فقه التسخير للداعية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
فقه التسخير للداعية

توطئة

هذه المقالة تكاد تكون من آخر ما كتبه الداعية الشيخ فتحي يكن في الفقه الحركي، والموضوع منشور في موقع دعوة نت، الذي كان الشيخ -رحمه الله- يشرف عليه، كذلك صدر للدكتور -رحمه الله- كتاب خصائص الشخصية الحركية، وإليكم المقالة بعنوان (فقه التسخير):

تعريف فقه التسخير

الدعوة والداعية يجب أن يكونا ملمين بفقه التسخير، ويعمدا إلى توظيف الأوقات والطاقات توظيفًا سليمًا وشاملاً وكاملاً في خدمة الإسلام، وأهدافه القريبة والبعيدة؛ فالله I سخّر للإنسان كل شيء، وهو مطلوب منه بالتالي أن يسخِّر كل شيء في سبيل الله، بحيث يتحقق من ذلك كمال الشكر، تمام الأجر، مناط التوفيق والنصر.

وهنالك أمور، لا حصر لها ولا عدَّ، مما يمكن أن يسخر في الأرض بالإسلام، وحكمها بتشريعه، وصيانتها بمبادئه، وتحصينها بأخلاقه، وحل مشكلاتها بنظمه ومناهجه.


1- المسخرات الخلقية

من هذه الأمور ما هو خَلقي، ويقع في دائرته كل ما خلق الله في الإنسان، وما سخر الله في الكون للإنسان {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21].

ومن آيات التسخير: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّـر لَكُـمُ الشَّمْـسَ وَالْقَمَـرَ دَآئِبَيـنَ وَسَخَّـرَ لَكُـمُ اللَّيْـلَ وَالنَّهَـارَ} [إبراهيم: 32، 33].

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12].

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحج: 65].

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20].


2- المسخرات الاكتسابية

وهنالك مساحة بلا حدود من المسخرات الاكتسابية، التي يمكن أن يبتكرها الإنسان ويصنعها ويطورها، ويسخرها في الغرض الذي جاء به الإسلام، وهو الاستخلاف في الأرض، وإقامة الحياة الإسلامية بكل أصولها وفروعها وتفصيلاتها.

وفي هذه العجالة، أودُّ أن أتوقف عند بعض هذه المعطيات، التي لو أمكن استخدامها وتسخيرها وتوظيفها في خدمة المشروع الإسلامي، لأعطت نتائج، وحققت مكاسب تفوق التصور والخيال!

والمشكلة أن معظم هذه المعطيات معطَّل أو شبه معطل في حياة الدعوة، كما في حياة الداعية؛ مما ينعكس تعطيلاً لكثير من الأعمال، وأضعافًا لكثير من الخطوات، وإجهاضًا لكثير من المشاريع!

إن عدم أخذ الدعوة بالأسباب المتوافرة، وعدم تسخير هذه الأسباب وتوظيفها بشكل سليم وكامل، من شأنه أن ينعكس سلبًا على الإنتاج كمًّا ونوعًا.

فهنالك طاقات ومؤهلات معطلة بلا حدود، وهنالك أوقات مهدورة بلا حساب، وهنالك العديد من الفرص والوسائل تمر بلا فائدة، وهنالك علوم ومبتكرات وتقنيات لا مكان لها في دائرة التنظيم والتخطيط والإدارة والبرمجة والإعلام إلى ما نهاية له..

(1) في تسخير الفرص والمناسبات

إن الحركة الإسلامية بحاجة لوضع فقه خاص بتسخير الفرص والمناسبات بما يحقق الاستفادة من الفرص الكائنة والفرص الممكنة، وهذا من جانب يرفع من نسبة الفوائد الناتجة عن توظيف الفرص المتاحة والتقليدية، يضاف إليها نسبة توظيف الفرص التي يمكن أن تهيئها الحركة من خلال الدراسة والتمحيص والتخطيط المسبق.

وأعداء الإسلام لا يفتئون يطورون أسباب ووسائل الاستفادة من المناسبات التقليدية، ثم هم يصطنعون مناسبات وفرصًا ويسخرونها في خدمة مشروعهم!!

