عبد الناصر وسقوط المثقفين (1/2) - المثقفون بين الملكية والناصرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
عبد الناصر وسقوط المثقفين (1/2) المثقفون بين الملكية والناصرية


المقدمة

لم يكن انشاء عبد الناصر لوزارة الثقافة وغيرها من مؤسسات الثقافية ، حبا في الثقافة او رغبة في زيادة وعى الجماهير ، انما كان رغبة في بناء حظيرة تجمع قطيعاً من (مثقفين) سيتم ترويضهم واخضاعهم لرغبات الزعيم ...

ومن ثم فلامعنى لاى حضور ثقافى مهما كان فخما مالم تكن هناك حريات تضمن قيام المثقف بدوره ورسالته ، والا كان هذا الحضور الثقافي هو لخدمة السلطة وتبرير سياساتها وتحرص السلطة المستبده دوما على ادخال المثقفين في (حظيرتها) !

ليصبحوا هم لسانها وترجمان حالها ، بما يملكون من (لسان ذرب ، وقلم سيال ، وعقل يملك مهارة الاحتيال على الحق ليصبح باطلاً ، وعلى الأسود ليجعله أبيض ، يلعبون بالأفكار ويضحكون على الذقون ، ويسربلون الأغراض الدنيئة بأنبل الشعارات) وهكذا وصفهم واحد منهم صلاح عيسى في كتابه (مثقفون وعسكر) الصادر عام 1986

في هذه الورقات إشارة لدور المثقفين ، وتطور ذلك الدور من الملكية الى الناصرية .. مما أدى في النهاية الى سقوط قلاع طالما تحصنت بها امتنا العربية والإسلامية طويلا ... سقوط المثقفين

دور المثقفين في حماية وعى الشعوب

وكلما تجرد المثقفون لرسالتهم ، كلما زادت قوة ومناعة المجتمع الذى يعيشون فيه ... لكن المشكلة دوما تكون في (مثقفين) امتلكوا الأدوات والموهبة لكن غابت عنهم الرسالة والقيمة ...

تعريف المثقف ودوره

اصل الثقافة في اللغة هو تقويم العود وإصلاح اعوجاجه ، ليكتسب صفات جديدة تجعل منه رمحاً .. أما المثقف في منظور زكي نجيب محمود ، فهو (رجل بضاعته أفكار يريد أن يغير بها وجه العالم) ، فهو منشغل دوماً بالسعي لتغيير المجتمع نحو الأفضل ، بعكس السياسي المنشغل بتبرير وتكريس ما هو كائن . وهذا يعني أن المثقف ليس من يقرأ الكتب ويجمع المعلومات ، لكن من يعيش هموم وقضايا مجتمعه .

إدوارد سعيد المثقف الفلسطينى البارز قدم له تعريفا محكما ، إذ عرفه بأنه "ذلك الموهوب الذى يقوم علنا بطرح الأسئلة المحرجة"

ويشير فهمى هويدى الى انه:

يمثل المسكوت عنه ، ويمثل نبض الجماهير ، لا يقبل بأنصاف الحلول أو أنصاف الحقيقة . هو الشخص الذى يواجه القوة بخطاب الحق ، وهو الذى يقاوم بفكره ونشاطه هيمنة السلطة السائدة بمختلف أنماطها ..

وذلك لا يعنى بحالٍ فرض وصايته الفكرية والسياسية على المجتمع ، او تقديم نفسه بوصفه الناطق الرسمي باسم الحقيقة والعدالة ، أو باعتباره الممثل الطبيعي والعفوي للأمة البديلة (بتعبير د. برهان غليون).

الثقافة في الحضارة الاسلامية

يقول الدكتور زكي نجيب محمود:

ما إن ظهرت الدعوة الإسلامية ، حتي قفز معني كلمة الثقافة قفزة نوعية هائلة نقلتها من ميدان الرماح والقتال إلي فطنة العقل وذكائه . وقد جاءت تلك النقلة علي يد أديب العربية الكبير "الجاحظ". ومنذ ذلك الحين لم تعد الثقافة تعني تسوية العود الذي يركب عليه سنان الرماح ليصلح للقتال ، بل أصبحت في استعمال الجاحظ لها تعني إعادة استصلاح الإنسان ، وتسوية وتقوية فكره ، وتنمية ملكة الحكم لديه، ليصبح بفطنته وذكائه قادراً علي حل مشكلات الحياة

يذكر فهمى هويدى ان التراث الإسلامى شدّد على استقلال المثقف ، حيث وضع قيودا على علاقته بالسلطة ، فتحدثوا عن ضبط العلاقة بين الفقيه (كان فى صدارة مثقفى تلك الأزمنة باعتبار أنه لم يكن عارفا بدينه فقط وإنما بزمانه أيضا) والسلطان ..

