عبد القادر السبسبي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
عبدالقادر السبسبي .. من أعلام إخوان سوريا


مقدمة

عبد-القادر-السبسبي.1.jpg

كثير ممن هم تركوا الحياة بعدما تركوا فيها بصمات لمسها الداني والقاصي، ولقد كان الأستاذ عبد القادر السبسبي واحد من الذين تركوا هذه البصمة.

كان الأستاذ السبسبي عنواناً بارزاً للروح العلمية والدأب في البحث والدرس وطلب الحق وبيانه للناس ، وكان عنواناً للخلق الكريم والذوق الرفيع والمعشر اللطيف والحديث الحلو الممتع المفيد .. مما يحتاج كل جانب منه إلى حديث خاص ، وإلى تجلية يكون فيها الدرس النافع والقدوة الحسنة.

قالت عنه مجلة الرائد:

لقد كانت حياته من مطلعها إلى خاتمتها عملاً عقيدياً مستمراً في سبيل الله على كل المستويات ، ولم يحل تقدم السن ولا ضعف الجسم بينه وبين بذل كل ما يملك أن يبذل من جهد في أداء الواجب .. وهذا ما يجعل حياته مثلاً جديراً بأن يضرب للشباب وللعاملين للإسلام في هذا العصر ، وقد غدا العمل الإسلامي عند كثير منهم ثوباً يخلع ويلبس ، أو عملاً موسمياً يمارس ويترك ، أو مرحلة من مراحل الحياة يتجاوزها الفرد إلى حيث تستغرقه مطالب الدنيا.

النشأة

نشأ الأستاذ عبدالقادر السبسبي في مدينة حلب 1 يناير عام 1886م الموافق 1304هـ، في أسرة متدينة عمدت إلى تربيته تربية إسلامية. ختم القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين وحفظه غيباً ، ثم مال إلى طلب العلم على يد كبار علماء حلب أمثال الشيخ محمد الزرقا والشيخ محمد سعيد الإدلبي والشيخ نجيب سراج الدين ...وغيرهم من كبار العلماء.

التحق بمراحل التعليم حتى تخرج في كلية الحقوق، وعمل بالمحاماة عام 1919م، ثم مدرسا (19251959م). وهناك من يقول ممن ترجم له إنه لم ينتسب إلى كلية الحقوق وإنما مارس مهنة المحاماة بطريق التمرين حيث قدم فحصاً في منتصف العقد الثالث من هذا القرن، ونجح فيه وأصبح بعدها محامياً لامعاً يشار إليه بالبنان ابتداء من 1919م.

بدأ مهنة التدريس عام 1926م حتى أحال نفسه إلى التقاعد عام 1960م ولم يكن محامياً فقط بل كان فقيهاً عالماً وعاملاً كبيراً في الحقل الاجتماعي في شتى الميادين، وكان يستظهر القوانين المعمول بها حافظاً مجلة الأحكام العدلية عن ظهر قلب.

وكانت روح الدعابة تمتلك مخيلته ومن ذلك سأله ابنه أنس السبسبي عندما كان يدرس في ألمانيا عن حكم الشرع في أكل لحم الحمير ؟ فأجابه السبسبي : يا ولدي كل مثلما نأكل نحن كي نستطيع أن نفهم بعضنا بعد عودتك .. وكان كبار الدعاة يؤمون داره، وينزلون في ضيافته كأمثال : المودودي والندوي وأبو زهرة ود. مصطفى السباعي ....

وفي عام 1932م كان عضواً في مؤتمر الأوقاف العام الذي عقد في حلب أيام الفرنسيين للمحافظة على الأوقاف الإسلامية ألف رسالة في الرد على قانون الطوائف في عهد الاحتلال وأحدثت الرسالة ضجة في الأوساط الرسمية والشعبية مما حمل الفرنسيين على إيقاف العمل بقانون الطوائف بالنسبة للمسلمين وبقي معمولاً به بالنسبة لبقية الطوائف في البلاد ، وكان من الرواد الأوائل الذين أسسوا (دار الأرقم) عام 1937م ، وأسس جمعية تعليم الأميين .

وفي عام 1969م قرر مجلس نقابة المحامين بحلب تأليف لجنة برئاسة السبسبي لدراسة مشروع قانون الأحوال الشخصية ، وكانت تعقد أسبوعياً في منزله وكان عضواً في لجنة الدفاع عن حقوق مياه حلب ... تخرج عليه كثير من العلماء مثل شوقي الزيات عبد العزيز الشماع معروف الدواليبي مصطفى الزرقا وقاضي الشرع الأول عبد الوهاب التونجي ..وسليم عقيل وفؤاد قسطلي ومحمد سيرجية ..وغيرهم .

كانت له حافظة قوية حتى قال عنه رئيس محكمة البداية الناظرة في القضايا التجارية : إن السبسبي هو بحق قاموس الحقوق ...وكان كثير المطالعة في كتب الفقه والفكر الإسلامي

في دعوة الإخوان المسلمين

تعرف عبدالقادر السبسبي على دعوة الإخوان بعدما وصلت إلى سوريا على يد الدكتور مصطفى السباعي، وساهم السبسبي في نشأة دار الأرقم بمساعدة بهاء الأميري، عبد الحميد الأصيل، يوسف الصقال،وعبد الحميد ميري، والشيخ عبد الوهاب التونجي، وذلك في حلب عام 1937م.

وتدرج في العمل الحركي ، وقد انتخب رئيساً للمحكمة العليا لجماعة الإخوان المسلمين في سورية عام 1954م.

جهاده

اشترك عبدالقادر السبسبي ضمن المتطوعين في حرب فلسطين عام 1949م تحت قيادة الدكتور مصطفى السباعي، حيث تشكل جيش الإنقاذ في حي الميدان بدمشق.

يقول الأستاذ زهير الشاويش:

وكانت الدعوة في الشام إلى تشكيل كتائب للجهاد في سبيل الله في فلسطين قد انطلقت من حي الميدان، الشهير في دمشق وكان "لِشُعْبَته الدور الواضح والأثر الكبير في التهيئة والتدريب، والاجتماعات الضخمة التي أقيمت لنصرة فلسطين"

ومن ذلك أول اجتماع عام عقد في دار "المهاييني" وحضرة الشيخ محمد الأشمر، كما كان للأستاذ محمد خير الجلاد باع طويل، وهو الذي أعلن افتتاح باب التطوع للجهاد ما بين 1946، 1947 وكذلك الأستاذ عبد القادر السبسبي وعمر الأميري في حلب، والشيخ نافع الشامي، في أدلب والشاعر محمد المجذوب في اللاذقية.

مؤلفاته

وله كتب كثيرة منها:

  1. شرح قانون الأحوال الشخصية .
  2. الزواج والرق في الإسلام .
  3. فقه الإسلام .
  4. في ظلال سورة البروج .
  5. الأوقاف الإسلامية.
  6. المرأة الصالحة رابطة المجتمع . - مجلة حضارة الإسلام : ع 4 ، س 3 ص 42- 48 .

كما نشر رسائل صغيرة في بعض الموضوعات الإسلامية كان يوزعها بنفسه مجااناً.

كتاباته

كتب الأستاذ عبد القادر السبسبي المحامي تحت عنوان (الرق والتسري في الإسلام): مجلة حضارة الإسلام، المجلد 1، العدد 9، سنة 1961

(1) إن القرآن العظيم شرع الجهاد للإيمان بأن دفع العدوان وتنكيس أعلام الطواغيب ومنع الاضطهاد ورفع لواء الحرية، ولم يأمر برقّ ولا استرقاق؛ لأنهما يتنافيان مع مبادئ الإنسانية (فطرة الله التي فطر الناس عليها)، وقد خول الحق للمسلمين حال انتصارهم على المحاربين وأخذهم أسرى بأن يتبعوا أحد ثلاثة أحوال:

  1. القتل
  2. الأسر
  3. العفو.

(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقابِ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مناً بعد وإما فداءً حتى تضع الحربُ أوزارها) ومن اطلع على أسرار الشريعة الإسلامية وفهم معناها علمَ بأن الشريعة ما جوّزتْ استرقاق أسرى الحرب إلا من باب المجاراة للأمم المعادية المحاربة، ومقابلة بالمثل جرياً على عادتهم، ولذلك يكون الرق قد فرضه الأمر الواقع، لأن الأسر في الحرب واقع لا محالة، وقتْل الأسير لا يأتلف مع العدل الإلهي.

وأما العفو، فإنه وإن كان من شيمة الإسلام ولكن ليس من الحكمة أن يسترقّ المحاربون أسرى المسلمين ويستحيوا نساءهم، والمسلمون يقفون مكتوفي الأيدي أما هذه الحدث العظيم، ثم يعفون عن أسرى الأعداء ويرسلونهم إلى أهلهم مكرمين مبجلين، ومن يرى ذلك فقد بعُد كثيراً عن فهم حكمة التشريع التي غايتها مراعاة مصالح العباد ودرء مفاسدهم تفضُّلاً من الله ورحمة.

ولما كان تصرّف الإمام منوطاً بالمصلحة، وإن الاسترقاق ضرورة من ضرورات الحرب وإن الشريعة تتمشى مع العدل أنى وجد، وكانت العدالة تقضي أن تكون المعاملة بالمثل (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) أبيح للإمام ضرب الرق على الأسرى إذا رأى في ذلك مصلحة.

على أن الشريعة الغراء قبل أن تبيح الاسترقاق سدت جميع السبل التي كانت تتخذها الأمم الغابرة وسيلة للاسترقاق وقضت عليها ولم تُبقِ سوى أسير الحرب، وعملت على تقليص ظله بشتى وسائل البر والخير، وأدخلت من الإصلاح ما يكفل للأرقاء حقوقهم وللسادة مصالحهم وللمجتمع سعادته ورخاءه.

