فى رثاء غازى القصيبى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
فى رثاء غازى القصيبى

24 اغسطس 2010

بقلم: جلال أمين

لم أعرفه معرفة شخصية، ولم أقابله قط، ولكنى قرأت كل كلمة كتبها مما كان يمكن أن أضع يدى عليه، وأعجبت بكل شىء قرأته له، نثرا أو شعرا (مع أنى لست عادة من متذوقى الشعر).

ومن ثم كان يهمنى أن أعرف أى خبر عنه، عام أو خاص، وأن أتتبع أخباره: هل هو الآن سفير أم وزير؟ هل نشر له كتاب جديد؟

ثم فجأة قرأت أنه مريض وأن مرضه خطير، وقد يهدد بالموت.

ثم قرأت أنه نفى نفيا قاطعا أن مرضه خطير. ولكنى قرأت خبر وفاته فى الصفحة الأولى من جريدة «الحياة»، منشورا بالخط العريض الذى يستحقه مثل هذا الخبر بلا شك.

كنت آمل أن يكون نفيه للمرض صحيحا، وإن كنت، مما فهمته عن شخصيته، أشعر بأنه من الممكن أن ينفى غازى القصيبى المرض وقرب الموت ويكون قصده معنى آخر غير المعنى الواضح والمباشر.

وإن كنت انتظر أن يوضح لنا القصيبى ذلك المعنى الآخر، فمات قبل أن يفعل.

فى مثل هذه الأحوال يكون الشعور بالحزن مختلفا والصدمة من نوع مختلف عما يحدث عندما تفقد صديقا أو قريبا تعرفه معرفة شخصية. وبصراحة، فإنى لا أعرف أى الحزنين أقوى وأيهما أكثر دواما.

ففى حالة غازى عبدالرحمن القصيبى، أشعر بأن الحزن يمكن أن يكون دائما، مثلما يخطر لى أحيانا فى حالة فقد رجال من نوع الشاعر المصرى صلاح جاهين أو الكاتب السودانى الطيب صالح. ما الذى أعرفه عنه بالضبط؟

كنت فى زيارة للندن، وذهبت إلى مكتبة جميلة فى حى نايتس بريدج (Nights Bridge) تبيع الكتب العربية، ويملكها صديقى الناشر اللبنانى رياض الريس.

قابلنى رياض وطاف معى بالكتب العربية الجديدة ثم أشار إلى رواية حديثة وقال «خذ هذه!» كانت رواية «شقة الحرية» لغازى القصيبى. كانت رواية مبنية على أحداث مر بها الكاتب شخصيا عندما كان يدرس فى جامعة القاهرة.

إذن «فشقة الحرية»، هى الشقة التى كان يسكنها هو وأصدقاء له جاءوا جميعا للدراسة فى مصر.

فُتنت بجمال الرواية وصدقها وقرب روحها المرحة من روح المصريين، وفسرت ذلك بأن القصيبى فى الأصل من البحرين، وقد لمست من البحرانيين قرب روحهم من روح المصريين، لسبب لا أستطيع معرفته.

على أى حال، كان إعجابى بالرواية بدرجة جعلتنى أبحث له عن كتب أخرى، فقرأت معظم رواياته الأخرى، وكتبا له عن مشاكل العرب الاجتماعية والاقتصادية، وعن رحلة له لكاليفورنيا مع أسرته، استعاد خلالها ذكرياته عن أيام دراسته للدكتوراه فى أمريكا.

فوجدته دائما ذكيا مرحا، ثاقب النظر، ودائما يتحلى بروح إنسانية جميلة. عندما كنت أقرأ له فى جريدة الحياة من حين لآخر، مقالا أو قصيدة شعر، كان يدهشنى تكرر تعاطفى مع شعره على نحو لم ألمسه فى موقفى من معظم الشعراء العرب الآخرين، عرفت من كتبه أنه يحب المتنبى حبا جما، وأنا أيضا أحب المتنبى حبا جما، ولكن الشعراء العرب المحدثين يعجز معظمهم عن تحريك مشاعرى على النحو الذى يحركها شعر القصيبى.

هل هو الصدق التام مرة أخرى؟ بالإضافة إلى الروح الإنسانية والمرح والنفور من أى نوع من التظاهر بالعمق، ومن ثم من أى نوع من التعقيد؟ ثم قرأت له مقالين مدهشين عن الأميرة ديانا بعد مصرعها بقليل. كان قد عرفها معرفة شخصية عندما كان سفيرا للمملكة السعودية فى لندن، ومن ثم لم يكن من المستحيل أن يدعوها هى وبعض أصدقائها إلى وليمة فى بيته، وأن تلبى الدعوة.

كانت المقالتان مدهشتين لأن مثل هذا الوصف لامرأة جميلة وشخصية مشهورة أحبها العالم كله، غير مألوف البتة من دبلوماسى عربى أو غير عربى، والتعبير عن العاطفة بهذا الصدق إزاء مصرعها المأسوى والعبثى، هو شىء نادر أيضا.

وجدت له بعد ذلك كتابا صغيرا عن ديانا فقرأته، أعجبت به، وقصيدة فى رثاء «سعاد حسنى» فى جريدة الحياة أيضا، فوجدتها أيضا بالغة القوة والتأثير.

