صراع السلطة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
شاهد حق
صراع السلطة
نجيبعبد الناصرعامرالسادات

بقلم: أحمد طعيمة

تقديم

مما لاشك فيه أن هناك من يتعصبون لثورة 23 يوليو وجمال عبد الناصر حباً وإخلاصاَ ، وآخرون يعادون ثورة 23 يوليو وجمال عبد الناصر بغضاً وكراهية ، ولكل منهم أسبابه . . .ولن نشغل القارئ الكريم بأسباب الحب والعداء ، وذلك أن رسالة هذا الكتاب أن تكن سطوره (شهادة صدق) .

لا ينحاز إلى المحبين كما لا ينحاز إلى الأعداء إنما هو تاريخ مرحلة من مراحل الثورة بحلوها ومرها ، وحسناتها وسيئاتها .

وأسألك أيها القارئ الكريم ألا تفصل بين الأمرين إنما يقرأ الكتاب أو يحكم على الأحداث بحيدة تامة وككل . . . وليس أجزاء منفصلة ، أو وقائع لا ترتبط بما سبقها أو تلاها فذلك هو المنهج العلمى ، والرؤية التى تحتكم إلى الانصاف ، وإلى عدالة الكلمة ، التى لاتغفل عن لغة الاحداث .

ولأدلل على صدق قولى ، فإنه قد نسب لى وللأخ إبراهيم الطحاوي أحداث مارس 1954 والإضراب الشامل الذى أعاد مجلس قيادة الثورة إلى الحكم . . . . . وأقول أنه لو عادت عقارب الساعة إلى عام 1954 وبنفس الظروف السياسية زمانا ومكانا ، فلن يتغير قرارنا ولن يتبدل موقفنا عما اتخذناه فى مارس 1954 ، حتى وإن اعتبره البعض اليوم خطأ ذلك أنهم علموا النتائج وما جرى من أحداث خطيرة وجسيمة بعد عام 1954 وطالما حجب عنا الغيب فلا مجال للحكم بالخطأ والصواب إلا بالالتزام بكل ما اكتنف القرار من زمان وأحداث ، ثم بعد ذلك كله فإن العصمة لله وحده ، وطالما حجب عنا الغيب ، فالانسان قد يصيب وقد يخطئ وقد ينهض وقد يتعثر ، وصدق الله العظيم فى قرآنه الكريم . . . . . ( ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ) ) .

وإذا كنت لم استطع إرضاء محبى جمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو ارضاءً كاملاً ذلك لأننى شاهد حق .

قبل أن تقرأ

مما لا شك فيه أن ثورة 23 يوليو 1952 تتميز بين ثورات العالم أجمع قديمه و حديثه بأنها تمتد جذوراً فى أعماق الزمان و تستمد حياتها من ضمير و وجدان الشعب المصرى منذ آلاف السنين ، فما سبقها من ثورات و حركات و انتفاضات تحرير و فشلت فى تحقيق أهداف لثورة أو لمعنى الثورة ، و بذلك تكون ثورة 23 يوليو 1952 هى أول ثورة فى مصر منذ آلاف السنين مصرت السلطة والحكم و نقلته إلى أيد مصرية صميمة من أبناء الشعب لحماً و دماً و روحاً ، كما قضت فى النهاية على حكم الغزاة و الولاة والمتمصرين ، كما أنها كانت أول ثورة فى تاريخ مصر تمكنت من التغيير الجذرى و التطوير فى المجتمع المصرى مما ستظل آثاره العميقة واضحة لعشرات السنين . كما أنها لم توغل فى سفك الدماء لتأمين نفسها مثل الثورات الأخرى كالثورة الفرنسية فيحق لها أن تكون ثورة بيضاء .

و من هنا تنبع أهمية التحليل التاريخى لثورة 23 يوليو 1952 لأنها أول تجربة مصرية فى الحكم . و كما كانت الثورة الفرنسية بشعاراتها الحرية و الإخاء و المساواة ثورة فرنسية صميمة ، إلا أنها فى نفس الوقت كانت نوراً جديداً سطع على قارة أوروبا فأحال ظلمتها ضياء لتخرجها من استبداد القرون الوسطى إلى بداية التحرر الأوربى .

إذا كان الأمر كذلك فإن ثورة 23 يوليو هى الأخرى كانت كذلك مصرية صميمة أضاءت بكفاحها وشعاراتها ومبادئها كل ماحولها فى المحيط العربى والأفريقى والأسيوى والعالم الإسلامى بل و فى أمريكا اللاتينية ، فكم من ثورة اندلعت فى أعقابها و كم من أمة نالت حريتها و استقلالها ، مستنيرة بشعلتها مهتدية بمبادئها ، فإذا بالاستعمار يرحل مهزوما إلى غير رجعة من كل أرض دنسها ، ذلك لأن ثورة 23 يوليو 1952 فجرت صيحة الحرية و التحرير .

لقد كانت شعاراتها اناشيد للشعب والثوار حفظها الشعب فى مصر ، و رددها الثوار وطلاب الحرية والاستقلال فى أرجاء قارتنا الأفريقية و غيرها من القارات و لن ينسى تاريخ الشعوب شعار ( ( على الاستعمار أن يحمل عصاه على كتفه ويرحل ) ) و كذلك شعار ( ( ارفع رأسك يا أخى فقد مضى زمن الاستعمار ) ) .

لم و لم يدر بخلدى أن أكون كاتباً عن ثورة 23 يوليو 1952 فى يوم من الأيام إلى أن جاء يوم 5 يونية 1967 فمنذ هذا التاريخ المشئوم و قلبى يحدثنى و عقلى يراودنى أن أهب و أرفع صوتى لا لجيلنا الذى كان على موعد مع الأقدار فحسب ، و لكن الأجيال بعدنا آن لها أن تتسلم الأمانة و تحمل الرسالة لتكمل الطريق الذى بدأناه لتحقيق ما أردناه من أمال عظام ، لقد كان قدرنا بعد أن تكاثرت أخطأنا فعجزنا عن تحقيق أمانى شعبنا الصابر ، ذلك الذى فى لحظة من اللحظات وضع كل آماله وآلامه بين أيدينا فخاب الرجاء .

أكتب لهذا الجيل الجديد و ما بعده من أجيال درسا و عظة أدعو الله تعالى أن ترشده وتهديه . و لقد روعنى ما قرأت من كتب صدرت عن ثورتنا وخاصة بعد هزيمة 1967 ، فقد امتلأت بالحقد والعداوة ومحاولة تجسيم الأخطاء حتى تكاد تكون ثورة 23 يوليو 1952 محصلة أخطاء وعثرات و نكبات ، مقللة من كل انتصاراتها و أمجادها و كأنها لم تحقق شيئاً مما نادت به .

لقد أدهشنى أن بعض من تصدوا للرد أو الكتابة عن الثورة من المستغلين و الانتهازيين ، كان النفاق أسلوبهم ، محاولين إلباس الباطل ثوب الحق و إقرار الخطأ و هدم الصواب ، و من هنا تنبع أهمية التحليل التاريخى المنصف لثورة 23 يوليو 1952 حتى لا تضيع الحقائق ، و يزيف التاريخ عدو حاقد و منافق مأجور أو عميل خائن .

لما كنت منذ فجر الثورة في 23 يوليو 1952 أحد جنودها و ضباطها الأحرار تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر و يحكم صلتى الثيقة به لا كرئيس للجمهورية أو قائد للثورة أو زعيم للأمة فحسب بل كأخ أفضل ما تكون الأخوة ، و كصديق أعز ما تكون الصداقة ، و زميل الكفاح أشرف ما يكون الكفاح ، خاصة أنه منذ بداية الثورة أسند إلى العمل فى هيئة التحرير مع الأخ العزيز إبراهيم الطحاوي لنؤسس تنظيماً شعبياً يساند الثورة من أبناء الشعب حتى لا تستمر الثورة محصورة فى ضباط الجيش دون سند شعبى لا سيما بعد حل الأحزاب السياسية و الإخوان المسلمين ، مما وثق العلاقة مع الرئيس جمال عبد الناصر و أتاح لنا معايشة الأحداث فى السنوات الأولى للثورة و هى أخطر السنوات التى مرت بها الثورة و التى كنا فيها خضم الأحداث لنعرف من الحقائق و الأسرار ما غاب عن كثيرين و لو كانوا من المقربين .

من هنا تبين لى أننا لسنا فى حاجة إلى سرد تاريخى للثورة بقدر ما نحتاج إلى تحليل و واقعى للأحداث التى مرت بها ، و التى صهرتها فى أتون التجربة خطأ أو صواباً ، و ذلك فى خضم المشاكل العالمية و العربية و المحلية ، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو عسكرية ، فقد كانت الثورة كلما مرت بحدث أو إعصار ، و بدأت تتشكل لتستقر على حال ، و إذا بحدث أو إعصار جديد يفرض عليها أن تتجه من جديد إلى مواقف جديدة ، و تحولات لمجارة الأحداث التى فاجاتها ، لتتشكل من جديد .

إنه مهما قيل عن ثورة 23 يوليو 1952 و أهدافها و خططها التى سبق وصفها فإن الحقيقة التاريخية المجردة أن الأحداث وحدها محلية كانت أو خارجية ، هى التى أعادت صهرها هدفاً و فكراً وخطة قيادة فى كل مرحلة من مراحلها التاريخية .

ومن هنا تتضح أهمية التحليل التاريخى لثورة 23 يوليو 195 ، هذا التحليل الذى سيلزمنا بان نعترف بأن الثورة كانت دائماً متغيرة متطورة تبعاً للأحداث التى فرضتها أو فرضت عليها ، لقد كانت الثورة مستهدفة من قوى كثيرة قوية ، و لقد كانت تلك القوى المناوئة للثورة تسعى بكل جهدها حتى تخمد صوت الثورة ، حتى لا يسمع المستضعفون صوتها ونداءاتها ومبادئها ، ومن هنا تعددت الجهات المضادة للثورة ، و كان على الثورة أن تتحرك للدفاع عن نفسها فى اتجاهات عديدة . . . . وبذلك تعددت وتطورت معارك الثورة كفاحاً بالقوة ، وكفاحاً بالكلمة .

و قد كنت و عزيز باشا أباظة تجمعنا صداقة و اخوة و خلال مناقشتنا اقترح على ضرورة كتابة مذكراتى و رشح لى الملحق الثقافى السابق فى لندن و الذى كان يعمل فى هيئة الاستعلامات ليعاوننى فى اصدار الكتاب .

و اقترح أيضاً زيارتى للسيد عصمت عبد المجيد الذى كان رئيساً لهيئة الاستعلامات فى ذلك الوقت لاستأذنه فى السماح له بمعاونتى فوافق مشكوراً و بدأنا العمل فى النصف الثانى من 1970 بكتابة رؤوس الموضوعات . و فوجئت بمعاونى يطلب إحضار جهاز لتسجيل ما يدور بيننا فرفضت لشعورى فى ذلك الوقت أن هناك من يرغب فى الاستماع إلى ما أقول و اعتقدت أن هذا قيد لا أقبله .

و كنت مزمعاً الحج فى نفس العام 1970 و فوجئت بحضوره إلى منزلى مودعاً و أخرج و رقة من جيبه و قال لى أن هناك عشرة اسئلة و بإجابتى عليها يمكن تصور مضمون الكتاب حتى تساعده إجابتى فى عمله فسألته عن ماهية هذه الأسئلة .

فقال السؤال الأول هل انتهت ثورة 23 يوليو 1952 فقلت له بإعلان الدستور المؤقت و قيام حياة برلمانية و حل مجلس قيادة الثورة تكون الثورة قد انتهت فعلا و لكن تبقى مبادئها .

و كان السؤال الثانى شديد الغرابة إذ سألنى مباشرة هل جمال عبد الناصر طاغية أم ديكتاتور فتأكدت أن المخابرات هى التى وراء هذه الأسئلة فاشتد غيظى و قررت أن أجيب على تساؤلات ضابط المخابرات بالطريقة التى لا يتوقعها و قلت له طاغية و ديكتاتور .

و عزمت على مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر بعد عودتى من الحج مباشرة لأنى سأتأكد فى لقائى من أن هذا الحديث قد نقل إليه كما هو أو لم ينقل و أثناء اللقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر طلبت من سيادته أن يعطى تعليماته للأخ أمين هويدي مدسر المخابرات العامة لا مدادى بكل الوثائق التى احتاجها فى اصدار كتاب عن ثورة 23 يوليو . ففوجئت به يطلب تأجيل إصدار الكتاب إلى مابعد وفاته و كانت هذه هى أول مرة يذكر فيها جمال عبد الناصر الموت أمامى فتأكد لى أنه بلغ من المخابرات بما قلت فكان ردى أن عشارت الكتاب الأجانب كتبوا عن الثورة و أنا ابن الثورة فلماذا لا أكتب عنها الآن فأصر الرئيس على رأيه و انتهت المقابلة .

و لقد حاولت الاتصال بمن كان يعاوننى و أنا لا أذكر اسمه الآن فلم أوفق و شكوت لعزيز باشا أباظة و طلبت منه الاتصال به لإحضار الأوراق الخاصة بى و بدون جدوى و بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر بفترة اتصل بى عارضا الحضور لزيارتى و تأسف لى عما حدث ، و قال أنه مضطراً بعد أن وقع تحت تهديد المخابرات العامة و هم الذين قدموا له الأسئلة و اعتدوا عليه بالإهانة و الضرب . . . . كما توقعت تماماً .

و بعد فقد ترددت كثيراً بعد وفاة جمال عبد الناصر و فراقه المفاجئ لنا جميعاً ولى خاصة فقد كنت أتمنى أن يكون أول قارئ له و أن يكون بيننا حتى لا يتبادر إلى ذهن أحد القراء أنى لم أجد من الشجاعة ما يكفى لأكتب ما كتبت إلا بعد وفاته .

و هذا ما ألجأنى الآن إلى أن اضمن هذا الكتاب بعض رسائلى إليه حرفياً أثناء توليه السلطة و هو أشد ما يكون قوة حتى يستدل منها أنى كنت أميناً معه فى حياته و مماته أميناً مع وطنى أميناً مع نفسى و أميناً مع جيلى و من يأتى بعدنا من أجيال ، و إنى لأرجو من القارئ الا يتسرع بالحكم ، فقد يقرأ مدحاً و إشادة بالرئيس جمال عبد الناصر و قد يقرأ نقداً فلا المديح كان تحيزاً و تشيعاً و حباً أعمى لعبد الناصر و لا كان النقد عداء أو كراهية له . . . و أقول أننى أحببته و أجللته و سأجله إلى أن ألقى الله تعالى إنما هى الأمانة تملى على كل كلمة فإنها حق للوطن و للتاريخ و لكل مصرى من أبناء هذا الوطن .

و ألفت نظر القارئ الكريم أن الأحداث على مر السنين من 1952 إلى 1974 تخللتها ذكريات أيامى من واقع حياتى فكل ما أسند إلى من مناصب كان ظلاً لهذه الأحداث مما أوجب سرد بعضها استكمالاً للصورة و إيضاحاً للحقيقة .

أخيراً أيها القارئ العزيز أدعو الله أن يسدد خطاى لكى انقل إليك ما أعمله بحق و صدق و لا أخفى عليك ما أ علم لغرض أو هوى .

و أرجو ألا تتعجل فى الحكم أو تتسرع بإبداء الرأى إلى أن تتم القراء .

و الله ولى التوفيق ، ، ، ،

المقدمة

عزيزى القارئ . . . . .

أقدم هذه الذكريات و ما من حرف أو كلمة يقع عليها نظرك إلا و هى حق كل الحق فلم أدون إلا ما رأته عيناى أو أذناى أو نطق به لسانى مهتديا يقول الله تعالى فى كتابه العزيز :

بسم الله الرحمن الرحيم . . . ( ( و الذين لا يشهدون الزور و إذا مروا باللغو مروا كراماً ) ) .

بسم الله الرحمن الرحيم . . . ( ( فاجتنـــــــبوا الرجس من الأوثـــــــان و اجــــــــتنبوا قـــــــول الزور ) ) .

بسم الله الرحمن الرحيم . . . ( ( و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فإنه آثم قلبه و الله بما تعلمون عليهم ) ) .

بسم الله الرحمن الرحيم . . . ( ( إن فى ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ) )

و أبدأ هذه الذكريات بخطاب أرسلته للسيد الرئيس جمال عبد الناصر بتاريخ 30 / 4 / 1967 متنبئاً بحدوث كارثة وطنية و حرب أشد خطراً و بشاعة عن عدوان 1956م .

و خطاب ثان بتاريخ 1 /9 / 1967 و قد كتبته بناء على طلب شخصى من السيد الرئيس جمال عبد الناصر بأن اقترح سبيل الخروج و النجاة من آثار 5 يونيو 1967م .

و أكتفى هنا بنص الخطابين أما ما دار بينى و بين السيد الرئيس جمال عبد الناصر تعليقاً على هذين الخطابين فأتركه فيما يأتى ن فصول هذا الكتاب .

أبداً هذه الذكريات بخطاب أرسلته إلى جمال عبد الناصر بتاريخ أول سبتمبر 1967م :

السيد الرئيس / جمال عبد الناصر حفظه الله أبقاه

بعد التحية ، ، ،

لقد تعودت الكتابة لسيادتكم فى مناسبات عديدة طوال سنوات و سنوات و لكننى لم أشعر طوال حياتى بما أحس به الآن من مشقة و عذاب و أنا أحمل القلم لأدون لكم بمداد من دم القلب و عصارة عقل أضناه الألم ، و خلاصة فكر أعياه الحزن و الكمد . . .

فما تمنيت أن يمتد بى العمر لأشهد ما شاهدت . و لكنها إرادة الله و هى فوق كل إرادة ( ( و عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون ) ) .

و على الرغم مما أصابنا خلال هذه المحنة و مهما كان البلاء الذى أصابنا من هذه النكسة ، فليس هناك مجال لليأس و الاستسلام ، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا و لن يغلب العسر يسرين بإذن الله . . . و فى تقديرى أنه ليس هناك ما يمكن أن يسمى بالمستحيلات أو المستعصيات فلكل مشكلة مهما عظمت حل . و قد يكون أبسط الحلول ، و قد يكون أعظمها أثراً و فعلاً .

و فى تقديرى أيضاً أن التجرد لله و الإخلاص للوطن و إنكار الذات فلا غرض و لا هوى و لا مصلحة شخصية و لا منفعة ذاتية و لا طمع فى سلطان أو جاه أو منصب هى المستلزمات لمن يتصدى لمشكلة عامة ، أو قضية وطنية كالتى تواجه الوطن الغالى فى هذه الظروف العصيب ة . . .

سيدى الرئيس  :

تعلمون يا سيادة الرئيس بما سجلت من آراء سابقة يشرفنى إنكم لازلتم تحتفظون بها حتى الآن أدليت بها فى ظروف تختلف كل الاختلاف عما نمر به الآن . و مع ذلك فإنها تعتبرمن مستلزمات الإصلاح و الإنقاذ الآن أكثر من أى فترة ماضية .

و أنى لأعترف أن كثيراً من أقوالكم لى أو ما ورد فى خطبكم خلال سنوات الثورة قد نقش على القلب فى حنايا العقل و كان دائماً نوراً يضئ لى الطريق فى ربط الأحداث و حساب النتائج و التوصل إلى معرفة الأخطاء و استنتاج الحلول التى استند إليها فى كثير من المقترحات و أنى لأستسمحكم أن أترك لقلمى العنان حتى يسطر كل انفعال دون كبت أو إحجام . . . فليس هناك من أمل إلا بإزهاق الباطل و إتباع الحق .

و قبل أن أبدأ فى مناقشة الموضوعات الرئيسية دون تعرض للماضى القريب او البعيد فأنتم اعلم به منى . . . أرجو أن يتكرم السيد الرئيس بأن يجعل من حسه و وجدانه و ضميره و قلبه و عقله حكماً على ما أقول و أن يحذر المنافقين و المداهنين ، و مستشارى السوء ، و إخوان الغدر و الخيانة ممن أدعو الله عز و جل أن يتم نعمته عليكم و يتم لكم الخلاص منهم جميعاً . . .

فأخشى أن يتمكن هؤلاء من أن يصوروا هذه الاقتراحات على أنها علامات ضعف أو استسلام أو أنها عودة إلى الماضى . . . و هم لا يبتغون حقاً لأن هؤلاء و هؤلاء لا يستطيعون الحياة على مسرح السياسة أو فى مناصب الحكم إلا فى ظل الكبت و الظلم و ظلام الخوف و الإرهاب ، و ليس لهم من معبد إلا مذبح الحرية و الكرامة و الديمقراطية . . . .

و أنى لاؤمن كل الإيمان أنكم تستطيعون أن تخرجوا من هذه النكسة أصلب عوداً و أقوى محبة و حباً فى قلوب الشعب عما كنتم عليه قبل 5 يونيو سنة 1967 اليوم المشئوم و أعتقد أن فى لقائى مع سيادتكم فى 30 أبريل سنة سنة 1967 قد أوضحت لكم بإخلاص الموقف السياسى و الشعبى . . . . و لا يتطلب ذلك منكم إلا اتخاذ قرارات جريئة ثورية تستهدف بها وجه الله و الوطن و مصلحة الشعب بعد أن أمكنكم الله من تلك العصابة المجرمة الآثمة الفاجرة الخائنة التى عاثت فى البلاد فساداً ، و نشرت الظلم و الرعب و الخوف و الفزع .

الموقف السياسى

أولاً : الدستور :

منذ إعلان الثورة و خلال خمسة عشر عاماً عاشت البلاد فى ظل دستور مؤقت و قد كان ذلك من أفدح الأخطاء و الأخطار ، و كان لذلك نتائج أعمق و أخطر فى أسلوب الحكم مما مكن لأى عناصر مخربة منحرفة أو خائنة من اللعب بمقدرات البلاد وحريات الشعب و حقوقه . . . فليس هناك من صمام أمن يحفظ سيادة للقانون كالدستور .

و أرجو المعذرة يا سيادة الرئيس أن أعطيت هذا التوضيح فقد صدر الدستور المؤقت بقرار جمهورى ، و صدرت له تعديلات بقرارات جمهورية طبعا فى بعض المناسبات . . . .

و كان شأن دستور الأمة و كيانها و أمنها و استقرارها و حريتها يعدل إصدار قرارى جمهورى بتعين أو فصل موظف أو علاج مواطن على نفقة الدولة أو ترقية موظف أو مجازاته . . . .

و لقد سمعت منكم شخصيا فى أوائل الثورة عندما كانت هناك ازمة مع السيد جمال سالم . . . أن ما يشغل بالكم ليل نهار هو وضع دستور دائم للأمة يكفل لها الأمن و الطمأنينة و الحقوق لشعبها حتى لا تفاجأ فى أى وقت و يتولى أمرها شخص مجنون أو ظالم فيستبد بها و ينكل بشعبها . و تكون ثورة 23 يوليو 1952 قد أجرمت فى حق هذه الأمة و أصبحت لعنة عليها . . . . فقد قامت بحل الأحزاب السياسية و تركت فراغاً هائلاً بعد أن قضت على جيوب المقاومة السياسية مما يمكن أى شخص إذا وصل إلى السلطة أن يفعل ما يشاء دون قيد أو قيود . . . .

و قد سمعت من سيادتكم فى الفترة الأخيرة إنكم كنتم تنوون ترك رئاسة الجمهورية و لم يمكنكم إلا خوفكم من ترك مصير الشعب فى يدتلك العصابة الإجرامية . . . التى لا تعرف إلها و لا ضميراً .

و جرت الأحداث و أعلنتم تخليكم عن الحكم فى 9 يونيو سنة 1967 .

فهل كنتم ترضون يا سيادة الرئيس أن تتنحى عن الحكم بعد خمسة عشر عاماً و البلد بلا دستور . . . و يسجل هذا فى تاريخ الوطن و تاريخ عبد الناصر ؟

لذلك أومن أن إصدار الدستور الدائم هو أهم و أول عمل تحملون مسئوليته أمام الله و الوطن و التاريخ و لذلك حلان:

( 1 ) تكليف مجلس الأمة الحالى بوضع دستور فى خلال مدة أقصاها شهرين و لا يكلف بأى واجب آخر خلال هذه المدة .

( 2 ) أن يحل مجلس الأمة الحالى و تجرى انتخابات حرة لاختيار هيئة تأسيسية لوضع الدستور فى ظل حكومة انتقالية يرأسها الدكتور / محمد فوزى .

و أفضل الحل الثانى لعدة اعتبارات هامة اعتقد أن سيادتكم تعرفونها . . . .

و على ضوء التجارب الماضية :

أرى أن يتضمن الدستور الدائم مبدأ من أهم المبادئ التى يشرفكم أن يصدر الدستور الدائم متضمنا إياه . . . هو أن مجلس الأمة لا يملك سلطة التشريع و إصدار القوانين فى بعض موضوعات محددة تمس مصالح الشعب الحقيقية المباشرة بل يجب أن تعرض فى استفتاء شعبى عام ليبدى الشعب رأيه و يعطى قراره فيها . و خاصة بعض الموضوعات التى تمس الحريات السياسية أو الحقوق الاقتصادية . . . .

و بذلك تعملون على توطيد الديمقراطية فى البلاد بجعل الشعب هو الذى يقرر مصيره فيما يمسه من أمور بإبراز معنى خطير و هو أن مجلس الأمة لا يعتبر وصيا على الشعب فى كل أموره بل هو مفوض فقط فى حدود معينة . . . و يبقى الشعب دائماً هو الآمر و هو مصدر السلطات و بذلك نقضى على السلبية التى قضت على قدرات الشعب . . . و منع أى حكومة فى المستقبل من أن تتلاعب بمصالح الشعب عن طريق مجلس الأمة فتصير بنا الأمور إلى ديمقراطية زانقة . . .

و من أهم المكاسب التى ستعود بإصدار الدستور الدائم هو إعادة الثقة فى قلوب الشعب ، و نشر الطمأنينة ، والقضاء على الخوف و القلق بضمان حرية الأفراد و سيادة القانون التى استهين بها إلى حد أن المسئولين فى الفترة الأخيرة كانوا يتباهون و يتبارون قامت الثورة إلا لإقامة حياة ديمقراطية سلمية و لا ديمقراطية بغير قانون .

كما يجب أن ينص الدستور على البرلمانات الإقليمية لإصلاح الحكم المحلى و حتى لا ينفرد المحافظ بالسلطة دون رقابة دستورية على أعماله .

ثانياً : إقامة حزبين سياسين :

قبل إعلان الدستور المؤقت فى 16 يناير سنة 1956 اقترحت على سيادتكم إقامة حزبين سياسيين و كان ذلك بدافع من إخلاصى و حبى لكم لأنى كنت أعلم أن الحكم دائماً و أبداً لابد و أن يواجه أزمات و صدمات و شدائد و نكبات أحب لكم و أريد لكم أن تبقى فوق الأزمات . . . فوق العواصف فوق الأمواج كأب روحى و رئيس و زعيم شعبى لهذه الأمة تقود زمامها إلى الخير و إن أصابها شر فليتحمله آخرون و هم كثيرون يمكن أستعواضهم بمثلهم أو خير منهم . . . . . فيخرجون من الحكم ثمنا لفشلهم أو أخطائهم و تظل أنت دائماً بمنأى عن الأحداث .

كما أنى أوضحت فى ذلك الوقت أنه لا يمكن لأفراد ان يمارسوا الحكم دون معارضة فلم يتفق البشر على دين واحد أو إله واحد فكيف يتفقون على فرد أو أفراد و لو كانوا عادلين و أنه من المصلحة أن تكون المعارضة منظمة فى ظل القانون . . .

و أنى أؤمن بعد التجارب التى مرت بها البلاد منذ عام 1952 حتى يوم 5 يونيو سنة 1967 ضرورة قيام حزبين سياسيين ينص عليهما فى الدستور الدائم . . . فعلاوة على تحقيق الهدفين السابقين فناك مزايا عديدة سيحققها هذا النظام بعد الدروس المستفادة من التجارب القاسية الأليمة . . .

أعلنتم فى خطابكم فى 23 يوليو سنة 1967 بتثبيت دعائم الديمقراطية و تدعيم الحريات و أن اتباع هذا النظام فيه تحقيق لما أعلنت و قضاء كامل على ما ينعت به نظامنا بأنه دكتاتورية مغلفة ببرلمان . . . . لا يملك من الأمر شيئاً .

كان من نتائج الفترة الماضية أن أحس المسئولون بأنهم أكبر من محاسبة الجماهير ، وأن غضب الشعب و رضاه لا وزن له إذ لا يؤثران عليهم أو على مستقبلهم فهم باقون فى مناصبهم إلى ما شاء الله لأنهم تمكنوا ، و لو بالنفاق والكذب و الرياء و الخداع من إرضاء فرد أو أكثر ممكن يملكون السلطة الفعلية ( المشير مثلاً ) .

فتعمقت مع الأيام معانى الاستهتار بالشعب ، و الاستهانة به و بدلا من أن يكون الحكام فى خدمة الشعب أصبح الشعب كله فى خدمة الحكام .

و أصبح التعالى و الكبرياء و البعد عن الناس و الانعزال عن مشاكلهم شيمة المسئولين ، و أخذنا ننادى بالالتحام بالجماهير و النزول إلى الشعب .

و ليس هناك إلا حل واحد للالتحام بالجماهير و النزول إلى أوساط الشعب و هو أن يملك الشعب مقدراته و أن يكون الشعب حقاً لا قولا قادرا على أن يرفع من يشاء إلى مكان الصدارة أو يعزل من يشاء و يعيده إلى مكانه فى المجتمع تبعاً لعمله و تصرفاته . . . .

و طالما أن الشعب لا يملك للمسئولين ضراً أو نفعاً و لا يملك حساباً او عقاباً و لا شكرا و لا ثوابا فقد استسلم الشعب للسلبية المطلقة و كأنه لا ينتمى إلى هذا الوطن و لا تربطه به صلة .

و لقد أحسستم سيادتكم بذلك و أعلنتم إنها ظاهرة خطيرة يجب سرعة علاجها وتداركها و بدأنا فى ذكر الحوافز المادية و المكافاَت و فاتتنا الحقيقة . فليس هناك إلا حافز واحد هو أن يملك الشعب مقدراته و أن يكون الأمر حقاً لا قولاً . . .

إن مأساة 5 يونيو سنة 1967 و فرار القوات المسلحة لا انسحابها خلال ساعات و هو أمر لم يحدث فى تاريخ الحروب فى العالم كله . . فالانسحاب وجه من أوجه الحرب و لكن الفرار بلا نظام و لا قيادة أمام العدو يستوجب التمحيص لا أن نمر عليه مروراً عابراً .

فلنعد بالذاكرة إلى عام 1948 ففى العهد البائد فى ظل فاروق و الأسلحة و القيادة الفاسدة فقد قاتل الجيش ضباطاً و جنوداً قتال الرجال و أنتم يا سيادة الرئيس كنتم فى الفالوجا و ضربتم أروع الأمثال و البطولات بأسلحة فاسدة و تحت قيلدة فاسدة .

فما بالنا عام 1967 و معنا أفضل سلاح دفعت فيه الأمة دماءها و عرقها و دموعها و حرمانها طوال خمسة عشر عاما . . . لا نقاتل و لا نثبت فى موقع , و نتخلى عن مواقعنا و سلاحنا للعدو و نهرب مولين الأدبار . . هناك سبب واحد لقد قضى على بقايا الرجولة التى ورثناها قبل سنة 1952 قضينا عليها فى وقت السلم طوال هذه السنوات فلما واجهنا الحرب لم نجد رجالاً . .

فقد تركزت حفنة من الصولات السابقين و الضباط فى مكتب المشير و تمكنت من إهدار كرامة و رجولة الضباط صغارهم و كبارهم ( أبو زيد و طنطاوى و علي شفيق و شمس و غيرهم ) .

و أن ما حدث فى الجيش لهو صورة مما حدث فى كافة القطاعات الأخرى فى الدولة و لو قدر لهذه القطاعات أن تشتبك فى معارك مع القطاعات المماثلة لها فى إسرائيل أو غيرها فثق يا سيادة الرئيس أن نتيجة المعركة ستكون مماثلة لنكسة 5 يونيو سنة 1967 .

لقد فقد الشعب رجولته وكرامته يوم أن أصبح لا يملك من مقدراته شيئاً و أصبح كل فرد فيه مهدداً فى يومه و غده فى عمله و أسرته . . . فقد حرية الكلمة و حرية الرأى و حرية العمل و حرية الحركة خوفاً من الخوف .

فقدنا شعبنا و جيشنا بأكمله . .

و أنى لأذكركم بكلمة سمعتها منكم يوما و لا زالت منقوشة على قلبى يغلغلها الأسى و الحسرة . . قلتم بالحرف الواحد . .

" إنى أود أن أكون أسداً فى غابة تعج بها الأسود لا أسداً فى غابة لا تعيش فيها إلا قطعان الماشية و الأغنام " .

سيدى الرئيس :

لقد تحول الجيش و الشعب إلى قطيع من الأغنام و لن تتمكنوا من إعادة بناء الرجال و تكوين الأسود لحماية الوطن الغالى من أعدائه إلا بحرية الكلمة و حرية الرأى و حرية النقد و المعارضة المنظمة و لا يمكن أن يتم ذلك فى ظل اتحاد قومى أو اتحاد اشتراكى أو تنظيمات سرية و لكن فى ظل حزبين أو أكثر يكون الحكم بينها للشعب و عندما يملك الشعب مقدراته ويكون الأمر حقاً لا قول فيستطيع أن يعزل المسئ و يولى المحسن . . و يقول للمحسن أحسنت و للمسئ أسأت .

ثالثاً : الطليعة الثورية :

لقد أعلنتم فى خطابكم الأخير 23 يوليو سنة 1967 بأنه يجب أن تذوب الطليعة الثورية فى جموع الشعب و هى لن تذوب إلا فى ظل حزبين و حياة ديموقراطية سليمة . . .

و هنا يجب أن أوضح أنكم قاسيتم كثيراً بتعرضكم بتعيين أشخاص فى المناصب كانوا مفروضين على الشعب فهم لا يحملون لهم حباً او ثقة . . و قد يكون من أهم أسباب ذلك شعوركم الرقيق و إحساسكم بالحرج نحوهم أو نحو من يتولون أمرهم . .

و ليس هناك من سبيل الأن للتخلص من هؤلاء و هم أثقال تنوء بحملها الجبال ( و يكفيكم إنكم حملتوهم على كاهلكم خمسة عشر عاما مسئولا عنهم أمام الشعب . . ) إلا أن تتخلى عن الجميع بلا قيد و لا شرط و لا التزام نحوهم و تتركوهم ليذوبوا فى خضم الجماهير و ليحكم عليهم الشعب بإرادة حرة فمن أرادوه اختاروه و من رفضوه أبعدوه خلال انتخابات الحزبين . .

أجهزة الرقابة و فشلها:

لقد تعددت أجهزة الرقابة خلال سنوات الثورة و أصيبت كلها بالفشل . . و زاد الطين بله أن الجيش أيضاً أصبح من أجهزة الرقابة فى الدولة " المباحث الجنائية العسكرية – حسن خليل " و كان من أسباب الفشل . .

( أ ) لم يكن هناك المسئولون الذين يعتبرون قدوة حسنة لأجهزة الدولة فقد تلوث العدد الكبير منهم و أصبحت أمورهم يعلمها القاصى و الدانى .

( ب ) كانت أجهزة الرقابة تعمل بدوافع شخصية و حقد أعمى من كبار المسئولين و صغارهم فعمت المظالم .

( ج ) كانت الأجهزة فى النهاية لا تستطيع أن تتصدى أو تمس الكبار و لكنها كانت حريصة على تعقب من يسرق لقمة العيش .

فاختلت موازين العدل . . .

و أن أفضل و انجح الوسائل للرقابة الشعبية هو وجود حزب سياسي معارض يقف للحزب الحاكم بالمرصاد يعد عليه أخطاء الكبار قبل الصغار و لن يسلم من حسابه و حساب الشعب علنا كبير أو صغير . و هنا أحب أن أذكر سيادتكم أنى اقترحت فى أحد تقاريرى السابقة سنة 1965 أن تبدأوا بحساب كل من عمل معكم منذ عام 1952 و هم لا يزيدون عن مائة شخص على الأكثر و يطبق عليهم قانون ( ( من أين لك هذا ) ) على أن يمتد الحساب إلى أقاربهم حتى الدرجة الرابعة و أن تجمع لسيادتكم معلومات دقيقة عن مستويات معيشتهم الحقيقية . وقلت لسيادتكم أن أعداءكم فى هذا البلد ليست الرجعية و لا الإقطاع فحسب و إنما من هم حولك من المستغلين و الانتهازين فى أداة الحكم . و أرجو أن يتم ذلك قبل اشتراك أى فرد منهم فى العمل السياسي مستقبلاً . . .

سيدى الرئيس :

إنكم وحدكم يا سيادة الرئيس و خاصة بعد تفويض الشعب لكم فى 9 يونيو سنة 1967 المسئول الوحيد أمام الله و الوطن و التاريخ عن الأخذ بيد الشعب لتخرجه من الظلمات إلى النور و عن وضع أسس الديمقراطية الحقيقية السليمة و إقرار العدل و القانون و نشر لواء الحرية و العزة و الكرامة ليرفرف عاليا فوق هامات هذا الشعب الطيب الأصيل الذى أعطاك ما لم يعطه أحد منقبل و لن يعطيه لأحد من بعد . و أنكم وحدكم و فقط من هذه الثورة الذى يستطيع أن يعيش على رأس هذه الأمة فى ظل الديمقراطية و الحرية و القانون .

أما من ناحية التنفيذ فإن الحكومة الانتقالية التى اقترحتها برياسة الدكتور محمود فوزى أو من تراه سيادتكم بشرط أن يكون كافة التيارات الماضية و الحالية منزهة عن كل غرض شخصى و بشرط أن يكون كافة أعضاء الوزارة من المدنيين الذين تتوفر فيهم نفس الشروط السابقة . هذه الحكومة التى سيجرى الاستفتاء على الدستور فى ظلها هى نفسها التى يتقدم الحزبان للانتخابات العامة فى ظلها و اعتقد أن ستة أشهر كافية تماما لكافة هذه الإجراءات حتى يتم انعقاد البرلمان الجديد و حتى تعود البلاد إلى الوضع الذى يرضيها و يرضيكم فى أقرب وقت ممكن و إذا كانت الظروف الخارجية ستمنع إجراء مثل هذه التغيرات السياسية العظيمة فى وقت قريب حتى تحل مشاكل سيناء . فإنى أرى أن تتفضلوا بإلقاء بيان للشعب عن العمل السياسي فى المستقبل بتضمن المبادئ السابق شرحها و وعد الشعب بتنفيذ هذه الخطة بمجرد إزالة آثار العدوان حتى يطمئن الشعب على أنكم قد حولتم ما جاء فى خطابكم فى 23 يوليو سنة 1967 إلى عمل بناء . . . وأنكم جادون فى طريق الإصلاح وذلك للمعاونة على استقرار الأمر . و الأمر التقديرى مفوض لسيادتكم . . . .

الموقف الاقتصادى

أؤمن بشئ واحد كفاية و العدل .

وإن تعرضت فى هذا المجال لأى حلول تناقض الماضى و أسلوبه . فلن أمس إطلاقاً هذا المبدأ الإسلامي العريق الإنسانى العميق .

كما أذكر سيادتكم أنه خلال أعوام سنة 1956 ، 1957 تقدمت بعدة مشروعات عن التعاون الاستهلاكى و التصدير و الاستيراد و غيرها .

و لكن و قد سرنا فى الميدان الاقتصادى خطوات فى اتجاهات معينة و خرجنا بحصيلة من التجارب و الدروس المستفادة تتطلب منا إعادة النظر فى التقيد بفكر معين أو فكرة محدودة أو شعار معين ، كما تتطلب أن نحرر أنفسنا من كافة القيود ، واضعين مبدأ الكفاية و العدل نصب أعيننا و كذلك تحرير أنفسنا من الخوف أن يؤول ذلك على أنه عودة إلى الوراء .

إن علينا نقف موقف المحايد الذى وضع مصلحة بلاده فى المقام الأول ، و ذلك أننا نعرف أن من أهم الفضائل الرجوع إلى الحق فالمؤمن القوى الشجاع فهو القادر على مواجهة الخطأ و الاعتراف به و العودة إلى الحق ثابتاً مجاهراً مجاهداً .

قطاع التعاون

أولاً : التعاون الاستهلاكى . .

تنحصر مشاكل التعاون الاستهلاكى فى ملكية الدولة لهذا القطاع الهام الخطير و هو أمر عجيب ، فالطبيعى أن يكون التعاون الاستهلاكى مملوكاً 100% لأفراد الشعب . و قد كان مشروعى لإنشاء المؤسسة التعاونية الاستهلاكية على أساس ملكية الأسهم لأفراد الشعب . يقومون على إدارتها تحت إشراف الدولة ويحكمها قانون التعاون . . . بل لقد بدأ الاكتتاب وأقبل الشعب على شراء الأسهم بعد الانتهاء مباشرة من إنشاء بنك الجمهورية وشركة الجمهورية للتأمين . . . ثم أوقف المشروع وبدأت الدولة فى إنشاء التعاون الاستهلاكى برأس مال حكومى 100% بل و أممت الجمعيات الشعبية التى كانت قائمة فعلاً فى ذلك الوقت و لا أعلم كيف يسمى تعاوناً استهلاكياً و قد أصبح مرفقاً منم مرافق الدولة تملكه وتديره . و من تجارب الشعوب الأخرى قبلنا نعلم أنه قام لخدمة المستهلك بإيجاد نوع من المنافسة الشريفة بين التعاونيين و التجار فكل منهما يحرص على كسب المستهلك بالخدمة الأحسن و السعر الأقل و السلعة الأفضل . . .

و لقد حرص التعاونيون دائماً على إبقاء هذه الموازنة لتستمر المنافسة لصالح المستهلك ولهذا فقد قرر المؤتمر التعاونى فى السويد سنة 1958 وهى أعرق البلاد التعاونية . . ألا يزيد إجمالى السلع التى يتجر فيها التعاونيون عن 25% إطلاقاً من السلع المتداولة فى السوق ( ( هذا لا يمنع من أن تزيد النسبة فى سلعة معينة عن 25% بشرط أن يقابلها نقصان فى سلعة أخرى عن 25% بحيث يبقى الإجمالى دائما لا يتعدى 25% ) ) .

و ذلك حتى لا يتحول التعاون إلى نوع آخر من الاحتكار تحت اسم التعاون وتضيع مصلحة المستهلك . لذا أرى أن توضع الأمور فى نصابها بعد أن أثبتت التجربة فشل التعاون الذى أخذنا به . . . و ذلك بأن يملك الشعب الجمعيات الاستهلاكية فى الأحياء المختلفة ، و أن تكون لها جمعيات عمومية و أن تسير على النظام التعاونى بروحه و نصه و لا علاج آخر لهذا الموضوع .

ثانياً : التعاون الزراعى . .

التعاون الزراعى بهيئاته و أنظمته و جمعياته هو مشكلة الريف الحقيقية . . و أخطر مافى هذه المشكلة إنها قضت على كل ما قدمت الثورة من إصلاح اجتماعى كان يستهدف تحرير الأراضى و تحرير الفلاح من الإقطاع و الإقطاعيين ليكونوا أسياداً للأرض ملاكاً لها .

فقد جاءت هذه الأنظمة فحولتهم إلى عميد لها بعد أن كانوا عبيداً للسادة أصحاب الأرض من الإقطاعيين السابقين ، فما شعر الفلاح إلا إنه قد استبدل سيداً بسيد و قد يمكن ببعضهم فى عهد الإقطاع أن يرفع صوته ضد إقطاعى أو آخر و لكن كيف الخلاص من عبودية تفرضها الدولة بحكم القانون و بشعار إنها لخدمته و لصالحه .

و نظراً لأهمية هذا الموضوع و خطورته فقد يكون الحل هو إجراء استفتاء شعبى بين الفلاحين لإبداء رأيهم فى أفضل النظم التعاونية لخدمتهم و يكون الاستفتاء أساساً لما يريدونه من التعاون و ما لا يريدونه حتى يشعروا أنهم أصبحوا ملاكاً حقيقيين للأرض التى أعطيتهم اياها الثورة ، لا أُجراء و فى بعض الأحيان بلا أجر .

لقد آن لنا أن نرفع الوصاية و السيادة عن كاهل الفلاح المصرى و أن تكتفى الدولة بدور الإرشاد و المعاونة و لا تصبح الدولة هى ( ( المزارع والتاجر الوحيد ) ) .

قطاع التصدير والاستيراد

تقدمت فى مشروعى السابق باقتراح أن يشكل فى محيط الاستيراد شركات متخصصة و نحن فى عهد التخصص النوعى الفرعى على أن يساهم فيها كل من يعمل فى هذه السلع بحصة فى رأس المال و تكون الدولة شريكة و لها الأشراف ضمانا لعدم تهريب العملة الصعبة و للتحكم فى الأسعار و للحصول على الأسعار المناسبة الحقيقية و لتحديد أسعار السلع و لضمان الخبرة من أهل الخبرة . . .

و لقد حدثت خلال الفترة الماضية أخطاء فادحة عن جهل أو عمد أو انحراف و لا تزال مخازن هذه الشركات تعج بأثر ذلك و تنطبق به . . . فمثلا توجد قطع غيار بمئات الألوف من الجنيهات لن تستخدم فى مصر و لو بعد سنوات . . . علاوة على السوق السوداء التى تتحكم فى كثير من الأصناف الأخرى نتيجة تلاعب الموظفين و جهل المسئولين .

و الحل هو إعادة تنظيم هذا القطاع على أساس الاقتراح السابق و إنشاء شركات مساهمة و دخول التجار السابقين فى كل سلعة فى هذه الشركات و عرض أسهمها ( خلاف حصة الدولة ) للاكتتاب العام .

أما عن التصدير فيتبع فيه نفس النظام . . .

ثم يشكل مجلس مشترك بين التصدير و الاستيراد للتنسيق بينهما و لعمل الموازنة المطلوبة لضمان توفر السلع الضرورية فى السوق المحلى . على أن تمثل قمة التنظيم التعاونى الاستهلاكى فى هذا المجلس للتصدير و الاستيراد لما له من علاقة مباشرة بمصالح المستهلكين .

قطاع الإنتاج

يمكن تقسيم المصانع إلى :

( أ ) مصانع للصناعات الثقيلة كالحديد و الصلب . أرى أن تبقى ملكيتها للدولة لأنها لا تحقق أرباحاً مغرية للمساهمين وقد تكون فى بعض الأحيان محققة الخسائر . . .

( ب ) الصناعات الأخرى :

1 – منحت القرارات الإشتراكية 25% من الأرباح للعمال لذلك أرى تملك العاملين فى كل مصنع 25% من الأسهم على أن يسقط القمن عليهم شهرياً حتى سداد الثمن و بذلك يشعر العاملون أنهم يملكون ربع المصنع مما يدفعهم إلى الإخلاص و الإيجابية فى عملهم و حتى يشعروا أنهم لم تسلب منهم حقوق سبق و أن حصلوا عليه نتيجة للقرارات الإشتراكية .

2 – تحتفظ الدول بحصة قدرها 25% .

3 – يعرض الباقى وقدره 50% فى اكتتاب عام على الشعب .

على أن تعقد الجمعيات العمومية لهذه الشركات المساهمة بشرط أن يكون لكل حامل سهم صوت واحد مهما بلغ عدد أسهمه كما اتبع فى بنك الجمهورية و تحديد حد أقصى لملكية الفرد من الأسهم فى المصنع الواحد .

و من مزايا هذه الحلول هو إمكان حصول الدولة على ملايين الجنيهات من أفراد الشعب ثمناً لهذه الأسهم .

بشرط أن يسبق هذه إعلان الدستور الدائم و أن يكون منصوصاً فيه أن البرلمان لا يملك سلطة التأميم و أنه فى حالة التفكير فى تأميم الأسهم فى صناعة ما فيحب عرض الموضوع على استفتاء عام شعبى . و ذلك لضمان إقبال الشعب على اكتتاب واستعادة ثقته فى الإجراءات الاقتصادية الجديدة .

القطن :

أرى أن توضع حطة أساسية تهدف إلى تصدير القطن بعد أن يتم غزله أو نسجه و تحريم تصديره كمادة خام فى المستقبل و ذلك لتوفير أكبر قدر من العملات الصعبة عن طريق تصنيعه علاوة على تصدير عمالة ضخمة مع توفير الخبرة فى مصر منذ زمن طويل فى هذه الصناعة .

