عمر التلمساني يكتب: الإسراء والمعراج رحلة العطاء الرباني

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
عمر التلمساني يكتب: الإسراء والمعراج رحلة العطاء الرباني

بقلم: الأستاذ/ عمر التلمساني- المرشد الثالث للإخوان المسلمين

مقدمة

الأستاذ-عمر التلمساني-بين-الأستاذ-جابر رزق-والأستاذ-حسني عبد الباقي

العدد رقم 61 من مجلة الدعوة)

"تعودت هذه المجلة ألا تُخطِّئ أحدًا يستند إلى رأي صحيح إذا ما استندت هي بدورها إلى رأي صحيح آخر، اقتنعت به، لئلا تدخل في جدالٍ لا نفع فيه للمسلمين، وحسبهم ما هم عليه اليوم من حالٍ لا ترضى ولا تسر، وطالما نصحنا المسلمين جميعًا، ألا يتفرقوا شيعًا بسبب الفرعيات الفقهية، فالأمر اليوم أخطر مما يظنون، ونحن حريصون كل الحرص على أن تتوحد كلمة المسلمين في الدفاع عمَّا يُبيته لهم أعداء هذا الدين وهم كثيرون.. وهم ماديًّا أقوى من المسلمين، حتى إذا ما عاد للمسلمين سالف مجدهم، كان لهم أن يعودوا إلى المناقشات حول الخلافات الفقهية، إن رأوا في ذلك مصلحة أو متعة فكرية، وإن كنا بدورنا لا نحب لهم ذلك على الإطلاق.

ولكننا بهذه المناسبة الجليلة..

مناسبة الإسراء والمعراج رأينا أن نعرض وجهة نظرنا بأدلة استقيناها من مظانها التي رجعنا إليها، إنه أمر شغل المسلمين، واختلف فيه علماؤهم، ولسنا ندَّعي علمًا للحكم فيه بصواب فريق دون فريق، ولكننا من الفهم، في حدود الحل والحرمة، بحيث نستطيع أن نقتنع بوجهة نظر، يدعمها دليل يرضينا ونرتاح إليه، وفي كلتا الحالتين لا نحمل أحدًا على الأخذ بما نقول، فلكل منهم أن يرتاح إلى ما اقتنع به، ولما كَثُرَ الكلامُ في أيامنا هذه بقصد زعزعة مكانة السنة في أذهان المسلمين، والأخذ بها كمصدر صحيح سليم من مصادر التشريع، عبادة ومعاملات، دار في خلدي أن أتحدث عن مكانة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- في هذا الدين، ولئن كان هذا الحديث مكررًا.

ولئن كانت هذه المكانة مقطوعًا بسموها وجلالها، فإنَّ التذكيرَ بها واجب؛ لأن الذكرى تنفع المؤمنين، وهمِّي الأول في ذلك، هو ذلك الشباب الطاهر، المقبل على مصادر دينه، يستسقي منها ما يعزه في دنياه ويسعده في آخرته حتى يتوافر له اليقين القوى بصحة ما جاء به رسولهم الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- قرآنًا وحديثًا، ومتى اطمأنَّ الشباب إلى هذا، أخذ بكل ما جاءه به نبيه- صلى الله وسلم-، معرضًا عن تلك المحاولات الفاشلة التي تريد صرفه عمَّا شرح الله صدره له، من دقة تشريع دينه وزعامة نبيه عليه الصلاة والسلام.

وبإهلال رجب الفرد، قدرت أنَّ المناسبة مواتية، فاتخذت ذلك وسيلة للكتابة عن الإسراء والمعراج من هذه الزاوية، إني أوقن بأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أُسري به روحًا وجسدًا، وهذا اليقين لا يحتاج عندي إلى دليل أو برهان، ولكني قدرت أن غيري قد يحتاج إلى هذا الدليل، فجمعت له من الأدلة ما وقع تحت نظري أثناء قراءتي، وإني لأبتهل إلى الله جلَّ وعلا، أن يكون فيما أقدم خير ما ينتفع به المسلمون، فإنْ تمَّ القصد، فلله الحمد والمنة، وإلا فجهد أردت به خيرًا، ومحاولة أتضرع إلى أن يكتب لي بها الأجر، قدر ما انطوت عليه نيتي:

أولاً: لو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط، لما كان آية، ولما كان معجزة، فكثير من الناس تطوف أرواحهم في الرؤى بعوالم ما لهم بها من عهد، وما كانت تخطر لهم على بال، والكثيرون قد اطلعوا في رؤاهم على الجنة، وأدهشهم ما هي عليه من حسن وجمال وروعة وجلال، فهل كانت هذه خصيصة يتميزون بها عن غيرهم من صالحي المؤمنين؟؟ وأي فرق بينهم وبين سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام في هذا المقام، إذا كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أُسْرِي.  

دروس يجب ألا تغيب في ذكرى الإسراء والمعراج

بهذه المناسبة الجليلة، مناسبة الإسراء والمعراج, رأينا أن نعرض وجهة نظرنا بأدلَّة استقيناها من مظانِّها التي رجعنا إليها, إنه أمرٌ شغل المسلمين, واختلف فيه علماؤهم, ولسنا ندَّعي علمًا للحكم فيه بصواب فريق دون فريق, ولكننا من الفهم، في حدود الحل والحرمة, بحيث نستطيع أن نقتنع بوجهة نظر, يدعمها دليل يُرضينا ونرتاح إليه, وفي كلتا الحالتين لا نحمل أحدًا على الأخذ بما نقول؛ فلكل منهم أن يرتاح إلى ما اقتنع به.

