رمضان.. وفقه تغيير النفوس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
رمضان.. وفقه تغيير النفوس

بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف

مقدمة

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..

تظل نفحات شهر رمضان وبركاته تفوح على الأمة الإسلامية كل عام، حاملةً في طياتها الكثير من المعاني والواجبات العملية لنهوض الأمة وتطورها على كل المستويات، ليرسم لنا شهر الصوم مشروعًا إصلاحيًّا للفرد والأمة، ويبقى الواجب علينا أن نتعرض لهذه النفحات؛ عسى الله أن يهدينا إليها ويعيننا على حسن استثمارها.

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم".

وإن من نفحات الله المباركة علينا شهر رمضان المبارك؛ الذي يُعد مدرسةً للأمة للتقربِ إلى ربها، وتنقيةِ نفوسها، ومراجعةِ أهدافها وخطواتها، واغتنامُ هذه الفرصة الثمينة والهدية الربانية خيرُ زاد للسائرين على طريق الدعوة إلى الله.

إننا بحاجة ماسَّة إلى ما يمكن تسميته "فقه تغيير النفوس في رمضان"؛ لنستطيع أن نستثمر هذه النفحات الربانية لننطلق نحو آفاقٍ أسمى في واقع حياتنا، مغتنمين هذه النفحات المباركة في هذا الشهر الفضيل لتوجيه أنفسنا نحو الأفضل وعلاج ما بها من أسقام وعلل؛ فتزكو بروح الإيمان، وتسمو بفيض القرآن.

ومن المعلوم أن باعث التغيير في أساسه داخليٌّ، يُشرِبُ النفس الإنسانية ثقافةً وسلوكًا، حتى يصبح مهيمنًا على شئونها، ضابطًا لتصرفاتها، حاكمًا لكل تصوراتها، وهذا يتطلَّب منا الكثير من الجهد الدءوب (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 9، 10)؛ لأن المعركة الحقيقية إنما هي مع النفس قبل أن تكون مع الأعداء، وصدق الإمام البنا: "ميدانكم الأول أنفسكم؛ فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن أخفقتم في علاجها كنتم أمام غيرها أعجز"؛ لذا كان لزامًا العمل على إصلاحها وتزكيتها وتطهيرها.

ولقد يسَّر الله سبحانه وتعالى لنا سبل تغيير النفس في رمضان؛ فجعل منه نقطة انطلاق وتغيير قوية وفاصلة لتصحيح أوضاعنا كلها؛ فأبواب الخير مفتحة، ونوافذ الشر موصدة "إذا جاء رمضان، فُتِّحت أبواب الجنَّة، وغلِّقَت أبوابُ النار، وصفِّدَت الشياطين، ونادى منادٍ: يا باغِي الخير أقبل، ويا باغي الشر أَقصِر" (رواه الخمسة إلا أبا داود)، وفيه دعوةٌ واضحةٌ لأولي الألباب لاغتنام هذا الشهر الفضيل بعدما يسَّر الله سبحانه وتعالى لنا كلَّ السبل؛ بفتح أبواب الجنان وغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين.

ولكي يؤتي "فقه تغيير النفوس" ثماره لا بد من أن تتوفَّر لدينا شروط التغيير، ومنها الرغبة الحقيقية في التغيير، ومعرفة كيفية التغيير، وأن يكون التغيير عملاً لا قولاً، وإدراك أن التغيير لا يأتي من الخارج بل يأتي من الداخل (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11)، ثم العزيمة الصادقة على القيام بهذا التغيير.

إن تغيير النفوس للأفضل ليس أمنيةً مجردةً، بل هو حركة على أرض الواقع، يبدأ بتخلية النفس عن النقائص وتحليتها بكل ما يطهِّرها مما يُرَى أثره في أقوالنا وأخلاقنا ومعاملاتنا ومع أهلينا وجيراننا والناس من حولنا، لتتحول نفوسُنا في رمضان وبعده إلى نفوس قرآنية تستقي من القرآن زادها.. ربانية؛ لا تبتغي من وراء إصلاحها إلا وجه الله.

ومما يعين على ذلك؛ أن نتحلى بإرادة صلبة، وعزيمة قوية، ونبدأ ونحن مفعمون بالتفاؤل، ولنجاهد أنفسنا في بناء ذواتنا، فرمضان فرصة عظيمة لنرمِّم ذواتنا، ونشذِّب السلوكيات الذميمة في حياتنا، ونخرج من التمحور حول الذات إلى بناء علاقات إيجابية مع الآخرين.

إن أولى خطوات التغيير الحقيقي في هذا الشهر الكريم ينبغي أن ترتكز على الإخلاص التام لله والحياء منه وخشيته ومحاسبة النفس؛ ليكون ذلك دافعًا لنا طوال حياتنا بإذن الله، كما علينا أن نتوب توبةً صادقةً نصوحًا؛ فإنها واجبة في كل وقت وحين، وهي في هذه الأيام الفضيلة أوجب، ولنحرص على الإكثار من العبادة في هذا الشهر، وخاصةً قيام الليل والتهجد وقراءة القرآن وتدبره ومعايشته وتطبيقه في ذات النفس وواقع الحياة وذكر الله واستغفاره والدعاء والابتهال إليه، ولنحذر من الملهيات من حولنا حتى لا يضيع وقتنا، ولا ننسى الإكثار من التصدق والعطف على اليتامى والمساكين وإفطار الصائمين.

