سيف عبدالفتاح يكتب: البراء.. أشرف من قابلت وعرفت

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سيف عبدالفتاح يكتب: البراء.. أشرف من قابلت وعرفت


(9/13 / 2015)

سيف عبدالفتاح

قبل أربعين يومًا قابلت براء، فرحت به وبشاب آخر نابه فى صحبة الابن إسلام لطفي، أكرمنى إسلام برؤية من يحملون الأمل، من يحملون الثورة بين حنايا صدورهم، بين لحمهم وعظمهم.

أتفحص الوجوه فأرى براء مبتسمًا ولكنها ابتسامة تخفي وراءها وجع "ثورة يناير" شباب ملك الاحتجاج والمقاومة للمستبد، أطلق كلمة لا بكل ما في جسده وما ينفعل فيه من غضب وأشواق، غضب من ظلم قد طالت فترته، وأشواق لحرية طال انتظارها وعدل امتدت غيبته، الثورة فى دمائهم وانكسارتها فى عروقهم لكنهم جميعًا يعملون بجد واجتهاد وبدون كلل أو ملل، ثورتهم الكامنة طاقة، وانكسارهم طاقة لفعل صار براء وصحبه يعرفون أصل معركتهم وعمق مقاومتهم، ونفس طويل لم يعد يتوقف عند رومانسية الثمانية عشر يومًا بل حولها إلى طاقة لنفس طويل.

فى يوم كلمني ابن من أبناء ثورة يناير يخبرني أن البراء أوقفوه فى المطار، غضبت وقلت فى نفسي لماذا عاد البراء إلى الأوغاد، كان عليه ألا يذهب، وبعد ساعات تحقيق دخل إلى مصر الوطن، وكأنه على موعد مع تراب الوطن، عاد ليحتضنه تراب الوطن الذى طرد خيرة أبنائه وأنبلهم وأشرفهم، وعاد ليحتضن تراب الوطن فى لقاء أخير..

فى صبيحة يوم وفاته جاءت المكالمة، كنت قد سألتني عن براء، خفت عليه عندما يعود إلى عمله أن يقوم الزبانية بترصده عند عودته، كنت أنتظر منه أن يقول ربما قبضوا عليه، ولكنه قال: مات "براء"، متى وكيف ولماذا؟، أسئلة استفسار من هول ما سمعت، براء بنفسه البريئة آثر أن يدفن فى تراب وطن أحبه، سرقته العصابة ولكنه ظل يحبه، ذهب إليه رغم معرفته وعلمه أن المتربصين المدعين لحماية الوطن قد يودعوه سجنًا أو يمنعوه سفرًا، ربما علم براء أنه لن يعد؟!

هو فى تراب الوطن ولكن تنادي كثير من صحبه وبني وطنه لإقامة صلاة غائب عليه فى بلاد أخرى عمل فيها ونشط بلا توقف، ولكنه لم يغب، لقد قرر أن يعود إلى حضن الوطن، نحن من أقمنا عليه صلاة الغائب قد غبنا أو غُيِّبنا عن الوطن، كيف أنعيه بل أنعي الوطن، ولكن الكل يعرف أن براء الإنسان كان أقوى ما فيه، وعزته أكبر ما فيه، وكرامته وتكريم الله له ولجنسه عروة وثقى فى اعتقاده وعقيدته، أنعى براءة براء، أشرف من عرفت وقابلت..

اصطف الناس لنأخذ العزاء، دعاني الشيخ أن أتلقى العزاء كأبيه، نعم شرف لي أن أكون فى مقام والده وهو ابني، براء الابتسامة والوجه الطفولي الذى يشع أدبًا واحترامًا، ولكنه كان يحمل فى صدره قلب فسيح وعقل حكيم، لقد أتم الثلاثين، ولكنه امتلأ بالحكمة والرشد "سابق سنه".

كتب براء ذات يوم "اسمي ليس تهمة": (جرت العادة، أن يتم التعامل مع اسمي مكتوبًا باعتباره خطأ إملائيًا غير مقصود.. اسمي يكتب هكذا «البراء أشرف»، بحسب ما هو موجود في بطاقتي الشخصية وأوراقي الرسمية. لكن، كما تراه بداية هذه السطور، يأتي دون ألف ولام.. في محاولة للتخفيف والتبسيط، وتمريره دون أن تستوقفه عيناك، وتعتبره خطأ إملائيًا.