ولما كثر الكلام في أيامنا هذه بقصد زعزعة مكانة السنة في أذهان المسلمين, والأخذ بها كمصدر صحيح سليم من مصادر التشريع, عبادةً ومعاملاتٍ, دار في خلدي أن أتحدث عن مكانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدين, ولئن كان هذا الحديث مكررًا, ولئن كانت هذه المكانة مقطوعًا بسموِّها وجلالها, فإن التذكير بها واجب؛ لأن الذكرى تنفع المؤمنين, وهمي الأول في ذلك هو ذلك الشباب الطاهر, المقبل على مصادر دينه, يستسقي منها ما يعزه في دنياه ويسعده في آخرته؛ حتى يتوافر له اليقين القوي بصحة ما جاء به رسولهم الكريم صلوات الله وسلامه عليه, قرآنًا وحديثًا, ومتى اطمأن الشباب إلى هذا أخذ بكل ما جاءه به نبيه صلى الله عليه وسلم, معرضًا عن تلك المحاولات الفاشلة التي تريد صرفه عما شرح الله صدره له, من دقة تشريع دينه وزعامة نبيه عليه الصلاة والسلام.

وبإهلال رجب الفرد قدرت أن المناسبة مواتية, فاتخذت ذلك وسيلةً للكتابة عن الإسراء والمعراج من هذه الزاوية، إني أوقن بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به روحًا وجسدًا, وهذا اليقين لا يحتاج عندي إلى دليل أو برهان, ولكني قدرت أن غيري قد يحتاج إلى هذا الدليل, فجمعت له من الأدلة ما وقع تحت نظري أثناء قراءتي, وإني لأبتهل إلى الله جل وعلا أن يكون فيما أقدم خيرٌ ما ينتفع به المسلمون, فإن تم القصد فلله الحمد والمنة, وإلا فجهدٌ أردت به خيرًا, ومحاولةٌ أتضرع إلى الله أن يكتب لي بها الأجر, قدر ما انطوت عليه نيتي.

أولاً: لو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط, لما كان آية, ولما كان معجزة, فكثير من الناس تطوف أرواحهم في الرؤى بعوالم ما لهم بها من عهد, وما كانت تخطر لهم على بال, والكثيرون قد اطلعوا في رؤاهم على الجنة, وأدهشهم ما هي عليه من حسن وجمال وروعة وجلال, فهل كانت هذه خصيصة يتميزون بها عن غيرهم من صالحي المؤمنين؟

وأي فرْق بينهم وبين سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام في هذا المقام, إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُسري به وعُرِجَ به روحًا دون جسد؟! أليس في حقيقة الإسراء والمعراج روحًا وجسدًا معجزةٌ يزيد تأثيرها من إيمان الشباب زيادةً تزيده تعلقًا بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟

فإذا ما رسِّخ هذا المعنى عند الشباب تبيَّنت له حقيقة مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فازداد له حبًّا, وازداد لرسالته جهدًا وعملاً، مهما تكبَّد في سبيل ذلك من العقبات والصعاب.

ثانيًا: قوله تبارك وتعالى ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ ولم يقل بروحه, والقرآن كما نوقن جميعًا لا تنقصه الدقة في التعبير؛ لأنه القول الفصل؛ قول رب العالمين، فما الذي يحملنا على العدول عن الظاهر واللجوء إلى التأويل وليس هناك ما يدعو إليه؟ وهذا ما نريد أن نرسخه في أذهان الشباب المسلم, فعليه أن يتمسك بظاهر النص آيةً وحديثًا, وألا يلجأ إلى التأويل إلا إذا استحال الفهم استحالةً تدفع إلى التأويل, حسب الشروط التي وفَّق الله تعالى العلماء إلى الاتفاق عليها, وفي هذا يتجنَّب شبابنا المسلم الكثير من المزالق التي يُلجئه إليها من أوتي نصيبًا من الجدل لا خير فيه.

وإذا كان الإنسان قد استطاع بعقله المحدود أن يصل بالسرعة إلى حدٍّ مدهش, فهل تعجز قدرة الله عن ذلك؟! حاشاه!!.

ثالثًا: لو كان منامًا لصدَّقه الكفار, الذين هاجموا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولمَا كان معجزةً، ولمَا ارتدَّ بسببه بعض حديثي العهد بالإسلام من المسلمين الذين افتُتنوا بهذه المعجزة الخارجة عن نطاق العقل البشري, ولهذا ننصح شبابنا المسلم ألا يدخل في جدال بسبب المعجزات؛

لأنها أمور خارقة للعادة وليست في مقدور البشر, يؤكد هذا قوله تعالى ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾ (النجم)، فأي زوغان للبصر إذا كان الأمر منامًا؟! فليحذر شبابنا من الذين يؤوِّلون القرءان والأحاديث تأويلاً لا يقرُّه عقل ولا يؤمن بقدرة الخالق وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

رابعًا: صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام, إذ أمَّهم ببيت المقدس, الذي وصفه للمشركين بدقة, لمَّا تحدَّوه أن يصفه لهم, وإن شبابنا إذا تشكَّك بالمعجزات اهتزَّ إيمانه بالقضية التي يدافع عنها, والإنسان لا يصدق ولا يعتمد في الذود عن قضية إلا إذا آمن بها, فكيف الحال وقضيتنا هذه قضية كفر أو إيمان؟ وأين؟ في بيت المقدس الطاهر, الذي انتَهك حرمته اليهود.

على شبابنا ألا ينسى أول قبلة صلى إليها المسلمون, عليه أن يجعلها حيَّةً في خاطره, في مشاعره, في تفكيره, وأن يعد نفسه لليوم الذي يستعيد فيه قدسه الشريف, مهما غلا الثمن.

خامسًا: مجيء جبريل عليه السلام بالبراق ليركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلو كان الأمر رؤيا لحلَّق الرسول صلى الله عليه وسلم في السموات العلا دون براق ولا غير براق, كما يحدث لمن يرى في منامه أنه يحلِّق في الفضاء بغير مركب ولا أداة، وما وصل إليه العلم يقرِّب فعلاً إلى الأذهان صدْقَ تلك المعجزة، رغم أننا في غير حاجة على صدقها، بعد ما تحدث عنها الرسول عليه الصلاة والسلام في دقة إحاطة لا تتوافر في الرؤى أبدًا؛ لأن الذي يقص رؤيا رآها لا بد أن يغيب عنه بعض أحداثها, أما هذه المعجزة فقد رويت بدقة وإحاطة وشمول لا يتوافر أبدًا في قص أية رؤيا من الرؤى.

