قالب:الجزء الثاني من كتاب حقيقة التنظيم الخاص

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

== الفصل السادس : دور النظام الخاص في فلسطين..الإخوان يتسابقون إلى الجنة ويدفعون باليهود إلى النار==


مقدمة

سبق أن جرتنا أحداث قضية السيارة الجيب وشهادات الشهود بها إلى وفاء الإخوان بمبادئ دعوتهم، وإسهامهم الجدي في قضية فلسطين، باذلين في هذا السبيل أموالهم وأنفسهم في سبيل الله آملين أن يحق فيهم قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].

ولقد خصصنا هذا الفصل لبيان دور النظام الخاص في فلسطين بتفصيل أوسع من اللمحات التي ظهرت على ألسنة الشهود في قضية السيارة الجيب وما صاحبها من وقفات.

نزول سماحة مفتي فلسطين وأعوانه لاجئين سياسيين في القاهرة

كان أول تحريك عملي نحو الجهاد في فلسطين، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، هو وصول سماحة الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين إلى القاهرة في عام 1946م فارًا من محاكمة الحلفاء لمجرمي الحرب العالمية الثانية، وقد كان منهم الحاج أمين الحسيني متهمًا بتهمة التعاون مع هتلر، والعمل على مناصرة قواته لدخول مصر، والتخابر مع المسئولين المصريين في هذا الشأن.

وقد سكن سماحته قصرًا بحلمية الزيتون، وسكن ابن أخيه الشهيد عبد القادر الحسيني فيلا بهذا الحي الهادئ، واشتغلا مع باقي المجاهدين الفلسطينيين من هذا الموقع لإعداد الشعب الفلسطيني، لاستخلاص وطنه من الخطة الإنجليزية المرسومة لتوطن اليهود في هذا الجزء من الوطن العربي المسلم تنفيذًا لوعد حكومتهم الصادر في سنة 1917م والمشهور بوعد بلفور.

وكان طبيعيًا أن تتجاوب جماعة الإخوان المسلمين مع سماحة مفتي فلسطين ورجاله، فإن مبادئهم كحملة لدعوة الإسلام السلفية إلى الناس، تفرض عليهم الجهاد في سبيل الله، وهو مبدأ معلن من مبادئهم يقول:

«الموت في سبيل الله أسمى أمانينا»، خاصة وأن هذه الجماعة التزمت بعهدها للناس فكونت منذ سنة 1939 جيشها المسلم المشهور باسم «النظام الخاص» والذي اشترك حتى هذا الوقت في عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال الإنجليزي في مصر.

كما كان طبيعيًا أن تتجاوب حكومة مصر مع سماحة مفتي فلسطين ورجاله، إذ كان بين سماحته وبين ملك مصر السابق فاروق الأول تعاون وثقة في العمل السياسي ضد الإنجليز خاصة بعد حادث 4 فبراير سنة 1942 الذي أساء فيه الإنجليز إلى الملك وهددوه بخلعه عن العرش إذا لم يقبل تعيين النحاس باشا رئيسًا لوزراء مصر، ومن ثم كان ترحيب الملك فاروق بسماحته ومنحه هو ورجاله حق اللجوء السياسي، وحق حرية العمل لتجهيز الفلسطينيين في معركتهم القادمة، لحكم وطنهم فور خروج الإنجليز منه في 15 مايو سنة 1948م وهو تاريخ انتهاء الانتداب الإنجليزي على فلسطين، أمرًا ملزمًا للحكومة تيسيرًا لتبعات هذه الرسالة الهامة.

وكان معروفًا أن الإنجليز مهدوا خلال مدة انتدابهم على فلسطين والتي بلغت ثلاثين سنة متصلة لتحقيق وعدهم لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، فيسروا لهم بناء المستعمرات المسلحة على مواقع إستراتيجية فوق أرض فلسطين، وتوسعوا في السماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبحماية القرى والمستعمرات اليهودية من أي عدوان، بينما تشددوا في الضغط على القوى العربية الفلسطينية وحرمانها من المعاملة بالمثل إلى حد أن الحكام الإنجليز كانوا يحكمون بالإعدام على العربي الذي تضبط لديه رصاصة فارغة.

وقد تركز فكر سماحة الحاج أمين الحسيني في طلب تسليح الفلسطيني ووضعه في وضع مماثل لليهودي المستوطن لمستعمرات وقرى متفرقة فوق أرض فلسطين، فبدأ جديًا في شراء الأسلحة اللازمة لهذا الغرض والاستعانة بجماعة الإخوان المسلمين في تحقيق هدفه لما لها من سبق في هذا المجال.

كما تأكدت وجهة نظر الحاج أمين الحسيني في تحرير فلسطين بقرار اللجنة العسكرية العليا التي اجتمعت في عالية سنة 1947م، وقد اشتملت خطتها المثلى لتحرير فلسطين على ما يأتي:

1- الاعتماد على الفلسطينيين في الدفاع عن بلدهم أولاً، ثم ما يحتاج إليه الأمر من متطوعين.

2- تحصين الفلسطينيين في قراهم وتسليحهم ليكونوا في مستوى اليهود.

3- وقوف الجيوش العربية على الحدود وعدم دخولها أرض فلسطين.

ولهذا كان تركيز دور الجماعة في خدمة قضية فلسطين مبنيًا على إسهامها في تسليح الفلسطينيين خاصة أن تقرير الصاغ محمود بك لبيب عضو الهيئة التأسيسية للجماعة ورئيس منظمة شباب فلسطين كان يقطع بأن تحرير فلسطين لا يحتاج إلى رجال من الخارج وإنما يحتاج إلى تسليح الفلسطينيين أنفسهم.

وكان على النظام الخاص أن يقوم بهذا الدور الهام في خدمة القضية الفلسطينية، فركزنا على الاستفادة بالكميات الهائلة من الأسلحة والمتفجرات المتخلفة عن الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية، حيث كانت القوى المتحاربة قد نقلت إلى أرض المعركة حول العلمين كل إمكانياتها من هذه الأسلحة والمتفجرات، ثم انتهت الرحب بانتصار الحلفاء في هذه المعركة وهزيمة الألمان، وبكسب الحرب أصبحت كل هذه الكميات عديمة الفائدة بالنسبة إلى الدول المتحاربة ولا تستحق تكاليف نقلها إلى مخازنها، حيث أصبحت الأولوية الأولى لنقل المواد التموينية اللازمة للسلام بعد حرب عالمية استمرت خمس سنوات متصلة، وكانت هذه الكميات من الضخامة بحيث تكفي الجيوش العربية مجتمعة للتدريب والقتال عشر سنوات.

وإلى جانب هذا المصدر الرئيسي لتسليح الفلسطينيين، كان بالإمكان تكليف رؤساء المناطق في جميع أنحاء القطر بجمع الأسلحة المعروضة للبيع في الأقاليم من تجار الأسلحة المحترفين خاصة أن أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين كانت تحضر إلى مصر لشراء سلاحها على حسابها ولا تدري إلى أين تذهب، فكانت الهيئة العربية العليا تحيلهم إلى جماعة الإخوان المسلمين لتيسير تسليحهم عن هذا الطريق.

وقد كلفتني قيادة النظام بتأمين تسليح الفلسطينيين من المصدر الأول وكلفت الأخ أحمد حسنين باعتباره مسئول الأقاليم بتسليح الفلسطينيين من المصدر الثاني.

وقد عاونني في مهمتي الأخ: أحمد شرف الدين من إخوان الإسكندرية الذي اكتسب خبرة كبيرة في التوغل في الصحراء الغربية، ونقل ما فيها من أسلحة ومفرقعات وتوصيلها إلينا في القاهرة.

وقد بدأ هذا العمل في سنة 1946م سرًا، حيث كانت حكومة صدقي باشا تحكم البلاد وتحاول فرض اتفاقية تحقق للإنجليز ضمان استمرار مصالحهم في مصر، ولكنها قوبلت بثورة عارمة من الشعب بكافة طوائفه، حتى أن سبعة من أعضاء لجنة المفاوضات المصرية استقالوا من اللجنة احتجاجًا على أن مشروع المفاوضة لا يحقق الأماني المصرية، وكان الإخوان المسلمون من عمد المقاومة الشعبية لهذه المفاوضة، حتى سقط صدقي باشا في ديسمبر سنة 1946م، وحل محله محمود فهمي النقراشي باشا في وزارته الثانية.