في كمائن وزارة الداخلية، يمرر السادة أمناء الشرطة اسمي الأول، وكأنهم لم يقرأوه أصلًا، يتم التعامل معي باعتباري «أشرف» مباشرة، حتى إن أحدهم، حين أكدت عليه أن اسمي هو «البراء»، لكتابته في إيصال تحرير المخالفة، قال ما يعني أنه فهم أن اسمي رتبة، تمامًا كاللواء..

وقد أدهشه أنني أخبرته أن حتى بطاقات اللواءات لا تكتب فيها رتبهم.. تحول اسمي إلى تهمة.. وتحولت التهمة إلى معلومة مؤكدة.

وأصبحت مؤخراً، أستقبل الاتهام بإنكار، وأضع مبررات كثيرة، للظروف التي ورطت أهلي في اختيار اسم كهذا، وأن الاسم، أي اسم، لا يحدد انتماءات صاحبه، فقد تمت تسميتي باسمي وأنا طفل له من العمر يوم واحد، وقد أدركت وقررت انحيازاتي وانتماءاتي بعدها بسنوات طويلة.. الأطفال الرضع لا ينتمون لجماعات أو أحزاب).

وكتب "متى تبكي مصر؟": (أما وقد فرحت مصر، رقصت، صفقت، ضحكت، تلونت بألوان البهجة والسرور. فلعل الوقت مناسب، لأن تذهب الفرحة وتأتي الفكرة، والفكرة سؤال : متى تبكي مصر؟!..الحزن واجب احترامه فقط إن كان بقرار من السلطة.

تمتلئ الشاشات فوراً بعدد لا نهائي من محترفي البكاء التلفزيوني. نبكي لأن السلطة تشعر بالحزن، ونقول في نهاية المداخلة : سنفرح رغم الحزن، سنرقص رغم البكاء، سنضحك رغم السخافة المطلقة للنكتة المتكررة التافهة..

على العهد دائماً، فرحة فرحة بأمر القصر، فرحة في كل شوارع مصر..ومبررات الحزن الطبيعي، والبكاء الحقيقي، متوافرة، ومتاحة، وبديهية، بالنسبة لهؤلاء الذين لم يعتادوا الفرح المصري الدائم (وأنا واحد منهم)..هل يحزن مصر الفشل؟، الفقر؟، الفساد؟

المرض؟، القتل؟، الجهل؟، القمع؟، الجوع؟، التخلف؟..هل تبكي مصر، لأن أولادها يهاجرون بشكل منتظم، يومياً، وبكل الطرق الممكنة؟..هل تبكي مصر حين تشعر بالضعف حتى؟!..

حين تفقد قوتها السابقة لصالح من كانوا بالأمس أضعف كثيراً منها؟..متى تبكي مصر؟!.. وهل هناك دليل، على أنها، لا تفعل هذا.. حالياً؟!..أنت وحدك تعرف الإجابة)..

وها هو يريد ويتمنى قبل موته وقبل بلوغه الثلاثين: (صوت ابنتي الكبرى في الهاتف يصفعني عدة مرات، لديها من العمر سبع سنوات وبضعة أشهر إضافية، وأختها الصغرى لديها عامان وبضعة أشهر أخرى. بحسبة بسيطة، أنا أملك ثلاثة أضعاف سنوات عمر الطفلتين، وأجدني مازلت مشغولاً، بأمور تشبه ما يشغل صاحبة الصوت الرقيق على الهاتف: “بابا، عايزة ألعب”..

أنا أيضاً أريد أن ألعب، أنا أيضاً أمر أحياناً على قسم ألعاب الأطفال في المحلات الكبرى. وأجد فيها ما لا يزال قادراً على لفت انتباهي وإثارة فضولي ورغبتي في اللعب، أنا أيضاً أشعر أنني لم أحصل على قدر مناسب من اللعب، الوقت كان ضيقاً ولا يزال، بحيث كانت هناك دائماً أمور أكثر أهمية من اللعب، وأنا الآن على أعتاب الثلاثين أشكك في أهمية كل ما أنهى وقت اللعب مبكراً، اللعب أهم، دون شك.