سادسًا: في أحاديث الإسراء والمعراج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يستفتح عند كل سماء كان يسأل فيجيب في كل مرة, أو الملك الذي كان معه: "محمد" فيفتح له، وظلت هذه الأسئلة تتكرر كل مرة على باب كل سماء من السموات السبع، فهل يمكن أن تكون هذه الحركات من استفتاح وفتح وأسئلة وأجوبة في رؤيا حالم أو حالة راءٍ.

إن الحالم أو الرائي يكون في هذه الحالة شديد الحساسية, توقظه أية حركة؛ لأنه يكون حينئذ بين اليقظة والنوم, فممَّا لا يمكن أن يستسيغه العقل بسهولة أن يتم كل هذا في الرؤيا, وإذن فهي اليقظة والمعجزة التي تمت بالروح والجسد, والتي نطلب من الشباب أن يرتاح إليها قلبيًّا, وأن يكون شديد الوثوق في قدرة العلي الكبير على فعل المعجزات التي لا يمكن أن تستوعبها تقديرات العقول البشرية المخلوقة، وفي هذا ما ينمِّي في صدره الأمل الكبير في نصر الله, مهما ران على تقدير العقل من الشكوك؛ نظرًا للفارق المادي بين قوة المسلمين وبين قوة أعدائهم, فالله- ولا شك، وبدون تردد- على كل شيء قدير.

سابعًا: نفس الوضع في التقائه بنبي بعد نبي في كل سماء من السموات السبع, وما دار بينهم وبينه صلوات الله عليهم جميعًا وسلامه, في كل سماء, وتردُّده صلى الله عليه وسلم بين موسى عليه السلام وبين ربه سبحانه وتعالى؛ بشأن الصلوات التي انتهت إلى خمس في العدد وخمسين في الأجر, هل يمكن أن يتم كل هذا في رؤيا قد تستغرق بعض ثوانٍ؟!

ثامنًا: أخذ جبريل عليه السلام بيده صلى الله عليه وسلم, فعرج به إلى السماء حتى وصلا إلى مستوى سمعا فيه صرير الأقلام، ووقف جبريل عليه السلام، ولم يتجاوز ذلك المقام، وطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقدم فلم يستطع، فلكل منهم مقام معلوم، هذه الروعة كلها لا تكون رؤيا.

إن هذا الحديث الرائع الفريد لا يمكن أن يكون رؤيا يا شباب العصر.. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)﴾ (الأعراف).. آمنوا بهذه المعجزة الفذة، وأيقنوا بها، واحذروا أن يشكِّككم الملحدون في آيات الله البينات, وكونوا عند إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ ساعة إذ لم يتشكَّك عندما بلغه الخبر، فكان الصاحب الوفي الواثق، فقال: "إن كان قال فقد صدق".

تاسعًا: إن الوصول إلى سدرة المنتهى, التي ينتهي إليها ما ينزل من عند الله, وينتهي عندها ما يصل مما دونها لن يكون رؤيا؛ لأنها المقام الذي لا ترقى إليه عقول البشر التي لم تؤتَ من العلم إلا قليلاً.

عاشرًا: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ما قاله عن أحداث تلك المعجزة الخارقة إنه دخل الجنة ورآها، ورأى كل ما فيها رأي العين العادية التي نعرفها في الخلق, العين التي ترى حسيًّا ولن تكون إلا ليقظ لا لحالم.

حادي عشر: حديث روته أم هانئ رضي الله عنها: "لقد صليت معكم العشاء الآخرة, كما رأيت بهذا الوادي, ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه, ثم صليت الغداة معكم الآن"، فهل صلى العشاء الآخرة وصلى الغداة في الرؤيا كذلك؟!

ثاني عشر: وإذا كان إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن, وإذا كان موسى عليه السلام كليم الديان, فكيف لا نصدق أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد كلم الله تعالى كفاحًا؟ إنه صلى الله عليه وسلم في وصفه ربه لم يشبِّه ولم يجسِّم ولم يعطِّل, ولكنه قال الصدق الذي يليق بالصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام, والحق الذي يليق بجلال ذي الجلال والإكرام, قال: "نور أنَّى أراه؟!".

منزلة الرسول

هذا هو الإسراء والمعراج بالروح والجسد, وهذا هو الحق المبين الذي يجب أن ينتهي إليه إيمان الشباب العامل في سبيل الله, وإذا ما أضفنا إلى ما تقدم منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي المنزلة التي سمت فوق كل منازل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ انكشفت عن بصائرنا الحجب المادية الصماء، واستطعنا أن ندرك بيُسر كيف تتم تلك المعجزة الخارقة, جسدًا وروحًا, فهي ليست على قدرة الله بمستحيلة وليست على مكانة محمد صلى الله عليه وسلم عند ربه بعزيزة.

إن الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام سألوا الله تعالى, فأعطاهم, أما محمد صلى الله عليه وسلم, فقد ادَّخر طلبه إلى يوم القيامة.

‌أ- فقد قال إبراهيم عليه السلام ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)﴾ (الشعراء), أما محمد صلى الله عليه وسلم فقال له ربه ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)﴾ (الفتح).

ب- وقال الخليل أيضًا عليه السلام ﴿وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)﴾ (الشعراء), وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد حباه ربه بقوله ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ﴾ (التحريم: من الآية 8)، فهو تأتيه البشارة قبل أن يطلبها.

‌ج- وقال الخليل عليه السلام "حسبي الله"، وطمأن الله محمدًا عليه الصلاة والسلام بقوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ.. (64)﴾ (الأنفال).

‌د- وقال الخليل عليه السلام ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84)﴾ (الشعراء), أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أعطاه ربه من غير سؤال ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾ (الشرح).

