعلاء الإيمان. ولا أملك وأنا قعيدٌ في بيتي إلا أن اكتب كلمات جعلتُ عنوانها "رسالة إلى أصحاب العزة وراء الأسوار":

أيها الأعزاء ... أصحاب العزة ,أنتم تعلمون أن العرف الغالب في مجتمعنا المنكوب ألا يخاطب ب "صاحب العزة" إلا من كان "ذا حيثية رياسية، أو منصبٍ كبير". يجعلها الصغير في صدر طلبه، أو التماسه من أجل مطلب دنيوي في مجال العمل، أو التوظف، وهي عزةٌ شكلية بل هي عديمة الوجود.

أما أنتم فأصحاب الإباء والعزة الشماء؛ لأنكم تسمون باستعلاء الإيمان، ولا تحنون رءوسكم إلا للعزيز الحكيم (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26).

وكانت استجابة السماء من فضل الله بحكم حاسم يملأ الأرض والسماء (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8).

يا أصحاب العزة: ما أجلّ إباءكم , وما أعظم عزتكم؛ لأنها نابعة من عزة الله، وما أرفع قدركم إذا قرنكم الله برسوله:

أنْعِم بقوم رسول الله سيدهم

إذا تفرقت الأهواءُ والشيعُ

ولسان حالكم يقول مع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه

وفـيـنـا رسـول الله يتلو iiكتابه

أرانـا الـهدى بعد العمى iiفقلوبنا

يـبـيت يجافي جنبه عن iiفراشه

إذا انشق معروف من الفجر ساطعُ

بـه مـوقـنـات أن ما قال واقعُ

إذا اسـتثقلت بالكافرين iiالمضاجعُ

وكأني بكل منكم يهتف بلسان المقال، ولسان الحال:

في ضميري دائمًا صوت النبيْ

آمرًا جاهد، وكابد، واتعبِ

صائحًا غالب وطالب وادأبِِ

هاتفًا: كن دائمًا حرًا أبيْ

يا أصحاب العزة: هناك نوعان من العزة يرفضهما إسلامنا: العزة الجاهلية، والعزة الفرعونية.

والأولى تعتمد على العصبية الفاجرة، والتفاخر بالنسب والآباء، ومنطق أصحابها هو:

بغاةً ظالمين وما ظُلِمنا

ولكنا سنبدأ ظالمينا

لنا الدنيا ومن أمسى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

ومن أجل ذلك عاشوا في تطاحن وعراك، وحروبٍ وشقاق. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (سورة ص: 2) .

وفي فتح مكة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلغاء هذا النوع المنكود من العزة: فخطب أهل مكة يوم فتحها، فقال: "أيها الناس: لقد أذهب الله عنكم عُبِّيَّة (حالة) الجاهلية، وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: برٌ تقيٌ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله. والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب.

والنوع الثاني: هو العزة الفرعونية القائمة على التوثن الذاتي، والتآله، والغرور، والنظر إلى الشعب كعبيد، أو نعام تُساق... إنها العزة التي حلف بها السحرة (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) (الشعراء: 44).

ولم يبق إلا عزة الإسلام: استعلاءٌ بلا غرور، وتواضعٌ بلا ضعة، وقوة بلا ظلم، وإيمانٌ أقوى من الشم الرواسي.

أتذكرون - يا أصحاب العزة - يوم أرسل هرقل الروم إلى هارون الرشيد: "... لأحاربنك بأوسخ الناس رعاة الدجاج، والخنازير..." ؟ أتذكرون أن هارون الرشيد كتب إليه رادا عليه: "من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى كلب الروم... أما بعد: فوالله لأحاربنك بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويحرصون عليه كما تحرصون على شرب الخمر. وإن الخبر ما ترى لا ما تسمع، يا ابن الكافرة " ؟.

إنه ينطلق من منطلق الاستعلاء الإيماني لا الادعاء الكاذب. لقد كنا في عصور العزة، والاستعلاء نرسل الجيوش مرفوعة اللواء، فأصبحنا الآن في عصور الغربة والكربة نستقبل الجيوش محنيين أذلاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يا أصحاب العزة: أنتم وراء الأسوار... ونحن خارج الأسوار... وكلانا والله يا أصحاب العزة في سجن: فسجنكم على رقعة من الأرض محددة، سموها: طرة، أو مزرعة طرة... أو ما شاءوا من الأسماء. ونحن خارج الأسوار في سجنٍ واسع اسمه: مصر. ولكن يشاء الله أن تجعلوا من المحدود رحيبًا ممتدًا؛ لأنكم رزقتم الطمأنينة، وتعايشون نور القرآن، وتصنعون بالمحبة مجتمعًا، بل مشروعًا "للدولة الإسلامية"، فزدتم إيمانًا وصبرًا، وثباتًا وعلمًا، ويقينًا، وطمأنينةً، وكل هذه القيم الرحيبة جعلت من رقعة السجن عالما شفيفًا بلا حدود.