وأفضل فى الفترة الحالية التوسع فى صناعة القطن بشكل عام عن التوسع فى صناعات أخرى حديثة بالنسبة لنا تحتمل النجاح أو الفشل .

و هنا يجب إعادة تشجيع القطاع الخاص على العودة إلى هذه الصناعة مرة ثانية .

البترول :

أعتقد أن من أهم الموارد للعملة الصعبة فى الفترة التى تلى إزالة آثار العدوان هو البترول لذلك أرى فتح الأبواب على مصرعيها للشركات الأجنبية فى مختلف البلاد لاكتشاف واستغلال البترول فى مصر و خاصة أن هذا العمل فوق قدرة الدولة فى الظروف العادية مما يستوجب الآن التوسع فى إنتاج البترول معتمدين على الخبرة و التمويل الأجنبى .

الزراعة :

من أهم الأمور التى يتوقف عليها الإنتاج الزراعى هو الوصول إلى الاستقرار بالنسبة للملكية الفردية المسموح بها المواطنين ، فعلى الرغم من أن الملكية محددة بـــ 100 فدان إلا أنها أصبحت قابلة للنقصان سنة 1970 وفقاً للميثاق . . كما أن هناك قيوداً أخرى جدّت على الملاك بالنسبة لا ستغلال 100 فدان نفسها من حيث تأجير جزء منها يبلغ 50 فداناً .

و أنى أرى أن ينص فى الدستور الدائم على حد الملكية أيا كان و لنفرض أنه 100 فدان وهو قدر مناسب و خاصة أن الأرض تختلف من ناحية خصوبتها و دخلها ، و ينص أيضاً أن هذا القدر لا يمكن تخفيضه بقرار من البرلمان بل يستلزم الأمر العرض فى استفتاء شعبى ، و ذلك حتى يطمئن الملاك و تستقر أحوالهم ويهتمون فعلاً بإنتاج الأرض . . . لصالح الوطن و لصالح أنفسهم . . .

سيدى الرئيس . . .

قبل أن اختتم كلمتى عن الموقف الاقتصادى لابد و أن أثير موضوعاً خطيراً بعيد الأثر و المدى فى تكوين الفرد و الجتمع و هو . . . تحرير لقمة العيش . . .

وأنى لأذكركم بقولكم فى أوائل الثورة عن ضرورة تحرير لقمة العيش و ضربتم المثل بأحمد عبود و تحكمه فى لقمة العيش ، ومطاردته و اضطهاده للبعض حتى لا يعينوا فى أى شركة أخرى ، مستغلاً نفوذه ثم أذكركم أن الثورة قامت لتحرير لقمة العيش و القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم .

و هنا أسمح لى يا سيادة الرئيس أن أقولها بصراحة أن فى مصر قبل الثورة كان هناك أحمد عبوده و بعض أشخاص على شاكلته لا يعدون على أصابع اليدين يستطيعون التحكم فى لقمة العيش بالنسبة لعدد محدداً جداً من الناس . . و لكن ماذا حدث بعد خمسة عشر عاماً من الثورة لقد حررنا فعلاً لقمة العيش من نفوذ أحمد عبوده و أمثاله و احتكرت الدولة و احتكرت الدولة التحكم فى لقمة العيش .

لقد قضينا على سيطرة رأس المال على الحكم . . . و لكن أقمنا سيطرة رأس المال على الشعب لقد أصبحت الدولة هى كل شئ هى المتحكم الوحيد للقمة العيش ، إن غضبت على شخص فليس له إلا الموت جوعاً . . . أو إن لم تمنح الدولة للمواطن عملاً فلا مجال لعمل شريف خارج نفوذ الدولة ، فالأبواب كلها موصدة و الأرزاق كلها محبوسة فى خزائن الدولة .

لقد أصبح كل فرد يسعى إلى الحصول على لقمة العيش ، ويبذل جهده فى أن يحتفظ بما حصل عليه حرصا على حياته . . . حتى أصبح النفاق و الكذب و الرياء و الخداع و انعدام الكرامة و الرجولة و عدم تحمل المسئولية و السلبية و الإحساس بالذل هى شيمة الحياة الآن فى مصر .

كما أصبح إرضاء الرؤساء على كافة المستويات و لو على حساب الرجولة و الحق و المصلحة العامة هو هدف كل عامل و موظف يخشى على لقمة عيشه . . . ذلك أنه لو فقد العمل فى أحد مرافق الدولة فلن يجد أى عمل آخر فى مصر ، فكلها مرافق الدولة .

و لقد كان انتصار الرأى بتحديد الملكية و إصدار قانون الإصلاح الزراعى – انتصاراً – على الرأى المضاد الذى كان يرى فرض ضرائب تصاعدية ، يرتكز أساساً على مبدأ خطير و عميق ، و هو تحرير لقمة العيش للفلاح و من ثم يمكن تحرير الفلاح سياسياً و اجتماعياً .

إذ سيملك حرية الكلمة و حرية الرأى و حرية التصويت فى الانتخابات . . حيث ستخلق الثورة منه مواطناً حراً . فهل بعد خمسة عشر عاماً . . . حررنا لقمة العيش و خلقنا المواطن الحر ؟ كان كل هذا يدعونى إلى أن أرجو أن يعاد النظر فى هذه الحالة بإطلاق التعيين فى شركات القطاع العام بعد إعادة تنظيمها على ضوء ما سبق شرحه دون قرارات تصدر من الدولة و دون أن تكون امتداداً للوزارات و المصالح الحكومية . بشرط أن توضع كافة القوانين لضمان العدالة و الحق لإعطاء فرص العمل الشريف لكل مواطن بعيداً عن سلطان الدولة و بعيداً عن تحكم أى فرد أو أفراد .

القطاع الخاص

و لو أن الميثاق أوضح دور القطاع الخاص و أعطى الضمانات ليعيش إلا أن التطبيق كان دائماً يهدف إلى القضاء عليه كله و تصفيته و هذا العمل يمس مئات الألوف من العاملين فيه علاوة على أسرهم التى تعد بالملايين .

فلت تستطيع الدولة وهى فى ظروف عادية أن تحل محل القطاع الخاص أو تكون قادرة على تحمل مسئوليته كل شئ لكل مواطن و فى كل ميدان . فما بالنا و نحن نمر بفترة اقصادية خطيرة يجب أن تستغل فيها خبرة كل مواطن و طاقة كل مواطن و مال كل مواطن .

لذا أرى سرعة تشجيع القطاع الخاص بكافة الوسائل التى تستعيد ثقته بالدولة و نظرتها له لينشط فى كافة الميادين الاقتصادية و ليؤدى دوره الطبيعى فى المجتمع بشرف و أمانة و ثقة و اطمئنان .

نظام الحراسات

سيدى الرئيس . . .

إننى لا انتمى لعائلة فرض على أى فرد منها حراسة من أى نوع أو حتى خضع لأى قانون أو قرار من القرارات الإشتراكية الخاصة بالتأميم الصناعى أو الزراعى أو التجارى . إلا أننى أؤمن بأن طبيعة هذا الشعب ، و أنا فرد منه تأنف الظلم وتكره الجور ، و تضيق بالعسف فى أى صورة كان .

كما أؤمن بأن تحديد الملكية الزراعية عدل وحق وطبق على الشعب كله بأمانة و شرف و نزاهة ، و أؤمن أيضاً أن نظام فرض الحراسات و تطبيقه و أسلوب تطبيقه ظلم و باطل .

و طبق على عائلات و أفراد بلا قانون يتساوى الجميع أمامه إنما كان عنصر التقدير و الاختيار و الانتقاء أساسه .

كما طبق بخسه و فجور و نذالة فى منتصف الليالى على النساء فى خدورهن و لم يسلم الأطفال وهم فى مهدهم ، و امتدت أثاره من الأجداد والآباء و إلى النساء و الأطفال من الورثة حتى من كان منهم لازال فى علم الغيب أو فى بطون الأمهات و امتدت نتائجه فى محيط هذه العلائلات بصورة مختلفة يندى لها الجبين و يستحى منها الشرف .

فكم من أعراض هتكت و بيعت فى سبيل لقمة العيش . . . و كم من أطفال طردوا من مدارسهم ، و كم من أيد كانت تعطى فأصبحت تمتد بالسؤال تستجدى لقمة العيش .

و كنت أؤمن عن تجربة بأنكم تحملون بين الضلوع قلباً طاهراً و فؤاداً عامراً بالإيمان و الحب و الرحمة كنت أحس منكم دائماً برقة الشعور الإنسانى النبيل ، و الوجدان الصافى الأصيل . . . فكنت أعجب مما أرى و أسمع و دفعنى حبى لكم و إخلاصى لكم و خوفى عليكم ، أن أكتب لكم رسالة تهنئة يوم ظهور نتيجة استفتاء رئاسة الجمهورية فى مارس سنة 1965 و اعتقد أنها محفوظة لديكم حتى الآن و تسطيعون الرجوع إليها .

وأنى لأذكر أنى قلت لكم فى هذه الرسالة بخصوص ذلك ( ( أنى لا أخشى عليكم من أساطيل العالم و القنابل الذرية و لا طيران أمريكا و فرنسا و إنجلترا مجتمعة و لكنى أخشى عليكم من دعوة مظلوم واحد ) ) .

فقد قال الرسول ( ( صلى الله عليه و سلم ) ) { اتقوا دعوة المظلوم فليس بينها و بين الله حجاب } .

و قال عمر بن الخطاب ( ( رضى الله عنه ) ) { لو تعثرت دابة بالعراق لسألنى الله عنها يوم القيامة لمَ لم أسو لها الطريق ) ) و قلت . . . و ما أكثر من وقع عليهم الظلم الصارخ من الشعب ورجوتكم أن تبدوا فترة الرئاسة الجديدة برفع الظلم عن هؤلاء ، و لتجعل بداية هذه الفترة أملا لكل بيت أظلم بالحزن والأسى ، و رحمة لكل أسرة أضناها العوز و الحاجة . . و نورا فى كل قلب بات على سواد يوم و غد ، و قلت لكم أنى لا أطمئن لعدل أحد غيرك فى هذه الدولة و أنى استحلفك بالله أن تبحثوا بأنفسكم مهما كانت مسئوليتكم كل هذه الحالات ، و لم أكن أدرى ما يدور خلف الكواليس فإذا بلجنة تصفية الإقطاع تأتى بمظالم وحشية لم يحدث لها فى التاريخ مثيل . . . فكم من عائلات طردت بناتها و أطفالها فى منتصف الليالى من بيوتها فى الأقاليم لتحديد إقامتها فى القاهرة أو الإسكندرية ، دون أن يكون لها جدار يسترها أو يأويها فى هذه المدن ، و بلا مال يحميها من ثقل الصدمة و عنفها ، بعد أن واجهت أعمالاً إجرامية من تلك العصابة الإجرامية الخائنة . المباحث العسكرية للبوليس الحربى .

سيدى الرئيس . . .

استحلفكم بالله و بالوطن و بأولادكم أن تقضوا على هذا النظام البعيد عن روح الله و الحق بجرة قلم فهو سيف مسلط على الرقاب لا يعرف أحد متى يصيبه . . . . ؟ و لماذا يصيبه . . . . ؟ ذلك النظام الذى أحال حياة الناس إلى رعب و هم وفزع وقلق . وأنى أترك لسيادتكم تقدير التوقيت المناسب لذلك بالنسبة لظروف الوطن الداخلية و الخارجية ، كما أضع نفسى تحت تصرفكم فى هذا الموضوع لأعمل لوجه الله تعالى وحتى اطمئن عليكم شخصياً ، و ذلك بأطمئنانى على انتهاء فترة الظلم الأسود ، و أنه ليس فى الوطن كله مظلوم واحد . و أن هناك من يستمع لرفع الظلم عن المظلومين .

و حينئذ أطمئن على رضاء الله تعالى عليكم . . . و تأييده بالنصر لكم . . . و ذلك بالقضاء على الجور و جرائم تلك العصابة . . . و ذلك بعد اثبات مسئوليتها عما اقترفته يداها من مآثم و مآسى طوال تلك الفترة الماضية . . . و أترك لكم التوقيت المناسب للإلغاء .

الموقف الروحى و الدينى

سيدى الرئيس . . .

لا أستطيع أن أمس الموقف السياسي و الاقتصادى أى الجانب المادى من حياة مجتمعنا دون أن أمس الجانب الروحى .

و قد كان الواجب أن أبدأ بالموقف الروحى لأنه أساس كل بناء يكتب له الدوام و يرضى عنه الله تعالى : -

و سأتعرض أولاً . . . للأمة الإسلامية بصفة عامة . . .

قد يفكر البعض أن الأمة الإسلامية عاشت فى ظلمات الجهل و التأخر قرونا عديدة لأنها تجمدت فى حدود دينها و لم تلحق بالفكر و العلم الحديث . . . و هذا خطأ جسيم فى حق الله تعالى فهو الباعث لرسالة الخير للناس كافة ، و هى ختام الرسالات السماوية و هى صالحة لكل عصر و زمان و مكان حتى يوم الدين . و هى رسالة دنيا و حياة ، و عقل و فكر و علم ، و هى أيضاً رسالة آخره حساب و ثواب وعقاب و إذن فهناك ضرورة يجب أن تكون فى وعينا . . . و هى ضرورة التفريق بين الإسلام كدين و المسلمين كتابعين لهذا الدين . . . فالأمة الإسلامية لم تنهج كاملاً مناهج دينها إلا فى فترة قصيرة جداً من تاريخها بداية من أيام الرسول ( ( صلى الله عليه و سلم ) ) و الراشدين من خلفائه ، و بعض فترات تاريخية زاهرة ، و من خلال هذه الفترة الوجيزة جداً فى عمر الزمان انتصرت الدولة الإسلامية الناشئة على أعرق و أقوى إمبراطوريتين فى العالم فى ذلك الوقت و هما الروم و الفرس مع الفارق الكبير فى العدة ثم تحولت الأيام و تحول معها نظام الخلافة إلى ملك عضود ، و تتابعت نظم للحكم إلى ممالك و امارات و سلطنات ، أحدثت فى العالم الإسلامى حدوداً و فرقاً و جماعات سياسية و دينية ، انتهى بالعالم الإسلامى إلى فرقة أو ما يشبه الفرقة ، مما أورثه ضعفاً و تشتتاً و فقراً جرأ الآخرين على العدوان عليه و الاستهانة به . . . و من هنا كانت نظرة العالم الغربى إلى العالم الإسلامى ، و بدأت أحكامه تصدر على الإسلام كدين بما وجدوا عليه معتنقيه من تخلف فردوه إلى الإسلام لا إلى انحراف المسلمين عن دينهم . و لأضرب لذلك مثلاً من عصرنا الحاضر .

  • هل تعتبر المملكة العربية دولة إسلامية ؟
لا و لا . . . إنها دولة يعيش فيها مسلمون و تطبق فيها العقوبات و الحدود الإسلامية فقط ، فالإسلام كدين نبع غزير فياض لا ينضب له معين { ما فرطنا فى الكتاب من شئ } صدق الله العظيم .

من لجأ إليه وجد ضالته فى الحكم و السياسة و الاقتصاد و الاجتماع إذ هو إصلاً ثورة سياسية و اقتصادية و اجتماعية .

و السؤال الآن كيف نستخرج هذا الكنز المدفون بإرادة أصحابه ؟ لقد كان هم بعض الحكام المسلمين دائماً تضليل الناس عن حقيقة دينهم حتى يستطيعون استغلالهم و إذلالهم سياسياً و اقتصادياً .

ففى تاريخ عمر و أبى بكر و غيرهم كنوز مدفونة فى أصول الحكم . فالحرية و المساواة و الكفاية و العدل و سيادة القانون لم تتحق على ظهر الأرض فى مجتمع كما تحققت هذه الفترة من تاريخ الإسلام حينما كان الإسلام ديناً و عقيدة و دعوة و حكماً و سياسة و اقتصاد و جهاداً و حرباً .

ثانياً : مصر بصفة خاصة . . .

أن المتتبع لتاريخ مصر منذ عهد الفراعنة لتصبيه الدهشة . . فأثار مصر الفرعونية منذ آلاف السنين لا نجد بينها إلا معبداً أو مقبرة فى الوقت الذى لا نعثر على قصر واحد من قصور الملوك و الأمراء فهى إما معبد يعبدون فيه الله أو الآلهة أياً كانت . . . و مقبرة ينتظرون فيها البعث ليبدأوا حياتهم الأخرى و لم يهتموا إطلاقاً بترك أثر من آثار حياتهم الدنيوية إلا ماعثر عليه فى مقابرهم لاستخدامها بعد البعث فى حياتهم الأبدية الخالدة . . . فشعب مصر منذ وجد شعب فطر على الدين أى دين يصل به إلى الله .

ثم كانت مصر أرضاً للأديان السماوية الثلاثة فتأصلت فيها العقيدة و أصبحت تجرى فى دماء شعبها و تنساب فى روحه جيلاً بعد جيل لا ينال منها المستعمر أو دخيل أو عدو و لم تكن هزيمة التتار و الصليبيين على يد المصريين إلا دفاعاً عن العقيدة و الدين وانتصار كلمة الله .

و شعب مصر شعب طيب و ذكى بالفطرة يعرف كيف يواجه و يقاوم و له أسلوب فريد مكنه على مر الأيام أن يهضم حضارات و أفكار فرضت عليه فى بعض فترات التاريخ و لكنه كانت يخرج منها دائماً كما هو مصرياً فى كل شئ و فى عقيدته .

و حينما أعلنتم فى خطابكم التاريخى يوم 23 يوليو سنة 1967 ضرورة التمسك بأهداف الدين صفق الحاضرون و الغائبون من الأعماق تصفيقاً اعتقد أنكم لمستم معناه لأنه لم يسبق له مثيل لأو تعقيب على أى فقرة من خطابكم فى هذا اليوم .

فقد مرت على الشعب فترة من الوقت خيل إليه أن الدولة تتجه به بعيداً عن الدين فى طريق الشيوعية ، و كانوا لا يستطيعون مقاومة هذا الاتجاه لأنهم لا يملكون وسائل المقاومة له مباشرة .

و لقد قلت لسيادتكم فى لقائى معكم يوم 30 أبريل سنة 1965 أن الشعب مستعد للتضحية بدمه و حياته و ماله ، مستعد للجوع و العرى فى دينه و وطنه ، و لكنه غير مستعد أن يتغاضى أو يغفر خطأ تافهاً ضد الحوكمة ، أو يسكت عن نقص سلعة تموينية واحدة و لو لبعض الوقت طالما أنه يشعر أنه يجر إلى الشيوعية جراً .

و لقد كان هذا هو أسلوب الشعب فى المقاومة الذكية دون أن يفصح عما فى نفسه . . . فقد أصبح و أمسى فرأى أجهزة الإعلام و الثقافة و الصحافة و قد وضعت فى أيدى خريجى السجون و المتعقلات من الشيوعيين الذين كانوا يجاهرون بالإلحاد و الدعوة له و سب الإسلام ( ( كمقال محمد عودة فى صحيفة الجمهورية ) ) .

و قد علل الشعب نكسة 5 يونيو سنة 1967 كما أوضحتم سيادتكم فى خطاب 23 يوليو سنة 1967 بأن الله أرادها درساً لنا يعلمنا ما لم نكن قد تعلمناه ، و يذكرنا ببعض ما يمكن أن نكون قد نسيناه إلخ . . . و بأننا نسينا الله فأنسانا أنفسنا و أمكن منا إسرائيل .

و يروى عن سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه . . . أنه أوصى جيشاً بعث به إلى بلاد الروم و كان جيش الروم أضعافاً مضاعفة لجيش المسلمين فى العدة و العدد . . . فقال لهم " احرصوا على رضاء الله و ذكره و التمسك بدينه و إلا كنتم و الروم أمام الله سواء و تكون الغلبة للعدد و العدة للروم " .

هذا هو رأى الإسلام وهو رد واضح على تشكيك البعض بعد النكسة .

  • أليس الله مع المسلمين و على اليهود ؟
  • السنا على الحق وهم على الباطل ؟
  • إذاً كيف كان الله مع إسرائيل ضدنا فى هذه المعركة ؟

و الحقيقة الإسلامية المجردة أن الله لم يكن مع إسرائيل . . . و لكنه أيضاً لم يكن معنا إذ يقول الله تعالى { ولينصرن الله من ينصره } .

و عن الرسول ( ( صلى الله عليه و سلم ) ) عن بن عباس رضى الله عنه قال : " ما نزل بلاء إلا بذنب و ما رفع بلاء إلا بتوبة " .

و من العجيب انهزام جيش الرسول ( ( صلى الله عليه و سلم ) ) فى غزوة أحد فقد ارتكب المسلمون ذنباً إذ طمع البعض منهم فى الغنائم و تركوا مواقعهم على سفح الجبل مخالفين أمر الرسول ( ( صلى الله عليه و سلم ) ) القائد فحلت بهم الهزيمة الفادحة بعد أن حققوا النصر على المشركين كما أنهم قبل المعركة خالفوا رؤية الرسول ( ( صلى الله عليه و سلم ) ) فى أسلوب القتال .

لهذا أرجو يا سيادة الرئيس و ألح فى الرجاء لوجه الله و الوطن أن كنتم تريدون نهضة حقيقة لهذا الشعب و ترجون نصرا من الله قريباً بأذن الله أن نفكر فى الآتى :-

( 1 ) أن يعتبر الدين الإسلامى مادة أساسية فى جميع مراحل التعليم حتى التعليم الجامعى أسوة على الأقل بما أعلنه الدكتور لبيب شقير باعتبار الميثاق و الإشتراكية و القومية العربية مادة أساسية ، و إننى أعرف أن هذا الاقتراح قد توضع فى سبيله العقبات ممن بيدهم الأمر لأسباب واهية منها تعليم الدين المسيحى أيضاً و نحن لا نمانع فى تدريسه للمسيحين و أما عن الدرجات و اختلاف الامتحانات بين الطلبة فحله ألا يضم للمجموع العام الخاص بالتقدير النهائى و لكن يعتبر مادة رسوب أو نجاح أو تخلف فقط .

( 2 ) أن تشكلوا بجانبكم لجنة للدراسات الإسلامية لتزودكم بأعظم نبع للتشريع فى العالم من سير الرسول ( ( صلى الله عليه و سلم ) ) و الخلفاء الراشدين و أئمة الإسلام على أن يكونوا صفوة من الرجال الممتازين من رجال الدين والعلم و القانون .

( 3 ) أن تعتبر الحركة الصهيونية و إسرائيل و اليهودية مادة رئيسية فى جميع مراحل التعليم حتى يعلم أبناؤنا ما يواجهون من خطر فيستعدون . و لقد سبق أن تقدمت بهذا الاقتراح لسيادتكم بعد أن عدت من الأرجنتين و تأكدى أننا لن نواجه إسرائيل فى أراضى فلسطين المحتلة بل سنواجه إسرائيل الموجودة فى كل العالم – مركز قوة – فى كل دولة من العالم .

كما يجب طبع و دراسة التلمود الذى كنت أنوى طبعه و أنا وزير للأوقاف و لولا برقية وصلت لسيادتكم فى ذلك الوقت من الاتحاد اليهودى العالمى لما أوقفت ترجمته و طبعه . و هذا الكتاب المقدس عند اليهود أكثر من التوراة يجب أن يدرس لأبنائنا حتى يعلموا ما يهددهم من أخطار و يعلموا أى عدو يتربص بهم .

( 4 ) يجب تطهير جميع أجهزة الدولة فى الإعلام و الثقافة و الصحافة الشيوعيين البارزين فليس من المعقول أن يتصدر هؤلاء هذه المراكز فى دولة دينها الإسلام و رئيسها جمال عبد الناصر و يتولوا أمر الفكر و التوجيه لجموع الشعب المؤمن المسلم الذى يعلم أنهم ملحدون من خريجى السجون و المعتقلات .

و تنعكس هذه الصورة على الدولة بأكملها فتوصم بالشيوعية فى الداخل و الخارج دون مغنم إلا مغارم كثيرة تفوق الوصف و الخيال فى حساب الله و حساب الناس .

أما عن التوقيت بالنسبة لتطهير فأترك هذا لتقدير السيد الرئيس بالنسبة للظروف الراهنة و العلاقة مع الاتحاد السوفيتى فى هذه الآونة الحرجة . . . و لهم أن يكلفوا بأعمال بعيدة عن هذا الميدان ليواصلوا الحياة الحرة الكريمة بعيداً عن الأضرار بالدولة و الناس .

( 5 ) الاهتمام بالمظاهر الدينية و للبدء فى نهضة دينية شاملة بالغة للدعوة الإسلامية داخلياً و خارجياً و استغلال كافة الإمكانيات الموجودة كوزارة الأوقاف و الأزهر و المجلس الأعلى للشئون الإسلامية و توثيق الصلات الدينية بالدول الإسلامية فى كافة أنحاء العالم حتى تستمر مصر فى مركز الزعانة الدينية الذى طالما احتلته عن جدارة .

( 6 ) الحذر و الحرص فى هذه الفترة الحرجة و العمل على تجميد كل نشاط أو اندفاع من هذه الفئة الملحدة حتى يطمئن الشعب أنه لا تمادى فى هذا الاتجاه تلك المقالات المخربة و الاتجاهات المنحرفة من الاتحاد الاشتراكى التى تهاجم محمد حسنين هيكل لأنه ردد ما قلتم من قبل مما يبلبل أفكار الشعب فى هل هذه القوى المتطرفة قد أصبحت مسيطرة على الموقف .

كما أعود فأؤكد لسيادتكم ما سبق و أن أوضحته عن الأضرار البالغة التى تنتج عن الاستمرار فى تشكيل اللجنة المركزية .

كما أضرب مثلاً بسؤال بتردد الآن :

  • إذا كان المشير حقاً هو المسئول عما حدث من مظالم فى لجان تصفية الإقطاع فمن هو الشخص أوالأشخاص الذين وراء صدور قرار وقف تسليم الأراضى و الممتلكات لمن ثبت حتى الآن أن ما وجه إليه تهما باطلة . بعد أن بدأ التسليم فعلاً . و بعد أن تنحى المشير عن كافة سلطانة بوقت طويل ؟

جمال عبد الناصر و التاريخ

سيسجل التاريخ حتماً النكسة الخطيرة فى اليوم المشئوم 5 يونيو سنة 1967 و سيتعرض الكاتب لأسبابها و المسئولين عنها .

لذا أرجو و استحلفك بالله يا سيادة الرئيس أن تقروا محاكمة كل مسئول عن هذه النكسة حتى تتضح الحقائق لا لجيلنا و الأجيال القادمة من شعبنا ، بل للعالم أجمع و الا ظلت هذه الهزيمة فى عنقك و دفعت ثمناً لها من أسمكم و جهادكم و تاريخكم المجيد أمام التاريخ ، و هو ما أشفق عليكم منه فلا تأخذك رحمة أو شفقة بأحد من هؤلاء المسئولين .

و أرى أنه لا يجوز الاكتفاء بالمحاكمات العسكرية فى محيط الجيش فقط بل تتعداه إلى آخرين تسببوا بطريق غير مباشر فى هذه النطسة كمن استغلوا النفوذ فملكوا القصور فى القاهرة و الإسكندرية بأسعار خرافية و هى أمور يعلمها الشعب و يعجب و يسأل متى الحساب ؟ و متى القصاص ؟ .

جمهورية مصر

مصر اسم عزيز و غالى على كل مصرى و عليكم يا سيادة الرئيس . . . و هو اسم مبارك ذكر فى القرآن فى كثير من آياته . . . فكرمت بذلك على دول العالم أجمع . . . . فأرجو أن يعود لمصر أسمها . . . .

و ليكن ذلك فأل طيب لمستقبل زاهر يعلو فيه البناء ، و تخفق فيه أعلام العزة و الكرامة و المجد . كما أرجو أن يعود لنا هتافنا ( ( الله أكبر و العزة لمصر ) ) .

هذا الهتاف الذى انتشر و عم فى فترة وجيزة فكان بشرى لانتصارات و أمجاد عزيزة ، و كان فى كل قلب ، و على كل لسان .

هتافاً عالياً يكبر لله عز و جل ، ممجداً للوطن ، معزاً لأبنائه . . ثم جرفته إلى ظلمات النسيان قلوب الحاقدين و الحاسدين و الانتهازيين .

سيدى الرئيس . . . .

أنى أؤمن بأنكم لو اتخذتم هذه الإجراءات السياسية و الاقتصادية و الدينية و الاجتماعية فإن ما أصاب الثورة من شروخ سيتحول إلى سد منيع ، لبناته قلوب الشعب الطيب المخلص ، الذى سلتف حولكم درعاً يطوقكم بالحب و يحميكم بالدم من كل خائن و عدو .

و هنا أحب أن أوضح أن ما دفعنى إلى اقتراح لهذه الإجراءات الثورية الإصلاحية الشاملة الجريئة و هو ما أضعه فى المقام الأول نصب عينى إنما هو حبى و إخلاصى لوطنى و لكم ذلك الإخلاص الذى يحتم على أن أنبه إلى أنكم حين تنفذون تلك الإجراءات الإصلاحية ، انما تقيمون سدا منيعا أمام أى مجموعة من الضباط فى القوات المسلحة قد يطمعها و تشجعها البيئة المترتبة على العدوان من أخطاء ما قبل العدوان و هزيمة بعد العدوان على القيام بثورة أو انقلاب ضد ثورة 23 يوليو سنة 1952 لحساب نفسها بغض النظر على الموالين للمشير أو لسيادتكم من رجال الجيش .

لقد وضعت نفسى مكانكم و تصورت ماذا يمكن أن تفكر فيه مجموعة من الضباط للحصول على إرضاء شعبى بضمن لها النجاح و تصورت أيضاً نفسى مكانكم ، فلم أجد إلا أن أسبق الجميع و احتفظ بالمبادأة التى كنتم حريصين عليها دائماً فى كافة الظروف . وبذلك تقضون على الفتنة فى مهدها و تخمدون النار و هى شرر متطاير . . . . فى جحرها . . .

سيدى الرئيس . . . .

و لا يفوتنى أن أذكر أن اتخاذكم مثل هذه الإجراءات سيكون له ردود فعل عميقة جداً فى العالم العربى خاصة و العالم أجمع بصفة عامة . . و ذلك تستعيدون كثيراً من الأراضى التى ضاعت نتيجة للعدوان فى المحيط الدولى . . و تبدأ مصر عهداً جديداً فى علاقتها مع الدول و الشعوب العربية و الأجنبية ، تحققون فيه ما ترجونه لها من ازدهار و قوة و منعه ، و عزة و كرامة و حرية . . .

سيدى الرئيس . . . .

أرجو قبول عذرى أن كنت قد أطلت فما كنت أستطيع اختصاراً فى مثل هذا الموقف الذى يتطلب أن أذكر و أدون كل ما يرضى الله والضمير . .

و كل ما يطمئننى أنكم ستخرجون من هذه المحنة أصلب عوداً . . .

و أخيراً . . . أدعو الله عز و جل أن يكتب لكم التوفيق و النصر . . . فتوكل على الله و هو ناصرك بإذن الله .

المخلص إلى الأبد

" أحمد عبد الله طعيمة "

أول سبتمر 1967 . . . .

تقرير 30 أبريل 1967

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد الرئيس / جمال عبد الناصر حفظه الله و أبقاه .

بعد التحية . . . .

ترددت فى الكتابة كثيراً . . .فمنذ شهرين أو أكثر كلما بدأت خطاباً ما استطعت له إنهاء . . و أختلط على الأمر . . فبينما أنا مقدم إقداماً يدفعنى حبى و إخلاصى لكم و تعتمل فى نفسى معانى التضحية و الأخوة . . .

أخوة لم تسجلها و تفرضها وثيقة الميلاد . . إنما هى أخوة أقدس و ابقى و أوفى إذ كان لى فيها حق الاختيار .

أخوة تنبعث من وطنية جارفة ، فى أتون ثورة عارمة خالدة ، كنت لنا فيها أباً و أخاً ، لم تكن أخوة دم محبوس فى العروق يجرى و لكن أخوة دم حر فى رحاب الوطن يسرى . . . إذ بى محجم احجاماً يخيفنى ألا أستطيع التعبير أو التصوير فيساء فهمى بعد طول إخلاص ، أو يشك فى أمرى بعد أمانة و وفاء و أن يؤول قولى بعد صدق مقال ، أو يقدر غيبة أو فتنة و هى من المحال . . .

و بين الإقدام و الإحجام عشت ساعات و أيام كانت من أقسى ساعات العمر و أعصب الأيام ففى الإقدام أمانة و فى الإحجام خيانة . . . و لكن قد يكون مع الإقدام مكارة ، و دائماً ما يكون مع الإحجام أمان . . . و إذا بى فى ليلة قريبة أراكم فى رؤيا و لست ممن تكثر رؤياهم . . فأولتها بأنها حث على الإقدام .

فإن كنت أكتب لكم الآن فكوالد و أخ و زعيم . . لا كرئيس للجمهورية . . . و لا بصفتى عضواً بالأمانة العامة . . و لكن كأخيكم و كجندى من جنودك المخلصين الأوفياء دون اعتبار إلا لما يربطنى به الله بك من حب و وفاء هو أعلم به . . .

سيدى الرئيس . . . .

أنى لواثق أنكم محيطون بكل الأمور ، عالمون بظواهرها و مواطنها فلن آتى لكم بجديد و لو أنى قد تراودنى النفس أحياناً أن الأمور بصورتها الحقيقة العميقة قد لا تصل إليكم بواقعيتها الأليمة خوفاً أو غرضاً أو جهلاً . . .

فيا سيادة الرئيس . . . .

أنتم أبطال الثورة التى صنعت فى مدى خمسة عشر عاماً من المعجزات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ما لم يسجل التاريخ مثله فى الماضى أو الحاضر . . . مما مكن لكم رصيداً ضخماً هائلاً من حب فى قلوب شعبكم عن حق و إيمان . . .

هذا الرصيد الهائل من الحب العميق و الإخلاص العجيب يمسك به بضع من المسئولين و أشباه المسئولين . . فإذا هم به يقامرون و لا أعرف أن كان عن قصد أو عن جهل هؤلاء الذين يخربون بأفواههم و بأيديهم ما بنيتموه بدكم و عرقكم و كفاحكم و تضحياتكم و لا أعرف أن كانوا يعلمون أو لا يعلمون .

فإذا بجبهتنا فى الداخل تتهاوى من فرط الضعف و التفكك و تنهار بين خوف و قلق و جزع تأكلها الفتنة و يعتصرها الحقد . . .

فإذا بهم قد أحالوا أرضنا المباركة الطاهرة إلى بركان لا يعلم إلا الله عز و جل ما يحمل بين طياته من نذر و حمم و لا يعلم إلا الله عز و جل ما يخفيه لنا من النهاية .

فما بالك يا سيادة الرئيس و نحن نواجه فترة من أخطر الفترات على ثورتنا و أنها لأشد من عدوان 1956 . . . و أنها لأكثر ضراوة و شراً . . . تحيط بنا المؤامرات من كل جانب و يتربص بنا العدو الغادر من كل صوب . . فما كان أحوجنا إلى جبهة داخلية متمتاسكة قوية كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً . . .

و أنى لأحس بقلوب الناس تهفوا إليك و أنت أملهم الأخير و ملاذهم الوحيد يتطلعون إليك و هم مؤمنون بك . و أنى لأتطلع إليك مع المتطلعين و أؤمن بك مع المؤمنين . و أكتب إليك لا لأبثكم حزناً و ألماً بل لأحقق أملاً و أملاً و أملاً . . . أملاً فى أن تضربوا ضربة قوية ( ثورة على الثورة ) كما أعلنت من قبل .

فالكل ينتظر و يتلهف إلى تصرف حاسم و علاج شامل عاجل لتضع الأمور فى نصابها ، و لتعيد الطمأنينة و السكينة بعد خوف و قلق و لتحل الثقة والأمل محل الريبة و الشك و اليأس . و أنى لمؤمن أنكم قادرون فى لحظات بل فى لحظة واحدة أن تعيدوا جبهتنا الداخلية أشد ما تكون قوة و وحدة و إصرار على مواجهة المؤمرات . . . . الأجنبية .

و أنى لأذكر سيادتكم بعام 1956 حينما جاء المعتدون و حاولوا إيهام الشعب العريق أنهم لا يحملون له عداوة و أنهم جاءوا و ليس لهم عدو إلا جمال عبد الناصر و خاب ظنهم . . . فقد وجدوا الشعب كله جمال فكل طفل و كل طفلة و كل شاب و كل شابة و كل رجل و كل إمرأة كان جمال عبد الناصر فى المعركة . . . و أنى لأريد لك أن تكون دائماً مرعاً بشعبك ، مسلحاً بقلوبه ، محمياً بأرواحه ، و أريد لك دائماً أن يكون الكل جمال .

سيدى الرئيس . . . .

تقبل عذرى إن كنت قد أخطأت فقد قال النبى ( ( صلى الله عليه و سلم ) ) " من اجتهد و أخطأ فله أجر . . . و من أصاب فله أجران " . صدق رسول الله ( ( صلى الله عليه و سلم ) )

سيدى الرئيس . . . .

أقسم لكم فى النهاية أنى ما كتبت حرفاً ابتغى به غرضاً و مأرباً و ما سطرت الكلمة إلا حقاً حقاً . . . و إنى لأقسم بالله العلى القدير بأننى لو كان دمى و دم أبنائى لخيرك ولخير هذه الأمة لسفكته بيدى فداء لكم و حباً و إخلاصاً لكم و الله على ما أقول شهيد . . . .

و إنى لأدعو الله لك بالتوفيق و النجاح دائماً و السلام . . .

المخلص إلى الأبد

" أحمد عبد الله طعيمة "

تحريراً فى 30 أبريل سنة 1967


البداية

الهروب من الإخوان المسلمين إلى الضباط الأحرار

لقد فجرت ثورة 23 يوليو 1952 الطاقات الكامنة داخل كل منا و التى لم نكن ندرى متى تخرج و إلى أين ستتجه . . فالمد الوطنى المتصاعد طوال سبعين عاماً من الاحتلال كان بركاناً يغلى فى عروقنا ينتظر اللحظة المناسبة ليثور و يغطى أركان مصر كلها و يضع الحلم و المصير على أكتاف جيل جاء فى موعده مع القدر .

ولدت فى القاهرة فى حى السيدة زينب فى أسرة متوسطة و نشأت فى جو دينى و وطنى . . . والدى تخرج فى كلية دار علوم ، و كان مربياً فى وزارة المعارف و والدتى أبنه عمدة كفر سنجلف القديم ، و خالها عمدة كفر الباجور منوفية ، مركز الباجور .

التحقت بمدرسة شبرا الابتدائية ثم التوفيقية الثانوية . . . و فى ذلك الوقت لم يكن يخطر ببالى الالتحاق بالكلية الحربية و إنما كانت كل آمالى فى إتمام تعليمى بألمانيا دارساً للكيمياء الصناعية و قد نلت موافقة و ترحيب والدى بل و وعده بتحقيق هذا الحلم . . . و اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1938 . . . و تبخرت كل الأحلام . و لكن القدر كان يرسم لى طريقاً أخر إذ تلعن الكلية الحربية عن قبولها دفعة جديدة من حاملى شهادة الثقافة العامة على أن يحصل الطالب على الشهادة التوجيهية من الكلية الحربية . . .

فتقدمت للالتحاق بالكلية الحربية و قبلت أوراقى و انضمت غلى أبنائها و عقدت العزم على التفوق فى دراستها و تفوقت لأحصل على المجانية . و هناك . . فى الكلية الحربية درست على يد البطل أحمد عبد العزيز و وجيه خليل و قد كانا مثالاً للوطنية و كانت كلماتهم تبذر فى قلوبنا الشابة يوماً بعد يوم حب الوطن و الانتماء و الولاء لهذا الشعب الأصيل .

تخرجت فى الكلية الحربية فى أواخر عام 1940 لالتحق بالكتيبة الثالثة مدافع ماكينة و التى كانت تتمركز فى منشية البكرى و كانت تضم فى نفس الوقت أعضاء البعثة العسكرية البريطانية و التى أقرتها معاهدة 1936 . . .

و منذ اللحظة الأولى غمرنى الشعور بالنفور الشديد و الكراهية العميقة لكل ما يشير إلى المستعمر البريطانى . . . و جاء يوم استدعانى فيه القائد محمود صبحي إلى مكتبه ليحقق فى شكوى تقدم بها جندى عضو البعثة البريطانية يدعى بأننى غير متعاون مع البعثة و أبدى لها أى احترام . . . و دخلت مكتب القائد لأشعر مع أول و هله بانتهاك كرامتى إذ وجدت القائد قد أجلس الضابط الإنجليزى و الشاويش الإنجليزى و تركنى واقفاً و بدأ فى سؤالى فأجبته بمنتهى الإصرار والحدة بأننى لا أؤدى التحية العسكرية لليوزباشى الإنجليزى لأننى ملازم و ضابط بالجيش المصري .

أما ما أثير عن عدم التعاون فأننى على علم بمدفع الماكينة أكثر بكثير مما يعلمه عضو البعثة البريطانية و أنى أتحداه علمياً و قد حدث ورددته عندما أخطأ مما أثار حفيظته فشكانى بدون وجه حق .

الإخوان المسلمين :

و مثل كل الشباب الوطنى الذى رفض واقع المجتمع المصرى فى ذلك الوقت . . . رفضت نفسى الاستسلام لما كان سائداً من أوضاع اجتماعية و سياسية داخلية و استبداد مستعمر غاشم . . . و بدأت ابحث عن الطريق . . عن البداية . . . عن القناة التى تصب فيها تلك المشاعر . . . قناة الفعل و تحويل كل هذا الغضب إلى عمل يؤتى ثماره . . .

لم أجد حولى إلا جماعة الإخوان المسلمين التى عقدت عليها الأمال لنصرة دينى ، و طرد المستعمر و إصلاح الأوضاع الاجتماعية ، و التصدى للملك و للفساد ، و صراع الأحزاب و ترديها بين ملك فاسد و مستعمر غاشم ، لتصل إلى السلطة و بأى ثمن . لقد انضممت إلى تنظيم الإخوان المسلمين . . . الشعبة العسكرية و التى كان يتولاها الصاغ المتقاعد محمود لبيب و كانت تعقد الاجتماعات المطولة التى نتدارس فيها أحوال الوطن ، و كيف يمكن تغيير تلك الوضاع لخير هذا الشعب الذى يعانى من فقر و مرض و جهل . . . آملين أن يتحقق الأمل فى استطاعتنا القيام بهذا الإصلاح .

و فى إحدى الاجتماعات أثار محمود لبيب موضوع الاغتيالات ، كيف يمكن تدبيرها ؟ و كيف يمكن تنفيذها ؟ و ذلك بتفاصيل فى غاية الدقة ، تتناول مراقبة الضحية عدة أشهر لمعرفة عاداته ، و دراسة خط سيره ، لتحديد أنسب نقطة و أفضل زمن لتنفيذ عملية الاغتيال ! ! ! .

هالنى هذا الاتجاه . . الاغتيال و القتل . . و شعرت بصدمة نفسية شديدة نالت من هدوئى و لم أنم طوال الليل . تصارعت الأفكار فى ذهنى . . . و تفجرت التساؤلات . . . هل أناقض نشأتى و طبيعتى الدينية و الوطنية لأصبح مجرماً يغتال الناس .

و بدأت الصورة تتضح أمامى شيئاً فشيئاً . . . و وجدتها صورة قاتمة مخزية . . . فبدلاً من أن أكون جندياً ينقذ هذا الوطن و يدافع عن هذا الشعب و يحرره ، وجدتنى سأصبح مجرماً يغضب ربه و يخرج عن دينه ، فيقتل نفساً حرم الله قتلها إلا بالحق . . و هل سينقذ الاغتيال وطنى ؟

أبداً . . . فبدلاً من الخائن الذى اغتيل سيأتى خونه آخرون ، و لن تنتهى القصة بل ستتوالى عمليات القتل و انهار الدماء إلى ما لا نهاية . و قررت أن أعطى لنفسى فرصة أخرى . . لاتأكد من النوايا . . . فربما كان موضوع الاغتيال . . هو موضوع هذا اللقاء فقط و لن يتكرر مرة أخرى . . . و حضرت اللقاء التالى لاستشف مدى الجدية و درجة الخطورة و الإصرار و التصميم على موضوع الاغتيالات .

و خرجت من هذا اللقاء و قد عقدت العزم بشكل نهائى على الانسحاب من هذا التنظيم و الامتناع تماماً عن التردد على المركز العام للإخوان المسلمين و الامتناع عن حضور الدروس الدينية التى كان يلقيها الشيخ حسن البنا أمام المركز العام . . . و انقطعت صلتى تماماً بجماعة الإخوان المسلمين و التى تبين فيما بعد مما وقع من أحداث أنها جماعة دموية لا دينية . . . إرهابية لا إصلاحية .

الضباط الأحرار :

أحسست بالفراغ الشديد و الألم البالغ بعد انقطاعى عن تنظيم الإخوان المسلمين ، لأننى شعرت بالعجز عن المشاركة فى إنقاذ هذا الوطن السليب ، و لما كانت تربطنى بالصاغ وحيد رمضان علاقة صداقة قوية قبل الكلية الحربية عن طريق ابن خالتى السفير أحمد السعيد جاد الحق و كنت أثق فيه ثقة كبيرة . . .

فاتحنى وحيد رمضان فى أمر الانضمام إلى الضباط الأحرار و قد كان هو أيضاً عضواً فى الإخوان المسلمين . . . و أن تنظيم الضباط الأحرار هو الأولى بمشاركتنا فقبلت على الفور و اقتدت أن هذا هو الحل الأمثل و العلاج الوحيد لحالتى النفسية .

و فعلاً قدمنى وحيد رمضان إلى الرئيس جمال عبد الناصر فى كازينو أوبرا محملاً إياى رسالة عن عزيز باشا المصري لأسلمها لجمال عبد الناصر . . .

و فعلاً ذهبت إلى كازينو أوبرا و فى الموعد المحدد جاء جمال عبد الناصر و دام اللقاء طويلاً فى مناقشات جلعتنى أعتقد أن سبب اللقاء لم يكن خطاباً حملنى إياه عبد الحكيم عامر إنما إعطاء الفرصة لجمال عبد الناصر للتعرف علىّ شخصياً و عن قرب لتبدأ علاقتى بالأحرار و نشاطى قبل الثورة و بعدها .

بعد تخرجى من كلية أركان الحرب فى دفعة الحادية عشر عام 1950 عنيت بالكتيبة السابعة مشاه و كان مقرها فى رفح و كان توزيعى على الكتيبة السابعة بعد التخرج من كلية أركان الحرب مقصوداً من تنظيم الضباط الأحرار حتى أقوم بتكوين خلية فى الكتيبة السابعة . . . و فعلاً نجحت فى ضم بعض الضباط الذين استشعرت فيهم الوطنية والإخلاص و كان منهم على وجه التحديد ضابط المخابرات الملازم محمد فهيم وضابط الذخيرة الملازم السيد شعراوي و كان معنا فى رفح الصاغ أركان حرب توفيق عبد الفتاح الذى فاتحته فى أمر الانضمام فوافق مرحباً و قدمته إلى عبد الحكيم عامر و أصبح عضواً فى التنظيم منذ ذلك الوقت و مقرباً من المشير عبد الحكيم عامر .

فى منطقة رفح و قبل ثورة 23 يوليو 1952 و فى الكتيبة السابعة مشاه ربطتنا مع إخواننا الضباط الأحرار روابط الأخوة و الزمالة و منهم كان عبد الحكيم عامر أركان حرب الفرقة و صلاح سالم و أنور السادات و كانت تضمنا اجتماعات و كانت منشورات الضباط الأحرار توزع علينا فى هذه الاجتماعات و كنت أقوم بتوزيعها على ضابط الكتيبة فجراً بدسها من تحت الأبواب فلا يكون حديث الإفطار فى هذا اليوم إلا عن منشور الضباط الأحرار و يكون سؤالهم الدائم من الذى أدخل المنشورات إلى غرفهم ليجدوها فى الصباح .

طلب منا عبد الحكيم عامر ضرورة تسليم أكبر كمية من الذخيرة المختلفة . . قنابل يدوية و كؤوس الإطلاق من البنادق التى تصيب الدبابات فى القنطرة شرق . . و كنا نحملها أثناء نزولنا فى الأجازات فى القطارات من رفح و حتى القنطرة شرق . . . و كان الحصول على هذه الذخيرة من ذخيرة الكتيبة السابعة أمراً فى غاية الصعوبة و من هنا كان إصرارى على تجنيد ضابط المخابرات ملازم أول محمد فهيم و ضابط الذخيرة فى الكتيبة السابعة إلى الأحرار مما سهل الأمر .

