رسالة نظام الحكم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رسالة نظام الحكم

بقلم: الإمام حسن البنا

مقدمة

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ

يفترض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به للناس ، فهو لا يقر الفوضى ، ولا يدع الجماعة المسلمة بغير إمام ، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه : (إذا نزلت ببلد وليس فيه سلطان فارحل عنه), كما قال في حديث آخر لبعض أصحابه كذلك : (إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم رجلا) .

فمن ظن أن الدين – أو بعبارة أدق الإسلام – لا يعرض للسياسة ، أو أن السياسة ليست من مباحثه ، فقد ظلم نفسه ، وظلم علمه بهذا الإسلام ولا أقول ظلم الإسلام فإن الإسلام شريعة الله لا يأتيها الباطل من بين يده ولا من خلفه .. وجميل قول الإمام الغزالي رضى الله عنه : (اعلم أن الشريعة أصل ، والملك حارس ، وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع) فلا تقوم الدولة الإسلامية إلا على أساس الدعوة ، حتى تكون دولة رسالة لا تشكيل إدارة ، ولا حكومة مادة جامدة صماء لا روح فيها , كما لا تقوم الدعوة إلا في حماية تحفظها وتنشرها وتبلغها وتقويها .

وأول خطئنا أننا نسينا هذا الأصل ففصلنا الدين عن السياسة عملياً , وإن كنا لن نستطيع أن نتنكر له نظرياً فنصصنا في دستورنا على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام , ولكن هذا النص لم يمنع رجال السياسة وزعماء الهيئات السياسية أن يفسدوا الذوق الإسلامي في الرؤوس ، والنظرة الإسلامية في النفوس , والجمال الإسلامي في الأوضاع ، باعتقادهم وإعلانهم وعملهم على أن يباعدوا دائما بين توجيه الدين ومقتضيات السياسة ، وهذا أول الوهم و أصل الفساد .

دعائم الحكم الإسلامي

والحكومة في الإسلام تقوم على قاعدة معروفة مقررة ، هي الهيكل الأساسي لنظام الحكم الإسلامي .. فهي تقوم على مسؤولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام أرادتها ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال .

مسئولية الحاكم

فالحاكم مسئول بين يدي الله وبين الناس ، وهو أجير لهم وعامل لديهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ، وأبو بكر رضى الله عنه يقول : عندما ولى الأمر وصعد المنبر: (أيها الناس ، كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم ، فأنا الآن أحترف لكم ، فافرضوا لي من بيت مالكم) . وهو بهذا قد فسر نظرية العقد الاجتماعي أفضل وأعدل تفسير ، بل هو وضع أساسه , فما هو إلا تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة , فإذا أحسن فله أجره , وإن أساء فعليه عقابه .

وحدة الأمة

والأمة الإسلامية واحدة , لأن الأخوة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان لا يتم إلا بها ولا يتحقق إلا بوجودها . ولا يمنع ذلك حرية الرأي وبذل النصح من الصغير إلى الكبير ، ومن الكبير إلى الصغير ، وذلك هو المعبر عنه في عرف الإسلام ببذل نصيحة ، والأمر المعروف النهى عن المنكر ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الدين النصيحة) ، قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: (لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) وقال : (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها) ، وفي رواية : (وبطن الأرض خير لهم من ظهرها) ، وقال : (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .

ولا تكون الفرقة في الشؤون الجوهرية في الأمة الإسلامية ، لأن نظام الحياة الاجتماعية الذي يضمها نظام واحد هو الإسلام ، معترف به من أبنائها جميعاً . والخلاف في الفروع لا يضر ، ولا يوجد بغضا ولا خصومة ولا حزبية يدور معها الحكم كم تدور .. ولكنه يستلزم البحث والتمحيص والتشاور وبذل النصيحة , فما كان من المنصوص عليه فلا اجتهاد فيه وما لا نص فيه فقرار ولى الأمر يجمع الأمة عليه وهى شيء بعد هذا .

احترام إرادة الأمة

الإمام حسن البنا-وسعد الوليلي-في-استعراض-الجوالة

ومن حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق مراقبة ، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير , وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها , وأن يأخذ بالصالح من آراءها , وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران:159) . وأثنى به على المؤمنين خيرا فقال : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38).