أما نحن خارج الأسوار فنعيش في مضيق الطوارئ، تحت تهديدِ زوار الفجر، وشياطين الأمن في عالم من الكروب والكذب، والتزوير، والادعاء:

فـقـد بُـلـينا بحكامٍ غدَوا iiأُسُدًا

الآمـرون بـلا أمـرٍ يُـطاعُ iiلهمْ

لا تـذكـرن بـهـم إلا iiجـبابرة

قـد أنكروا الحقَّ والأجدادَ من سَفَهٍ

واستعبدوا الشعبَ واجتاحوا كرامته

ثـم ازدهَـوْا بـبـطولاتٍ iiمزيفةٍ

قـالـوا: "السياسةُ فنٌّ نحن iiسادتُه

قالوا: "الزعامةُ فينا" قلتُ: ii"ويلكمو

إن الـزعـامة إصرارٌ بلا iiوَهَنٍ..

إن الـزعـامـة إيمانٌ.. وتضحيةٌ

إن الـزعـامـة إيثارٌ.. ومرحمةٌ

فـالكلُّ من ظلمهم قد بات iiمغتربًا

ولا كـرامـة إلا لـلألَـى سجدوا

عـلى الشعوب، نعامًا في iiأعادينا

فـالأمرُ أضحى لأمْريكا iiوشارونا

مـن الـبـغاة كفرعون.. iiوقارونا

وحـقَّـروا عيْنَ جالوتٍ. وحطينا

وصادروا الفكر، واغتالُوا iiالقوانينا

بـهـا انـتكسنا وعشنا في iiمآسينا

وقـد صـنـعـنا لنا منها أفانينا"

سُـحْـقًا لذئبٍ غدا بالنابِ iiراعينا"

لا أن تـكـون بما جمَّعتَ iiمفتونا

وقـدْوة بـكـتـابِ الله iiتـهـدينا

وأن تـجـوع لكيْ تقْري المساكينا

والحرُّ في أرضه قد عاشَ iiمطحونا

وهـلـلـوا للزعيم "الأنْسِِ" iiآمينا

ومن عجبٍ أن يقال: إننا نعيشُ أزهى عصور الحرية والديمقراطية، وأن الحكومة توفر للشعب كل ما يجعله يعيش في سلامٍ وطمأنينة، ورفاهية. وهذا يذكرني بجزءٍ من مشهد في مسرحيتي " محكمة الهزل العليا تحاكم الأيدي المتوضئة " ففي بداية الجلسة الأولى يقرأ القاضي - رئيس المحكمة - فرمان الرحمة. فلنستمع إليه يقول:

فرمان الرحمة يهديه الملك المنصورُ

لشعب الوطن الغالي:

الرحمة فوق العدل

والإنسانية فوق الدستور وفوق القانون

ولذلك باسم الشعب أصدرنا نحن

الملك المنصور الفرمانَ الآتي:

1 تشكيل المحكمة نهائيٌّ

لا يقبل أن يُعترض عليه

2 أحكام المحكمة العليا لا تخضعُ لاستئناف أو نقض.

لا يلتزم المشنوقُ بدفع تكاليف الشنقْ.

بل هيئة تنظيم الأسرة تتكفل بالدفع

يستخدمَ في الشنقِ حبالٌ مستوردة

من أرقى الأنواع

تليقُ بشعبٍ سَبقَ العالَمَ في الفنِّ

وفي العلم، وفي المعمارِ وفي التوحيدْ.

5 لا يستخدم حبل واحدُ في الشنقِ لأكثرَ من مرة

من حق المشنوقِ تخيرُ لونِ الحبلْ.

7 نفقاتُ الدفنِ مناصفة بين الدولة والورَثَةْ

تتحمل دولتنا مسئوليةَ أيلوِلة أموال المشنوقِ لمصلحةِ الشعبْ.