‌هـ- وقال الخليل إبراهيم عليه السلام : ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35)﴾ (إبراهيم)، أما الحبيب صلى الله عليه وسلم فقال له الله تعالى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾.

إني لا أريد بهذا أن أنتقص من قدر خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام, فهو خليل الرحمن وهو أبو الأنبياء, وهو جدُّ محمد صلى الله عليه وسلم, وكل ما يرفع من قدر نبينا عليه الصلاة والسلام فهو عائد إليه شرفه وجلاله.

إنني أريد بهذا أن أعرض على شباب هذا الجيل قدر زعيمهم عليه الصلاة والسلام, وأنهم كانوا موفَّقين كل التوفيق يوم أن هتفوا من قلوبهم ومن أعماقهم "الرسول زعيمنا" ولعل الذي يزعج المتزعِّمين هو أن يروا شباب الإسلام في كل بلد ودولة لا يتزعمهم إلا محمد عليه الصلاة والسلام.

من هذا الفهم الصحيح الواسع نؤمن بالإسراء والمعراج جسدًا وروحًا, ونرى في هذه المعجزة الخارقة ما يفتح أمامنا أبواب الخير, بعد أن مهَّد لنا كل طرق العمل الصالح المنتج؛ في بساطة ويسر, وفي تخطيط رائع جميل دقيق؛ تعجز عنه كل جهود البشر.

دروس يجب ألا تغيب

وفي الإسراء دروس يجب ألا تغيب عن ذهن الشباب العامل في ميادين الدعوة الإسلامية؛ أيًّا كان موقع هذا الميدان في حياتنا, وعلى سبيل المثال لقد كان رقيُّ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة العالية مرقًى لم ترقَ إليه الرسل والأنبياء جميعًا, ونال منزلةً لن يحظى بمثلها أحدٌ من أهل السموات والأرض, فماذا كان أثر هذه المعجزة الفريدة عليه؟

هل تغير من خلقه شيء؟ من تواضعه.. من أدبه.. من حسن معاشرته للناس.. من تفانيه في الوفاء لرسالته.. من رضائه بحاله التي كان عليها قبل الإسراء الرائع والمعراج الفريد, هل تعالى على أحد من المسلمين؟ هل اختص نفسه بشيء لم يُحِطْ به أحدٌ من المسلمين؟ هل خاشن من يدعوهم إلى الإسلام؟

هذه معانٍ يجب على شبابنا العامل للإسلام أن يعيها تمامًا, وأن يتخلَّق بها وهو يسير في طريق دعوته, جامعًا للناس حولها, ومحببهم فيها, وشارحًا لجلالها وجمالها وكمالها, ويأخذ الشاب رأيًا من آراء الفقهاء, في فرعية من الفروع, فيلتزمها ويظن ألا دين بغيرها, ويتعصَّب لها, ويظن أنه فقه الدين كله بها, ويخاشن غيره في الدعوة إليها, ويقاطع من لا يفهم فهمه ويرى برأيه, بل قد يصل به الأمر أحيانًا إلى حد الرعونة في الإلزام برأيه للآخرين, وكل هذا ليس من خلق الدعاة في شيء، بل وليس من الدين في شيء.

إننا لن نستطيع أن نسع الناس بأموالنا ولا جاهنا ولا عشيرتنا ولا منطقنا وأدلتنا؛ لأن هذا فوق مستوى القدرة البشرية, فليسع الناس منا إذن حسن الخلق, فالكلمة الطيبة صدقة, والبسمة الوادعة صدقة, والصحبة الوفية صدقة, والألفة الحانية صدقة, والحرص على كسب القلوب صدقة, والإيثار صدقة.

بهذا ومثله يستطيع الشاب المسلم أن يستميل القلوب إلى جانبه, وينشر دعوته, وينجح في رسالته, يرى فيه أهله وزملاؤه وأساتذته وكلُّ من في محيطه صورةً حيةً جذابةً للدعوة التي يعيش فيها ويعمل من أجلها, فلا يحبونه وحده, بل ويسارعون إلى الدعوة التي يدعو إليها, وهذا هو الجهد المثمر حقًّا في طريق الدعوات, أما التعالي واستجهال الناس والغلظة, فكلها مثبطات ومعوقات ومنفرات. نصيحتي إليك

أيها الابن الحبيب الداعي إلى الله.. أعرني سمعك لأمنحك نصيحتي, إن الله قسم الخلق قسمين وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27).. ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)﴾ (الواقعة) فكن يا قرة العين من أصحاب اليمين, ثم جعل الله القسمين ثلاثة: مقتصد وسابق وظالم لنفسه ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (فاطر: من الآية 32)، فكن يا حبة القلب من السابقين, ولن نكون يوم القيامة عند الله بنسب أو جاه أو لقب أو مال, فليس لهذا كله مثقال ذرة في موازين الحساب، ولكنه القلب السليم والإيمان واليقين, والجد والجهد وحب الخير للعالمين ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ (الشعراء).

إن صاحب المعراج فضَّله الله على كل الرسل والأنبياء, فقد قال الله سبحانه وتعالى إنهم كانوا لقومهم خاصةً ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ (إبراهيم: من الآية 4)، أما هو صلى الله عليه وسلم فللعالمين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء) فهذا كان هذا حال زعيمك صلى الله عليه وسلم، وأنت قد ارتضيته زعيمًا, فكن بين الناس في مثل هذه المكانة السامية, حتى تبلغ عند الله ما تريد, وما ذلك على أي مخلص بعزيز, فهل لنا في عامنا هذا أن نقدم بين يدي هذه الذكرى الحلوة الندية عهدًا مع الله, أن نترك ما ألفنا واعتدنا, وأن نخرج إلى الناس في خلق الداعية الأمين, الرجل الصادق الكريم, المستهين بكل قوى الأرض اعتصامًا برب العالمين, المهذب المتواضع الرصين؟ وأن نكون حيث وصف الله عباده المرتضين ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63)﴾ (الفرقان).