وهذا الجانب في فقه التسخير ليس جديدًا على من فَقِهَ دين الله تعالى، وسبر أغوار التاريخ البشري عبر مسار إرسالات الرسل جميعًا!

فإبراهيم u بعد أن حطم آلهة قومه، وأبقى على كبيرهم.

كان من فقه تسخير السانحة، أن قال لهم عندما سألوه: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 62، 63].

والغلام المؤمن الذي تحير الملك في كيفية قتله، والتخلص منه، بعد أن خشي على مُلكه منه، اغتنم المناسبة وسخرها بقوة في تحقيق الهدف الذي يسعى إليه، وهو دفع الناس إلى الإيمان بالله، فقال للملك: إذا أردت أن تقتلني، فما عليك إلا أن تجمع الناس، وتربطني إلى جزع شجرة، ثم تأخذ سهمًا من جعبتي، وتصوبه إلى رأسي، وتقول: باسم رب هذا الغلام.

ولقد فعل الملك هذا، ودون أن يفطن للوسيلة التي أدت إلى إيمان الشعب كله برب الغلام.

وفي هذا بلوغ القمة، في تسخير المناسبة وسبق لم يسبق له مثيل!!

وعندما يحض رسول الله المسلمين على حفز ملكه النظر في فقه التسخير ويقول: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك"؛ فإنه يصيب كبد هذا الفقه، ويتناول مساحة التسخير كلها ومن مختلف جوانبها.

وعندما يحض الرسول على إتقان العمل -أي عمل- ويقول: "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل العمل أن يتقنه"، فإنما يدعو إلى استنفاد كل جهد مستطاع في عملية الإتقان لتحقق النسبة القصوى من الفائدة.

والعمل قد يكون: محاضرة أو ندوة، وخطبة أو مهرجانًا، ورحلة أو سياحة، وأسرة أو حلقة، أو مؤتمرًا.

وقد يكون العمل في دائرة التنظيم أو التخطيط، وقد يكون في إطار العمل الاجتماعي أو الاقتصادي أو التجاري أو السياسي وقد يكون في إطار التأهيل التربوي أو الدعوي أو الحركي، وقد يكون من خلال المسح والإحصاء والتثمير، بل إنه قد يكون في أي مجال من مجالات العمل والحياة.

ومشكلة الحركة، أنها قد تحيي مناسبات كثيرة، وتقوم بأعمال كثيرة، لكن من غير إتقان وبدون فقه لكيفية التوظيف والتسخير، فتكون النتيجة أحيانًا خجولة أو مخيبة للآمال!

فعلى سبيل المثال: يبدأ فقه التوظيف محاضرة من المحاضرات: من خلال حسن اختيار المحاضر، وحسن اختيار الوقت، وحسن اختيار الموضوع، وحسن اختيار المكان.

إلى حسن إعداد البطاقات وتوزيعها، إلى حسن اختيار التعريف وحسن الاستقبال والوداع.

إن كل مفردة من هذه المفردات، وفي المسألة الواحدة تحتاج إلى حسن تسخير وتوظيف، وبقدر نسبة الخلل الذي يمكن أن يحدث فيها، سينعكس من خلاله على الإنجاز كله.

وعلى هذا الأساس، يمكن أن نقيس خطواتنا ونمحّص ممارساتنا، ونقوّم أعمالنا.

وإن كان الكمال المطلق لله، إنما هنالك (كمال بشري) يقع في صميم قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].

وغير ذلك لا يعني إلا التواكل والتكاسل، وانخفاض مستوى الشعور بالمسئولية، والإحباط التدريجي، الذي بتسببه العمل المتعثر والفاشل، بينما العمل الناجح يدفع بصاحبه إلى آخر، أكثر نجاحًا.

ومن فقه تسخير الرسولللفرص والمناسبات توظيفه لأسواق العرب: مجنّة، وذي المجاز، ومِنى؛ لعرض دعوته على الناس، بدون كَلَفة، وعلى أوسع نطاق.