لو أن العالم يسمع، وهذا أمر لم ألحظه يحدث سابقاً، فهذه بعض الأشياء، أتمنى لو أن حصولي عليها لا يسبب له -العالم- أية مشكلة، أرجو لو أنه بكرمه غير المعهود، يتكرم -كاستثناء-، ويسمح لي بالحصول عليها في الشهور القليلة التي تفصلني عن الثلاثين، بل إني لا أمانع، لو حصلت على بعضها بعد الثلاثين مباشرة.

أريد لو أنني أتوقف عن الاهتمام برأي الناس، عموماً، وقد حاولت بشكل شخصي جداً، تطوير هذه المهارة في نفسي دون جدوى، الأمر بحاجة إلى جهد جماعي، خاصة وأنني على ما يبدو لست صاحب الرغبة الوحيد، كل الذين قابلتهم سابقاً، في سنوات حياتي التي أظنها قليلة وتبدو كثيرة، يشكون من ذات المسألة، آراء الناس فينا، تقييمهم المستمر لنا، كلنا نكافح للوصول إلى حالة من التبلد، بحيث لا ننشغل بالناس أكثر من انشغالنا بأنفسنا، أريد من العالم أن يساعدني، يساعدنا، بل ويساعد نفسه، بحيث يتوقف الآخرون عن إبداء الملاحظات والآراء والانطباعات والتقييمات المستمرة، هذا سيساعدنا دون شك على الشفاء بشكل أسرع، والعالم مكان أفضل جداً، دون كل هؤلاء المرضى.

وأريد لو أنني أتحكم قليلاً في الزمن، هناك أشياء أود لو أفعلها بسرعة، وأمور أخرى أفضلها بطيئة، أريد لو أقرأ بسرعة، أنام بسرعة، أحب بسرعة، أفقد ما زاد من وزني بسرعة. وأفضل، لو أستمتع ببطء. لو تمر اللحظات السعيدة أبطأ وأبطأ، لو أن مليكة وكرمة، صغيراتي الجميلات تكبران ببطء، لو أنهما تظلان طفلتين.. ولو يستمر اسمي على شفاة كل منهما براء لا بابا..

وأريد، لو أن الأشياء المزيفة يسهل كشفها، والأشياء الحقيقية يسهل اكتشافها، لو أن الخدع تتوقف بشكل عام. لم يعد هناك وقت لمزيد من التجارب عديمة الجدوى.

وأريد، لو أنني أملك خطة واضحة بخصوص المستقبل. خطة ما، يسهل تنفيذها. أو حتى لو أن مسؤولية تنفيذها كانت جماعية، بحيث لا أكون وحدي مسؤولاً عنها.

أريد مزيداً من الحكايات. ذات النهايات السعيدة، وأريد لو أن ما سبق في حكايتي، محدود الأخطاء والخسائر.

وأود لو أتخلص عموماً من القلق والنزق، الحقد والحسد، الشر والشره، الكره والكسل، وأريد لو أبتعد عن القتل، قاتلاً، مقتولاً، أو شاهداً عليه. لو يختفي القتل عموماً، هذه مسأله مفيدة للعالم لو يعلم، تخصه أكثر مما تخصني.

وأريد، لو أن كل ما أريد، لا يزعج أحداً سواي. لا يؤذي غيري. لو أن الناس عموماً تنبسط، وتظل مبسوطة، لو أن السعادة متاحة للجميع.

أريد، لو أنني أرحل عن العالم قبل الذين أحبهم. كنت محظوظًا بحيث لم أجرب فقد الأحبة كثيرًا. أخاف هذه اللحظات. أخافها أكثر من خوفي من رحيلي الشخصي.

وأرجو، لو كان رحيلي سهلاً، سلساً. بسرعة دون ألم يخصني أو يخص الذين سيملكون وقتاً وقلباً للتألم على رحيلي. وأريد أن يسامحني بعض الأشخاص، ويحبني بعضهم، ويكرهني بعضهم، على أن تكون الأفعال السابقة حقيقية جداً، لا زيف فيها ولا ادعاء).

أراد الرحيل وترك الأمل ،إنها براءة البراء وعمله المعطاء ومسيرته التى تميزت بالثراء، سيبقى مامثله الإنسان "براء" "أشرف" من قابلت وعرفت.

المصدر