تعاون الإخوان المسلمون مع حكومة محمود فهمي النقراشي باشا الثانية

رأت جماعة الإخوان المسلمين أن تأييد النقراشي باشا، إذا ما سلك أسلوبًا جديدًا في مواجهة الإنجليز أجدى وأنفع من دخول البلاد في اضطرابات داخلية جديدة، وإسقاط النقراشي باشا استنادًا إلى ماضيه الشائن أثناء توليه وزراته الأولى من مارس 1945 إلى فبراير 1946، فقد تقدم إلى الحكومة البريطانية حينئذ بمذكرة هزيلة، مما أطمع الإنجليز وجعلهم لا يردون عليه ولو بالرفض، فثارت الطوائف الشعبية يتقدمها الإخوان المسلمون، ووقعت مصادمات عنيفة بين الشعب والبوليس في القاهرة والإسكندرية، وقتل البوليس فيها الكثير من شباب الجامعة المصرية، كما حدث فوق كوبري عباس في 9 فبراير سنة 1946، بتعليمات من عبد الرحمن عمار بك نفذها اللواء سليم زكي باشا، وقد أصيب فيها 160 طالبًا إصابات شديدة، وفقد 28 طالبا حيث كانوا يلقون بأنفسهم من فوق الكوبري في النيل من شدة الضرب بالرصاص وبالهراوات والكرابيج، واستمرت مقاومة الشعب له حينئذ حتى اضطر إلى تقديم استقالته يوم 14 فبراير سنة 1946، وعلى الرغم من ذلك كله فقد رأى الإخوان تأييد النقراشي باشا في حكومته الثانية عندما أعلن على الشعب أنه قرر قطع المفاوضات مع الإنجليز وعرض القضية على مجلس الأمن أملا أن يبدأ صفحة جديدة من العمل الوطني.

وكان من مظاهر تأييد الإخوان المسلمين للنقراشي باشا في هذه الوزارة أنه فيما كان يلقي خطابا في مجلس الأمن دفاعًا عن قضية مصر الوطنية إذا برفعة النحاس باشا زعيم حزب الوفد يبعث ببرقية ضد موقف النقراشي باشا يندد فيها بأن حكومة النقراشي حكومة غير ديمقراطية ويتهمها أنها حكومة ديكتاتورية.

مما حدا بالإمام الشهيد إلى إرسال برقية باسم الإخوان المسلمين هذا نصها:

إلى جناب رئيس مجلس الأمن وسكرتير هيئة الأمم المتحدة

يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري ويراها مناورة حزبية لا أثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها، وسواء كانت حكومة مصر ديمقراطية أو ديكتاتورية، فإن الشعب المصري يعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن ذلك أمر يعنيه وحده، وأنه لا يسمح لأي دولة أجنبية بالتدخل فيه، فله وحده الحق في أن يختار نوع الحكم الذي يريده، طبقا لميثاق الأطلنطي ومبادئ هيئة الأمم، وله وحده الحق في أن يعرض على حكومته ما يريد وأن يؤاخذها على كل تقصير يراه.

كما يعلن كذلك أن حقوقه الثابتة في الجلاء التام عن مصره وسودانه، والحرص الكامل على استقلاله أمر لا يقبل جدالا أو مساومة، وأن الوحدة بين شماله وجنوبه حقيقة واقعة وضرورة لا مخيص عنها ولا يحول بينها وبين الظهور على حقيقتها وروعتها إلا هذه الإدارة الثنائية التي فرضتها بريطانيا عليه بالإكراه والتي طلبت الحكومة المصرية في عريضة دعواها إلغاءها وأشارت إلى بطلان المعاهدة التي سجلتها بريطانيا، والتي لم يرض عنها الشعب المصري ولم يسلم بها يومًا من الأيام.

وأنتهز هذه الفرصة فأؤكد لأعضاء المجلس والهيئة أن شعب وادي النيل عظيم الأمل في لجوء الأمم والشعوب إليها، وتضاعف ثقتهم بمبادئ العدالة العالمية ويقظة الضمير العالمي، وأنه لن يستقر سلام في الشرق ولن تهدأ ثائرة شعوب العروبة وأمم الإسلام حتى ينال وادي النيل حقه كاملا، وليس إرضاء مجموعة من البشر قوامها أربعمائة مليون بالشيء الذي يستهين به الحريصون على الأمن والسلام».

وقد قامت الإذاعة المصرية بإذاعة برقية الإمام الشهيد في كل نشراتها الإخبارية يومين كاملين، كما سافر الأخ مصطفى مؤمن إلى أمريكا موفدًا من جبهة الدعاية لوادي النيل ليسمع صرخة وادي النيل في المجالات الدولية، وخطب من شرفة مجلس الأمن منددًا بتواجد القوات البريطانية في مصر، وقاد مظاهرات من الشباب المصري في قلب المدينة يحملون لافتات ضد الاستعمار البريطاني، ونجح في لفت نظر العالم لقضية وادي النيل.

بالإضافة إلى هذا المظهر العملي من مظاهر التعاون بين الإخوان المسلمين والنقراشي باشا في وزارته الثانية خدمة للقضية الوطنية، فرضت الأقدار على العالم العربي قضية فلسطين في هذا الوقت حين قررت لجنة التحقيق التي أوفدتها الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين أحدهما عربية والأخرى يهودية، واعتمدت هيئة الأمم المتحدة هذا القرار بأغلبية 15 صوتًا ضد 13 صوتا مع امتناع 17 عضوًا عن الاقتراع وذلك في 29/ 11/ 1947، وتوجهت الجهود كلها نحو قضية فلسطين، وأصبحت هل الشغل الشاغل لجميع الحكومات العربية الأمر الذي توقفت بسببه كل الجهود التي كانت مبذولة لحل القضية المصرية.

ولقد أخذ على الحكومات العربية أنها رضخت للاحتجاج البريطاني على قرارات اللجنة العسكرية المنعقدة بعالية سنة 1947، والتي تعتمد ضرورة تسليح الفلسطينيين وتدريبهم داخل فلسطين، حتى يصبحوا في نفس المستوى الذي وصل إليه اليهود، فأوقفت كل الجهود التي كانت مبذولة في هذا السبيل من جانب جامعة الدول العربية، ولم يبق إلا تسليح الفلسطينيين من الخارج على النحو الذي بدأه الإخوان المسلمون سرًا من سنة 1946.

تصريح الحكومة للإخوان المسلمين بجمع السلاح والمفرقعات وتسليح الهيئة العربية العليا بها، وكذلك تدريب وتسليح وسفر المتطوعين المصريين عامة والإخوان المسلمين خاصة إلى فلسطين:

كان من نتائج سياسية تعاون الإخوان المسلمين مع حكومة النقراشي باشا الثانية فور إعلانها أنها عزمت على قطع المفاوضات ومنابذة الإنجليز في هيئة الأمم المتحدة، أن سهلت للإخوان المسلمين رسالتها في تسليح الفلسطينيين.

فبالنسبة للأسلحة التي كانت تجمع بين الصحراء الغربية، بلغ تعاون الحكومة أن الإخوان كانوا يسلمون الأسلحة والذخائر إلى مأمور الحمامات الذي يحملها إلى محافظة القاهرة في سيارات البوليس، ثم يتسلمها الإخوان من المحافظة لضبطها وتجهيزها، ثم تسليمها إلى الهيئة العربية العليا أو تدريب متطوعيهم عليها.

ومن أدلة تعاون الحكومة الصارخة في هذا المجال، أنه حدث انفجار ذات مرة في أرض تابعة للإخوان المسلمين من شحنة مفرقعات كانت مخزنة به مؤقتًا لحين نقلها إلى المخازن الخاصة بها، ثم حفظت القضية لعلم الحكومة بهذا التخزين.

كما تكرر ضبط أسلحة مجموعة من المناطق بمعرفة رؤساء مناطق الإخوان المسلمين لتسليح الفلسطينيين، ثم أفرج عنها وسلمت للإخوان ثانية بعد إبلاغ رؤساء النيابة المختصين بأن هذه الأسلحة مصرح بجمعها لخدمة القضية الفلسطينية، وذلك على النحو الثابت من شهادة الأخ محمد حامد أبو النصر في قضية السيارة الجيب.

وقد ضبط الأخ سيد فايز يدرب مجموعة من متطوعي الإخوان المسلمين بجبل المقطم على استخدام الأسلحة والمتفجرات، ثم أفرج عنهم جميعا لنفس السبب، وقد سجلت المحكمة ذلك في حيثيات حكمها في قضية السيارة الجيب على لسان الأخ عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي باشا.

ومن ثم يكون كل ما يقال بعد ذلك عن إدانة الإخوان المسلمين في حيازة أسلحة ومفرقعات لأعمال التخريب هو من باب الهراء الذي قصد به تشويه سمعة هذه الجماعة تغطية لفشل الحكومة الظاهر في إنقاذ فلسطين.

الشهيد البطل عبد القادر الحسيني

كان البطل الشهيد عبد القادر الحسيني هو القائد العام للقوات الفلسطينية المحاربة سنة 1948، وقد بدأ واجبه منذ عام 1946 مشغولاً بشراء الأسلحة اللازمة لهذه المعركة يعاونه خلاصة الرجال الفلسطينيين ومنهم الحاج عبد الفتاح التميمي المسئول عن تمويل شراء الأسلحة.

وقد سبق لي أن ذكرت أن قيادة النظام الخاص عينتني ضابط اتصال بين هيئة الإخوان المسلمين والهيئة العربية العليا في شئون التسليح، وكان القيام بهذا الواجب يتم استنادًا إلى الصلة الوثيقة التي قامت بيني وبين الشهيد عبد القادر الحسيني في هذا المجال.

لقد كانت ثقافتنا متقاربة، فكلانا من خريجي كلية العلوم، إلا أنه تخرج من هذه الكلية في الجامعة الأمريكية وتخرجت منها في جامعة فؤاد الأول، وكان سكننا متجاورًا في حلمية الزيتون، مما هيأ لنا فرصة العمل الميسر ليلا ونهارًا.