ومن خلالها فتح الله للمسلمين أبواب المدينة على مصراعيها.

ومن فقه تسخير الفرص: حادثة (أبي جندل) الذي وصل إلى الحُديبية ليلحق بالمسلمين بعد كتابة الشروط التي تعهد فيها رسول الله "بردِّ من جاءه مسلمًا"، ولقد داخل المسلمين من ذلك أمر عظيم، وقالوا: سبحان الله! كيف نرد إليهم من جاءنا مسلمًا، ولا يردون من جاءهم مرتدًّا؟!

فلما جاء أبو جندل، قال له رسول الله: "اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا.

وإنا قد عقدنا مع القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك عهدًا، فلا نغدر بهم".

ولقد قدر الله لأبي جندل أن يقيم (قاعدة عسكرية) على طريق الشام، حيث اجتمع معه عدد كبير ممن كانوا مسلمين بمكة.

فكانوا يغيرون على قوافل قريش وإمداداتها، حتى استغاثت قريش برسول اللهفي إبطال هذا الشرط؛ وبذلك تحقق للمسلمين خير كثير، حتى قال أبو بكر t: (ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس قَصُر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل، لعجلة العباد حتى يبلغ الأمور ما أراد).

(2) في تسخير العلوم والمبتكرات

والحركة الإسلامية بإمكانها أن تسخر كل العلوم والمبتكرات، وتوظفها في خدمة مشروعها وعلى كل صعيد.

فهي قادرة على تسخير أجهزة البث المسموع والمرئي والمكتوب في الجانب الإعلامي، وهي قادرة على تسخير أجهزة البرمجة والإحصاء في الجانب الإداري والقيادي والتخطيطي والتنظيمي، وهي قادرة على تسخير كل وسائل الاتصال في مجال الإنجاز، وتسخير كل وسائل النقل والانتقال في مجال السياحة والدعوة والتبليغ.

هنالك آلاف بل عشرات آلاف من المبتكرات يمكن أن توظف وتسخر لتغطية كافة الأنشطة والأعمال والأغراض والخطوات.

إن أجهزة بسيطة ورخيصة أحيانًا، يمكن أن تحل محل عدد من الأشخاص، فكيف بالأكبر والأكثر أهمية وفاعلية؟ إن من فقه التسخير لدى رسول اللهأنه حضّنا على الاستفادة من كل العلوم والفنون والصناعات والمبتكرات؛ ففي قوله الجامع المانع: "خذوا الحكمة من أي وعاء خرجت"، وقوله: "الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها"، ما يفيد هذا الأمر.

(3) تسخير الاختصاصات

وفي السنة الخامسة للهجرة، تداعى المشركون واليهود، وحشدوا قواهم العسكرية حول المدينة.

فاستشار رسول اللهأصحابه فيما يصنع: أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرار؟ فأشار عليه (سلمان الفارسي) بحفر الخندق، وهو عمل تعرفه الفرس ولم تكن العرب تعرفه، فأمر u المسلمين بعمله، وشرعوا في حفره شمال المدينة من الجهة الشرقية إلى الجهة الغربية.

ولا يفهم حضّ الرسول المسلمين، على تعلم ما لدى الآخرين من علوم مختلفة، من خلال قوله: "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم" إلا أنه دعوة لتسخير كل ما لدى المسلمين، وما لدى غيرهم في سبيل الله وفي عملية التغيير الإسلامي.

(4) في تسخير المؤهلات

وما أحوج الحركة الإسلامية إلى تنفيذ القاعدة التي تعتمد على (وضع الشخص المناسب في المكان المناسب)!

وبالرغم من كون هذه القاعدة مشهورة ومعلومة، إلا أننا في واقع التطبيق قلّ أن نعتمدها؛ ذلك أن قواعد اختيار الأشخاص، لا تجري وفقًا لشروط (المهمة) ومواصفاتها، وإنما تجري وفقًا لاختيارات عفوية تعتمد عادة على قرار الأكثرية، وهي قاعدة تنظيمية قديمة لا تأتي بالشخص المؤهل لتولي مهمة ما! وقد يكون الاختيار من خلال صور غير دقيقة ولا صحيحة، ارتسمت في الأذهان والأدمغة وتشكلت بفعل شائعة ما، أو غلطة ما.