إذ خصص الإمام أبو حامد الغزالى بابا فى كتابه "إحياء علوم الدين" عالج فيه ما يحل وما يحرم من مخالطة السلاطين وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام له ــ وفيه تحذير من تلك المخالطة وانزالها منزلة (الكراهة) ، باعتبارها من مواقف الفتن .

كما نُقل عن الإمام الأوزاعى قوله "ما من شىء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا" ، يقصد حاكما .. كما استشهد بمقولة سحنون (ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيُسأل عنه فيقال عند الأمير) ، ومقولة الفضيل (ما ازداد رجل قربا من ذوى سلطان إلا ازداد من الله بعدا)

العلاقة بين السلطة والمثقف

لكن المثقف بهذا التعريف وذلك الوصف ، كان دوما مصدر ازعاج للنظم الاستبدادية ، فهم – اى المثقفون - عندها سبباً للبلبلة وعدم الاستقرار في المجتمع ! فعملت السلطة دوما وبإصرار على تحييد المثقفين أو احتوائهم رغبة في الهيمنة والسيطرة عليهم ، حتى لايبقى منهم سوى المنحازين للسلطة ..

والملاحظ أن هذه الظاهرة تتضح بشدة خلال الأحوال التي يتصاعد فيها دور رأس المال السياسي أو في النظم الشمولية .. ويمكن القول إن جيل الخمسينات والستينات من المثقفين العرب كانوا اكثر من تعرضوا لهذه الظاهرة ، وذلك حين حرصت السلطة الاستبدادية على نقل الشعب من مرحلة (الاستعمار) الخارجي إلي مرحلة (الاستحمار) الداخلي ، بحسب مقولة المفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي ، والتي عرض لها في كتابه (النباهة والاستحمار) والتي حاول فيها تشخيص وتفكيك أزمة المجتمعات الإسلامية .

و(الاستحمار) في منظور علي شريعتي ، هو آلية تقوم علي تسخير الناس كالحمير، ويتحقق ذلك بامرين:

  1. التجهيل بإشاعة الغفلة والجهل ..
  2. والإلهاء بتقديم الجزئي علي الكلي أو الخاص علي العام ..

وفي سعيها لاستحمار شعوبها ، سعت السلطات العربية الاستبدادية إلي احتواء المثقفين ، وترويضهم، وإفسادهم، وتحويلهم من مثقفين مستقلين إلي تابعين ، أو قهر الشرفاء منهم ، مستخدمة كل الأسلحة المتاحة .

مما دفع بالأستاذ صلاح عيسي في كتابه (مثقفون وعسكر) أن يتخذ من جيل الستينات عينة لدراسة أثر القهر علي الأدب والفن والإنسان .. ودفع كذلك بالراحل الكبير فتحي غانم أن يُصدر كتابه (معركة بين الدولة والمثقفين) ليبين للأجيال المقبلة ، كيف سيطرت المخابرات والمباحث علي عقول المصريين في عهد عبد الناصر، وكيف سعي عبد الناصر في سبيل صنع زعامته وتأمين الثورة والنظام إلي تفريغ عقول المصريين ...

وقد أسفر كل ذلك عن شيوع نماذج جديدة للمثقف في بلادنا ، مثل المثقف المُوظف ، والمثقف المُدجن ، والمثقف المُبرر، ثم المثقف الفهلوي .. ففقدت الثقافة والمثقفون احترام السلطات والجماهير معا ثورة المثقف المهدور الذي يقول لا لعمليات التدجين المقبلة

الثقافة والمثقفون في الفترة الملكية

تفاوتت تدخلات السلطة في الشأن الثقافي ، حسب قوة المجتمع ومستوى الحريات الممنوحة له ، فكانت تلك التدخلات في (الملكية) اقل منها في (الناصرية) ..