ثم سمعت أنه كتب قصيدة يرثى فيها فتاة فلسطينية قامت بعملية انتحارية، وكانت نتيجة هذه القصيدة احتجاجا إسرائيليا لدى الحكومة البريطانية تم على إثره نقل غازى القصيبى من وظيفته سفيرا فى لندن إلى وزير فى المملكة السعودية.

حدث قبل هذا شىء لا يخلو من طرافة. فمنذ سنوات خلت وظيفة مدير منظمة اليونسكو، وترشح لها يابانى ومصرى وسعودى. كان السعودى هو غازى القصيبى الذى فرحت بخبر ترشيحه، وقلت لنفسى إن رجلا كهذا، أديبا وشاعرا موهوبا ومحبا بل عاشقا للثقافة العربية، وظهر منه المرة بعد المرة تعاطف صادق مع قضايا أمته وآمالها، هو أفضل من يمثل العرب فى اليونسكو، بل لعله إذا نجح فى الوصول إلى رئاستها يستطيع أن يخدم الثقافة العربية أكثر من أى شخص آخر.

كان المرشح المصرى رجلا محترما ومثقفا، وشغل لمدة طويلة مناصب دولة رفيعة كان آخرها منصب نائب مدير البنك الدولى. ولكن وظائف البنك الدولى، مهما كانت رفيعة، كانت تثير دائما فى نفسى بعض الشكوك، بسبب قلة ثقتى فى وظيفة البنك الدولى نفسه، وميلى إلى الاعتقاد بأن هذا البنك قد يكون ضرره بالعالم الثالث (إذا أخذ كل شىء فى الاعتبار) أكبر من نفعه.

والموظف الذى يشغل منصبا كبيرا فيه (بعكس الموظفين الصغار الذين لا حيلة لهم فى الأمر) لابد أن يتحمل جزءا من المسئولية عن أخطاء البنك الكبيرة، فى رأيى، سواء كان يعلم بها وفكر فيها أو لم يعلم ولم يفكر.

وكنت فضلا عن ذلك مازلت أذكر محاضرة ألقاها هذا المرشح المصرى فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، قبل ذلك بسنوات قليلة، كانت كلها تدور حول الدفاع عن مطالب صندوق النقد الدولى من مصر، والتحذير من مغبة عدم تنفيذها، وهو ما لم يعجبنى بتاتا، سواء كان هذا هو رأيه أيضا فى مطالب الصندوق أو لم يكن.

لم يكن لدى شك إذن فى أفضلية غازى القصيبى لمنصب مدير اليونسكو ثم حدث أن تلقيت مكالمة تليفونية من أستاذ قديم لى، متقدم فى السن، ويتمتع باحترام عام بسبب طول عهده بالانشغال بمشاكل التعليم فى مصر، وبسبب اعتلائه بدوره عدة مناصب كبيرة فى منظمات الأمم المتحدة قبل تقاعده.

سألنى الرجل عما إذا كنت أعرف أن المصرى الكبير الذى يشغل وظيفة نائب مدير البنك الدولى مرشح لرئاسة اليونسكو، فقلت إننى أعرف، فقال إنه ينظم حملة للدعاية له ولجمع توقيعات مؤيدة له من المثقفين المصريين، تضاف لما سبق للمرشح نفسه جمعه من توقيعات أجانب مرموقين، من بينهم عدد من حائزى جائزة نوبل، وطلب منى أن اشترك فى الدعوة له وتأييده.

فقلت له إنى بصراحة لا أميل إلى ذلك بسبب تفضيلى للمرشح السعودى بلا أدنى شك. استغرب الرجل هذا الموقف بشدة.

فالمرشح الذى يدعونى لتأييده، هو قبل كل شىء مصرى، وافترض الرجل أن هذه صفة كافية لتأييده. ولكنه، فضلا عن ذلك لا يعرف فيما بدا لى أى فضل خاص للمرشح السعودى.

عندما ذكرت له أسبابى، صاح بى وهو مندهش أشد الاندهاش «أتفضله لأنه كتب رواية؟» لم أجد دافعا، والحال كذلك، للخوض فى شرح ما أتوقعه من فرق بين أثر هذا المرشح أو ذاك على الثقافة العربية واكتفيت بالرفض.

ولم يفز لا المرشح المصرى ولا السعودى، بل فاز اليابانى، لأن الأسباب التى يمكن بها دعم ترشيح غازى القصيبى بهذا المنصب، لم تكن من النوع الذى يؤثر فى تصويت الدول.

كان غازى القصيبى قد صرح قبل التصويت بعدة أسابيع، بأنه قبل أن يرشح نفسه رغم أنه واثق تماما من أنه لن يفوز.

لم يقل السبب، ولكن لابد أنه كان يعرف أيضا تمام المعرفة أنه، رغم كونه كاتبا ومفكرا وشاعرا موهوبا، وهى كلها صفات من المفيد توافرها فى رئيس منظمة اليونسكو، يعرف أن هذه الصفات لا تؤثر كثيرا فى نتيجة التصويت.

تذكرت كل هذا عندما قرأت خبر وفاته، فمرت بذهنى خواطر كثيرة، منها أن كل هذه الصفات الطيبة التى كان يتحلى بها غازى القصيبى لا يمكن بالطبع أن تمنع أو تؤخر موته ومع ذلك فهى وحدها دون غيرها، ما يعطى لاستمرار حياتنا أى معنى.

المصدر