ونصت على ذاك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهدين من بعدهم .. إذا جاءهم , أمر جمعوا أهل الرأي من المسلمين واستشاروهم ونزلوا عند الصواب من آرائهم ، بل أنهم ليندبونهم إلى ذلك ويحثونهم عليه . فيقول أبو بكر رضى الله عنه : (فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني أو قوموني) , ويقول عمر بن الخطاب: (من رأى فيّ اعوجاجاً فليقومه) .

(والنظام الإسلامي) في هذا لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية التي لا يكون الحكم صالحاً بدونها , ومتى طبقت تطبيقاً يحفظ التوازن ولا يجعل بعضها يطغى على بعض , ولا يمكن أن يحفظ هذا التوازن بغير الوجدان الحي والشعور الحقيقي بقدسية هذه التعاليم ، وإن في المحافظة عليها وصيانتها الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة ، وهو ما يعبرون عنه فالاصطلاح الحديث (بالوعي القومي) أو النضج السياسي أو (التربية الوطنية) أو نحو هذه الألفاظ ، ومردها جميعاً إلى حقيقة واحدة هي اعتقاد صلاحية النظام ، والشعور بفائدة المحافظة عليه … إذ أن النصوص وحداها لا تنهض بأمة كاملة كما لا ينفع القانون إذا لم يطبقه قاضٍ عادل نزيه .

ونحن في حياتنا العصرية قد نقلنا من أوربا هذا النظام النيابي الذي تعيش في ظله حكوماتنا الآن , ووضعنا دستورنا على أساسه ، وتغيير هذا الدستور مرة باسمه كذلك ، وجربنا الكثير من آثاره ، فإلى أي مدى ينطبق هذا النظام على الإسلام ؟ وإلى أي مدى كانت فائدتنا منه طوال هذه المدة ؟

ذلك ما سنعرض له إن شاء الله .

مسؤولية الحاكم

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

قدمت في الكلمة السابقة أن الدعائم التي يقوم عليها نظام الحكم الإسلامي ثلاث :

(أ) مسؤولية الحاكم .

(ب) ووحدة الأمة .

(جـ) واحترام إرادتها .

ولقد تحقق هذا النظام بأكمل صورة في عهد الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم . فكانوا يشعرون أتم الشعور بالتبعات الملقاة على كواهلهم كحكام مسؤولين عن رعاياهم .

ويظهر ذلك في كل أقوالهم وتصرفاتهم وحسبك أن تقرأ ما قاله عمر بن الخطاب رضى الله عنه حيت ولي الخلافة ، وعمر بن عبد العزيز حين وليها كذلك , وجاءت سيرتاهما مطابقتين لقولهما : (أيها الناس قد وليت عليكم ، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم ، وأقواكم عليكم ، وأشدكم اضطلاعا بما ينوب من مهم أموركم ، ما توليت ذلك منكم ، وكفي عمر مُهِماً محزنا انتظار موافقة الحساب ، يأخذ حقوقكم كيف أخذها ووضعها أين أضعها ، وبالسير منكم كيف أسير فربى المستعان) ، فإن عمر أصبح لا يثق بقوة و لا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده ، وكان يقول : (لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب) .

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : (أما بعد ، فإنه ليس بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم نبي ,ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب , ألا ما أحل الله عز وجل إلى يوم القيامة ، وما حرم الله حرام إلى يوم القيامة ، ألا لست يقاض ولكنني منفذ ، ألا إني لست بخيركم ولكنى رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً) .

وقدمت إليه مراكب الخلافة بعد دفن سليمان بن عبد الملك فأمر بتأخيرها ، وركب بغلته وعاد إلى منزله ، فدخل عليه مولاه مزاحم فقال : يا أمير المؤمنين لعلك مهتم؟‍ فقال : (بمثل هذا الأمر الذي نزل بي اهتممت ، إن ليس من أمة محمد في مشرق ولا مغرب أحد إلا له قبلي حق يحق علي أداؤه إليه ، غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني) .