(2) التسرّي

إن الضرورة التي أباحت استرقاق الأسرى هي ذاتها اقتضت إباحة التسري؛ لأن المحاربين الأعداء عندما يأخذون النساء المسلمات أسيرات يعاملونهن شر معاملة، إذْ في نظرهم أن الرقيق كالحيوان مسلوب الإرادة كما هو مسلوب الحرية (على حد تعبير أرسطو وأفلاطون) وإن السبيّة عندهم تصبح كالمتاع يتمتع بها ويفترشها كل من يبتغيها كما يفترش أصولها وفروعها.

وهذا المنطق في الأمم الغابرة لم يزل موروثاً معمولاً به لدى الدول المدعية التمدن كابراً عن كابر حتى ألغي الرق باتفاق دولي.

وأما الإسلام فإنه يبرز فيما يختص بالإماء الجانب الإنساني فيهن، كي لا يحس أحد أن آدميتهن مهدورة، أو أنهن من الناحية الإنسانية هابطات، أو من نوع أو مستوى آخر غير مستوى الحرائر، فإنه يحظر نكاح السبايا إلا ضمن شروط اشترطها وراعى فيها الحقوق والمصالح والمجتمع،

وهي:

أولاً إذن الإمام بالاسترقاق، لأن الرق والتسري لا يثبت بمجرد الأسر، كما أشرنا إليه آنفاً.
ثانياً انتظار براءة الرحم بالعدة أو بالوضع إن كانت حاملا.
ثالثاً أن لا يكون زوجها أسيراً معها.

وعند توفّر هذه الشروط تصبح الأسيرة مملوكة لمن هي في يده وتسمى ملك اليمين حسب التعبير القرآني، ولمالكها حق التسري بها عملاً بقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) (النساء: 3) أم ما ملكتم من إماء.

وقوله جلت عظمته: (والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) (المؤمنون: 6).

وعند تسرّي مالكها بها تظل مملوكة إلى أن تلد فتصير أم ولد (3) ويعتبر المولود منها حراً. ولما كان ليس من العدل أن تبقى الأم رقيقة ويكون الولد حراً، فقد حظر الشارع الى السيد بيعها والتصرف بها، وأمره أن يكرمها كما يكرم الزوجة الحرة في جميع شئونها وأن يحسن معاشرتها ومعاملتها، وحكم لها بالحرية التي تستكملها بوفاة مالكها.

وقد أباح الله تعالى للرجل أن يتزوج بالأمة من مالكها زواجاً كزواج الحرة، ويتحقق من هذا مصالح عديدة، منها إعفاف النفس، ودفع الفاحشة، وتخفيف النفقات على الدولة، وإعادة كرامتها لها ورفع مستواها، وإشعارها بأنها امرأة مصونة كالنساء الحرائر. وقد تفضلهن بتقواها.

والله سبحانه وتعالى يقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) إذ المدار على القلوب، فرب رقيقة أفضل من حرة بسبب إيمانها. قال الله تعالى: (ولأمَة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) "البقرة: 221".

وقد أرشدتنا الشريعة الإسلامية المطهرة إلى آداب ينبغي مراعاتها في السبابا أجملتها الآية الكريمة:(ومن لم يستطعْ منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) (النساء: 25).

فالشريعة تهدينا إلى عدة أمور من شأنها رفع مستوى الأمة وجعلها بمصاف الحرائر من كل الوجوه، وإليك البيان.

فالله العزيز الحكيم

  • أطلق على الرقيقات اسم (الفتيات) ليصرف عن أذهاننا كلمة الرقيق أو الأمة، وقال عليه الصلاة والسلام: لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل فتاي وفتاتي.
  • أوجب استئذان السيد بزواجهن كما يستأذن البنت الحرة بزواجها.
  • أمر بأداء المهر لهن تطييباً لقلوبهن كما هو الحال في البنات الحرائر.
  • فرض عليهن التحصن ليرفع مستواهن ويكنّ طيبات طاهرات عفيفات كما هو حال السيدات الحرائر.
  • حرّم عليهن الزنا واتخاذ الأخدان ليعشن شريفات قانتات عابدات سائحات.

ومن يتصف من الفتيات بهذه الصفات النبيلة ويتزوجهن يترتب عليهن ما يترتب على الأحرار من الأحكام الشرعية، وهي:

  • حرمة الجمع بين الأختين. (4)
  • تحريم أصولها وفروعها بالزواج منها كما يحرم عليها أصوله وفروعه
  • لزوم الرجل بنفقتها وكسوتها وتهيئة مسكن لها.

إن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى الناس كلهم في عين الرأفة والرحمة، لا يفضل أحد منهم على الآخر إلا بالعبادة والتقوى. وقد أرسل لهم الرسلَ وجعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً لتهذيب أخلاقها وإصلاح ما فسد منها، مراعياً في ذلك مصالح الأفراد من ذكر وأنثى.

يقول العلامة العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الإحكام (ص 38 ج1):

(إذا عظمت المصلحة أوجبها الرب في كل شريعة، وكذلك إذا عظمت المفسدة حرمها في كل شريعة وإن تتفاوتت رتب المصالح والمفاسد فقد يقدم الشرع بعض المصالح في بعض الشرائع على غيرها، ويخالف ذلك في بعض الشرائع، وكذلك المفاسد: ففي شرع عيسى عليه السلام حرم في النكاح الزيادة على امرأة واحدة نظراً للنساء وكيلا يتضررن بكثرة الضرائر والإماء.
وأجازه من غير حصر في شريعة موسى عليه السلام لمن قدر على القيام بالوطء ومؤن النكاح. وأجاز في شرعنا الزيادة على واحدة، وحرم الزيادة على الأربع نظراً لمصلحة النساء ورحمة بهن، ووطء الإماء من غير حصر نظراً لمصلحة الرجال).

أقول:

وكذا لمصلحة الدولة علاوة المصلحة العامة لأنه بتوزيع السبايا على الرجال ينزل عن الدولة عبء النفقات وتقوم الرجال إدارة شئونهن، فيكون هذا التشريع الإسلامي الحكيم قد راعى مصلحة الرجال والنساء معاً.

ومن ينظر إلى التشريع الإسلامي النبيل نظر العالم المنصف يرى أن الإسلام وإن كان أباح الاسترقاق مقابلة بالمثل، ولكنه قصد من وراء ذلك اجتثاثه من أصله وترك للزمن القضاء عليه. وعلى أية حال، فإن مسألة الرق كلها بالقياس إلى الإسلام مسألة ملابسة تاريخية، وليست أصلاً من أصوله. وقد انتهت بالمعاهدات التي عقدت مع الدول بمنع استرقاق الأسرى منذ أمد بعيد وبالقوانين التي صدرت سابقاً ولاحقاً.

فلم يعد الإسلام يبيح اليوم الاسترقاق لأنتهاء الأسباب التاريخية التي اضطرته في ذلك الزمن، إلا إذا الدول عادت إلى سيرتها الأولى وأعادت الشنشنة القديمة باسترقاق أسرى الحرب فتعود الدولة المسلمة إلى استرقاق الأسرى بحكم الاضطرار، لأن الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها.

كما كتب تحت عنوان (المرأة الصالحة رابطة المجتمع)

إن الزواج هو عماد الأسرة الثابتة التي تلتقي فيها الحقوق والواجبات، وهو علاقة روحية تليق برقي الإنسان وتسمو به عن دركة الحيوان. وهذه الناحية النفسية الروحية هي المودة التي جعلها الله تعالى بين الزوجين، وهي التمازج النفسي.

وأن الأسرة هي الوحدة الأولى لبناء المجتمع، وأن الشريعة الإسلامية قد أمرت بالمساواة بين الزوجين في كل شيء إلا القيام برياسة الأسرة، والقيام على مصالحها "الرجال قوامون على النساء".

الزواج باعث للتراحم:

إن الزوجية أقوى رابطة تربط اثنين من البشر أحدهما بالآخر، فهي الصلة التي يشعر كل من الزوجين بأنه شريك الآخر في كل شيء مادي ومعنوي وقد قال الله تعالى:"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" فقد جعل الله التواد والتراحم بعصمة الزواج، وقد كانت المجانسة من دواعي التضامن والتعارف.

وفي المثل (من جالس جانس) لأن النفس ميالة إلى ما يوافقها ويلائمها ويلتقي معها في الغرض العام ولذلك وجب بناء الزواج على أسس كريمة ودعائم قويمة تقوية للصلة الروحية، تلك هي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل يمنحها طابع النظافة والبراءة.

فينبغي للرجل أن يقصد بالتزوج حفظ النسل ونظام المنزل وحفظ المال والمطلوب في الزوجة العقل والعفة والحياء ورقة القلب وطيب الكلام وطاعة الزوج وقال عليه الصلاة والسلام (الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة) لأنها تحفظ حقوق الزوجية وتعين زوجها على القيام بالأمور الدنيوية والدينية.

وقال أيضاً:

أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وبدناً على البلاء صابراً وزوجة لا تبغيه حوباً أي إثماً في نفسها وماله.

ان من يختار زوجة بدون أن يلاحظ فيها الجناب المعنوي من حسن الطباع والأخلاق الكريمة، بل يؤاثر عليها الجانب الحسي، بجعل الحياة الزوجية عرضة للزوال لأن الإعجاب الحسي قد ينتهي ولكن النواحي المعنوية فإن الإعجاب بها قد يتجدد الزمان.

ولذلك فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الزواج من ذات الدين فقال: (لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغين عليهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل).

طهارة الزوجة:

من المقرر عند العلماء بأن حسن الإختيار لدليل على ذوق المختار فالذين يتخيرون أزواجهن من المسارح والملاهي لمنظر خلاب بدا، لا يمكن أن تستمر حياتهم الزوجية سعيدة، وأنها سرعان ما تزول، لأن معظم هؤلاء النساء هن كأوراق الخريف ليس لها فرع تلوذ به أو تأوى إليه.

وقال أكثم بن صيفي يوصي بعض أولاده:

يا بني إياك واختيار اللئيمة بما عندها من المال فإنه يذهب وتبقى في حالة اللؤم الذي لا يغنيه وقال: لا يقصينكم جمال النساء فإن التزوج بالكرائم مدرجة الشرف. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إياكم وخضراء الدمن) وهي المرأة الحسناء في منبت السوء، فإنها تلد مثل أصلها وعليكم بذات الأعراق فإنها تلد مثل أبيها وعمها وأخيها.