وقد تلعب المزاجية دورًا كبيرًا في عملية الاختيار، فتخرج بها عن مقاصدها وتعطيل عملية الاختيار السليم… وفي بعض الأحيان قد يدخل الشيطان في العملية فيصبح نصيب الأهواء وافرًا، ويخرج إبليس ظافرًا!

إن عملية الاختيار يجب أن تتغير شكلاً وموضوعًا، بحيث يتم تحديد مواصفات لكل مهمَّة من المهمات، وبخاصة أننا نعيش عصر اختصاصات؛ إذ لم تعد الأقدمية التاريخية مناط الاختيار فحسب، بل يجب أن تضاف إليها الجدارة.

وفقه الاختيار في الإسلام سبق العلوم العصرية في هذا الباب، حيث كان الرسول يقلد المهمات أكفاءها، وعلى هذا كان يجري الاختيار من خلال عملية استكشاف المؤهلات والمواهب والاختصاصات في الأمة، وبعد ذلك يتم توزيع أصحابها على المهمات والمسئوليات المختلفة؛ فمن يصلح (للإدارة والتنظيم) قد لا يصلح (للتربية والتعليم)، ومن يصلح لتدريس (الشريعة والفقه) قد لا يصلح (للعمل السياسي)، ومن يصلح للشئون السياسية قد لا يصلح للشئون الرياضية والكشفية وغيرها، ومن يصلح للشئون الاجتماعية قد لا يصلح في غيرها.

وهذا لا يمنع وجود أشخاص قد تتوفر فيهم مؤهلات متعددة، وهذا استثناء القاعدة؛ إذ القاعدة أن يكون كل إنسان على ثغرة واختصاص، لا أن يكون على كل الثغرات، وأن يتولى جميع المهمات، حيث تكون النتيجة الفشل الذريع.

وصدق رسول الله حيث قال: "ما ملك ابن آدم من قلبين في جوفه".

وصدق الإمام الشافعي حيث قال: "لو كلفت بصلة ما أنجزت مسألة".

إن ظاهرة الاستحواذ على كل المهمات، وجميع المسئوليات، من أفراد محدودين، يؤدي إلى مفسدتين اثنتين..

الأولى: مفسدة الفشل في القيام بالمهمات، وضياع المسئوليات، وتعثر واضطراب الخطوات.

الثانية: خسارة أصحاب المؤهلات الأخرى إذ يظلون بلا عمل، فيصبرون على هذا الحال -هذا إن صبروا- عاطلين عن العمل، أو يولون الأدبار، لا يلوون على شيء!

والنتيجة المحتومة: هي عدم توالد البديل، وتعطل قاعدة التأهيل، التي تحقق انتقال الراية من (خير خلف لخير سلف).

لقد علمنا رسول اللهفقه الاختيار حيث اختار للإمامة في الصلاة خير الناس قراءة، وأمرنا بهذا الاختيار.. "يؤمكم أقرؤكم...".

واختار للتعليم والإرشاد أكثر الناس علمًا "خذوا دينكم من ابن مسعود".

واختار للقضاء أكثر الناس فقهًا وورعًا.

واختار للقيادة العسكرية، من برعوا في فنون القتال من المجاهدين الأبطال.

وعلمنا أن نختار بدائل، إن سقط الأصيل، حل محله البديل، وكان جاهزًا لمتابعة المسير (راجع غزوة تبوك).

وهنا أود أن أتوقف عند (ظاهرة مرضية) قد تكون من الخطورة بمكان على مستقبل العمل الإسلامي، وعلى مصير الحركة الإسلامية، وهي ظاهرة بقاء بعض الذين يتصدرون الصفوف، ويتقلدون مواقع قيادية، على حال واحد ومستوى واحد من الأهلية، دون أن يواكبوا سنة التطور.