لقد كنا نحمل تلك الذخيرة فى القطار إلى قنطرة شرق ليستلم هذه الكميات من الأسلحة ضابط شرطة يعمل فى محطة القنطرة شرق و تم ذلك عدة مرات و علمت فيما بعد أن ضابط الشرطة كان عضواً بالإخوان المسلمين و أن هذه الذخيرة كانت جماعة الإخوان المسلمين تقوم بنخزينها لحسابنا " الضباط الأحرار " للوقت المناسب . و لكن بعد الثورة و موقف الجماعة المعادى لها طلب عبد الناصر منهم إعادتها و ردها لكنهم رفضوا .

إلى أن جاءت زيارة اللواء توفيق مجاهد رئيس إدارة الجيش فى ذلك الوقت إلى رفح للاجتماع بالضباط حيث كانت هناك حركة تذمر لامتناع القيادة عن منح تصاريح للضباط الذين يرغبون فى التطوع و القتال فى معركة القناة ضد الإنجليز . . .

و قد تم جمع الضباط لمؤتمر فى الفرقة للقاء اللواء توفيق مجاهد بحضورنا جميعاً ، و لما أثير الموضوع . . . تكلم صلاح سالم و تحدثت بعده قائلاً بأن عدونا الحقيقى هو افنجليز و ليست إسرائيل كما يقول سيادة اللواء ، و شبهت هذا العدو بالأفعى رأسها فى القناة و ذيلها فى إسرائيل و ليست إسرائيل كما يقول سيادة اللواء فالإنجليز هم الذين أوجدوا إسرائيل و هم الذين يحتلون جزءاً غالباً من أرضننا . . . فسألنى اللواء مجاهد هل لا تثق بالملك فاروق و القيادة العليا فأجبت أننا لا نثق فى أحد سواء كانوا سياسيين أو عسكريين و طلب منى اللواء توفيق مجاهد ذكر اسمى لنعلم فيما بعد أنه طلب فصلى من الخدمة أنا و صلاح سالم باعتبارنا مثيرى الفتنة .

و لم ينقذنا من الفصل من الخدمة إلا توفيق مجاهد نفسه حيث قام فى أثناء زيارته إلى رفح بالتوجه إلى غزة لشراء خيول و أبقار و استطعنا الحصول على إذن شحن هذه الخيول و الأبقار بالسكة الحديد ورددنا بأن الضباط كانوا غاضبين لأن اللواء توفيق مجاهد لم يكن متهماً بتهدئة الغضب بين الضباط بقدر اهتمامه بشراء الخيول و الأبقار . . . و بواسطة صلاح سالم و عبد الحكيم عامر لصلتهم بحيدر باشا الذى كان يمت بصلة قرابة إلى عبد الحكيم عامر الغى قرار الفصل .

و هنا أتوقف عند قصة حدثت قبل الثورة حيث كنت أخدم فى الكتيبة الثالثة مدافع ماكينة فى منطقة طوسوم و الدفرسوار و كان يجاورنى فى المعسكر ضابط هندى اسمه دكتور اسلم و قامت بيننا صداقة و كنا نلتقى يومياً . . . و فى أحد الأيام حدثنى دكتور اسلم عم موقف الهند و مستقبله موضحاً أنه قامت فى الهند ثورات عديدة ضد الاحتلال الإنجليزى و فشلت جميعها لنقص السلاح و الذخيرة و الرجال المدربين . . .

و فى الحرب العالمية الثانية تغير الوضع بعد أن نقلت إنجلترا جزءاً ضخماً من مصانعها الحربية لإنتاج السلاح و الذخيرة و بناء السفن الحربية إلى الهند هرباً من غارات الألمان فضلاً عن مشاركة أكثر من مليون جندى هندى مع الإنجليز فى الحرب ، و بذلك توفر للهند الرجال و العتاد و الأسلحة و الذخيرة فلن يغامر الإنجليز بقيام ثورة هندية . . . و المتوقع أن إنجلترا ستضطر إلى الجلاء عن الهند بدون ثورة هندية ، أو مقاومة هندية أملاً فى الحفاظ على الصداقة مع الهند فى المستقبل .

وشاءت الأقدار أن يجمعنى قطار العودة من القاهرة إلى الإسماعيلية بضابط إنجليزى يجلس معى فى نفس الديوان و قد تجاهلت وجوده تماماً فإذا به يحدثنى مبدياً رغبته فى قطع الوقت أثناء الرحلة فانتهزت الفرصة و أسمعته وجهة النظر التى قالها لى الضابط الهندى و أنهم بلاشك سيجلون عن الهند و إذا كان السبب الرئيسى لاحتلال مصر هو تأمين الطريق إلى الهند و المستعمرات البريطانية . . . تساءلت هل لو تم الجلاء عن الهند يمكن الجلاء عن مصر طالما انتفى السبب الرئيسى من احتلال مصر .

أجابنى الضابط الإنجليزى قائلاً بأنه ضابط مخابرات و يعلم تماماً عن مصر و عن الهند أكثر مما يعلم المصرى و الهندى و أنه درس جيداً التاريخ المصرى . . . و أنه فى حالة خروج الإنجليز من الهند دون ثورة فهناك استحالة لخروجهم من مصر إلا مجبرين ، مضطرين ، و رغم انفهم . . . و قارن ضابط المخابرات الإنجليزى بين الهند و مصر و أكد أنه لا خطر على الإمبراطورية من الجلاء عن الهند إنما الخطر كل الخطر فهو الجلاء عن مصر .

و لقد شرح وجهة نظره بأن الهند بها من المشاكل الداخلية التى تصل إلى حد الاقتتال بين طوائفها و إلى الأبد ، لأنها تتكون من لغات مختلفة و ديانات متعددة و أيضاً ثقافات متنوعة ، و لن يهتموا بما هو خارج حدودهم إذا ما حدق الجلاء الإنجليزى عنها ، و بالتالى لن تتأثر المستعمرات الإنجليزية الأخرى بالجلاء عن الهند ، أما مصر فالموقف مختلف تماماً ، فلو حدث و خرج الإنجليز عن مصر مجبرين فلن يمضى سوى عشر سنوات بعد الجلاء عن مصر ألا و تضيع المستعمرات ، و لن تبقى لنا مستعمرة فى أفريقيا و أسيا . . . فتساءلت عن السبب . . . فأكد ضابط المخابرات الإنجليزى بأن التاريخ المصرى هو الدليل . . فمصر طوال تاريخها كله . . . ما إن نالت استقلالها ، و اعتلى الحكم حاكم ، فأنه لا يقنع أبداً بحدوده و إنما يلقى بأنظاره دائماً إلى ما حوله و خارج حدوده ، و فى هذا الوقت ستدفع بريطانيا الثمن . . . و أضاف الضابط الإنجليزى قائلاً ثم أن مصر لغة واحدة ، بلد واحد ، نسيج واحد ، و هى مركز ثقافى للمنطقة كلها ، ومنطقة إشعاع لكل ما حولها من بلاد عربية أو أسيوية أو أفريقية . . . و خلاصة الأمر أن فى استقلالكم زوالاً للإمبراطورية البريطانية فى خلال عشر سنوات .

و حقيقة فإننا لو تناولنا - و اقعاً و فعلاً – الفترة من 1952 حتى 1962 و بعد قيام الثورة لوجدنا أن معظم المستعمرات البريطانية قد تحررت و أن حسابات ضابط المخابرات الإنجليزى كانت صحيحة 100% . . . مما أقنعنى بأن أذكر هذه القصة دائماً فى الاجتماعات الشعبية لهيئة التحرير .

و هنا أوجه تساؤلاتى لمن يهاجمون ثورة 23 يوليو 1952 . . . من منهم كان قادراً على إرغام الإنجليز على الجلاء رغم انفهم و هم كانوا جميعاً فى خدمة الملك و سيطرة الإنجليز . . . و من أين لهم القوة لإخراج الإنجليز بعد أكثر من 70 عاماً من الاحتلال العسكرى .

ليلة 23 يوليو 1952 :

نقلت الكتيبة السابعة مشاة من رفح إلى الشط شرق قناة السويس و منها الطريق إلى ممر متلا الشهير و أصبح مقر عملى فى الشط و كنت أقيم فى كابينة فى بور توفيق بصحبة عائلتى . . . . و فى الساعة الواحدة صباحاً جائنى الملازم أول محمد فهيم و هو ضابط المخابرات و فى نفس الوقت عضو تنظيم الضباط الأحرار . . .

أخبرنى محمد فهيم أن تلقى اتصالاً تليفونياً من القاهرة و معلومات تفيد بأن الثورة قامت مساء نفس اليوم و انهم يطلبون حضورى فوراً مع الكتيبة . . . فاتجهت لفورى إلى مقر الكتيبة بالشاطئ الشرقى للقناة و كانت هناك معدية تستخدم فى عبور القناة من الشاطئ الغربى إلى الشاطئ الشرقى و كانت منطقة القناة تعج بالقوات البريطانية و بتقدير موقف سريع وضعت احتمال تصادم مع القوات البريطانية فاتخذت الإجراءات التالية :

( 1 ) حشدت كل سيارات الكتيبة و وسائل النقل للعبور إلى البر الغربى لملئ فناطيس المياه حيث كنا نحصل على إمدادات الماء من الغرب .

( 2 ) فتحت مخازن سلاح خدمة الجيش و حصلت منها على المواد التموينية اللازمة لاستهلاك الكتيبة لمدة أيام فى حالة حصار القوات البريطانية لنا .

( 3 ) أصدرت أوامرى باستعداد كل الكتيبة فى حالة طوارئ قصوى مع وضع خطة دفاع عن الموقع و كذلك وضع خطة تبادلية فى حالة الضغط علينا من القوات البريطانية للانسحاب من الموقع المكشوف إلى ممر متلا الذى لا يبعد عن موقعنا كثيراً مع تجهيز كل السيارات بالوقود اللازم للتحرك .

ووضعت الكتيبة و الأسلحة المعاونة فى حالة دفاع و اتخذت مواقع دفاعية و هنا أحب أن أذكر واقعتين :

فقد كان قائد الكتيبة فى إجازة أما قائدها الثانى فقد كان البكباشى فؤاد الطيب المواردي و كان رجلاً مهذباً و ملتزماً فلما رأى هذه الحركة الدائبة الغير عادية فى منتصف الليل ، جاءنى يسأل عما يحدث فأخبرته بأن هناك ثورة من القوات المسلحة ضد الأوضاع الفاسدة فى الوطن .

فقال لى هذه خيانة عظمى و نحن أقسمنا على يمين اللواء و أنه لا يحكمنا إلا قانون الجيش ( الكتاب الأسود ، و الكتاب الأخضر ) و قانون الأحكام ، و إنه كان بصدد تنفيذ أمر القائد بإنشاء حديقة فكيف يواجهة بعد عودته من الإجازة و هو لم ينفذ أوامره ، فخيرته بين أمرين أما أن يتولى القيادة و ينضم إلينا و يكون قائداً لنا أو يبقى فى غرفته فى الميس و لا يشارك معنا و هنا تنتفى المسئولية عليه .

أما الحل الثالث فى حالة مقاومته أو محاولته التدخل ضد الثورة فلا يسعنى إلا وضعه تحت الحراسة المشددة . . . اختار القائد الحل الثانى و بقى فى غرفته حتى انتهت الأحداث .

أما الواقعة الثانية فهى قصة قائد فصيلة الهاون الثقيل الملحقة بالكتيبة . . . و سأحتفظ لنفسى باسمه . . . فلما تسلم الأمر باتخاذ المواقع الدفاعية و القتال ضد القوات البريطانية فى حالة تعديها علينا إذ به يصرح لى بمنتهى الهدوء قائلاً : أنه جبان و لا يستطيع أن يتصور أنه يقاتل الإنجليز و هم أكثر تفوقاً فى العدد و العتاد . . . فشكرته على صراحته المتناهية و أخبرت باش شاويش الفصيلة بأن يتولى تنفيذ أوامرى بدلاً من الضابط .

و من هنا نرى ردود الفعل لدى الأشخاص مختلفة تماماً تجاه حدث كبير يحدث حولهم و لدرجة متناقضة تماماً .

و فى فجر يوم 23 يوليو 1952 تلقيت مكالمة تليفونية من أنور السادات الذى أخبرنى بأن جمال عبد الناصر يريد محادثتى . . . و سألنى جمال عبد الناصر عن الحالة فأخبرته بما جرى و أن القوات البريطانية استولت على المعدية و وضعت بعض الدبابات على الشاطئ الغربى و سألته عن التصرف فأجابنى قائلاً : .

" لم أضع تدخل القوات البريطانية فى خطتى و لو وضعتها ما كنا قمنا بالثورة و لكننى أعتمد على طبيعة الإنجليز المترددة قبل أى إجراء و أنهم يحتاجون إلى يومين أو ثلاثة أيام للتدخل و فى هذه الأيام الثلاثة فرصتنا للنجاح و نجاح الثورة و استقرار الأمور قبل أى تدخل ثم قال لى : " اترك لك حرية التصرف فى الموقف الذى تواجهه " .

و قد كان تحليل جمال عبد الناصر و حساباته صحيحة و صادقة 100% و استمر حصار القوات البريطانية لموقعى ثلاثة أيام ثم انسحبت القوات البريطانية و استعدنا المعدية و عادت الأمور إلى وضعها الطبيعى . و قد أشاد جمال عبد الناصر علنا بهذا الموقف و أيضاً صلاح سالم و نشر ذلك فى كل الصحف مدللاً بذلك على قوة إيمان الضباط الأحرار بربهم و بوطنهم و كيف أن واحداً منهم واجه القوات البريطانية فى منطقة القناة بمفرده متسلحاً بسلاح الإيمان قبل كل الأسلحة .

هيئة التحرير

أزمة مارس و التآمر على مكاسب الثورة

جمعتنى أنا والأخ إبراهيم الطحاوي رحمه الله الدورة الحادية عشرة لكلية أركان الحرب و كان هو فى سلاح خدمة الجيش و أنا فى سلاح المشاة و لم تجمعنا أوقاتاً طويلة كتلك التى جمعتنا فى كلية أركان الحرب . . . فتآلفنا و كنا لا نفترق و اعتقد أن ما جمع بين قلوبنا هو قوة الإيمان بالله و التمسك بديننا الحنيف و قد وضح ذلك فى بحث آخر الدورة الحادية عشرة . . .

فقد تقدم إبراهيم الطحاوي بموضوع ( ( الإيمان سلاح النصر ) ) و تقدمت أنا بموضوع ( ( الأسرى فى الإسلام ) ) و لكننا لم يكن يعلم أحد منا أن زميله منضماً للضباط الأحرار و يرجع ذلك للسرية المطلقة التى كانت مطلوبة لتنظيم الضباط الأحرار خاصة و أننا فى أسلحة مختلفة . و بعد أن قامت الثورة أكتشف كل منا أن زميله عضواً فى الأحرار .

و بعد الثورة نقلت إلى كلية أركان الحرب و عينت مدرساً بالكلية للدورة الثالثة عشر و قد كلف جمال عبد الناصر إبراهيم الطحاوي بإنشاء هيئة التحرير . . . و فى يوم من الأيام و فى لقاء مع إبراهيم الطحاوي أخبرنى أنه أستأذن الرئيس جمال عبد الناصر فى أن أتفرغ معه فى هيئة التحرير و وافق جمال عبد الناصر و قال لى إبراهيم إن جمال عبد الناصر سيصدر تعليمات بإخلاء طرفى من كلية أركان الحرب فرحبت بذلك و رحبت أكثر بالتعاون مع الأخ الحبيب إبراهيم الطحاوي . . . ليبدأ تعاوننا القوى المستمر و الذى أدى إلى عدم ذكر اسم أى منا بمفرده إنما كان يقال دائماً الطحاوى و طعيمة . . .

و كانت فكرة جمال عبد الناصر فى إنشاء هيئة التحرير تستند إلى أن صناع الثورة كلهم من ضباط الجيش العسكريين و لم تكن لنا قاعدة شعبية يستند إليها مؤيدوا الثورة من أبناء الشعب فلابد إذن من وجود جهاز مدنى يجمع شملهم فكان قراره بإنشاء هيئة التحرير . . . فكانت تجربة تستحق التسجيل و التوضيح . . . و ما زلت أؤكد أن هيئة التحرير كانت الجهاز السياسي الذى أقامته ثورة يوليو و نجح نجاحاً لم يلاقه أى جهاز سياسي أخر حتى يومنا هذا و ذلك للأسباب الآتية :

( 1 ) ولدت هيئة التحرير واتدة طبيعية و لم تصدر بقانون أو قرار جمهورى فكل الناس الذين آمنوا بثورة 23 يوليو و مبادئها انضموا إلى هيئة التحرير بقلوبهم و أرواحهم و أموالهم . . . فقد كانت هيئة التحرير أملهم النتظرفى أن يشعروا بأنهم مشاركون فى صناعة هذه الثورة . . . فلم يتقاعسوا أبداً عن المشاركة عندما أتيحت لهم الفرصة لمقاسمة الضباط الأحرار شرف الثورة .

( 2 ) على الرغم من أن الثورة هى التى أنشأت هيئة التحرير إلا أنها لم تخصص لها أية موارد مالية فتكفل أعضاؤها بدفع النفقات و المصروفات لضمان استمرار هيئة التحرير فى أنشطتها و اعتبروها هيئتهم و كيانهم و حزبهم الذين يملكونه . . . و لم تكن هيئة التحرير حزباً سياسياً يحصل على دعم بمبالغ مالية من الدولة سنوياً . . .

( 3 ) استبعاد دافع المصلحة و المنفعة من جانب المنضمين إلى هيئة التحرير و أعتقد أن 80% من المصريين انضموا إلى هيئة التحرير بلا غرض أو هوى لسبب بسيط جداً و هو أن الثورة لم يكن يمر عليها سوى أيام معدودة . . . لم تثبت أقدامها بعد و لا يطمأن لاستمرارها . . . فهى حدث جديد . . . وليد مازال يحبو أول خطواته لا يرجى من ورائه مصلحة أو منفعة .

( 4 ) ضمت هيئة التحرير كل العائلات فى الريف المصرى والتى كانت تنضم إلى الأحزاب قبل الثورة و فى أحضان هيئة التحرير تناست العائلات المرارات السابقة الناتجة عن الانتخابات و تصالحت و أصبحت كلها هيئة التحرير .

( 5 ) كان انتشار هيئة التحرير فى أرجاء مصر انتشاراً طبيعياً تلقائياً فتأسست أفرع هيئة التحرير من تبرعات الأعضاء كما تنازل البعض عن ممتلكاتهم ليوفروا مقاراً لهيئة التحرير .

( 6 ) اضمت نقابات العمال و النقابات المهنية أو أغلبها إلى هيئة التحرير و كانت عنصراً فعالاً لنجاح الهيئة فى أداء رسالتها .

مما تقدم و لنا أن نفخر أصبحت هيئة التحرير كتنظيم سياسي أصبحت أيضاً أكبر جهاز معلومات فى مصر و التى كانت تصلنى لا عن طريق عملاء مدفوعاً لهم أجرهم أو موظفين يؤدون الواجب فحسب ، إنما كانوا جنوداً فى هيئة التحرير يدافعون عن الثورة بأرواحهم . . . فكانت تصلنى معلومات تصل إلى دبيب النمل من أسوان إلى الإسكندرية حماية للثورة .

فى 23 فبراير 1953 أعُلن رسمياً عن قيام هيئة التحرير و خصصت لها مبانى ثكنات الحرس الملكى فى عابدين كمقر لها ، و قد تم بناء شرفة فى المبنى تطل على ميدان عابدين فى سبعة أيام على أعمدة خرسانية ليُلقى منها جمال عبد الناصر خطاباته الجماهيرية ثم استُبدلت فيما بعد بمنصة خشبية .

أول تأسيس للهيئة كان كجمعية فى وزارة الشئون الاجتماعية تضم جمال عبد الناصر و صلاح سالم و إبراهيم الطحاوي و أحمد طعيمة ثم صدر قرار بإنشاء لجنة تنفيذية عليا من جمال عبد الناصر و صلاح سالم و كمال الدين حسين و د . نور الدين طراف و الأستاذ فتحي رضوان و الشيخ أحمد حسن الباقوري و المهندس أحمد الشرباصي و إبراهيم الطحاوي و أحمد طعيمة و حسين عبد القادر .

استدعانا جمال عبد الناصر أنا و الطحاوى و قال لنا أننا لا نستطيع أن نباشر عملاً مدنياً فى الميدان الشعبى و نحن ضباط من القوات المسلحة و أنه فكر فى إحالتنا إلى المعاش و معنا وجيه أباظة و مجدي حسنين و أنه استدعانا لمعرفة رأينا . . .

فكان ردى الفورى على عبد الناصر أن قلت له : أننا أسلمنا لك رقابنا من قبل فكيف تسألنا عن الإحالة إلى المعاش . . . تصرف كما تشاء طالما الأمر فيه مصلحة للثورة و للشعب . . . فأحالنا نحن الأربعة إلى التقاعد و كنا أول ضباط من ضباط الثورة يتركون الخدمة العسكرية . . . .

أنا و الطحاوى لهيئة التحرير و وجيه أباظة لشركة النيل للإعلان و مجدي حسنين لمديرية التحرير و الذى يرجع إليه الفضل فى أنه بدأ تجربة استصلاح الأراضى فى الطريق الصحراوى مصر - الإسكندرية - و الذى بفضل مجدي حسنين اختلفت الصحراء من الطريق و أصبح كأنه طريق زراعى .

أثناء عملنا فى هيئة التحرير ، و بدافع من الأخوة و المحبة تكون ما كان يسمى بركب التحرير و الذى ضمنى و الطحاوى و أحمد عبده الشرباصى وزير الأشغال فى ذلك الوقت و الشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف و امتدت زيارات ركب التحرير إلى جميع محافظات مصر من الإسكندرية إلى بلاد النوبة و جميع القرى و زرنا كل العائلات لربطها بهيئة التحرير و نجحنا فى مسعانا .

فى هيئة التحرير لم تكن هناك اختصاصات . . . فالطحاوى و أنا كنا كفريق واحد . . . هو يعلم ما أعلمه و أنا اعلم ما يعلمه و كانت أمورنا تدور بيننا بمبدأ الشورى . . . و فى هذه النقطة أحب أن أذكر علاقة العمال بهيئة التحرير لما فى ذلك من دور خطير مع ما هو قادم من الأيام .

كانت الحركة العمالية فى مصر يتزعمها النبيل عباس حليم و لم يكن يضم العمال اتحاد عام يقوى من شأنهم ، و كانت الدولة قبل ذلك تعارض قيام مثل هذا الاتحاد خوفاً من تحركات العمال ، و لكن فى نفس الوقت كانت المظالم العمالية لا تعد و لا تحصى من ناحية الحقوق و الواجبات .

و بالممارسة أصبح اتحاد العمال من اختصاصى كعمل رئيسى فى هيئة التحرير و كانت للعمال مشاكل غير قابلة للحل قبل الثورة فلما لجأوا إلى هيئة التحرير بدأت فى حل مشاكلهم المزمنة واحدة تلو الأخرى مما أدى إلى ارتباطهم الوثيق بهيئة التحرير و نمو هذا الارتباط يوماً بعد يوم خاصة و أننى كنت أتوخى العدل بين العمال و أصحاب العمل ، فلا انحاز إلى إلى جانب ضد الأخر مما أكسبنى أيضاً ثقة أصحاب الأعمال و رجال الأعمال و من هنا يتضح أنه فى خلال أقل من سنة و نصف كنت مسيطراً على الحركة العمالية بالحب و التفاهم و تحقيق المصلحة ، مما سيؤدى إلى دور العمال و موقفهم فى أزمة مارس 1954 . . .

و قد لا حظت فى خلال عملى مع العمال ، أن من قادتهم بعض الشيوعيين ففكرت فى أن أرسل هؤلاء القادة الشيوعيين فى زيارات للاتحاد السوفيتى ليتعرفوا على الواقع و يتأكدوا من أن الشيوعية ليست جنة العمال كما تصور البعض أو كما يصُوَّر لهم ، و كانت نتيجة هذه الزيارات أنهم جميعاً عادوا كافرين بالنظام الشيوعى .

و لن أنسى أن أوضح ، أنه كان يوجد اتحاد النقل المشترك و كان يرأسه صاوي أحمد الصاوي و سكرتيره العام محمدي عبد القادر ، و كان الاتحاد يتكون من نقابات متعددة تبعاً للشركات الممنوحة الالتزام ، و كانت ما يقرب من سبع شركات أو أكثر بما فيها شركة الترام و شركة ترام مصر الجديدة ، و كانت مشاكل العمال شديدة التعقيد مع الملتزمين و بفضل الله تمكنت من حلها جميعاً بعد سنوات من المعاناة ، و كان حل هذه المشاكل هو مفتاح الموقف فى مارس 1954 .

و للحقيقة فإننى أود أن أسجل ، أننى قد أنشات من خلال هيئة التحرير عدة مؤسسات لخدمة العمال و عائلاتهم و هى :

( 1 ) المؤسسة الصحة العمالية ، و طالبت الشركات بالاشتراك فى التأمين الصحى و قدره جنيه و احد فى السنة عن كل عامل فوافقت الشركات ، و اتخذت مستشفى صيدناوى مقراً لعلاج العمال كتجربة التأمين الصحى العمالى و قد نجحت التجرية لدرجة أن وافق الرئيس جمال عبد الناصر على إنشاء ثلاث مستشفيات أخرى للعمال عن طريق مجلس الخدمات فى ذلك الوقت و هى مستشفى شبرا الخيمة بالقاهرة و مستشفى زينهم بالقاهرة و مستشفى كرموز فى الإسكندرية .

و أصبحت تلك المستشفيات نواة التأمين الصحى و المؤسسة العلاجية فى مصر . . . و يحضرنى فى هذه المناسبة ذكر تجربتين و هما :

( أ ) أحد عمال دمياط و يعمل ( ( أويماجى ) ) موبيليا و بالكشف عليه تبين أنه يحتاج إلى جراحة فى عينه فى ألمانيا فاتخذت كافة الإجراءات مع سفاراتنا هناك لاستقباله فى المطار و نقله إلى المستشفى العلاجى و العناية به حتى عودته إلى مصر و اضطررت إلى شراء ملابس داخلية و خارجية له ليظهر بالمظهر اللائق فى ألمانيا و عاد مبُصراً .

( ب ) سائق فى اتحاد النقل المشترك أصيب بورم فى المخ أدى إلى فقد أبصاره و له زوجة و خمسة أولاد توجه إلى مستشفى صيدناوى فرفض الدكتور جمال القشيرى مدير المستشفى فى ذلك الوقت علاجه فاستدعيته وسألته فأجابنى بأن علاجه وحده يتكلف ألفين جنيه و معنى ذلك اشتراك ألفين عامل تستهلك لعامل واحد .

و لثقتى بالله و إيمانى بوعد الله و لن يخلف الله وعده ، أصدرت تعليماتى بعلاجه فوراً فى حدود الألفى جنيه و وعدت الدكتور جمال القشيري بأن الله سيردها لنا 20 ألف جنيه فالحسنة بعشرة أمثالها على الأقل فتعجب و قال لى من أين ؟! . . . قلت له لا تسألنى من أين و لكن أسأل الله .

و لدهشتى التى لازمتنى حتى اليوم . . . إنه بعد خروج الدكتور القشيرى من مكتبى طلب مقابلتى شخص – لا أعرفه و لم أره يوماً فى حياتى لا قبل ذلك و لم أراه أيضاً بعد ذلك – طلب منى أن أوجههُ للتبرع بأدوية و مستحضرات طبية فى حدود 20 ألف جنيه لأى جهة ، فاستدعيت الدكتور جمال الشقيري و كان لم يغادر الهيئة بعد ، و طلبت منه استلام الأدوية و هى عشرة أمثال علاج العامل كما وعدنا الله و حتى نؤمن دائماً بوعد الله عز و جل . . . و شفى العامل و رد له بصره ، و عاد لعمله كمحصل و ليس كسائق .

( 2 ) المؤسسسة الاجتماعية العمالية بشبرا الخيمة . . . اكتشفت أن موارد العمال لا تمكنهم من العيش فى مستوى لائق و أن عائلاتهم و أطفالهم محرومون من التوجه إلى مكان يمارسون فيه حياة طليقة فطلبت من شركات شبرا الخيمة التبرع لإنشاء هذه المؤسسة و هى قائمة حتى اليوم فى أداء خدمات جليلة للعمال و خاصة رعاية الأطفال .

( 3 ) المؤسسة الثقافية العمالية . . . و قصدت منها إنشاء مؤسسة لتثقيف العمال بالإطلاع على الكتب ، و حضور المحاضرات التى تفيدهم فى حياتهم العملية .

( 4 ) بنك الجمهورية ( العمال ) أنشأت هذا البنك من أموال النقابات بحيث لا تزيد مساهمة أى عضو عن ألف جنيه و السهم قيمته جنيهان يُدفع منها جنيه واحد و للعمال عشرة أسهم كحد أقصى و يدفعون الجنيه المقدم على أقساط و كنا نتلقى هذه المساهمات دون تحمل مصاريف إصدار للأسهم مما جعل البنك يحقق أرباحاً بمجرد افتتاحه و ارتفع سعر أسهم بنك الجمهورية خلال سنة واحدة من جنيه إلى ثمانية جنيهات و نصف و قد ضُم إلى البنك مصر .

( 5 ) أنشأتُ شركة الجمهورية للتأمين من خلال بنك الجمهورية و قد ضُم بنك الجمهورية فيما بعد إلى بنك مصر و ضُمت شركة الجمهورية للتأمين إلى شركة مصر للتأمين .

( 6 ) المؤسسة التعاونية . . .آمنت بأن التعاون هو السبيل الوحيد للطبقة العاملة فى كسر الاحتكار و التحكم فى الأسعار بما لا يطيقون فاقترحت على الرئيس جمال عبد الناصر إنشاء نظام تعاونى كالنظام الموجود فى السويد لأنه مثالى إذ يوازن بين القطاع الخاص و التعاونيات ، و جعل الطرفين متنافسين فى إرضاء المستهلك ، و اشتريت لذلك أرض الفوالة بجوار مسجد كيخا ، و لكنى و للأسف البالغ و بعد كل ما قدمت من تقارير حول المشروع قامت وزارة التموين بإنشاء تعاون حكومى تمتلكه الدولة و ليس الأفراد مثلما هو متبع فى جميع أنحاء العالم فضاعت الفكرة فى الاتجاه العام لملكية الدولة .

( 7 ) اتحاد العمال العرب و اتحاد عمال مصر لأول مرة . . . توجت خدمة العمال بأن وفقنى الله فى إنشاء اتحاد العمال العرب الذى نسب إليه قطع خطوط أنابيب البترول أثناء حرب 1956 كما أنشأت اتحاد عمال مصر بعد إقناع الداخلية بأنه لا خطر من قيام اتحاد لعمال مصر فلا يصح ان يكون هناك اتحاد للعمال العرب و لا يوجد اتحاد لعمال مصر . كما أصدرت الثورة قانون العمال الذى منع الفصل التعسفى و منع أصحاب الأعمال من التوقف إلا بإذن من الحكومة و كان هذا العمل بالنسبة للعمال قمة ما يطمحوا فيه من تحقيق مصالحهم و هنا يحق لى أن أوجه تساؤلاتى لمن يرحون عن باطل أن حركة مارس 1954 كانت نتيجة رشوة مالية دُفعت للعمال و تضاربت فيها الأقوال من مليون جنيه كما نشرت جريدة المصرى فى ذلك الوقت و حتى أربعة آلاف جنيه و هو الرقم الذى ذكره الرئيس جمال عبد الناصر فى حياته مع بغدادى و خالد محي الدين .

أليس فى كل الأعمال السابقة ما يجعل ولاء العمال لهيئة التحرير التى حرصت كل الحرص على تحقيق مصالحهم . . . و قد استطعت بفضل الله و بكل تلك المؤسسات التى قامت فى هيئة التحرير أن اعاونهم فى تحقيق امنهم فلن يطاردهم شبح الخوف ، و من فقدان عملهم ، أو التضيق فى ارزاقهم . . .

و الله . . . لو أنفقنا ما فى الأرض لنؤلف بين قلوب هذه القوى الهائلة من العمال ما ألفنا بينهم ، و لكن الله ألف بينهم ، بما أثبتنا لهم على مر الأيام أننا كنا أمناء عليهم و على آمالهم و حاضرهم و مستقبلهم . . . و قد أعاننى الله على أن أكون فى خدمة العمال ، و لا يشعرون منى بأى تعالى أو كبرياء ، و أننى واحد منهم لا أتميز عن أحدهم بأى شئ .

لقد كنا صغار السن ، و فجأة وجدنا أنفسنا فى مركز السلطة فقد كنت أتدرب جسمانياً و رياضياً بلعب التنس و وجدتنى فى حاجة إلى تدريب روحى فكانت عادتى عند ذهابى إلى مكتبى أن أراقب الناس فى الطريق إلى أن تقع عينى على شخص رث الثياب حافى القدمين يئن من البؤس فأخاطب ربى عز و جل قائلاً : " يا ربى كنت قادراً على أن تجعلنى مكانه و تجعله مكانى ، و لا يسعنى إلا أن يكون شكرى لك كبيراً و حمدى قدرتك عظيماً ، و لا يسعنى إلا أن أجعل رأسى تحت أقدام هؤلاء إلى أن ألقاك بهذا الفهم و بذلك التدريب اليومى " .

أخضعت نفسى . . . و النفس أمارة بالسوء فلم أكن أركب فى صالون السيارة بل إلى جوار السائق بلا حرس يرافقنى و لا أحد يسارع إلى فتح المصعد أو فتح الأبواب ، و أمضيت حياتى هكذا فى كل منصب توليته وزيراً كنت أم سفيراً .

أزمة مارس 1954 :

قبل أن اتكلم فى أحداث مارس 1954 يجب أن أسجل أولاً أن نجاح ثورة يوليو المفاجئ و السريع و دون أراقة نقطة دم واحدة أطمع الكثيرين من ضباط القوات المسلحة حتى ( ( الصولات ) ) فى أن يدبروا مؤامرات فاشلة للانقضاض على الثورة و الحكم و منها ما أحيل أصحابها إلى المحاكمة العسكرية و صدرت ضدهم الأحكام .

إلى أن تفاقمت الأمور فى سلاح الفرسان تحت ستار المطالبة بالديمقراطية و كان على رأس هؤلاء الضباط خالد محي الدين عضو مجلس قيادة الثورة و المعروف بلونه الأحمر اليسارى ، و مما يثير الانتباه أن هؤلاء الضباط قد غُرر بهم بشكل أو بآخر . فليس هناك بلد شيوعى واحد فى العالم تحكمه الديمقراطية بل يحكمه الحزب الشيوعى الأوحد فلا ديمقراطية و لا حرية و لكن مطالبتهم بالديمقراطية هو حق أريد به باطل . لأن الثورة فى ذلك الوقت لم تكن بعد قد تحققت أهدافها خاصة إجلاء القوات البريطانية عن مصر . . . ثم تفاقمت الأزمة باشتراك و تهديد الأسلحة الأخرى كالمدفعية و سلاح الطيران لسلاح الفرسان ، و كادت تنشب حرب أهلية لولا أن تداركنا الله بلطفه و هدى جمال عبد الناصر إخماداً للفتنة إلى أن يعرض الوزارة على خالد محي الدين الذى ارتبط بعلاقة وثيقة بالرئيس محمد نجيب و خاصة عندما رافقه فى رحلة النوبة و قد توثقت علاقتهما . . . .

و قبل خالد محي الدين الوزارة و توجه إلى محمد نجيب ليخطره بالقرار إلا أن موقف القوات المسلحة قد ألغى هذا القرار ، أما بالنسبة للرئيس محمد نجيب فلا أحد ينكر دور الرئيس محمد نجيب و أداءه فى الثورة . . . و مما لا شك فيه أيضاً أن شخصية محمد نجيب كانت سبباً من أسباب نجاح الثورة . . . . و لكن للأسف الشديد فإن بعض الخلافات فى مجلس قيادة الثورة نتج عنها أن لجأ الشيوعيون و الإخوان المسلمون و الوفديون إلى استغلال الرئيس محمد نجيب ، كلُ منهم يدبر و يخطط للاستفادة بمحمد نجيب فى القضاء على مجلس قيادة الثورة و التخلص من الضباط الأحرار ، و ذلك مرحلياً تمهيداً للاستيلاء على السلطة و التخلص من محمد نجيب نفسه بيسر و دون مقاومة ، و قد فات ذلك الرئيس محمد نجيب و لم يكتشف النوايا الحقيقية لهذه الجهات الثلاث .

أما عن دور الشعب و العناصر المدنية التى أثبتت بتحركها أن القوات المسلحة ما لم يساندها رأى عام شعبى فلا أمل فى أى حركة مسلحة ، و هنا أقرر أن أهم سبب للقضاء على تلك المؤامرات هو حركة العمال فى الفترة من 25 إلى 29 مارس 1954 ليتأكد الإنجليز من قوة الثورة التى لا ينازعها فيه منازع لا عسكرياً و لا شعبياً و لتبدأ مرحلة من الاستقرار تمكن فيها مجلس قيادة الثورة – و قد دانت له الأمور – من إجبار الإنجليز على توقيع اتفاقية الجلاء التى كانوا يراوغون فيها و يؤجلون أى التزام بها ، حتى يتبين لهم من الرابح و من الخاسر ، ليتبينوا طريقهم و إلى أى جانب سينضمون على أمل أن تنتهى ثورة 23 يوليه و ضباطها و يستمر الاحتلال دون جلاء .

صدر قرار مجلس قيادة الثورة فى مارس 1954 بحل مجلس الثورة و عودة الضابط إلى الثكنات و تحدد لذلك يوم 23 يوليو 1954 و لما كان أعداء الثورة لا يطمئنون إلى تنفيذ هذا القرار مع وجود مهلة تقرب من أربع أشهر فقد فكروا فى التعجيل بالتنفيذ فوراً دون انتظار حتى تستقر بهم الأمور . . . و بدأت المحاولة بأن استدعى يوسف صديق قريبه صاوي أحمد الصاوي رئيس اتحاد النقل المشترك و محمدي عبد القادر سكرتير الاتحاد لمقابلة الرئيس محمد نجيب فى منزله الذى يقع إلى جوار منزل يوسف صديق و تم اللقاء بين الرئيس محمد نجيب و يوسف صديق و صاوي أحمد الصاوي و محمدي عبد القادر الذين فهموا ضمناً من اللقاء أن خالد محي الدين معهم .

و عرض الرئيس محمد نجيب و يوسف صديق على الصاوي أحمد الصاوي و محمدي عبد القادر أن يدفعوا لهما عشرة آلاف جنيه كدفعة أولى مقابل قيادة عملية إضراب و اعتصام ضد مجلس الثورة مطالبين بتنفيذ قرار حل مجلس قيادة الثورة و عودة الضباط إلى النكثات فوراً و دون انتظار مجئ شهر يوليو 1954 فوعدهما صاوي أحمد الصاوي و محمد عبد القادر بالتفكير فى الأمر . . . وغادروهما على أمل اللقاء مرة أخرى .

و أثناء اشتداد الأزمة و الحركة المعادية للثورة و وصولها إلى قمة العداء قررت أنا و الطحاوى زيارة جمال عبد الناصر و وجدناه طريح الفراش و معه الدكتور ثروت طبيبه الخاص فى ذلك الوقت يعالجه ببعض الحقن . . . وجدنا عبد الناصر و قد فقد الأمل فى وجود حل للخروج من هذه الكارثة التى تهدد بحرب أهلية . . . و انهالت من عينيه الدموع قائلاً : " لقد انفض من حولى الجميع و ذهب كل فرد إلى منزله أو ناديه " .

و فوجئنا به يقترح ترك السلطة و معاودة النشاط من تحت الأرض "UNDER GROUND " فعارضنا هذه الفكرة تماماً على أساس أننا كنا تحت الأرض قبل قيام الثورة أما الآن فنحن جميعاً معروفون بالواحد ، و لن يطمئن من يتولى السلطة إلا إذا وضعنا تحت التحفظ أو المراقبة على أقل تقدير ، و تركناه و نحن ندعو الله أن يرزقنا الحل و قد أتى الحل الإلهى على أيدى من ناصبوا الثورة العداء محمد نجيب و يوسف صديق .

حيث حدث الآتى : ـ

و فى منتصف الليل و بعد أن غادر صاوي أحمد الصاوي و محمدي عبد القادر منزل محمد نجيب . . . فوجئت بهما يأتيانى فى مقر هيئة التحرير حيث كان الموقف خطيراً للغاية ، و قد استدعى ذلك عدم مغادرتنا مكاتبنا أنا و الطحاوى لعدة أيام ، إذ كانت المظاهرات تعج بشوارع القاهرة و ميدان عابدين منادية بسقوط جمال عبد الناصر و صلاح سالم لدرجة أن صلاح سالم نام فى دواسة السيارة و هو فى طريقه للقاء عبد الناصر خوفاً من بطش الجماهير .

و كان الرئيس محمد نجيب فى قصر عابدين و معه عبد القادر عودة يسمك قميصاً ملطخاً بالدماء و المتظاهرون من الإخوان يهتفون بكل النداءات العداونية ضد مجلس قيادة الثورة .

جاءنى صاوى و ومحمدى و أخطرانى أنهما قادمان من منزل محمد نجيب ورويا لى قصة اللقاء . . . و لما بيننا من ثقة مطلقة و حب أخوى ، قالا لى أنهما فى حيرة من أمرهما فهما لا يعرفان محمد نجيب ولا يعرفان جمال عبد الناصر ، و لكنهما يعرفاننى شخصياً و يثقان فى رأيى تماماً و لا يهمهما من الأمر كله سوى مصلحة مصر . . .فقلت لهما على الفور جمال عبد الناصر زعيم وطنى 100% و لا يعمل إلا لخدمة مصر .

و قلت لهما – الصاوى . . . و محمدى – نعم سنحقق رغبة المتآمرين بالإضراب و الاعتصام لا للمطالبة بسرعة تنفيذ قرار مجلس قيادة الثورة بعودة الجيش إلى الثكنات بدلاً من يوليو القادم و إنما سيقومون بالإضراب و الاعتصام للمطالبة بإلغاء قرار حل مجلس الثورة و عودة الضباط إلى الثكنات و إصدار دستور دائم .

و اقترحت عليهما البقاء فى مقر هيئة التحرير و الاتصال ليلاً بكل النقابات و استدعاء رؤسائها و تنظيم عملية الإضراب بحيث تبدأ العملية بإضراب عمال النقل المشترك و كذلك نقابة سائقى التاكسى بحيث يتساءل الجميع عن سبب هذا الإضراب و يتم الاعتصام فى مبنى اتحاد النقل المشترك و تتوالى الإضرابات إلى أن نصل إلى يوم 29 مارس حيث تكتمل وحدة الصف بين كافة العمال و يشترك فى الإضراب عمال السكك الحديدية و كافة النقابات مع استثناء العاملين فى المياه و الكهرباء و المخابز و تخلصت المطالب فى بقاء مجلس الثورة حتى جلاء القوات البريطانية و قيام جمعية وطنية تمثل كل القوى الشعبية من نقابات و هيئات و قلت للصاوى و محمدى سنحقق رغبة المتآمرين فى الإضراب و الاعتصام و لكن لا من أجل المطالبة بسرعة تنفيذ قرار مجلس الثورة بعودة الجيش إلى ثكناته فى 23 يوليو 1954 و حل مجلس الثورة و لكن للمطالبة بإلغاء هذه القرارات .

و نجح هذا العمل نجاحاً كاسحاً لتمتلئ شوارع القاهرة بعشرات الألوف من العمال ليستجيب مجلس قيادة الثورة إلى مطالبهم و يصدر قراره بإلغاء قرار المجلس السابق بحل نفسه و عودة الضباط إلى الثكنات و خمدت بذلك كل التحركات و المؤامرات فى القوات المسلحة و إلى الأبد .

عبد الناصر و أحداث مارس 1954 :

و بمجرد ما أتممت التفاهم مع الصاوى و محمدى و النقابات و الاتحادات الأخرى . . . و تم الاتفاق على تنفيذ الخطلة اتصلت أنا و الطحاوى بجمال عبد الناصر لنخطره بأبعاد المؤامرة التى كانت تدبر ضدنا و الإجراء الذى اتخذناه كرد فعل لما يحاولون القيام به و إحباط مؤامراتهم قال لى : " أنا لا أملك أى سلطة و لا أستطيع حمايتك لا أنت و لا الطحاوى فى حالة الفشل و أنا غير مسئول عما يحدث أو ما سيحدث و لست مشتركاً فى هذا العمل و لو علقت لكما المشانق فى ميدان عابدين فأنا غير مسئول و لا تنتظرا منى أو تتوقعا أى تدخل أو مساعدة " .

فقلنا له أننا نتصل به فقط ليعلم أن المظاهرات و الإضرابات و الاعتصام سيكون مؤيداً له و ليس لمعارضته ، و أن الحركة فى الشارع ستكون معه و ليست ضده و انتهى الاتصال . . . و بعد ربع ساعة اتصل بنا جمال عبد الناصر عارضاً إرسال خمسين ألف جنيه للمساعدة إلا أننى رفضت هذا العرض لرفضى الشديد شراء الذمم و الضمائر و أنه إذا لم يكن العمال مدفوعين بحبهم للثورة و الدفاع عن مصالحهم و مؤسساتهم التى أنشأتها الثورة و هيئة التحرير فلا حاجة لنا بهم ، و لقد جربنا من قبل توزيع المال فى السودان فكان هناك من دفع أكثر منا و لن نعيد هذه التجربة .

فعاد جمال عبد الناصر و عرض إرسال خمسة آلاف جنيه لشراء يفط و استئجار سيارات أو أية لوازم أخرى ، فقلت له لا مانع و سأرسل منها ألفين جنيه إلى الليثى عبد الناصر فى الإسكندرية لتغطية الإسكندرية و سأحتفظ بالثلاثة آلاف جنيه الأخرى . . . و فعلاً . . أرسلت ألفين جنيه إلى الليثى عبد الناصر و أنفقت أنا ألفين جنيه فقط و أخطرت عبد الناصر بأنه لا يزال معى ألف جنيه أخرى . . . لتصبح جملة ما أنفقت أربعة آلاف جنيه و هى التى ذكرها جمال عبد الناصر في سباق حديثه مع عبد اللطيف البغدادي و خالد محي الدين . . . و لم تكن تلك الأموال شورة لأحد . . . و هل هناك يتصور أنه بأربعة آلاف جنيه يشترى عمال مصر من أسوان إلى الإسكندرية فى أيام 25 ، 26 ، 27 ،28 ، 29 مارس . . . و لكن العلاقات و الخدمات و المصالح التى تحققت هى التى ربطتنى بالعمال ، و هى الأساس الوحيد لهذا التجمع العمالى فى مارس 1954 و الذى لم يحدث من قبل إلا فى ثورة 1919 م .

إن ولاء العمال كان لهيئة التحرير و للثورة لما حققته لهم من مكاسب و صدق الله تعالى إذ يقول فى كتابه الكريم { فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف } ؟ و ما صنعت الثورة و هيئة التحرير إلا أن أمنت لهم لقمة العيش الكريم مع أصحاب الأعمال ، وردت لهم حقوقهم المنهوبة ، و وقفت معهم ضد الخوف على حاضرهم و مستقبلهم ، و أى حكومة فى أى دولة لا توفر هذين المطلبين لشعبها فلا يحق لها طلب الولاء من الشعب .

و هنا تحضرنى و نحن بسياق أحداث مارس 1954 أن أروى هذه القصة ، فقد كانت تربطنا علاقة قوية بالأستاذ فريد الرفاعي الذى كان يعمل مديراً للمطبوعات فى وزارة صدقى باشا و كان على علاقة قوية بعلي ماهر و أحمد عبود . . . فوجئنا بالأستاذ فريد الرفاعي أثناء أزمة مارس 1954 يحضر إلى مكتبنا ليعرض علينا عقدين على بياض لنعمل عند أحمد عبود باشا و بالمرتب الذى نحدده لأن الثورة انتهت و سنصبح بلا عمل . فرفضت أنا و الطحاوى هذا العرض بشدة و اعتبرناه إهانة لنا فنحن ثوار و ضباط ثورة يوليو 1952 و التى من أهدافها القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم و ما يليق أو يجوز أن نعمل عند أحمد عبود . . . و كان الجوع أكرم لنا من هذا العرض .