فإذا لحظنا ذلك علمنا أنه لا ينبغي الاغترار بالمرأة الحسناء وجمالها الظاهري قبل البحث عن جمالها الباطني الحقيقي، وفي أي منشأ نشأت وأي خلق تعودت.

الزواج بالكتابيات:

لما كان الزواج أعمق وأدق وأقوى رابطة بين اثنين من بني الإنسان، فلابد إذن من توحد القلوب والتقائها في العقيدة.

ولكي تتوحد القلوب يجب أن تتوحد ما تنعقد عليه وما تتجه إليه، والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس ويؤثر فيها ويكيف مشاعرها ويحدد تأثراتها وإستجاباتها وإن كان الكثيرون يخدعهم أحياناً كمون العقيدة أو ركودها، فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية أو بعض المذاهب الاجتماعية وهذا هو وهم وعدم خبرة بالنفس الإنسانية ومقوماتها الحقيقية.

فالله سبحانه وتعالى لم يحرم زواج المسلم من كتابية، لأنهما يلتقيان في أصل العقيدة في الله وإن اختلفت بعض التفصيلات. على أن الزواج بالكتابية وإن كان جائزاً ولكن إذا خشي أن تجذب المرأة الرجل إلى دينها لعلمها وجمالها وضعف أخلاقه كما يحصل كثيراً في هذا الزمن في تزوج بعض ضعفاء العقول من المسلمين ببعض الأوروبيات أو غيرهن من الكتابيات فيفتنون بهن، فلا يجوز له التزوج بهن سداً لباب الذريعة لأن سد الذريعة واجب في الإسلام.

الزواج بالأجنبيات:

وأما الزواج بالأجنبيات فهو أدهى وأمر، لأن خطورتها لا تقف على الزوج أو الأسرة فحسب بل قد يؤدي الأمر إلى تحطيم المجتمع وغضب الوالدين الذين أمر الولد بالإحسان إليهما وبذل الجهد لإرضائهما نظراً لما قد يحدث من المنازعات والمشاحنات وعدم الاستقرار، وقد تتغلب المرأة على أمر زوجها أو ولدها فتقوده إلى دعوتها.

ومرد ذلك كله هو البون الشاسع بين الشرق والغرب من اختلاف وعدم الاتفاق في العقيدة، لأن كلا الزوجين له آداب اجتماعية وتقاليد مشاعر مستقاة من محيطه وبيئته غير ما هي موجودة عند الآخر. على أن المجتمع الغربي مهما تحفظ فهو مجتمع إباحي، وإن المجتمع العربي مهما تحرر فهو مجتمع يقوم على المروءة والأنفة قبل كل شيء.

ومما يتصل بالتربية هو الأخلاق فالأخلاق نسبية تختلف مفاهيمها من بلد إلى بلد، وإذا كانت الأم أجنبية فلن تشيء لنا أطفالاً يتصفون بالأخلاق العربية الأصيلة، وإنما يتصفون بالأخلاق التي درجت عليها في بلدها، وقد تكون مناقضة لما عندنا كل التناقض ومعنى هذا أن الزوجة الأجنبية سينشأ عنها أطفال غرباء عنا في طبائعهم، وأخلاقهم، مما يؤدي بهم إلى نفور أو كره لما يجدونه حولهم من طبائع وأخلاق مختلفة عما ألفوا وهذا ادعى ما يكون إلى تفتيت هذا المجتمع.

إقتباس الأخلاق:

على أنه إذا سلم الزوج من ضلال زوجته الكتابية أو الأجنبية أو إضلالها فلا يسلم ولده الذي يولد له منها نظراً لما يقتبسه عنها من أخلاق وعادات. مصداقاً للحديث الشريف مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه.

وفي صحيح ابن حبان عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي). على أن الوالدة هي المدرسة الوحيدة للطفل فلها التأثير الأكبر على الولد إذ ليس أفعل في النفس من رؤية أم تر أم ولدها وتحنو عليه بالعطف والشفقة، لأن قلب الأم مدرسة الطفل، وإن عظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم.

فإذا كانت الأم أوروبية أو كتابية فلن تحدث ولدها بتاريخ وطنه ولا بأمجاد أجداده وبطولاتهم وما حصلوه من العلوم والمعرفة، بل تلقنه حوادث أجدادها ومآثرهم وتدفعه إلى تقديس شارل مارتيل وذم عبدالرحمن الغافقي مثلاً، وتلقي في روعه احترام ريتشارد قلب الأسد والإغضاء عن ذكر صلاح الدين، وتحدثه عن مستعمرات قومها وامتهان العرب ولا تذكر له ما قاله غوستاف لوبون: لم ير التاريخ فاتحاً أرحم من العرب.

ثم تسعى لأن تنفث سمومها فيه لتجعله يشعر كأنه يتربى في محيط غربي. وما دام التوجيه الغريزي عند الأم قد أصبح أجنبياً محضاً، فبنتيجته الحتمية تدفع أولادها إلى كره وطنهم وتفضيل أخوالهم والتزوج من أولادهم ذكوراً وأناثاً.

وقد قرأت مقالاً في مجلة الحضارة الإسلامية في العدد العاشر سنة 1962م بأنه في حادث العدوان الثلاثي قد أسر عدد من الضباط المصريين وسجنوا في إسرائيل، ثم خيروهم بين العودة إلى بلادهم أو البقاء في إسرائيل فاختار أحدهم البقاء عندهم ثم رحل إلى انكلترا واتخذ الجنسية الانكليزية، وقد تستغرب هذا الخبر مع أن أباه عربي أصيل في مصر ولكن هذه الغرابة تزول إذا علمنا أن أمه كانت انكليزية.

المقابسة بين المرأة الغربية والمرأة الشرقية:

إن المرأة الغربية كانت تمتاز عن المرأة الشرقية بسعة ثقافتها، وأما الآن فإن المرأة الشرقية قد بلغت مبلغاً كبيراً في العلم وقطعت شوطاً بعيداً بالثقافة وأصبحت تدرك معنى العلم وتقدره وتسعى لتربية أولادها على أساس علمي صحيح. هذا ما أغنانا عن الزواج بالأجنبيات. على أن الحياة الاجتماعية في الشرق جعلت العفة في أول قائمة الأخلاق عند النساء.

حتى أن الرجل يود لو أن الأرض ابتلعته إذا سمع خيانة عن زوجته أو ابنته أو احدى قريباته، نعم إن العفة فضيلة في النساء في الغرب ولكنها لم تقوم القيمة التي لها في الشرق، والعلة في ذلك هو أن الغرب قد هجر فكرة ارتباط الأخلاق بالدين ولم ينجح في إحلال شيء محله، وأما الشرق فإنه لا يزال يؤسس الأخلاق على الدين، ولذلك يقدسها.

وتمتاز المرأة الشرقية بأنها تنظر إلى نفسها كأم لأولادها وسيدة لبيتها وتحس إحساساً جديداً بحياة جديدة وشخصية جديدة عندما تصبح أماً، بينما المرأة الغربية تعنى أكثر ما تعني بنفسها كفرد ولا تود أن تكون أماً، وإذا أصبحت أما لم تحب أن تلد كثيراً خوفاً من ضياع وقتها لأولادها وحرمانها من وقتها لنفسها وهي ترهق نفسها بالمحافظة على جمالها، وكثيراً ما تحرم نفسها من عاطفة الأمومة.

ولا ينال الأولاد من أمهم في الغرب ما ينالونه من الأم الشرقية، وسبب ذلك هو أن الفردية والشخصية تغلبان على الغربيين ذكوراً وإناثاً، بينما يغلب في الشرق الرباط العائلي لأن الفرد في الغرب له أكبر الحرية فهو يفعل ما يشاء، فينصرف إلى الجد وينغمس في اللهو ما يشاء سواء كان ذكر أو أنثى وليس لأسرته أن تتدخل في شؤونه

وعلى هذا المقتفى فإن الزوج لا يتدخل في شؤون زوجته فلا يحق له أن يمنعها حريتها في حدودها وهي كذلك بالنسبة له، على العكس من ذلك الحال في الشرق فأفراد الأسرة في الشرق أكثر ارتباطاً منهم في الغرب، يشعر الفرد في الشرق بالمسؤولية الكبيرة نحو أبيه وأمه وإخوته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته وهو يعتز بعزة الأسرة ويذل بذلتها.

وصية أم لأبنتها:

مما يدل على بلاغة العرب وحص الأمهات على بناتهن ما كتبته عربية من كندة إلى ابنتها حين أرادوا أن يحملوها إلى زوجها قالت لها:

أي بنية: إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت ذلك منك ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها لكنت أنت أغنى الناس عن ذلك الزوج ولكن النساء خلقن للرجال ولهن خلقت الرجال.

أي بنية: إنك فارقت الجو الذي فيه خرجت وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه. فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً فكوني له أمة يكن لك عبداً.

يا بنية احملي عني عشر خصال تكن لك ذخراً وذكراً، الصحبة بالقناعة والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضع أنفه، والتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، والاحتفاظ ببيته وماله، والارعاء على نفسه وحشمه وعياله

ولا تفشي له سراً ولا تعصي له أمراً فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي مع ذلك الفرح إن كان ترحاً والاكتئاب عنده إن كان فرحاً، فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له موافقة واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك وهواه على هواك فيما أحببت وكرهت، والله ولي الأمر والتدبير.

والخلاصة أنه من الواجب على الشخص المؤمن أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء سيما في المرأة التي يختارها زوجة له، وأن يؤثر ذات الدين الإسلامي على غيرها، ثم يجب أن يلحظ صلاح المرأة ومنشأها والبيئة التي عاشت فيها لأن صلة الزوجية أشد وأقوى صلة حيوية اجتماعية. قال عليه الصلاة والسلام (من رزقه امرأة صالحة فقد أعانه الله على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي).