فمن هؤلاء من لا يكون مؤهلاً في الأصل، ثم هو لا يحاول أن يكتسب شيئًا من الأهلية، ومنهم من تكون لديه بعض الأهلية، ثم هو لا يعمد إلى تنميتها وتطويرها.

بل قد يصل الأمر ببعض هؤلاء - غير المؤهلين - درجة لا يدركون فيها حجم أنفسهم وحدود مؤهلاتهم، ويصرّون على أن يظلوا في موقع القيادة والريادة والتعليم لغيرهم، ولو كان هذا الغير أوسع منهم علمًا، وأكثر أهلية وجدارة.

إن عدم قدرة القيادة على استيعاب أصحاب المؤهلات والاختصاصات والإمكانات المختلفة - كمًّا ونوعًا وموضوعًا - يدفعها إلى أن تضيق بهم ذرعًا.. فهي من جانب غير قادرة على احتوائهم وتوظيف طاقتهم، وهم من جانب آخر، غير مضطرين لأن يظلوا (محنطين ومعلبين) إلى الأبد.. وعند هذه النقطة يبدأ الخلل ويدب اليأس والملل، وتتعاظم الخسارة! فإذا الحساب بلا رصيد، وإذا الشيخ بلا مريد، وإذا القائد مريض ووحيد.

فكم من قدرات وطاقات وإمكانات واختصاصات ومؤهلات تعطلت واندثرت وماتت وخسرها المشروع الإسلامي.

فمنها من أصابه الإحباط فانطوى على نفسه، أو افترسته الهموم اليومية فانصرف إليها.

ومنهم من وظَّف الطاقة التي لديه في جانب من جوانب العمل الإسلامي، ارتضاه لنفسه، بعد أن كفر بالعمل الجماعي!!

إن إشكالية الفشل في تسخير طاقات الأفراد المختلفة وفي سد حاجات جوانب المشروع الإسلامي المختلفة، سيجعل الثغور بلا حرّاس، والمهمات بلا رجال، والمخططات حبرًا على ورق..

ليس عيبًا على من تقدم سِنُّه في الدعوة أن يقدم سواه إن وجد لديه كفاءة ليست عنده، بل العيب أن لا نرى كفاءات الآخرين ولا نحس بها أو ننتبه إليها، ونعتبر أن (مثلنا لم تلد الأمهات)!!

والأكثر عيبًا أن نضيق ذرعًا بأصحابها، ونسعى بشتى الوسائل للتخلص منهم، ونلتمس لذلك شتى المبررات والمعاذير، ومن غير أن نشعر أننا بفعلتنا هذه نكون قد ارتكبنا جريمة لا تغتفر، بحق الإٍسلام وبحق الدعوة، وإننا بعملنا هذا نكون قد (أفرغنا) الحركة من قيمتها ومادتها.

(5) تسخير المقامات والمواقع

ولكم تحتاج الحركة الإسلامية إلى استكشاف الفقه النبوي، في تسخير المواقع والمقامات، وتراجع حساباتها الخاسرة، ورصيدها المعدوم في هذا الجانب!! وحسبنا أن نتوقف هنا عند عددٍ من النماذج النبوية من عمق فقه التسخير..

* في حمأة الصراع الذي كان دائرًا بين الكفر والإيمان في مكة، كان رسول الله يتضرع إلى الله بالدعاء ويقول: "اللهم أيِّد الإسلام بأحد العمريْن: بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب".

وفي رواية: "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين".

ولقد استجاب الله دعاء رسول الله، وأسلم ابن الخطاب، وقويت شوكة المسلمين.

* وعندما اشتد الأذى على المسلمين في مكة، قال رسول اللهلصحابته: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه".

فخرج ثلاثة وثمانون رجلاً إلى الحبشة حيث نزلوا على النجاشي، وأحسن وفادتهم ونُزُلهم.

  • وقبيل فتح مكة، أسلم أبو سفيان بن حرب، فقال العباس لرسول الله: (إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا).

قال: "نعم، من دخل دار أبا سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن".