وكانت الأمة مجتمعة الكلمة باستمساكها بأهداب الدين ، واعتقادها فضل ما جاء به من أحكام ، ورعايتها لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده في الوحدة حتى أمر بقتل من فارق الجماعة أو خرج على الطاعة ، فقال : (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائنا من كان) ، كما قال : (من خرج على الطاعة وخالف الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل ، فقتلة جاهلية . ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي ذا عهد عهده ، فليس منى ولست منه) .

كما كانت إرادتها محترمة مقدرة ، فما كان أبو بكر يمضى في الناس أمراً إلا بعد أن يستشيرهم وخصوصاً فيما لا نص فيه ، وكذلك كان عمر بن الخطاب ، فقد جعل الخلافة من بعده شورى في الستة اللذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض .

وقلت في الكلمة السابقة أيضا إننا نقلنا هذا النظام النيابي ، الذي تعيش حكومتنا في ظله ، عن أوربا ، فإلى أي مدى ينطبق على الإسلام ؟ وما الذي أفدناه منه منذ طبق في عهده الأخير في بلادنا إلا الآن , وهي مدة تبلغ ربع قرن من الزمان تقريبا ؟

موقف الإسلام من النظام النيابي والدستور المصري

يقول علماء الفقه الدستوري إن النظام النيابي يقوم على مسؤولية الحاكم ، وسلطة الأمة ، واحترام إرادتها ، وإنه لا مانع فيه يمنه وحده الأمة واجتماع كلمتها ، وليست الفرقة والخلاف شرطاً فيه , وإن كان بعضهم يقول إن من دعائم النظام النيابي البرلماني : الحزبية , ولكن هذا إذا كان عرفا فليس أصلا في قيم هذا النظام , لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية .

وعلى هذا فليس في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم ، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيداً عن النظام الإسلامي ولا غريبا عنه , وبهذا الاعتبار يمكن أيضاً أن نقول في اطمئنان إن القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري لا تتنافى مع قواعد الإسلام ، وليست بعيدة من النظام الإسلامي ولا غريبة عنه , بل إن واضعي الدستور المصري رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها ، فقد توخوا فيه ألا يصطدم أي نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية ، فهي إما متمشية معها صراحة كالنص الذي يقول : (دين الدولة الإسلام) أو قابلة للتفسير الذي يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذي يقول : (حرية الاعتقاد مكفولة).

وأحب أن أنبه هنا إلى الفرق بين الدستور وبين القوانين التي تسير عليها المحاكم إذ أن كثيراً من هذه القوانين يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام ، وذلك بحث أخر سنعرض له في موضعه إن شاء الله .

ومع أن النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم ، فإننا نصرح بأن هناك قصورا في عبارات الدستور ، وسوءاً في التطبيق ، وتقصيرا في حماية القواعد الأساسية التي جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور ، أدت جميعاً إلى ما نشكو منه ، ما وقعنا فيه من اضطراب في كل هذه الحياة النيابية .

وستناول هذا الإيجاز بشيء من البيان .

الــوزارة

فأما عن مسؤولية الحاكم فإن الأصل فيها في النظام الإسلامي أن المسؤول فيها هو رئيس الدولة كائنا من كان ، له أن يتصرف ، وعليه أن يقدم حساب تصرفه للأمة ، فإن أحسن أعانته ، وإن أساء قومته ، ولا مانع في الإسلام في أن يفوض رئيس الدولة غيره في مباشرة هذه السلطة وتحمل هذه المسؤولية ، كما عرف ذلك في (وزارات التفويض) في كثير من العهود الإسلامية ، ورخص الفقهاء المسلمون في ذلك وأجازوه ما دام فيه مصلحة ، والقاعدة في مثل هذه الأمور رعاية المصلحة العامة ، قال الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية : (والوزارة على ضربين ، وزارة تفويض ، ووزارة تنفيذ ، فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه ، وإمضاءها على مقتضى اجتهاده ، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة ، قال تعالى حكاية عن نبيه عليه الصلاة والسلام : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي , هَارُونَ أَخِي , اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي , وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (طـه:29-32) .

فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز . لأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعها إلا باستنابة ، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور في تفرده بها ليستظهر بها على نفسه ، وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل) .

والأصل في هذه المسؤولية في النظام النيابي ، أن المسؤول هو الوزارة مسؤولية على رئيس الدولة ، وقد جرى على هذا الدستور المصري والدستور الإنجليزي ، فصرح كل منهما بمسؤولية الوزارة ، وإخلاء رئيس الدولة من كل مسؤولية واعتباره لا يخطئ ، واعتبار ذاته مصونة لا تمس .

على أنه لا مانع في النظام النيابي من تحمل رئيس الدولة المسؤولية واعتبار الوزارة تابعة له في ذلك ، كما يقرر ذلك دستور الولايات المتحدة . والغريب أن تشير كتب الفقه الإسلامي إلى هذا الوضع أيضاً ، وتسمى هذه الوزارة (وزارة التنفيذ) فيقول الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) أيضا : (وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف ، وشروطها أقل ، لأن النظر مقصور فيها على رأى الإمام وتدبيره ، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة ، يؤدى عنه ما أمر ، وينفذ ما ذكر ويُمضي ما حكم …) ولا شك أن هذا من سعة مادة الفقه الإسلامي ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان .

غموض الدستور المصري

هذه هي قواعد النظام الإسلامي والنيابي معاً في (مسؤولية الحاكم) , فماذا فعلنا نحن في مصر؟ وقفنا في منتصف الطريق نصاً وتطبيقاً .

وجاء دستورنا في هذا المعنى غامضاً مقتضباً غير واضح ولا مفصل ، مع أنها أهم نقطة في تحديد لون الحياة النيابية والإسلامية التي نحياها .. وشرحا لذلك سأسوق ما كتبه الأستاذان الدكتور إبراهيم مدكور عضو مجلس الشيوخ المصري , والأستاذ مريت غالي في مذكرتهما (نظام جديد) قالا تحت عنوان الدستور وغموضه :

{ فأما العامل الأول فملخصه أن دستورنا على الرغم من دقته وضبط عباراته ، قد وقع في نفس الغموض الذي وقعت فيه دساتير أسبق منه ، وترك أهم نقطة في الحكم النيابي دون أن يحددها التحديد الكافي ، ونعني بها سلطة الوزراء وصلتهم بالشعب ممثلة في نوابه من جهة ، وإشراقهم على ما يؤدى إليه من خدمات من طريق المصالح والإدارات من جهة أخرى .

كما أجمل إجمالاً مخلاً في بيان موقفهم من رئيس الدولة و مليك البلاد ، واكتفى بأن يصوغ هنا في عبارات تصلح لكل ما يراد منها , وواضح أن الوزارة هي العمود الفقري لهيكل النظام النيابي الجديد وحلقة الاتصال بين التشريع والتنفيذ ومبعث الحياة والحركة في نظام يراد به احترام سلطة الشعب مع تصريف شؤون الدولة تصريفاً محكماَ سريعاً .

وإذا ما رجعنا إلى الدستور وجدنا أن ما جاء به متصلا بهذه النقطة الحساسة لا يكاد يتجاوز ثلاثة أسطر كلها غموض وعموم , فيقرر في المادة 29 : (أن السلطة التنفيذية يتولاها الملك في حدود هذا الدستور) , وفي المادة 48 : (الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه) , وفي المادة 49 : (الملك يعين وزراءه ويقيلهم) , وفي المادة 57 : (مجلس وزرائه هو المهيمن على مصالح الدولة) , وفي المادة 61 : (الوزراء مسؤولون متضامنون لدى مجلس النواب عن السياسة العامة للدولة , وكل منهم مسؤول عن أعمال وزارته) , وفي المادة 63 : (أوامر الملك – شفهية أو كتابية – لا تخلي الوزراء من المسؤولية على أية حال) }

تلك تقريبا جملة النصوص المتصلة بهذا الموضوع , ولا نظن أن فيها ما يكفي مطلقا لحل أي مشكل من المشاكل التي أشرنا إليها .