ورحم الله الإمام الشافعي حيث يقول:

وإن تزوجت فكن حاذقاً
واسأل عن الغصن وعن منبته

وابحث عن الصهر وأخواله

من عنصر الحيِّ وذي قربته

وفاته

توفي الأستاذ عبدالقادر السبسبي بعد رحلة طويلة من الجهاد والدفاع عن دينه، حيث توفاه الله في 1393هـ الموافق يوليو 1973، وأقامت نقابة المحامين بحلب حفلاً تأبينياً مساء الأربعاء الموافق 29 / 8 / 1973م، بمناسبة ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة الفقيد الغالي العالم العامل، والمحامي الفاضل الشيخ عبد القادر السبسبي رحمه الله .

قالوا عنه

يقول القاضي عبد الوهاب ألتونجي:

"وكانت أول معرفتي به حينما كنت طالباً في المدرسة الفاروقية عام 1928م، وكان أستاذاً لنا في مادة الحقوق، حيث شرح لنا المواد الكلية من المجلة، وجزءاً من أحكام البيوع .

زمالتي له، ومشاركتي له في مهنة المحاماة:

ثم انقطعت الصلة بين السبسبي وألتونجي حتى تخرج القاضي عبد الوهاب في كلية الحقوق 1936م، وهناك عادت صفة الزمالة بينهما.

وفي عام 1938م، أصبحا شركاء في المهنة في مكتب واحد، وبقيا معاً حتى تاريخ تعيين الشيخ عبد الوهاب ألتونجي في القضاء في آخر عام 1941م، حيث انفصل عنه، ولكن الصلة بين الرجلين لم تنقطع حتى آخر حياته – رحمه الله -.

في دائرة الأوقاف الإسلامية:

ولقد كان السبسبي محامياً لدائرة الأوقاف الإسلامية مدة طويلة من الزمن، ثم أعفي منها في فترة من الفترات، ولكن دائرة الأوقاف حينما لاحظت لحوق الضرر بقضاياها بعد إعفائه من الوكالة أعادت الأستاذ المرحوم إلى وكالة الأوقاف ثانية، وبقي فيها حتى أعفي منها فيما بعد.

في محكمة البداية المدنية:

ومن الطريف أن نذكر حادثة وقعت له أثناء ممارسته المحاماة، وكان ألتونجي شريكاً له، فقدم باسمه دفاعاً إلى محكمة البداية المدنية، وكان رئيس المحكمة حينئذ من القضاة المشهود لهم بالعدل والاستقامة، ويظهر أن الرئيس لم يدقق دفاع الأستاذ السبسبي تدقيقاً كاملاً

فأصدر قراراً إعدادياً ضده في تلك الدعوى دون أن يكون الأستاذ حاضراً، ولما أبلغ ألتونجي القرار غضب من هذا التصرف غضباً شديداً، لأنه يعلم أن الحق والقانون بجانبه، وأقسم أن لا يدخل محكمة البداية بعد الآن، وصار يكتب اللوائح المتعلقة بدعاوى هذه المحكمة بنفسه، وكان ألتونجي يقدمها عنه.

ويظهر أن رئيس المحكمة حينما عاود تدقيق القضية لاحظ أن الحق بجانب السبسبي، كما لاحظ أن الأستاذ انقطع عن حضور جلسات المحكمة، فسأل الرئيس عن سبب عدم حضور الأستاذ عن المحكمة ؟ فاعتذر له ألتونجي بكثرة أشغاله، فطلب الرئيس منه أن يكلفه بالحضور إلى المحكمة في الجلسة القادمة، وأنه عدّل القرار الإعدادي السابق في الدعوى، ووافق رأي الأستاذ السبسبي، ثم قال الكلمة المشهورة التي قلّما تصدر عن قاض صراحة: (إن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل)، وأصرّ على المحامي ألتونجي بلزوم حضوره إلى الجلسة القادمة.

ولما أخبر المرحوم بذلك قال له: بأنه أقسم يميناً بعدم الدخول إلى المحكمة، فماذا يفعل تجاه اليمين ؟ فقال له الشيخ عبد الوهاب: إنه من الممكن التكفير عن اليمين، والدخول إلى المحكمة بناء على رغبة الرئيس، وقد كفّر عن يمينه فعلاً، وعاد إلى المحكمة، وكانت النتيجة ربحه للدعوى.

استعانة المحامين برأيه، واستشارة القضاة له:

وكان كثير من المحامين يستعينون برأيه، ويساعدهم في كثير من اللوائح، كما أن عديداً من القضاة كانوا يستشيرونه في بعض الأحكام القانونية نظراً لغزارة علمه وخبرته الطويلة في المحاماة، وقد تدرب عنده عدد كبير من المحامين منهم من أصبح أستاذاً في الجامعة، ومنهم من أصبح قاضياً قديراً، ومنهم من أصبح محامياً لامعاً، فلقد كان – رحمه الله – يبذل معلوماته الواسعة إلى متدربيه وسائليه، ولا يبخل عليهم بشيء من تلك المعلومات.

صفاته العلمية، وقوة حافظته:

كان – رحمه الله – عالماً فقيهاً كثير المطالعة، لا يترك فرصة تمرّ عليه إلا وهو يطالع في كتاب علمي أو مرجع حقوقي، أو سفر فقهي، ولقد اقتنى مكتبة حوت مختلف أنواع العلوم، وكان إذا أراد أن يبحث في موضوع حقوقي أو علمي لا يترك مصدراً إلا ويطلع عليه لزيادة التوثق في الوقوف على الحقيقة العلمية

لذلك كانت معلوماته ومذكراته مع غيره في النواحي العلمية ورسائله التي ألفها مبنية على حقائق علمية قلما تقبل الجدل، وبعيدة عن الخطأ غالباً، وكان لا ينشر رسالة إلا ويعرضها على غيره لبيان ملاحظاته عليها حتى تكون بعيدة عن الأخطاء .

روح الدعابة الصافية:

وكانت روح الدعابة الصافية تمتلك مخيلته، ويذكر ولده أنس من دعاباته أنه أرسل إليه من ألمانيا حينما كان يدرس فيها يستفتيه في جواز أكل لحم الحمير، فأرسل إليه رداً فيه بحث شرعي وافر، ثم ختم هذا البحث مخاطباً إياه: يا ولدي كل مثلما نأكل نحن كي نستطيع أن نفهم بعضنا بعد عودتك.

ومن نكاته اللطيفة: أنه قعد يوماً في إحدى حدائق حلب يتناول طعام الإفطار، وكان يبرّ الخادم الذي يحضر له الطعام، وبعد أن انتهى من طعامه أراد أن يداعب الخادم، وكان شاباً غير متزوج، فقال له: (الله يبعث لك عروسة من لوني)، فلما نظر الخادم إلى وجه المرحوم – وكان أسمر اللون – تبسم، وقال له: (لو أتتني مثل هذه العروس لذبحتها).

ومن نكاته اللطيفة أيضاً: أنه كان ينتظر دوره في إحدى المحاكمات، ويظهر أن الحاكم لم ينبه إلى وجوده، فصار ينظر في دعاوى المحامين الذين قدموا بعده، ولا ينظر في دعواه، عندئذ التفت المرحوم إلى رئيس المحكمة، وقال له : (يظهر أن شكلي الجميل أعجبك يا سيادة الرئيس، لذلك أخرتني عندك لكي تخيّل عليّ). فضحك رئيس المحكمة من هذه النكتة، ونظر في دعواه.

رده على قانون الطوائف:

وكان من أهم البيانات التي أصدرها المرحوم: بيانه في الرد على قانون الطوائف الذي أصدره المفوض السامي الفرنسي في عام 1936م، ونحن نذكر نبذة عن صدور هذا القانون والرد عليه.

قانون الطوائف:

صدر هذا القانون بتاريخ 13 / 3 / 1936م، برقم 60 ل. ر ، ونشر في العدد (16) من الجريدة الرسمية الصادرة، بتاريخ 14 أيار 1936م، ولكنه لم يذع على الناس، ويطلع عليه الجمهور انتباه الناس في حينه، لأن الشعب كان منهمكاً في الاحتفالات بقدوم الوفد السوري المفاوض، ثم انشغل بالانتخابات النيابية، وكان التنبيه إليه في عام 1937م

حيث اطلع عليه الشعب، وتبين له ما يخفيه وراءه من طعن في الشريعة الإسلامية، فقد نصّ هذا القانون في مادته الثانية عشر على (أن الأولاد القاصرين يتبعون حالة والديهم إذا انفصل الزوجان عن طائفتهما، وإلا فيتبعون حالة والدهم إذا انفصل واحد منهم فقط، ويتبعون حالة الحي منهما إذا كان أحدهما ميتاً، أو يتبعون حالة من يكونون في عهدته، ويقوم تجاههم بالسلطة الأبوية عندما يكون الوالدان في حالة هجر أو طلاق).

ويستنتج من هاتين المادتين:

أن المسلم يمكنه أن يبدل دينه إلى دين آخر، ويكون لهذا التبديل أثر قانوني، حيث يسجل في السجل على دين أمه إذا كانت غير مسلمة ولو كان أبوه مسلماً وتوفي قبل أمه.

وهاتان الحالتان تخالفان النظام العام في البلاد الإسلامية، حيث لا تجوز ردة المسلم، ويتبع الولد دين أبيه المسلم مهما اختلف دين أمه، وكان أول من تصدى للرد على هذا النظام مؤسسة دار الأرقم، الذي كان الأستاذ السبسبي رئيساً لها في ذلك الحين، فوضع بالاتفاق مع إدارة الدار رداً علمياً على هذا القانون، كان له صداه الكبير لدى الدولة المنتدبة

وتنبه الشعب المسلم في كل من سورية ولبنان إلى خطر هذا النظام، مما حمل الدولة المنتدبة على إيقاف العمل بهذا القانون بالنسبة للمسلمين في عام 1938م، برقم (53)، وبقي سارياً بحق باقي الطوائف، وقد صاغ الرد القوي الأستاذ المرحوم السبسبي بأسلوبه الحقوقي المتين، مما جعله أقوى الردود على القانون المذكور.