الاتجاه العام للمثقفين المصريين

انحاز أغلب المثقفين في عهد الملكية الى عروبة امتهم وإسلامها وحقها في العيش في حرية وكرامة ، فكان اغلبهم حائط صد امام محاولات فرض التغريب على الامة طوال عهد اسرة محمد على

وكما يقول د. حلمي القاعود:

(أن الواقع الثقافي حتى بدايات الانقلاب الأول 1952 كان يمضي غالبا في رحاب التصور الإسلامي الذي تعيشه الأمة منذ ارتباطها بالإسلام قبل ثلاثة عشر قرنا من الزمان ، ولم تؤثر في هذا التصور أفكار النخب التي ابتعثها محمد على وابناءه إلى أوربا ، فقد كانت هذه النخب تعتقد أن ما تنقله من أفكار وتصورات كان يصب لصالح الحضارة الإسلامية ويجدد الخامل من عناصرها وينشط البطيء من معطياتها)

يقول الدكتور جلال امين :

كان التيار السائد فى الثقافة المصرية يجمع بين خصلتين جميلتين: احترام التراث الدينى ، مع احترام انجازات الحضارة الحديثة ، وكان أوضح مثال لذلك هو اكتشاف سيد قطب لعبقرية نجيب محفوظ وإشادته بها ..

وهكذا استطاع المثقفون – بالعموم – الوقوف دفاعا عن عروبة الامة واسلامها امام محاولات (التغريب) الذى كانت ترعاه السلطة آنذاك وتشجع عليه .. وبقيت الامة في عمومها محتمية بمثقفيها في مواجهة تلك القيم الوافدة ..

معاملة المثقفين خلال الفترة الملكية

لم تكن للسلطات الملكية آنذاك كثير تدخل في الحياة الثقافية ، بمعنى انها كانت بالجملة افضل حالا من الحقبة الناصرية لعوامل منها:

  1. ان الممسكين بالسلطة في عهد الملكية ، هم أنفسهم كانوا من المثقفين ثقافة عالية (لا أقصد الملك نفسه وإنما أقصد الوزراء ورؤساء الحكومات ، وكذلك الرجال المحيطين بالملك نفسه والمؤثرين في قراراته) ، ومن ثم كانوا أكثر معرفة وتقديرا لمعنى (حرية الفكر)
  2. كما كان الممسكون بالسلطة في عهد الملكية لديهم احترام أكبر للقضاء ، مما كان لدى من جاء بعدهم ، ومن ثم كانت أى محاولة للتأثير في القضاة تعتبر عملا بالغ التدنى وداعيا للاحتقار ..

فبرغم محاولة السلطة الدفاع عن خياراتها وسياساتها (التغريبية) ، الا ان هامش الحرية كان كبيرا ، مما سمح بنمو تيار ضخم في مصر – الدولة العربية الأكبر – متمسك بقيمه الدينية وحضارته الإسلامية ، وكان الإخوان المسلمون مثلا – على غير رغبة الملكية – يزدادون قوة وانتشارا يوما بعد يوم ..

الأزهر الشريف جامعة المثقفين

وكانت النواة الصلبة لمثقفى تلك الفترة ممن ينتسبون الى الأزهر الشريف ، فمنذ ان قام الشيخ عمر مكرم ـ من علماء الإسلام ـ بعزل خورشيد باشا وتولية "محمد علي" رغما عن الخليفة العثمانى آنذاك … وعلماء الأزهر وطلابه هم الذين يتصدرون قيادة الشعب المصرى لمواجهة طغيان السلطة سواء كانت اختلالا غريبا او حكما عثمانيا ..

فلمعت في سماء الامة المصرية أسماء مثل رفاعة الطهطاوي ، وجمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، وعلي مبارك ، وعبد الله النديم ، ومحمود سامي البارودي ، وعبد الله فكري ، والعقاد ، وحسين وسيد المرصفي ، ومحمد المويلحي ، وعبد العزيز البشري ، وسعد زغلول ، وحسن البنا ، وعلى الجارم ، وسيد قطب

ومحمود حسن إسماعيل ، وآل عبد الرازق ، وطه حسين ، والزيات ، والغزالي ، والشعراوي وغيرهم ، جميعهم يصدرون في معظم فيما يكتبون عن تصور إسلامي ، وكانوا يسعون إلى نهضة الأمة على أساس إسلامي لا على أساس ماركسي أو تغريبي ، وقد ضحوا في سبيل ذلك بأعمارهم وثرواتهم ومراكزهم، وقبل ذلك بحريتهم الشخصية ..

كما ان الظاهرة الأدبية في مصر كانت تشير إلى أن الشعراء وكتاب القصة والرواية والدراسة الأدبية والنقد الأدبي والتمثيلية الإذاعية والفيلم والمسلسل التليفزيوني ، جاءوا في الغالب من الأزهر الشريف أو ممن اهتدوا بفكره وعلومه .