و من هذه القصة يتبين أن العقلاء من الساسة فى هذا الوقت كانوا متأكدون من تغلغلنا أنا و الطحاوى فى القوى الشعبية و أن لا مؤامرة تنجح إلا إذا ترك عبد الناصر بمفرده ليواجه مصيره دون تأييد قلبى من التيار الشعبى الوطنى . . .

الاعتداء على السنهورى :

كانت التعليمات الصادرة من هيئة التحرير إلى جميع نقابات العمال و الهيئات المشتركة فى حركة مارس 1954 هى المحافظة على الأمن و عدم الاعتداء على المبانى و المنشآت و الأفراد أو الهيئات و قد مرت الأيام الخمس من 25 إلى 29 مارس بلا حادث واحد عكر صفو الأمن .

إلا أنه للأسف الشديد توجهت بعض المظاهرات إلى مجلس الدولة و الاعتداء على رئيسه الدكتور عبد الرازق السنهوري الذى كان موضع ثقة الرئيس عبد الناصر و رجال الثورة بعد أن سرت شائعة مغرضة بأن مجلس الدولة مجتمع لإصدار فتوى ضد ثورة 23 يوليو و سمعها السيد أحمد أنور قائد البوليس الحربى فى ذلك الوقت و مساعده حسين عرفة ، فتدخلا فى سير أحداث 1954 بما لم يكلب منهما و قادوا بعض المشتركين إلى مجلس الدولة بدون علمنا فى هيئة التحرير لأنه لو كان فى تخطيط هيئة التحرير الاعتداء لكانت دبرت الاعتداء على نقابة المحامين التى أصدرت قرارها بالفعل ضد الثورة و كانت على رأس النقابات المهنية ، أو الاعتداء على جريدة المصرى التى دأبت على شن حملات صحفية ضد الثورة و كانت على رأس صحف المعارضة ، و لكن نحمد الله أنه لم يحدث من ذلك شيئاً مطلقاً .

انتهاء إضراب مارس :

أتصل بنا جمال عبد الناصر فى 29 مارس سنة 1954 و استدعانى أنا و الطحاوى إلى مجلس الوزراء لمقابلته ، و أثار موضوع أنه يرغب فى انتهاء المظاهرات و عودة السكينة و الأمن إلى البلاد ، فقلت له أن القرار قراره فليحدد لنا الساعة التى يريد إنهاء الإضراب فيها ، و نحن قادرون على حظر التجول فى الساعة التى يحددها . . . فقال كيف ذلك و الشوراع كلها ممتئلة بأفراد الشعب فقلت له أن هؤلاء لهم قادة و كل القادة متصلون بنا و يأخذون التعليمات منا فالحبال كلها تنتهى إلينا فتساءل عبد الناصر هل نحن متمكنون و متحكمون لهذه الدرجة فى الجماهير فأجبناه بالتأكيد . . . فلما سألنا أحمد عبده الشرباصى الصديق الصدوق و وزير الأشغال عما دار فى المقابلة و حكينا له أنذرنا الشرباصى بأننا قد أخطأنا بهذا الرد و قال ألا تعلموا المثل الفلاحى القائل بأن " كل حاجة تزرعها تقلعها ما عدا البنى آدم تزرعه يقلعك " و أننا سوف نرى أياماً تعيسه فى المستقبل القريب و البعيد .

و قرر جمال عبد الناصر و عبد الحكيم عامر و صلاح سالم زيارة مقر اتحاد عام النقل المشترك مساء يوم 29 مارس 1954 لإنهاء الاعتصام و تقديم الشكر على الموقف الوطنى و الرجولى لتأييد الثورة فلما انتهت الزيارة و أمام باب الاتحاد قال صلاح سالم موجهاً حديثه لجمال عبد الناصر و عبد الحكيم عامر قائلاً : " إن طعيمة يساوى أكثر من ثقله دهب " ، أسجل هذه الكلمة لأننى سأعود إليها أثناء عملى كوزير للأوقاف .

و انتهت أزمة مارس 1954 لتتحقق النتائج :

( 1 ) توطيد دعائم ثورة 23 يوليو 1952 و جعلها أشد صلابة من كل تآمر داخلى أو خارجى .

( 2 ) التئام الصدع و توحيد الصفوف فى القوات المسلحة التى كانت قد انقسمت على نفسها و أصبح الموقف يهدد بحرب أهلية .

( 3 ) رضوخ بريطانيا العظمى وتوقيعها اتفاقية الجلاء فى 18 يوليو 1954 بعد أن تأكد لها أن ثورة 23 يوليو 1952 أصبحت القوة الوحيدة التى لا منازع لها فى مصر و أنه لا سبيل أمامها إلا التفاهم مع الثورة و الرضوخ لإرادتها فى الجلاء .

وزير العمال

فى أعقاب أحداث مارس 1954 كنا فى زيارة للرئيس جمال عبد الناصر أنا و الطحاوى و رافقناه حتى مجلس الوزراء و على وجه التحديد عند وصول السيارة إلى كوبرى الليمون فوجئت بحديث جمال عبد الناصر قائلاً أنه سيصدر قراراً بتعينى وزيراً للعمل حتى أتمكن من ربط العمال بى أكثر و أكثر فقلت أننى لم أربط العمال بى بل ربطتهم بثورة 23 يوليو و بجمال عبد الناصر شخصياً .

و بمجرد عودتى بدأ تفكيرى فى هذا العرض و أخبرت أخى الطحاوى بأننى سأرفض هذا العرض و لأسباب سأذكرها للرئيس عبد الناصر . . . و فى اليوم التالى توجهنا مباشرة إلى استراحة القناطر الخيرية حيث كان جمال عبد الناصر موجوداً بها و أقسمت له على القرآن أننى لا أرغب فى هذا المنصب لعدة أسباب :

أولاً : فى حالة تعيينى وزير للعمال سيكون ذلك معناه أننى تقاضيت مقابلاً أو ثمناً لحركة مارس 1954 و بذلك أكون قد قمت باستغلال العمال و حركتهم لمصلحتى الشخصية و هذا ما أرفضه و لا ارتضيه لنفسى .

ثانياً : أن التصرف مع قيادات العمال و قيادتهم قد يتطلب شيئاً من الشدة فى بعض الأحيان للوصول إلى الانضباط و إلا سارت الأمور إلى فوضى و يفلت الزمام و قد يؤول ذلك إلى كبرياء أصابنى بعد تعيينى وزيراً لهم لا بدافع المصلحة العامة و بذلك يصبح المنصب قيداً لا عوناً .

ثالثاً : إننى بحكم وضعى الحالى لا ألتزام بأية قيود على تحركاتى فأنا ذاهب إلى العمال و أجاملهم فى أفراحهم و أحزانهم . . . . أى أشاركهم حياتهم ، مما يجعلنى متفرغاً لعلاقتى و بتعيينى وزير قد لا أجد الوقت و الظروف التى تسمح لى بهذه اللقاءات فيفسره ضعاف النفوس بأنه كبرياء منى بعد تعيينى وزير ، و بذلك يصبح منصب الوزير قيداً لا عوناً .

رابعاً : إن تعيينى فى منصب الوزير سيفقد الثورة و جمال عبد الناصر لساناً ينطق بين جماهير العمال و الشعب بالمدح و ذلك بذكر الحقائق التى تجمع القلوب حول الثورة و مبادئها ، فلن يستطيع لسانى بعد ذلك أن ينطق بحرف واحد و لو كان حقاً خشية أن يؤول حديثى أنه نفاق أو تملق فقد قبضت الثمن و هو منصب الوزير و بذلك يصبح منصب الوزير قيداً لا عوناً .

و قد اقتنع الرئيس جمال عبد الناصر بوجهة نظرى و قال : " على كيفك ، أنا أتعجب ، أنت أول واحد يقول ( لا ) " . و كان عمرى وقتها لا يتجاوز الثانية و الثلاثين . . . فلم أكن ممن يغترون بالسلطة و تستعبدهم المناصب و كراسى الحكم و تستهويهم المظاهر الكاذبة إنما أتوجه بعلمى دائماً لوجه الله تعالى و لخدمة وطنى فى سكون و صمت و رضاء . . . لكن بطانة السوء صورت له أنه لا يكفينى منصب الوزير و أنى لأتطلع لمنصب رئيس الجمهورية و أننى ( ( بيرون ) ) مصر رئيس الأرجنتين السابق الذى بدأ الصعود إلى السلطة بعلاقاته بالعمال . . . . و هكذا كانت بطانة السوء تنفث السم . . . و من وقت مبكر و تقتضى أمانة الكلمة قبل أن أنتهى من أحداث مارس 1954 يجب أن أذكر بعض ما جرى سواء قبل مارس 1954 أو بعده . . . .

وحيد رمضان و مارس 1954

عند خروجنا من مجلس الوزراء و جمال عبد الناصر يهم بركوب سيارته إذا بالأخ وحيد رمضان يكرر ما كتبته صحيفة المصرى بأن مليون جنيه أنفقت على حركة مارس ، فغضب جمال عبد الناصر غضباً شديداً لأن هذا الكلام عار تماماً من الحقيقة ، و يسئ إلينا دون داع و القى عبد الناصر باللوم علىّ شخصياً . . . .

إن وحيد رمضان هو الذى ضمنى للضباط الأحرار و لما قامت الثورة و عملت أنا و الطحاوى فى هيئة التحرير طلب منى وحيد رمضان أن ينضم لى أنا و الطحاوى للعمل معنا فى هيئة التحرير . . . . توجهت أنا و الطحاوى عدة مرات إلى جمال عبد الناصر بطلب ضم وحيد رمضان و فى كل مرة يرفض عبد الناصر طلبنا .

و فى النهاية وافق عبد الناصر و قال لى أنا أعرف وحيد رمضان أكثر منك و كنت أرفض ضمه لكما لأنه سيثير المتاعب و لا يحق لكما الشكوى منه فيما بعد و ذكرنى جمال عبد الناصر أن وحيد رمضان أغضب المشير عبد الحكيم عامر من قبل لأنه أطلق على نفسه القائد العام لمنظمات الشباب فعلق المشير متعجباً أصبح لدينا قائدان عامان فى مصر ، قائد القوات المسلحة و قائد منظمات الشباب .

الدكتور عزيز صدقي وزيراً

كان المهندس محمود يونس نقيباً للمهندسين و عند أحداث مارس غادر القاهرة إلى السويس و ترك النقابة فى وقت حرج للغاية بينما كانت نقابة المحامين برئاسة الأستاذ / عمر عمر تشن حملة ضارية ضد ثورة 23 يوليو و تبعتها بعض النقابات الأخرى إذ بالدكتور عزيز صدقي و قد عرفناه من قبل حيث قام الأخ مجدي حسنين بزيارتنا بصحبة الأستاذ فؤاد جلال و الدكتور عزيز صدقي و كانا يعملان فى مجلس الخدمات .

قرر الدكتور عزيز صدقي بأن السيد محمود يونس قد غادر القاهرة إلى السويس و ترك النقابة ، و أنه يخشى أن يقوم بعض المهندسين بعقد اجتماع لاتخاذ قرار مؤيد لثورة 23 يوليو 1952 فوافقناه و فعلاً أنجز ما وعد .

بعد أن انتهت أحداث 54 كتبت قائمة بأسماء من وقفوا إلى جانبنا من المثقفين و كان الدكتور عزيز صدقي من ضمن الأسماء . . . و فى يوم من الأيام كنا فى لقاء مع جمال عبد الناصر فأخبرنا أنه قرر تعيين عزيز صدقي وزيراً و طلب منا أن ندعوه إلى الغذاء و نخبره بهذا القرار ليعلم أننا السبب فى اختياره للوزارة .

و فعلاً دعوناه و أخطرناه فكانت فرحته الشديدة و شكرنا و أسجل هنا أننى قرأت حوار صحفياً بين الأستاذ مفيد فوزي و الدكتور عزيز صدقي صرح فيه عزيز صدقي بأن السيد محمد حسنين هيكل هو سبيل معرفته بالرئيس جمال عبد الناصر و هذا ينافى الحقيقة تماماً لأن عزيز صدقي لم يكن يعرف محمد حسنين هيكل قبل تعينه وزيراً على ما أعلم .

فلسفة الثورة

كذلك هناك قصة تتعلق بكتاب فلسفة الثورة الذى صدر فى هذا الوقت بعد أن انتشرت شائعة بأ ، كاتب هذا الكتاب هو أحد كبار الصحفيين و ليس جمال عبد الناصر فتوجهنا أنا و الطحاوى إلى الرئيس جمال عبد الناصر لنسأله عن صحة هذه الشائعة فأفادنا بأن علاقته بهذا الكاتب ترجع إلى أن هذا الصحفى له علاقة بالمخابرات الأمريكية " C I A " و أنه عندما يريد التأكد من وصول المعلومات للأمريكان فإنه يذكرها أمامه .

مؤتمر باندونج و جمال سالم

فى مطار القاهرة كنا فى وداع الرئيس جمال عبد الناصر أثناء ذهابه إلى مؤتمر باندونج فأسر لنا جمال عبد الناصر بأن التعليمات فى غيابه ستكون مع المشير عبد الحكيم عامر ، لأن الرجل الثانى كان فى هذا الوقت جمال سالم و لم يكن عبد الحكيم عامر . . . و قبل عودة الرئيس اتصل بنا عبد الحكيم عامر و أفاد بأن الرئيس يرغب فى تنظيم استقبال شعبى له عند عودته .

فى الوقت نفسه اتصل بنا جمال سالم معطياً تعليماته بعدم تنظيم استقبال شعبى للرئيس ، و الاكتفاء بالاستقبال الرسمى من الوزراء و رجال السلك الدبلوماسى و كبار رجال الدولة ، فأصبحنا فى موقف لا نحسد عليه . . . . و لكننا قررنا تنفيذ تعليمات عبد الحكيم عامر بناء على طلب عبد الناصر و تعليماته لنا .

و صدرت الصحف كلها قبل وصول الرئيس بيوم واحد تعلن عن استقبال شعبى ضخم للرئيس عند عودته من باندونج ، فاستشاط جمال سالم غضباً منى و طلب منى الحضور أنا و الطحاوى إلى منزله فى جاردن سيتى الساعة السابعة مساءاً فتوجهنا إليه حسب الموعد ففوجئنا بوجود السيد زكريا محى الدين وزير الداخلية و صلاح دسوقى أركان الحرب الداخلية فلما سألنا جمال سالم جميعاً " داخلية هيئة التحرير " عما نشر عن الاستقبال الشعبى و عدم تنفيذ تعليماته ، أجبنا جميعاً بنفى علمنا بهذا الاستقبال فما كان من جمال سالم إلا أن قال " لازم السفير البريطانى هو اللى يرتب الاستقبال الشعبى لعبد الناصر " .

أخذت جمال سالم نوبة من الغضب الشديد ، و وجه حديثه لنا جميعاً قائلاً إذا كنتم تعتقدون أنكم تحبون مصر أكثر منى . . . فلا . . و إذا كنتم تعتقدون أنكم تحبون جمال عبد الناصر أكثر منى . . . . فلا . . . و لكن لو كنتم تدرسون التاريخ المصرى لوجدتم أن شعبها الطيب يصنع من الحكام آلهة و أصنام ثم يأتى وقت يحاول الشعب التخلص منهم فلا يستطيع و يدفع الجميع الثمن . . . و أنا أحذركم أن تصنعوا من جمال عبد الناصر صنماً أو ديكتاتوراً ، و لو فعلتم لدفعتم أنتم شخصياً ثمن ذلك و معكم الشعب الطيب .

و تم الاستقبال الشعبى تماماً مثلما أراد جمال عبد الناصر و روى المشير عبد الحكيم عامر هذه القصة لجمال عبد الناصر و لما رويناها له بررها عبد الناصر بأنها الغيرة لأن الرئيس اجتمع مع نهرو و تيتو و كبار زعماء العالم و قال بأن جمال سالم معروف عنه الاندفاع و عدم التحكم فى مشاعره .

عبد الناصر و الإذاعات الأجنبية

كان من عادة جمال عبد الناصر كما روى لنا عدة مرات أن يستيقظ مبكراً و يستمع إلى الإذاعة البريطانية و إذاعة صوت أمريكا ، و طالما كانوا يكيلون له كلمات العداء فإنه يطمئن على أنه فى خدمة مصر و ليس فى خدمتهم ، و أنه فى اليوم الذى سيكيلون له فيه كلمات المديح ، فهذا يعنى أن جمال عبد الناصر يعمل فى خدمتهم و ليس فى خدمة مصر . . . و يمكن الحكم على ما كالته أبواق الغرب من مديح السادات . . . .

عبد الناصر و الإعلانات المبوبة

كان من ضمن المتصلين بنا الدكتور مصطفى الحفناوى الذى كتب كتاباً عن قناة السويس ، و الذى عين فيما بعد عند تأميم قناة السويس عضو مجلس إدارة بها بناء على توصية منى و من الأخ الطحاوى لأنه كان يشتكى من مروره بضائقة مالية و بمرور الأيام أخبرنا جمال عبد الناصر بأننا قد أبلغناه من قبل بالضائقة المالية التى يمر بها الكتور مصطفى الحفناوى ، و أنه اتضح له عدم صحة هذه الرواية . . . بدليل أن عبد الناصر كان يطلع على الإعلانات المبوبة فى الصحف و فوجئ بأن الدكتور مصطفى الحفناوى يعلن عن بيع عزبة كبيرة بها قنوات من الأسمنت و مجهزة تجهيزاً كاملاً للزراعة . . . فاجأنا عبد الناصر و جعلنا نتساءل هل يسمح وقت الرئيس بقراءة الإعلانات المبوبة فقال لنا عبد الناصر بأن قراءة الإعلانات المبوبة يمكنه من معرفة أشياء كثيرة عن الحالة الداخلية للبلد و عن أحوال الناس .

قصة صلاح سالم و عبد الناصر

صدر قرار بتعيين السيد / صلاح سالم . . . رئيساً لمجلس إدارة دار الشعب و كان على علاقات سيئة مع الرئيس جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت ، ففرحنا بالقرار الذى يجمع الشمل و وحدة الصف ، و أصررنا أنا و الطحاوى على تهنئة الرئيس على هذا الفعل الأخوى فتوجهنا أنا و الطحاوى لزيارة الرئيس و بعد أن قدمنا له التهنئة لم يعلق ، و توجه إلى مكتبه و أخرج ورقتين أعطاهما لنا للإطلاع قائلاً أنه وقع مرتين . . . المرة الأولى تعيين صلاح سالم و حدد التاريخ و المرة الثانية الاستغناء عنه و لم يحدد التاريخ .

التخلص من مجلس قيادة الثورة

و حدث فى هذه الفترة أن اجتمعنا بالرئيس عبد الناصر أنا و الطحاوى فى الإسكندرية حيث قال لنا الرئيس أنه سيعرض على أعضاء مجلس الثورة انسحابهم جميعاً من المجلس على أن يبقى معه عبد الحكيم عامر فقط لقيادته الجيش و تأمين الثورة و يعوضوا بما يرضيهم فرفضوا جميعاً و اشترطوا انسحابهم مع المشير عبد الحكيم عامر كأول منسحب فرفض جمال عبد الناصر و باءت محاولة التخلص منهم بالفشل مؤقتاً إلى أن أتم أخيراً انفراده بالسلطة دونهم .

حادث المنشية عدوان 1965

محاولة اغتيال عبد الناصر و أول برلمان فى عهد الثورة

علاقة جمال عبد الناصر بالإخوان المسلمين . . . موضوع شائك ترددت فيه الروايات المختلفة و خاصة تلك الادعاءات التى أطلقتها جماعة الإخوان المسلمين و محاولاتها المستمرة للتضليل و التشكيك فى كل الحقائق ، حتى بلغت بهم الجرأة الإدعاء بأن حادث المنشية الذى تعرض فيه جمال عبد الناصر للاغتيال و أطلقت عليه عدة رصاصات ، إنما كان حادثاً مدبراً من رجال عبد الناصر إن لم يكن جمال عبد الناصر نفسه .

و هو إدعاء باطل يرد عليه تاريخ جماعة الإخوان الإرهابى الدموى كما سبق و أوضحت ، لأنى علمت اسم محمود عبد اللطيف منفذ العملية قبل إطلاقه النار على جمال عبد الناصر فى المنشية ، و أبلغت جمال عبد الناصر باسمه ضمن عشرة أسماء سيكلف أحدهم بالقيام بمحاولة الاغتيال ، و قد حصلت على هذه الملعومات و هذه الأسماء العشرة من أعضاء الإخوان المسلمين كانوا متعاطفين معنا و ضد سياسة حسن الهضيبي .

و فضلاً عن ذلك كيف يمكن أن يدبر شخص ما و أن يقبل أن يطلق عليه النار من مسافة عشرة أمتار تقريباً فيصاب سكرتير هيئة التحرير الواقف ملتصقاً بجانبه و هو الأستاذ أمين بدر . . . . كيف يمكنه التأكد بـأنه لن يصاب هو أيضاً لو حدث خطأ فى التصويب . . . و كيف لا يحسب رجلاً مثل جمال عبد الناصر عامل الخطأ البشرى الذى يجب أن يحسب حسابه فى أى تقدير أو تدبير .

لقد بدأت بحادث المنشية باعتباره قمة العداء و التآمر من جانب الإخوان ضد ثورة 23 يوليو عامة ، و جمال عبد الناصر بصفة خاصة على الرغم من أن جمال عبد الناصر كان متعاطفاً منذ البداية مع جماعة الإخوان إلى أقصى الحدود و آمل دائماً فى تعاونهم مع الثورة ، و حاول اكتساب ثقتهم من أول لحظة بالإفراج عن أعضاء الجماعة المسجونين فى الحوادث السابقة ، و استثناهم كجماعة من قرار حل الأحزاب السياسية ، على الرغم من أن جماعة الإخوان تعتبر النشاط و العمل السياسي يسبق الأداء الدينى .

و ربما تعود حالة العداء تلك إلى تفكير خاطئ سيطر على جماعة الإخوان المسلمين منذ قيام الثورة ، إذ أنهم اعتبروا أنفسهم أصحاب الحق فى ثورة 23 يوليو و أصحاب الحق فى السلطة ، باعتبار أن الثورة قام بها ضباط الجيش الذين ليست لهم قاعدة شعبية ، و تصوروا أنهم هم القاعدة الشعبية التى يجب أن تسلم لها الثورة مقاليد الحكم و هنا ينتهى دور الضباط الأحرار .

و بدأت المواقف من جانبهم فى كل موضع تنبئ بالخلاف الناتج عن هذا التصور العقيم ، بداية من إصرارهم على أن يكون تعيين الوزراء من جماعة الإخوان و لا يترك للقيادة حرية الاختيار و حتى مشكلة إنشاء هيئة التحرير و إصرار الإخوان على عدم إنشاءها لأن الثورة ليست فى حاجة إلى جهاز شعبى غير جماعة الإخوان المسلمين ، و هو الأمر الذى رفضه جمال عبد الناصر تماماً ، و وصفه بأنه وضع غير مقبول ، لأن مصر تشمل مسلمين و أقباطاً فإذا انحصر النشاط السياسي فى جماعة الإخوان المسلمين فكيف نطلب من الأقباط الانضمام إلى الإخوان المسلمين لمباشرة حقوقهم السياسية المشروعة .

و بدأ العداء السافر عند إنشاء هيئة التحرير فكانت جماعة الإخوان تنظم الاجتماعات المناهضة لهيئة التحرير ، و تحرض على عدم الانضمام إليها فكان يحضر أعضاءها اجتماعات هيئة التحرير هاتفين " الله أكبر و لله الحمد " مما أجبرنا كهيئة تحرير إلى ابتكار هتاف مضاد و هو " الله أكبر و العزة لمصر " و " الله أكبر و العزة للعرب " حتى لا يسيطر هتافهم وحده ، و كأن الاجتماع اجتماعاً للإخوان المسلمين .

لقد اقترح جمال عبد الناصر على الإخوان الانضمام إلى هيئة التحرير إلى حد تولى القيادة فى فروع هيئة التحرير و لكن جاء الرفض من جانبهم دائماً حتى فى قضية الجهاد . . . فإن حسن الهضيبي أشار إلى أن الجماعة تنظر إلى العالم الإسلامى ككل و لها أن تحدد أولوياتها لذلك قد يكون الجهاد فى الجزائر أهم من الجهاد فى منطقة القناة ، فيجاهدون و يقاتلون فى الجزائر ، و لا يجاهدون و لا يقاتلون الإنجليز فى منطقة القناة .

و لما اتضحت أفكارهم و مواقفهم العدوانية ، طلب منهم جمال عبد الناصر تسليم الأسلحة و الذخيرة التى سبق و أن أشرت إليها من أنها كانت تسلم بمعرفتنا و بتعليمات من عبد الحكيم عامر فى رفح إلى ضابط شرطة عضو الإخوان المسلمين فى محطة القنطرة شرق ، و قد قمت شخصياً بتسليم كمية كبيرة من هذه الأسلحة . . . و رفضت جماعة الإخوان المسلمين إعادة الأسلحة و الذخائر و التى اعتقد أنه تم الاستيلاء عليها بعد حادث المنشية .

كما كان موقفهم من مفاوضات الجلاء موقفاً معيباً ، إذ داوموا على الاتصال بأعضاء فى السفارة البريطانية محرضين على تأجيل اتفاق الجلاء حتى يتسلموا السلطة فى مصر ، و كان موقف جمال عبد الناصر منهم موقف الأمل أن يعودوا إلى منطق الحق و العقل .

و قبل حادث المنشية تطوع بعض الإخوان المتعاونين معى أنا و الأخ الطحاوى بحكم أننا من قدامى الإخوان و قدموا لنا أسماء 300 من أعضاء الجهاز السرى للإخوان المسلمين ، بعد ما كثرت الشائعات عن احتمال لجوء الإخوان لعمليات الاغتيال . . . و توجهت معهم جمال عبد الناصر و اقترحواعلى جمال عبد الناصر إصدار قرار بفصل هؤلاء الــ 300 من الخدمة و بذلك ينشغلون بأنفسهم و عائلاتهم عن أى نشاط إجرامى آخر .

و لكن عبد الناصر لم يصدر القرار الذى طالبنا به أكثر من مرة بناء على استعجال هؤلاء الإخوان إلى أن نفذ صبرهم و طلبوا لقاء عبد الناصر مرة ثانية و فعلاً توجهنا إليه قبل حادث المنشية بأيام قليلة .

استقبلنا جمال عبد الناصر ، و لما سألوه عن القرار أجاب بأنه أجرى حسبه بسيطة 300 شخص فى 5 متوسط عدد أفراد أسرة الشخص الواحد يعنى 1500 فرد سيتعرضون لأخطار و مصائب لاحد لها ، و أن ضميره لم يقبل التوقيع على القرار بالرغم من أن القرار جاهز للتوقيع .

لقد أقسم جمال عبد الناصر بأنه أمسك القلم عدة مرات ، و فى النهاية أكتشف أنه غير قادر على التوقيع ، و قال معقباً من يريد اغتيالى فليفعل و لكنى لن أوقع هذا القرار . . . و سأحتفظ لنفسى بأسماء هؤلاء الإخوان و لكنى اعتقد شخصياً أن أحد أسباب نجاة جمال عبد الناصر من الاغتيال هو هذا التصرف الخير و التسامح الإنسانى لمن يريدون اغتياله . . . .

كانت صدمة الإخوان شديدة للغاية بتوقيع اتفاقية الجلاء ، و ذلك بعد أحداث مارس 1954 و التى أوضحت دورهم فيها و مع محمد نجيب ، و طاش صوابهم ، و أصبح العداء علنياً فى اجتماعتهم و ندواتهم ، مهاجمين اتفاقية الجلاء متهمين عبد الناصر بالتخاذل و الاستسلام للإنجليز ، مدعين أن الاتفاقية لا تفى بآمال المصريين .

و للرد على تلك الافتراءات قرر جمال عبد الناصر عقد اجتماعات عامة إقليمية و مهنية ، تشمل كل القطاعات الشعبية ، و بدأت هذه الاجتماعات ليوضح جمال عبد الناصر مزايا الاتفاقية و قد كنت أنا و الطحاوى المنظمين لهذه الاجتماعات بصفتنا هيئة تحرير و وضعنا الجداول الزمنية ، و كان هناك يوم مخصص لاتحادات الغرف التجارية و رجال الأعمال ، و لكنى فوجئت بجمال عبد الناصر يطلب تأجيل هذا الاجتماع لأنه وعد شقيقة الليثى عبد الناصر بزيارة الإسكندرية و إلقاء خطاب فى ميدان المنشية من شرفة هيئة التحرير .

و رجوت جمال عبد الناصر أن يؤجل زيارة الإسكندرية لأنها كانت مدينة متعاطفة مع محمد نجيب ، و لا ترحب بجمال عبد الناصر ، و اقترحت أن نؤجل الإسكندرية إلى نهاية جدول الزيارات حتى نكون قد نجحنا فى تكوين رأى عام معضد للاتفاقية يكسبنا شعبية تجبر أهل الإسكندرية على تغيير موقفهم المنحاز لمحمد نجيب و لكن رفض جمال عبد الناصر التأجيل و قمت أنا بتأجيل اجتماع اتحاد الغرف التجارية .

و للحق أقول أننى كنت متشائماً من ذهاب عبد الناصر إلى الإسكندرية فى ذلك الوقت و موقف الإسكندرية كما أوضحت و موقف الإخوان المسلمين على وشك الانفجار لدرجة أننى رأيت رؤيا فى نفس الليلة أن جمال عبد الناصر يطلق عليه الرصاص و لم يصبه . . .

قبل عدوان المنشية و محاولة اغتيال جمال عبد الناصر بثلاثة أيام دعوت فى منزلى لتناول طعام الغذاء الأخ إبراهيم الطحاوي و الدكتور خميس حميدة وكيل الإخوان المسلمين و أحد الشيوخ من قادة الإخوان اللذان حوكما فى نفس القضية و كنا نناقش فى جلستنا ما وصلت إليه العلاقة بين الثورة و الإخوان فى محاولة لتصفية جو العداء ، و كلنا فوجئنا جميعاً بنجلى " هانى " و قد كان يبلغ من العمر حينئذ خمس سنوات مقتحماً جلستنا ، موجهاً الحديث للضيفين قائلاً : " أنتم عايزين تموتونا ليه ؟ ! . . . دا إحنا مسلمين مش إنجليز " ، و كانت مفاجأتى أشد من مفاجأتهما لأنى تصورت أنهما عتقدا أن قوله بإيحاء منى أو سابق حديث أمامه .

لقد حاولت نفى صلتى بهذا الحديث العجيب و أنه حديث تلقائى مما يتفوه به الأطفال فى مثل سنة و حاولا من جانبهما طمأنة ابنى بأنهم لا يمكن أن يرتكبوا مثل هذا العمل الشنيع ، و بعد ثلاثة أيام وقعت حادثة المنشية و محاولة اغتيال جمال عبد الناصر و أعضاء مجلس قيادة الثورة . . . فسبحان الله الذى أنطق أبنى بهذه الكلمات لتحقق بعد ثلاثة أيام .

لقد عاودت رجاء جمال عبد الناصر فى التأجيل و لكنه أصر على إتمام زيارة الإسكندرية فى موعدها الذى حدده ، و كانت تعليماته لى و للأخ و الطحاوى بعدم اصطحابه سوياً . . . فأحدنا يصحبه و الآخر ينتظر فى القاهرة .

و كنت أنا فى القاهرة فى مكتبى بهيئة التحرير عندما سمعت طلقات الرصاص و الاعتداء فى الراديو و اطمأننت على سلامة جمال عبد الناصر و فوجئت بعد قليل بالسيد / عبد العظيم فهمي و كان مديراً للمباحث العامة يتصل بى قائلاً بأن اسم الفاعل هو ( ( محمود عبد اللطيف ) ) و أنه ضمن الأسماء العشرة التى دونها جمال عبد الناصر فى مفكرة سوداء صغيرة يسجل فيها أهم الموضوعات .

و قصة الأسماء العشرة ترجع إلى أن أشقاء عائلة سعودى الذين كانوا أعضاء فى جماعة الإخوان المسلمين فقد حضر إلى مكتبى فى هيئة التحرير و أملانى عشرة أسماء مؤكداً أن أحدهم سيكلف باغتيال جمال عبد الناصر و أن هؤلاء العشرة يتدربون على إطلاق النار فى إحدى قرى محافظة الجيزة فأبلغت الرئيس جمال عبد الناصر فوراً بالأسماء العشرة و دونها فى مفكرته .

سألنى عبد العظيم فهمي هل بإمكانى الحصول على معلومات إضافية فاتصلت بالأخ سعودى فقال أنه سمكرى يقطن فى إمبابة و أنه متطوع أيضاً فى الحرس الوطنى مما يدل على أن الإخوان المسلمين أرادوا أيضاً الاستفادة من التدريب فى الحرس الوطنى لا لتحرير مصر و لكن للقتل و الاغتيال .

و هنا يجب أن أتوقف مفسراً قول أحد المتهمين فى قضية الإخوان و قد يكون أسمه الريس فى المحاكمة التى أجريت بعد محاولة الاغتيال و الذى قال أن حركة الإخوان ضد ثورة 23 يوليو كانت مؤكدة و كان توقيتها بعد سنة قادمة و أنى أعتقد أن سبب هذا التعجيل و هو : -

( 1 ) الخوف من كسب جمال عبد الناصر لشعبية كبيرة بعد توقيع اتفاقية الجلاء الذى كان حلماً و أملاً مستحيلاً للمصريين و بذلك يصعب على الإخوان عداء الثورة السافر و محاولة قلب نظام الحكم .

( 2 ) نجاحى أنا و الطحاوى بصفتنا من قدامى الإخوان فى استقطاب و إقناع عدد كبير من الجهاز العلنى للإخوان بحيث أصبح واضحاً لكل إنسان أن هناك حزبين داخل الإخوان أحدهما مع الثورة و الآخر ضدها و خوفاً من أثر هذه الفرقة و أن يمتد الشرخ و الصدع و الانقسام إلى الجهاز السرى للإخوان ، و هو الأمر الذى يمثل أكبر خطورة على الجماعة ففضلوا التعجيل لأن نجاحهم سيجمع شمل الإخوان حول النجاح ، و يسلم الجهاز السرى من الانقسام ففضلوا القيام باغتيال جمال عبد الناصر فى أقرب فرصة ثم يأتى الدور على باقى أعضاء الثورة ليتم لهم الاستيلاء على السلطة .

أقول للتاريخ و الله شهيد أن الخلاف بين الثورة و الإخوان لم يكن خلافاً دينياً أو عقائدياً أو وطنياً و لكنه كان صراعاً بحتاً على السلطة و السلطة لوحدها . . . . لعن الله السلطة . . . فلو كان موقف الإخوان المسلمين استمر متعاوناً مع الثورة لخدمة مصر لا بغرض الحكم و الاستئثار بالسلطة ، و خاصة بعد أن استثناهم عبد الناصر من قانون حل الأحزاب . . . فلو ظل الإخوان المسلمون متعاونين مع الثورة .

فالله يعلم كم كان ممكناً أن تتجنب الثورة كثيراً من الأخطاء التى حسبت عليها ، و على سبيل المثال فإن حادث المنشية حول عبد الناصر من الرقة و الحنان و العطف و المحبة ، إلى أسد جريح يصيب من يصادفه – على غير سلوك الأسود – فتمت الاعتقالات و مورس كثير من التعذيب فى السجون و المعتقلات كما صدرت أحكام بإعدام بعض الإخوان نتيجة لمحاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر فى ميدان المنشية و إشاعة الفتنة فى وجود الاحتلال البريطانى الذى لازال جاثماً على صدر الوطن و الإخوان المسلمون قادرون دائماً على إلباس الباطل ثوب الحق و لا يستحون و يجادلون بشدة حتى تحسبهم أنهم على حق فصار منطق الإخوان لماذا أحكام الإعدام و لم يقتل أحد و هذه مغالطة كبيرة فإنهم كجماعة إسلامية يعلمون حق العلم ما ورد فى القرآن الكريم من آيات تكذبهم فالإعدام صدر جزاء الفتنة { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف } و أحل الله القتل فى قوله تعالى { من قتل نفساً بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } ، و إن نفذ الإعدام فى بعضهم فقد كان للفساد فى الأرض و لم يكن لارتكاب القتل . . . و أخيراً إذا كان المشروع أباح الإعدام فى جرائم المخدرات و الاغتصاب لما فيها من فساد فى الأرض أليس من باب أولى أن ينفذ الإعدام فيمن حملوا راية الفتنة و الفساد فى الأرض .

تأميم قناة السويس 26 يوليو 56

لا نستطيع أن نقول أن جمال عبد الناصر عندما أمم قناة السويس كان رد فعل متسرع لسحب أمريكا لتمويلها لمشروع السد العالى بل كان هذا الموضوع أمام جمال عبد الناصر مبكراً من زمن . . . كبف يستعيد قناة السويس إلى مصر ؟ و هى رمز للظلم و العدوان و ما حفرت إلا بالدماء و عرق و دموع مئات الألوف من المصريين المغلوبين على أمرهم . . . ثم كانت قناة السويس مجالاً لتسرب النفوذ الأجنبى إلى مصر .

لقد وضع الإنجليز يدهم على حصة مصر من القناة مقابل أربعة ملايين جنيه ، و بذلك وضعت أول خطوة فى طريق الاحتلال ، ثم بدأ العدوان البريطانى و هزيمة عرابى أمام الخيانة و التآمر و تم احتلال ، فكانت قناة السويس تمثل لجمال عبد الناصر قمة استبعاد و استعمار و سيطرة الإنجليز على مقدرات هذا الوطن ، إلى أن قامت الولايات المتحدة بسحب تمويلها لمشروع السد العالى الذى كان يعتبره عبد الناصر أهم مشروع قومى لخدمة المصريين و استغلال مياه النيل و درء أخطار الفيضان . . . سيطرت عليه فكرة تأميم القناة رداً على سحب التمويل .

و إنى لأتذكر الآن أنه قبل إعلان تأميم قناة السويس بثلاثة أيام استدعانا الرئيس جمال عبد الناصر أنا و الطحاوى و أخبرنا عزمه على إعلان قرار التأميم يوم 26 يوليو 1956 و أنه اتخذ كل الترتيبات لتشغيل القناة و أنه عندما يذكر فى خطابه كلمة ديليسيبس تتحرك كل القوات للاستيلاء على المراكز الرئيسية لقناة السويس و اختار لذلك مجموعة من المهندسين المصريين على قدر عال من المهارة و الذكاء ، بحيث يطمئن على ألا يرتفع صوت معاد ليعلن أن الملاحة العالمية فى قناة السويس قد توقفت بسبب قرار التأميم إذا ما أوعز العدو لجميع مرشدى الملاحة فى القناة بترك أعمالها و الاستقالة و كما قدر جمال عبد الناصر فقد أوعز الأعداء للمرشدين بترك العمل فاطاعوا . . . . ما عدا المرشدين اليونانين الذين ظلوا فى عملهم و لم يرضخوا للأعداء .

استمعت إلى خطاب الرئيس و أنا فى مكتبى بهيئة التحرير بالقاهرة ، و ما أنهى خطابه و أعلن قرار التأميم ختى اتصلت به تليفونياً و سألته عن طريق عودته إلى القاهرة ، فأجابنى أنه سيسلك الطريق الصحراوى فى العودة هو و الزملاء فقلت له أن رد فعلى لقرار التأميم حينما أبلغنا بالقرار قبلاً ، قد اختلف عن رد فعلى الآن بعد سماعى للخطاب ، و أنه يجب أن نتوقع عدوان على مصر و حرباً يشنها الإنجليز ( ليعودوا إلى احتلال قاعدة القناة للتخلص من عبد الناصر ) و الفرنسيون أيضاً لدعمه لثورة الجزائر فتلك الأسباب الحقيقية للعدوان و لم يكن فى ذهنى أن إسرائيل ستشترك فى هذه الحرب ، فسمعت الرئيس يتكلم مع من حوله الذين ابدوا عدم اقتناعهم بتقديرى للموقف و انتهت المكالمة .

و بعد ربع ساعة اتصل بى جمال عبد الناصر و قد لفت نظره سؤالى عن طريق عودته إلى القاهرة ، و سألنى لماذا أسأل عن طريق العودة فأوضحت له أنه من الخطورة بمكان أن يتخذ الرئيس هذه الخطوة الوطنية الخطيرة و لا يكون هناك رد فعل شعبى يوضح أن الشعب المصرى قد وعى القرار و يسانده بأرواحه و إلا فإن العدو سيتعجل بتوجيه الضربة العسكرية على أنه جاء يقصد جمال عبد الناصر و ليس بينه و بين الشعب المصرى أية عداوة .

و قد حدث فعلاً ما توقعته أثناء حرب 1956 فقد أعلنت قوى العدوان أنهم ليسوا أعداء للشعب المصرى و لكنهم جاءوا بسبب جمال عبد الناصر . . . و سألنى عبد الناصر عن اقتراحاتى فأوضحت له أنه يجب أن يعود إلى القاهرة بالقطار و سأنظم له استقبال شعبى على طول الطريق خاصة فى محطات السكك الحديد و عندما يصل إلى القاهرة يتم استقباله شعبياً ثم يتوجه إلى مجلس الوزراء حيث أنظم له مؤتمراً شعبياً يتحدث فيه إلى الجماهير عن تأميم القناة . . . ليتحول قرار التأميم إلى رغبة شعبية جارفة .

و قلت له بالحرف الواحد أننى لا أهدف إلغاء الحرب المنتظرة ، و لكننى أخطط إلى تأجيل موعدها حتى يتسطيع عبد الناصر إعداد البلاد و الجيش لمثل هذه الحرب ، فلو أنهم قادمون لجمال عبد الناصر فيكفيهم عدة آلاف من الجنود الموجودة فى قبرص أما إذا كانوا قادمين لمواجهة الشعب المصرى فإنهم سيضطرون للتأجيل حتى يعدوا العدة لمثل هذه الحرب .

و قد وافق عبد الناصر على خطة العودة فى القطار و تم تنفيذ ما اقترحت بكل دقة ، و اشتعلت البلاد من أقصاها إلى أدناها لتأييد جمال عبد الناصر فى هذا القرار التاريخى الذى أصبح قرار شعب و إرادة شعب .

و على الفور بدأ دور هيئة التحرير فى تجنيد الشباب و فتح باب التطوع فى المقاومة الشعبية و الحرس الوطنى ، و قام أعضاء هيئة التحرير بالبذل و العطاء . . . فمنهم من أعطى تبرعاً المساحات اللازمة للتدريب فى كل أنحاء مصر و تم توزيع ضباط الحرس الوطنى على المراكز و معسكرات تدريب المقاومة الشعبية بجانب معسكرات الحرس الوطنى .

و قبل أن تبدأ الحرب بأيام أخطرنا الرئيس عبد الناصر بمغادرة المواطنين الأمريكان لمصر مما يتوقع معه نشوب الحرب . . . و بدأت الحرب . . . و بدأ الغزو الثلاثى إنجلترا و فرنسا و إسرائيل . . . و عندما بدأ إنزال قوات المظلات على بور سعيد و تمكنوا من إنشاء رأس كوبرى للقوات المعادية . . .

اتصلت بالرئيس جمال عبد الناصر و اقترحت إنشاء قوة بصفة عاجلة للدخول فى نفس الليلة إلى بور سعيد عن طريق دمياط للقضاء على رأس الكوبرى قبل أن تكتمل عمليات الإنزال فاقتنع الرئيس جمال عبد الناصر بذلك و حاول تنفيذ هذه العملية و لكنه فشل فى الوصول إلى بعض اللواءات الذين يثق فيهم للقيام بهذه العملية فضلاً عن تنفيذ حشد القوة اللازمة .

بدأت هيئة التحرير بمجرد نشوب الحرب ، فى طبع و توزيع منشورات المقاومة الشعبية على مصر بصفة عامة ، و بور سعيد بصفة خاصة عن طريق المتطوعين كانوا يدخلون بور سعيد عن طريق دمياط و قد كتبت تلك المشورات بنفسى و بخط يدى .

إن من المهم هنا أن نسجل – و دون التعرض لأخطاء قيادة القوات المسلحة فى إدارة المعركة لا سيما و نحن لسنا بصدد ذلك الآن – إن انتصار 1956 لم يكن نصراً عسكرياً بل كان نصراً سياسياً ، لأن من حظ مصر و جمال عبد الناصر أنه لأول مرة فى الحرب الباردة بين روسيا و أمريكا أن تتخذ روسيا و الولايات المتحدة نفس الموقف الرافض لهذه الحرب و هذا الاحتلال ، الولايات المتحدة لأنها ترغب فى القضاء على النفوذ الإنجليزى و الفرنسى فى المنطقة لتنفرد بها وحدها ، و الاتحاد السوفيتى لكسب ود الحوكة المصرية و جمال عبد الناصر أملاً فى الوصول إلى المياه الدافئة و تحقيقاً للتواجد بموضع قدم فى المنطقة .

و هنا لا يمكن أن انتهى من حرب 1956 دون أن أدون هذه القصة ، فقد نصح المحيطون بجمال عبد الناصر و منهم صلاح الشاهد . . . نصحوا جمال عبد الناصر بأنه لا يجوز له البقاء فى منزله و اقترحوا أن يدبروا له إقامة فى قصر القبة . . . فتوجه عبد الناصر و عائلته إلى قصر القبة و معهم كل احتياجاتهم المعيشية .

و لكن جمال عبد الناصر الزعيم الوطنى أيقظ العائلة عند منتصف الليل و قرر العودة فوراً إلى منزله فى منشية البكرى لأنه كما قال لى " خاف على نفسه من أغراء البقاء فى قصر القبة فيعتاد على حياة القصور و هو فرد من الشعب و سيبقى من الشعب إلى أن يلقى الله ممثلاً فيه الفقير قبل الغنى " .

و بهذه المناسب كان الرئيس يردد دائماً بأنه حبيس أربعة جدران و لا يستمتع بحياته كالآخرين من أعضاء الثورة نفسها .

و بعد حرب 1956 مرت هيئة التحرير بأوقات عصيبة لأسباب لم أكن أنا و الطحاوى طرفاً فيها و لكنها ، فتحت أعيننا إلى ضرورة الابتعاد عن محيط السياسة و كان أكثرها مفاجأة . . . أننى فوجئت فى منزلى بالجيزة بعدد كبير من رؤساء النقابات فى زيارة لى و يروون لى ، إن صلاح دسوقى أركان حرب الداخلية فى ذلك الوقت ، كان يستدعيهم إلى مكتبهم و يعدهم بتنفيذ كل طلباتهم بشرط الابتعاد عن أحمد طعيمة و أنهم لو كانوا فى حاجة للرئيس نفسه فإنه قادر على القيام بتوصيلهم بعبد الناصر شخصياً . . . و صدمت صدمة شديدة فبعد طول إخلاصى يكون هذا هو الجزاء .

فترة الانتقال ( ثلاث سنوات )

أعتقد أن فترة الانتقال التي حددت بثلاث سنوات إنما كانت لتمكين مجلس قيادة الثورة من أن يكون صاحب السيادة في البلاد بعد حل الأحزاب السياسية و جماعة الإخوان المسلمين . . قد أضرت – أقول أن فترة الانتقال هذه قد أضرت بالثورة من الناحية الديمقراطية ضرراً بالغاً لازالت آثاره تعاني منها البلاد حتى الآن .

مجلس قيادة الثورة لا يُسأل و الوزراء لا يُسألون ، و لا توجد جهة رقابية واحدة تسأل الوزير عن تصرفاته في وزارته ، فأصبح الطابع الغالب لدى الجميع أن كلا منهم له حرية التصرف في حدود منصبه دون رقيب و دون سائل فتعمقت فكرة الانفراد بالسلطة ، و فتحت السبيل أمام الديكتاتورية التي لم تكن على بال أحد في ذلك الوقت ، و أصبح الوزراء أمام أول برلمان انعقد في تاريخ الثورة يضيقون ذرعاً بأي سؤال من نائب في البرلمان .

و سأعطي لذلك مثلاً يوضح أن العسكري و المدني قد تعادلا في هذا الشأن ، فالصديق الحميم الدكتور نور الدين طراف رحمه الله كان وزيراً للصحة و كان عضواً في الحزب الوطني كما كان نائباً في برلمانات ما قبل الثورة و بذلك توفرت له سابق الخبرة في ممارسة الحياة البرلمانية . . و مع ذلك لم يسلم الدكتور نور الدين طراف من هذه القاعدة فقد كان يضيق ذرعاً بأي سؤال يوجه له من أحد النواب ، لأنه مارس السلطة المطلقة . و لم يتقبل هذا الوضع الذي يضع سلطانه محل الرقابة و السؤال .