وفي الحقيقة، لقد فقدت حلب – كما فقد العالم الإسلامي- بوفاة الأستاذ السبسبي حقوقياً قديراً، وعالماً نحريراً، وعالماً اجتماعياً كبيراً، وقد أحدثت وفاته فراغاً قلّ أن يوجد من يشغله، فرحمه الله رحمة واسعة، وعوض الأمة والبلاد عنه خير عوض، وفي ذمة الله والتاريخ تلك الروح الطيبة الطاهرة.

التجربة السياسية للأستاذ المحامي عبد القادر السبسبي

شارك الأستاذ عبد القادر السبسبي في الحركة الوطنية أيام إبراهيم هنانو على الخصوص. وعندما عاد الشيخ عبد الوهاب ألتونجي إلى حلب بعد أن أكمل دراسته في كلية الحقوق بدمشق، وكان عضواً في المجموعة الأولى أو النواة التي تشكلت في الجامعة السورية، فلم يتوان أو يتراخ في العمل والنشاط للدعوة الإسلامية ونشرها في ربوع حلب الشهباء، وسرعان ما قام بتأسيس دار الأرقم بالتعاون مع نخبة من الرجال الفضلاء المخلصين

وكان عبد القادر السبسبي من الرواد الأوائل الذين أسسوا دار الأرقم عام 1937م، فكانت الندوات العلمية تعقد في ذلك المنتدى، فيعج بالطلبة والمثقفين من كل صنف ولون، يستمعون إلى تلك المناظرات، وينهلون من الكتب التي ملأت خزائن المنتدى، وكم خرجت تلك الندوة من رجال أفذاذ كانوا قادة الفكر وقادة العلم في هذا البلد الأمين.

وكان يعمل إلى جانبه ثلة من العلماء الأبرار:

عمر بهاء الدين الأميري، وعبد الحميد الأصيل، ويوسف الصقال، وعبد الحميد ميري، وعبد الوهاب ألتونجي.. ومحمد فؤاد قسطلي، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وسامي الأصيل، وعادل كنعان وذلك في حلب عام 1937م.

ويتحدث المحامي محمد فؤاد قسطلي عن دور السبسبي في دار الأرقم، فيقول:

لقد صحبنا الأستاذ الراحل، تغمده الله برحمته، في رحلة طويلة في هذه الحياة، بدأت في عام 1936م، في دار الأرقم، وكان رئيسنا فيها وموجهنا، ولقد كانت هذه الدار في حينها، حصناً حصيناً صمد في مواجهة الاستعمار الأجنبي، ومخططات غزوه المادي والفكري، وحفظ للوطن العربي شبابه من الانحلال والفساد والضياع، والتأثر بسموم الاستعمار.
كما كانت هذه الدار درعاً متيناً ترتد عنه سهام الأجنبي الغاصب، وكان لها الأثر الكبير، في الجهاد الوطني آنذاك، توّجته في عام 1945م، حينما هبّت البلاد بأسرها، تطارد المحتل الغاصب، الذي حينما أخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة في بلادنا، استشرى وأضاع صوابه في جبهة واحدة، قرعت الاستعمار، وصمدت أمام شراسة الأيام الأخيرة من حياته، وصانت الشعب وساعدته على تخطي تلك الأيام العصيبة، وقدمت المعونة المادية والمعنوية لشعبنا الذي صمد حتى النصر بعون الله، وخرج المستعمر من بلادنا مذموماً مدحوراً.

ويذكر عدنان سعد الدين رحمه الله في كتابه:

لم يكن العدد بادئ ذي بدء يزيد على الأربعين في دار الأرقم، غير أن هؤلاء المؤسسين والسابقين تمكنوا من جذب أعداد كبيرة إليهم من أبناء المدينة وشيوخها وطلابها، ومن أبناء ريف حلب بما أحدثوه من أنشطة، وبما طرحوه من برامج ومشروعات ولوائح وتحرك مبدع

ومن ذلك:

  1. إنشاء مكتبة ثرية وعامرة بصنوف الكتب المتنوعة، شدت إليها المثقفين والطلاب والراغبين في المطالعة، فأقبلوا على دار الأرقم إقبالاً شديداً.
  2. شكلوا فرقاً كشفية ورياضية، وافتتحوا لها أندية، جذبت الناشئة والجيل الصاعد من كل الفئات، وقد رعى هذا النشاط الأستاذ عبد الحميد الأصيل رحمه الله، الرجل الذي عرفه إخوانه بالخلق الرفيع، والصمت الطويل، والعمل المنتج الكثير، وقد استعان في تنفيذ هذا النشاط بإخوة مخلصين من أمثال الدكتور فوزي حمد وأخيه سامي الأصيل.
  3. وضع برنامج ثقافي حافل يشمل الدروس والمحاضرات الأسبوعية والنشرات الثقافية والتوجيه الروحي والخلقي (في المقر وفي المساجد) بالمناسبات التاريخية والوطنية، ودعوة كبار العلماء والمفكرين والأساتذة من داخل سورية وخارجها للمشاركة في التثقيف والتعليم والتوجيه والتوعية الإسلامية والوطنية، فكانت محصلة ذلك إقبالاً تجاوز كل التوقعات والطموحات، وارتفع عدد الملتحقين بدار الأرقم من العشرات إلى المئات ثم تجاوز الألوف ليزيد العدد على بضعة عشر ألف منتسب خلال ثلاث سنوات مرت على تأسيس دار الأرقم كما يشهد بذلك الدكتور فوزي حمد، رحمه الله تعالى وأثابه. وعندما هرب المسلمون من مجازر الشيوعية في يوغسلافيا ورومانيا وبلغاريا وألبانيا أحسن أبناء دار الأرقم استقبالهم، وأجملوا استضافتهم وإكرامهم، واستفادوا من خبراتهم في تدريب الفتيان والشباب على الفتوة والنظام.
  4. أنشأت دار الأرقم مدارس مسائية للعمال الذين فاتهم قطار التعليم، ولم تمكنهم ظروفهم من الانتساب إلى المدارس النهارية، فالتحق لفيف كبير من مختلف الأعمار، فتحرروا من ربقة الأمية، وحملوا الشهادات الابتدائية والمتوسطة والثانوية، والتحق عدد منهم بالدراسات الجامعية، واستطاع بعضهم إكمال تحصيله العالي، وحمل شهادة الدكتوراه التي أهلتهم للعمل أساتذة في الجامعات العربية والسورية، فكانوا رديفاً للحركة الإسلامية وظهيراً قوياً في فترات لاحقة.
  5. أسس الأرقميون شركات صناعية وتجارية شارك فيها أعداد كبيرة من المساهمين من أعضاء الجمعية، كان منهم شركات النسيج والبناء والعقارات وغيرها، فحققت نجاحاً كبيراً، ومن الجدير ذكره أن إدارة جمعية دار الأرقم أنشأت لجاناً غطت بها كل مناحي النشاط، ومنها اللجان التربوية والرياضية والطلابية والعمالية والمالية وغيرها، بموجب لوائح ونظم تضبط تحركها ، فكانت دار الأرقم سباقة للجمعيات الإسلامية الأخرى في المحافظات السورية بحكم سبقها وقيامها بالأعمال الدعوية قبل غيرها.
  6. وعندما اشتعلت الثورة العسكرية والشعبية ضد الإنجليز بقيادة رشيد عالي الكيلاني كانت دار الأرقم في حلب أول من استجاب للنداء لدعم المجاهدين في العراق، إذ شكلت مجموعة مقاتلة من شباب وطلاب جمعية دار الأرقم عام 1941م وبعثت بهم إلى العراق ليشاركوا أبناءه في مقاومة الإنجليز المستعمرين بقيادة الأخ الدكتور فوزي حمد، يعاونه الأخ سامي الأصيل، فاستقبلوا على أرض الرافدين استقبالاً لائقاً، وكان لحضورهم وهم في ريعان الشباب أثر كبير في معنويات المجاهدين العراقيين، كما أعجبوا بانضباطهم وكفاءتهم، فمنحوا رئيسهم فوزي حمد رتبة عسكرية كبيرة، وصاروا ينادونه بالعقيد، لكن الثورة لم يحالفها التوفيق فاضطر أبناء الأرقم إلى العودة إلى حلب، وكان معهم أنصار الحاج أمين الحسيني فآووهم في حلب لأنهم كانوا مطلوبين من الإنجليز، ومن اللافت للنظر أن معظم قادة الأحزاب البعثية والناصرية واليسارية وأمثالهم التحقوا بدار الأرقم في بداية الأمر ثم شعروا بثقل الالتزامات الدينية والأدبية من أداء الطاعات واجتناب المحرمات، فانسحبت والتحقت بحركات سياسية أخرى.

وشارك الأستاذ عبد القادر السبسبي في حرب فلسطين عام 1948م تحت قيادة الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله - ..حيث تشكل جيش الإنقاذ في حي الميدان بدمشق.

وعندما اندمجت دار الأرقم مع أخواتها دار الأنصار في دير الزور، والرابطة الدينية في حمص، والإخوان المسلمون في حماة، والشبان المسلمون في دمشق والساحل، تعرّف (عبد القادر السبسبي) على دعوة الإخوان بعدما وصلت إلى سوريا على يد الدكتور مصطفى السباعي، وأما عن عمله في الدعوة بعد تأسيس الإخوان في سورية، فحدث، ولا حرج، ...فقد انخرط في أنشطة الجماعة، وتدرج في العمل الحركي والتنظيمي، وقد انتخب رئيساً للمحكمة العليا لجماعة الإخوان المسلمين في سورية عام 1954م...