وبذلك حقن رسول اللهالدماء، ودخل مكة بدون حرب.

(سيرة ابن هشام).

  • وعندما أسلم سعد بن معاذ، وقف في قومه خطيبًا وقال: (ما تعدوني فيكم؟) قالوا: سيدنا وابن سيدنا.

قال: كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا.

قيل: فما أمسى المساء، إلا وكان الحي كله مسلمًا.

وفي رواية: فلم يبق بيت من بيوت عبد الأشهل إلا أجابه.

(نور المتقين).

  • ويوم الأحزاب أسلم "نعيم بن مسعود الأشجعي" وكان صديق قريش واليهود من غطفان، وجاء إلى رسول اللهقال: يا رسول الله، إني أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي، فمرني بأمرك حتى أساعدك.

فقال: "أنت رجل واحد، وماذا عسى أن تفعل، ولكن خذِّلْ عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة".

ولقد قام نعيم بن مسعود بدور فعال في تخذيل المشركين واليهود، وفي تأليب بعضهم على بعض، وتحقق النصر للمسلمين والهزيمة لأعدائهم عن طريق رجل فرد، سخره الله ورسوله للقيام بهذا الدور الكبير.

  • ولما رجع رسول اللهمن الطائف لم يتمكن من دخول مكة، فأرسل إلى (المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف) يخبره أنه سيدخل مكة في جواره، فأجابه إلى ذلك وتسلح هو وبنوه، وتوجهوا مع رسول اللهإلى المكان، فقال له بعض المشركين: "أمجير أنت أم تابع؟ فقال: بل مجير، قالوا: إذن لا تخفر ذمتك".

(نور المتقين).

(6) في تسخير الأوقات

ومن المشكلات التي يعاني منها معظم الناس، وبخاصة المسلمون والكثير من الإسلاميين، مشكلة عدم معرفة (قيمة الوقت)، وتسخيره في الخير والبناء وليس في الهدم والشر.

فالوقت هو الحياة، وهو وعاء العمل وساحته، فإما أن يملأ بالأجر، وإما أن يملأ بالوزر، ولا خيار ثالثًا بينهما، ومن المؤسف أن غير المسلمين، وبخاصة الغربيون، لا يتركون دقيقة تفوتهم دون أن يشغلوها بشيء، سواء كان هذا الشيء ضارًّا أو نافعًا، والنُّخبة عندهم تسخر الوقت تسخيرًا كليًّا، وتحسبه بالدقائق والثواني.

أما أعداء الإسلام، ومواقع التخطيط عندهم، فإنها في حالة شغل دائم، تحضر وتسخر وتفكر وتقدر، ثم تتآمر وتقرر، ونحن دائمًا حيال مفاجئات، ودونما تهيئة وتحضيرات، نُستدرج بأفعالهم إلى ردّات فعل طائشة وعفوية وغير مدروسة!

إن الوقت في مفهوم الإسلام، إما أن يكون لنا أو علينا، وليس عبثًا أن يحض الرسولعلى اغتنام الفرص قبل فواتها، ومن ذلك: "شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك…".

مشكلة الإسلاميين أن أكثرهم يضيع معظم الأوقات في القيل والقال، وكثرة الجدال.. "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل بينهم".

أين حق دعوة الناس وإرشادهم من أوقاتنا؟

أين الإقبال على تزكية النفس وتهذيبها في حياتنا؟

أين قراءة النافع من العلوم والمعارف في يومنا وأسبوعنا؟

أين إقامة المشاريع المرتبطة بمصلحة الإسلام وأهدافه في تخطيطنا؟

أين نحن من وصية الإمام الشهيد حسن البنا التي يشير فيها إلى قيمة الوقت حيث يقول:

"إن كانت لك حاجة فأوجز في قضائها".

وفي المثل (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك).

يجب أن ندرك جميعًا أننا محاسبون عن الوقت الضائع؛ لأن الوقت الضائع هو حالة من (حالات الغفلة)، والوقت المملوء هو حالة من (حالات اليقظة).

المصدر