من كل قلبي.. من كل جوانحي.. من كل مادياتي وروحانياتي؛ أبتهل إلى الله خاشعا متخشعًا, أن نكون جميعًا هناك، والسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد..

إني لم أعرض لهذا, ليزداد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قدرًا, فكل ما يقال عنه دون قدره بكثير, ولا لا لأثبت هنا أن الله قادر على صنع المعجزات, فهو القادر على كل شيء, ونحن العاجزون عن كل شيء, ولكني أردت أن أهز في صدور المسلمين قلوبًا أخشى أن يكون إحساسها نحو فاجعة القدس بدا يتضاءل, إن استيلاء اليهود على القدس بمثابة النار التي لا تهمد حرقتها, والخزي الذي يحقر جبهة كل مسلم لا يفكر في إزالة هذا العار الأبدي, خزي الدنيا والآخرة, إنه الصدمة المرة التي أراد الله أن ينذر بها المسلمين بمصير محتوم, إن لم يتداركوا حالهم.

إن معاهدةً عُقِدَت بين حكومة مصر وحكومة "إسرائيل", وقد يكون هناك من ارتضاها, قلة أو كثرة لا يهم, ولكننا كإخوان مسلمين لن نعالج هذا الجرح الغائر في صدورنا, إلا بدواء إنقاذ بيت المقدس من بين يدي غاصبيه, حتى ولو استند اليهود إلى كل معاهدات العالم أجمع, ولن نطلب له إلا بعلاج التضحية والفداء, والمران على الجهاد المقدس ننميه في صدور شباب هذا الجيل ليعلِّموه لمن بعدهم, وسننتصر بفضل الله وقوته: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)﴾ (الإسراء).

لقد كان ما قلت عن الإسراء والمعراج رأيًا للسابقين أرتاح إليه, فآخذ به, ولمن يرى غير ذلك فله ما يرى, إن أخطأ فله أجر, وإن أصاب فله أجران.. وإنما الخير أردت ﴿وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)﴾ (الأحزاب).

دروس من الإسراء والمعراج

نشرت بمجلة الدعوة العدد (13) رجب 1397هـ، 13 يونيو 1977م

تمر علينا ذكرى الإسراء والمعراج وأمتنا المسلمة لا زالت حيرى.. تتيه وسط ركام من الغفلة والضياع, لذا فهي في حاجة ماسة إلى نهضة إيمانية عالية تعيد لها مجدها وتأخذ بها حقها السليب, فيعلو نجمها الذي أفل.

وأستاذنا الأستاذ/"عمر التلمساني" رحمه الله رجل من رجال الدعوة الإسلامية في عصرها الحديث منذ عرف طريقه إلى الله وهو في جهاد حتى توفاه الله يطوف بنا حول الذكرى، مبينًا ما علينا من واجبات نحو ديننا وأمتنا.

معجزة الإسراء والمعراج

من مآثر الإسراء والمعراج

الصراع بين المادة والروح

كيف نحتفل بالذكرى

واجبنا نحو القدس

في يوم من أيام عام الأحزان الذي تُوفي فيه أبوطالب عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كافله في حداثته والحاني عليه في بدء رسالته– وتُوفيت زوجته السيدة خديجة- رضي الله عنها- في يوم من أيام هذا العام الموحش الحزين، أراد الله جلت قدرته أن يخفف عن حبيبه محمد- صلى الله عليه وسلم- ما ألم بساحته من حزن، وأن يمسح بيد الرحمة على صدره.

في هدأة الليل وسكونه، سطعت أنوار نفحات الرحمة الإلهية، وتفتحت أبواب تجليات العلي القدير، وهبط أمين الوحي جبريل- عليه السلام- وأخذ بيد سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- على صورة ليس من شأني معرفة كنهها؛ لأنها حصلت وأنا أومن بحصولها- أخذه بيده عليه السلام مُيممًا بيت المقدس وصاعدًا به إلى السموات العُلى، حتى بلغا مستوى سَمِعَا فيه صريف الأقلام، فأحجم جبريل وتقدم سيدنا محمد- عليه أفضل الصلاة والسلام، حتى ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: 9،8) كيف؟ لا أدري وإن كنت بذلك مؤمنًا موقنًا، فالكيفية المغيبة لا تغير من حقيقة رسخت في القلب، وأصبحت وخفقانه إلى أسمعها وأحس بها سواء بسواء.

هنالك التقى الحبيب بالمحبوب وسعد الطالب بمناجاة المطلوب، وفاضت منح التجليات الإلهية، والفيوضات الربانية، وأعد السمع البشري لتلقي الأمر الإلهي بما ليس في قدرة مخلوق أن يصفه أو يتصوره ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ (النجم: من الآية10 إلى 12).

هذا هو مدى علمي وثقتي ويقيني بحادث الإسراء والمعراج، والخوض في ذلك لا يزيد من الإيمان، ولا ينقص من اليقين، أما الذي يعنيني حقًا- ويجب أن يعني كل محب لدينه- هو ما أفاضته هذه المعجزة من خير وقيم على الإنسان الذي لم ينج من الخسران، إلا من آمن وعمل صالحًا وتواصى بالحق وتواصى بالصبر.

أُسري برسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيث صلى إمامًا بجميع الأنبياء والمرسلين- عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام- ثم عرج به إلى السموات العُلى فنال هناك ما نال, وسعد ما سعد، وناجى وشهد، وقرب واقترب، ثم عاد إلى الأرض، بعد كل هذا التشريف له.. هل غير ذلك شيئًا من تواضعه؟ أبدًا، وظل- صلى الله عليه وسلم- كما هو، الوفي الهين اللين حامي الأخلاق، شعاره "هون عليك"، فهل لمن نال مكانة منا، أو حظى بمرتبة، أن يظل من حُسن الخلق والتواضع حيث هو؟ أرجو وآمل، إن النبيل لا يزداد على نباهة الذكر، وعلو الشأن إلا إيناسًا ولطفًا ورقة ورحمة وتواضعًا.