وقد بلغ من قوة الصلة بيننا وشدة التآلف الأخوي والعائلي أنه ما إن علم بعقد قراني حتى أهداني راديو ماركة «إيركنج» لا أزال احتفظ بذكراه إلى اليوم، وقد تصادف ليلة زفافي أن جاءني ليلا دون أن يعلم أن هذه ليلة زفافي، يحمل كميات كبيرة من البنادق والأسلحة لتخزينها عندي في المنزل، وقد تركت العروسة في حجرة نومها ودخلت المطبخ، حيث أدخلنا الأسلحة فوق الصندرة، ثم انصرف وترك لي مهمة ترتيبها، وكنت أظن أنني أنجزت هذا العمل دون أن تشعل العروسة ليلة زفافها بشيء.

ولكن الذي حدث هو أنني علمت منها بعد أن تم حبسي في قضية السيارة الجيب أنها قامت تتسلل إلى المطبخ، ورأتني فوق الصندرة وأنا أرتب السلاح، وعادت لتنام، وكأن شيئا لم يحدث، ولكنها لم تجرؤ أن تسألني عن هذه الواقعة، أو تحدث بها أحد إلا بعد أن اتهمت في قضية السيارة الجيب، وأصبح دوري فيها معروفًا للجميع.

ولقد كان البطل الشهيد يكشف لي عن خفايا قلبه، لما صار بيننا من حب ومودة، فقد انطوى هذا القلب الكبير على عزم أكيد على تحرير وطنه فلسطين، ثم الانتقال منه إلى وطن عربي آخر محتل للاشتراك في تحريره، وهكذا حتى يتم تحرير الوطن العربي بأجمعه، وقد نقلت إلى فضيلة الإمام الشهيد الأستاذ حسن البنا هذه الحقيقة فور إعلان استشهاد الأخ المسلم البطل في معركة القسطل، فأذاعها فضيلته على الناس ليعلموا كيف يخلق الإسلام من جنوده أبطالاً على مستوى الأمة الإسلامية، لا تنحصر مسئوليتهم بحدود وطنهم السياسي الذي حدد حدوده الكفار رغبة منهم في تقسيم الوطن الإسلامي إلى دويلات يسهل ابتلاعها دويلة دويلة.

كما سلمت الأخ الكريم الأستاذ محمود عساف الصورة التي أهداني إياها البطل الشهيد لنفسه وهو يتمنطق بحزام الذخيرة من كتفه إلى وسطه، وكان ذلك بصفته مديرًا لشركة الإعلانات العربية وصاحب ورئيس مجلة الكشكول الجديد، فتولى نشر هذه الصورة التاريخية على العالم وأصبحت رمزًا للبطل الشهيد، يتذكر به أبناء الأمة الإسلامية نموذجًا من نماذج أبطالهم الشجعان.

يرحمك الله أيها الأخ البطل ويحقق أملك في تحرير الشعوب الإسلامية كافة ووحدتها حتى يكون المسلمون أمة واحدة، ويكون الدين كله لله.

إن ربي سميع مجيب.

دخول الإخوان المسلمين فلسطين

لقد قام الإخوان المسلمون بواجبهم في تحقيق رغبة الفلسطينيين في التسليح، وقد سلمت بنفسي إلى الشهيد عبد القادر الحسيني ورجاله كل حاجاتهم من السلاح والمتفجرات على النحو الذي شهد به سماحة مفتي فلسطين في قضية السيارة الجيب، الأمر الذي سمح للشهيد عبد القادر الحسيني أن يدخل إلى أرض فلسطين ليقود جنوده، في الدفاع عن وطنهم العزيز، بعد أن شعر أن لديه من السلاح ما يكفي لخوض معاركه، وكان ذلك في أواخر سنة 1947م.

وفي يناير سنة 1948م كانت مصر الفتاة قد أرسلت متطوعًا واحدًا إلى فلسطين، وقد كثر ضجيج الأستاذ أحمد حسين رئيس هذا الحزب عن هذا المتطوع الذي سافر للجهاد في فلسطين، بينما تقاعست جماعة الإخوان المسلمين صاحبة مبدأ الموت في سبيل الله أسمى أمانينا عن دخول ساحة الشرف والنضال، حتى خشى المرشد العام رحمه الله على شباب الإخوان أن يتأثروا بهذا الهراء، فقرر أن يدخل الإخوان المسلمون حرب فلسطين، حتى يحقق لهم الله النصر أو الشهادة.

ولهذا الغرض دعانا فضيلته إلى اجتماع في منزل الأخ عبد الرحمن السندي بحلوان وذلك في فبراير 1948م، وقد شملت الدعوة جميع قادة النظام الخاص في القاهرة والأقاليم، وقال لنا فضيلته في هذا الاجتماع إنه يشعر أنه أدى واجبه في تبليغ رسالة الدعوة إلى الناس كافة، فأصبح الإخوان المسلمون في مصر وفي جميع أنحاء العالم على وعي كامل بالدعوة الإسلامية في صورتها السلفية الصحيحة، بحيث أنه لم يعد يجد لديه زيادة يمكن أن تضاف في هذا المجال، وأنه أصبح مطمئنًا إلى أن الإخوان في جميع أنحاء العالم أصبحوا قادرين على التقدم بدعوتهم قدما حتى النصر إن شاء الله.

ولقد بقى عليه أن يقاتل في فلسطين حتى النصر أو الشهادة، فالقتال فرض علين، والإخوان أحق الناس بالقيام به، وإن تأخرهم عن الاشتراك فيه قد يحقق مقالة أحمد حسين الباطلة في أعين من لا يعرفون ما قام به الإخوان في هذا المجال.

ولهذا فإنه عزم على دخول فلسطين مقاتلا مع كل من يتطوع معه من الإخوان المسلمين حتى النصر أو الشهادة.

وقد كان ردنا على فضيلته: أن النظام الخاص باعتباره الجهاز المسئول عن الجهاد في الدعوة لم يكلف حتى هذه اللحظة بالاستعداد لدخول فلسطين، ومن ثم فقد كان تركيز كل جهده على تنفيذ الخطة الموضوعة بتسليح الفلسطينيين، مع تدريب أعداد قليلة من الإخوان لا يتناسب مع قلتها دخولها إلى فلسطين اليوم تحت قيادة المرشد العام، فذلك أمر لا يتناسب مع مركز الدعوة في نظر العالم الإسلامي.

واقترحنا على فضيلته أن يدخل الإخوان فلسطين بقيادة أحد الإخوان، في أعداد تتفق مع إمكانيات الإخوان الحالية، ثم يتوسع الإخوان تدريجيا في الدخول إلى فلسطين وفق ما تفرضه الظروف والإمكانيات.

وقد وافق فضيلته على هذا الاقتراح وطلب تسمية من يتقدم لقيادة المجموعة الأولى فتقدمت متطوعا واعتمد تطوعي في هذه الجلسة، وتقرر سفري على رأس مجموعة من المتطوعين ناهز عددها المائة متطوع، وكان قوامها من متطوعي منطقة الدقهلية، وانضم إلي مع المتطوعين من القاهرة فضيلة الشيخ سيد سابق، والأخ علي الخولي، والأخ عبد الرحمن عبد الخالق من إخوان منطقة العباسية.

ولقد تحركت الدفعة الأولى من المتطوعين من دار المركز العام، في أتوبيسين كبيرين محملين بالمتطوعين وأسلحتهم ومفرقعاتهم، أما خيامهم فقد أمكن تحميلها على بعض سيارات نقل ضمن قافلة من قوافل الجيش المصري المسافرة من القاهرة إلى العريش.

وفي القنطرة تعرضت قافلتنا للتفتيش النظامي، خاصة أننا نحمل أسلحة ومفرقعات، وقد أصدر النقراشي باشا تعليماته التليفونية للضابط المسئول بالسماح لنا بالعبور ومعنا ما نحمله من أسلحة وذخائر.

وقد حدث أن تعطلت نسبة كبيرة من سيارات الجيش المسافرة إلى العريش وكان من بين السيارات التي تعطلت السيارات التي تحمل خيامنا معها، فوصلنا العريش، ولم تصل الخيام وكان ذلك ليلاً.

حاول إخوان العريش أن يدعوننا للمبيت فيها حتى وصول خيامنا، ولكني رفضت ذلك رفضصا باتًا، حيث لا ينبغي للمجاهدين أن يخلدوا إلى حياة مدنية بعد أن خرجوا منها مجاهدين في سبيل الله، وصممت على أن نواصل سيرنا إلى خارج العريش، حيث نعسكر في العراء حتى تصلنا خيامنا أو نتدبر أمرنا هناك.

ولم يكن أمام أهالي العريش إلا الرضا بهذا العزم الذي قصد به وجه الله فعسكرنا أول ليلة في العراء بمنطقة الريسة على الرغم من شدة برودة الجو مع هطول المطر، فالأصل أن المجاهدين قد أعدوا أنفسهم لمواجهة ما هو أشد وأصعب من مثل هذه الظروف.