يقول الأستاذ زهير الشاويش:

وكانت الدعوة في الشام إلى تشكيل كتائب للجهاد في سبيل الله في فلسطين قد انطلقت من حي الميدان، الشهير في دمشق وكان "لِشُعْبَته الدور الواضح والأثر الكبير في التهيئة والتدريب، والاجتماعات الضخمة التي أقيمت لنصرة فلسطين"، ومن ذلك أول اجتماع عام عقد في دار "المهاييني" وحضرة الشيخ محمد الأشمر، كما كان للأستاذ محمد خير الجلاد باع طويل، وهو الذي أعلن افتتاح باب التطوع للجهاد ما بين 1946، 1947 وكذلك الأستاذ عبد القادر السبسبي، وعمر الأميري في حلب، والشيخ نافع الشامي، في إدلب، والشاعر محمد المجذوب في اللاذقية.

وكانت له صلات قوية بعلماء عصره وقادة الفكر الإسلامي في الأمصار، حيث كانوا يؤمون داره، وينزلون في ضيافته، كأمثال أبي الأعلى المودودي من الباكستان، وأبي الحسن الندوي من الهند، والعالم محمد أبي زهرة من مصر، والدكتور مصطفى السباعي.

جمعية تعليم الأميين:

كما انصرف – رحمه الله – إلى تأسيس جمعية تعليم الأميين مع لفيف من إخوانه عملاً بقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – خيركم من تعلم وعلم.

دراسة مشروع قانون الأحوال الشخصية:

وفي عام 1969م، قرر مجلس نقابة المحامين بحلب تأليف لجنة برئاسة السبسبي لدراسة مشروع قانون الأحوال الشخصية، وكانت تعقد أسبوعياً في منزله.

أعماله الاجتماعية:

أما صفته كعامل اجتماعي فذلك أمر مشهور، ومعروف عنه:

كان عضواً في لجنة الدفاع عن حقوق مياه قناة حلب.

وفي عام 1932م كان عضواً في مؤتمر الأوقاف العام الذي عقد في حلب أيام الفرنسيين للمحافظة على الأوقاف الإسلامية، وحينما ذهب الوفد السوري إلى فرنسا للمفاوضة لعقد معاهدة لإعطاء البلاد استقلالها، وعودة الوفد بعد ذلك، أصدر الفرنسيون قانون الطوائف ذي الرقم 60 (ل .ر )، وفي نصوص هذا القانون تجنّ على المسلمين، وخروج عن مبادئ الإسلام.

رسالته في الرد على قانون الطوائف:

وقد ألف المرحوم باعتباره رئيساً لدار الأرقم رسالة في الرد على قانون الطوائف، وأحدثت الرسالة هذه ضجة في جميع الأوساط الرسمية والشعبية، مما حمل الفرنسيين على إيقاف العمل بقانون الطوائف بالنسبة للمسلمين، وبقي معمولاً به بالنسبة لبقية الطوائف في البلاد.

مقالاته الكثيرة ورسائله المطبوعة:

لقد ألف الأستاذ المرحوم السبسبي ما يزيد على مئة مقالة في مختلف المواضيع الثقافية، منها ما كان موضوعه علمياً محضاً، ومنها ما كان رداً على بعض الآراء الفقهية الصادرة عن المراجع العلمية أو غيرها، وسنأتي على بعض ردوده في هذه المقالة بصورة مختصرة.

كان يطبع رسائله ومقالاته ويوزعها مجاناً، وله رسائل صغيرة مطبوعة في بعض المواضيع الإسلامية أو تفسير القرآن الكريم، وله تعليقات قيمة على كثير من القوانين الحديثة والآراء الحقوقية التي تصدر عن كبار فقهاء القانون وبيان النقض فيها وضرورة تعديلها.

اطلاعه على المذاهب الفقهية:

كان – رحمه الله – مطلعاً على أكثر المذاهب الإسلامية، ومقارناً بينها، فإذا رأى حكماً قانونياً لم يؤخذ من المذهب الحنفي، فإنه كان يرجعه إلى مصدره من المذاهب كالمالكي والشافعي والحنبلي، وغيرهم من أئمة المذاهب.

انطباق قانون التجارة السوري على المذهب المالكي:

وقد حقق – رحمه الله – في قانون التجارة السوري المستمد من القانون الفرنسي، فرأى أن أحكامه منطبقة في الأكثر على المذهب المالكي، ويعود السبب في ذلك إلى أن القانون المدني الفرنسي بما فيه قانون التجارة وضع في أيام حكم نابليون بونابرت في فرنسا، وقد استعان هذا الإمبراطور حينما أراد وضع هذا القانون ببعض العلماء المغاربة، وكان هؤلاء العلماء من أتباع المذهب المالكي، لذلك كان قانون التجارة الفرنسي مشابهاً في كثير من أحكامه للمذهب المالكي.

ومن المؤسف أن نستورد قوانينا من المصادر الأجنبية، وننسبها إليهم، ونأنف أن نستمد تلك القوانين من الشريعة الإسلامية التي تعدّ بحق أكمل الشرائع العالمية في سائر عصور التاريخ.

حافظته القوية:

كان – رحمه الله – إلى جانب علمه ذا حافظة قوية، قلّ نظيره بين أقرانه في العصر الحاضر، فكان يحفظ سائر القوانين مادة مادة، ولا يحتاج إلى الرجوع إليها إلا في حالات نادرة.

وهنا يروي ألتونجي نادرتين عن قوة حافظته التي شهد له بها كبار العلماء والحقوقيين.

النادرة الأولى: كان الأستاذ العلامة مصطفى الزرقا، المعروف بعلمه واطلاعه على الأمور الشرعية والقانونية شريكاً للأستاذ السبسبي في المحاماة، ثم عين أستاذاً في كلية الحقوق في دمشق، ولم ينقطع عن تردده إليه واستشاراته في كثير من المسائل القانونية والشرعية، وحينما كنت شريكاً مع المرحوم في المحاماة حضر الأستاذ الزرقا إلى المكتب، ورغب من الأستاذ السبسبي أن يفتش له عن نص وارد في كتاب الفقه لابن عابدين

باعتبار أن أوقات الأستاذ الزرقا لا تساعده على التفتيش عن هذا النص، فما كان من الأستاذ السبسبي إلا أن قال له فوراً، وبدون مراجعة: إن هذا النص موجود في شرح المادة -129 – من مجلة الأحكام العدلية لسليم باز، وطلب المرحوم من كاتبه حينئذ أن يحضر له الشرح المذكور، وفتح على المادة الآنفة الذكر، فرأى الأستاذ الزرقا من قوة حافظة الأستاذ السبسبي، خاصة وأن مثل هذا النص قد لا يمر على المحامي أكثر من مرة واحدة في حياته، ومع ذلك فقد تذكر مكان وجوده بهذه السرعة.

النادرة الثانية: وقد جرت في محكمة البداية الناظرة في القضايا التجارية، حيث أصدرت المحكمة حكماً في إحدى القضايا، وأرادت الاستناد إلى المادة التي تعتبر مستند هذا الحكم، وبحث رئيس المحكمة وأعضاؤها في قانون التجارة للوقوف على رقم المادة المطلوبة فلم يجدوه

وأعادوا النظر في القانون مراراً فلم يعثروا على رقم تلك المادة، فما كان من رئيس المحكمة إلا أن قال لآذنه: ناد لنا الأستاذ السبسبي، وحينما حضر الأستاذ ، سأله الرئيس عن رقم المادة المطلوبة، فأجابه على الفور بالرقم المطلوب، وفتش رئيس المحكمة عن تلك المادة فرآها صحيحة، وهي المادة المطلوبة، فقال رئيس المحكمة لأعضائه : إن الأستاذ السبسبي هو بحق قاموس الحقوق.

وهناك حوادث كثيرة تدل على قوة حافظته يضيق المقام عن ذكرها.

ردوده العلمية:

لقد كان للمرحوم جولات علمية رد فيها على عدد من علماء القانون أو المواضيع العلمية التي صدرت من مختلف الهيئات والأشخاص ذوي الصفة العلمية، وكان ينشر ردوده في مجلة القانون التي تصدرها وزارة العدل السورية أحياناً، أو في مجلة حضارة الإسلام التي تصدر في دمشق، فقد رد على بعض آراء المرحوم الأستاذ عبد الرزاق السنهوري، ورد عدد من المستشرقين والمستشرقات

وكان يرى أن معظم المستشرقين رغم غزارة علمهم واطلاعهم على تاريخ الحضارة الإسلامية، فإنهم كانوا يدسون في مؤلفاتهم كثيراً من السموم التي ينفثونها في كتبهم، فيتأثر بها من لم يطلع على التاريخ الإسلامي ويعتقدها حقائق مسلماً بها، فكان فريق من هؤلاء المطلعين على آراء المستشرقين يحملون أفكاراً خاطئة عن الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي، رغم أنهم مسلمون، لذلك كان يتصدى للرد على أولئك المستشرقين.

ملاحظاته على الموسوعة الفقهية:

أصدرت الموسوعة الفقهية – التي كانت تصدر في الكويت – موضوعين في جزئين، هما: الأشربة والأطعمة، وقد درسهما الأستاذ المرحوم دراسة فقهية واسعة، ودون بعض الملاحظات على ما جاء في محتواهما ، وربما كانت ملاحظاته أقوى الملاحظات التي واجهت هذين الموضوعين، ومهما ثار من جدل ورد بين الأستاذ السبسبي وهيئة الموسوعة، إلا أن الرد الذي أصدره الأستاذ السبسبي كان رداً ينمّ عن اطلاع واسع في العلوم الفقهية، وتحقيق كبير في مختلف المذاهب الإسلامية، وبعد أن نشر الملاحظات الأولى عن موضوع الأشربة، عاد ونشر ملاحظات ثانية عن نفس الموضوع.

أما عن موضوع الأطعمة، فقد نشر ملاحظاته عليه مرة واحدة، لأنه يرى – رحمه الله – أن موضوع الأطعمة كان أكثر تدقيقاً وتحقيقاً من موضوع الأشربة. ولقد نشرت هذه الردود في مجلة حضارة الإسلام في حينها.