ولا يمكننا أن نغفل الاستفادة من الإنجازات التغييرية التي يرسِّخها رمضان في النفوس؛ كالتعود على اتخاذ القرار، والثبات عليه، والتركيز على الإنجاز العملي، وكسر الإلف في العادات والأفعال، وحسن تنظيم الوقت، وحسن توظيف هذه الإنجازات في حركتنا كلها.

كما علينا ألا ننسى قضيتنا الأساسية والمحورية "القضية الفلسطينية"، وأن نجعل من رمضان نقطة لتغيير المواقف السلبية منها، وأن ندعم المقاومين المخلصين في نضالهم بكل الوسائل المتاحة من تحرِّي الدعاء لهم بالنصر في أوقات الإجابة، والتبرع، والمقاطعة، وتبني مواقفهم، ونشر قضيتهم في جميع الدوائر المحيطة.

إن الإخوان المسلمين ليدعون الأمة إلى أن تستثمر هذا الشهر الكريم وهذه الفيوضات الإلهية لتقف صفًّا واحدًا في مواجهة التحديات التي تواجهها وتهدِّد هويتها العقائدية والثقافية؛ انطلاقًا من استلهام عبر ودروس هذا الشهر العظيم، ولتعمل على زيادة المنجز التغييري لها على كل الأصعدة.

كما يدعون الحكام أن يتقرَّبوا إلى الله أكثر في هذا الشهر، وأن يغيِّروا ما بأنفسهم، ويتقوا الله في أنفسهم وشعوبهم، ويغيِّروا من توجههم وأفعالهم لتتسق مع المعاني السامية لهذا الشهر الكريم، ويقتدوا بأسلاف الأمة من الحكام العدول الذين قادوا الأمة إلى الانتصارات العظيمة الخالدة، كما يلزمهم أن يُعيدوا المظالم لأصحابها، ويتقوا دعوة المظلوم في هذه الأيام ويعيشوا المعاني الحقيقية لرمضان قولاً وفعلاً.

خلاصة القول

إن التغيير المنشود في رمضان تغيير عميق شامل؛ يبدأ من الفرد في نفسه: بالتوبة والمراقبة والإخلاص والمحاسبة والمسارعة إلى الخيرات، وفي بيته: بالقدوة والتوجيه وحسن التربية حتى يصير بيته قبلة بين البيوت (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)، ومرورًا بمجتمعه: بالمشاركة في فعل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونهايةً بأمته: بالاهتمام بأخبارها، والتعرف على حال الإسلام والمسلمين وتقديم يد العون لمن يحتاج، كما يمتد ليشمل كل ذلك فكرًا؛ فتصير الفكرة إسلامية صميمة، وسلوكًا؛ فتصير الأخلاق أخلاقًا محمدية، وتطبيقًا فتصير النظرية واقعًا معيشًا.

وكلمة للأحبة خلف الأسوار

استثمروا خلوتكم مع الله، وأكثروا من الصلاة والقيام والتهجد وتلاوة القرآن وتدبُّره وحفظه، وأكثروا من الذكر والدعاء، ولتكن هذه الخلوة نقطة تحوِّل في علاقتكم مع ربكم لتثرِي عملكم ودعوتكم بعدما يفك الله أسركم سالمين غانمين بإذن الله.

ومن رمضان استلهموا معنى الأمل بعد اليأس، والفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر، واستشعروا فرحتكم يوم تلقوا ربكم فيأجركم ويأخذ لكم ممن ظلمكم ويومئذ يفرح المظلومون.

وكلمة للإخوان..

اجعلوا من رمضان نقطة تغيير وتحوُّل في حياتكم، واغتنموا فضائل هذا الشهر، وحسِّنوا علاقتَكم بربكم تُفتح لكم القلوب المغلقة، وعمِّقوا أخوَّتكم، وكونوا كالبنيان المرصوص، وكونوا كما يُحب ربكم ويرضى، واعملوا جاهدين على زيادة رصيدكم القيمي والرسالي في هذه الأوقات الفاضلة.

واعلموا أن المسجد هو المحضن الأساسي لصياغة الشخصية المسلمة، وأكثروا من الخطى إليه تقربًا وطاعةً لله، وحقِّقوا في أنفسكم صفات المؤمنين كما وردت في القرآن الكريم، وكذا صفات عباد الرحمن كما وردت في قوله تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)... (الفرقان) (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: من الآية 194).

ولا يغِب عن بالكم أن رمضان راحلٌ كما رحل من قبل، وليس ثمة شك في ذلك، وإنما الشك في بقائنا للتنعم به بعد ذلك، فعلينا أن نستغلَّه قبل أن يرحل، ونكتسب منه هذا العام صورةً من صور تغيير الأنفس لما يحب ربنا ويرضى.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.. والله أكبر ولله الحمد.