وظل الأزهر الشريف يقوم بدوره في انتاج مثل هؤلاء الافذاذ او في دعمهم بعلمائه ومكانته ان لم يكونوا من أبنائه ... لكن الضربة القاصمة للأزهر بدأت مع عبد الناصر بعد الانقلاب العسكرى في 1952 ومحاولته السيطرة على الأزهر الشريف في سعيه المحموم للانفراد بالسلطة !!

"الكلمة الرسالية" في العطاء الفكري للدكتور حلمي القاعود المصريون – 1/9/2016

لكن مع قيام انقلاب العسكر في يوليو 1952 تغيرت معاملة السلطة الحاكمة للمثقفين تغيرا جذريا ..

الثقافة والمثقفون في عهد عبد الناصر

ادرك عبد الناصر مبكرا أهمية السيطرة على الجماهير ، خاصة عندما اجبرته تلك الجماهير على إعادة اللواء محمد نجيب – خصمه السياسى - الى السلطة فيما عُرف بأزمة مارس 1954 ، ولم ينقذه من تلك الازمة الا استعانته بجماهير اخرى (مدفوعة الاجر) من الغوغاء ، حيث دخلوا الى مجلس الدولة وضربوا الفقيه القانوني الكبير فرج السنهورى باشا بالاحذية !

واخذت تلك الجموع (مدفوعة الاجر) تهتف ضد الديمقراطية وضد عودة الجيش الى ثكناته ! فانتبه عبد الناصر الى خطورة تشكيل وعى الجماهير من خلال ما يُكتب في الصحافة او يُقدم في الاعلام ، في روايات او أفلام او كتب او مسرحيات ..

كيف روّض عبد الناصر المثقفين ؟

ادرك عبد الناصر ان مفتاح تشكيل وعى الجماهير هم المثقفون وما يتمتعون به من حرية في ابداء آرائهم ، فقام أولا بضرب جماعة الإخوان المسلمين عام 1954 والتي كانت تشكل الحاضنة الأكبر للمثقفين في ذلك الوقت ، ثم اقبل على من تبقى من المثقفين من غير الإخوان والتيار الاسلامى العام ، بالترهيب أولا ثم بالترغيب ثانيا ، حتى نال من اكثرهم .

فساق كل من خالفه او عارض انفراده بالسلطة الى السجون ، فدخلها الإخوان المسلمون أولا ، ثم الشيوعيون ثانيا عام 1958 ، لكن القدر الأكبر من القمع كان من نصيب الإخوان المسلمين والذى استمر حتى نهاية حكم عبد الناصر وموته 1970 ... اما الشيوعيين فقد افرج عنهم عبد الناصر بعدما استطاع ترويضهم ! فادخلهم الى حظائره !

انشاء وزارة الثقافة

فأنشأ عبد الناصر وزارة الثقافة عام 1958 ، لاجل السيطرة على المثقفين وإخضاعهم ووضعهم تحت هيمنة الدولة ، ووصل الأمر الى ان تكون الأجهزة الأمنية هي الموجه الحقيقي للثقافة والمثقفين كما يقول د. حلمي القاعود ...

وتتابعت بعد ذلك انشاء المؤسسات الثقافية ليدخلها فقط المرضى عنهم المثقفين ، ممن يسبحوا بحمد النظام ويمجدوا في حكمة وشجاعة وبعد نظر الزعيم !! ولتكون هي وحدها مصدر الدعم المادى والتقدير الادبى للمثقفين وطريق الشهرة والوصول الى الجماهير !!

فنتج عن ذلك ظاهرة سماها حلمي القاعود بظاهرة (المثقف اللص) الذى يبيع شعبه ويقف في خندق الاستبداد ويصعد على جنازير الدبابات دون أن يخجل أو يستحي ، وفي الوقت نفسه يُحرم المثقف صاحب الرؤية الإسلامية من حقه الطبيعي في نشاطات الوزارة التي ينفق عليها الشعب المصرى المسلم ...

يقول الدكتور حلمى القاعود

(نحن نعيش في أكذوبة كبرى منذ ستين عاما أبطالها من يُسَمون بالمثقفين ! فلقد أخذوا من الثقافة وسيلة للدجل والشعوذة والكسب الرخيص ! فعندما تقرّب عبد الناصر من السوفيات اشترطوا عليه أن يفرج عن الشيوعيين الذين حبسهم بعد أن عارضوه في البداية ، فخرجوا من المعتقلات ليهيمنوا على الصحافة والإذاعة والتلفزة ، والسينما والمسرح ودور النشر الرسمية والثقافة الجماهيرية فضلا عن التعليم والحركة العمالية وغير ذلك .
واستطاعوا من خلال التنظيم الطليعي أو الطليعة الاشتراكية أن يكونوا عونا للنظام العسكري الفاشي وتسويغ جرائمه ضد الشعب . تأمل ثناءهم ومديحهم للحكم العسكري الذي عذبهم في المعتقلات وقتل الرفيق شهدي عطية الشافعي ! وفي الوقت نفسه لا يغفرون للسادات أنه عزل بعض رءوسهم) !!