وقد أفاضا بعد ذلك في الشرح والتمثيل بما يفصل ما تقدم من هذه المعاني .. والمهم أن هذه النقطة وهي لب الأمر تحتاج على إيضاح واستقرار , وهي القاعدة الأولى من قواعد (النظام الإسلامي) أو النيابي على السواء , و بغير ذلك لا يمكن أن تستقيم الأمور أو تسلم .

وحـدة الأمـــة

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً

وأما عن وحدة الأمة فقد أبنت أن الإسلام الحنيف يفترضها افتراضاً , ويعتبرها جزءاً أساسياً في حياة المجتمع الإسلامي لا يتساهل فيه بحال , إذ أنه يعتبر الوحدة قرين الإيمان (إنما المؤمنون أخوةً) , كما يعتبر الخلاف والفرقة قرين الكفر كما فال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100). أي بعد وحدتكم متفرقين كما قال رسول الله e : (لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم وجوه بعض) فعبر بكلمة الكفر على الفرقة والخلاف وأن يضرب بعضهم وجوه بعض .

وأعتقد أن الحكم النيابي – برلمانيا وغير برلماني - لا يأبى هذه الوحدة , وبخاصة إن كان لون الحياة الاجتماعية واحداً في أصوله واتجاهاته العامة , كما هو شأن الأمة الإسلامية جميعاً في هذه الأيام , وإنما لازمت الحزبية والفرقة والخلاف هذا النظام النيابي في أوربا وغيرها , لأنها نشأت على أنقاضها , وكانت الخلافات المتكررة الدامية بين الشعوب وحكامها هي السبب في نشأته فعلاً مع تباين المشارب واختلاف الآراء ... أما الأمم الإسلامية فقد حماها الله من ذلك كله , وعصمها بوحدة الإسلام وسماحته من هذا التبلبل والاضطراب .

ومع هذا فإن الحكم النيابي في أعرق مواطنه لم يقم على هذه الحزبية المسرفة , فليس في إنجلترا إلا حزبان هما اللذان يتداولان فيها الأمر , وتكاد تكون حزبيتهما داخلية بحتة , وتجمعهما دائما المسائل القومية المهمة , فلا تجد لهذه الحزبية أثرا البتة , كما أن أمريكا ليس فيها إلا حزبان كذلك لا نسمع عنهما شيئا إلا في مواسم الانتخابات , أما فيما عدا هذا فلا حزبية ولا أحزاب , والبلاد التي تطورت في الحزبية وأسرفت في تكوين الأحزاب ذاقت وبال أمرها في الحرب والسلم على السواء , وفرنسا أوضح مثال لذلك.

وإذا كان الأمر كذلك , وكانت وحدة الأمة أساسا في النظام الاجتماعي الإسلامي ولا يأباه النظام النيابي فإن من الواجب أن نتحول سريعا إلى الوحدة بعد أن أهلكت الحزبية في مصر الحرث والنسل .

الأحزاب المصرية

الإمام البنا-مظاهرات-شعبية-ضد-قرار-تقسيم-فلسطين-أمام-قصر-عابدين

لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى , وهي أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن , وأنها ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا , فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة , اقتضت الظروف في يوم ما أن يتحدثوا باسمها وأن يطالبوا بحقوقها القومية , كما انعقد الإجماع على أن هذه الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج , ولا خلاف بينها في شيء أبدا إلا في الشخصيات , وآية ذلك واضحة فيما تعلن من بيانات خارج الحكم وفيما تطلع به من خطب العرش داخل الحكم , وبما أن الأحزاب هي التي تقدم الشيوخ و النواب , وهي التي تسيّر دفة الحكم في الحياة النيابية فإن من البديهي ألا يستقيم أمر الحكم وهذا حال من يسيّرون دفته .