من مآثر الإسراء والمعراج اختبار صدق المؤمن، وتمحيص يقينه، وامتحان وثبوت العقيدة في وجدانه، فالإسراء والمعراج حدثٌ فوق مستوى القدرة البشرية، وفوق قُوى العقل الإنساني، ولكن المؤمن الصادق الإيمان لا يزعزع من يقينه أخطر الأحداث ولا أبعدها أثرًا في الحياة، ولما طرق سمع الناس خبر هذه المعجزة، راحوا بين موقن ومتشكك وساخر ومنكر، حتى قال أحدهم لأبي بكر- رضي الله عنه- ألم تسمع أن صاحبك يقول: أنه أُسري به إلى بيت المقدس، ومن هناك عرج به إلى السماء، وعاد قبل أن يبرد مكانه من فراشه؟! فكان جواب المؤمن الواثق الوفي: لئن قال ذلك فقد صدق، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة: 143).

ونحن مسلمون وقد وعدنا الله النصر في الدنيا ويوم يقود الأشهاد ونتلفت حولنا، فنرانا أسوأ الناس حالاً في جميع بقاع الأرض، في كل ناحية من نواحي الحياة العامة والخاصة، فنتساءل أين نصر الله الموعود؟! وقبل أن نسأل هذا السؤال كان لزامًا علينا أن نسأل أنفسنا أنحن المؤمنون قولاً وعملاً حتى يتحقق فينا نصر الله؟! فإن صدقنا أنفسنا، لأيقنا أن وعد الله حق، ولكننا نحن الذين أخرنا تحقيق هذا الوعد الصادق، بما نحن عليه من تراخ، وإهمال وتعويق وانصراف، ويوم أن نكون مؤمنين حقًا فلسنا في حاجة إلى سؤال، لأن نصر الله سيأتي طواعية من غير شك وعلى غير انتظار ﴿إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ (محمد:7).

ما من شك أن الإسراء والمعراج حدث، وحدث غاية في الروعة والإعجاز، لا من ناحية قدرة الله سبحانه وتعالي، فذاك مقام لا يعجزه شيء مما يخطر على بال بشر أو لا يخطر، ولكنه حدث يبين للحضارة الجبارة التي نحياها ونعاصرها، أن الإنسان قديمًا جاوزت سرعته سرعة الضوء، وتخطت طاقته قوة الجاذبية فخرج من نطاقها سالمًا سويًا، فتجاوز ما هو في علم البشر حتى اليوم.

ولو أن علماء المسلمين واصلوا البحوث والدراسات التي قدمها لهم أوائلهم في علوم الحساب والجبر والهندسة والفلك والطب والكيمياء والآلات الدقيقة، ولو أنهم ساروا على دأبهم ونهجهم، لو أنهم فعلوا ذلك- وكان واجبًا عليه أن يفعلوه- لكننا اليوم نحن أصحاب سفن الفضاء ومفجرو الذرة، ولكنهم قعدوا فتخلفوا وخلفوا ولكنهم غفلت هممهم فغادرتهم السيادة، ولكنهم شغلوا بغير ما يجب عليهم فأفلتت من بين أصابعهم القيادة.

أعطيت ملكًا فلم أحسن سياسته

كذلك من لا يوسوس الملك يخلعه

إن معجزة الإسراء والمعراج تؤكد لنا، أن عنصري تكوين البشر المادة والروح في صراع لا يتوقف ولا يتخلف، المادة تريد أن تهوى به إلى الطين، والروح تحاول أن تسمو به إلى مصدرها، فإن انتصرت المادة، قُضي على كل الفضائل والمثل، ومن هنا تعين مقاومة النزوات الرخيصة، بكل ما أمدنا الله به من حزم وعزم، والزهد عن كل ما يباعد بيننا وبين ربنا والتزام كل ما يربطنا بتوجيهات السماء، فإن حرصنا على ذلك وعملنا له، أتانا الفوز، وتجنبنا الضياع.

قد تكون الحرب ضروسًا مضنية- ولابد أن تكون كذلك- تستوجب الكثير من الصلابة والعناد في مقاومة الغرائز والهوى، ولكن النتيجة المسعدة حسًا ومعي ستكون حقًا غريزة الجني، دانية المنال، وإذا ما ألقت النفس الكفاح والصبر من أجل الوصول إلى الخير، فستجد في ذلك من راحة القلب، ما يفتقده الكثيرون من صرعى الأهواء ونوازع النفس الرخيصة وتزيين الشياطين.

إن معجزة الإسراء والمعراج التي حدثت منذ أربعة عشر قرنًا تقريبًا أثبتت بشكل لا يقبل الشك، أن في مكنة الإنسان- معانًا من الله- أن يغزو الفضاء بلا آلة ولا سفينة، وأثبتت أن قوى الكون كلها مسخرة لخدمته ومنفتعة ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ (الجاثية:13) فدوره في هذه الحياة أن يستغل هذه القوى عن طريق العلم والبحث والتفكير القائم على الإيمان الصحيح.

قد يعجز البعض عن الإيمان بهذا الحديث فكريًا، بيد أن الحقائق العلمية التي نعاصرها اليوم، وتسلسلها مترابطة عامًا بعد عام لا تؤدي إلا إلى التصديق الراسخ، بكل شيء تحدث عنه رب العالمين وإلا كان جل جلاله في غنى عن ذلك فهو رب وإله أمن الناس أم لم يؤمنوا ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف:29) الله خلق العقل في الإنسان، وهذه حقيقة، هذا العقل المصنوع بعلم الله وحكمته وخبرته، وصل إلى حدٍ من الذكاء تمكن معه من اختراق الفضاء بالآلات التي هداه إليها إعمال هذا العقل في ميادين العلم والاستنباط والابتكار، ألا يستطيع صانع هذا العقل أن يصل إلى أبعد وأدق وأعجب مما وصل إليه هذا العقل الذي هو خلقه وصنعته؟! ففيم الحيرة وفيم العجب؟ وفيم الاستحالة وفيم الشك والتشكيك؟!.