محنة المثقفين في عهد عبد الناصر

فكانت علاقة المثقفين – المرضى عنهم - مع السلطة في العهد الناصري تقوم على التأييد المطلق لجمال عبد الناصر، والدفاع عنه ظالمًا أو مظلومًا ، على نحو ما يرويه د. ثروت عكاشة في مذكراته ص 398

حيث يقول :

(لم يكن قد مضى على تعييني وزيرًا أكثر من شهريْن ، اتصل بي سكرتير رئيس الجمهورية يدعوني إلى لقاء عاجل مع الرئيس ، الذي ما إن لقيته حتى طلب مني الاستماع إلى شريط صوتي مسجَّل لمجموعة من الأشخاص انهالوا على شخص الرئيس بالشتائم البذيئة ناعتين إياه بأحط النعوت .
وسألته مندهشًا عمن يكونون ، فذكر لي اسم أحد الوزراء واسم أديب رائد مرموق ، وأنه استغنى عن خدمات الوزير وأمر باعتقال الأديب الشيخ . ولما سألته عن الغرض من دعوتي للاستماع إلى ذلك التسجيل ، قال : إن يحيى حقي رئيس مصلحة الفنون كان متواجدًا معهما ويتعين إحالته على المعاش ، فبادرته بقولي : لكن من الواضح من الشريط الصوتي أنه لم يُشارك في هذا السُّباب ، فقال : ولكنه كان موجودًا معهم ولم يعترض وهذا يكفي . فناشدته أن يترك الأمر لي لأعالجه بأسلوب مناسب ؛ فوافق مقتنعًا بعد إلحاح !
وكان الأسلوب المناسب الذي عالج به ثروت عكاشة الموضوع ، هو نقل الأستاذ يحيى حقي من مصلحة الفنون تلبية لرغبة عبد الناصر كما يروي هو، مُسندًا إليه رئاسة مركز تدريب العاملين المنقولين من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الثقافة ، بالإضافة إلى منصب ملحوظ بدار الكتب ، ثم رئاسة تحرير مجلة (المجلة) ، حتى لا يشعر بغربة عن عالمه في مجال الفكر والأدب والفن ، فقبل مني ما عرضته عليه بدماثته المعهودة على حد قوله .
ولم يتوانىَ عبد الناصرعن فصل ستة وثلاثين كاتبًا وصحفيًّا في مقدمتهم عميد الأدب العربي د. طه حسين ؛ لأنهم وقَّعوا على بيان مارس الذي طالب بالديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته ، فضلًا عن تصفية كل القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية ، وخنق أي مبادرة شعبية مستقلة ، وإلغاء الأحزاب ، وبناء الأجهزة القمعية ، وإخضاع العمل الثقافي لمتطلبات الإعلام والسياسات اليومية !
حتى إن وزير الثقافة د. ثروت عكاشة لم يتحمل استمرار عرض مسرحية (العرضحالجي) للكاتب الراحل ميخائيل رومان ؛ بعد أن وصل إلى مسامعه أنها تنتقد الأوضاع المتردية التي أدت إلى كارثة الخامس من يونيو عام 1967 ؛ فأوقف عرضها ..
وظل عبد الناصر يمارس ضغوطاته على الشيوعيين لحل حزبهم ، رابطًا بينه وبين الإفراج عنهم ، حتى أصدرت اللجنة المركزية المُوسَّعة للحزب الشيوعي المصري في 4 أبريل عام 1965 وثيقتها القاضية بـ (إنهاء الشكل المستقل للحزب الشيوعي المصري ، وتكليف كافة أعضائه بالتقدم - كأفراد- لطلب عضوية الاتحاد الاشتراكي العربي) ..
وتجتمع هذه القيادات مع شعراوي جمعة الذي كان ممسكًا به على حد قول د.فخري لبيب في كتابه "الشيوعيون وعبد الناصر" ،ج2.وأصبح العمل والسفر وحياة الإنسان مرتبطة كلها بعضوية الاتحاد الاشتراكي العربي ؛ التنظيم السياسي الوحيد في البلاد ، ورضا الأجهزة الأمنية القمعية عنه .