وهذا الكلام الذي انعقد إجماع الأمة عليه , أعلنه شيوخ ونواب وفقهاء ودستوريون في صراحة ووضوح , ومن قرأ ما كتبه علوبة باشا في كتابه (مبادئ وطنية) , أو الأستاذ حسن الجداوي في كتابه (عيوب الحكم في مصر) أو غيرهما من الكتاب , رأى صدق ما نقول , وحسبنا هنا أن ننقل فقرة من كتاب الفقيه الدستوري الأستاذ سيد صبري (مبادئ القانون الدستوري) عن الأحزاب المصرية قال : (والواقع أنه لم يعد لأغلب الأحزاب السياسية في مصر برنامج يدافع عنه أنصاره , بل أصبح كل حزب عبارة عن وزير سابق له أنصار ومريدون , ولهذه النتيجة أهميتها .

فإن الانتخاب لن يقوم على المفاضلة بين البرامج , فقد أصبحت واحدة للجميع , بل سيقوم على الثقة بالأشخاص أو المفاضلة بينهم , وستكون الانتخابات شخصية لا حزبية بالمعنى المفهوم لدى الشعوب الغربية , وبديهي أن بقاء الأحزاب على هذا المنوال يقسم البلاد شيعا وأحزابا ويثير الشقاق والمنازعات بين الأفراد والأسر بلا سبب مفهوم ولا أساس معقول).وإذا أضيف إلى هذا أن مصر بلدا محتلا إلى الآن , وأن الذي يستفيد من هذه الفرقة هم المحتلون الغاصبون فقط , وأنه إذا استسيغ الخلاف – وهو غير مستساغ بحال – في أمة من الأمم , فإن أمة وادي النيل هي أحوج ما تكون إلى أكمل معاني الوحدة لتتجمع قواها في نضال الاستقلال وفي عمل الإصلاح الداخلي , إذا أضيف هذا كله كان الأمر أخطر من أن يهمل أو يستهان به .

حل الأحزاب المصرية

ولا أدري إذا كان الأمر كذلك فلا أدري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمي نفسها الأحزاب السياسية؟

إن الأمر خطير , ولقد حاول المصلحون أن يصلوا إلى وحدة ولو مؤقتة لمواجهة هذه الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد , فيئسوا وأخفقوا , ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول , ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعا وتجمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريته , ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام , ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوحدة التي يفرضها الإسلام.

احترام رأى الأمة

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا

نظام الانتخابات

وأما عن احترام رأى الأمة , ووجوب تمثيلها واشتراكها في الحكم اشتراكاً صحيحاً ، فإن الإسلام لم يشترط استبانة رأى أفرادها جميعاً في كل نازلة ، وهو المعبر عنه ، في الاصطلاح الحديث بالاستفتاء العام ، ولكنه اكتفى في الأحوال العادية (بأهل الحل والعقد) ولم يعينهم بأسمائهم ، ولا بأشخاصهم ، والظاهر من أقوال الفقهاء ووصفهم إياهم أن هذا الوصف ينطبق على ثلاث فئات هم :

1 - الفقهاء المجتهدون الذين يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام .

2 - وأهل الخبرة في الشؤون العامة .

3- ومن لهم نوع قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤوساء المجموعات .

فهؤلاء جميعاً يصح أن تشملهم عبارة "أهل الحل والعقد" .

ولقد رتب النظام النيابي الحديث طريق الوصول إلى أهل الحل والعقد بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظام الانتخابات وطرائقه المختلفة ، و الإسلام لا يأبى هذا التنظيم ما دام يؤدى إلى اختيار أهل الحل والعقد ، وذلك ميسور إذا لوحظ في أي نظام من نظم تحديد الانتخاب صفات أهل الحل والعقد ، وعدم السماح لغيرهم بالتقدم للنيابة عن الأمة .

عيوب نظم الانتخابات في مصر

ونحن في مصر قد أخذنا بنظام الانتخاب المباشر تارة في قانون سنة 1923 , وبنظام الانتخاب على درجتين في قانون سنة 1930 , وكلاهما في الواقع لم يحقق الغرض المقصود منه , وظهر له حين التطبيق عيوب يجب أن نعمل على إصلاحها بتعديل شامل , وليس الخطأ عيبا في ذاته , ولكن الرضا به والاستمرار عليه والدفاع عنه هو الخطأ كل الخطأ .