أما المثال الثاني فكان عند عرض قانون الانتساب إلى الجامعة على مجلس الشعب ، و كان السيد كمال الدين حسين وزيراً للتعليم و رفض المجلس هذا القانون فغضب السيد كمال الدين حسين ، و ذهب إلى بلدته و أقام فيها مما اضطر الرئيس جمال عبد الناصر إلى الذهاب إليه و مصالحته ليوافق المجلس بعد ذلك على القانون الجديد .

و في هذا الأمر طلبت من الرئيس جمال عبد الناصر أنه طالما بدأت حياة برلمانية فلا يجوز أن يبقى في الحكم من مارس السلطة المطلقة في فترة الانتقال و يجب تعيين وزراء جدد و إلا فسدت الحياة البرلمانية و قضينا على تجربتنا الديمقراطية ، و نكون قد خسرنا بذلك الأسلوب المجالس النيابية ما بعد الثورة ، و فتحنا الأبواب للديكتاتورية المغلفة ببرلمان . و قد يقول البعض أن فترة الانتقال كانت ضرورية في بداية الثورة لتأمينها و أقول أن إثمها أكبر من نفعها .

الانسحاب من الحياة السياسية

اتفقت مع الأخ الطحاوي على لقاء الرئيس جمال عبد الناصر لنطلب منه إعفاءنا من العمل السياسي في المرحلة القادمة ، و هي المرحلة الدستورية و البرلمانية على أساس أننا اشتركنا في الثورة ، و كنا كلنا صفاً واحداً يشغلنا تحقيق أهداف وطنية سامية و كان كل منا مستعد للتضحية بدمه و روحه .

ذلك أن المرحلة الجديدة تتطلب صفات شخصية تختلف كل الاختلاف عن الصفات المطلوبة في مرحلة الإعداد للثورة تلك الصفات التي ستتميز بالصراع على السلطة بين أخوة و أشقاء الأمس كما يحدث دائماً في الحياة السياسية . في هذا الصراع سنكون نحن الخاسرين لأنه لو طعنني أخ من أخوة الماضي فلن أستطيع أن أرد له الطعنة لا عن ضعف ، و لكن عن رفض و بذلك نخسر الموقف بسبب مبادئنا التي لن نتنازل عنها و لن نغيرها مهما كان الثمن .

فقال الرئيس جمال عبد الناصر طالما أنكم تفكرون بهذا المنطق فلماذا لا أترك أنا أيضاً منصبي . . و أكد أيضاً جمال عبد الناصر أنه يحتاج لنا في البرلمان الجديد .

أما عن موضوع الصراع فقد قال لنا جمال عبد الناصر . . أنتم تعلمون أن كونفشيوس الحكيم الصيني قال "اجلس على شاطئ النهر حتى تمر أمامك جثة عدوك" . . فقلت له أخشى يا سيدي الرئيس أن تكون جثتنا هي التي ستمر ، فغضب بشدة من هذا الرد مستنكراً حدوثه .

أيقنت أنا والطحاوي من أنه لا مناص لنا إلا بالمشاركة في انتخابات البرلمان الجديد ، الطحاوي في دائرة السيدة زينب و أنا في دائرة السلخانة ، و صاوي أحمد الصاوي في دائرة بولاق ، و شقيقي محمد عبد الله طعيمة عميد الشرطة بالمباحث الجنائية الذي ترك الخدمة و أصبح مساعداً لي و للطحاوي في دائرة السبتية . فكانت المفاجآت كالآتي  :

رشح اللواء عبد الفتاح فؤاد قائد الحرس الوطني نفسه ضدي في دائرة السلخانة و ذهب بملابسه الرسمية إلى الدائرة ليقدم نفسه إلى الناخبين فما كان من أهالي الدائرة و الجزارين إلا أن طاردوه فوقعت قبعته على الأرض و نجحت في دائرتي بالتزكية لأن أهل دائرتي أقسموا ألا ينافسني في الدائرة أحد .

أما الصاوي فقد حورب هو و أخي محمد في دائرتي بولاق و السبتية لدرجة أن الشرطة كانت معادية لهما علناً أما الطحاوي فقد أغلقت له دائرة السيدة زينب و كان غلق بعض الدوائر في حالة الضرورة لضمان تمثيل بعض أعضاء الثورة في البرلمان .

نائب في البرلمان

أولا تبرعت بمكافأة البرلمان لأهالي الدائرة نظير و قوفهم إلى جواري على أن تخصص قيمة المكافأة للأعمال الخيرية في الدائرة وأصبح هذا المبلغ هو رصيد الصندوق الذي أصبح عامراً بالمال بتبرعات التجار ورجال الأعمال والجزارين رداً على تبرعي . .

و من الصندوق دفعنا مصروفات طلاب الجامعات المتعسرين مالياً ، ووزعنا الكساء على فقراء الدائرة صيفاً وشتاءاً ، وأقمنا في شهر رمضان في كل شياخة من شياخات الدائرة الثلاث سرادقاً لإطعام 300 من أهل الدائرة سواء في السرادق أو في منازلهم وذلك بفضل أهل الدائرة من جزارين وبائعي الفاكهة وبائعي الخضروات والذين تبرعوا بكل لوازم وجبة الإفطار وكانت هذه الموائد هي أولى موائد الرحمن التي انتشرت فيما بعد .

و بالنسبة لعيد الأضحى فقد كنا نذبح الذبائح التي توزع لحومها على فقراء الحي وطبعاً مكافأتي وقدرها 75 جنيه لم تكن لتكفي كل هذه الخدمات لولا أن أهل الدائرة لمسوا الجدية في فعل الخير . فأدوا واجبهم . . وصدقوا في الأداء وكان للقدوة الطيبة أقر في نجاح هذا الجهد المبارك .

عبد الناصر وبغدادي ومجدي حسنين

ولقد كان من أحداث البرلمان تلك الضجة التي صحبت الهجوم على الأخ مجدي حسنين رحمه الله تعالى بسبب موضوع مديرية التحرير والاستجواب الخاص بها وما حدث في تلك الجلسة النيابية من كلمات شديدة اللهجة كان من بينها كلمة الصحفي حسين فهمي ضد مجدي حسنين صاحب الفضل الوحيد في جعل طريق مصر الإسكندرية الصحراوي طريقاً زراعياً .

استدعانا جمال عبد الناصر أنا والطحاوي وأمرنا بأن ندافع عن مجدي حسنين لأن بغدادي في نيته أن يخلص على مجدي حسنين الذي كان من أشجع الضباط الأحرار وأفضلهم . .

وتنفيذاً لرغبة الرئيس عبد الناصر – وكنا لا ندري أن عبد الناصر طلب من عبد اللطيف البغدادي رئيس المجلس مهاجمة مجدي حسنين وقد علمنا ذلك فيما بعد من الليثي عبد الناصر شقيق الرئيس - . .

- أقول – تنفيذاً لرغبة عبد الناصر جمعت أنا والطحاوي 40 توقيع لجعل الجلسة سرية ثم أفسدنا عملية الهجوم وانتهى الموضوع بسلام بالنسبة لمجدي حسنين ، ولكن عبد اللطيف البغدادي استشاط غضباً واتهمني أنا والطحاوي بأننا متآمرون دون أن يعلم أن تصرفنا كان بناء على طلب الرئيس .

الاتحاد القومي

صدر قرار بحل هيئة التحرير وقيام الاتحاد القومي ، وبعد صدور قرار حل الهيئة بدأ الجرد وفحص أوراقها دون أن نعين أنا و الطحاوي في الجهاز الجديد و هو الأمر الذي أثار دهشتنا لأن الأمر بهذا الشكل قد يطلق ضدنا الشائعات . . وتثار التساؤلات . . لماذا أخرجا من هيئة التحرير ولماذا الجرد ولماذا هذه الإجراءات؟ .

توجهنا على الفور إلى الرئيس جمال عبد الناصر فقال احمدوا ربنا لم يمسسكم أحد بإشاعة من أي نوع ، في الوقت الذي انتشرت فيه الشائعات عن آخرين فلما أخبرناه أن طول الوقت بين حل هيئة التحرير وتعييننا في أي جهة قد يطلق علينا أية شائعات مغرضة قال لا تهتموا أن صدور قرار بوضعكم في مناصب جديدة يصلح كل شيء فالقرار يرفع أو يخفض .

وحدث بعد فترة وجيزة أن صدر قرار بتعييني أنا والطحاوي سكرتيرين عامين مساعدين للرئيس جمال عبد الناصر في الاتحاد القومي . . .

وهنا يجب أن أتوقف للمقارنة بين هيئة التحرير والاتحاد القومي . . فبالرجوع إلى أسباب نجاح هيئة التحرير يتضح لنا أن نقيضها هو أسباب فشل الاتحاد القومي . . لأن حل هيئة التحرير أفقد الثقة في كثير من أعضائها فصانعوا قرار الحل لم يقدموا أي أسباب للحل .

وبهذه المناسبة قال جمال عبد الناصر أن الأخوة أعضاء مجلس قيادة الثورة مصممين على حل هيئة التحرير لأن الهيئة اكتسبت الكثير من العداوات فيجب إذن التخلص منها . .

وهذا سبب عجيب يتناقض مع منطق قرار تعييني أنا و الطحاوي سكرتيرين مساعدين لأن الذي يكتسب العداوة أشخاص لا هيئات فكأنني أنا والطحاوي الذين اكتسبنا هذه العداوات فكان الأولى التخلص منا وتعيين أشخاص آخرين في هيئة التحرير بدلاً من الحل .

ومما يذكر في هذا الشأن وفي هذه الفترة بالذات أننا علمنا أن جمال سالم مريض وقررت أنا والطحاوي زيارته وفوجئنا بقوله أن مجلس قيادة الثورة كله كان يرفض قرار حل هيئة التحرير لأنه إذا كانت هيئة التحرير قد نجحت حتى الآن فلماذا لا نعزز هذا النجاح وندخل في تجارب جديدة لا ضمان في نجاحها ولكن الرئيس جمال عبد الناصر أصر على الحل .

ولقد سبق وقلت للرئيس عبد الناصر أنه يستطيع بقرار جمهوري تعيين الساعي وزيراً أو نائب رئيس جمهورية وقد ينجح في منصبه لو كان عنده قدر من الذكاء ولكنه لا يستطيع أن يصدر قرار تعيين علي صبري زعيماً شعبياً لقرية من القرى وفيها حلاق الصحة أو المأذون الشرعي فكل منهما زعيم شعبي قد اختارته الجماهير . . فالشعبية وحب الناس وثقتها لا تكتسب بقرارات جمهورية .

وإثبات لهذا القول فقد حاول الرئيس جمال عبد الناصر أن يرسل أنور السادات وكمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم للعمل معنا فأجمع الكل على الشكوى منا لأنهلا أحد يطرق بابهم من المواطنين . .

فالمواطنون يذهبون للقاء الطحاوي أو مقابلتي للثقة القديمة بيننا والحب المتبادل ، وقدرتنا بما لنا من اتصالات على حل مشاكلهم وليس من المعقول أن نمنع المواطنين من التعامل مع أحد غيرنا .

وكان الآخرون يعلمون حق العلم بأنهم لا يستطيعون النيل من جمال عبد الناصر ومعه الطحاوي وطعيمة فإذا بنا نفاجأ بواقعتين كانت كل واحدة منها من أشد الصدمات التي واجهناها أنا والطحاوي . .

ففي زيارة تمت – أثناء الاتحاد القومي – قال لنا بجدية شديدة أنه يريد أن يقول لنا بأنه باق بنا أو بغيرنا في الحكم فكان ردي ورد الطحاوي المباشر من قال لك ذلك . . إن هذا المعنى لم يدر بخلدنا ولم يصل إلى القلب أو اللسان في حياتنا .

وفي زيارة ثانية فوجئنا بالرئيس جمال عبد الناصر يقول لنا : "أريد أن أكسر حاجة اسمها الطحاوي وطعيمة" .

وهذا يوضح دور البطانة الفاسدة التي أوغرت علينا صدر الرئيس عبد الناصر دون ذنب أو جريرة سوى حب عبد الناصر والإخلاص له وهذا يثبت أننا عندما طالبنا الانسحاب من الحياة السياسية كنا على حق 100% لأن من يضمرون السوء لعبد الناصر كانوا متأكدين أنهم لن يصلوا لعبد الناصر إلا بكسر الطحاوي وطعيمة .

واستقر الرأي على قيام الاتحاد القومي ليحل محل هيئة التحرير وكان الرئيس عبد الناصر يستعرض أنظمة الحكم خاصة نظام الحكم في أسبانيا تحت قيادة فرانكو ويوغسلافيا تحت قيادة تيتو والنظم المتبعة في الكتلة الشرقية والغربية في ذلك الوقت .

وعلى الرغم من أن جمال عبد الناصر لم يكن شيوعياً في يوم من الأيام وإلا ما كان حارب الشيوعيين وأدخلهم السجون ، إلا أنه اختار نظام الكتلة الشرقية ونظام الحزب الواحد ليتمكن من السيطرة الكاملة .

لقد اختار عبد الناصر نظام الحزب الواحد ليعيه المرونة والحركة لتنفيذ برامج الإصلاح ، وهذه المناسبة فإني في هذا المجال لا أستطيع أيضاً أن أقبل مبدأ السيطرة على السلطة معتمداً على حسن النوايا ، فقد تتغير النوايا أو يأتي شخص بعد عبد الناصر ويعتمد هذا النمط وهذا المبرر أسلوباً يمارسه في الحكم .

العلاج في السويد

في عام 1958 فقدت صوتي تماماً من كثرة الخطابة والكلام فأوصى الدكتور علي المفتي بسفري إلى السويد حيث يوجد الدكتور رشتر أخصائي الأحبال الصوتية فأجرى لي عمليتين جراحيتين فشلتا في استعادة صوتي . وطلبت الرئيس عبد الناصر وأخبرته أنني قل فيبدو أن هناك مرضاً غامضاً فأمر الرئيس عبد الناصر أن يسافر إبراهيم الطحاوي لمرافقتي في العملية الثالثة حتى لا أبقى وحيداً .

وحضر الطحاوي إلى استوكهلم ولم تمض أيام حتى فوجئنا باتصال تليفوني من أحد مساعدينا في الاتحاد القومي ، يقول أن أنور السادات أغلق مكاتب الاتحاد وفصل الموظفين وعددهم حوالي 70 ووضع الشمع الأحمر على الأبواب في غيبتي أنا والطحاوي وكنت طريح الفراش في مستشفى الصليب الأحمر في استوكهلم .

طلبنا عبد الناصر بما حدث وأنني في غاية الحزن لأنه لو كان المقصود التخلص منا فكان يجب الانتظار حتى تتضح حالتي الصحية وهل سيتوفاني الله عز وجل فينتهي الموضوع بلا حاجة لهذا التصرف العنيف غير المسئول . . فوعد عبد الناصر بإلغاء كل هذه الإجراءات على أن تعود الحالة إلى ما كانت عليه قبل سفرنا إلى الخارج .

وقد نتج عن ذلك تصدع في علاقتنا بأنور السادات لأنه وافق على القيام بهذا الدور المهين ، وهذا ما يثبت مرة ثانية وثالثة أننا كنا على حق عندما طلبنا الابتعاد عن العمل السياسي تماماً . . وقد حدثت أمور بيني وبين أنور السادات شهدها جمال عبد الناصر ، أعف عن تدوينها لأن أنور السادات بين يدي الرحمن .

محاولات الدس والوقيعة

لقد من الله علي بالشفاء بعد إجراء ثلاث عمليات جراحية وقضيت قرابة أربعة شهور مرضاً وعلاجاً ، ثم وفوجئت عند عودتي إلى مطار القاهرة بآلاف العمال حضروا لاستقبالي وتهنئتي بالعودة سالماً ، فدهشت من كثرة العدد ولما سألت قيل لي أنهم كانوا يتتبعون موعد عودتي منذ فترة .

ولقد حدث أنه تصادف يوم وصولي أن يكون وصول الرئيس عبد السلام عارف ، وكان في استقباله أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة والذي طلب من الحاضرين استقبال عبد السلام عارف فرفضوا قائلين له أننا جئنا لاستقبال أحمد طعيمة ، وأذكر أنه في هذا اليوم اعتدى أحمد أنور قائد البوليس الحربي على الصاوي أحمد الصاوي ولطمه على وجهه مرتين ، إذلالاً له ، حتى لا يتصور أنه أعاد جمال عبد الناصر إلى الحكم وأنه زعيم عمالي .

كان استقبالي في المطار حاشداً ، وكانت طوابير السيارات لا تنتهي فتوجه الزميل عضو مجلس الثورة إلى جمال عبد الناصر وأخبره أن هناك رئيس جمهورية آخر في مصر ، وروى له ما حدث كي يوغر صدى الرئيس جمال عبد الناصر ضدي دون ذنب ارتكبته . . فالذين ذهبوا لاستقبالي في المطار لم يذهبوا إلا حباً وإظهاراً لهذا الحب .

وفي طريقي إلى منزلي في الجيزة توقفت في منشية البكري لأزور الرئيس عبد الناصر أحييه وقلت له أنت أول من أراه عند وصولي وقبل التوجه إلى منزلي وشكرت له ما قدمه من أجلي ففوجئت به يقول قالوا لي أن هناك رئيس جمهورية ثاني وصل إلى المطار .

الوحدة مع سوريا

في ظل الاتحاد القومي استدعانا الرئيس جمال عبد الناصر وأخطرنا بأنه سيقيم وحدة مع سوريا وأنه اقتنع تماماً بها بعد زيارة قام بها شكري القوتلي إليه وبعد أن ضغط عليه قادة الجيش السوري معبرين عن مخاوفهم إذا لم تتم الوحدة مع مصر فإن سوريا ستقع في الخطر التركي والإسرائيلي اللذين يتربصان بسوريا .

فكان ردي والله شهيد . . لا أستطيع أن أهنئك يا سيدي الرئيس فهي وحدة غير طبيعية الآن . . فلا تربطنا أرض ولا سماء بسوريا ، وأخشى أن تكون هذه الوحدة مدسوسة علينا ، وأنها مؤقتة للقضاء على فكرة الوحدة العربية والقومية العربية وإني سأكون سعيداً وأهنئ الرئيس من كل قلبي لو كانت هذه الوحدة مع السودان الشقيق في النيل والتاريخ .

وأقيمت الوحدة ليبدأ الصراع بين القوى المختلفة ، ولم ينظر إلى الإقليم السوري أنه مختلف تماماً في كثير من مكوناته عن الإقليم المصري في كثير من مكوناته . . وهو كان له أكبر الأثر فيما وقع من فشل بإدارة أمور سوريا في موضوعات خطيرة وحساسة للغاية .

ومن أمثلة هذا الفشل . . أن وفد إلى مصر وفد سوري برئاسة الشيخ علي طنطاوي ، كان سبب حضوره شديد الغرابة ، فسوريا تحت الاحتلال الفرنسي كانت تدرس فيها مادة الدين كمادة إجبارية في التعليم ، فلما تمت الوحدة وبدلاً من أن نأخذ عنهم ونجعل مادة الدين مادة نجاح ورسوب ، إذا بنا نستبعد مادة الدين الإسلامي من التعليم السوري ونجعلها اختيارية .

جاء الوفد السوري إلى مصر وظل لخمسة عشر يوماً في انتظار مقابلة السيد كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم المركزي في ذلك الوقت دون جدوى . .

فلما أخطرني الشيخ سيد سابق بهذا الموضوع ، اتصلت بالأخ أحمد نجيب هاشم الوزير التنفيذي لوزارة التربية والتعليم ، وتم لقاء الوفد به والذي عاد إلى سوريا دون أن ينجح مسعاه . . وبعد أيام قليلة تم الانفصال وبدأ الشيخ طنطاوي رئيس الوفد مهاجمة مصر هجوماً شرساً في كل الإذاعات .

السادات في سوريا

وإني أسجل هنا أن أنور السادات زار سوريا أيام الوحدة وأثناء توليه السكرتير العام للاتحاد القويم للتأكد من قيام الاتحاد القومي بها وحل الأحزاب السياسية ، ولما عاد إلى القاهرة عقدنا جلسة طويلة لمناقشة الموقف السياسي في سوريا وبعد أن أوضح السادات أن الاتحاد القومي قد حل محل الأحزاب هناك وأن اللافتات تحتل كل الواجهات . . ولقد أخبرته أن تنظيم الاتحاد القومي في سوريا لن يصبح ذا فاعلية إلا إذا اعتمد على التنظيم الطائفي والمهني .

وإن الاعتماد على التنظيم الجغرافي لا يكفي مطلقا ، فقد يأتي يوم نواجه فيه الفتنة من بعض العناصر الانفصالية وحينئذ لن نجد أي تنظيم داخلي يستطيع الصمود إلى جانبنا ، هذا بالإضافة إلى حل الأحزاب السياسية في سوريا كان على الورق فقط ، كما أن حزب البعض كان أقوى وأعمق من أن يستسلم لقرار الحل – كل هذا كان – يتطلب السرعة في التنظيم العاجل لصفوف الوحدويون ، وذلك على أساس طائفي ومهني كالعمال والمعلمين والمحامين والأطباء وخلافه .

لقد أثبتت الأيام صحة ما قلته حرفياً ، فيوم أن خرجت بضع دبابات في شوارع دمشق تعلن الانفصال لم يتصد لها أحد ، ولم يعترض على الانفصال سوري واحد وبهذا فشل الاتحاد القومي تماماً في سوريا .

أما القوات المسلحة المصرية في سوريا فكان أمراً عجيباً فقد تعامل بعض الضباط المصريون مع أقرانهم السوريون بالتعالي بل والظلم في بعض الأحيان مما يوضح السر وراء قيام القوات المسلحة السورية بالانقلاب ثم انفصال سوريا ولا ننس هنا المؤامرات الأجنبية ضد الوحدة حتى من إخواننا العرب وعلى سبيل المثال ما عرضه الملك سعود على عبد الحميد سراج من رشوة تصل إلى مليون جنيه فاجتمعت المؤامرات مع الفشل في إدارة الوحدة حتى تم الانفصال .

القرارات الإشتراكية 1961

استدعاني المشير عبد الحكيم عامر إلى منزله وعند دخولي صادفت الدكتور مصطفى خليل وزير المواصلات في ذلك الوقت وهو يخرج مودعاً . واستقبلني المشير عبد الحكيم عامر وأخطرني بأنه مكلف من الرئيس جمال عبد الناصر بمقابلة الوزراء وإخبارهم بأنه ستعلن قرارات اشتراكية تشمل الكثير من الأمور الاقتصادية ، فسألت المشير هل ستطبق هذه القرارات على مصر وسوريا في نفس الوقت فقال نعم . . فقلت له التنفيذ في مصر ممكن لأنه يمس قلة من المصريين وكثير من المتمصرين ، أما في سوريا فقد تؤدي هذه القرارات إلى الانفصال لأنها ستمس الجميع وسيتأثر بها كل سوري . . لأن السوري بطبيعته تاجر حتى أستاذ الجامعة يكون له عمله التجاري في غير أوقات العمل الرسمية .

ولقد أوضحت للمشير أن هذه القرارات لن تمر بيسر في سوريا خاصة وأن سوريا كانت إمارات متعددة ، وعهدهم بالدولة حديث ، كما أنهم يعتمدون على الأمطار في الزراعة فليس لهم ولاء للحكومة المركزية مثل مصر حيث يعتمد المصريون فيها على ماء النيل الذي تتحكم فيه الدولة بالتوزيع . فالولاء أصلاً للحكومة المركزية في سوريا غير موجود ، والسوري يعتبر الوزير يعمل عنده وليس العكس ، ولذلك أتوقع الرفض السوري لهذه القرارات .

فقال المشير من يرفع رأسه تقطع ، فقلت له ومن يقطعها فقال القوات المسلحة . . . فقلت له على حد علمي وإلى أن تركت القوات المسلحة عام 1952 فإن القوات المسلحة لم تكن اشتراكية لتدافع عن القرارات ، وإذا كان المشير متأكداً أن القوات المسلحة أصبحت تؤمن بالإشتراكية فعلى بركة الله . . وصدرت القرارات الإشتراكية وكانت السبب المباشر لعملية الانفصال مؤيدة بالقوات المسلحة السورية .

ولقد كان من نتائج انفصال سوريا الخطيرة أنه لما سلم الضابط سعد زغلول الضبع إلى السلطات السورية أسماء الوحدويون ، أغلقت سوريا حدودها وألقت القبض عليهم جميعاً . . . مما أفقد جمال عبد الناصر الأمل في إعادة الوحدة مما دفعه إلى حرب اليمن للتغطية على الفشل في سوريا ومحاولة إحياء القومية والوحدة العربية .

ولقد ساعدت الشركة الخماسية في سوريا في عملية الانفصال ، حيث كانت سنداً قوياً لمن قاموا بعملية الانفصال ، إذ سخرت تلك الشركة قوتها الاقتصادية في دعم الانفصاليين بسوريا ، مما كان له أثره الخطير داخلياً في مصر ، حيث وضعت الحراسات على كل من يملكون أي قوة اقتصادي زراعية كانت أم تجارية ، وذلك حذراً من أن تستغل الناحية الاقتصادية في إحداث ما حدث في سوريا من انقلاب . . . وهنا بدأ في مصر عهد للظلم الصارخ . . عهد الكرامة الذبيحة . . وتاريخ الأذى والطغيان والمأساة . وقد طعن انفصال سوريا جمال عبد الناصر في مقتل فهو أول كارثة تحل به بعد زعامته ومكانته العالمية كما كان لانفصال سوريا أثر عميق في العلاقة بين جمال عبد الناصر والمشير عامر الذي أعتبره المسئول الأول عن الانفصال وأصبحت هزيمة 1956 وانفصال سوريا تمثلان مع نتائج 1967 كنكبة عسكرية حقيقية جذور العداء الذي حل بين المشير والرئيس جمال عبد الناصر .

وزارة الأوقاف

نجحت بطانة السوء في إبعادي أنا والطحاوي عن التنظيمات الشعبية والعمالية وذلك بصدور قرار تعييني وزير للأوقاف وتعيين إبراهيم الطحاوي سكرتيراً عاماً للمؤتمر الإسلامي . . ولما كنت قد استشعرت هذا الاستبعاد فأنني وبعد حلف اليمين لم أتوجه إلى مكتبي بوزارة الأوقاف لمدة أسبوع حتى شعر أشقائي بالحرج وأن هذا الموقف قد يوقع بيني وبين الرئيس عبد الناصر .

وشكاني أشقائي إلى والدتي التي كنت أعتز بها جداً وأطيعها طاعة كاملة كريمة في كل أموري قلت لوالدتي أنني لم أتوجه إلى الوزارة لأنني غاضب من تركي الناحية العملية والشعبية ، فما كان من والدتي إلا أن قالت لي ، وكيف تضيع فرصة خدمة الإسلام والمسلمين في وزارة الأوقاف ، اخدم ربك واخدم دينك واخدم الفقراء . فتوجهت إلى الوزارة وأملي أن يوفقني الله لأنفذ نصيحة أمي الغالية .

القرآن المرتل

أولاً : طلب مقابلتي المرحوم الأستاذ لبيب السعيد واقترح عليَّ تسجيل القرآن الكريم مرتلاً وشكا من أنه أمضى عدة سنوات محاولاً تنفيذ المشروع ولكن بلا جدوى فاستدعيت الشيخ سيد سابق والشيخ محمد الغزالي إلى مكتبي وطلبت منهما مناقشة الأستاذ لبيب السعيد في مشروعه وجاء رأيهما بأن هذا المشروع جدير بالتنفيذ فنفذته فوراً .

ومما يذكر هنا ( بالفضل ) ، ونسأل الله عز وجل أن ينزله فسيح جناته المطرب محمد فوزي الذي أقام لأول مرة في مصر مصنع للأسطوانات حيث كانت الأسطوانات ترسل للخارج لصنع النسخة الأصلية التي يتم الطبع عليها ولم تكن شرائط التسجيل قد ظهرت بعد . . . فقرر محمد فوزي أن تدفع الوزارة ثمن التكلفة الفعلية للأسطوانات دون أي ربح يحصل عليه محمد فوزي .

كما يذكر ( بالفضل ) أيضاً الشيخ محمود خليل الحصري الذي تطوع بتسجيل القرآن الكريم كاملاً وبلا أي أجر في الوقت الذي طالبني فيه آخرون من المقرئين بمبالغ تصل إلى خمسة آلاف جنيه لكل منهم وهو مالا أملكه للإنفاق على المشروع ، فلما تطوع الشيخ الحصري حلت المشكلة .

وكنت أنوي توزيع القرآن على مجموعة من المقرئين المعروفين لإخراجه في وقت قليل ليلحق باحتفال عيد ثورة 23 يوليو عام 1960 مما جعل الشيخ الحصري يعمل يومياً لمدة 12 ساعة حتى يستطيع تسجيل القرآن كاملاً في الوقت المطلوب ، وكان ذلك أول تسجيل صوتي للقرآن الكريم في العالم بعد جمع القرآن في عهد سيدنا عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) .

وكان لتسجيل القرآن المرتل صوتياً آثار بعيدة المدى فقد حرصت جميع محطات الإذاعات الإسلامية على إذاعته في برامجها حتى أن الاهتمام أثار الأمريكان فجاءني السفير الأمريكي زائراً في الوزارة طالباً نسختين من أسطوانات القرآن المرتل حتى تضم إلى مكتبة الكونجرس بناء على طلبه .

تحريف القرآن وإسرائيل

علمت أن إسرائيل قامت بتوزيع أعداد كبيرة من مصاحف مزورة حيث نزعت منها كل الآيات التي تذكر اليهود بالسوء وتم التوزيع في الدول الأفريقية وغيرها .

فلما تأكدت من ذلك اتصلت بالمخابرات العامة وطلبت تزويدي بنسخة أصلية من التلمود لأن اليهود يحرصون على ألا تقع في أيدي غير اليهود حتى ينفضح أمرهم ودينهم فيعلم الناس مخططات اليهود وأسرارهم .

وعقدت مؤتمراً صحفياً أعلنت فيه أن وزراة الأوقاف لن ترد على تزوير القرآن بتزوير التلمود ، بل ستقوم بطبعه كما هو وبدون تزوير ، وترجمته لكل اللغات وتوزيعه على العالم أجمع ليعلم كل البشر ما تضمره إسرائيل لهم وللإنسانية وأنهم أعداء لكل دين ولكل جنس .

وصلت رسالتي لليهود بغاية السرعة لأنه بعد مضي عدة أيام استدعاني الرئيس جمال عبد الناصر وطلب مني وقف طبع التلمود وتوزيعه لأن رئيس الاتحاد اليهودي العالمي الأمريكي الأصل حضر من أمريكا خصيصاً لمقابلة الرئيس لهذا الشأن وأنه أثار أن الصهيونية عدو لجمال عبد الناصر ، أما باقي اليهود فليسوا أعداء لمصر أن جمال عبد الناصر ولكن إذا قامت مصر بطبع التلمود وتوزيعه فإنه يؤكد له ، أن كل يهود العالم سيكونون أعداء لعبد الناصر .

وقد اقتنع الرئيس بهذا المنطق على الرغم من أني قلت للرئيس أن بعد قيام إسرائيل لا يوجد يهودي واحد إلا وهو صهيوني فكلهم صهاينة .

وفعلا توقفت عن هذا المشروع الذي أعتبره صالحاً للتنفيذ بدون إعلان حتى اليوم ، بعد ما تأكد خطر إسرائيل وأطماعها التي أصبحت بدون حدود وخاصة بعد معرفة خفايا دينهم ، ونظرتها للشعوب الأخرى ، كما توقفت إسرائيل عن تزوير القرآن .

المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

وهو المجلس الذي اعتمدت عليه وزارة الأوقاف في كل نشاطها الديني محلياً وعالمياً وقد كانت فكرتي في إنشائه هو أن يكون جهازاً للدعوة الإسلامية معتمداً على العلم فأقمت به اللجان المختلفة لخدمة الإسلام كلجنة شئون القرآن والتي باسمها صدر القرآن المرتل . ولجنة التراث الإسلامي ولجنة تفسير القرآن ولجنة السنة النبوية المطهرة ولجنة الفقه الإسلامي وتفسير للقرآن الكريم حديث ، وعلمي موجز للقرآن الكريم وكذلك صور المنتخب من السنة النبوية وأيضاً موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي وكتيبات الدعوة الإسلامية باللغات الأجنبية .

لقد أصبح هذا المجلس الأعلى للشئون الإسلامية أهم جهاز تفخر به وزارة الأوقاف الآن ، وقد كان لقرار إنشائه قصة . . . فقد أردت إنشائه بقانون وعرض الأمر على اللجنة المختصة في الحكومة المركزية والتي رفضت مشروع القانون فعدت إلى الوزارة في نفس اليوم ، لأصدر قراراً وزارياً بإنشاء المجلس على أن يمول من أي فائض في بنود الميزانية .

حلقات تحفيظ القرآن

لما لاحظت أن عدد الكتاتيب الخاصة بتحفيظ القرآن الكريم قليلة للغاية أردت أن أعوض هذا النقص بإنشاء حلقات لتحفيظ القرآن الكريم في كل مسجد ويكون الإمام مسئولاً عنها وخصصت المكافآت المالية ورحلات الحج والعمرة لمن يستطيع تحفيظ القرآن لأكبر عدد وبأفضل النتائج ، وكنا نجري مسابقات بمكافآت للفائزين ، كما أعلنت بين طلبة الجامعات وكانت الجامعة بمصروفات . . أن من يحفظ منهم القرآن فستتحمل عنه وزارة الأوقاف نفقات الدراسة . . فتقدم لامتحان حفظ القرآن طلاب من كليات الطب والهندسة والكليات الأخرى .

معهد الإمامة

لاحظت ضعف مستوى الأمة خطباء المساجد في حفظ القرآن الكريم والحديث الشريف فقررت إنشاء معهد الإمامة يلتحق به أمام المسجد لحضور دورة تعليمية يعاود فيها للتأكد من حفظ القرآن الكريم والحديث النبوي ، وكان هذا المعهد تحت إشراف المرحوم فضيلة الشيخ محمد الغزالي ومما يدعو للعجب أنه بعد قرابة أربعين سنة تعيد الوزارة إنشاء هذا المعهد من جديد .

بناء المساجد

لاحظت أنه بمجرد اعتماد الميزانية تشرع الوزارة في إجراء المناقصات اللازمة لإنشاء المساجد الجديدة ، وبين ترسية العطاءات وبدء التنفيذ وانتهاء العام لا يتم إنفاق 10 % من المبالغ المخصصة في الميزانية وبذلك يضيع على الوزارة عن نفس العام حوالي 90 % فقررت إجراء المناقصات لعدد أكبر من المساجد يستوعب مبلغ الميزانية حيث لا يتبقى شيء ومن ميزانية العام الذي يليه تستكمل المباني .

بعثة الحج

وفقني الله منذ بداية هيئة التحرير أن أستن سنة حسنة فأوفدت بعثة للحج كل عام أسميتها موكب النور ، يختار أعضاؤها من ممثلين لنقابات العمال ونقابات المهنيين وأفرع هيئة التحرير ، وكان يختار لرئاسة موكب النور أحد عمداء الكليات المشهود لهم بالخلق الكريم والتمسك بأهداب الدين أما تمويل موكب النور الذي بدأ بـ 300 عضو فقد تم بكامله من التبرعات فلم يتحمل العضو جنيهاً واحداً فتذاكر السفر بالباخرة تبرعت بها شركة البوستة الخديوية ، وأما ملابس الإحرام فقد تبرعت بها شركة مصر المحلة الكبرى للغزل والنسيج ، أما الأغذية المحفوظة فقد تبرعت بها شركة قها . وكان من فضائل موكب النور أن أعضاءها أخوة متحابين في هيئة التحرير .

وحدث في عام 1959 ، وقبل تعييني وزيراً للأوقاف أن قرر أخي إبراهيم الطحاوي أداء فريضة الحج وعرض علي المشاركة ، ولا أعلم حتى هذه اللحظة كيف أجبته بالرفض ، قائلاً أني أرسل موكب النور منذ عام 1959 إلى عام 1959 أي سبع سنوات فأنتظر من الله عز وجل أن أؤدي الفريضة وأنا أمير للحج وفعلا بعد تعييني وزيراً للأوقاف وفي موسم الحج عام 1960 والذي كان آخر سنة تسلم فيها الكسوة للسعودية إذ أنه في بعثة عام 1961 أعيدت الكسوة إلى مصر بعد أن رفضتها المملكة السعودية . أقول أنه بعد تعييني وزيراً للأوقاف اتصل بي السيد زكريا محيي الدين وزير الداخلية عارضاً عليَّ رئاسة البعثة فقلت له أني طلبتها فقال إذا كنت طلبتها فلماذا كلفني الرئيس عبد الناصر أن أعرض عليك رئاسة البعثة فقلت له أني طلبتها ولكني لم أطلبها من الرئيس عبد الناصر فقال إذا ممن طلبتها ، فقلت له بصفتك وزير الداخلية لا أستطيع البوح باسمه .

وكانت بعثة الحج مكونة من 12 عضو رسمياً ولكني كونت موكب النور في تلك السنة من 600 عضو متكفلين بكل النفقات كما أوضحت سابقا وكانت أول بعثة تشمل شخصيات من البلاد العربية والإسلامية وشخصيات مصرية ليصل الرقم إلى 600 عضو .

وأثناء إقامتنا في منى أقمت دعوة عشاء دعوت إليها أمراء العائلة المالكة وجميع رؤساء بعثات الحج للدول الإسلامية والعربية وألقيت فيها كلمة تدعم الروابط بين الجميع .

وكان الأمير فيصل بن عبد العزيز ولياً للعهد وهو الرئيس الفعلي للحكومة فأثناء زيارتي له أثرت معه موضوعين  :

الذبائح . . . لاحظت الرائحة الكريهة التي تنبعث من الذبائح المتروكة والتي لا تجد من يأخذها وهي كمية ضخمة جداً فاقترحت إما أن تجمع فوراً وترسل للبلاد الإسلامية لتوزيعها على الفقراء ، أو يقام مصنع لتعبئة اللحوم لتوزع على فقراء المسلمين وقد نفذ هذا الاقتراح فيما بعد .

أمكنة الحجاج في منى . . . اقترحت أن تكون محلات الإقامة للدول الإسلامية ثابتة كل عام وأن يعلم حجاج كل دولة المكان المخصص لهم ولكل دولة أن تزود منطقتها بأي خدمات صحية أو غيرها وقد تم ذلك فيما بعد .

أكاديمية الفنون

ولإيمان وزارة الأوقاف بأن الثقافة غذاء الروح لا الأجساد وأننا لابد من أن نهتم بالمواطن ليسموا حسه وإدراكه حتى يستمتع بالحياة مثقفاً لا جاهلاً .

فقد لببت ما طالب به الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة بالتبرع بقطعة أرض لبناء أكاديمية الفنون وهي الأولى من نوعها في مصر وقد أقامتها وزارة الثقافة بمنطقة الهرم .

وقد شرفت بافتتاحها مع الأخ الدكتور ثروت عكاشة . .

القرض الحسن

كان هناك قرض حسن من وزارة الأوقاف مقابل رهن أي شيء وكانت تصل فوائده إلى الثلث علمت هذا الأمر من سياسة الباب المفتوح الذي أؤمن به . . . ذلك أن أفضل وسيلة للقضاء على الرشوة والإهمال الإداري ومنع المظالم هي سياسة الباب المفتوح لكل المواطنين ، بحيث يعلم كل مسئول في الوزارة أنه إن لم يحل الموضوع شخصياً فالشكوى لابد وأن تصلني حتماً . .

فقد حضر إلى مكتبي شخص يشكو من أن الجنيه في القرض يتسلمه حوالي ستين قرشاً فضلاً عن الرهن فأصدرت قرار بأن القرض الحسن بلا فوائد انطلاقاً من أن هذا هو من مسئولية الوزارة ، وليس لها أن تتعامل بالربا .

قرض الموظفين

لاحظت أن الموظفين تصيبهم كوارث كالحريق أو المرض . . كما إنهم قد يعانون حاجة ملحة وغير متوقعة كالزواج . . فجاءتني فكرة إصدار قرض للموظفين بما يعادل ستة أشهر من المرتب بدون فوائد ، وتقسيط المبلغ على سنة أو أكثر ، وكانت وزارة الخزانة تعد مشروعاً بإقراض الموظفين بفائدة 3 % .

فذهب أحد أعضاء مجلس الثورة إلى الرئيس عبد الناصر شاكياً أن الأوقاف في البداية تبذر أموالها بدون عائد ، ثم أنها تقصد إحراج وزارة الخزانة فاستدعاني جمال عبد الناصر وسألني عن الموقف فقلت له لو طلبني وسألني لما جاء لك وأضاع وقتك . .

فأنا لم أبذر جنيهاً واحداً ، والقصة تتلخص في أن أموال الأوقاف كانت تودع البنك الأهلي بدون فوائد ، فطلبت إعطائي بيان بالمبالغ التي في الرصيد كل عام لمدة عشر سنوات مضت ، فاكتشفت أنه لو رصدت مليون ونصف مليون جنيه للقرض الخاص بالموظفين فإن ذلك سيكون في تفريج لأزمة موظفي الدولة ودون أن يتحملوا فوائد . . . وبذلك نحقق الخير للمقترض ، والتخفيف عنه ، وفي الوقت نفسه فلن تضار الوزارة في أموالها مطلقاً . . . وقد كان ذك عن طريق إيداع هذا المبلغ في بنك الجمهورية دون أن أتقاضى فوائد كنفس الموقف بالنسبة للبنك الأهلي لأن أموال الأوقاف لا تحسب لها فوائد من أي نوع بشرط أن يخرج هذا المبلغ للموظفين كقروض بدون فوائد ويعود كأقساط . . . فشكرني الرئيس .

دفع مصروفات الدراسة للطلبة الأقباط

تقدم لي بعض الطلبة الأقباط طالبين دفع مصروفات الجامعة من الأوقاف ، فاستدعيت الشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق وذلك للتأكد من رأي خطر لي وهو أن تقوم الوزارة بسداد مصروفاتهم ، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا وأنهم يستحقون من مال الأوقاف كغيرهم من الطلبة المسلمين فأقرا بذلك ، واعترضا على أن البطريركية لا تنفق على الطلبة المسلمين فقلت لهم فلنضرب المثل وسيأتي يوم تدفع البطريركية المصروفات لبعض الطلبة المسلمين .

مزارعو وزارة الأوقاف

كان هناك تفتيش زراعي في وزارة الأوقاف للإشراف على الأطيان الزراعية ، فجاءني وفد من المستأجرين يشكون من أنهم يحصلون على لوازم الزراعة بأسعار تزيد 10 % عن أسعار بنك التسليف نفسه فأصدرت قراراً بألا تحصل الأوقاف على 10 % وأن يتسلم المزارعون لوازمهم بنفس الأسعار المقررة في بنك التسليف تيسيراً عليهم .

مؤسسة الزكاة للرعاية الاجتماعية

راعني منذ منظر الأطفال المشردين وهم ينامون على أرصفة الشوارع ويحصلون على التدفئة في الشتاء بالتصاق أجسادهم الواهنة فقررت إنشاء مؤسسة للزكاة للرعاية الاجتماعية بحيث أشجع دافعي الزكاة على أداء الزكاة في مصرف قائم هو إعانة هؤلاء الأيتام واللقطاء والمشردين من الأحداث في هذه المؤسسة ، على أن تتحمل وزارة الأوقاف عبء إنشائها وتمول نفقاتها فيما بعد من أموال الزكاة .

وبالاتصال بوزارة الداخلية قدرنا أن المباني يجب أن تستوعب ثلاثة آلاف فتى وثلاث آلاف فتاة ، وكان لدى وزارة الأوقاف أرض في المرج مساحتها 120 فدان خصصت منها 70 فدان للزراعة لتموين المؤسسة بالمنتجات الزراعية على أن يقوم الأحداث بأعمال الزراعة تحت إشراف المتخصصين .

وخصصت للمباني مساحة 50 فداناً لتضم العنابر ومركز تدريب مهني ومدرسة ابتدائية وحمام للسباحة ونقطة للمطافئ ونقطة شرطة وعنابر لمبيت الأخصائيين والأخصائيات الاجتماعيين ورصفت الطريق إلى المدينة ورصفت أيضاً الطرق الداخلية . فأصبحت مدينة يا ينقصها الجمال ، وإني لأذكر أن الكاتب الصاوي محمد طلب مني أن أهيئ زيارة لأخصائية اجتماعية تعمل في الميدان الدولي وعندما أتممت الزيارة أبلغته أن هذه أكبر وأحدث مؤسسة لليتامى والأحداث والمشردين رأتها عيناها . وللأسف الشديد أيضاً وبمجرد خروجي من وزارة الأوقاف سلمت المدينة إلى وزارة الشئون الاجتماعية لتكون وكراً للجرائم .

مستشفى موظفي وعمال الأوقاف

كان عد عمال وموظفي الوزارة يقرب من 15 ألف موظف وعامل ، وكان العلاج الطبي يمثل لهم مشكلة المشاكل على الرغم من تحمل وزارة الأوقاف بعض من نفقات العلاج لهم ففكرت في إنشاء مستشفى للموظفين والعمال . أنشأت المستشفى في إمبابة على أرض تملكها الوزارة وراعيت فيه أن تكون هناك مساحات كبيرة للعيادات الخارجية لتحفظ كرامة المريض ولأن العيادة الخارجية دائماً تستقبل من المرضى أضعاف المرضى المقيمين بالمستشفى وأنفقت عليها من أموال وزارة الأوقاف . وبعد خروجي من الوزارة سلمت المستشفى لوزارة الصحة والتي خصصتها لمعهد القلب وهي ما تعرف بمستشفى معهد القلب الآن . . . ومن الطريف أن يقوم وزير الأوقاف الحالي الدكتور محمود زقزوق بإنشاء مستشفى لنفس الغرض بعد أربعين سنة وتم افتتاحه عام 1999 م .

الإدارة الهندسية في وزارة الأوقاف

كانت هناك إدارة هندسية للإشراف على مباني وزارة الأوقاف من مساكن ومساجد ، فلاحظت عدم تقدم مقاولين للاشتراك في المناقصات الخاصة بمشروعات الوزارة ، وهو ما دعاني إلى عقد اجتماع دعوت له كل شركات المقاولات المعروفة وسألت عن سبب عدم مشاركتهم وعدم المساهمة في مشروعات الوزارة ومنها المساجد .

فكانت شكواهم أنهم لا يحصلون على مستحقاتهم في الوقت المناسب ، فضلاً عن مساومات بعض المسئولين مما يؤخر الصرف ، فوعدتهم بإنهاء هذا الموضوع وعلاج آثاره بما يضمن حق الوزارة والحفاظ على حقوقهم ، ولذلك فقد أصدرت قراراً بإنشاء ملف خاص يعرض علي شهرياً فيه اسم الشركة وتاريخ وقيمة المطالبة وتاريخ المراجعة ، وتاريخ الصرف ، ثم حددت 15 يوماً كحد أقصى لإنهاء هذه الإجراءات كلها ، وكل من يتأخر في التنفيذ عن الخمسة عشر يوماً سيقع عليه أشد الجزاء فلم تحدث إلا مخالفة واحدة ووقع عليها الجزاء الرادع ثم انتظمت الأمور كدقات الساعة .

لقاء المواطنين

سياسة الباب المفتوح التي اعتدت عليها واعتمدتها كسياسة خاصة في هيئة التحرير والاتحاد القومي واتبعتها أيضاً في وزارة الأوقاف ، ومن النوادر أن جاءني شخص يبدو عليه البؤس وضيق الحال ، فتسلمت منه التماسه وأشرت عليه بعمل اللازم فوراً . وفي صباح اليوم التالي فوجئت بضجة كبيرة على باب مكتبي فناديت ساعي المكتب الذي أخطرني أن هذا الرجل ضيف الأمس يتشاجر معه لأنه أدخله مكتب غير مكتب الوزير وأنه يريد أن يلتقي بالوزير .

فاستدعيت الرجل وأفهمته أنني أنا الذي استقبلته بالأمس وأنا الوزير فاستحلفني بالله أن أسمح له بمقابلة الوزير وكفى ما حدث بالأمس فعندما عاد إلى عائلته وقص عليهم ما حدث ضحكوا عليه واستهزؤوا به ، وقالوا أنه قد ضلل وأنه لا يمكن وأن يكون قد قابل الوزير فلابد وأنه قابل شخصاً آخر ضحك عليه .

فأمرت بإحضار التماسه فوراً ونفذته له فورا وسألته بعد ذلك هل تصدق الآن أنني الوزير فأجابني قائلاً . . . لا .