وبلغ من صلف الرئيس ومعاداته للديمقراطية، أنه في عام 1968 أثناء لقاء له بمجلة (الطليعة) التي مثَّلت اليسار الرسمي ، قال : إن الحركة الشيوعية كلها كلَّفته عشرة آلاف جنيه ، جملة المرتبات والمجلات والوظائف التي تولاها الشيوعيون !!

ألم يقلْ عميد الاحتلال البريطاني في مصر اللورد كرومر: قلْ ما شئت ، ولكن لا تطعن الاحتلال ؟!

وهكذا خرج الشيوعيون من السجون بصفقة بينهم وبين عبد الناصر ! فنشأت ظاهرة جديدة بين المثقفين ، أسماها الاديب الدكتور حلمى القاعود : (المثقفين الاستعماليين) الذين ترعاهم السلطة بالامتيازات والجوائز والسفريات والمؤتمرات والنشر في الأجهزة الرسمية ، والخاصة التابعة

وأن تترجم أعمالهم وتمنحها الدعاية اللازمة في الداخل والخارج ، ولو لم تعبر عن مواهب مكتملة أو نضج فني وفكري ، فهم يقومون بخدمة جليلة لهذه السلطات ، وهذه من جانبها تقوم بتغييب أصحاب المواهب الحقيقية والتجارب الناضجة لأنهم لا يسايرون استبدادها ، ولا يسوغون جرائمها ، ولا يعزفون على ربابة الولاء وطبلة التأييد

ولا يفخرون أن مسئولا مستبدا وضع يده على كتف واحد منهم ، أو أصابه الفرح وهو يستمع له حين سأله في لقاء مع الرفاق الاستعماليين ، عن أسعار الطماطم في الأسواق بدلا من السؤال عن الأسرى في المعتقلات ، وتكميم أفواه الصحافة ، وإغلاق نوافذ التعبير أمام أصحاب الفكر الحر ..

لأن المثقفين (الاستعماليين) يكتبون رواية واحدة ، هي رواية تجريم الإسلام وتحقيره ، وشيطنته ، ووصمه بصفات الإرهاب والتخلف والجمود والظلام ، حتى لو كانت الصياغة من خلال ما يسمى بالجماعات المتطرفة ، فالحجاب يؤذيهم أكثر من اغتصاب المعتقلات ، وقتل الأبرياء بمعرفة صندوق الذخيرة لا يؤرق خيالهم !

الشيوعيون يسيطرون على منابر الثقافة

وهكذا تمكَّن نظام عبد الناصر عبر الترهيب والترغيب من السيطرة على قطاع من المثقفين ، ومن تمرد بقى في السجون او في احسن الأحوال مُهمَّشاً لايذكره احد ولايستدعيه احد !

فبعد أن أفرج جمال عبد الناصر عن الشيوعيين المصريين بأوامر من خروشوف الرئيس السوفيتي في إطار صفقة تطبيع العلاقات بين موسكو والقاهرة ، صحب هذا الإفراجَ تعيين الشيوعيين في الصحافة والإذاعة والتلفزيون والثقافة والإعلام ومؤسسة النشر الرسمية والسينما والمسرح والفنون الشعبية

وقد تمكن الشيوعيون وأشباههم من السيطرة على هذه المجالات سيطرة شبه تامة لدرجة أن أول مؤتمر لأدباء الأقاليم في الزقازيق عام 1969 كان في الحقيقة مؤتمرًا لحزب شيوعي غير معلن بمباركة النظام الانقلابي الناصري ممثلا في وزير داخليته الشهير شعراوي جمعة !

وهكذا استتب الامر للمثقفين الشيوعيين فى مراكز الدولة ولا سيما بعد ما تولى علي صبري رئاسة الوزارة وأعلنوا التمهيد لمرحلة (التحول العظيم) ويعنون به: التحول إلى (الاشتراكية العلمية)! ومن قرأ (الميثاق) الذي يمثل فكر عبد الناصر: سيجد فيه رشحات من الفكر الماركسي في مواضع شتى

وهكذا خسرت الثقافة وخسر المثقفون ... وكسب نظام عبد الناصر في تلك الجولة .. ليبدأ بعدها هؤلاء (المثقفون) في ممارسة الدور المرسوم لهم ، والذى تربعوا بموجبه فى .. حجر النظام !!