وفي صباح اليوم الثاني قدمت لنا القوات المسلحة خيامًا بديلة لخيامنا التي تأخرت في الطريق، فأقمناها في منطقة الريسة، حتى زارنا القائمقام محمد نجيب قائد ثاني القوات المسلحة في منطقة سيناء في هذه الأيام، وأهدانا قفة من البرتقال اليفاوي، وكان المتطوعون يقدمون على أكلها بإعجاب لقرب حجم الواحدة منها من حجم رأس اليهودي، أو كذلك كان يحلو لهم أن يتندروا.

وقد اتخذنا من معسكر الريسة نقطة تجمع، ننتظر فيها أفواج المتطوعين وتدريبهم فيها استعدادًا لدخول المعركة، مع إجراء ما يمكن إجراؤه من دراسات لأرض العمليات المنتظرة.

وقد كانت خطة فضيلة المرشد العام أن يدعو الإخوان للجهاد فور تحرك الدفعة الأولى من المتطوعين، وأن يدعو الأمة للإسهام في تكاليف الجهاد دفاعًا عن قضيتها المقدسة في فلسطين متخذًا من تحرك الدفعة الأولى من المجاهدين سندًا ماديًا لما يدعو إليه الناس.

وقد زارنا في معسكر الريسة من القوات المسلحة اللواء أحمد زكي الأرناؤطي قائد القوات المسلحة في سيناء، وذلك بعد أن وصلت خيامنا، ورددنا للقوات المسلحة خيامهم وأخذ معسكرنا الشكل المنتظم اللائق بأخوة خرجوا وقد باعوا أنفسهم في سبيل الله.

ولقد هز مشاعرنا جميعًا تعليق اللواء أحمد زكي الأرناؤطي عندما شاهد معسكرنا وعرضنا عليه ما معنا من أسلحة وذخائر، حيث أدمعت عينا الرجل المخلص وهو يحدثنا، حزنا أن يحرم هو وجنوده من هذا الواجب الوطني الذي يقع على كاهلهم بحكم عملهم الرسمي، ويتقدم إليه متطوعون مدنيون فيسبقوهم إلى ساحة الشرف والنضال.

ولقد أكبرناه أيما إكبار وهو يبث إلينا حقيقة مشاعره في هذا الموقف المهيب، ولا يستطيع أن يخفيها تحت مظاهر العسكرية المترفعة، بل زاد على ذلك أنه عندما ركب سيارته الجيب راجعًا إلى مقر قيادته ووقفنا لتحيته، وجاء السائق يحاول قفل باب السيارة بعد أن ركب منعه، وصمم أن لا يقفل بيننا وبينه باب السيارة حتى يخرج من المعسكر، مشاركة منه لنا في هذا الغرض النبيل الذي خرجنا له، وتعبيرًا عما يكنه لمظهرنا من وشائج المحبة والاحترام.

كما زارنا أيضًا في هذا المعسكر الأخ كامل الشريف صاحب كتاب «الإخوان المسلمون في حرب فلسطين» ووزير الأوقاف في المملكة الأردنية الهاشمية فيما بعد، وقد كان شابًا يافعًا جلس معي على إحدى التباب المطلة على المعسكر نتحدث عن القضية الفلسطينية، وعرفني أنه هو المتطوع الوحيد من منطقة العريش الذي سبق جماعة الإخوان المسلمين في مصر للتطوع جهادًا مع قوات القائد فوزي القاوقجي في شمال فلسطين، وأبلغني أنه عازم على السفر إلى هناك للانضمام إلى هذه القوات.

وزارنا أيضا في هذا المعسكر الشهيد عبد القادر الحسيني عليه رحمة الله ورضوانه، في إحدى جولاته بين القاهرة وبين قواته في الميدان، وأبدى سروره وإعجابه بقدون المتطوعين من الإخوان للاشتراك في المعركة.

الأستاذ أحمد حسين ينجو من موت محقق في معسكر الإخوان:

وزارنا الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة، وجلس معنا في خيمة القيادة وكان معنا فضيلة الأخ السيد سابق.

ومن لطف الله بنا جميعًا أثناء هذه الزيارة أن كان فضيلة الشيخ السيد سابق ممسكًا «مسدس طاحونة» يشرح للأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة، وكانت الماسورة موجهة إلى رأسه يقينًا من خلو المسدس من الطلقات، وإذا بنا نحس عندما ضغط الشيخ على الزناد ليدير طاحونة المسدس أن بها رصاصة كادت تنطلق إلى رأس الأستاذ أحمد حسين فتقضي عليه وهو بيننا في خيمة القيادة، وحينئذ لم يكن في الإمكان لأي بيان أو منطق أن يبرئنا من قتله عمدًا في خيمة القيادة، خاصة وأن هجومه العلني على الإخوان قبل ذلك يمكن أن يفسر دافعًا لمثل هذه الجريمة.

ولكن لطف الله الكبير أبى إلا أن تكذب هذه الرصاصة فلا تنطلق فنجا الأستاذ أحمد حسين من موت محقق، ونجونا جميعا من تهمة لو وجهت إلينا لحملتنا أوزارًا لا قبل لأحد منا بتحملها، ولا أمل في النجاة منها بحال من الأحوال، رغم براءتنا التامة من مثل هذا الحدث العفوي.

حركة التدريب والاستطلاع في المعسكر

انتظمت حركة التدريب في المعسكر، وكان الإخوان يتحملون مسئولية تموين أنفسهم بالطعام والمياه رغم عدم توفر سيارات معهم، بل كانوا يقومون بذلك حملا على الأعناق دون أدنى تضرر أو تذمر.

ولقد حاولت أن أخفف عن الإخوان عبء تموين الماء فطلبت من القائمقام محمد نجيب أن يأذن للفنطاس الذي يوزع المياه على معسكرات الجيش المصري كل صباح أن يمر علينا فيموننا بالماء تخفيفًا عن الإخوان في هذه المرحلة من مراحل التجمع، ولكنه اعتذر لي بأن معسكرنا يقع خارج البوابة التي يمنع عبور سيارات الجيش لها خشية من اشتغال الجنود بتهريب الحشيش داخل سيارات الجيش، وكان الحشيش آنذاك متوافرًا بكميات كبيرة في رفح ويتم تبادله تجاريًا بأسلوب أقرب إلى العلن منه إلى السر.

فشكرته وإن كنت لم أقتنع بجدية الاعتذار، حيث كان من أيسر اليسر التغلب على هذا الاحتمال.

كما لاحظت بعد أن رددنا الخيام إلى أركان حرب القائمقام محمد نجيب أنه أرسل إلينا يطالبنا بعدد من الأوتاد الناقصة، فتعجبت من هذا الطلب لأننا سلمنا جميع الأوتاد ولا حاجة لنا بأي منها من ناحية، ولأن تدبير أوتاد بديلة أمر من السهولة بمكان.

فكلفت بعض المتطوعين بجمع قطع من الخشب المنثورة فوق رمال الصحراء وعملناها أوتادًا بالعدد الذي طلبه القائمقام محمد نجيب وسلمناه إلى أركان حربه شاكرين ومقدرين، وقد عادت إلى ذاكرتي هاتان الملاحظتان عندما أعلن قيامة ثورة 23 يوليو سنة 1952 وعلى رأسها اللواء محمد نجيب وقد رقى من رتبة القائمقام إلى رتبة لواء خلال هذه المدة، واستبعدت أن يكون اللواء محمد نجيب الذي لمست منه هذين التصرفين الضعيفين قائدًا لثورة 1952، وقد تأكد هذا الظن فثبت أن القائد الفعلي لهذه الثورة كان الضابط جمال عبد الناصر؟

ثم بدأت استطلاع أرض المعركة بزيارة النقيب عبد المنعم النجار قائد المخابرات العسكرية لمنطقة سيناء في ذلك الوقت، والذي أصبح سفيرًا لمصر في باريس فيما بعد، وطلبت منه معونته باعتباره مسئولا عن المخابرات العسكرية في المنطقة، بتقديم أحدث المعلومات عن المستعمرات اليهودية في أرض فلسطين.

ولكنني دهشت عندما سلمني سعادته الخرائط الصادرة عن الجيش الإنجليزي لإقليم فلسطين والتي كان لدينا نسخًا منها، وقد أكد لي سعادته أنه لم يرسل أحدًا من رجاله بعد ليجوب المنطقة وينقل إليه من على الطبيعة المتغيرات التي حدثت عليها بعد احتلال الإنجليز لفلسطين ثلاثين سنة متصلة، غيروا فيها كل الأوضاع تمهيدًا لقيام وطن قومي لليهود في فلسطين، وتلقيت من هذه الحقائق درسًا هامًا، هو أن واجبنا هو القيام بهذه الدوريات الاستطلاعية بأنفسنا، دون اعتماد على معونة أحد، خاصة أن المعلومات التي نحتاجها غير موجودة أصلا لدى الجهات المختصة في القوات المسلحة المصرية.