تمليك المساكن

فكرت في أنني لو قمت بتمليك المساكن والعقارات الأخرى والتي تؤجرها وزارة الأوقاف لشاغليها ولو بالتقسيط فأنه أمر مربح للوزارة لأني سأحصل على رؤوس أموال جديدة تمكني من التوسع في مشروعات إصلاح الوزارة وتوسيع قاعدة الملكية .

وأعلنت عن ذلك فإذا بخطاب يصلني من السيد علي صبري يخطرني فيه بأن الرئيس جمال عبد الناصر أمر بعدم تنفيذ هذا المشروع وأنه لا يجوز لي التصرف إلا بموافقة الرئيس . والآن وبعد أربعين سنة تقوم وزارة الأوقاف بتمليك العقارات القديمة والحديثة .

معسكر أبي بكر الصديق بالإسكندرية

أنشأت معسكراً أسميته معسكر أبو بكر الصديق ليجتمع فيه طلبة البعوث الإسلامية ليتعارفوا ويتآلفوا وليباشروا النشاط الرياضي والنشاط العلمي عن طريق المحاضرات ، ولتكون هناك رابطة تربط المصريين مع أقرانهم من البلاد الإسلامية وذلك في فصل الصيف .

ولا يزال هذا المعسكر قائماً حتى الآن يفتتح الموسم الصيفي له وزير الأوقاف كل عام .

حقوق مستحقي الأوقاف طرف الوزارة

ذات يوم فوجئت بأحد المواطنين يشكو من أنه مستحق في وقف من الأوقاف ، والوزارة ترفض إعطائه صورة من الوقفية وبسؤالي للمختص قال لي أنه لو حصل كل المستحقين على مالهم ستفلس الوزارة ، وأن هناك قرار يمنع إعطاء أى صورة .

فأصدرت قراراً في نفس اليوم ، يعطي الحق لكل مستحق في الأوقاف أن يحصل على صورة من الوقفية بعد أداء الرسوم القانونية ، وألغيت القرار السابق الظالم الذي يحرم المستحق من الحصول على حقه فأولى بالوزارة أن تعطي الحقوق لا أن تسلبها .

صيدلية الأوقاف

كانت وزارة الأوقاف تشرف على عديد من المستشفيات التي أنشئت من أموال الأوقاف ، ثم صدر قرار بتسليمها لوزارة الصحة ، ولما لاحظت أن كثيراً من المواطنين عند تعرضهم للمرض يبحثون عن الدواء ولا يجدوه في الصيدليات مما يجعلهم يعانون من ذلك الكثير خاصة وأنهم يتحملون أمراضاً خطيرة تحتاج إلى علاج يخفف عليهم آلامهم فأنشأت صيدلية الأوقاف وأسميتها صيدلية الجمهورية وكان يحق للمواطن إعطاء اسم الدواء فيقدم له إن وجد وإلا استورد بالطائرة عاجلاً ، وذلك تخفيفاً على المرضى وإنقاذاً لهم .

دخول النساء وزارة الأوقاف

كانت هناك شائعات لا يعلم إلا الله عز وجل مدى صحتها بالنسبة للوزير الذي سبقني أحمد حسن الباقوري وأنا أعتبره من أفضل الدعاة المتنورين للإسلام . . فقررت أن أنأى بنفسي عن مواضع الشبهات فقررت فتح باب خاص للسيدات في وزارة الأوقاف ، وأقسام وخزينة لخدمتهن . بحيث لا يسمح لهن بدخول مبنى الوزارة ، وهناك أخصائيات من الوزارة لمقابلتهن وإنهاء موضوعاتهن وإن كان هناك تصرفات مالية فهناك الخزينة الخاصة بالسيدات .

توزيع الشقق السكنية

كانت الشقق السكنية في وزارة الأوقاف مصدراً للشائعات والأقاويل الكثيرة والتي كان لها نصيب من الصحة حيث كانت تؤجر الشقة الواحدة لأكثر من شخص فتحدث النزاعات وتنتهي الأمور إلى الشرطة لفض النزاع . فقررت توزيع الشقق السكنية بالقرعة العلنية على أن يحضرها بعض أصحاب طلبات التأجير وهم أنفسهم أعضاء لجنة التأجير ويسحب القرعة أحد أصحاب طلبات التأجير بوجود مندوب من أملاك الوزارة ومستشار مجلس الدولة فكان الذين لم يجدوا حظاً في القرعة يهتفون بحياة العدل وانتهت مشكلة الشقق السكنية .

توزيع المعونات المالية

توزيع المعونات المالية أيضاً كانت مصدراً لشائعات كثيرة فقررت ألا أوقع أي أمر بصرف أي مبلغ مهما كان صغيراً أو كبيراً وشكلت لجنتين إحداهما دائمة وأخرى عاجلة للنظر في الظروف الحرجة التي تتطلب المساعدة العاجلة ويرأس هذه اللجان وكيل الوزارة .

وبذلك تفرغت لخدمة الله عز وجل وخدمة ديني وخدمة القرآن الكريم والمساجد والمواطنين .

التطوير الأول للأزهر عام 1960

كنت وزيراً للأوقاف عندما بدأ الحديث عن تطوير الأزهر وكان الأمر سيعرض على مجلس الأمة ، فقابلت الرئيس جمال عبد الناصر واستوضحته عن سبب هذا التطوير ، فأجابني أن البعثات التبشيرية تتكون من داعية ديني وهو في نفس الوقت طبيب أو بيطري أو مهندس زراعي . . أي رجل دين له حرفته . . ويريد الرئيس أن يكون رجال البعثات الإسلامية على هذا النمط .

وبعد تفكير أرسلت للرئيس خطاباً سجلت فيه أنني لا أمانه في تطوير الأزهر ولكن بأسلوب مختلف . . فحتى الآن توجد جامعات وكليات للاهوت متخصصة لتخريج رجال دين دون - حرفة أخرى – وذلك في البلاد المسيحية . وخوفاً من أن يدفع الدين الإسلامي ثمناً غالياً لهذا التطوير فأني أقترح أن تبقى جامعة الأزهر كما هي وتقوم بإنشاء جامعة إسلامية أخرى بها كل الكليات العملية والنظرية التي يرغب الرئيس في إنشاءها ثم يشكل مجلس يجمع بين الجامعتين وبذلك نحافظ على مستوى التعليم الديني في الأزهر وفي نفس الوقت نخرج الدعاة ذوي المهنة والحرفة .

كان وراء فكرة التطوير السيد كمال الدين حسين بايعاز وكيل الوزارة سعيد العريان كما ساهم في تأييد تلك الفكرة السيد كمال الدين رفعت المعروف بيساريته المتطرفة . . والله وحده يعلم النوايا لأن هذا القانون مر خلسة في البرلمان في الساعة الثانية صباحاً حيث لم يكن هناك عدد من الأعضاء يسمح بأن تكون الجلسة قانونية .

وكان هدف الغرب والشرق على مر التاريخ الوصول إلى قاعدة القرآن الكريم والدين الإسلامي وكعبة المسلمين العلمية الأزهر الشريف وتفريغه من مضمونه . .

وقد كانت مقاومتي لهذا القانون أنني أكتشف حقيقة خريجي الأزهر قبل التطوير ، وهو الواقع الذي أجبرني على إنشاء معهد الإمامة ليحفظوا القرآن والسنة النبوية الشريفة . . فما بالنا بالنتيجة بعد التطوير وخاصة بعد التطوير الثاني فلا نحن أرسلنا في بعثة إسلامية مهنياً واحداً يدعو للدين . . ولا حصلنا على رجل دين متفرغ لدينه ، قوي في مادته .

نفوس . . . و الطعنات

و كما قاسينا أنا و الطحاوي من الطعنات أيام هيئة التحرير و الإتحاد القومي ، فلم أسلم و أنا وزير للأوقاف من هذه الطعنات و لأعطي أمثلة مريرة .

أحمد أنور و كان قائداً للبوليس الحربي و يشغل في ذلك الوقت منصب وزير في الوزارة الاتحادية ، جاء إلىَّ زائراً على غير عادته وبدأ حديثه بأني أصبحت الآن وزير أوقاف و يجب أن أنسى هيئة التحرير و الاتحاد القومي و أنسى المصطبة التي كانت هناك و أعمل كوزير فقط .

لقد فوجئت بهذا الحديث وقلت له لماذا تقول ذلك فقال لأن العاملين في الاتحاد القومي يشكون بأن الجميع بدلاً من أن يأتوا إليهم أصبحوا الآن زواراً لوزارة الأوقاف ، فقلت له أنا لن أغير أسلوبي و لن أغلق الباب في وجه أي فرد يلجأ لي أو يزورني . . . و أنهيت الزيارة .

الدكتور عبد القادر حاتم . . و كان وزيراً للإعلام . . جاني زائراً ثم بدأ حديثه . . . . أنني أصبحت وزيراً للأوقاف و لم يُطلب مني أن أصنع من الفسيخ شربات فقلت له هذا معناه أنني حين أرى عيوباً لا أصلحها ، أو عملاً يأتي بفائدة لمصر وللمواطنين لا أقوم به . . و قلت له طالما بقيت وزيراً للأوقاف . . فابذل كل جهدي لأصنع من الفسيخ شربات .

إن اللص في نظري ليس فقط هو من يسرق منزلك أو مالك بل إن اللص الأخطر هو من يتقاضى أجراً عن عمل يؤديه فلا يؤديه بأمانة الدكتور عبد المنعم القيسوني . . جاءني زائراً بل وجدته في مكتبي في الصباح الباكر منتظراً وصولي ، و كان صديقاً وزميلاً عزيزاً أحبه و أجله وكان وزيراً للمالية فدهشت من هذه الزيارة المبكرة ، فقال لي أنت قدمت مشروع اعتماد إضافي بمبلغ مليون جنيه التي وردت لك من وزارة الخزانة بعد اعتماد الميزانية لإصلاح المساجد . . فقلت له نعم فقال عرض الموضوع على اللجنة أمس و رفضته اللجنة و سمعت تعليقاً من أحد أعضاء مجلس الثورة شعرت بأن واجبي نحوك يدفعني إلى ضرورة أن أنبهك بأن عليك أن تقابل الرئيس جمال عبد الناصر ، لأني غير مطمئن عليك ورفض د .القيسوني إخباري باسم عضو مجلس الثورة . . و لقد عرضت عليه أن أسميه فإذا كان صحيحاً فليجبني فسميت العضو فأجابني بالإيجاب ، فقلت له لن أطلب مقابلة الرئيس ، و ليصنعوا ما يريدون ، فأنا قد ضقت ذرعاً بكل تلك الوشايات .

الليثي عبد الناصر وعلي صبري . . بدأت صداقتي و الليثي عبد الناصر بعد قيام ثورة 23 يوليو سنة 1952 باعتباره شقيق الرئيس وتعمقت و توطدت هذه العلاقة لتربطنا علاقة أخوية صحيحة مما جعله دائماً يبصرني بما يحيط بي من نوايا عدائية أو مؤامرات تدبر لي .

جاءني الليثي عبد الناصر منذراً بأنه سيصلني خطاب من الرئاسة بتسليم كل الأراضي الزراعية والعقارات و كل أملاك الوزارة للمحافظات و لوزارة الزراعة فقد سمع شخصياً السيد علي صبري يقول للرئيس أنه لا فائدة من وقف نشاط وزارة الأوقاف إلا بغلق المنافذ الخلفية التي يستخدمها أحمد طعيمة ويقصد علي صبري بذلك الفائض من ريع الأوقاف ولم يعلم أن ما ينفق لابد و أن يكون له اعتماد في الميزانية .

و فعلاً وبعد أيام وصلني هذا الخطاب فقمت بالرد في اليوم التالي بأنني أعتذر عن التنفيذ . .

أولاً : لأنني قد عينت ناظراً للوقف بمجرد تعييني وزيراً للأوقاف ولا أستطيع أن أتحمل مسئولية تبديد الأوقاف وهي مسئوليتي أمام الله .

ثانياً : لأن هذا القرار قرار غير عملي ، فكثيراً ما يكون الوقف في محافظة و أوجه الصرف له في محافظة أخرى فكيف التصرف في مثل هذه الحالة و التي تعتبر الغالبية العظمى من هذه الأوقاف . . و كذلك الخوف من تبديد أملاك الأوقاف التي لا تملكها الدولة في حالة توزيعها ولهذا السبب كانت ميزانية الأوقاف قبل الثورة تصدر بمرسوم ملكي منفصل عن ميزانية الدولة .

أخيراً وصلني خطاب من آخر من الرئاسة بأنه قد صرف النظر عن الموضوع و اعتبار الأمر كأنه لم يكن . . لقد كانت حرباً . . كنت أخشى أن تضيع أوقاف المسلمين . . و حماني الله تعالى من أن أضعف . . أو أجامل في حق الله تعالى . . و خشيت الله . . فكان حبيبي وسندي .

خرجت من الوزارة في التعديل الوزاري بعد أيام وعين السيد حسين الشافعي وزيراً للأوقاف و في أول اجتماع له مع كبار الموظفين أخطرهم بتسليم الأوقاف إلى المحافظات و وزارة الزراعة فلما أفادوه بفحوى الخطاب الأخير قال هذا الموضوع ليس للمناقشة و إنما للتنفيذ .

قصة الشربتلي السعودي

زارني في مكتبي الشربتلي باشا عارضاً بناء مسجدين في مصر فرحبت بذلك و رددت له الزيارة مع إهدائه مصحف من وزارة الأوقاف فعرض استثمار 10 مليون جنيه في ذلك الوقت في مصر فوعدته أن أدعوه إلى طعام الغذاء في منزلي و أدعو الوزراء المختصين بموضوع الاستثمار .

و بعد الدعوة فوجئت بالمستشار صادق المهدي رئيس نادي سوهاج وكان دائماً يرافق الشربتلي باشا يحدثني تليفونياً قائلاً بأن الشربتلي باشا يريد أن يرسل لي هدية مع السكرتير فلما سألته عن طبيعة الهدية فقال حقيبة بها بعض الساعات و المجوهرات لزوجتي فقلت له و كنت أقطن في الدور السادس أنه لو جاء سأقذف الحقيبة من الشرفة و السكرتير وراءها . .

و قلت له بلغ بأن وزراء مصر ليسوا للبيع وأبلغت الرئيس جمال عبد الناصر بهذه الواقعة فقال لي جمال عبد الناصر بأن الشربتلي باشا أرسل له شخصياً حقيبة و أنه ردها له مع صلاح الشاهد كبير الأمناء و أنه علم أن عمه خليل عبد الناصر تسلم الحقيبة من الشربتلي فأمر عبد الناصر الشرطة بمداهمة منزل عمه و إعادة الحقيبة . .

و للعلم فإن الشربتلي لم ينفذ وعده ببناء المسجدين .

و هنا تحضرني قصة تبرهن على عفة جمال عبد الناصر و حرصه على ألا يستغل من أي أحد من أقاربه مهما كانت درجة القرابة . فقد كان للرئيس جمال عبد الناصر خال يقطن في الإسكندرية اسمه السيد حماد ، و كانت قد اتصلت به السيدة أمينة البارودي و لما علم عبد الناصر بأن خاله و هذه السيدة يستغلان قرابته للرئيس فيما لا يجوز – أمر باعتقاله . و بعد فترة من اعتقاله جاءني الليثي عبد الناصر شقيق الرئيس و روى لي هذه القصة طالباً مني أن أتدخل لدى الرئيس للإفراج عن خالهم أنه أمضى ما يقرب من شهرين في المعتقل ، و أننا على أبواب العيد و هم قد أصابهم اليأس في رجائهم للرئيس جمال عبد الناصر بالإفراج عنه .

. . . . في زيارتي التالية للرئيس سألته عن نيته و هل سيبقي خاله في الاعتقال إلى الأبد فنفى ذلك فقلت له إذاً سيكون هناك يوم للإفراج عنه ، فقال نعم فقلت له فليكن يا سيادة الرئيس هذا اليوم قبل العيد ليقضيه مع أسرته . . . و أفرج جمال عبد الناصر عن خاله .

و هذه الواقعة أيضاً تبرهن على عفة الرئيس عبد الناصر و حرصه على ألا يستغل أحد علاقته به ، أو قرابته منه في فساد أو إثراء و لو كان أقرب أقاربه وللقارئ أن يقارن فيما فعله أنور السادات . فلم يكن هناك أطهر و لا أشرف من جمال عبد الناصر بل وأقسى على أقاربه من جمال عبد الناصر .

بناء مسجد والدتي

أردت بناء مسجد والدتي قبل وفاتها مباشرة فحضر لي مسئولي وزارة الأوقاف و قالوا أن القاعدة عند إعانة مساجد الأهالي أن تتولى الوزارة الدعم في حوالي 25 % فرفضت أن يدعم مسجد وزير الأوقاف من وزارة الأوقاف حتى و لو كنا ندعم جميع المساجد و قلت لهم أنني رفضت مشاركة إخوتي فكيف لي أن أقبل المساعدة وأنا وزير الأوقاف . .

اقترضت من بنك الجمهورية مصروفات بناء المسجد بفوائد على الرغم من أنني منحت بعض الوزراء الذين تقدموا لبناء مساكن قرضاً بدون فوائد من نفس البنك ( قرض الموظفين ) .

صلاح سالم

في يوم من الأيام و أنا وزير أوقاف طلبني الأخ صلاح سالم و قد كنت أكن له حباً وإخلاصاً و طلب مني أن يزورني أنا و الطحاوي في منزل الأخ الطحاوي و أذكر القارئ الكريم أن صلاح سالم هذا الذي قال أمام اتحاد النقل المشترك في أزمة مارس 1954 أمام جمال عبد الناصر و المشير عبد الحكيم عامر أن ( طعيمة يساوي ثقله ذهب ) .

و لم أعرف سبب الزيارة واللقاء إلا عند حضوره و مفاجأته لنا بأنه مريض للغاية و في أيامه الأخيرة و أنه يريد أن يلقى الله وهو نقي ثم فوجئنا بطلبه أن نسامحه أنا و الطحاوي فقد كان يهاجمنا بشدة ، و أضرَّ بنا كثيراً و هو الآن يشعر بخطئه و أننا كنا لا نستحق منه ذلك و قام فقبل رأسي و رأس الطحاوي قائلاً أرجو أن تسامحوني من القلب فبكينا نحن الثلاثة وقلت له أننا لم نكن له من قبل إلا الحب و الإخلاص و التقدير و أننا على العهد و كأن شيئاً لم يحدث .

الخروج

خرجت من وزارة الأوقاف في التعديل الوزاري الذي أجري في نهاية عام 1961 بعد أن قضيت عامين فقط في الوزارة و أنجزت ما أنجزت مراعياً الله عز وجل في كل تصرف أو إصلاح أقدمت عليه ، سائلاً الله عز وجل التوفيق و ما كان توفيقي إلا بالله .

سفير في الأرجنتين

العمل الدبلوماسي و الوحدة العربية في الأرجنتين

بعد خروجي من الوزارة اكتشفت معاشي وصل إلى ما يقرب من مائة جنيه شهرياً و أني مطالب بقسط شهري لبنك الجمهورية قيمته 62,5 جنيه و هي أقساط بناء المسجد باسم لوالدتي ، فأصبت بحيرة شديدة إلى أن اقترح علي اللواء مصطفى شديد الذي كان يعمل مديراً عاماً للشركة الشرقية للسيارات العمل في منصب رئيس مجلس الإدارة بمرتب 300 جنيه شهرياً و عائد من أرباح الشركة يعادل 1 %

قبلت العرض على الفور ، و لكن اللواء مصطفى شديد اشترط أن أملك بما قيمته ألف جنيه أسهماً في الشركة على الأقل و لما كنت لا أملك هذا المبلغ ، فقد اتصلت بالأستاذ أحمد فتح الله مدير عام بنك الجمهورية ليشتري لي أسهم بألف جنيه و يحتفظ بها في البنك كضمانة للمبلغ . و لقد فكرت أن من واجبي الأدبي نحو جمال عبد الناصر أن أخطره بهذا التصرف ، فأرسلت له رسالة أخوية شارحاً ظروفي المالية ، و في نفس الوقت أستأذنه في قبول المنصب المعروض عليَّ فحدد لي الرئيس عبد الناصر موعداً للقاء . . و قال لي أنه لا قبل أن يعمل أحد أعمدة الثورة في تجارة السيارات فقلت له أنه عمل شريف و أنني لم أرد أن أثقل عليه أو إزعاجه بعد خروجي من الوزارة و رجوته مرة ثانية و رفض و سألني هل الشركة قطاع عام أم خاص ، فقلت له خاص فسألني هل أممت أو فرض عليها الحراسة فأجبت بالنفي . . و هنا وافقت على تقديم استقالتي من الشركة حفاظاً على من حاولوا مساعدتي فأمرني جمال عبد الناصر بعدم التوجه إلى الشركة بعد اليوم على أن يقوم شقيقي محمد بتسليم الاستقالة . . . ثم قال أنه سيصدر قراراً بتعييني سفيراً ، ثم سألني عن راتبي الذي كنت سأتقاضاه في الشركة فقلت 200 جنيه فقط معتقداً أني بذلك قد أقنعه بتركي للعمل في هذه الشركة حيث أن هذا الراتب أعلى من راتب الوزير في ذلك الوقت فوعدني بإرسال 200 جنيه شهرياً مع شقيقي محمد أحمد حتى يتم تنفيذ تعييني كسفير . . . و هكذا .

أرسل محمد أحمد مبلغ 200 جنيه لمدة ثلاثة أشهر ، ثم انقطع عن إرسال المبلغ و بعد أن كررت طلبه عدة مرات دون جدوى امتنعت عن الاتصال به و واجهت الضائقة المالية مرة أخرى . . و بدأت في بيع مقتنياتي و منها سيف ذهبي كان الملك سعود قد أهداه لي بمناسبة ذهابي في رحلتي أميراً للحج . . بعت السيف بسعر بخس قيمته 600 جنيه .

و بعت أيضاً قطعة أرض تعاونية في تقسيم نسيم باشا بالهرم . . فلما انتهت هذه الموارد اضطررت للاستدانة حتى صدر قرار تعييني سفيراً لدى حكومة الأرجنتين ، و لكنني لم أقبل تنفيذ القرار و السفر إلى الخارج تاركاً الديون التي أثقلت كاهلي دون سداد .

خمسة عشر شهراً مرت علي في هذا الحال ، واجهت فيها المصاعب الأليمة ، و سأروي هذه القصة التي تثبت أن فرج الله دائم آت و قريب لا ريب فيه ، لقد أحاطني ببره و رحمته . . أقول لقد كانت أيام عيد الأضحى على الأبواب و لم أكن أملك ثمن الأضحية و كان أملي متعلقاً بمبلغ 75 جنيهاً كانت تمنح لي في يوليو من كل عام ، فلما أرسلت سائقي لصرف الشيك من البنك اعتذروا عن عدم الصرف لعدم وصول المنحة فبكيت سائلاً الله الفرج .

و فجأة إذا بالشيخ محمود الكولي الصحفي بالأهرام و كان مندوباً للأهرام في وزارة الأوقاف يطرق بابي مسلماً إياي خطاباً من المرحوم سيد نصار رئيس نقابة عمال هيئة قناة السويس ، و إذا بالخطاب يتضمن فقط شيكاً دون أي كلمة أخرى . . شيك بمبلغ 300 جنيه .

فسألت الشيخ محمود الكولي عن الأمر فقال لي أن سيد نصار سأله هل ترى أحمد طعيمة ، فأجابه نعم فأعطاه هذا الخطاب دون أن يعرف فحواه . . و صرفت المبلغ و تم شراء الأضحية كما تعودنا . . و كنت مصراً على معرفة سبب إقدام سيد نصار على هذا التصرف لأنه لم تكن تربطني به أي علاقة مادية من أي نوع ، و لا يعرف هو عن الضائقة المالية التي أمرّ بها .

و في أول لقاء معه سألته فأجابني أنه فكر أن يرسل لي هذا المبلغ لعلني في حاجة إليه و أني إن لم أكن أحتاجه فسأرد له الشيك . . . هذا هو الله مفرج الكروب .

أرسلت للرئيس جمال عبد الناصر خطاب أعلمه نيتي حول تنفيذ النقل و السفر إلى الأرجنتين فدعاني أنا و ابني و ابنتي لزيارته و تحيته قبل السفر ، ذهبنا إليه و انتهزت فرصة اللقاء لأطالبه بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه و هو مبلغ 200 جنيه التي قررها لي الرئيس و لم تصرف طوال خمسة عشر شهراً استدنتها و لا أستطيع السفر إلى القطب الجنوبي تاركاً ورائي هذه الديون فأمر الرئيس عبد الناصر بصرفها في اليوم التالي . و أحضرها لي حامد محمود مدير مكتب السيد علي صبري الذي أصبح محافظاً فيما بعد .

و قال لي الرئيس جمال عبد الناصر في هذه الزيارة أنه أرسلني إلى الأرجنتين لأريح أعصابي و لمدة سنة أعود بعدها إلى الوطن و لم أصدق أننى سأمكث سفيراً سنة واحدة و لكنه فعلاً استدعاني بعد مرور سنة للعودة إلى مصر و العمل بالإتحاد الإشتراكي .

سفارة الأرجنتين

سافرت إلى بيونس ايرس عاصمة الأرجنتين في أواخر عام 1963 حيث كانت منطقة أنتر ريوس بالأرجنتين إحدى المناطق المقترحة لإقامة الوطن اليهودي فهذه المنطقة الخصبة التي تقع بين الأنهار أكبر في المساحة من هولندا وبلجيكا .

و عند زيارة المجاملة مع سفير الولايات المتحدة الأمريكية ، و كان يعمل وزيراً مفوضاً في السفارة الأمريكية بالقاهرة ، أخبرني بأنه يحب مصر و أن واجبه أن ينبهني إلى أن بيونس ايرس تعتبر العاصمة الثانية لإسرائيل بعد نيويورك أما تل أبيب فهي العاصمة الثالثة .

لقد تبين لي صحة ما قاله السفير الأمريكي . إذ أنه بالتجربة تأكد لي أن الجالية اليهودية في الأرجنتين هي أقوى جالية تتحكم في كل شيء اقتصادياً و إعلامياً ، لدرجة أنها أصدرت دليلاً للتليفونات لا يحتوي إلا على أسماء اليهود و مهنتهم و حرفهم كما أن لهم مدارسهم الخاصة و أنهم يدرسون اللغة العربية إلى جوار اللغة العبرية .

و لما كان اليهود دائماً في الجيتو اليهودي منعزلين عن باقي أفراد الشعب الذي يعيشون معه فقد وصلت الكراهية بينهم و بين الأرجنتينيين حداً كبيراً لدرجة أن أحد المواطنين الأرجنتينيين زارني في السفارة و أعطاني صوراً لاتفاقيتين بين إسرائيل و الأرجنتين توضحان تفاصيل الكميات المصدرة من اليورانيوم إلى إسرائيل و الفاصل بين الاتفاقيتين عامين فقط . . . أخطرني أن علماءنا بالإطلاع على هذه الاتفاقيات يمكنهم معرفة ما وصلت إليه إسرائيل في صنع القنبلة الذرية . . وسلمت الاتفاقيتين إلى حامل الحقيبة الدبلوماسية خوفاً من ضياعها و طلبت من وزارة الخارجية تسليمها إلى السيد صلاح هدايت وزير البحث العلمي لدراستها .

و لكن للأسف الشديد عند عودتي للقاهرة اتصلت بصلاح هدايت فأخبرني أنه لم يتسلم شيئاً ، و عند اتصاله بالخارجية لم يعثر على شيء . . . و لا أعرف حتى هذا الوقت سبباً وراء اختفاء هذه الاتفاقيات و لكن الله وحده يعلم .

الموقف العربي في الأرجنتين

كانت الجالية العربية في الأرجنتين أغلبها من أبناء سوريا و لبنان و قلة من بعض الدول العربية الأخرى . . . و كانت الخلافات بين السفراء العرب صورة طبق الأصل من الخلافات في منطقة الشرق الأوسط فطلبت الاجتماع بهم جميعاً و قلت لهم أننا هنا نعيش قريباً من القطب الجنوبي ، و كذلك نجاور أحد مراكز إسرائيل القوية و يجب أن ننأى بأنفسنا عن الخلافات الموجودة في الوطن العربي ، دعونا نتجه كسفراء عرب إلى جبهة واحدة . . . لا اختلاف و لا خلاف و لقد نجحت في إقناعهم بهذا المبدأ إلى الحد الذي أصبح فيه إلياس ربابي سفير لبنان في الأرجنتين – و كان خطيب التائب اللبنانية التي تناصب مصر عداءً شديداً – قد أصبح من أهم أصدقائي .

و كذلك سفير سوريا السيد أسعد حومد و الذي كان شقيقه عبد الوهاب حومد وزيراً وقت الوحدة ، و كان أسعد مبغضاً لمصر على الرغم من أنه وحدوي متعصب و كان ذلك بسبب ما لاقاه على أيدي أحد أعضاء السفارة المصرية في البرتغال أثناء عمله بالسفارة أيام الوحدة و كذلك ما لاقاه ندما حدث الانفصال ، فأصبح هو الآخر صديقا لي . .

و لأن الجالية السورية في الأرجنتين وحدوية أرادت دعوتي ذات يوم في مزرعة أحد أعضائها فرفضت الذهاب حتى تتم دعوة السفير السوري أسعد حومد وأصررت على موقفي مما اضطرهم إلى الذهاب إليه و دعوته و اتصلت به تليفونياً أعرض عليه الذهاب سوياً في نفس السيارة و دامت صداقتنا منذ هذا اليوم و حتى الآن . أما عن سفير المغرب المرحوم محمد الخطيب فكان وطنياً محباً لمصر بطبيعته و انضم إلينا سفير الجزائر الأول مرة .

و قد ظهرت هذه الوحدة بين السفراء العرب رسمياً حين هاجم أحد المرشحين لتولي سفارة الأرجنتين بالمكسيك جمال عبد الناصر هجوماً شديداً بذيئاً في كلمته بإحدى الفنادق و في اجتماع عام . . فتقدمت باحتجاج شديد اللهجة إلى وزير الخارجية الأرجنتيني موقعاً عليه من السفراء العرب جميعاً ، لدرجة لفتت وزير الخارجية الذي قال لي أن هذا الاحتجاج خاص بمصر فلماذا يوقعه كل السفراء العرب فأوضحت له إنهم يشاركوننا الرأي في الاحتجاج .

الناصريون في الأرجنتين

و مما يلفت النظر أننا في الأرجنتين و على بعد 18 ساعة طيران من القاهرة وجدت حزباً ناصرياً حتى في القوات المسلحة ، و قد أطلقوا على أنفسهم بالإسبانية اسم NASERESTAS" " حباً و حماسة لجمال عبد الناصر . . و قد استفدت كسفير في الأرجنتين من هذه المشاعر و لبيت فوراً دعوة وجهت لي لافتتاح مدرسة أسموها مدرسة جمال عبد الناصر .

و هذا إن دل على شيء فيدل على أن ثورة 23 يوليو 1952 و جمال عبد الناصر قد تعدوا حدود مصر لا إلى البلاد عربية فقط و إنما إلى كل شبر من أرجاء المعمورة و لكنه الحقد والعداء الأعمى لثورة 23 يوليو داخل مصر لا خارجها .

لقد كانت ثورة من أجل الشعوب و المظلومين و المستضعفين ، ومن هنا كان لها أنصارها ودعائها في كل القارات . . و من الطبيعي كذلك أن يكون لها أعداء وكارهون وحاقدون . . و لكن ذلك لم يطفئ شعلتها . . كما انها لم تكن مبرأة من الأخطاء و التجاوزات .

البيرونيون

في الأرجنتين كان هناك حزب آخر يسمى البيرونستا نسبة إلى بيرون الذي كان رئيساً للجمهورية ، و بلقائي مع هذا الحزب أدهشني رؤيته التي تقول أن للشعوب في بعض الأحيان منطق خاص و عجيب تتعامل به مع السلطة . . ففي الأرجنتين يعتبرون أن بيرون و حكمه قد سرق الشعب . . . و لكنه فينفس الوقت أدى لهم خدمات كثيرة . . أما الآن فإن الشعب الأرجنتيني أيضاً يتعرض للسرقة ، و لكن دول الحصول على أي خدمات إذن فحكم بيرون أفضل . . . منطق يحتاج إلى تفكير و تعمق ، و لكني قلت لك إن للشعوب أحياناً منطق . . و منطق عجيب .

مؤتمر عدم الانحياز في القاهرة

كان المزمع عقد اجتماع لدول عدم الانحياز و التي تضم يوغسلافيا في القاهرة ، و عند توزيع مسئوليات الدعوة لهذا المؤتمر كانت دعوة الأرجنتين من نصيب يوغسلافيا التي كانت عضواً في منظمة دول عدم الانحياز . . . و الذي كانت تربطني بسفيرها صداقة . . و إذ به يحضر إلى زيارتي و هو شديد الحزن لأنه يخشى من رد فعل دولته ذلك لأن وزير الخارجية الأرجنتيني بعد أن تسلم الدعوة أعلن في الصحافة بأن الأرجنتين لن تشترك في مؤتمر عدم الانحياز في القاهرة لأنها عضو في المنظمة الأمريكية . . . و طلب إليّ أن أعاونه لإقناع الأرجنتين بالاشتراك ، لأنه يعلم أن علاقتي أصبحت قوية للغاية مع المسئولين بدأً من رئيس الجمهورية و نائبه إلى أعضاء الكونجرس و وزارة الخارجية و الوزراء عموماً وقد فتحت لهم جميعاً أبواب السفارة وأكثرت من الدعوات والاستقبالات حتى توثقت بيننا الروابط إلى حد كبير ، وحينما أخبرني سفير يوغسلافيا بما حدث ، دعوت الوزير إلى دار السفارة وفي حضوره أخبرته أن جمال عبد الناصر دعاه إلى زيارة مصر زيارة خاصة لأنه يعلم حبه للآثار المصرية والتاريخ المصري القديم ففرح فرحاً شديداً فقلت له أنه يستطيع زيارة مصر أثناء انعقاد مؤتمر عدم الانحياز في القاهرة وأن القاهرة ترحب به في كل وقت . فأثار موضوع الدعوة إلى المؤتمر وما حدث بيه وبين السفير اليوغسلافي ، ووعدين بإعادة النظر . . . وفي الاحتفال الذي دعت إليه السفارة الفرنسية بمناسبة عيدها الوطني في 14 يوليو ناداني وزير الخارجية الأرجنتيني وأخطرني بأنه اتصل بست وزراء خارجية من دول أمريكا اللاتينية وأقنعهم بحضور المؤتمر كمراقبين فسألته هل يمكن إخطار حكومتي بذلك فأجاب بالقبول فأرسلت برقية في نفس مساء اليوم إلى القاهرة وأخطرت سفير يوغسلافيا بالقبول حتى يهدأ بالاً . . .

وهذه القصة تدل على أن العلاقات الشخصية وخاصة في العمل الدبلوماسي ضرورة حتمية ، وأن البيت المفتوح في الدبلوماسية كالباب المفتوح في الحكم والسياسة .

الطيار الخائن

حضر إليَّ في دار السفارة الطيار المصري الذي هرب بطائرته إلى إسرائيل طالباً العودة إلى مصر ومحاكمته لأن إسرائيل بعد استفادتها منه ألقوا به في عرض الطريق وجاءوا به إلى الأرجنتين . . فاتصلت بالقاهرة وأجريت الترتيبات اللازمة لترحيله إلى القاهرة وقد حكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم .

شخصيات تزور الأرجنتين

زار الأرجنتين خلال وجودي سفيراً لمصر بها السيد حسين ذو الفقار صبري نائب وزير الخارجية بخصوص تحويل مجرى نهر الأردن بواسطة إسرائيل لمقابلة المسئولين فقمت بكافة الاتصالات وأكرمت وفادته . . زارتني أيضاً شخصية قبطية هامة هو الأنبا صمويل الذي توفي مع الرئيس أنور السادات في حادث المنصة ، وقد أكرمت وفادته وأقمت على شرفه عدة حفلات دعوت لها كل رجال الدين المسيحي من كل الطوائف مما كان له أثر كبير في توطيد علاقتي به التي سأعود إليها عندما كلفني أنور السادات بحل مشاكل الأقباط عندما أصبح رئيساً .

العلاج بالسويد وزيارة القاهرة

ألم بي مرض شديد في العمود الفقري وكان هناك طبيب أخصائي عالمي اسمه "فري بري" فاستأذنت في السفر إلى السويد لتقرير علاجي ثم زيارة القاهرة لمناقشة بعض الأمور . كان ذلك قبل أواخر 1964 عندما وصلت إلى القاهرة قابلت السيد الرئيس جمال عبد الناصر الذي اطمأن على أحوالي وأحوال السفارة ثم طلب مني عدم مغادرة البلاد قبل لقاء المشير عبد الحكيم عامر – فطلبت المقابلة ومرت الأيام دون تحديد موعد فأخطرت علي شفيق سكرتير المشير بأنه إن لم يحدد لي موعداً للمقابلة فسأضطر للسفر إلى الأرجنتين لأنني تركت عملي والوقت ينقضي . . فحدد لي الموعد ولدهشتي لم يكلمني المشير في أي موضوع فتعجبت من تصميم الرئيس عبد الناصر على المقابلة ولم يكن هناك شيء يتحدث فيه المشير .

بعد ذلك علمت من الرئيس عبد الناصر عند مقابلتي له في القاهرة بعد عودتي من الأرجنتين أنه قد اتفق مع المشير عبد الحكيم عامر على أن يخربني بأن أبقى في القاهرة ولا أعود إلى الأرجنتين لأنني سأعين سكرتيراً عاماً للاتحاد الاشتراكي العربي حتى يكون هذا التعيين بموافقة المشير ويترك له الفرصة ليبدو أن له دخل في هذا التعيين . حينئذ فهمت سبب إعراض عبد الحكيم عامر عن أن يفاتحني في هذا الموضوع لأنه منذ موضوع الأرض التي استولت عليها عائلته وأخطرنا بها الرئيس عبد الناصر والمشير غاضب مني على الرغم من علاقتنا السابقة القوية والأخوة التي كانت أقوى من علاقتي بعبد الناصر قبل الثورة .

أما عن موضوع الأرض الذي أشرت إليه سابقاً ، فإن له قصة يمكن إيجازها في الآتي . . أثناء زيارة ركب التحرير لمحافظة المنيا وهيئة التحرير في أسطال بلد المشير عبد الحكيم عامر أخبرنا بعض الأعضاء أن عائلة المشير تضع يدها على تفتيش زراعي كان يملكه أحد الأجانب ومساحته 6 آلاف فدان وأنه كان يجب توزيع هذه الأراضي . . وعند عودتنا من الرحلة أبلغنا الرئيس جمال عبد الناصر بهذه الواقعة .

لقد كانت علاقتي بالمشير عبد الحكيم عامر تسمح لي بمفاتحه في هذا الموضوع ولذلك اقترحت على الرئيس عبد الناصر أن أقوم بذلك ولكنه رفض وطلب أن يفاتحه هو شخصياً في هذا الموضوع . . وكان ذلك سبب عداء المشير عبد الحكيم عامر لي على الرغم من أن علاقتي به كانت أقوى من علاقتي بجمال عبد الناصر لأن المشير كان يتوقع أن أحادثه ف هذا الشأن ولا أخبر به عبد الناصر .

وفي اليوم التالي لمغادرتي القاهرة إلى الأرجنتين اتصل السيد حسين الشافعي بشقيقي يسأل عني فأجابه بأنني سافرت فقال لماذا سافر فالمفروض أن يبقى هنا وبعد يوم واحد من وصولي إلى السفارة في الأرجنتين وصلتني برقية بنقلي إلى القاهرة للعمل في الأمانة العامة وكان قد مضى على عملي كسفير بالأرجنتين عام واحد هو نفس العام الذي أخبرني به عبد الناصر عند سفري .

تنفيذ النقل إلى مصر

كان النظام المعمول به في الأرجنتين هو منع استيراد السيارات ذات السعة الكبيرة فلم يكن أهل الأرجنتين يحصلون عليها إلا من السلك الدبلوماسي الذي يعطى الحق في الإعفاء الجمركي بعد استخدام سنتين .

ولما كنت قد خدمت سنة واحدة منحت نصف الإعفاء ومع ذلك حصلت على مبلغ كبير من بيع السيارتين التي أملكهما سيارة خاصة بي وسيارة خاصة بالعائلة وقمنا بشراء ما يلزمنا قبل العودة إلى مصر وبقي معي مبلغ 12 ألف دولار قررت إعادتها إلى مصر رغم أنف عائلتي التي كانت ترجو أن أستبقيها لمواجهة طوارئ المرض وخلافه ولكنني صممت وتم تحويلها إلى بنك مصر .

بعد وصل المبلغ عرض علي أحد الأصدقاء شراء الدولار بسعر جنيه للدولار فرفضت علماً بأن سعر الدولار في البنك كان يقرب من 39 قرش فلما تم تحويل المبلغ الوارد لي بعد التحويل هو نفس المبلغ الذي أنفقته على بناء مسجد والدتي ودفعته بالتقسيط 62,5 جنيه شهرياً فسبحان الله والحمد لله . . حمدت الله كثيراً على نعمته فرزقت من الحلال وعوضت من الحلال .

الإتحاد الإشتراكي

محاولة أمريكا تجويع مصر ومقدمات نكسة 1967

كانت أمريكا قد قطعت معونة القمح في أوائل عام 1965 وكنت قد عدت من الأرجنتين المشهورة بتصدير القمح والحبوب . . ولما كان عبد الناصر يعلم أنني نجحت كسفير في الأرجنتين نجاحاً جعله يسأل الليثي عبد الناصر أثناء مشاهدتهما فيلماً عن الأرجنتين إن كان يعلم من هو رئيس الأرجنتين فأجاب الليثي بالنفي فقال له الرئيس عبد الناصر . . أنا أرسلت أحمد طعيمة كسفير عمل رئيس جمهورية وقد روى لي الليثي هذه الرواية .

فوجئت بالرئيس جمال عبد الناصر يطلبني ثم يكلفني أن أسهم في إنقاذ الموقف ، إذ أننا بعد قطع المعونة من أمريكا أصبحنا نواجه خطراً حقيقياً لأن الشعب لن يجد رغيف العيش وقال أن علاقتي قوية بالأرجنتين ولذلك قرر إرسالي على رأس وفد اقتصادي لشراء القمح وتصدير أي سلعة مصرية إلى الأرجنتين .

وفي ليلة سفري إلى الأرجنتين استقبلني الرئيس جمال عبد الناصر وعرض عليَّ أن آخذ أي مبلغ من الدولارات أحدده أنا بشرط العودة بالقمح فرفضت أن آخذ أي مبلغ وقلت شاكراً أنني أُعطيت بدل سفر وبدل تمثيل ولو احتجت شيئاً سأطلبه عن طريق السفارة .

فتشكل الوفد برئاستي وسافرنا إلى الأرجنتين وقوبلنا مقابلة حميمة ، وبدأنا المفاوضات وكانت إيجابية ، وفجأة زارني صديق يعمل في وزارة الخارجية الأرجنتينية مسئولاً عن الشرق الأوسط واسمه "كريستوفر" وأفادني بأنه وصلت تعليمات من أمريكا لمنع الأرجنتين من بيع القمح في مصر وأنه ينصحني بعدم إضاعة الوقت لأنني لن أحصل على القمح .

ومن أعجب المقادير أن يزورني سفير المكسيك في الأرجنتين وكان صدقاً عزيزاً فأخبرني بعلمه بعدم بيع الأرجنتين لأي قمح وأنه يعرض عليَّ السفر فهم هناك على استعداد لإعطائي ما أطلب .

فاستأذنت القاهرة بالسفر إلى المكسيك فأذن لي ، فتوجهنا إلى المكسيك حيث استقبلنا استقبالاً حافلاً وأحسست بأنهم يقدرون جمال عبد الناصر كزعيم وطني وأنهم على استعداد لتقديم العون ما استطاعوا .

وكان جمال عبد الناصر عند طلبه مني السفر قال أن أهم نقطة في شراء القمح ألا يطلبوا ضمان بنك دولي حيث أن البنوك امتنعت عن إعطاء الضمانات بعد أن صرح الرئيس جمال عبد الناصر بأن المدين أقوى من الدائن وقد كان يتحدث عن ألمانيا ولذلك فقد نجحت المفاوضات إلا في نقطتين سعر البيع والضمان الدولي .

فطلبت مقابلة رئيس الجمهورية لعله يساعدنا في التغلب على هاتين القضيتين وفعلاً رحب بي قائلاً  : نحن على استعداد للاستجابة لجمال عبد الناصر في كل ما يطلب وأعطى تعليماته بتخفيض ثمن البيع ، دولارين في الطن عن السعر العالمي وإعفائنا من ضمان البنك الدولي .

وللعلم فإن القدر قد لعب دوراً هاماً في استجابة المكسيك لنا إذ كان طلبنا في فترة تمر بها العلاقات الأمريكية المكسيكية بأسوأ المراحل فيها مما جعل المكسيك توافق على البيع نكاية في أمريكا .

وخطب وزير التموين المكسيكي قائلا أن المكسيك لا تبيع لمصر سلاحاً ولا قنابل ذرية ولا مفرقعات ، بل تصدر – قمحاً وذرة – وكأنها رسالة تقول إن إطعام الشعب المصري سوف يؤكد مدى عمق الروابط الإنسانية بين مصر والمكسيك . . وكأن الوزير في خطابه يرد على الولايات المتحدة في طلبها عدم بيع القمح لمصر .

لقد بلغ التعاقد 2 مليون طن قمح و 600 ألف طن ذرة ، وللأسف وردت إلى مصر في مواعيدها وكانت الأقساط تستحق بعد 18 شهر من وصول كل رسالة ومع ذلك تعذر السداد لدرجة أحرجتني فقد اتصلوا بي في القاهرة يطلبون احترام السداد وقد كانت فترة ندرت فيها العملة الصعبة في مصر .

تسلمت عملي في الإتحاد الإشتراكي العربي في يناير 1965 أميناً للرأسمالية الوطنية ثم كلفني جمال عبد الناصر بأمانة الشباب وكان أغلب أعضاء الأمانة يميلون إلى اليسار مما جعلني منفرداً وسطهم ومما أذكره أن في الاجتماعات مع السيد الرئيس كانوا يقولون كلاماً أبعد ما يكون عن الحقيقة ولما فقدت الأمل قررت أن لا اشترك في المناقشات لأن ذلك سيكون على حساب أعصابي . ولذا فقد رأيت أن آخذ الأدوية المهدئة ، والرئيس جمال عبد الناصر قوي الملاحظة وفي أول لقاء معه سألني عن نومي في الجلسات ، وكنت لا أخفي عنه شيئاً مهما كان فصارحته بألا يغضب مني أنني أتناول الأقراص المهدئة لأنني أسمع مناقشات بعيدة عن الحقيقة وأخشى من تأزم الموقف في حالة ردي وفي وجود الرئيس . .

واعتبرت أن من واجبي أن أكتب للرئيس عبد الناصر تقريراً عن الإتحاد الإشتراكي وخلصت فيه إلى أنه تنظيم ولد ميتاً ولا سبيل لإحيائه ، وانه لا مناص من حله ، وعجبي لأن الرئيس شاركني الرأي وقال لي أنه أعياه البحث عن حل للاتحاد الاشتراكي العربي .

استمرت الأيام وأنا متتبع لما يجري في الميدان السياسي من اتجاهات شيوعية من معتنقي اليسار أو من مدعين اليسار لمنافع شخصية . . إلى أن لاحظت خطورة الموقف الداخلي والخارجي فكتبت رسالتي في 30/4/1967 ورسالتي ف 1/9/1967 والتي جعلتها في صدر هذه الذكريات .

حين وصلت رسالتي إلى الرئيس وكان يوم خميس ، وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد بدأ يشكو من ثقل المرض فكان لا يعمل يومي الخميس والجمعة . . استدعاني فوراً للقائه بعد ظهر نفس اليوم 30/4/1967 ولم تكن لديه أية مواعيد أخرى إلا موعد مع الدكتور منصور فايز الذي اضطر للانتظار حتى تنتهي مقابلتي فسألني الرئيس عن فحوى خطابي .