ولقد شعر الجميع بقصور قانون الانتخابات الحالي عن الوفاء بالغرض الذي وضع من أجله وهو الوصول إلى اختيار الصالحين للنيابة عن الأمة ، ووجهت إليه انتقادات مرة كشفت عن كثير من العيوب وأهمها ما ذكره الدكتور سيد صبري في كتابه (مبادئ القانون الدستوري) : {أنه أوجد هيئة ناخبة لا يمكنها تحقيق الغرض من الانتخابات على الوجه المطلوب ، وأنه لم يحقق فكرة تمثيل الأمة تمثيلاً صحيحاً ، وأنه لم يصل إلى إيجاد هيئة تعمل للصالح العام مجردة من كل قيد ... ) وقد أورد بعد ذلك إحصائية دقيقة خلص منها بالأرقام إلى أن قرارات البرلمان المصري في أدواره المختلفة لا تعبر عن رأى الأمة ولا عن رأى أكثريتها ، ولا عن رأى أقلية محترمة عن أبنائها , وإنما تعبر عن رأى نسبة ضئيلة من مجموع من له حق الانتخاب , لم تصل يوما إلى 12% وبيان ذلك :

أن مجلس نواب سنة 1936 لا تمثل قراراته – مع أنها صحيحة ونافذة بحكم القانون – إلا 10.75% من هيئة الناخبين .

ومجلس سنة 1929 نسبة التمثيل فيه 9.25% .

ومجلس سنة 1936 النسبة فيه 10.75% .

ومجلس سنة 1938 النسبة فيه 11.75% .

ومجلس سنة 1942 النسبة فيه 9.75% .

فكيف يقال بعد هذا إن ذلك تعبير عن رأي الأمة وتمثيل لها تمثيلا صحيحا؟!

تعديل وإصلاح

لا بد من تعديل وإصلاح لقانون الانتخاب ، ومن وجوه هذا الإصلاح الضرورة :

1 - وضع صفات خاصة للمرشحين أنفسهم ، فإذا كانوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهذه الهيئات برامج واضحة وأغراض مفصلة يتقدم على أساسها هذا المرشح ، وإذا لم يكونوا ممثلين لهيئات فلا بد أن يكون لهم من الصفات والمناهج الاصلاحية ما يؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة ، وهذا المعنى مرتبط إلى حد كبير بإصلاح الأحزاب في مصر ، وما يجب أن يكون عليه أمر الهيئات السياسية فيها .

2 - وضع حدود للدعاية الانتخابية ، وفرض عقوبات على من يخالف هذه الحدود ، بحيث لا تتناول الأسر ولا البيوت ولا المعاني الشخصية البحتة التي لا دخل لها في أهلية المرشح وإنما تدور حول المناهج والخطط الإصلاحية .

3 - إصلاح جداول الانتخابات ، وتعميم نظام تحقيق الشخصية ، فقد أصبح أمر جداول الانتخابات أمراً عجباً بعد أن لعبت بها الأهواء الحزبية والأغراض الحكومية طول هذه الفترات المتعاقبة ، وفرض التصويت إجبارياً .

4 - وضع عقوبة قاسية للتزوير من أي نوع كان ، وللرشوة الانتخابية كذلك.

5 - وإذا عدل إلى الانتخابات بالقائمة ، لا الانتخاب الفردي كان ذلك أولى وأفضل ، حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم ، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية في تقدير النواب والاتصال بهم .

وعلى كل حال فأبواب الإصلاح والتعديل كثيرة ، هذه نماذج منها ، وإذا صدق العزم وضح السبيل ، والخطأ كل الخطأ في البقاء على هذا الحال والرضا به ، والانصراف عن محاولة الإصلاح.

الواقع الحالي

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً

عرضت في الكلمات السابقة لدعائم الحكم الصالح الثلاث في النظام الإسلامي أو النيابي على السواء , وهي :

1 – مسؤولية الحاكم

2 – ووحدة الأمة

3 – واحترام إرادتها

وأشرت في إيجاز بالغ إلى نواحي الغموض في التشريع , والقصور والفساد في التطبيق , في أسلوب الحكم الذي جربناه منذ صدور الدستور المصري إلى الآن , وقد كانت نتيجة هذا الغموض والقصور والفساد ... ما نحن عليه الآن من حيرة قلق و ارتباك , وما وصلنا إليه من فرقة وتمزق وشتات .