ومن طريق ما يذكر في هذه المناسبة أنني جعلت سفري إلى فلسطين سرًا على زوجتي فقد كنت عريسًا، ولم تكن هي قد تهيأت نفسيًا لقبول مبادئ التضحية والفداء التي يفرضها الإسلام ويجهلها الكثير من المسلمين وهي واحدة منهم، وقد كانت زوجتي حاملاً في ولدنا الأول محمد وكان طبيعيًا أن تطلب زوجتي بين الحين والحين زيارة أمها المقيمة مع أبيها وأشقائها في شارع عبد العزيز بالقاهرة، بينما كنت أنا وزوجتي نقيم في حلمية الزيتون مجاورين للشهيد عبد القادر الحسيني، ولما تقرر سفري إلى فلسطين، أخفيت ذلك عن زوجتي إلى يوم السفر، وكانت تطالبني كالعادة بزيارة أمها، وفي يوم السفر دعوتها لزيارة أمها، وتركتها في منزل والديها مستأذنا في قضاء بعض المصالح بالخارج، ثم سافرت دون إخطارهم مع الفوج الأول لمتطوعي الإخوان إلى فلسطين، تفاديًا لما يمكن أن يقع من اعتراضات لن تجدي في تغيير عزيمتي فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

أما عن عملي فقد حاولت أن أحصل على تصريح بأجازة لهذا السبب ولكن المسئولين في مصلحة الأرصاد الجوية التابعة لوزارة الحربية، وكان مقرها في ذلك الوقت في مبنى الوزارة رفضوا التصريح لي بحجة أن حاجة العمل لا تسمح إطلاقًا بذلك لقلة عدد المتنبئين الجويين وضرورة انتظامهم جميعًا لخدمة حركة الطيران المدني البالغة الأهمية كالتزام دولي تلتزم به مصر أمام دول العالم التي تسير خطوطها الجوية عبر القاهرة، فاضطررت إلى السفر مع الفوج الأول دون تصريح أيضًا من جهة عملي.

وقد استصدرت مصلحة الأرصاد الجوية أمرًا من وزير الحربية إلى محافظة سيناء بالقبض علي وإعادتي إلى عملي في القاهرة، ولكني الرجل عندما استقبل الأمر في برقية واردة له من القاهرة وعلم بتصميمي على الاستمرار مع المجاهدين سخر من هذا الأمر واعتبره كأن لم يكن، حيث لا سبيل للمقارنة في الأولوية بين واجب خدمات الطيران المدني وواجب الدفاع عن فلسطين المقدسة.

استدعائي للعودة إلى القاهرة

بعد أن انتظم العمل والتدريب في معسكرنا بالريسة زارني الأخ الصاغ محمود لبيب في المعسكر ونقل إلي تعليمات الإمام الشهيد بالسفر إلى القاهرة لأمر هام.

وعند وصولنا إلى القاهرة توجهت رأسًا معه لمقابلة الإمام الشهيد، فأخبرني فضيلته بأنه قرر بقائي في القاهرة للمساهمة في تسليح المجاهدين من جهة، وإرضاء لرغبة والدي الذي حضر إليه مع حماي فضيلة الشيخ عبد الصادق الغنيمي يشكون له من مخالفة الإخوان لقاعدتهم في الاقتصار على من لا يتحملون مسئوليات عائلية عند اختيار المتطوعين للسفر إلى فلسطين، وأنني متزوج وزوجتي حامل وأن القاعدة تحتم عودتي لرعاية زوجتي وجنينها.

وقد استقبل الإمام الشهيد والدي وصهري استقبالا كريمًا أزال عنهما كل ما عندهما من غضب وأكد لهما أنه لم يكن يعرف أنني أتحمل مسئولية زوجة وطفل حين أذن لي بالسفر، وأنه سيستدعيني فورًا، خاصة أنه يعتبرني يده اليمنى في تسليح المجاهدين من مصر.

وقد بالغ في كرمه للوالد أنه عندما هم بالانصراف شاكرًا للمرشد حسن لقائه، معلنا أنه بعد هذا اللقاء لم يعد يهمه أيعود محمود من فلسطين أم لا وأنه أصبح مستعدًا شخصيًا أن يذهب إلى فلسطين بعد لقائه هذا للمرشد، فابتسم المرشد وودعه، ولما لاحظ أنه يبحث عن حذائه سارع فأحضره له بنفسه، مما أثر في عواطف أبي أبلغ الأثر وتحول بكل عواطفه نحو هذا الداعية الكبير، الذي أخلص في تبليغ الرسالة إخلاصًا حرره من كل عوامل الضعف والنقص المعروفة في البشر، فأصبح من وفائه لدعوته وكأنه ملاك منزل من رب العالمين.

ولكن المرشد كان قد أرسل برقية فعلا باستدعائي، دون إبلاغي السبب، فحضرت مطيعًا للأمر، ولما عرفت السبب صممت على العودة إلى معسكري، وعدت فعلا، بعد أن دارت مناقشة دينية في منزلي مع حماي الحاصل على العالمية الأزهرية في شرعية سفري وأنه فرض عين، ولكن حنان الرجل على ابنته جعله يصمم على الاعتراض على سفري، ولكنني عزمت على السفر ونفذته، حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

العودة إلى المعسكر

عدت إلى المعسكر ولم يمض على سفري منه أكثر من ثلاثة أيام، كنت قد أطلعت خلالها فضيلة المرشد على حقيقة الموقف وبينت له أنني أرى أن لا ندخل في عمليات واسعة، بل نقتصر على عمليات فدائية موجعة لليهود، فذلك ما تسمح به إمكانياتنا المادية في مثل هذه الحرب، ولكنني شعرت أن فضيلة المرشد كان يطمح إلى تضاعف إمكانياتنا المادية والبشرية في فلسطين وظهورنا في حشود كبيرة تحرر الأرض وتعيد الحق.

ومن هذا المنطلق وجدت ضرورة مادية لعودتي للعمل في مضاعفة السلاح اللازم للمجاهدين وقد تولى قيادة المتطوعين بدلا مني فضيلة الشيخ محمد فرغلي رئيس الإخوان المسلمين في الإسماعيلية.

سفر الفوج الثاني من متطوعي الإخوان إلى فلسطين ونزولهم في معسكر البريج

سافر الفوج الثاني من متطوعي الإخوان إلى فلسطين بقيادة فضيلة الشيخ محمد فرغلي ووصل إلى معسكر الريسة، وكان قوام هذا الفوج من إخوان منطقة الإسماعيلية والقنال وكان من بين أفراده الأخ الشهيد يوسف طلعت عليه رحمة الله ورضوانه، وانضموا جميعا إلى إخوانهم الذين سبقوهم من منطقة الدقهلية في معسكر الريسة.

وقد كان المعسكر جاهزًا للدخول إلى فلسطين فدخلت القوة مكتملة إلى فلسطين بقيادة الشيخ فرغلي وعسكرت في معسكر البريج بجنوب فلسطين، وكان معظمها من إخوان النظام الخاص، وقد انضم إليهم فيما بعد الأخ كامل الشريف من إخوان العريش قادمًا من الجبهة الشمالية، كما كان من بين جنود هذا المعسكر الأخوة حسن عبد الغني، وحسن دوح، ونجيب جويفل، ومحمد سليم، ضمن كتيبة جديدة من كتائب الإخوان المسلمين.

وقد ساعد الإخوان على التوسع في إرسال دفعات أخرى من المتطوعين إلى هذا المعسكر سماح الحكومة للضباط الوطنيين الراغبين في المساهمة في القتال مع أشقائهم الفلسطينيين بطلب الإحالة إلى الاستيداع، وكان من بينهم الضابط الشهيد أحمد عبد العزيز، والضباط كمال الدين حسين، وحسن فهمي عبد المجيد، وعبد المنعم عبد الرؤوف وغيرهم كثير، كما صرحت الحكومة لهؤلا الضباط بأخذ ما يشاءون من أسلحة ومدافع وذخيرة من مخازن الجيش المصري فانحلت بذلك أزمة الإمكانيات المادية التي يتطلبها قتال المتطوعين في فلسطين.

المعركة الأولى من معارك الإخوان

وقعت هذه المعركة في 14 أبريل سنة 1948 قبل أن ينضم متطوعي الجيش من ضباط إلى المقاتلين، فكانت المعركة مواجهة بين الإخوان المسلمين الخلص وبين اليهود في أول دراسة ميدانية لمستوى تحصينهم لمستعمراتهم.

ووقع الخيار على مهاجمة مستعمرة دير البلح «كفار ديروم» لأهمية موقعها بوقوعها على الطريق الرئيسي الذي يربط مصر بفلسطين ولقربها من الحدود المصرية ولم يمنع الإخوان قلة عددهم وعدتهم من الهجوم مغامرين على هذه المستعمرة في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، فاجتازوا حقول الألغام وعوائق الأسلاك الشائكة دون أن ينتبه إليهم حراس المستعمرة، ثم بدأت المعركة على صوت انفجار هائل أطاح بأحد مراكز الحراسة.

ولقد أبدى الإخوان في هذه المعركة من صنوف البطولة والفداء ما شهدت به الأعداء، ولكن قلة عددهم وعدتهم لم تمكنهم من احتلال المستعمرة فانسحبوا بعد أن استشهد منهم اثنا عشر شهيدًا، لم يصب واحد منهم من ظهره، بل كانت إصابتهم جميعًا من الأمام.

أذكر منهم الأخوة الشهداء محمد سلطان، وعبد الرحمن عبد الخالق، وحلمي السيد جبريل، وعبد الرحيم عبد الحي، وعمر عبد الرءوف، ومحمد عبد الخالق يوسف، وعثمان بلال، وعلي صبري، ومحمود مجاهد، كما جرح في هذه المعركة خمسة من الإخوان منهم الأخ لطفي ميره، والأخ محمد الفلاحجي.