فقلت له كل الأحداث الجارية تدل على أن مصر ستهاجم وأن هذه الحرب ستكون أعنف وأخطر من حرب 1965 وأبديت وجهة نظري كالآتي  :

( 1 ) إن الحكام في أمريكا – سيكون مكانهم مستشفى الأمراض العقلية – إذا لم يهاجموا مصر لخطورتها . . . فليس من المعقول أن تحارب أمريكا في فيتنام بدم أمريكي ومال أمريكي حتى تقف سداً منيعاً أمام انتشار الشيوعية . . ثم تترك مصر وقد أصبحت ساحة للنشاط الشيوعي وسنداً لروسيا . . ولا وجه للمقارنة بين فيتنام ومصر في كافة الوجوه ، فمصر قلب العالم العربي والعالم الإسلامي وأثرها البالغ في محيطها الأفريقي والأسيوي وفي قلب مناطق البترول عصب الحياة للشرق والغرب .

إن أمريكا بعد صدور القرارات الإشتراكية عام 1961 بما فيها التأميم لم تفسرها بأنها اتجاه للشيوعية . بل حرب ضد الشيوعية برعايتها للفقراء ومحدودي الدخل ولذلك استمرت المعونة الأمريكية لمصر وبنفس المقدار حتى عامين مضياً ، وعندما أعلنت قطع المعونة فإن ذلك كان إنذاراً لمصر بأن تبتعد عن طريق الشيوعية التي أصبح بعض البارزين في عالم السياسة المصرية حينذاك يدعون إليها ، ويطبعون المطبوعات التي تعّرف بالثقافة الشيوعية ، وفكر ماركس ولينين ، ثم يوزعونها على معسكرات الشباب والعمال . .

لقد كان عبد المجيد فريد يتباهى بأن الاستدعاء للعمال والشباب للقيام بواجب وطني لا يستغرق 6 ساعات ولقد قلت للرئيس أنك عندما قطعت أمريكا المعونة قمت بعدة تغييرات حتى يمكن أن تتحسن العلاقات مع أمريكا ، حيث غيرت علي صبري وأحللت مكانه زكريا محيي الدين كوجه يتقبله الأمريكان بدلا من علي صبري الذي يعتقدون أنه شيوعي .

( 2 ) قرار الحرب الذي اتخذته أمريكا عدا تاريخه ومن شواهد ذلك  :

أ - بناء ناقلات بترول عملاقه وهي لا تعبر قناة السويس وستتمكن من الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح دليل توقع الأمريكان إغلاق القناة .

ب - معدل استخراج البترول في ليبيا والجزائر زاد في السنوات الماضية حتى يسهل نقل البترول عن طريق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا دون الحاجة لقناة السويس .

ج - زاد احتياطي البترول في الدول الأوروبية بدلاً من أن يكون لمدة أسبوعين أو شهر ، بنيت له مخازن تسع احتياطي ستة أشهر حتى لا تتعرض هذه البلاد لأزمة عام 1956 عندما أغلقت القناة .

( 3 ) الجبهة الداخلية لدينا متهالكة ، وتنوء بالضعف ، بحيث لا يمكنها أن تواجه حرباً شرسة كالمتوقع حدوثها ، فيجب أن نسرع بالإصلاح الداخلي ورفع المظالم التي استشرت ولا رابط لها ولا حدود .

الانسحاب من اليمن

في زيارة ثانية للرئيس جمال عبد الناصر وبعد تفكير عميق ، طلبت منه أن يسافر بالطائرة فوراً إلى السعودية ويقابل الملك فيصل وأنا متأكد أنه سيرحب به ويعرض عليه فكرة الانسحاب المصري في اليمن وللرئيس جمال أن يذكر للملك أي تفاصيل يرغبها لإتمام هذا الاتفاق .

فقال لي لا أستطيع أن أتخذ هذه الخطوة دون استشارة أعضاء مجلس الثورة فقلت لسيادته أنه من حقه هذا ولكني ألفت النظر أن ما دعاني لهذا الاقتراح الأسباب الآتية  :

( 1 ) الكل يعلم عن عبد الناصر أنه لا يشتبك في أكثر من جبهة واحدة ، والكل في الداخل يعلم أنه متفرغ لحرب اليمن ولن يدخل في معركة داخلية وهؤلاء مطمئنون لذلك يعيثون في الأرض فساداً . حيث يعلمون تفرغك لمعركة اليمن وأنك لن تلتفت إلى قضايا الداخل ومن أجل ذلك يعيشون .

( 2 ) إرهاق الاقتصاد المصري فقد كانت حرب اليمن بحيث أن في كل عائلة قد يكون هناك شهيد فيجب أن يتوقف سيل الدماء علاوة على الإبقاء على أفضل الوحدات في اليمن .

( 3 ) الدم المصري المراق في اليمن بحيث أن في كل عائلة قد يكون هناك شهيد فيجب أن يتوقف سيل الدماء علاوة على الإبقاء على أفضل الوحدات في اليمن .

( 4 ) استغلال حرب اليمن في مصالح شخصية والاتجار مع عدن وشحن الطائرات العسكرية بأغراض لا علاقة لها بالحرب .

فأكد لي أنه موافق من حيث المبدأ ، ولكن لابد من استشارة إخوانه وفوجئت بالرئيس في الزيارة التالية يقول أن إخوانه رفضوا الانسحاب ، فقد صوروا له أن الانسحاب الآن بعد الخسائر المادية والبشرية دون تحقيق نصر نهائي قد يؤدي إلى اندلاع ثورة شعبية أو نقد شعبي خطير . . . فقلت لسيادته أني أشهد الله أني على حق .

ولكنها كانت إرادة الله أن تبقى أفضل وحدات الجيش المصري باليمن . ولا تكون في مواجهة إسرائيل في عدوان 1967 وهذا ما يشجع إسرائيل على العدوان فهي فرصة سانحة أن يكون الجيش المصري كالواقف على ساق واحدة . . وإن بعض مراكز القوى كانت المستفيدة من استمرار حرب المن في الحصول على الأموال والذهب بحجة التوزيع وشراء القبائل لتنضم إلى صفوف الجمهوريين ، كانت تستغل الموقف في تهريب البضائع والممنوعات في الطائرات الحربية وخاصة من عدن وإلى القاهرة . . ولذا فإن المصلحة الشخصية كانت وراء رفضهم ومعارضتهم لاقتراحي بتوجه عبد الناصر إلى الملك فيصل ، وإيجاد مخرج كريم للقوات المسلحة حقناً للدماء وحفظاً للأموال ، واستعداد لمواجهة العدو لمواجهة العدو الصهيوني .

مقدمات نكسة 1967

في عيد العمال 1 مايو 1967 أعلن جمال عبد الناصر أنه سيهب لمساعدة سوريا ضد أي هجوم عسكري وفي 15 مايو 1967 بدأ حشد القوات في سيناء وكان الجيش المصري بأفضل عتاده ووحداته مشتبكاً في اليمن منذ سنوات ، بمعنى أن هناك جزءاً قوياً من الجيش المصري خارج الوطن .

نشطت الأخبار المؤكدة لوجود حشود إسرائيلية ضد سوريا وهم يعلمون ضعف الرئيس عبد الناصر نحو سوريا منذ الانفصال ونشطت محطات الإذاعة وللأسف العربية أردنية وسعودية في مهاجمة جمال عبد الناصر واتهامه بإدعاء تحرير فلسطين وهو يحتمي بقوات الطوارئ الدولية في سيناء . . وأنه يدّعي تحرير فلسطين وهو لم يحرر المياه الإقليمية المصرية في خليج العقبة حيث تمر السفن الإسرائيلية رافعة أعلامها في المياه الإقليمية المصرية مما دفع الرئيس عبد الناصر إلى مطالبة قوات الطوارئ الدولية بالانسحاب من سيناء وكذلك أعلن إغلاق خليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية .

وأصبح الجو جو حرب وبدأت القوات المسلحة في التوجه إلى سيناء وتناثرت التهديدات من الصديق قبل العدو ، بأن الجميع ضد من يبدأ الحرب فأمريكا تحذر وروسيا تحذّر وكذلك باقي الدول تحذّر البادئ بالحرب ، وكان كل ذلك جزءاً من خطة موضوعة ، وفخ مدبر وغدر مبيت . .

أمريكا تحذر لتخيف مصر وتعطي لإسرائيل الفرصة لتضرب ضربتها لإجهاض أي قوة مصرية هجومية . . وروسيا تحذر حتى يزداد احتياج مصر لها بعد الضربة الأولى الإسرائيلية لتعويض السلاح ، وحتى تنجو أيضاً من المواجهة مع أمريكا . . فأمريكا مصممة على الانتصار الإسرائيلي . . وفي حالة توغل القوات المصرية لأي سبب في أراضي إسرائيل فإن الأسطول السادس الأمريكي سيكون مستعداً لعملية إنزال في شمال سيناء خاصة بعد وصول سفينة المخابرات ليبرتي التي قامت بالتشويش على اتصالات الجيش المصري وتعطيلها لتفقد القيادة المصرية السيطرة على قواتها وهي السفينة التي أغرقتها إسرائيل ليغرق معها دورها في حرب 1967 . .

ومن ثم تتيح لإسرائيل النصر وبذلك يخسر الاتحاد السوفيتي كل ما صنعه منذ تمويل السد العالي وحتى 1967 في مصر وتفق روسيا موقع التقدم الذي وضعته في مصر وقربها من المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط . .

وفي تقدير الاتحاد السوفيتي أنه لو قامت إسرائيل بتوجيه الضربة الأولى تكون الخسائر 25 % بحد أقصى وهذه يمكن استعواضها بسهولة ويسر وتزداد حاجة مصر إلى السلاح وترتبط مصالحها أكثر وأكثر بالاتحاد السوفيتي .

وفي تقدير الولايات المتحدة الأمريكية أن إسرائيل بتوجيهها الضربة الأولى فستحدث خسائر وهزيمة للجيش المصري يستحيل معها بقاء جمال عبد الناصر في الحكم وبذلك تتخلص من أعدائها في المنطقة . . فلا روسيا صح تقديرها والأمر لله من قبل ومن بعد . .

تميزت الفترة قبل نكسة 1967 بانتشار الظلم لدرجة لم تصلها من قبل وتنوعت أسبابه ودوافعه ، مما أجبرني على الخوض في هذا الموضوع مع الرئيس جمال عبد الناصر على الرغم من تحذير أنور السادات لي بألا أفاتح الرئيس في هذا الموضوع لأنه سيغضبه كثيراً ، وتعددت صور الظلم من فرض الحراسات إلى التعذيب في المعتقلات ، والافتراء على الله وعباده ناهيك عن زوار الفجر الذين يقتحمون البيوت الآمنة والاعتداء على حرمتها حتى النساء لم يسلمن من التفتيش وسلب مصوغاتهن ، بعد التفتيش الدقيق الذي كانت تجريه عادة ( مباحث الشرطة العسكرية ) .

ووصلت قمة الظلم بفرض الحراسة على كبار العائلات في ريف مصر وتحديد إقامتهم في القاهرة أو الإسكندرية دون أن يكون لهم جدار يأويهم في مكان تحديد الإقامة ، ودون أن يتدبروا أمور أولادهم وبناتهم واستكمال تعليمهم في مدارسهم . . . وفي بعض الحالات كانت تخصص بيوت هذه العائلات لأغرض حكومية حتى يمتنع عليهم العودة إلى مساكنهم في يوم من الأيام ومثال ذلك عائلة عبد الحليم الجندي من بني سويف الذي خصص بيته ليكون محكمة . وهو الأمر الذي جعل عبد الحليم الجندي يأتيني حاملاً شكواه من هذا التعسف ، فلما اتصلت بالسيد عصام حسونة وزير العدل في ذلك الوقت نفى حاجة وزارته لإنشاء هذه المحكمة وهكذا استمرت المظالم ، وما كان الله بغافل عما يعمل الظالمون ، والظلم ظلمات . .

لقد كان ينتابني فكر فيما يحدث . . . فكر انتهى إلى درجة اليقين بأن هذا الظلم كان من أهم أسباب هزيمة 1967 على الرغم مما نملكه من عتاد وسلاح ومقاتلين .

فقد حل غضب الله على الجميع ظالماً ومظلوماً إذ يقول الله عز وجل "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب" .

وتحضرني في هذا المقام ثلاث قصص ، لها دلالتها على هذه الفترة بتأكد بها كل من الحاكم والمحكوم أن الله عز وجل سيوقع عقوبته الشديدة على الجميع دون تفرقة . .

هذه القصص أرويها كما حدثت ، ولو أني أعترف أنه وقع ظلم في بعض الحالات على من تعرضوا للمحاكمة والسجن والله أعلم وكذلك أقر أن من حوكموا في عام 1967 وعام 1971 لم يحاكموا على ظلم اقترفوه فقد كان الصراع على السلطة وراء هذه المحاكمات :

أولاً : السيد أمين هويدي  : الذي كان وزيراً للدفاع ومديراً للمخابرات العامة وكان صديقاً حميماً زاملته في كلية أركان الحرب وهو طيب القلب دمث الخلق وخوفاً مني عليه اتصلت به تليفونياً وقلت له "هل أنت آمن ألا يدخل عليك زوار الفجر فيفتشون بيتك ثم يصحبونك إلى المعتقل أو السحن ويجرى عليك ما يجرى على سيء الحظ من المواطنين . . فقال لا آمن . . فقلت له أنصحكم لوجه الله ولأخوتي لك أن تتوقف عن المشاركة في أي ظلم لأن عقاب الله غير مأمون وحسابه عاجل وآجل . . فشكرني . .

وإذا بالأخ أمين الهويدي يقبض عليه ويحاكم سنة 1971 وتوقع عليه عقوبة السجن لسنة واحدة لأن الله كان أعلم بسريرته في الوقت الذي حكم على آخرين بالسجن المؤبد .

ثانياً : اللواء أ .ح . حسني عبد المجيد الضو  : مدير إدارة التوجيه المعنوي القيادة العامة للقوات المسلحة كانت تجمعنا صداقة ومحبة وطيدة ومعنا الأخ إبراهيم الطحاوي . وفي يوم من الأيام قبل النكسة فاجأني الأخ حسني عبد المجيد بسؤال لم نتوقعه . . قال : لقد فاتكم القطار ولازلتم منتظرين على رصيف المحطة فلماذا الانتظار ؟ فقلت له وهل تعرف أنت إلى أين يذهب هذا القطار ؟ . . فقال لا . . قلت له أن أعلم أنه متوجه إلى السجن فضحك ولم يعلق . . . وإذا باللواء حسني عبد المجيد يعتقل ويحاكم سنة 1967 ويحكم على بالسجن وقد كان يعتقد أن من لحقوا بالقطار هم أسعد حظاً .

وقد كان لي صديق يشكو دائماً من الظلم والظالمين فبعد أن أعيتني الحيل لإقناعه أن الله عز وجل يمهل ولا يهمل ، وأن حسابه وعقابه آت لا ريب فيه اقترحت عليه أن يكتب أسماء كل من يعتقد أن لهم علاقة بالظلم فكتب فعلا القائمة وظل ينتظر وإذا بالمشير عبد الحكيم عامر ومجموعته تعتقل فجاءني مهرولاً سائلاً . . أين الباقي ؟ فقلت له كل آت قريب انتظر قضاء الله وإذا بمجموعة 15 مايو سنة 1971 تعتقل ، وتحاكم وتسجن ولكن بعد مرور 4 سنوات على محاكمة المجموعة الأولى .

ثالثاً : قصة علي صبري نائب رئيس الجمهورية . . كان علي صبري يتمتع بكراهية شعبية شديدة ، لدرجة أن الشعب كان ينسب له كل شر وكل اتجاه شيوعي يحيق به وكان الرئيس جمال عبد الناصر بعلم ذلك حتى يصب الشعب جام غضبه على نائبه علي صبري وتنسب له كل الأخطاء فجاءني شقيقي في زيارة عائلية مهللاً ومستبشراً بأن الله عز وجل سيخلص البلاد من علي صبري ، وشره بعد أن أصيب بذبحة صدرية وهو في أسوان ، وأرسلت له طائرة خاصة لنقله إلى المستشفى بالقاهرة .

فقلت له إن الله عز وجل أعدل من أن يتوفاه الآن ، فإني واثق أن عدل الله لابد وأن يجري على علي صبري فيذوق من الكأس التي جرعها للمظلومين ، ولذلك فإنه لن يموت الآن ، ونجا علي صبري فعلاً من الموت ليرى بعينه زوار الفجر ويرى كيف يفتش بيته حتى حمام البيت . . يسألون عن ثمن كل شيء ويلقى به في السجن .

وأغرب مفاجأة لي كانت لقائي مع نجل علي صبري وقت أن كان في السجن في منزل خاله ضابط الشرطة جمال فؤاد الذي كان جاري في الإسكندرية فسمعت منه عن ألوان العذاب الذي يتعرض له والده علي صبري لدرجة كدت لا أصدقها فقد قال أن والده أجبروه على الشرب من نفس الإناء الذي يتبول فيه فتيقنت أن هذا اللقاء بتدبير الله عز وجل حتى أزداد يقيناً في عدل الله المطلق وعقابه الذي لا يخطئ وصدق الله عز وجل إذ يقول "ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" .

شمس بدران وزير الحربية

في مساء أحد الأيام وقبل 5 يونيو سنة 1967 فوجئت باتصال السيد شمس بدران في منزلي سائلاً أن أتدخل مع صديقي سفير المغرب في ذلك الوقت الدكتور يوسف بن عباس حتى يسمح له . .

أولاً : أن يبدأ العمل ابتداء من الساعة 9 صباحاً وحتى الساعة 4 مساء وذلك في الدور الذي يبنيه أعلى دار سكن السفير في عمارة فرنسوا تاجر وكانت مقر إقامة فرنسوا تاجر قبل أن يغادر مصر .

وثانياً : أن يسمح السفير بامتداد المصعد المخصص له ليصعد إلى الدور الأعلى الذي هو تحت الإنشاء . فسألت شمس بدران ومن هو الذي بنى فوق دار السفارة فقال أن هذا الدور يبنى له . . فأخطرته بأن منزل السفير مكون من 16 غرفة وأن إيجاره شهرياً عندما سألته 300 جنيه شهرياً فمن أين يأتي بالإيجار الشهري ومرتبه كوزير لا يتعدى 260 جنيه .

فقال أن طالب منك خدمة أرجو أن تؤديها لي ولا تشغل بالك بأي أمور أخرى وفعلاً اتصلت بسفير المغرب الذي أخطرني بأنه سجل محضر شرطة لوقف المباني فوق سكنه التي سببت له الإزعاج لأنهم لا يراعون مواعيد النوم والراحة ووافق على اقتراح شمس بدران .

ومرت الأيام وقبل النكسة في 5 يونيو سنة 1967 أرسل الرئيس جمال عبد الناصر وزير الحربية شمس بدران إلى الاتحاد السوفيتي لمعرفة موقفهم السياسي والعسكري من الأزمة الجارية واحتمالات الحرب وكان معه في الوفد المرافق السيد السفير أحمد حسن الفقي وكيل وزارة الخارجية في ذلك الوقت فلما عاد شمس بدران صرح في مجلس الوزراء أن الاتحاد السوفيتي معنا وأنهم مستعدون لضرب الأسطول السادس الأمريكي .

وطبقاً لتعبير شمس بدران "سيشفونه عظم ولحم" أي سيمزقونه ولكن السفير أحمد حسن الفقي كذّب ها القول وقال إن الاتحاد السوفيتي لم يعد بشيء إطلاقاً من هذا القبيل ، وأن شمس بدران أثناء زيارته كان مشغولاً كل الوقت بشراء أثاث ولوازم لمنزله دون أن يعلم السفير أحمد حسن الفقي قصة عمارة فرنسوا تاجر وأترك الحكم للقارئ ليتبين أن بطانة السوء كان لها أكبر الأثر في هزيمة يونيو سنة 1967 وأن إسرائيل لم تهزم جند الجيش المصري وإنما هزمت قيادة الجيش وألحقت بنا كل هذه الخسائر ، وكانت الهزيمة شر هزيمة لحقت بجيش في العصر الحديث .

نكسة 1967

القرار السياسي والواجب العسكري في الحرب

القرار السياسي يصدره رأس الدولة وهو رئيس الجمهورية ، ويحدد فيه واجب القوات المسلحة وواجب القائد العسكري هو الحفاظ على سلامة قواته العسكرية أولاً قبل الحفاظ على الأرض لأن الأرض يمكن استرجاعها مادامت القوات المسلحة سالمة . .

أما إذا فقدنا سلامة القوات المسلحة فلا نستطيع استرداد الأرض السليبة وتحل الهزيمة . . ومهما تقيد القرار السياسي بتوجيه الضربة الأولى أو عدم توجيه الضربة الأولى فإن واجب القائد العسكري الحفاظ على سلامة القوات المسلحة

أولاً وأخيراً . .

وهو ما لم يحدث في حرب 67 بل العكس هو الذي حدث ، فعلى الرغم من إنذار جمال عبد الناصر القيادة العسكرية بأن يوم 5 يونيو هو يوم العدوان على مصر فإن المشير عبد الحكيم عامر جمع القيادات كلها واستخدم الطائرة فحرم الدفاع الجوي من القيام بواجبه وأطلق يد الطيران الإسرائيلي في الهجوم فساهم في الهزيمة الكبرى بهذا العمل غير المسئول . . فضلاً عن أن ضباط الطيران أقيمت لهم حفلة ساهرة في أنشاص مساء 4/5 يونيو وسهروا فيها حتى الفجر فكانوا نياماً عندما وجهت الضربة لنا .

خطأ القرار السياسي والعسكري

أ - الإقدام على خطوات سياسية تعوذها الدراسة ، وفهم الواقع ، والوعي الحقيقي لمتطلبات المعركة فطرد قوات الطوارئ الدولية من سيناء كما أغلق مضيق تيران وخليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية مع عدم الأخذ في الاعتبار أن هذه القرارات ستؤدي إلى حرب مع إسرائيل .


ب - لم تتحوط القيادة السياسية من موقف الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ومؤازرتها لإسرائيل دون حدود إذ أن إسرائيل هي الذراع الطويل لأمريكا في المنطقة .

لم تتأكد القيادة السياسية من وجود حشود إسرائيلية ضد سوريا فقد كانت الأنباء متضاربة في هذا الشأن وكان ذلك جزء من الفخ المدبر .

ج - لم تنتبه القيادة السياسية إلى الفخ المدبر لمصر قبل أن تصدر أي قرارات خطيرة تمكن العدو منا ، خاصة وأن التآمر على مصر دائما وفي التاريخ لا يسمح بقيام قيادة أو قوة قادرة في مصر ذلك ما تعرضنا له هو عظيم الشبه بما جرى لمحمد علي حينما اجتمعت ضده أساطيل كل الدول لتغرق أسطوله في مياه نفارين .

د - لم تعلن القيادة السياسية للشعب المصري حقيقة الاتفاق في أعقاب حرب 1956 من السماح للسفن الإسرائيلية بعبور خليج العقبة أمام شرم الشيخ في مياهها الإقليمية ، واحتفظ بالأمر كسر ، مما اضطر القيادة السياسية وبعد هجوم إذاعات الدول العربية ( الأردن والسعودية ) على جمال عبد الناصر وانفضاح السر الذي لا يعلمه الشعب ، وكان الإقدام على إغلاق ومنع السفن الإسرائيلية من العبور وهذا السبب الذي أعلنت إسرائيل أنها ستحارب من أجله .

ه – اتخاذ القيادة السياسية لهذه القرارات دون أن تأخذ في اعتبارها وجود قوة ضاربة مصرية كبيرة في اليمن ما يحرم الجيش المصري من صفوة قواته وكذلك لم تأخذ في اعتبارها حالة الجيش المتردية تحت قيادة المشير عبد الحكيم عامر .

و – التباهي بالقوة في الاستعراضات العسكرية وامتلاك الصواريخ بعيدة المدى مما يهدد إسرائيل الذي ضمنت الولايات المتحدة تفوقها على كل البلاد العربية في السلاح ، مما جعل إسرائيل تستغل ذلك في الحصول على أكبر دعم عسكري في تاريخها .

ط - لم تلتزم إسرائيل بقرار عدم توجي الضربة الأولى والتزمت مصر بذلك ولو كانت قد جمعت عن طريق المخابرات معلومات دقيقة عن الحشد الإسرائيلي الهجومى ما التزمنا بقرار الضربة الأولى .

ظ – التردد بين قرار توجيه الضربة لإسرائيل ثم الالتزام بعدم توجيه الضربة الأولى لإسرائيل وضع القوات المسلحة في وضع عجيب أثناء الحشد بحيث أصبحت القوات المسلحة في 5 يونيو 1967 لم تنتشر كوجه من أوجه الحرب المعروفة وهي التقدم والهجوم والدفاع والانسحاب بل كانت في وضع عجيب أسميه الوضع الخامس أو الفوضى التي لابد وأن تؤدي إلى الهزيمة .

ك – المظاهرات العسكرية التي صاحبت خروج القوات المسلحة في شوارع القاهرة علناً دون استخدام مبدأ المفاجأة للعدو والتفاف الجماهير حولها .

صباح 5 يونيو 1967

اتصل بي الدكتور عزيز صدقي وأفادني أنه اتفق مع إبراهيم الطحاوي والدكتور حاتم على اللقاء وأنه يدعونا للتوجه إلى منزله لمتابعة أخبار الحرب بعد بدء الغارات الجوية فتوجهت إلى هناك حيث استمعنا إلى الإذاعات الأجنبية وتقارير القوات الإسرائيلية وتحطيمها كل المطارات وتدميرها كل الطائرات الحربية .

قمت بتكذيب هذه التقارير التي لم أصدقها وذلك لأنني في أعقاب حرب 1956 وفي اجتماع مع الرئيس عبد الناصر وكان يحضره المشير عبد الحكيم عامر تقرر أن كل طائرات سلاحنا الجوي ستبنى لها مخابئ محصنة وفي تصوري أن هذه الغارات لم تدمر إلا الطائرات الهيكلية التي توضع للخداع وأن قواتنا الجوية ستقوم بعد ذلك بالهجوم المضاد .

ولما عدت إلى منزلي وكلي أمل في أن نرد الضربة الجوية اتصلت باللواء حسني عبد المجيد الضو للاطمئنان وهو من رجال قيادات القوات المسلحة فقال لي ماذا تقصد بالهجوم المضاد الذي تشنه طائراتنا . لقد فقدنا السلاح الجوي بأكمله عدا بعض القاذفات التي طارت إلى السودان . . ومنذ هذه اللحظة بدأت إصابتي بالانهيار العصبي ونوبات البكاء التي لم تنقطع طوال ثلاثة أشهر .

وفكرت بضرورة مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر فقابلني فاقترحت عليه استخدام الصواريخ قاهر وظافر . فإن لم تستخدم الآن فمتى ستستخدم فأجابني إجابة كدت أسقط مغشياً علي من هول ما سمعت وهي أن هذه الصواريخ التي اتهمنا بامتلاكها ينقصها بعض التوجيه فلو أخطأت قد تنفجر في أراضينا لا أرض العدو . وأذكر أنني قلت للرئيس بالحرف الواحد  : ( ( لقد اكتشفت يا سيادة الرئيس أنني كنت سائحاً أجنبياً ترانزيت في مطار القاهرة ولم أر الهرم ) ) . فقص علي الرئيس جمال عبد الناصر شكواه من المشير عبد الحكيم عامر وكيف أنه أضاع البلد على حد قوله وانتهت المقابلة ليزداد انهياري العصبي ودموعي الحارة على وطني وما حاق به من هزيمة نكراء .

وفي زيارة لاحقة خلال شهر أغسطس طلب مني الرئيس عبد الناصر كتابة تقرير يوضح كيفية الخروج من هذه الكارثة ، فأغلقت بابي مدة أسبوع لكتب التقرير المؤرخ في 1/9/1967 والذي هو في صدر الكتاب .

لقد استدعاني الرئيس عبد الناصر لمناقشة التقرير ، وفي البداية قال لي أنني بذلك قد عزلته من رئاسة الجمهورية ، فقلت حاشا لله أن يكون هذا الخاطر قد راودني ولكني أعلم أنه لن يجرؤ أحد ممن حوله أن يقول له مثل ما قلت ، وأخبرته أن سبب ذلك يرجع إلى حبي وإخلاصي له وأني ما تصورت أبداً أن أستبدله برئيس غيره . . . لقد صارحته بالحقيقة . أن الرئيس لا يملك ثمني وبذلك فإني أستطيع أن أقول ما أعتقد أنه الحق ، وأن المصلحة العامة تقتضيه . . . ثم سألني دون تردد ماذا تقصد بكلمة الثمن . . . فأجبته أن كلمة الثمن في حالتنا هو ما تعنيه عبارة ( سيف المعز وذهبه ) فأولاً أنا لست طامعاً في أي منصب ولو قام الرئيس إلى مكتبه الآنن ووقع قرار بتعييني نائباً لرئيس الجمهورية ما اهتزت شعرة واحدة وهذا هو الثمن المعنوي والأدبي الذي يتسابق إليه الكثيرون ، وهو ما يعبر عنه بـ ( سيف المعز وذهبه ) أي السلطة والحكم . أما ( ذهب المعز ) أي الجانب المادي وهو المال فقد عشت مع الرئيس عبد الناصر بتجربتين ماليتين . . الأولى في أحداث 25 مارس حينما عرض علي وأنا في هيئة التحرير إرسال مبلغ 50 ألف جنيه فرفضت وقد كان هذا المبلغ في عام 1954 يمثل في حد ذاته ثروة كبيرة لأي إنسان . . ولقد كان ما أنفق قعلاً على هذه الحركة ليس إلا أربعة آلاف جنيه وقد يمكن قبول المبلغ وإنفاق 4 آلاف جنيه والاحتفاظ بالباقي 46 ألف جنيه ولكن لم أفعل ذلك . . .

أما التجربة الثانية فقد كانت عندما اختارني الرئيس عام 1965 لرئاسة بعثة واجبها إنقاذ مصر من الجوع بعد أن قطعت أمريكا معونة القمح وعرض علي الرئيس جمال عبد الناصر أي مبلغ من الدولارات قد أحتاجه للتأكد من عقد صفقة القمح والتي قد يقدر ثمنها بعدة ملايين – ولكنني رفضت بحجة أنني أتقاضى بدل سفر وبدل تمثيل وأني لو احتجت لهذا المدد فسأطلبه من السفارة المصرية كان ذلك حتى أكون بعيداً عن القيل والقال ، وأظل بمنأى عن الشبهات .

وبذلك يتضح للرئيس أنني لا أشترى بالمال ولا بالسلطان في الوقت الذي اعترفت فيه للرئيس أيضاً بأنني شكوت له قلة مرتبي وأنا وزير للأوقاف فقد كنت أتقاضى 254 جنيه شهرياً وهي لا تكفيني أنا وعائلتي وأنا لست لصاً ولا مرتشياً فقرر الرئيس فوراً صرف مائة جنيه علاوة على مرتبي . . وهذا دليل على أن مطامعي في الحياة لا تتعدى الستر . . ، ثم انتقل الرئيس جمال عبد الناصر إلى نقطة ثانية وهي المقارنة بين الحكم الآن ومسئولياته الجسيمة ، من سياسة واقتصاد وصناعة وتجارة وأعباء مقارناً بين الحكم أيام سيدنا عمر بن الخطاب والحياة اليوم وقضاياها فقلت له إن عمر بن الخطاب أقام العدل في دولة أصبحت حدودها مترامية دون وسيلة اتصال تليفوني أو لاسلكي أو طائرات أو سيارات . .

وأما عن قيام الأحزاب فاعترض قائلاً إن مشروع كهربة خزان أسوان استغرق أكثر من ثلاثين عاماً لتنفيذه بسبب الأحزاب وقد نفذنا السد العالي فور اقتناعنا له . وذكر لي أنه عين السيد زكريا محيي الدين رئيساً للوزارة فكانت النتيجة أن زكريا عزله من رئاسة الجمهورية وأصبح لا يدري من أمر البلد شيئاً . . . . ثم وعدني بأنه سيضع تقريري موضع الاهتمام .

سألني كيف وصل التعليم أن مصر ستهاجم بل تأكدي من ذلك ، وهل كان هناك مصدر لهذه المعلومات ؟ فقلت للسيد الرئيس إن علم السياسة وعلم الحساب شيء واحد ، وما يصح في علم الحساب يصح في علم السياسة وأن الخطأ الجسيم في السياسة هو ألا نخضعها لعلم الحساب فكل شيء يحسب حسابياً . فإذا كان 1 + 1 = 2 فلا يمكن أن يكون عشرة في السياسة .

مظاهرات 9 – 10 يونيو 1967

كان رد الفعل الشعبي على خطاب التنحي طبيعياً وتلقائياً ، وقد أعطيت مثالاً برجل أعمى يساعده رجل بصير وإذا بحفرة كبيرة يقع فيها الأعمى وهو شديد الثقة بالمبصر الذي أسلمه قيادته وكان يقوده من نصر إلى نصر ، ولذا فإن رد الفعل الطبيعي أن المبصر لو أخبر الأعمى أنه سيضطر لتركه لثار الأعمى ونادى على المبصر ألا يتركه في هذه الكارثة . . . . لقد كان ذلك تماماً هو ما حدث لجماهير الشعب . . . والتي عندما استمعت لخطاب التنحي خرجت في مظاهرات عارمة ، وهنا أقطع بأن تلك المظاهرات كانت شعبية ورد الفعل كان طبيعياً جداً ، وأن المظاهرات التي حدثت لم ينظمها أحد ولا يستطيع أن ينظمها أحد ممن كانوا موجودين في السلطة حول جمال عبد الناصر . . وهم الذين عجزوا عجزاً كاملاً ولم يتبعهم مواطن واحد عندما أرادوا إخراج المظاهرات في 15 مايو 1971 لتأييدهم والعمل لحسابهم شخصياً ، ضد أنور السادات ، بعد أن قدموا جميعا استقالاتهم . . . أملا في أن يكون هناك رد فعل وكانت النتيجة هي الفشل الذريع .

الثقة

اهتزت ثقة جمال عبد الناصر فيمن كان حوله قبل 5 يونيو سنة 1967 ، وأراد أن يستعين بأعضاء مجلس الثورة القدامى الذين تركوا مناصبهم كنواب لرئيس الجمهورية .

وضمن من استدعاهم نائب رئيس جمهورية سابق وهو السيد كمال الدين حسين ، ومعروف عنه لونه الإسلامي وعرض عليه أن يكون قائداً للمقاومة الشعبية وأن ظروف مصر تفرض على الجميع أن يتناسوا الخلافات ويعملوا على إنقاذ مصر مما أحاق بها فرفض كمال الدين حسين . وفشلت محاولات عبد الناصر معه ، وشعرت – حين كان – عبد الناصر يروي لي هذه القصة أنه متألم أشد الألم ، وأنه بدأ يفقد الثقة فيمن حوله ، فخشيت عليه من أن يفقد الثقة في نفسه أيضاً وتكون الكارثة الكبرى لأنه الآن هو المسئول وحده عن إزالة آثار العدوان . فقررت دون أن أخطره أن أزور السيد كمال الدين حسين وكانت أول وآخر زيارة لي في منزله . . لعلي أستطيع إقناعه حتى يستعيد عبد الناصر الثقة المفقودة ، فرفض مصمماً على رأيه على الرغم من أني قلت له أن موقفه هذا يتعارض مع دينه وإسلامه وواجبه نحو وطنه ، ولكنه لم يقتنع للمرارة الشديدة التي كان يشعر بها ويعانيها طوال سنوات ساءت فيها العلاقة بينه وبين عبد الناصر .

وهنا أتوقف وأقول لا يجوز أن تكون الصداقة بلا حدود تعمي عن العيوب . . . كما لا يجوز أن تكون العداوة بلا حدود فتعمي عن الفضائل . . . وتترك آثاراً دامية لا تعالجها الأيام . . . وقد كان الرئيس عبد الناصر في غنى عن متاعب كثيرة وخطيرة لو تذكر ذلك .

التنصت على عبد الناصر

كنت في زيارة للرئيس جمال عبد الناصر ، وكنا في غرفة مكتبه وبعد دقائق من جلوسنا طلب مني جمال عبد الناصر أن أخرج معه للخارج فذهبنا إلى الحديقة الملحقة بالمنزل ، وكانت تلك أول مرة يطلب مني الرئيس فيها الخروج من مكتبه فتعجبت من هذا الطلب ، وإذا بالرئيس يجيب على تساؤلي الباطن فيقول أنه اكتشف أنهم يسجلون مكالماته التليفونية كلها ولذلك أراد أن يحدثني دون أن يسجل اللقاء . . . وأثناء الحديث شعرت أن الرئيس في حالة عصبية وإذا به يقول لقد اكتشفت أن فلاناً المحافظ السابق والسفير السابق من عملاء المخابرات الأمريكية ، وأنه صعق عندما طلب نائب رئيس المخابرات الأمريكية الذي حضر خصيصاً لمقابلة الرئيس لرجائه في أمر – يخص ضابط الشرطة والسفير السابق والمحافظ السابق وأن الرئيس بدأ شكه فيمن حوله يأخذ اتجاهاً جديداً .

اجتماعات ما بعد النكسة في الإتحاد الإشتراكي

كُلفنا بعقد اجتماعات سياسية وقسمت المحافظات على أعضاء الأمانة لاستعادة ثقة الشعب في النظام ، بالإضافة إلى أماناتهم فكانت تخصني أمانة الرأسمالية الوطنية وأمانة الشباب فراعني أن السؤال الذي كان يتردد في أغلب هذه الاجتماعات مع اختلاف نوعية المجتمعين هو . . . هل الله مع إسرائيل وضدنا كمسلمين . . ؟

مما يدل على انهيار الثقة فهوت معنوياتهم ، وتزلزل إيمانهم ، واضطربت مشاعرهم ، ولقد كانت إجابتي دائماً أن الله لم يكن مع إسرائيل ولكنه أيضاً لم يكن معنا بعد أن تركنا طريقه ودينه . . . وسنة الله هي أنه إذا لم يكن المقاتلون مؤمنون به حقاً فإنه يترك الخصمين أو العدوين لظروف المعركة دون عونه ، فتكون الغلبة للعدد والعدة والعتاد أي إلى ظروفهم المادية البحتة .

عزم الرئيس عب الناصر على إلقاء خطاب سياسي أمام مجلس الأمة يوم 23 نوفمبر 1967 واستدعاني للمناقشة فيما يحب أن يعلنه في هذا اليوم لكي يقوي الجبهة الداخلية ويدعم الثقة في تلك الفترة الحرجة بعد خطابه في 23 يوليو 1967 ، فقلت لسيادته مقترحاتي وطالبته بالتنفيذ بعد إلقاء الخطاب وفعلاً حل الحزب الاشتراكي المعين على أن يكون الانتخاب مباشراً كما جاء في بيان 30 مارس 1968 ولو أن نتيجة الانتخاب أتت بالمعينين من قبل علي صبري بطانته . .

النقل إلى رئاسة الجمهورية

أبديت رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في أن أترك مكاني في الإتحاد الإشتراكي العربي لأني لا أشعر بالراحة والاطمئنان في عملي راجياً أن يتم نقلي إلى رئاسة الجمهورية فتم نقلي من وزارة الخارجية التي كنت ولازلت – في وقته – مقيداً كسفير بها إلى رئاسة الجمهورية بنفس درجتي وهي درجة الوزير المالية . . ومن هذه الفترة وحتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر لم أقم بعمل يذكر .

وفاة جمال عبد الناصر

في مساء يوم 28/9/1970 أذيع خبر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر فحزنت حزناً شديداً فقد فقدت مصر زعيماً قل أن يجود الزمان بمثله وطنية وشرفاً وإخلاصاً وعزة نفس وقناعة وعفة وتصميماً على خدمة شعبه بكل ما استطاع من قوة وإرادة .

فهو لم يستمتع بالحياة كما استمتع الآخرون . . . ويمكن القول أنه ما استمتع إلا بالسلطة التي مارسها ولكني أصبحت في شك من هذه السلطة المطلقة كما تصورت فقد حدث أثناء لقائي بجمال عبد الناصر أيام أزمة المشير عبد الحكيم عامر أنه قال أن كل تقاريري السابقة محفوظة في خزانته .

ولكنه يسألني هل أجابني على أي منها فقلت له  :

والله يا ريس أن ذلك الأمر كان يحيرني وكنت أقول في نفسي إذا كان التقرير حقيقة فلماذا لا يعلق الرئيس قائلاً أنه سيصلح الأمور . . . وإذا كان التقرير باطلاً فلماذا لا يواجهني بأنني قد جانبني الصواب . . فقال لي الرئيس جمال عبد الناصر . . الآن أستطيع أن أصرح لك بأنني ما استطعت التعليق لأني وأنا رئيس الجمهورية كنت مغلوباً على أمري من المشير وعصابته . وفي نفس الوقت كنت لا أستطيع أن أصرح لك بذلك حتى لا تنقله إلى أي شخص من أقربائك أو أصدقائك وهذا ليس من المصلحة العامة في شيء كما أنه يحرجني إحراجاً شديداً .

بعد سماعي نبأ وفاة عبد الناصر توجهت فوراً إلى منزل الرئيس فوجدت عدداً كبيراً من المسئولين وكان مكاني بجوار الفريق الدكتور محمد رفاعي أخصائي القلب ورئيس الخدمات الطبية في القوات المسلحة سابقاً . فأسر لي بأنه يرفض التوقيع على التقرير الطبي الخاص بالوفاة لأنه لا يمثل الحقيقة فعبد الناصر لم يمت بسبب أزمة قلبية . . . بل بسبب نوبة مرض السكر الذي كان يعاني منه وتم علاجه على أساس أنها أزمة قلبية والأدوية التي نستعملها للأزمة القلبية خطرة على مريض السكر وأن الرئيس لو ذهب إلى مستوصف باب الشعرية ورآه ممرض لعلم أنها نوبة سكر ولعالجه بإعطائه مادة سكرية فوراً .

فنصحته بأن الوقت لا يسمح برفضه التوقيع وأنه في جميع الحالات قد مات عبد الناصر بأزمة قلبية أو بنوبة سكر فالنتيجة واحدة حتى لا يتسبب في بلبلة والوقت غير مناسب فوقع على التقرير الطبي .

وأني لأتصور أن الله سبحانه وتعالى في أجل جمال عبد الناصر لكان من حظ مصر لأنه قد تبين له كل الأخطاء التي مرت بها ثورة يوليو فإنه عزم بعد خوض المعركة العسكرية ضد إسرائيل والذي كان يعد لها عدتها على أن يتفرغ للإصلاح السياسي والاقتصادي تماماً وسترتفع أعلام الحرية والكرامة والعزة في ربوع الوطن وهذا ما سمعته منه قبل وفاته .

السادات قدر مصر من مايو 1971 إلى المنصة

كان أنور السادات آخر من يتصور أن أحداً من الضباط الأحرار يمكن أن يفكر يوماً ما في أن يخلف السادات جمال عبد الناصر ، بل إن جمال نفسه لم يتصور أن يخلف أنور السادات لكن المنية عاجلته . . ولم يتدخل في هذا الاختيار بشر ، وإنما كانت إرادة الله وتطبيق للآية الكريمة ( ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء ، بيدك الخير ، إنك على كل شيء قدير ) ) .

كان لي صديق عزيز هو السيد مصطفى فوده ولسوء حظه صدر قرار بوضعه تحت الحراسة في عهد جمال عبد الناصر ، ولما كانت تربطه علاقة وثيقة للغاية بالسيدة أم كلثوم التي كانت أثيرة الرئيس جمال عبد الناصر فقد توسطت له ، ورفع من الحراسة ، وقد تكون هذه هي الحالة الوحيدة .

فلما توفي جمال عبد الناصر أصاب مصطفى فودة الذعر والقلق خوفاً ممن سيأتي بعد عبد الناصر . فأخذ يداوم على السؤال عني في هذه الفترة حتى وجدت فرصة لزيارته فأخبرني أنه يريد أن يعلم من سيأتي بعد عبد الناصر حتى لا يتكرر وضعه في الحراسة ثانية .

فأخبرته عن اعتقاد ألا يهتم بمن سيأتي ، فأيا ما كان سيأتي ليحل محل عبد الناصر في كرسيه فسيصبح ديكتاتوراً ولكن بون حسنات عبد الناصر ، ولو كان معزة ( عنزه ) .

وجاء أنور السادات لينفذ اعتقالات 28 سبتمبر 1980 وظل يفتخر بأنه اعتقل كل رؤوس مصر من كل الاتجاهات والتيارات . . مسلمين وأقباط ولم يتحرك فرد باحتجاج أو مظاهرة . . ودار هذا الحوار بيني وبين الشيخ الشعراوي والأستاذ سيد جلال عضو مجلس الشعب وأحمد أبو شقرة وقد كان لقاؤنا في محل أبو شقرة وقلت لا يوجد مجنون يعرض نفسه للبطش ، ولكني أؤكد أن أنور السادات لأنه أجبر كل التيارات على النزول تحت الأرض ، وجمع بينهم على اختلاف مذاهبهم وألوانهم في خندق واحد . تولى أنور السادات الحكم ولم يغير في الأشخاص والمناصب التي كانت تحيط بجمال عبد الناصر ، بل حاول استمالة هؤلاء حتى تستقر له الأمور ولقد كانت أحداث حكم أنور السادات حتى خروجي إلى المعاش في نهاية عام 1974 تتلخص في الآتي :

15 مايو 1971

بدأ الصدام بين أنور السادات وهذه المجموعة المكونة من علي صبري وآخرين كسبب مباشر لعدم الثقة وتفجرت الأزمة حيث أراد أنور السادات عقد وحدة مع ليبيا واعترضت المجموعة وعلى الرغم من أن التصويت في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي كان في صالح المجموعة إلا أن أنور السادات تمادى في تصميمه .

وفي هذه الأزمة وعلى سبيل التحديد والتأكيد فإن النصر لم يكن فضله يعود إلى أنور السادات بل ، كان الفضل فيه كل الفضل يعود إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وهو في قبره . . . وذلك أنه حينما اختار جمال عبد الناصر هذه المجموعة لتكون حوله ، كان تقديره الأول في اختياراته هذه إنما هو تأمينه شخصياً ضد الخيانة ، وضد أي تحرك ضده من معاونيه ولقد كانت السمة الواضحة في الاختيار هذه الصفة المشتركة لدى الجميع دون استثناء . . . هي  :-

  • أنهم لا يتمتعون بقسط وافر من الذكاء وحسن التصرف فهم يقادون ولا يقودون ، منفذين للتعليمات لا مخططين لها .
  • أنهم لو اجتمعوا جميعا لوضع خطة تهدد عبد الناصر لفشلوا في وضع الخطة .
  • أنهم إذا نجحوا في وضع الخطة فلن يستطيعوا تنفيذها .
  • أنهم جميعا لا يتمتعون بشعبية تساندهم عند الحاجة بل يتمتعون في الوقت نفسه بقسط وافر من عدم الثقة فيهم .

أن للبعض مثالب يعرفون أن جمال عبد الناصر يعلمها جيداً وأنه يمكنه استخدامها ضدهم في أي وقت . ولأضرب لذلك مثلاً فعندما أمر جمال عبد الناصر الجمارك بتفتيش أمتعة علي صبري وهو نائب رئيس الجمهورية عند عودته من الخارج في مطار القاهرة الدولي ، لم يكن يصنع ذلك لو لم يعلم عبد الناصر حقيقة ما كان يصنع علي صبري وإلا ما أعطى هذه التعليمات .

وحتى لا أدخل في تفصيلات كثيرة ، فقد صدق ونجح جمال عبد الناصر في إدراك توافر هذه الشروط في تلك المجموعة . . . ولذلك فإنه حين تفجرت الأزمة مع أنور السادات كان ملخص هذه المجموعة فقط أن يقدموا استقالات جماعية على أن يتبعها رد فعل شعبي أي مظاهرات شعبية كأحداث مارس 1954 دون أن يعدوا لذلك شيئاً .

إن من العجيب أن يستقيل كل مسئول من هؤلاء وهم يملكون القوة العسكرية سواء كانت قوات مسلحة أو داخلية أو إعلام أو اتحاد اشتراكي أو مجلس الشعب . . وهم أصحاب السلطة الفعليين وكان يمكنهم عزل أنور السادات لو أرسلوا دبابة وفصيلة جنود إلى منزله وإعلان عزله .

ولكنهم بدلاً من عزله ، استقالوا وتركوا السلطة كلها بين يديه ، ليستخدمها في القضاء عليهم ، أما عن تدبير مظاهرات شعبية فقد حاولوا فعلا وفشلوا فشلاً ذريعاً في خروج مواطن واحد ليقف إلى جانبهم .

وبذلك انتصر أنور السادات ودانت له السلطة بفضل جمال عبد الناصر وجمال عبد الناصر فقط . ذلك الذي اختار مجموعة لم تكن لها مبادرتها السريعة وتفكيرها الذكي . . . وكان ذلك أيضاً من حظ أنور السادات . . أو تصادف الأقدار .