إن كل ما حل بنا من نكبات، وكل ما هُوينا إليه من انحطاط وتأخر وضعف، كان نتيجةً لابد من الوصول إليها، بسبب ما أصابنا من خلل في العقيدة، جريًا وراء ما نقرأ وندرس من آراء ونظريات، لا تقوى على الوقوف أمام التفكير الهادئ البسيط السليم، ولكنها فرضت علينا فرضًا، لقد جربنا وجرب العالم كله هذا التخبط فسالت دماء البشر تصبغ وجه الأرض بالأحزان والويلات والنكبات الموجعة المضنية المرهقة، فما لنا لا نرجع إلى تعاليم ديننا، وخاصةً أنه قد ثبتت فوائد التجريب من الناحية العلمية التي نفتتن بها.

لعلكم تروني قد بعدت شيئًا عن المعجزة التي نحتفل بها، ولكنني كما قلت لا يعنيني الاحتفال بها في السرادقات وتحت الأنوار، وفي وسط الجموع، فكل هذا لا يقدم ولا يؤخر في قدر المعجزة، أما أننا نتعظ ونعتبر ونعمل، لنخرج من الضعف إلى القوة، ومن التأخير إلى التقدم، ومن الانحطاط إلى الارتفاع ومن الذلة إلى العزة، فهذا هو الذي يعنيني حقًا، ويحببني في الكلام، وهذا هو حقًا الاحتفال بهذه المعجزة، وهذا هو اليقين الذي يجب أن نعيش فيه.

أليس من العجيب أن السرى بالليل، وأن المعراج ارتفاع إلى ما فوق الفوق، ثم يكون حال أتباع صاحب هذه المعجزة، أنهم لا يسرون ليلاً ولا نهارًا، في سبيل عقيدتهم ودعوتهم، كي يعودوا بها إلى سالف مجدها، يشمخون ولا يربؤون بهاماتهم ارتفاعًا عما هم عليه، ولا يحاولون التخلص من الوهدة التي تردوا فيها، وأن تكون كل حيلهم كلامًا وأحفالاً؟!.

إن الاحتفال بهذه الذكرى يدل مظهره على تعظيم شأن هذه المعجزة الباهرة، ولكن أيكتفي ربنا منا بالقول والمظهر؟ وهل نحن بمنجاة من التهديد الرباني الرهيب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ* إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف: من الآية2 إلى الآية4) أين العمل المصدق لما نقول؟

أين المهرب من مقت الله إذا ظللنا نقول ولا نعمل؟ أين هي وحدة الصف وترابط القوى، وتضافر الجهود؟ يجب أن نُغير ما بأنفسنا حتى يغير الله حالنا، إننا نُسيء إلى أنفسنا بهذه الأقوال والأحفال، أكثر مما نحس بها إليها، إذا كان حظ الدعوة الإسلامية منا كلامًا ولا شيء غير الكلام أين حالنا اليوم من يوم كانت السيادة كل السيادة لنا، والقوة كل القوة عندنا والعلم كل العلم من نبع مواردنا، يوم كنا نُحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، يوم نُعرَض ولا تخفى منا خافية، ليكن حفلنا هذا عهدًا بيننا وبين ربنا على بدء عهد جديد، تشعر فيه الدنيا بأسرها، وأن المسلمين قد أفاقوا من نومة لم ينمها قبلهم أحد.

الداعية-المربي-عمر التلمساني

أرى خليل الرماد وميض نار

وأخشى أن يكون لها ضرام

فإن النـار بالعودين تذكو

ونار الحـرب أولها كـلام

أقول من التعجب ليت

شعري أيقاظ أمية أم نيام؟!

نحتفل بهذه الذكرى ونحن- لا شك- على يقين من جلالها فليتبع هذا اليقين الاعتماد الراسخ بصدق من كرمة الله بهذه المعجزة، فيما جاءنا به، حتى تكون الحصيلة إخلاصًا في تنفيذ تعاليم هذه الدعوة كلها.. عبادات ومعاملات، لو تحقق هذا الإخلاص فينا لاستطعنا دون شك بفضل الله، أن ننجح في كل شيء، فهل نحن هناك؟ أسأل الله جلت قدرته، أن ينظر إلينا نظرة عطف تبدل كل شيء تبديلاً، وما ذلك على الله بعزيز.

إن مسؤوليتنا في هذه الأحفال غاية في الخطورة؛ لأننا نستقبلها في بهجة وإعزاز واعتزاز، حتى إذا ما انتهينا منها عدنا كما كنا (وكأنك يا أبا زيد ما غزيت)، ولخير لنا في مسؤوليتنا بين يدي الله ألا نحتفل بهذه الذكريات المجيدة، لأنها ستناقشنا يوم الحساب يوم الدينونة الكبرى، هل حققتم ما ظننتم به عزًا للدعوة، أم تركتموها حيث بدأتم معها؟

إن بيت المقدس أولى القبلتين، وثالث الحرمين، والمسجد الذي عرج منه الرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يئن اليوم أنين الضارعين، ومن وطء أقدام أشد الناس عداوةً للمسلمين، يفعلون فيه ما يشاءون.. لا رحمة ولا شفقة ولا تحرج، ولا تأثيم ولا استحياء، ولا حسيب ولا رقيب، حتى من هيئة حقوق الإنسان في منظمة الأمم المتحدة أنا لا أقول: اقتلوا اليهود، فدين الرحمة يحرم التقتيل، ولا أقول: ألقوا بهم إلى البحر فدين السلام لا يرضى بإلقاء الناس إلى البحر، ولكنني أقول: انهضوا وأفيقوا وكونوا رجالاً، يتحقق لكم كل ما تريدون.

إن بيت المقدس هذا يختصم اليوم المسلمين جميعًا في سائر بقاع الأرض أن تركوه نهبًا للطامعين، لا يرقبون في أحد من أهله، ولا في بقعة من بقاعه ومقدساته، إلاً ولا ذمة.