وإني أترك وصف هذه المعركة لمراسل جريدة أخبار اليوم في غزة، كما نشرته جريدة الإخوان المسلمين اليومية في عددها رقم 604 الصادرة في 9 جمادى الآخرة سنة 1367هـ الموافق 18 أبريل سنة 1948م.

«أكتب إليكم من ميدان القتال- نحن الآن في منتصف الطريق بين (غزة وخان يونس) انتهت المعركة الأولى بين المصريين واليهود، إنها أول معركة حربية تخوضها مصر ضد اليهود- اثنا عشر شهيدًا وخمسة من الجرحى- إنهم يحملونهم الآن ليدفنوا في دير البلح، إنني أتأمل القتلى واحدًا واحدًا، ليس بينهم واحد مصاب من ظهره، إن بعضهم أصيب مرة أو مرتين ومع ذلك بقى يحمل بندقيته ويضرب بها- إنهم يحملونهم الآن ليدفنوا كما هم بغير غسيل أو كفن، فإن تقاليد الإسلام أن يدفن الشهيد بملابس المعركة- كان منظرًا رائعًا هذا الدم المصري يغطي أرض الصحراء المنبسطة- هذه الأرض التي سارت فيها جيوش المارشال اللنبي وانتصرت انتصاراتها الأخيرة- أصبحت نقطة البداية، التي تطلق منها مصر رصاصاتها على مستعمرات اليهود، وتصاعدت الأصوات، تبحث عن الحاج عبد الخالق الذي كان يحارب في المعركة، ومعه ابن محمد عبد الخالق- وسقط ابنه قتيلا إلى جانبه، فلم يبك عليه، بل حمل بندقيته وراح يقتل بها الذين قتلوا ولده!! ثم انتهت المعركة ولم ينتظر الحاج عبد الخالق ليشيع جنازة ولده مع المشيعين، بل ذهب مع ابن أخيه الجريح أحمد يوسف إلى مستشفى غزة، وقال له إخوانه إننا نعزيك!! قال كلا، بل هنئوني، إنني سأبقى هنا لأنال بعض الشرف الذي ناله ابني- قلت فمن عبد الخالق..؟! فإذا به عبد الخالق يوسف حسن يوسف من بلدة قويسنا منوفية.. وهو مزارع يبلغ الخامسة والأربعين طويل القامة فارع العود.,. حاد النظر، تبدو عليه الثقة والاطمئنان، وقف يتقبل تهاني المجاهدين وكأنه يزف ولده إلى عروس، وقد كان ولده يبلغ العشرين من العمر.

ومن العجيب أن أغلب القتلى المصريين لم يتجاوز الخامسة والعشرين وجميعهم من الإخوان المسلمين.. وقد وقف القائد محمود لبيب يروي لنا أن أحد الشباب انتدب لخفارة المعسكر، ولكنه أصر على أن يكون في مقدمة المقاتلين، وقال له القائد أنت صغير السن، فليتقدم أولاً من يكبرك سنًا، وبكى الشاب المصري، ولكن القائد أصر على بقائه، ولما علم أن الذي حل مكانه قد قتل في بداية المعركة وأخبره زملاءه بذلك ازداد بكاء وحزنًا.

وبدأت هذه المعركة في الساعة الثانية من صباح السبت 30 جمادى الأولى سنة 1367هـ الموافق 10 أبريل سنة 1948- كان الجو أشبه بالنسيم العليل، وقد أصر الجنود على أن يستحموا قبل المعركة استعدادًا للموت، وصلوا على أنفسهم صلاة الجنازة، وتلوا جميعًا آيات من كتاب الله، وذهب كل منهم إلى الموقع الذي اختير له، كان الظلام دامسًا فقد كنا في آخر يوم للشهر العربي، سواد في كل مكان، نرى أشباحًا تتحرك وقد ارتدت أحذية من الكاوتشوك تحمل في أيديها المدافع والنبادق، كلام كالهمس وبدأوا يقصون الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمستعمرة اليهودية حتى إذا انتهوا من خطها الأول، أخذوا ينسفون الخط الثاني، وإذا بالمدافع الهاون وقنابل الدخان تطلق من الجهة الشرقية لتغطية الهجوم واستيقظ اليهود وراحوا يضربون أوكار مدافع الهاون وهم يظنون أن الهجوم العربي قد بدأ من تلك الناحية، وهنا تسلل الفدائيون واقتحموا الأماكن الملغومة ووضعوا الألغام والمتفجرات في الحصون، فنسفوا جزءًا من البرج دمروا كل الحصون، وأخذ المصريون واليهود يتقاذفون القنابل اليدوية ويتراشقون بمدافع التومي جن والبنادق البرن، وظن اليهود في أول الأمر أن المعركة بسيطة ولكنهم بعد ساعتين تنبهوا إلى خطورة الهجوم فاستغاثوا بالجيش البريطاني فحضرت الدبابات، ولما وجدت أن المصريين قد لغموا الأرض راحت ترفع الألغام وكانت الدبابات البريطانية ترفع الأعلام البيضاء، ووقفت بين المصريين واليهود وصدرت الأوامر بعدم إطلاق النار.

ورأى القائد البريطاني الشهداء، وأطلعه قائد الإخوان على تفاصيل المعركة وكيف أن العرب لم يخسروا من أسلحتهم شيئا، بل أنهم استعادوا أسلحة الشهداء والجرحى فدهش، وذهب إلى حيث يرقد الشهداء وأحنى رأسه قائلاً: «إنني في دهشة كيف استطعتم أن تفعلوا كل هذا، لقد كنت في فرقة الكوماندوس البريطانية ولم أشهد جرأة كالتي رأيتها الآن.. ولو كان معي ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم فلسطين، ثم تقدم القائد البريطاني إلى الجرحى المصريين وقبل كل منهم في جنبيه، وقال من أي بلد هؤلاء الأبطال؟ فقالوا من مصر».

وقفة تأمل من وحي المعركة:

1- يلاحظ القارئ الكريم أنه اجتمع في هذه المعركة أب وابنه، وابن أخيه وثلاثتهم متطوعون للقتال تحملوا نفقات سلاحهم من مالهم الخاص.

ومن ينظر في هذه الحقيقة يتبين مدى الخسارة التي تقع على عاتق الأمة الإسلامية بتخليها عن تطبيق الشريعة الإسلامية.

إننا في ظل القوانين الوضعية نرى الناس يتهربون من الجندية، وليس بعيدًا ذلك العهد الذي كان يتعمد فيه الفلاحون المصريون إحداث عاهات مستديمة في أجسامهم لكي يشركوا في الكشف الطبي، فيتم إعفاؤهم من التجنيد العسكري لعدم اللياقة البدنية.

كما أنا لا نزال نجد أن القوانين الوضعية تعفي الابن الأكبر من التجنيد في حالة شيخوخة والده أو وفاته، وذلك كله على الرغم من إنفاق المبالغ الباهظة على المجندين لتدريبهم وإعاشتهم وتسليحهم.

ولكن في ظل العقيدة الإسلامية، يتقدم الرجال والنساء والأطفال للقتال ودفاعًا عن دينهم يهبون وطنهم ما يملكون من مال، ويبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل الله بأن لهم الجنة.

وإنني لأذكر أخي الشهيد محمد سلطان ونحن في معسكر الريسة، وقد كان يقف حراسة ليلية حين خرجت أتفقد المعسكر في الثانية صباحًا وأمر على جنود الحراسة، فإذا بي أحده يقف في موقعه يقظًا منتبهًا، ولكن دموعه تسيل على خديه في صمت فظننت لأول وهلة أنه تعرض للدغ حشرة من حشرات الأرض، وأنه يتجلد حتى تنتهي نوبة حراسته، فلا يحرم أجر العين التي تبيت في حراسة في سبيل الله، ولكنني فوجئت عندما سألته عما يبكيه، فكان رده عليَّ أسمى وأبعد من هذا الخاطر بكثير، قال: «ما بي من بأس والحمد لله، ولكني سمعت أنك سترسل سرية غدًا إلى المستعمرة اليهودية وأن اسمي ليس من بين أفرادها، فوقفت حزينًا تسيل دموعي كما ترى».

لا إله إلا الله، إننا في عهد صحابة رسول الله (ص) الذين وصفوا بأن الموت في سبيل الله كان أحب عندهم من الحياة.

إن وجود مثل هؤلاء الرجال لا يرتبط بزمان ولا بمكان، إنه وقف على من نشأ نفسه على شريعة الإسلام، فكان خلقه القرآن، وها نحن نرى هذه الآية ماثلة بين أيدينا للعيان.

إن المعارك القادمة جميعًا لم تشهد فارًا واحدًا ولا متخاذلاً واحدً من رجال الإخوان المسلمين، ولكن التدافع للتطوع بالقيام بأشد الأعمال خطورة وفداء، كان في كل الأوقات مشكلة القيادة، التي لم تكن تجد مخرجًا إلا الاقتراع على من يصدر إليه الأمر من الفدائيين بالتقدم للعمل الخطير، فكلهم أشد رغبة من أخيه في الإقدام على الموت لتوهب له الحياة، واقع متكرر لا أثر للخيال ولا للدعاية ولا للخيلاء فيه، شهد به كل من رآه.