الإعداد للحرب وقرار حرب 1973

للتاريخ وللحقيقة أن المدبر الحقيقي الذي خطط لهذه الحرب وأعد لها خطتها وقواتها هو جمال عبد الناصر وليس أنور السادات الذي انحصر دوره في تحديد يوم الحرب بعد التأجيل عدة مرات ولأسباب واهية خوفاً من اتخاذ قرار الحرب .

وباتخاذ قرار الحرب أخيراً حصل أنور السادات على فضل قرار الحرب ولكن . . كان تدخل أنور السادات في العمليات العسكرية البحتة هو السبب الحقيقي في عدم تحقيق القوات المسلحة نصراً عزيزاً على إسرائيل وبذلك طغت القيادة السياسية على القيادة العسكرية . . خاصة وأن المشير أحمد إسماعيل الذي قاد الحرب كان يتميز بشخصية عسكرية تلتزم بتنفيذ الأوامر والأوامر فقط .

ومن أمثلة تدخل أنور السادات عسكرياً هو إصراره على سحب الاحتياط من الضفة الغربية لتطوير الهجوم بحجة التخفيف على سوريا – مما أعطى الفرصة لإسرائيل للعبور وصنع الثغرة ، وقد عارض الفريق سعد الدين الشاذلي وبقية القادة وفي النهاية تم تنفيذ قرار أنور السادات وهو قرار عسكري بحت لا يملكه ، وأطاعه المشير أحمد إسماعيل مما تسبب في صنع الثغرة .

وكان موقف الفريق سعد الدين الشاذلي عندما نجحت إسرائيل في صنع الثغرة موقفاً صحيحاً للغاية من الناحية العسكرية . . لكن تدخل أنور السادات . . حوَّل نصر أكتوبر من نصر بلا حدود إلى نصر محدود ، مما أضعف مركز المفاوض المصري فيما بعد لمطالبته بانسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الغربية . . وكذلك حدث في مفاوضات فك الاشتباك ، إذ أدى موقف أنور السادات إلى بكاء المشير الجمصي في ذلك الوقت إبان مفاوضات الكيلو 101 وهو ما تكرر كما سنرى في اتفاقية السلام مع إسرائيل حيث استقال اثنان من وزراء الخارجية إسماعيل فهمي وإبراهيم كامل وهما من الأكفاء الوطنيين بسبب استسلام أنور السادات بعد زيارة القدس وكامب ديفيد .

زيارة القدس واتفاقية السلام

لا يمكن عند دراسة اتفاقية السلام وزيارة القدس ألا نخرج بنتيجة سوى استرداد سيناء ، والتي كان يمكن أن نستردها لو استمرت القوات المسلحة في تحرير سيناء .

وكان ثمن استرداد سيناء غالياً جدا بعد أن تمكن إسرائيل من تنحية مصر وإخراجها من الميدان لتنفرد هي بالدول العربية لتحقيق مطامعها الاستعمارية والعدوانية . . ومما يثبت ذلك أن الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد حرب 1967 لا تزال محتلة حتى الآن ، الضفة الغربية ، القدس وهضبة الجولان بل لم تكتف إسرائيل بذلك حيث قامت بالتوسع واحتلال لبنان ثم البقاء في منطقة حيوية في الجنوب اللبناني بحجة الأمن ولكنها في الحقيقة لأطماع أخرى .

بل انتهز مناجم بيجين فرصة زيارته لمصر واجتماعه بأنور السادات لتقوم إسرائيل بضرب المفاعل الذري العراقي كي يبدو العدوان وأنه تم بالاتفاق مع مصر .

قبل أنور السادات أن تكون سيناء منطقة منزوعة السلاح ولا يتواجد بها إلا قوات للشرطة وكأن سيناء ليست بجزء من مصر يحق لنا الدفاع عنها وحتى تكون سهلة المنال في أي عدوان إسرائيلي مباغت ، فإسرائيل لن يهدأ لها بال إلا باحتلال سيناء لأنها هدف توسع ديني قبل أن يكون هدفاً عسكرياً لتكسب إسرائيل به عمقاً يؤمنها ضج مصر ، وقاعدة لأي عدوان على مصر وللأسف الشديد لم تحدد منطقة منزوعة السلاح في جانب إسرائيل ولو منطقة صغيرة حفاظاً على الكرامة الوطنية – التي دأب السادات على امتهانها وخاصة بعد حرب سنة 1973 بدلا من الاستفادة منها . كما نوضح بعد .

ويحضرني هنا ما نشر في مجلة نيوزويك أمريكية في أسبوع وفاة أنور السادات حيث نعى كثير من قادة العالم أنور السادات وأوضحوا بعض القصص عن علاقتهم به .

وكان مما أثار غضبي حقا هو أن السفير الأمريكي المتنقل في ذلك الوقت بين مصر وإسرائيل صرح في هذه المجلة بأنه أثناء زيارة له لبيجين طلب منه بيجين طلباً معيناً لم يفصح السفير عنه فاعتذر السفير لأنه يعتقد أن أنور السادات سيرفض هذا الطلب . . ولكن أصر بيجين على طلبه فلما فاتح السفير الرئيس أنور السادات في هذا الشأن كان رده أنه لا يوجد مسئول واحد في مصر يقبل هذا الطلب وطلب من السفير إبلاغ بيجين قبول السادات لهذا الطلب .

ويا للهوان فأي تفريط في كرامة مصر وعزة مصر ويا للمهانة أن يوافق الرئيس السادات على أمر هو متأكد من أن يرفضه كل المسئولين . . ولحساب من يوافق السادات ، لحساب إسرائيل . . وأنا أفهم أن الرئيس السادات قد يصدر قراراً خاطئاً وهو لا يعلم بأنه خاطئ ، ولكنه حين يصدر قراراً وهو يعلم تماماً بأنه خطأ وخطيئة في حق وطنه وكرامة وطنه .

الانفتاح الاقتصادي

وهي السياسة التي تبناها أنور السادات وكانت حقاً أريد به باطل لأنه كان انفتاح الشر والفساد والرشوة والثراء الحرام واستغلال النفوذ ولم تسلم عائلته من هذا الجرم فقد حوكم شقيقه عصمت السادات الذي كان يئن من الفقر والعوز فإذا به وقد أصبح يملك مئات الملايين من الجنيهات اكتسبها من الحرام .

وعلى الرغم من أن السيد أنور السادات نشأ في وسط غير الأغنياء إلا أنه عندما أصبح رئيساً للجمهورية لم يرتبط بالفقراء ليرفع عن كاهلهم بؤس الحياة وشقاءها كجمال عبد الناصر بل إنه اتجه إلى أغنياء العالم من كل الأجناس يوثق صداقته بهم . . وصورته صحافة الغرب في ملابسه واستمتاعه المترف كأنه من مليونيرات العالم . . وهو ما لا يتناسب مع أوضاع المواطن المصري ، ومعيشة غالبية مواطنيه .

وعلى سبيل المثال عندما لفظت كل دول العالم بما فيها أمريكا شاه إيران عميلها المخلوع بثورة شعبية ، والذي كان مع إسرائيل معادياً لمصر والعرب ، فإن أنور السادات احتضنه وخصص له القصور لأنه من أغنى أغنياء العالم ، وكانت ثروته من دم شعبه .

ولأضرب مثلا آخر عندما أعلن السيد زكريا محيي الدين رئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت رفع ثمن كيلو الأرز قرشين هاجمه جمال عبد الناصر علناً في خطاب رسمي وانحاز إلى الفقراء والمساكن الذي يعتبر الأرز طعاماً وغذاءً رئيسياً لهم ورفض جمال عبد الناصر أي زيادة في أسعار الأرز .

أما السيد أنور السادات عندما رفع أسعار قائمة كبيرة من السلع الاستهلاكية التي تمس الفقراء في صميم حياتهم فتظاهروا احتجاجاً على رفع الأسعار في 18 و 19 يناير 1977 وبدلاً من ان ينحاز إلى الفقراء والمساكين أطلق عليهم تعبير انتفاضة الحرامية .

مثال آخر عندما أراد السيد زكريا محيي الدين بناء على توصية البنك الدولي إصلاح المسار الاقتصادي وأساسه خفض قيمة الجنيه المصري فقد رفض جمال عبد الناصر هذا الإجراء رفضاً باتاً لأن الفقراء سيدفعون ثمن هذا الخفض بانخفاض القدرة الشرائية للجنيه المصري وبذلك نصبح مثل تركيا عندما أخذت بهذه التوصية فضعفت القدرة الشرائية للعملة الوطنية مما قاسى منه أغلبية الشعب التركي حتى بلغ ثمن فنجان القهوة ثمناً رهيباً .

وقد كان من أهم أهداف ثورة 23 يوليو 1952 هو تذويب الفوارق بين الطبقات وقد عمل جمال عبد الناصر في حياته على تحقيق هذا الهدف قدر الإمكان أما أنور السادات فقد فتح الباب على مصراعيه لكل طامع في الثراء العاجل دون البحث عن صالح مصر ومنذ ذلك الوقت بدأت الفوارق بين الطبقات تتضاعف وتتزايد حتى ازداد الفقير فقراً والغني غنىً إلى أن وصل الحال إلى وضع عسير ، وضائقة مالية ، شكا وعانى منها الشعب حينذاك .

قصة قصر صلاح الموجي بطريق الهرم

هذه الواقعة أغضبت الرئيس عبد الناصر من السيد أنور السادات غضباً شديداً فقد كان عبد الناصر في زيارة خارج مصر إبان مبادرة روجرز وكان أنور السادات ينوب عنه أثناء غيابه فانتهز الفرصة ووضع قصر صلاح الموجي تحت الحراسة توطئه للانتقال للإقامة فيه فأرسل صلاح الموجي برقية تظلم للرئيس فأصدر أوامره بإلغاء الحراسة وإعادة القصر إلى لصاحبه .

ومن تصرفات الرئيس السادات أنه عندما كان الرئيس عبد الناصر يغضب لسبب من الأسباب وهي كثيرة فقد كان يصاب بأزمة قلبية وتعددت الأزمات بفواصل قصيرة استعطافاً لعبد الناصر وقد صرح لي بذلك طبيب القلب المشهور الدكتور الفريق رفاعي كامل الذي كان عوده في تلك الأزمات ومن العجب أن السادات لم يصب بأي أزمة قلبية بعد ذلك في فترة حكمه من سنة 1970 إلى سنة 1981 طوال إحدى عشر عاماً .

مهام السادات

بمجرد أن تولى أنور السادات الحكم أرسل في طلبي ، وقال أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يكرم الضباط الأحرار ، وهو يرغب في تكريمهم ورفع الظلم عنهم وذلك كسباً لودهم المفقود والذي كان السادات يشعر به ويدركه .

وقال لي السادات أنه كلف آخرين بهذه المهمة ، ولكنه لم يطمئن إلى ما جاءوا به من قوائم وأنه يكلفني بعمل قوائم للضباط الأحرار الذين اشتركوا في ليلة 23 يوليو 1953 وأنه يعد بأن يوافق عليها في الصورة التي أقدمها له لأنه يعلم أني أستمسك بالحق والحق فقط وأنني لا أجامل أحداً . . . وفعلاً بدأت في إعداد خطة تعتمد على تقسيم الضباط الأحرار إلى ثلاثة أقسام  :

  • ضباط كانوا في التنظيم ولم يشتركوا في ليلة 23 يوليو لسبب أو لآخر .

وفعلا اجتمعت بعدد كبير من الضباط الأحرار في مختلف الأسلحة لأصل إلى الحقيقة ، لأن الصعوبة كانت في أن تنظيم الضباط الأحرار كان يعتمد كلياً على السرية التامة ، فلم يكن هناك من يعرف كل الضباط الأحرار سوى جمال عبد الناصر . . وقد يشاركه عبد الحكيم عامر المعرفة .

وقدمت إلى أنور السادات قوائم التكريم فوافق عليها ، وقال متحفظاً أرجو أن تكون هذه القوائم لا تشمل الضباط الموجودين الآن في السجون الآن فقلت لسيادته أنني حصرت الأسماء وعلاقتهم بليلة 23 يوليو وتغاضيت عن مصيرهم بعد ذلك . . لأن المطلوب هو موقفهم في ليلة 23 يوليو . .

وفعلاً أقر أنور السادات القوائم كما هي إلا أنه أخبرني أن الرئيس محمد نجيب حضر إليه ومعه شفيق صفوت راجياً أن ينقل اسمه إلى القائمة الأولى فقبل السادات الرجاء إكراماً لمحمد نجيب وهو الاستثناء الوحيد في كل القوائم .

الإخوان المسلمين

كانت خطة أنور السادات هي استمالة الإخوان المسلمين والاستعانة بالإخوان المسلمين في السياسة وخاصة ضد أي معارضة من أي نوع كان . . فاستدعاني وقال أنت من قدامى الإخوان المسلمين وأنه يريد الاستعانة بالإخوان المسلمين وعفا الله عما سلف كما انه يريد تنظيماً جديداً متعاوناً معه . . فوعدته بالتنفيذ .

وفعلا دعوت المرحوم السيد عمر التلمساني مرشد جماعة الإخوان المسلمين ومعه بعض الأعضاء ممن لهم أهمية ، واستمرت الاجتماعات ما يقرب من شهرين ، وإذ بي أفاجأ بحديث تليفزيوني من فوزي عبد الحافظ سكرتير الرئيس يخطرني فيه ، أن الرئيس يطلب مني وقف اتصالاتي بالإخوان فأردت معرفة السبب فلم يصارحني بأي شيء . ولكني علمت فيما بعد أن بعض المحيطين بالرئيس أنور السادات أفهموه بأن هناك خطورة من إطلاق يد أحمد طعيمة في محيط الإخوان المسلمين ، وفعلا توقفت عن اتصالاتي . . ولكن السادات استمر في الاتصالات بطريقة خاطئة أدت به إلى حادث المنصة واغتياله من الجماعات الإسلامية .

الأقباط

استدعاني الرئيس أنور السادات لمقابلته وأخطرني أنه غاضب جداً من تصرفات الأقباط في هذه الأيام ، وأنه وصلته برقية من الإسكندرية يهدد فيها الأقباط بأن يحيلوا الشوارع إلى بحار من الدم . . وأن البابا شنودة جعل من نفسه زعيماً سياسياً لع شعب خاص به ، وأنه يزور المحافظات ونحن في أتون النكسة والهزيمة فتقام له أقواس النصر والاحتفالات . ثم طلب مني بحكم أنني كنت مكلف من الرئيس جمال عبد الناصر بالاهتمام بكل موضوعات الأقباط وكنت دائم الاتصال بهم ، لأنهم كانوا يلجأون لي عندما تهاجم الكنائس أو تهدم من بعض الغوغاء المتعصبين .

لقد كنت أبادر ببنائها وتجديدها فوراً مثل كنيسة حلوان وإدفو وكذلك إقناع جمال عبد الناصر بالحضور ووضع حجر الأساس للكنسية الجديدة والتبرع بمبلغ مائة ألف جنيه .

بدأت الاتصال بالأنبا صمويل الذي توفي في حادث المنصة ، والذي كان مرشحاً لمنصب البطريرك أمام البابا شنودة ، والذي أكرمت وفادته في الأرجنتين وأصبحنا صديقين فحدثته بالمشكلة وطلبت منه التعاون معي لتهدئة النفوس والقضاء على أي فتنة طائفية لأنها تمثل خطورة عظمى على البلاد وهي تمر بمحنة الهزيمة والنكسة . . .

وافق الأنبا صمويل وحدد لي موعد اللقاء مع الأنبا شنودة بطريرك الأقباط وفي لقاءنا تناقشنا بحرية وأخوة ، وهو رجل مثقف سريع الفهم والتعبير وعلى درجة كبيرة من الذكاء . . . نقلت له كل ما قاله لي أنور السادات فما كان منه إلا أن بادر بقوله بأنه سيؤجل زياراته للمحافظات والأقاليم . . وأنه سيمتنع حالياً عن كتابة المقالات الأسبوعية التي كانت تنشرها له جريدة الجمهورية وأنه سيسعى فوراً إلى تهدئة النفوس وتجاوز هذه الأزمة .

وشكلت لجنة من كبار رجال الدين الإسلامي ومن شخصيات قبطية معروفة بوزنها في محيط الأقباط ، وكانت الاجتماعات تتم في منزلي بهدف دراسة كل ما يسبب وقوع هذه الأحداث المؤسفة وكيفية علاجها .

ولقد فوجئت بالأنبا صمويل يخطرني بأن السيد ممدوح سالم وزير الداخلية في زيارة له للبابا شنودة قال له لا أنه لا مانع من زياراته المحافظات ، ولا حرج من الكتابة والنشر فتوجهت إلى البابا شنودة وأخبرته أن وزير الداخلية لابد وأن يقول ما قال ولكني نقلت له بصفة خاصة رغبة الرئيس أنور السادات وهي رغبات خاصة ليست صادرة من وزارة الداخلية .

الإحالة إلى المعاش 1974

فوجئت بإحالتي إلى المعاش في أواخر 1974 من الصحف ودون أن أخطر قبل ذلك وهو ما يتنافى مع الأصول والذوق وفي نفس الوقت يتعارض مع القانون لأنني أبلغ من العمر 52 سنة وسن المعاش 60 سنة وأنا موظف بدرجة وزير في رئاسة الجمهورية ولست وزيراً بالوزارة .

وأنه يجب تطبيق قانون المعاشات في حالتي كم طبق في حالة آخرين أحيلوا إلى المعاش في سن 60 في رئاسة الجمهورية وكانوا بدرجة وزير .

فتظلمت تظلماً قانونياً في المدة المحددة ثم لجأت إلى القضاء ومجلس الدولة وكنت قد اخترت الأستاذ سامي مازن المحامي والذي كان وزيراً للتعليم العالي من قبل ليتولى القضية وكان معي ستة عشر وزيراً في رئاسة الجمهورية لم يبلغوا السن القانونية ولكنهم لم يلجئوا إلى القضاء .

حضر الرئيس أنور السادات إلى منزلي ومعه السيدة حرمه في زيارة خاصة وللتهنئة بزواج ابني حيث كان الرئيس في رحلة بالخارج فاستقبلناهما بحفاوة كما يجب في إكرام الضيف ، خاصة وأنه رئيس الجمهورية ولم تكن في نيتي إثارة موضوع الإحالة إلى المعاش إلا أنه فاتحني فيه .

قال لي السادات انه لم يتوقع أن ألتجئ إلى القضاء وأرفع قضية ضده فشكوت له من أسلوب إخراجنا إلى المعاش والذي قرأته في الصحف قبل أن أعلم به وأنه لو كان دعانا إلى تناول الشاي معه وأخبرنا بهذا القرار وأنعم علينا بوسام على ما قدمناه من خدمات . وجميعنا من الضباط الأحرار لما اعترضت . . ذلك لأن أسلوب إحالتنا إلى المعاش بهذا الشكل يطلق الألسنة عن سبب الإحالة ويثير التساؤلات حول ما يمس الشرف . . . فقال لي أنه يريد أن تعود علاقتنا كما كانت ولكنني كنت مصمماً على السير في القضية حتى يحكم لصالحي وجاء الحكم فعلاً وحكم لي بالتعويض بالفرق بين المعاش والمرتب حتى سن الإحالة إلى المعاش فقررت التبرع بقيمة المبلغ لأخبار اليوم والأستاذ مصطفى أمين ومشروعاته الخيرية والذي كتب عن هذا الموضوع في عموده اليومي "فكره" .

والآن يمكن المقارنة بين ما خاضته ثورة 23 يوليو من حروب فحرب 1956 كانت هزيمة عسكرية ونصر سياسي أما حرب 1967 فقد كانت هزيمة عسكرية وهزيمة سياسية في عهد جمال عبد الناصر ومرحلة الإعداد للحرب وحرب الاستنزاف أما حرب 1973 فقد كانت نصر عسكري وهزيمة سياسية وهوان سياسي في عهد السادات .

حصاد العمر والدروس المستفادة

يجب أن ألفت النظر إلى أنه يجب أن نضع في الاعتبار دائماً عند دراسة كل حدث وعند الحكم على أي حدث . . أن لكل حدث ظروفه الزمنية والمحلية والعربية والدولية . . وهو ما يمكن أن يقال عنه  : حكم الجغرافيا والتاريخ ، إذ أنه لا يمكن أن أتكلم عن مدى الصواب أو مدى الخطأ الآن ولكن يجب أن نسترجع الحدث وظروفه حتى نقترب من الحقيقة ، ويتضح لنا الحكم على الحدث دون ظلم أو بهتان فالدنيا تدور والأحداث لها ألوانها في كل عصر أو مرحلة . . وما كان بالأمس قد تغيرت أحكام الكثير منه . . ومع ذلك يظل العدل عدلاً ، والباطل باطلاً ، ما دام الباحث عادلاً منصفاً .

مصر ووضعها العالمي

يتضح مما سبق أن مصر دولة مستهدفة من قديم الزمان ، خاصة في العصر الحديث ، فلا يسمح بقيام دولة قوية غنية في مصر وهو ما يستدعي الحذر ، ودقة الحساب ، وقياس الخطوات والعناية بفهم الاعتبارات الدولية ، والوعي بالأهداف والمصالح الدولية ودون ذلك يكون الحكم على الأحداث غير دقيق . . . وتكون الأخطار جسيمة .

الدكتاتورية والرأي الحر

الدكتاتورية لا تولد فجأة ولا تمارس فجأة ، ولكن قليلاً قليلاً ورويداً رويداً ولذلك يجب أن تتمتع الجماهير بحاسة الحذر والوعي القومي ، لأن الحب أو الثقة لا يعني أن تسلم الجماهير قيادها دون معارضة ، فيبدأ الحكم في التحكم والسيطرة في كل أمور الشعب صغيرها وكبيرها بينما الشعب كالأعمى لا يدري من أمره شيئاً بعد أن أعطى الشعب ثقته لحاكمه ، فيتصرف الحاكم في شعبه على هواه . .

وقد ابتليت أغلب الدول الإسلامية والعربية بحكم الفرد مما أضاع حرية المواطن وكرامته ، وأشاع الفساد والرشوة والانحلال والبعد عن الدين . . . لأن الحاكم الفرد حريص على ألا يعلم الشعب حقيقة دينه ، لأن الشعب لو علم حقيقة دينه وسياسة حاكمه ما بقي هذا الحاكم في كرسيه لحظة واحدة ، لذلك دأب أكثر الحكام العرب على إخفاء وتجهيل ما يبثه الإسلام من وعي وما يطرحه من قيم .

ولقد حرص هؤلاء الحكام على الاستمساك بالحكم مدى الحياة حتى يأمنوا من أن تحاسبهم شعوبهم على ما قدمت أيديهم ، وما حولهم من فساد وقد يكون أفضل مثال لذلك هو سوهارتو رئيس إندونيسيا التي تفجرت فضائحه بعد خروجه من الحكم بعد خمسة وثلاثين عاماً يحدث هذا .

بينما في الوقت نفسه نجد أن في الولايات المتحدة وحدها ستة من الرؤساء السابقين على قيد الحياة يعيشون كمواطنين محترمين لأنهم كانوا يعلمون أن هناك يوماً قريباً أو بعيداً سيزول عنهم سلطانهم .

أما في العالم العربي والإسلامي فلا أجد مثالاً لذلك إلا الرئيس سوار الذهب الذي وفى بوعده واستقال من الحكم وشهد الجميع له بالطهارة .

وتجربة حكم الفرد انتهت بكل شعب حكمه فرد إلى كارثة وطنية وشعبية كتجربة هتلر وموسوليني فالحاكم الفرد هو مصدر السلطات فعلاً وهو الذي يولي ويعزل والشعب لا إرادة له فيمن ولى وفيمن عُزل – ( وهم المسئول في هذه الحالة إرضاء الحاكم الفرد ولو على حساب غضب الشعب ) ، ولا يعملون إلا بتعليمات من الحاكم الفرد فكأنه هو العقل المفكر والمنفذ لكل ما يراه من صواب ولو كان خطأً جسيماً أو خطر على شعبه .

الرأي الحر والمعارضة وحق التغيير

وكلمة أخيرة إن كل مصادرة للرأي الحر وأي قيد على حق المعارضة بإصدار قوانين تسلب الشعب حقوقه المقدسة والتحكم في وسائل الإعلام كالصحف والإذاعة والتليفزيون ، وقصرها على ملكية الدولة وكذلك مصادرة حق عقد الاجتماعات السياسية وتطبيق قانون الطوارئ لمدد غير محدودة وبدون مسوغ ولا حجة بما يصادر في النهاية حق التغيير الذي هو دعامة الحرية والعزة والتقدم والارتقاء .

وكلما اشتدت القبضة الحديدية على الرأي الحر ووسائله كلما نمت وترعرعت الحركات الإرهابية والسرية لأنها تصبح الوسيلة الوحيدة للتعبير وإحداث التغيير كما يعتقدون .

وليتذكر حكام المسلمين من عرب وغيرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن حرمة المسلم عند الله أكبر من حرمة الكعبة وبيت الله الحرام فيالها من حرمة  : حياة المسلم وعرضه وماله وحريته وقال إن حكام المسلمين وحدهم سيحشرون مصفدين بالأغلال حتى تبرأ ساحتهم من رعيتهم وإلا فمصيرهم إلى النار والعذاب الأليم – وهذا ما أبكى عمر بن الخطاب بعد أن طعنه المجوسي وأشرف على الموت وسأله الحاضرون كيف يبكي وهو مبشر بالجنة فقال أخشى من موقفي بين يدي الله ولا تبرأ ساحتي من أي ظلم .

الدستور الدائم أبو القوانين

على الرغم من رغبة جمال عبد الناصر في عمل دستور دائم للبلاد خوفاً كما كان يقول من ترك البلاد في يد واحد مثل جمال سالم خاصة بعد حل الأحزاب والإخوان المسلمين وأصبح الميدان بلا معارضة . . على الرغم من ذلك فإنه توفي بعد 18 سنة من عمر الثورة دون أن يقيم دستوراً دائماً للبلاد وهذا الخطأ في نظري أشد وأفدح من كارثة النكسة فالأرض استرددناها ولكن وللأسف الشديد لم نسترد أنفسنا .

ومما يُؤسَف له للغاية أن الدستور الذي صدر عام 1923 أعطى من الحقوق في ظل الاحتلال البريطاني ما لم تعطه دساتير الثورة ، ولم يجرؤ السنكي البريطاني في يد المحتل البريطاني الغاصب على اقتحام غرف النوم وخدور النساء وللأسف الشديد اقتحمها السنكي المصري في يد الحكم الوطني في عهد الثورة المصرية والاستقلال .

الجمهورية الرئاسية أو البرلمانية

ما أكتبه الآن من واقع التجربة المريرة التي عاصرناها واكتوينا بنارها ودفعت البلاد ثمناً غالياً لها في كل ميادين الحياة من ماضيها وحاضرها ومستقبلها .

فعندما كان محمد نجيب رئيساً للجمهورية وعبد الناصر رئيساً للوزراء قام السيد فهمي السيد المستشار بمجلس الدولة والذي يمت بصلة قرابة للرئيس عبد الناصر بوضع مشروع للدستور المؤقت بناء على تعليماته أكد فيه أن الجمهورية يجب أن تكون برلمانية لأن ذلك يصون حقوق الشعب ويضمن توزيع المسئوليات .

وعندما حل عبد الناصر محل الرئيس نجيب كرئيس للجمهورية أعاد المستشار فهمي السيد صياغة مشروع الدستور مؤكداً أن الجمهورية رئاسية ولما اعترضت على هذا التغيير أفاد بنفس المنطق السابق أن ذلك لمصلحة الشعب والحكم . وبذلك أصبحت مصر جمهورية رئاسية وأصبح رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر هو الحاكم الفعلي ولا يشاركه أحد في مسئولياته ولا سلطاته فتكرس أن الرئيس هو المسئول الوحيد أما رئيس الوزراء والوزراء فإنهم يعينون ويعزلون ويتلقون التعليمات والتوجيهات كما يرى الرئيس وحده وبذلك تأكد حكم الفرد دستورياً بما له من مخاطر لا يمكن حصرها .

ولذلك أرى أن ينص في تعديل الدستور أو إصدار دستور جديد ينص على أن مصر جمهورية برلمانية وتحدد سلطات الرئيس على هذا الأساس الجديد ويكون المسئول الفعلي هو رئيس الوزراء الذي يأتي إلى الحكم نتيجة للانتخابات الحرة لا بقرار جمهوري فحسب .

ولن يأتي رئيس وزراء بهذه الطريقة إلا لو قامت هناك أحزاب سياسية قوية تعتمد على شعبيتها لا على صحفها ومن ينجح في الانتخابات يسند إليه تشكيلة الحكومة من رئيس الجمهورية فيقوم رئيس الوزراء باختيار من يعاونه من الوزراء وبهذا الأسلوب فقط يمكن تصحيح المسار وتوقع الخير والنجاح لأمتنا .

بطانة السوء

يجب الحذر من بطانة السوء التي تجعل همها الأول والأخير هو عزل الحاكم عن المحكومين ، ويا ليت ذلك يكفيها . . . وسأضرب مثالاً يوضح كيف تمكنت البطانة من عزل جمال عبد الناصر حتى عن وزرائه . . كنا في رحلات الثورة بالقطار تخصص عربة واحدة للصالون وعربة أخرى للطعام فكنا نجتمع بجمال عبد الناصر ذهاباً وعودة ثم تحول الأمر إلى عربتين صالون وعربة واحدة للطعام فنجتمع به فقط وقت الوجبة . ثم تحول الأمر إلى عربتي صالون وعربتي طعام ، أي أصبح للرئيس مكان خاصاً به ، ينفرد به عنا .

ثم عند عودتي من الأرجنتين عام 1965 فوجئت بمفاجأة كبرى وكنا في رحلة إلى المنصورة . خصص لنا قطار منفصل ووصلنا إلى المكان وجلسنا على المنصة بينما خصص قطار آخر للسيد الرئيس ومن معه ، وحضروا بعدنا ولم نلتق بجمال عبد الناصر . . وفي العودة غادر قطار الرئيس أولاً ثم غادرنا نحن وحتى الوزراء حرموا حتى من تحية الرئيس جمال عبد الناصر وليس فقط من مخاطبته .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( ( إذا أراد الله بحاكم خيراً أحاطه ببطانة خير وإذا أراد به سوءً أحاطه ببطانة سوء ) ) فلعل كل منا في منصبه أو عمله أن يكون يقظاً مدققاً في اختيار بطانته ممن هم على قدر من الدين والأخلاق والضمير .

صراع السلطة

صراع السلطة قديم قدم الزمان ، فمنذ أن بدأت البشرية وصراع السلطة في جميع العصور وجميع الأمم هو الظاهرة المشتركة التي لم تتوقف في أي زمان ومكان وحتى الإسلام وما جاء به من عقيدة وإيمان ومبادئ سامية وزهد في الدنيا وسلطانها وتطلع إلى الآخرة وجناتها عانى من تلك الظاهرة فاستقام الحال حيناً واضطرب حيناً آخر مع أن رؤية الإسلام لقضية الحكم والعدالة والحاكم كان يمكن أن تمنع كثيراً من الخلاف ولو رجعوا إليها وعملوا بها ، لم يستطع أن يقتلع من نفوس بعض الصحابة الأجلاء – صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – حب السلطة والصراع عليها .

فما استمر الحكم بالإسلام دون صراع إلا في عهد أبي بكر وعمر بن الخطاب إلى أن جاءت الفتنة الكبرى بمقتل عثمان بن عفان وصراع الخلافة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان الذي انتصر وحول الخلافة الإسلامية إلى ملك عضود ، فإذا كان هؤلاء الصحابة الأجلاء لم يسلموا من هذا الصرع فكيف يسلم تابعهم وتابعي التابعين ومسلم هذه الأيام الذين ضعف إسلامهم وإيمانهم وأصبحت الدنيا همهم الأكبر ومطمعهم الأسمى . إن ما من حل لهذه الكارثة – كارثة الصراع على السلطة – في عالمنا الإسلامي المعاصر إلا أن نفيء إلى أمر الله ونصدر من الدساتير والقوانين الأخلاقية ما نهذب به ونقوم هذا الضعف الإنساني الغريزي ثم نلزم به أنفسنا حكاماً ومحكومين بحيث يصبح الحكم تكليفاً لا تشريفاً وأمانة لا خيانة ، وتواضعاً لا ألوهية ، ورحمة لا قسوة وحرية لا استبداداً وعزة لا استعلاء .

ولنا في دساتير الأمم غير الإسلامية ما يمكن أن ننتفع به ، وأن نقتبس منه ، تلك الدول التي استقرت فيها الأمور وتتابع فيها انتقال السلطة في سلم وسلام بلا تزييف ولا بهتان ، ولا اتهام وإدانة ، بل الكل راضون ، حكاماً ومحكومين ، فما بالنا ونحن معنا كتاب الله وسنة رسوله . . . فمن اتبعهما فلن يضل ولا يشقى .

من الشعارات احترام مبدأ الفصل بين السلطات فيجب أن يكون الفصل حقيقة . . لا تتعدى سلطة على الأخرى وهو ما يحدث مراراً فيجب أن يكون الفصل بين السلطات حقيقي لا كتابة فقط في الدستور فنقيم حروفه ولا نقيم أصوله .

النفاق

قال الله تعالى  : ( ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) ) وهذه آفة تنتشر بين أغلبية المصريين ومرض عضال في منافقة الحاكم والحكومة وكل ذي سلطة أو منصب ، فتنتهي الأمور بخلق آلهة وأنصاف آلهة وأصنام ، يحتار فيها الشعب فيما بعد ولا يستطيع تحطيمها كما قال جمال سالم وصدق الله العظيم حين يقول  : "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين" .

وتحضرني هنا وأنا وزير الأوقاف هذه الواقعة ، فقد صدر الأهرام بعنوان جمال عبد الناصر فوق مستوى البشر في أعقاب الانفصال مشيراً إلى أن جمال عبد الناصر رفض إقحام القوات المسلحة المصرية في معركة الانفصال حرصاً على عدم إراقة الدماء من الجانبين .

فهالني العنوان فطلبت الدكتور عبد القادر حاتم وزير الإعلام تليفونياً واعترضت على العنوان قائلً أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نزل فيه القرآن وما كان إلا بشراً رسولاً . . فكيف يقال عن جمال عبد الناصر أنه فوق البشر أي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها شبهة التأليه وهو ما حرص الإسلام على نفيه نفياً قاطعاً .

فقال عبد القادر حاتم هذا الخبر وصل من الخارج وأنه أعاد نشره فقلت له كيف تسمح بنشره وأنت الرقيب على الصحف فقال أنه أخذ رأي أحد المشايخ فطلبت منه اسم هذا الشيخ إذا كان هناك شيخ أصلا . . وطبعاً لم يكن هناك شيخ وللقارئ أن يفهم دافعه الذي أصبح ميراثاً موروثاً لمن بعده وحتى الآن .

الأحزاب السياسية

من أخطر الأمور إلا أن تكون هناك حياة سياسية سليمة تتبارى فيها الأحزاب في خدمة الوطن والمواطنين ، وعندما سمح بقيام الأحزاب ، قامت بالصحافة فكل حزب يملك صحيفة ولكنه لا يملك أي قاعدة شعبية . . وليس فيها كوادر لاستلام المسئولية في حينها ، ولازلنا نلهث في نظام الحزب الواحد الذي هو امتداد لهيئة التحرير والاتحاد القومي والإتحاد الإشتراكي مما يعرض مصلحة الوطن العليا للخطر وتستمر الدكتاتورية المغلفة بالبرلمان في غياب الأحزاب السياسية كما قلت من قبل للرئيس جمال عبد الناصر .

وحل الأحزاب السياسية من قبل أخلى الساحة من السياسيين والكادرات السياسية وأصبح اختيار الوزراء من الفنيين الذين لا يملكون الوعي السياسي فالوزير رجل سياسة ويعتمد على الفنيين في وزارته فلا يصدر قرار من الفنيين حتى يوافق عليه الوزير من الناحية السياسية فكل قرار له آثار اقتصادية أو سياسية أو شعبية أو اجتماعية فلكل قرار آثاره الجانبية التي تخفى على الوزير الفني ولا يجدي التنسيق بين وزراء فنيين تغيب عنهم الحقائق السياسية .

الدين

سياج الأمن الو حيد هو الدين ، فكلما قل الوازع الديني كلما استشرى الفساد والرشوة والمحسوبية وضاع العدل بين الناس ، ويجب أن تكون التوعية لكل مواطن بألا يقبل ظلماً فإن مسه ظلم فليدافع بحياته عن نفسه فإن الاستسلام للظالم يطمعه في التمادي في الظلم . فالدين دعوة للحرية والكرامة الإنسانية ، كما أن قيم الدين هي التي تحمي الشعب من الضلال الخلقي ، والخراب النفسي والفساد السياسي .

إسرائيل والتلمود

كثير من الناس لا يعلم شيئاً عن التلمود الكتاب المقدس لليهود بجانب التوراة التي يضعها اليهود في المكان الأقدس ، فاليهودي إذا آمن بالتوراة وكفر بالتلمود فهو كافر وإذا آمن بالتلمود وكفر بالتوراة فهو مؤمن والتوراة الأصلية من الله عز وجل . . والتلمود من وضع حاخامات اليهود على مر السنين .

ولقد كنا نظن أن وحشيتهم في دير ياسين وغيرها هو سلوك دنيوي للإرهاب والتخويف ولكن ظهر أن تلك الوحشية هي من تعليم التلمود دينهم الأسمى ولقد جاءت في صلب التلمود تعليم دينية تتبع عند احتلال قرية أو مدينة ألا وهي الإبادة لكل ألوان الحياة . .

فإذا احتلوا قرية أو مدينة قتلوا النساء والأجنة في بطون الأمهات والأطفال وكبار السن بحيث لا يترك أي إنسان حي . . حتى بالنسبة للحيوانات فمصيرها الإبادة التامة تماماً كما هو الحال مع الإنسان وأما النبات فيقتلع وتقطع الأشجار وتترك القرية صفصفاً .

ومن قبيل الاعتقاد الديني أو الهوس الديني أنهم يعتقدون أن اليهود هم البشر ومن نطفة الإنسان أما غيرهم وهم كل من لا يتبع اليهودية فهم من نطفة حصان ، فهم ليسوا آدميين ولكن الله خلقهم في صورة البشر حتى يستطيع اليهود أن يستخدمونهم في حياتهم ويتخذوهم سخرة لهم .

وبناء على ذلك فإن الجريمة بأنواعها في الدين اليهودي لا تعتبر جريمة إلا إذا ارتكبت ضد يهودي أما إذا ارتكبت ضج الآخرين من البشر أي للأمميين كما يسمونهم فإن الجريمة يثاب عليها ويدخل مرتكبها الجنة . وبذلك استباحوا القتل والسرقة والزنا لغير اليهود حتى يضمنوا الجنة .

فالخطر جاثم على صدر مصر والأمة العربية كلها للثأر القديم منذ رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد ما ظهر من أطماع إسرائيل في الأرض العربة والمياه العربية وبعد إعدادها ترسانة ضخمة من الأسلحة الذرية والكيماوية والميكروبية إذا كانت الأسلحة الذرية ليست هدفاً لنا الآن وأدعو أن تكون هدفنا في القريب العاجل لأنه سلاح الردع لمن يملكه .

ولأخي القارئ أن يقارن بين ما ورد في التوراة لبني إسرائيل وما سطروه في التلمود بحيث أحالوا الدين اليهودي من دين سماوي من الله عز وجل إلى دين وضعي نم وضع حاخامات اليهود وأحبارهم .

فزيفوا المثل العليا الإلهية ، وحولوها إلى بربرية وحشية لا تحترم الإنسانية وحقوق الإنسان بل تقتل الناس جميعاً لأنهم أعداء الحياة .

وقد قال لله تعالى في كتابه الكريم " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . " .

ثم أقول . . . أهو غضب الله عز وجل على الأمة الإسلامية والعربية . . . . فإن اليهود الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله أصبحت لهم السيطرة والسيادة على أمة الإسلام ويتحكمون في مصير المسلمين ويسفكون دماءهم ويسلبون أرضهم وهم قلة لا تذكر بالنسبة لتعداد المسلمين . . . . كيف يعيش المسلمون لا حول لهم ولا قوة اللهم إلا استجداء السلام من ألد أعدائهم والذي جعل الله عز وجل عداوتهم أشد عداوة إذ قول الله تعالى " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك لأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون " .

فإلى متى يا أمة الإسلام . . . وإلى متى يا عرب وأنتم الذين بعث فيكم رسول الله وأنزل عليكم القرآن بلسان عربي مبين .

وفي هذا المقام لا ننسى أن نذكر بأن اليهود ثم إسرائيل كانوا يتخذون من إحدى الدول القوية حماة لهم ليعيشوا في أمن وسلام ليضعوا خططهم العدوانية في مستقبل الأيام .

فاليهود في التاريخ الحديث كانت ألمانيا الدولة الحامية لهم في الوقت الذي كانت روسيا حامية للمسيحية والخلافة العثمانية حامية للإسلام ولكن اليهود الألمان مع يهود إنجلترا أقنعوا سويا أمريكا بضرورة دخول أمريكا الحرب العالمية الأولى وإلا انهزمت إنجلترا ولقد تمكنوا من ذلك ودخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى قبل نهايتها وانتصرت إنجلترا والحلفاء وقبض اليهود الثمن وكان بإعلان وعد بلفور سنة 1917 بالتعهد لليهود بوطن قومي في فلسطين . . . فلما جاء هتلر اتهم اليهود الألمان بالخيانة وأنهم الطابور الخامس وأنهم السبب الحقيقي لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وهذا يفسر تفسيراً حقيقياً اضطهاد هتلر لليهود لا كألمان وإنما كخونة ، فاتخذ اليهود من إنجلترا دولة حامية لهم بدلا من ألمانيا حتى الحرب العالمية الثانية فلما خرجت إنجلترا من الحرب وقد أفل نجمها اتخذوا الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الحامية لهم ضد مصالح العرب والمسلمين وذلك يدل على أن اليهود لا ولاء لهم إلا لليهود أنفسهم .

الحرية الاقتصادية

الحرية الاقتصادية تأتي متلازمة مع الحريات السياسية فلم نر شعباً حرم من حقوقه السياسية وانتعشت فيه الحياة الاقتصادية ودائما ما تواجه الدولة شبح الإفلاس أو ظله . . لذلك فإن هذا الموضوع شديد الحساسية وأن أي خطوات أو قرارات تتخذها الدولة يجب أن تكون مدروسة للغاية لأنها قد تؤدي إلى انهيار اقتصاد الدولة ولو بعد حين . وهناك مثال الاتحاد السوفيتي ومدى ما وصل إليه من انهيار وسقوطه من ثاني قوة عظمى ، إلى دولة تعيش على الدعم والمساعدات المالية من خصومها في الحرب الباردة .

العمل الدبلوماسي

أثناء رحلتي للعلاج في السويد وأنا سفير مصر في الأرجنتين تقابلت مع السيد صلاح جوهر سفير مصر في السويد في ذلك الوقت وناقشنا أمور السفارات فشكوت له ما وجدت عليه حالة السفارة وأعضائها فقال لي أنه كان في زيارة رسمية للأرجنتين منذ عام مضى وأثناء لقائه بوزير خارجية الأرجنتين فوجئ به قائلاً إني أحب مصر كثيراً فلا تأخذ حديثي على انه تدخل في شئون مصر . ولكنني أشعر أن واجبي نحوكم أن أصارحكم بأن سمعة طاقم السفارة ف بيونس ايرس لا يرضي أحداً وأنهم لا يمثلون مصر وتاريخها العريق ، وأنه لابد من تغيير طاقم السفارة بشرط ألا يجتمع الطاقم الجديد مع القديم ولا يسمح باللقاء بينهما إلا في سماء الأطلنطي . وفوجئت من قسوة تعبير وزير الخارجية .

وعندما توجهت إلى القاهرة بعد زيارتي للسويد وعند لقائي مع الرئيس جمال عبد الناصر نقلت له ما قاله لي السفير صلاح جوهر وأضفت أنني اكتشفت أن أعضاء السفارة بالأرجنتين إما مشغول بالتجارة وجمع الأرباح ، وإما على بخل شديد ، فلا علاقة تربطه بأي كان من أهل الأرجنتين ، وإما منتهز الفرصة لقضاء سهرات حمراء .

وأني لم أجد بينهم من تشغله شئون مصر أو خدمتها ، بل هي فرصة لقضاء وقت معين للتربح أو التنعم وأني لا أعرف أحوال باقي السفارات ولكن يجب إعادة النظر في بعثات الدبلوماسية ومعرفة ما تؤديه حقاً نحو واجبها تجاه مصر .

العلاقات العربية والإسلامية

يجب الانتباه جيداً لعلاقات مصر العربية وينبغ أن تكون دائماً قوية لأنه يحضرني هنا مثال عن حرب اليمن التي تسببت في خصومة بين مصر والسعودية .

وكذلك الأردن وخطابات الرئيس جمال عبد الناصر ضد الملك حسين فقد انضمت السعودية والأردن إلى جانب المتآمرين وقد يكونوا لا يعرفون أن هناك فخ مدبر ضد مصر فأخذوا في مهاجمة عبد الناصر في احتمائه وراء قانون الطوارئ الدولية ومرور السفن الإسرائيلية في خليج العقبة مما أجبره على سحب قوات الطوارئ وغلق خليج العقبة تخلصاً من هذا الهجوم الذي لا ينقطع فكان ما كان من مأساة .

القضاء على ثورة 23 يوليو 1952

لإعادة مصر إلى ما قبل [[ثورة يوليو 1952 وكأنها ما حدثت أبداً هو وهم كاذب فهذه محاولات لاقتلاع الثورة مادياً ولكنها باقية في قلوب ونفوس وأرواح المصريين وستبقى على مر الأجيال يتوارثها الأبناء بعد الأجداد .

ومن الناس من يتوهم أنه بهدم عبد الناصر ومهاجمته ، معددين ومتجاهلين إنجازاته فإنه يقضي بذلك على ثورة 23 يوليو سنة 1952 التي لا تنسب إلا له .

إن جمال عبد الناصر هو الذي فجر بصوته نداءات الحرية لكل مستعمرة في العالم ولكل شعب يريد أن يتحرر ، وأقول لهؤلاء لن تستطيعوا القضاء على [[ثورة 23 يوليو أو جمال عبد الناصر ، فلن تنالوا من عقيدة الجماهير وإيمانهم به في خارج مصر قبل داخلها .

ومما يثير الدهشة والتعجب ويستحق الرد لإحقاق الحق وإزهاق الباطل أني استمعت إلى حديث في القناة الثانية لمحطة التليفزيون "أوربت" لأحد الضباط الأحرار وما هو من الأحرار يتهم عبد الناصر بأنه عميل أمريكي وأن الأمريكان هم أصحاب ثورة يوليو سنة 1952 فيا للعار أن ينتزع وطنية كل ضابط حر وعلى رأسهم جمال عبد الناصر ولم يكتف بذلك بل ادعى أن حادث المنشية إنما هو تدبير أمريكي لإعطاء عبد الناصر شعبية بإطلاق الرصاص عليه من مسافة 10 أمتار في شرفة هيئة التحرير .

فيا للخبل والافتراء إنما يردد قول الإخوان المسلمين وينفذ تعليمات المخابرات الأمريكية التي من أهدافها المعلنة وغير المعلنة إعادة مصر إلى حالة ما قبل 23 يوليو 1952 وكأن عبد الناصر وثورة يوليو 52 ما قامت ولا كانت – ولعلم هذا الرجل فإني شخصياً كتبت اسم الفاعل قبل أن يرتكب جريمته كما أوضحت من قبل .

والأدهى والأمر أن يدعى هذا الضابط أنه كان يربط جمال عبد الناصر بالحبال في كرسيه .

وأقول له ولمن يصدقه انه لم يولد بعد من يستطيع أن يفعل ذلك و لا أن يمس شعرة من كرامة عبد الناصر وبذلك برهن على انه كاذب وكذوب وكتب عند الله كذاباً .

دعاء

أشهد الله عز وجل أني بذلت جهدي و قدر استطاعتي و ما وعته الذاكرة عبر السنين لأسطر هذه الكلمات التي تنطق بالصدق كشاهد حق طامعاً في ثواب الله و أجره إذ يقول عز من قائل  :-

( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) صدق الله العظيم

و أتوجه إلى الله العلي القدير أن يتقبل دعائي  :-

( ربنا لا تأخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) صدق الله العظيم

( و هو الحق و هو قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه )

أحمد طعيمه