فتاة من عمان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
فتاة من عمان

17 ديسمبر 2009

بقلم: نيفين مسعد

عندما دَخَلت عليها الفتاة العمانية منى جعبوب مكتبها قبل نحو عام، لم تكن تعرف أى مشروع يختفى وراء ملامحها الصبوحة. داعبتها الشابة بسؤال عن السر فى أن كل من يدخل مكتبها متجهماً يخرج وعلامات البشر تكسو وجهه، فمدت لها يدها بقطعة من الحلوى التى تحتفظ بها فى أحد أدراجها، فهمهمت منى بصوت خفيض الآن عرفت السر.

لكن منى، ابنة محافظة ظفار إحدى محافظات سلطنة عمان، لم تكن مجرد ذكرى عبرت أفق خيال صاحبتنا، لكنها كانت مشروعا للمستقبل يستحق التأمل.

اختارت الشابة العمانية أن تسجل مشروعها للماجستير بقسم تربية فى معهد البحوث والدراسات العربية عن «التجربة التربوية لثورة ظفار»، والاختيار دال بحد ذاته.

فالتجربة الثورية لجبهة تحرير ظفار، التى نشطت فى فترة الستينيات من أجل التغيير السياسى ومقاومة النفوذ الاستعمارى البريطانى، تعد واحدة من التجارب، التى يندر الحديث عنها بسبب حساسيتها، وذلك مع أن عددا يعتد به من كوادر النظام العمانى من خريجى مدارس الثورة.

عندما تقرأ رسالة منى يداخلك شعور عميق بأنها تعيش داخل موضوعها. ولعل تلك المعايشة هى التى تفسر كيف نجحت ابنة شيخ إحدى قبائل عمان فى انتزاع موافقة الأسرة على موضوعها، وأهم من ذلك نجاحها فى إقناع أسرتها بالسماح لها بالتنقل بين ربوع السلطنة وفى منطقة الخليج بحثا عن القيادات التاريخية لثورة ظفار داخل عمان وخارجها، حتى إذا ما أتمت رسالتها للماجستير سلمت الأهل وثيقة سفرها ربما حتى لا تفكر لاحقاً فى تكرار التجربة!

تمتلئ رسالة منى بلقطات ذكية تضعنا فى جو الستينيات والسبعينيات، الذى شهد بداية التجربة التعليمية لثورة ظفار ثم توهجها قبل أن تتلقى الضربات فى الثمانينيات ثم تنحسر.

خذ مثلاً تلك اللقطة التى تصور الثائر أبى كامل وهو يثبت قطعة من الخشب على ساق شجرة لتكون بمثابة سبورة يكتب عليها أبجديات اللغة من منظور الثورة، فلا يمثل لحرف (أ) بكلمة أرنب كما هى العادة بل كلمة إنسانية.

ويمثل لحرف (ب) لا بكلمة بطة كما هو شائع بل بكلمة بلادى، فالتلاميذ غير التلاميذ.

كان تلاميذ الثورة تتراوح أعمارهم بين السابعة والسابعة عشرة ينزحون من ظفار إلى الحدود اليمنية فى رفقة الثوار الذين يحرسونهم بالكلاشنكوف خلال رحلة تمتد إلى عشرة أيام.

أو خذ تلك اللقطة، التى تصور كيف كانت خيام الطلاب هى مساكنهم وقاعات درسهم فى الوقت نفسه، يفترشون فيها الأغطية مساءً ويلملمونها حين الصباح.

وعندما تقول منى «الطلاب» فهى تقصد البنين والبنات، لكل منهم زيه وإن كانت الأحذية بالنسبة لهم معاً ترفاً لا قَبِل لهم به.

هكذا كان الاختلاط أمراً طبيعياً والآن هناك من يلح على فصل الجنسين، وهذا يثبت أنه فى حضرة المشروع الوطنى تغيب المماحكات الأخلاقية.

أكثر من ذلك، كثيرون لا يعرفون أن امرأة هى التى وضعت للمدارس الابتدائية للثورة نظامها الداخلى ومناهجها التعليمية، وهذه المرأة هى ليلى فخرو بحرينية الأصل وطالبة الجامعة الأمريكية ببيروت التى جذبتها تجربة الثورة فتركت مقاعد الدراسة وشدت الرحال إلى اليمن لتعلم أبناء ظفار.

أو خذ اللقطة التى تصور تلاميذ مدارس الثورة الذين لا يعرفون الإجازات الصيفية ولا تعطل دراستهم بأكثر مما تنتظم كما يحدث لتلاميذنا، وكيف كانت هناك صرامة بالغة فى تقييدهم بتحدث اللغة العربية حتى إذا زل لسان أحدهم وتحدث بلهجته الجبلية فقال مثلاً «غشوم دجر» بدلاً من «أريد فولاً» عوقب على زلته.

وتأمل كيف كان التلاميذ يحملون متاعهم وينتقلون من مكان لآخر كلما قصفت مدارسهم، عفواً خيامهم، قبل أن يستقر بهم المقام أخيراً فى منطقة بعيدة عن مرمى النيران فتحل المبانى محل الخيام ويصير لمبانيهم بئر ومولد كهربائى وقاعات للدرس وأخرى للسكن، وتصير المدرسة لأول مرة اسماً على مسمى.

لقد كانت متعة أن تقرأ عن تلك التجربة الفريدة ويسرى بعض من حماس ثوارها إليك ويتدفق إصرارهم فى شرايينك، فشكراً لمنى التى قدمت لنا صورة للمرأة الخليجية غير صورتها التقليدية كمجرد جسد مستور لا عقل مبتكر، وأثبتت لمن يحتاج إلى دليل أن مشاركة المرأة لها ساحات أخرى غير البرلمان والوزارة وأن عطاءها الوطنى المخلص ممكن بقليل من الجلبة والدعاية وحب الظهور.

وتحية لكل من آمن بمنى وبقدراتها البحثية من مدرسها السورى فى كلية تربية ظفار الذى اقترح عليها الموضوع، إلى د.أحمد يوسف أحمد مدير المعهد الذى ساند رغبتها فى تسجيل موضوعها، إلى مشرفها د.حامد عمار شيخ التربويين العرب الذى تحمس لها بعد أن تحفظ آخرون، إلى أخيها على الذى رافقها فى جولاتها داخل عمان وخارجها، وكان يستمزج رأى قيادات الثورة ومدى استعدادهم للحوار قبل أن يذهب مع منى للقائهم.

فأكثرهم معتقل سابق، وبعضهم يشك فى نوايا محدثيه.

كانت منى بالفعل تحتاج إلى مثل هذا الدعم وكانت بحق جديرة بالحصول عليه.

المصدر