2- إن هذه المعركة كانت أول معركة حربية تخوضها مصر ضد اليهود، فمن كان رجالها؟

«الإخوان المسلمون» سبقوا متطوعي القوات المسلحة وسبقوا الجيش النظامي لمصر وبدأوا المعارك وهم وحدهم في الميدان وفاء لعقيدتهم وتحقيقًا للهدف الذي حدده إنشاء جيشهم الإسلامي المسمى «النظام الخاص» دفاعًا عن الوطن الإسلامي في كل مكان، مع الالتزام بأحكام الدين الحنيف شريعة الرحمن، ومن أحسن من الله قيلا؟

3- إن هذه المعركة على ما ظهر فيها من بطولات، تعتبر معركة استطلاع ناجحة كشفت لكل الجيوش العربية حقيقة الاستعدادات والتحصينات اليهودية التي تستتر داخل مستعمرات تبدو صغيرة للعيان، ولكنها معدة إعدادًا عسكريًا يفوق كل خيالٍ.

4- إن هذا الواقع الذي يؤيد نظرتي التي أبديتها للإمام الشهيد، في أن تقتصر مهمتنا في فلسطين على إنزال ضربات موجعة لليهود، دون التفكير في الحرب الشاملة لأنها فوق طاقتنا وفوق استعداداتنا، لم تغير من نظرة الإمام الشهيد في توجيه جهاد الإخوان إلى الحرب الشاملة فذلك هو حكم الله، الذي حكم بفرضية الجهاد على كل مسلم ومسلمة في هذا الوقت الذي آل إليه الوطن الإسلامي، ومن ثم فقد ضاعف الإمام الشهيد جهوده لدفع أعداد أكبر من المتطوعين بلغ عشرة آلاف متطوع في الجبهة الجنوبية وحدها، باذلا آخر الاستطاعة مع تفويض الأمر كله لله.

وذلك لعمري هو واجب المسلمين في كل زمان ومكان، فإن قاموا به عزوا وإن تخاذلوا عنه ذلوا.

ولكن دخول الجيوش العربية، وتحملها مسئولية الاحتلال الشامل لفلسطين في حرب شاملة، ثم فشلها في ذلك، هو الذي عطل الاستمرار في تنفيذ ما اعتزمه الإمام الشهيد من مواصلة إمداد المعركة بالمجاهدين حتى النصر، ولم يقتصر دور هذه الجيوش على إعلان الهزيمة وقبول الهدنة الدائمة في فلسطين الأمر الذي جعل إسرائيل حقيقة واقعة، بل إن الجيش المصري كلف باعتقال جميع المجاهدين المصريين من الإخوان المسلمين في فلسطين، كما قررت حكومة مصر في هذا الظرف الرهيب حل الإخوان المسلمين في مصر واعتقالهم، لعرقلة استمرار السيل المتدفق من المجاهدين، بل زاد من إجرام حكومة النقراشي أن مهدت لقتل الإمام الشهيد جهارًا نهارًا كما يفعل قطاع الطرق والأشرار دون أدنى خجل أو حياء، وقد نفذ خطتها خليفة النقراشي إبراهيم عبد الهادي، بعد أن نفذ بعض شباب الإخوان قتل النقراشي باشا جزاء له على خيانته للأمة الإسلامية وانضمامه لقتالها في صفوف الكفار.

سفر الفوج الثالث من متطوعي الإخوان إلى فلسطين عن طريق سوريا

في مارس سنة 1948 سافر الفوج الثالث من متطوعي الإخوان إلى فلسطين، بعد أن تم تجهيزه بالسلاح والعتاد وكان يتكون من ثلاثة فصائل، وزعها الإمام الشهيد بنفسه وعين على كل منها قائدًا يتولى قيادتها، وقد كان الأخ علي صديق قائدًا للفصيلة الأولى والأخ مالك نار قائدًا للفصيلة الثانية، والأخ يحيى عبد الحليم قائدًا للفصيلة الثالثة، وتولى قيادة الكتيبة الأخ محمود عبده.

تحركت الكتيبة في استعراض عسكري من المركز العام مارة بميدان الأوبرا ثم إلى شارع إبراهيم حتى وصلت ميدان محطة مصر، وقد اصطفت الجموع تهتف وتكبر معلنة صحوة جديدة لشعب مصر في إيمان متدفق، وبعث جديد في توثبت متحفز، ثم استقلت الكتيبة القطار إلى بورسعيد، حيث ودعها فضيلة الإمام الشهيد وداعًا حارًا، حين نزلت المجموعة على ظهر الباخرة اليونانية «سيرينا» في وسط جموع المسافرين على ظهر الباخرة والذين احتشدوا لتحيتهم، وما أن تحركت السفينة حتى لاحقها فضيلة الإمام الشهيد مع حشود الإخوان المودعين في زوارق للتحية، يلوحون بأيديهم مودعين حتى غابت عن الأنظار.

وقد وصلت الكتيبة معسكر قطنا بسورية بعد أن مرت ببيروت حيث استقبلها الأخوة مصطفى السباعي وعمر بهاء الأميري من إخوان سوريا، وكان في صحبتهم الأخ سعيد رمضان سكرتير المؤتمر الإسلامي بكراتشي، وكان في مقدمة المستقبلين اللبنانيين الأستاذ مجيد أرسلان وزير الدفاع اللبناني وعدد كبير من فرق النجادة والفتوة على رأسهم قائدهم ببيروت.

وعلى مشارف دمشق استقبل الكتيبة جوالة الإخوان بالموتوسيكلات وصحبتها إلى معسكر قطنا.

وكان معسكر قطنا قد أعد لاستقبال المتطوعين من جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي، وقد أعد لاستقبال آلاف المجاهدين، وكان يشرف عليه من القادة العسكريين ضابطًا بالجيش السوري ومن الإخوان المسلمين الأخ مصطفى السباعي رئيس الإخوان بسوريا، ووكيل القائد العسكري والمسئول الروحي للمعسكر.

وكان التدريب في هذا المعسكر يبدأ من الساعة السادسة صباحًا حتى موعد الغذاء، ثم من بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس، حيث قسمت الكتيبة إلى عدة فرق مشاة ومدفعية ومغاوير ونسف وتدمير، ويقوم بالتدريب ضباط سوريون كما كان منهم ضباط يوغسلان اشتركوا في الحرب العالمية الثانية.

وقد تدرب الإخوان على هذه الأعمال بنجاح تام وعملوا كمائن لنسف بعض القوافل، كما أتقنوا استعمال الأسلحة الصغيرة (البنادق- التومي- جن- البرنات) والأسلحة السريعة كالفيكارز بالإضافة إلى مدافع الهاون والبويز المضادة للمصفحات والدبابات، وقد استغرقت مدة التدريب شهرًا تحركت الكتيبة بعدها لتنضم إلى باقي المجاهدين من الإخوان في جنوب فلسطين في رحلة طويلة وشاقة بالسيارات بدأت من دمشق إلى عمان، ثم حزاء البحر الميت في طريق وادي عربة إلى العقبة، ثم اجتازت حدود الأردن متجهة شمالا إلى الكونتلا داخل الأراضي المصرية بصحراء سيناء، ثم إلى العوجة ومنها إلى رفح فخان يونس فدير البلح فغزة.

سفر الفوج الرابع وتتابع سفر الأفواج الأخرى بعده من معسكر هايكستب

بناء على توصية اللجنة العليا لإنقاذ فلسطين افتتحت جامعة الدول العربية معسكرًا لتدريب المتطويعن في هايكستب على غرار قطنا بسوريا، وقد عج هذا المعسكر بآلاف المتطوعين من الإخوان المسلمين، الذين سافروا في أفواج متتالية إلى أرض المعركة.

وكانت قيادة المعسكر للبكباشي حسين أحمد مصطفى من خيرة ضباط الجيش المصري يعاونه عدد من صفوة الضباط والمعلمين، وكانت الكتيبة الأولى لهذا المعسكر مكونة من متطوعي الإخوان الذين اجتازوا الكشف الطبي الدقيق، وقد قسمت إلى أربع سرايا تتكون كل سرية من فصيلتين، وكل فصيلة من 24 متطوعًا، وكانت كل كتيبة يتم تدريبها ترحل إلى الميدان لتلحق بإخوانها في ساحة الشرف والنضال.

معركة الطيران بغزة

ما إن وصل الفوج الثالث من متطوعي الإخوان إلى غزة، حتى نزلوا بمعسكر الطيران بغزة فأعلنهم قائدهم في ليلتهم الأولى بهذا المعسكر أنها ليلة طوارئ، فقام الأفراد بتنظيف سلاحهم وقادم قادة الفصائل بتوزيع الذخيرة عليهم، ثم تحركت الفصائل لتباغت العدو قبل أن يبغتها في ليلتها الأولى، فكانت فصيلة الأخ علي صديق في مواجهة المستعمرة من الناحية الشرقية ووزع باقي قواد الفصائل رجالهم على الجهات الأخرى حتى انتصف الليل وأظلم الكون وعم الهدوء، وبدأت قوات العدو تتحرك في 18 سيارة مصفحة نحو معسكر الطيران للإجهاز على هذه الكتيبة المجهدة، ليلة وصولها وهي تظن أنها ستحظى بها نائمة من فرط الإجهاد.