إن بيت المقدس هذا يهيب اليوم بكل مسلم على وجه الأرض، يحتفل بذكرى الإسراء والمعراج، أو لا يحتفل، أن يجهد ناصبًا، وأن يأرق ليله ساهرًا، ونهاره عاملاً جاهدًا، أن يفكر وأن يستعد، وأن يعد لإنقاذه مما حل به من هوان وامتهان، حتى يعود حرًا كريمًا مقدسًا، وإلا فما أقسى الحساب يوم التغابن.

بدأ الإسراء من المسجد الحرام وانتهى في المسجد الأقصى، فلنبدأ باليقظة حتى نصل إلى تحقيق الآمال.. وقوف الداعية عند دعوته ولو كذبه الناس واستهانوا به هذا هو واجبنا الوحيد اليوم.

تسألونني، وأنا أسأل نفسي معكم: ماذا نفعل؟ وهذه هي قوى الأرض كلها تقف ضد المسلمين تحول بينهم وبين استنقاذ ثالث الحرمين، فأقول: "أما إن المسلمين مسؤولون جميعًا عن ضياعه، بسبب انصرافهم عن تعاليم دينهم فذنب من كبار الذنوب التي يؤاخذ عليها المسلمون، لأنه إثم وقعنا فيه جميعًا.

أما أن المسلمين لا يزالون حتى اليوم على ما كانوا عليه بالأمس، فجرم أكبر وأضخم.

أما أن المسلمين لا يؤرقهم، ولا يهزهم ضياع هذا الحرم من الأعماق، فهذا هو الواقع الأليم، حتى ولو لجأنا إلى المكابرة والإنكار، وإلا لما كانت هذه المساخر التي تموج بهذا البلد ليلاً ونهارًا. أما أن المسلمين كل شأن المسجد الأقصى معهم اليوم، هو مصمصة الشفاه وهز الرؤوس أسى وتحسرًا، فهو وضع الذل خير منه بكثير.

كل ذلك كائن وسيكون، إذا بقي الحال على هذا الوضع الكريه، ولقد سبق في التاريخ المعروف لنا جميعًا، أن هذا الحرم قد انتزعه الصليبيون من بين أيدي المؤمنين، وبقي تحت سلطانهم عشرات السنين، إلى أن أجمع المسلمون أمرهم، ثم جاءوا صفًا فاستعادوه وبقي لهم مئات السنين، وهذه عبرة التاريخ لمن أراد عبرةً، وحرصًا على عز كريم.

ليبق المسجد الأقصى مع (الكيان الصهيوني) ما شاء الله أن يبقى، فهذا هو الأمر الواقع الذي نشهده اليوم، ونحياه، ومن السخرية أن ننكره أو ننساه، ولا حيله لنا فيه، لأن سياسة حُكم ما قبل عام 1971م هي أول الأسباب وآخرها في هذا الضياع.

أما الذي يجب علينا- إن كنا فعلاً على عزم في استرجاعه- فهو أن نغير ما نحن عليه من عبث واسترخاء، ليبدلنا الله به قوة إيمان وصدق يقين، فقوة المتصل بربه فوق قوى المدافع والصواريخ.

لتكن حياة المسلمين طيلة كل يوم، الذكريات الفاجعة لهذا الضياع حتى لا ينسوه في غمار ما تطالعنا به الصحف ويسمعنا إياه المذياع، وما يُشهدنا فحشه التليفزيون صباح مساء، وتعرضه علينا السينمات والمسارح، لنصرخ في آذان المسؤولين طوال اليوم، كفى وسائل الإعلام عبثًا وإسفافًا وانحدارًا، وتعويقًا عن غفلة أو عمد، لتذهب البرامج السخيفة الماجنة إلى مباءات القمامة والقاذورات، واطلعوا علينا بما يُنشئ أولادنا رجالاً كرامًا مسلمين، إن هذه البرامج تهدم وتحطم كل ما يقوله ويفعله الراغبون في إصلاح الحال.

متى يبلغ البنيان يومًا تمامه

إذا ما كنت تبني وغيرك يهدم؟!

لنُقبل على الله حتى يمن علينا بالرجولة المؤمنة الطاهرة التي تفعل الأعاجيب، وليس هذا على الله بعزيز، إن الظالم القوي لظلمه وجبروته نهاية، وقد رأينا أن الله يداول الأيام بين الناس.. لنعدَّ ونستعد حتى إذا جاءت الفرصة، وجدتنا أيقاظًا متأهبين.

لا يشغل البال أن المسجد الأقصى قد خرج من بين أيدينا، فهذا هو واقعنا المرير، إنما الذي يشغل- ويجب أن يشغل- كيف نستعيد ما أفلت منا؟ بأي الوسائل؟ وعلى أية صورة؟ هذا هو الشغل الشاغل، والهم المقعد المقيم.

أما هذا الاستخذاء، المزري الشائن، أما هذا الموات المخزي المهين، فذا هو خزي الدنيا، وعار الحياة، وسوء المنقلب يوم الحساب، ليعاهدْ كل منا نفسه أنه سيذكر المسجد الأقصى نهاره وليله، وأنه سيربي أولاده على استنقاذه، وأنه سيحدث أهله وأصدقاءه في كل لقاء، ولو رموه بالجنون، هذا هو بدء الطريق، وكل من سار على الدرب وصل.

أيها الإخوة، هذه ذكرى من الذكريات كريمة، وآية من آيات الله عظيمة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق:37)


للمزيد عن معجزة الإسراء والمعراج

تاريخ احتفالات الإخوان بالإسراء والمعراج

كتابات الإمام حسن البنا عن الإسراء والمعراج

كتابات الأستاذ محمد مهدي عاكف عن الإسراء والمعراج

كتابات الأستاذ محمد مهدي عاكف عن الإسراء والمعراج

مقالات أخرى عن الإسراء والمعراج

.