وختامًا عاش الملكُ وعاشَ الشعبْ

توقيع

الملكُ المنصور طويل العمر.

يا أصحاب العزة: لقد كانت الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والراشدين تقوم على أساس "التكامل" ففيها القائد العسكري الفذ كخالد بن الوليد، وأشهر علماء الأنساب كأبي بكر، والإداري العبقري كعمر بن الخطاب، وأقرأ الناس، وأكتب الناس "أي أحسنهم قراءة وكتابة" كزيد بن ثابت، وأعلم الناس بالفرائض كعلي بن أبي طالب، وأحفظ الناس لكتاب الله كعبد الله بن مسعود، الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن منه. ورواية الأحاديث كأبي هريرة، وأشعر الناس كحسان بن ثابت، ومن عجب - يا أصحاب العزة - أن في "مجتمعكم الأربعيني" من الكفايات والتخصصات المتكاملة ما يصنع دويلة إسلامية إن شاء الله.

وأقسم يا أصحاب العزة أنكم أطول أعمارًا من سجانيكم وظالميكم... نعم كلكم أطولُ عمرًا منهم جميعًا. ألا لا يعترضن أحد قائلاً: إن الأعمار من المغيبات، وإن لكل أجلٍ كتابا. فأنا أقول: آمنت بالله، وآمنت بالغيب، ولكني أقول: ألم يقل الشاعر:

ومن وعى التاريخ في صدره

أضاف أعمارًا إلى عمره

فما بالكم وأنتم الآن تعيشون القرآن متلوًا مقروءًا، وتعيشون القرآن حكمًا ودستورًا، وتعيشون القرآن روْحًا وريحانًا، وعطورًا ونورًا، وبذلك تعيشون سنوات حية، تتدفق بالإيمان، وصالح الأعمال. أما هم فيعيشون أيامًا هالكة... أيامًا مُنكرة منكودة. بلا ذمة، وبلا ضمير، وبلا طمأمينة وبلا شعورٍ بمسئولية، وبلا ولاء للوطن والشرف , إنما هي حياة ضائعة ... هالكة. (...لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).

وما أعظم الفارق الهائل بينكم وبينهم، وبين حياتكم وحياتهم: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ...) (فاطر: 19 22).

فطوبى لكم يا أصحاب العزة، وزادكم الله إيمانًا وحبًا، وطمأنينة. وجزى الله خيرًا أخانا الحبيب الدكتور محمد جمال حشمت الذي ألهمتني كلماته هذا المقال... جزاك الله خيرًا يا أخانا الحبيب وأنت تكتب قائلاً: "كلما زرت الإخوان في سجون مبارك تعظم في عيني تلك الدعوة التي ربت هؤلاء على مختلف أعمارهم وبيئتهم، فما من مكان زرته إلا وأجد من يأخذني على جنب بقوله لا مهادنة، ولا تزلف، ولا تنازل بسبب وجودنا هنا، فنحن في أحسن حال أعانكم الله في الخارج؛ فلا تنشغلوا بنا ولا تعتبرونا نقطة ضعف لكم بل قولوا كلمة الحق، وقفوا وقفة الحق، ولا تخشوا في الله لومة لائم، فأجد نفسي بجوارهم صغيرًا، وفي كنفهم فقيرًا فاستمد منهم القوة، والحب، والشموخ، والاعتزاز بالانتساب لله منهجًا وسلوكًا، وأخلاقًا، وحري بدعوة تضم مثل هؤلاء أن تعلو وتسمو، وأن يحقق الله على أيديها الخير كل الخير لمصر وشعبها، فهل نكون عند حسن ظنهم ونلبي نداءهم؟"....أعتقد – يا أخي الحبيب – أن سؤالك هذا من قبيل .... " تجاهل العارف " , فكل أخ من الإخوان يقول – بلسان مقاله ولسان حاله – إنها بيعة لا تذبل , وعقد لا تنفصم عراه ....

فـعـقدي ساريَ المفعو

بـنـور الله iiصُـغـناهُ

ينص على النضال المرّ

وغـايـتنا رضاءُ iiاللـ

لِ,لا عـامـين أو iiقرنا

فـلـن يبلَى ولن iiيفنى

لـلإسـلام مـا iiعشنا

ـه فهْو الفوزُ iiوالحُسنى

والحمد لله رب العالمين.

المصدر:رابطة أدباء الشام