ملاحظاته على تفسير العلامة جمال الدين القاسمي:

كان المرحوم العلامة جمال الدين القاسمي قد ألّف كتابه الكبير (محاسن التأويل) في تفسير القرآن العظيم، وكان للأستاذ القاسمي رأي غير مستند إلى نقل شرعي، وفيه تأويل لا ينسجم مع صراحة القرآن، لذلك كتب مقالة أبدى فيها ملاحظاته على ذلك التأويل الغريب.

ملاحظاته على كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب):

سبق أن قلنا: إن المستشرقين الذين يكتبون عن الحضارة الإسلامية يوردون كثيراً من الحقائق الصحيحة، ولكنهم يوردون في خلال مؤلفاتهم بعض الشبهات التي قد تبدو لمن يجهل التاريخ الإسلامي صحيحة، ويطعنون بذلك في صميم الشرع الإسلامي، ومن ذلك ما ورد في كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) للمستشرقة زيغريد هونكه

حيث قارنت مؤلفته بين بلاغة اللغة العربية في الجاهلية، وبلاغتها في الإسلام، وأن اللغة اكتسبت بلاغة بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وقالت في كتابها: انظر كيف استطاع نثر محمد الذي أتى مبشراً، فسيطر على ذاك الإنسان الشاعر، وتقصد به الشاعر الشنفرى الجاهلي – ودخل إلى أعماقه، واستشهدت على ذلك بسورة التكوير، معبرة بذلك أن القرآن كان من نثر محمد -عليه الصلاة والسلام-، وقارنته مع ذلك الشاعر الجاهلي.

ولقد عقب المرحوم في ملاحظاته على معربي الكتاب السيدين فاروق بيضون، وكمال دسوقي اللذين لم يبديا أية ملاحظة على هذه الجملة، لذلك كتب رحمه الله مقالاً جليلاً رداً على هذه العبارة، وبين فيه أن القرآن العظيم هو من كلام الله تعالى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن من يزعم بأن القرآن من نثر محمد عليه السلام إما أن يكون جاهلاً أو حاقداً أو عدواً للإسلام، وقد نشرت هذه المقالة في مجلة حضارة الإسلام في حينها.

مشاركته في خدمة المجتمع وأعماله الدعوية:

لقد شارك المرحوم عبد القادر السبسبي في سائر الحوادث الاجتماعية التي جرت في البلاد أيام الاحتلال الفرنسي وبعده، فلقد كان منذ نشأته عضواً في الكتلة الوطنية التي قاومت الاستعمار، وكان عضواً في لجنة الدفاع عن حقوق مياه حلب، وكان عضواً في مؤتمر الأوقاف العام الذي عقد في حلب عام 1932م، للمحافظة على الأوقاف الإسلامية، وكان أبرز أعماله عضويته في نادي دار الأرقم الذي أسس في حلب عام 1937م، ثم أصبح رئيساً له، وكان للنادي أعمال بارزة يعرفها كل من اطلع على سير أعمال النادي في جميع مراحله.

كان – رحمه الله – يشارك في كل اجتماعي، سواء كان خيرياً أو اجتماعياً عاماً، وكان يؤخذ برأيه في أكثر الأمور الطارئة نظراً لسعة مداركه، ورجاحة عقله، واتزانه في جميع أعماله.

أخلاقه العالية:

وكان لا يجيب على سؤال إلا إذا تحقق من الجواب الصحيح، ويحيط به من جميع جوانبه.

وكان – رحمه الله – ذا أخلاق عالية، وتدين شديد، وكان متواضعاً إلى آخر حدود التواضع.

وكان فكهاً يملأ المجالس فكاهة وظرفاً، ويحفظ من الشواهد ما لا يحفظه أحد مثله، وكلما كان مجتمعاً مع جماعة يتداولون الحديث بوقف الحديث فجأة، ويقول لهم: لقد تذكرت نكتة تناسب الموضوع، ثم يروي لهم النكتة، وقد تتعدد النكات التي تناسب موضوع الحديث.

الأستاذ عبد القادر السبسي رحمه الله:

وكتب الأستاذ محمد فؤاد قسطلي بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة السبسبي:

قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، إنها ساءت مستقراً ومقاماً، إلى قوله: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويلقون فيها تحية وسلاماً، خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً)، الفرقان : 63- 76 .

نحن اليوم في ذكرى الأربعين على وفاة عبد من عباد الرحمن، جدير بنوال شرف هذه العبودية، التي تتطاول لها الأعناق، وتهفو إليها النفوس، ويبذل في سبيلها كل غال ونفيس.

من بقايا السلف الصالح:

وسأرسم لكم صورة صادقة للأستاذ الراحل مأخوذة من أقواله وأفعاله: فلقد كان الأستاذ عبد القادر السبسبي، طيب الله ثراه، من بقايا السلف الصالح، قولاً وعملاً، وكان شديد الخشية من الله تعالى، وإنما يخشى الله من عباده العلماء، كما كان شديد الحياء من الله تعالى ومن الناس، والحياء شعبة من الإيمان.

وكان حسن التوكل على الله، وقوي اليقين بالله حتى أنه كان يردد دائماً قول الشاعر:

وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالمخاطر كلهنّ أمانُ

دائماً قول الشاعر:

وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالمخاطر كلهنّ أمانُ

وكان هيناً ليناً يألف، ويؤلف دمث الأخلاق، حاضر البديهة والنكتة الأدبية.

وكان يجتهد دائماً في تطبيق أحكام الشرع الحنيف في مجالات حياته، تطبيق موقن، مطمئن النفس والضمير إلى أنها هي السبيل الأول لنجاة هذه الأمة أفراداً ومجموعات في الحياتين، وعارف أن لا إصلاح ولا نهوض للمسلمين إلا باتباع أحكام دينهم.

العمل الجادّ الحثيث في الدعوة إلى الله:

وامتدت رحلتنا معه – رحمه الله – بعد ذلك إلى آفاق واسعة رحبة من العمل الجاد الحثيث، في سبيل نشر كلمة الله وإعلانها في الأرض، وفي سبيل النهوض بهذه الأمة الصابرة من الوهدة المخيفة التي هوت فيها، وفي سبيل الأخذ بيدها والنهوض بها ثانية نحو المنبع النير العذب، الذي ارتوى منه قادة الإسلام ومجاهدوه، منذ أن بزغ نوره، بظهور الدعوة المحمدية، فعمّ الأكوان، وشمل البرايا

وأخرج للبشرية خير أمة أخرجت للناس تقودها في مراقي العز، ومعارج الفلاح، في نطاق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي جلا غياهب الفسوق والعصيان، ونقى قلوب البشر وغسلها برحيق الدعوة المحمدية، فإذا الدنيا إسلام، وإذا الدنيا سلام، وإذا البشر يرتفعون بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى ذرى عالية من الرقي والعلاء.

من أساطين القانون والشريعة:

ولقد كان – متعه الله بالنعيم – من أساطين القانون والشريعة، فهو حجة في الأحكام الشرعية، كما هو في الأحكام القانونية وتخريجاتها، وكانت آراؤه واجتهاداته، مناراً يهتدي به، كما كان رجال القضاء، يجدون في علمه وفضله، وسعة اطلاعه وصدقه في مرافعاته ودفوعه، خير ضمان يطمئنهم ويساعدهم على إحقاق الحق وإقامة العدل.

في ميادين الدفاع عن الشريعة:

ولما رأى الراحل، أنزل الله على جدثه شآبيب رحمته، أن العمر قد تطاول به، وأنه آن أن يخلد إلى الراحة من وعثاء العمل، الذي قضى فيه معظم أيام حياته، تقاعد عنه، ولكنه لم يخلد إلى الراحة والكسل كما يفعل أكثر المتقاعدين، وإنما جند نفسه في ميادين الدفاع عن الشريعة الإسلامية الغراء، وحمل راية الجهاد ضد كل من تسول له نفسه أن ينال من الشريعة المطهرة أي منال، فلم يدع مستشرقاً ماكراً يكيد للإسلام، إلا وانتصب للرد عليه، ولم يترك مبتدعاً أو متفيهقاً خبيثاً، يريد أن يدس السم في الدسم، إلا وسفه رأيه، وأظهر خبث نواياه.

كما أنه لم يأل جهداً في شرح وتفسير كثير من الأفكار والأحكام الإسلامية، خدمة للدين، وقياماً بواجب الدعوة إلى الله، اختاره الله إلى جواره، فلبى مولاه راضياً مرضياً. فسلام عليه في المجاهدين الصابرين، في زمان شغل فيه الناس، بالمال واللذة والمتاع، عن كل ما عداه، وتخلوا عن الآخرة، وتفرغوا للدنيا .

رحم الله تعالى فقيدنا الغالي الأستاذ عبد القادر السبسبي، وأجزل مثوبته. وحشرنا وإياه مع النبيين والصديقين، والشهداء والمجاهدين والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ونختم بالدعاء له ضارعين لله تعالى:

يا من وسعت العالمين رحمة
وشملتهم بالجود والإحسان

اغفر لعبدك يارحيم ذنوبه

وأنله من كرم فسيح جنان

المحامون الذين تمرنوا عنده:

تمرن عنده عدد من المحامين، طيلة عمله في المحاماة، كثير من القضاة والمحامين، وقد كانوا من خيار الناس، وأطهرهم ضميراً ووجداناً ؛ لأنهم لا يكتسبون لديه العلم والمعرفة فقط، بل كان يفيض عليهم من تقاه، وصلاحه وورعه، ما يجعلهم باتباعهم نهجه، من الرعيل الأول الذي يمكن أن يوجه هذه الأمة نحو المجد والسؤدد.. وكان أولهم: الأستاذ شوقي الزيات، وآخرهم الأستاذ عبد العزيز الشماع، ومنهم الدكتور معروف الدواليبي، والأستاذ مصطفى الزرقا، وقاضي الشرع الأول الأستاذ عبد الوهاب التونجي، والأستاذ المحامي سليم عقيل، والأستاذ فؤاد قسطلي، والأستاذ محمد سيرجيه، وغيرهم كثير.