ضعف الحكومات

لا يجادل أحد في أن الحكومات المتعاقبة قد ضعفت عن أداء واجبها ، وفقد معظم هيبتها في النفوس كحكومة , بسبب هذا التجريح بالحق وبالباطل الذي تمليه الروح الحزبية البحتة ، وبسبب هذا العجز الناتج عن عدم تحديد المسؤولية والاضطلاع بها كاملة غير منقوصة ، ولولا أن النفوس في مصر مطبوعة بطابع الطاعة والاستسلام ، والأعمال تسير بطريق روتيني لا تجديد فيه ولا ابتكار .. لتعطل كل شئ ، ولعجز الدولاب الإداري المضطرب عن أن ينهض بحاجات الشعب أو أن يؤدى للناس عملاً.

هيبة القانون

ولا شك أن سلطان القانون قد تزعزع وفقد معظم احترامه كذلك ، بسبب هذه الاستثناءات والمحسوبيات والحيل المتكررة ، والاعتداء أحياناً بنسخ القانون لغرض شخصي .. ولو أن هذا النسخ بقانون في ظاهر الأمر , ولكن الدوافع تكون معروفة دائماً ولا تخفي على أحد ، فيعمل ذلك عمله في النفوس وينال من هيبة القانون واحترام النظام .

حزبية عمياء

ولا شك أن نار الخصومة والحقد قد اضطرب في نفوس الحاكمين والمحكومين على السواء ، بفعل هذه الحزبية الخاطئة , التي لم نفهمها نحن في مصر في يوم من الأيام على أنها خلاف في الرأي لا يفسد للود قضية , بل فهمناها عداوة وبغضاء تتعدى النظر في المصالح العامة إلى المقاطعة في كل الشؤون عامة وخاصة , وإلى أن نرى الحق في جانب خصومنا الحزبيين باطلا , والباطل في جانب أنصارنا الحزبيين حقا , ونصدر من هذا الشعور في كل تصرفاتنا وصلاتنا , ويستفحل هذا الداء ويستشري حتى في أحرج المواقف , فلا نستطيع أن نوحد صفوفنا في أي موقف قومي مهما يكن يتوقف عليه إصلاح أمرنا ومستقبل بلادنا .

وهذا الشعور البغيض , والفهم الخاطئ للحزبية الذي تحول إلى عداوة متأصلة , قد كان من نتائجه : أن انصرفت معظم الجهود الفكرية والعملية إلى أمرين استغرقا كل اهتمام رجالنا , وهما : الإيقاع بالخصوم الحزبيين واتقاء مكائدهم , فالحاكم يصرف جل همه في هاتين الناحيتين , والمعارضة لا تقل عن الحاكم اهتماما بها , وفي سبيل ذلك تضيع الحقوق وتتعطل المصالح , ويرثى الأصدقاء ويشمت الأعداء , ويستفيد الخصم الجاثم على صدر البلاد .

هذه الحال قد أنتجت التحطم في المعنويات ، والفساد والاضطراب في الماديات وقد بلغ الأمر منتهاه ولم يعد قوس الصبر منزع ، ولابد من تغيير حازم حاسم سريع .. فأما أن يفقه أولو الأمر هذه الحقيقة ويقدروها ، فيبادروا في سرعة إلى إجراء التغيير الصالح برأيهم وعلى أيديهم ، وفي ذلك السلامة والاستقرار ، ومازال في الوقت متسع للإصلاح ، وإما أن يظلوا في هذا الانصراف فتسبقهم الحوادث ، ويفلت من يدهم الزمام ، ولا يدري عاقبة ذلك إلا الله .

يا أولى الأمر في هذا البلد ..

ويا دولة رئيس الحكومة ..

ويا رجال الأزهر ...

ويا زعماء الأحزاب والهيئات والجماعات ...

ويا ذوى الغيرة على هذا الوطن الأسيف :

تداركوا الأمر قبل الفوات .. وأمامكم سفينة النجاة من نظام الإسلام .. ولله عاقبة الأمور .

ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد .

حسن البنا