الداعية المصلح:

وحسبي أن أقول لكم: إذا ما ذكرتم عبد القادر السبسبي، فاذكروا الداعية المصلح الذي قضى نحبه في طلب العلم، ومن أجل العلم، وقد سئل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : أي جلسائنا خير يا رسول الله ؟ فقال: من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله.

رده على المستشرقين والحاقدين:

وقد كتب في موضوعات شتى، وأولى عناية خاصة الموضوعات التي فيها ردّ على الشكوك والتهم التي يثيرها المستشرقون والمستغربون والحاقدون على الإسلام، ومنها مقالة: (الدر المكنون رداً على قالة الملعون) وتفنيد لأباطيل المغرضين الذين تناولوا بعض العلماء الأعلام، كالإمام البخاري رضي الله عنه، بالنقد والغمز والتجريح، رداً على مقال نشرته مجلة العربي عدد (70): لا تفتروا على الإمام البخاري، كل ما في صحيح البخاري صحيح، ومن إنتاجه العلمي: الرد العلمي الصريح على الموسوعة الفقهية، وكثير من المقالات نشرت في مجلة حضارة الإسلام، نشراً للثقافة وتعميماً للفائدة.

وقد ألف عدة كتب، منها كتابه عن الأحوال الشخصية وكتابه عن الزواج والرق في الإسلام وفقه الإسلام . كان الجهاد بالقلم واللسان في سبيل إعلاء كلمة الله ديدنه، إنه لم يترك راية الجهاد إلا ليد الموت التي لا تقهر. كان يحمل راية الإسلام والوطنية والكرامة بقلبه لا بيده، بروحه لا بأنامله.

مؤلفاته

وله كتب كثيرة، منها:

  1. شرح قانون الأحوال الشخصية.
  2. الزواج والرق في الإسلام.
  3. فقه الإسلام.
  4. في ظلال سورة البروج.
  5. الأوقاف الإسلامية.
  6. المرأة الصالحة رابطة المجتمع - مجلة حضارة الإسلام: ع 4، س 3 ص 42- 48.

ونشر رسائل صغيرة في بعض الموضوعات الإسلامية كان يوزعها بنفسه مجاناً.

وصيته لأبنائه

وقد كانت وصيته لأولاده متمثلة بقول الشاعر:

يناشدنا بالله ألا تفرقوا
وكونوا رجالاً لا تسروا الأعاديا

فروحي من هذا المقام مطلة

تشارفكم عني وإن كنت باليا

فلا تحزنوها بالخلاف فإنني

أخاف عليكم في الخلاف الدواهيا

أجل أيها الداعي إلى الخير إننا

على العهد ما دمنا فنم وأنت هانيا

بقاؤك محفوظ وطيفك ماثل

وصوتك مسموع وإن كنت نائيا

أصداء الرحيل

أقامت نقابة المحامين بحلب حفلاً تأبينياً مساء الأربعاء الموافق 29 / 8 / 1973م، بمناسبة ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة الفقيد الغالي العالم العامل، والمحامي الفاضل الشيخ عبد القادر السبسبي رحمه الله .

اجتمع شمل المدعوين في باحة النادي التي تظلها الأشجار السامقة، وتحتل طرفها بركة واسعة، وتشرف عليها عمارات أهل الحي (السبيل) من نواحيها، وتتلألأ المصابيح الكهربائية في أركانها جميعاً، وفي تمام الساعة السادسة افتتح عريف الحفل الأستاذ عبد القادر الحيدري، افتتح الكلام بالاستماع إلى آي من الذكر الحكيم.

كلمة المحامي طريف كيالي رئيس نادي المحامين:

وبعد الإنصات بخشوع إلى تلاوة ما تيسر من كتاب الله عز وجل، تقدم إلى الكلام المحامي الأستاذ طريف كيالي رئيس نادي نقابة المحامين، فرحب بالمدعوين – وكانوا حشداً ضخماً – ثم انتقل إلى الكلام على مزايا المرحوم السبسبي الكثيرة، ووقف عند مزية هامة، ألا وهي: توفيقه البارع بين الدين والعلم، أي: الاستنباط من دين الإسلام العظيم، وبعث الثقة في النفوس، وأثبت بالقول وبالفعل أن الإسلام دين الحق، وما سواه باطل.

كلمة الأستاذ إحسان كيالي: رئيس فرع نقابة المحامين بحلب:

ولما فرغ رئيس النادي من ثنائه، انتدب إلى الكلام الأستاذ إحسان كيالي رئيس فرع نقابة المحامين بحلب، فأعلن أسفه على خروج جنازة المرحوم في غيبتهم لما كانوا في مؤتمر حقوقي خارج المحافظة، ثم تناول بالإشارة والإكبار دور الفقيد السبسبي في بناء صرح نقابة المحامين، علماً ومسلكاً، مما جعلها مفخرة بين أمثالها في المحافظات والبلاد الأخرى

كما أفاض في الحديث عن تبحر المرحوم في المسائل القانونية، وعن حفظه لمجلة الأحكام العدلية كلها عن ظهر قلب، وعن موقفه الشجاع لما كان وكيلاً لحقوق الأوقاف الإسلامية برغم قلة راتبها، ولم ينس أن يكبر فيه تواضعه الجم وروحه المرحة، على أن أهم شيء فيه (نضاله العلمي الإسلامي): مطالعة وكتابة واستمراراً عليه قبل التقاعد وبعده، لا سيما رده المشهور على عبد الرزاق السنهوري: حول النهضة العلمية في ضوء القانون الغربي – في مجلة القانون – معتبراً الفقه الإسلامي كنز الشريعة الغراء.

ثم أخذ بتعداد مؤلفاته الكثيرة، ونوه بشكل خاص بمؤلفه الضخم (شرح قانون الأحوال الشخصية)، وأعلن عن نية النقابة على طبعه ونشره على نفقة النقابة الخاصة تقديراً لجهوده الواسعة، ومن أهم جهوده العلمية: تخريج جيل عريض من القضاة والمحامين في مكتبه، فقد عمل منذ 1919م محامياً، وأصبح 1925م أستاذاً، وفي 3/1 / 1959م أحال نفسه على التقاعد حيث لم ينقطع فضله المدرار.

كلمة القاضي فؤاد القسطلي:

ثم أعطي الكلام للقاضي فؤاد القسطلي، الذي ألقى كلمة (القضاء) فافتتح كلمته بقوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً ..ومقاماً)، واعتبر المرحوم السبسبي من بقية السلف الصالح القلة في هذا الزمن الذي فسد أهلوه، وأفاض في كلمته عن دور المرحوم في جمعية (دار الأرقم) التي أسهم في تأسيسها 1936م، وقاد جهادها الوطني في العهد الفرنسي البائد حتى 1945م، يوحد الصفوف، ويربي الناشئة، ويقارع الاستعمار، ويدعو إلى الله سراً وعلانية باللسان وبالبنان، حتى أصبح من أعلام هذه الأمة يشار إليه، ويؤخذ رأيه في عرينه، ويضرب بسيفه.

كلمة المحامي أسامة الصابوني:

وكانت الكلمة التالية للمحامين، وقد ألقاها المحامي الأستاذ أسامة الصابوني، امتازت كلمته بالبلاغة الساحرة وبالتأثر الواضح، لا سيما حديثه عن غرور الجيل الجديد الذي كان يستهين بالجيل القديم وبرجاله، فإذا بالسبسبي العبقري يدهش الجيل الجديد بعلمه وكرمه وشجاعته وتواضعه وذكائه، ويجعل أقصى مطامح الجيل الجديد أن ينظر فقط إلى بعض منزلة الجيل القديم.

فمثلاً استطاع السبسبي هذا الرجل الضيئل الحجم في الجسد أن يؤسس جمعية دار الأرقم في حلب مقابل النادي الكاثوليكي، ليقود الأجيال الجديدة في معركة الانتقال من عصور الانحطاط إلى العصر الحديث، فيجنبهم الانبهار والضياع، ويعزز فيهم الثقة بأنفسهم وبأمتهم وبشريعتهم الغراء، ويتخذهم أبناءه؛ لأنه رزق الأولاد على كبر، فنهاره يقضيه في تربية شباب دار الأرقم وليله في المطالعة والكتابة.

ويروي أسامة الصابوني حادثة له مع المرحوم السبسبي حين استشاره بمسألة عن الحقوق الذرية فقال له: إنها قضية شائكة، دعنا ندرسها في جلسة مطولة في متنزه، ولما اجتمع شملهما ثانية، أخذ السبسبي يعطي، ويعطي من علمه ونفسه ما أذهل المحامي الصابوني، وأدهشه علماً وفهماً.

وفي الختام أحب المحامي الصابوني أن يرد الجميل بما يشبه الأجر، فإذا بالسبسبي يرفض بكل إباء وكرم، لأن عطاءه أسمى من أن يقدر بشكر أو أجر، فأين نحن ؟ وأين جيلنا؟ وأين واقعنا الأسود المتكالب على اللهو والغش والخيانة من ذلك الرجل العظيم ؟

رحمك الله يا أبا أنس رحمة واسعة، وألهمنا عنك الصبر والسلوان وعلمنا كما علمك العطاء ولذة العطاء، من النفس قبل الطمع بما في أيدي الناس. فنسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الرشد دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك، وأنت أهل لحسن الثناء وطيب البقاء.

لقد عشت حميداً مودوداً، ومتّ سعيداً مفقوداً، رحمة الله عليك، وتحية لك من قلوب مفجوعة لذهابك، ومسح الله على قلوبنا بالصبر الجميل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المصادر

  1. مجلة حضارة الإسلام، بدمشق: عدد رمضان وشوال 1393
  2. الرق والتسري في الإسلام: للأستاذ عبد القادر السبسبي المحامي، مجلة حضارة الإسلام، المجلد 1، العدد 9، سنة 1961م
  3. عبد القادر السبسبي، المستشرقون وتعدد الزوجات، 1971، العدد 7، صـ73- 78.
  4. خير الدين الزركلي: الأعلام، الجزء الرابع، صـ39.