ولكنها فوجئت فور وصلها إلى قرب أسلاك المعسكر بنيران المجاهدين تحصدهم من جميع الجهات، وما أن انقشع الظلام وبدأت خيوط الفجر تسطع حتى شوهد العدو وقد انسحب إلى مستعمرته تاركًا خلفه بعض الآليات غنيمة للمسلمين، فانتشر الخبر في جميع أنحاء غزة فجاءوا مهنئين بهذا النصر المظفر، حيث بلغ عدد القتلى اثنى عشر قتيلا مقابل جريح واحد من الإخوان، فكانت وكأنها ضربة بضربة دير البلح الأولى.

وقد وصف أحد قادة الفصائل ما كان حوله فقال: «كانت دانات المدافع تسقط أمامنا وخلفنا وكانت طلقات الرصاص تأتينا عن اليمين وعن الشمال، ولكن الحق تبارك وتعالى أذن أن يسلم جميع الإخوان من هذه النيران الكثيفة، وكأن الملائكة عليهم السلام قد حملت مهمة الدفاع عن الإخوان وتثبيت قلوبهم، فقد تقد متطوعو الإخوان حتى لم يبق بينهم وبين اليهود إلا خمسة أمتار، وقد أطلق البطل رفعت وحده 150 طلقة وكان يحب أن يخرج إليهم، أما إبراهيم ربيع فقد جرح في قدمه، ولكنه يقول لأخيه عبد الهادي ونحن في حومة الوغي، والمعركة حامية، ووطيس الحرب مشتعل، يقول: وكأنه ليس في حرب «أخي» إن رصاص العدو يتساقط علينا ورجلي تؤلمني ولكن لا تعوقني عن الضرب» واستمر هو وإخوانه يضربون من فوهات خمس وعشرين بندقية ليس من بينها مدفع سريع ولا مضاد للدبابات والمصفحات، ومع ذلك كان نصر الله للمؤمنين عظيما.

معركة دير البلح الثانية

عندما سمحت الحكومة لبعض ضباط الجيش المصري الراغبين في التطوع للقتال في فلسطين بتحقيق رغبتهم بأن قبلت طلبات إحالتهم للاستيداع وفتحت لهم مخازن الجيش المصري يتسلحون بما يشاءون من أسلحته، وانضم هؤلاء الضباط بقيادة البكباشي أحمد عبد العزيز إلى المتطوعين من الإخوان، وتم تنظيم قيادة المجموعة على النحو التالي، وقد حضر هذا الاجتماع الشهيد الشيخ محمد فراغلي، والأخوة محمود عبده، والصاغ محمود لبيب:

1- البكباشي أحمد عبد العزيز .. قائدًا للقوات.

2- اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف .. أركان حرب.

3- الملازم أول معروف الحضري .. مساعد أركان حرب العمليات.

4- بكباشي زكريا الورداني .. أركان حرب إمداد وتموين.

5- ملازم أول حمدي ناصف .. مساعد أركان حرب إمداد وتموين.

6- يوزباشي كمال الدين حسين .. قائد لمدفعية الهاوزر 3.7 بوصة.

7- ملازم ثاني خالد فوزي .. مساعد لقائد مدفعية الهاوز.

8- يوزباشي حسن فهمي عبد المجيد .. قائد للمدفعية المضادة للمصفحات 2 رطل.

9- ملازم ثاني أنور نصحي .. مساعد لقائد المدفعية المضادة للمصفحات.

وكان معظم هؤلاء الضباط من الإخوان المسلمين أو محبيهم، كما كان جميع المقاتلين معهم من متطوعي الإخوان المسلمين.

مهدت المجموعة لدخول معركة دير البلح الثانية بمسح شامل لهذه المستعمرة قام به الأخ عبد المنعم عبد الروءف، وعملية استكشاف قام بها الأخ لبيب الترجمان، والأخ معروف الحضري، يساعدهم متطوعون آخرون مثل الأخ عبد المنعم أبو النصر، والأخ حسين حجازي، والأخ محمد عبد الغفار، وتم وضع خطة المعركة على أساس هذه المعلومات، واختيار الجنود الذين تقرر أن يشتركوا فيها.

وكانت مهمة اختيار الجنود مهمة عسيرة حيث يتسابق الإخوان للتطوع بالجهاد في المعركة حرصًا على نيل الشهادة في سبيل الله مما اضطر القيادة إلى الاقتراع بينهم مع تقديم البشرى للباقين في قول رسول الله : «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله».

أعدت مجموعة النسف والتدمير بقيادة الأخ إسماعيل الفرماوي طوربيدات البنجالور لاستعمالها في فتح الثغرات لدخول المقتحمين، وهذا الطوربيد عبارة عن ماسورة من الحديد قطرها خمسة سنتمترات وطولها 130 سم معبأة بمادة الجنجلايت الشديدة الانفجار.

ثم تقرر تنفيذ خطة الهجوم على المستعمرة على النحو التالي:

يتم الهجوم على المستعمرة من شرقها وجنوبها في وقت واحد مع استعمال الوادي الواقع في الجنوب كساتر إلى المستعمرة، واستبعدت جهة الغرب لعاملين أساسيين:

1- إن أفكار اليهود مركزة دائمًا على الجهة الغربية المطلة على الطريق الرئيسي، بدليل أن حراس المستعمرة لم يشعروا بحركة الاستكشاف التي تمت من الجنوب.

2- إن الجهة الغربية أرض مكشوفة مزروعة شعيرًا لا يزيد طوله على ثلاثين سنتمترًا وليس بها أي سواتر يمكن أن يستتر بها المهاجمون.

على أن يأخذ رماة مدافع الهاون كميات كبيرة من قنابل الدخان والقنابل الشديدة الانفجار (ميلز) لستر الهجوم عند اللزوم بقنابل الدخان وإلحاق الخسائر المدمرة بقنابل الميلز، وكان المسئول عن هذا العمل هو الأخ حسن الجمل.

تحركت السيارات من خان يونس إلى نقطة تجمع منخفضة قرب المستعمرة أثناء الليل وهي مطفئة أنوارها حتى لا يشعر بها العدو بعد أن شرحت للجميع الصورة الكاملة عن شكل المستعمرة ومبانيها ومرافقها، وخزان مياهها ونقط حراستها والأسلاك والدشم المتقدمة منها ومداخلها، والقوة الدفاعية بها وأنواع الأسلحة المدافعة بالتفصيل، وبين الشكل رقم (1) رسمًا تخطيطًا للمستعمرة وما حولها.

ثم أخذ الجنود مواقعهم المتفق عليها حتى حان وقت ضرب المدفعية للمستعمرة، فأمر الأخ عبد المنعم عبد الرءوف كل القوات بالانبطاح أرضًا حتى لا تصيبهم شظايا قنابل المدفعية واستمر الضرب لمدة عشرة دقائق.

ثم صدرت الأوامر لقاذفي الهاون دخان، فأطلق ثم أمر الأفراد بالتقدم السريع والاقتحام، فهجموا وكأنهم على أجنحة طير، حتى اقتربوا من الأسلاك الشائكة بسرعة أكبر من المتوقعة، ولكن قنابل الدخان قد نفذت بسبب عدم تقدير المسئول عن أهميتها، فلم يحمل معه منها إلا صندوقًا واحدًا بدلاً من ثالثة صناديق، مستكثرًا من القنابل الشديدة الانفجار لضمان إلحاق خسائر أكبر بالعدو، ولهذا السبب لم تجد تعليمات اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف بإطلاق مزيد من قنابل الدخان، وانكشف المهاجمون للعدو، والذي زاد في انتباهه وتحفزه ضرب المدفعية المستمر لمدة عشر دقائق، ففتح نيرانه على المهاجمين متبادلا معهم الضرب بالرشاشات ولكن من وراء جدر متحصنة ومسيطرة، مما عرقل الهجوم.

وقد زاد في الارتباك أن عادت مدفعيتنا للضرب دون أوامر، بينما كان المهاجمون يتقدمون عليهم دانات خاطئة ضاعفت في عرقلة الهجوم مما حدا بالأخ عبد المنعم عبد الرءوف أن يأمر القوات المهاجمة بالانسحاب إنقاذًا للموقف، وقد أصيب الأخ كمال عزمي بدانة أثناء الانسحاب، ثم بدفعة يرن أصابته في أصبعه وهو يخرج المنديل ويربط جرحه، ولكنه ظل مبتسمًا صامتًا حتى أخذ الأخ حسين حجازي قايشه وربطه جيدًا بقايش الأخ عبد المنعم أبو النصر، وربط يد الأخ كمال عزمي السليمة بالقايش جيدًا، وتم سحبه من أرض المعركة حتى الوادي حيث نقل على نقالة إلى مكان أمين.

ولقد تسبب الأخطاء الآتية في زيادة عدد الجرحى والشهداء من متطوعي الإخوان في هذه المعركة:

1- تأخر ضرب المدفعية إلى الفجر وكان المقرر أن يتم القذف قبل ذلك بكثير لاتخاذ الليل ساتر طبيعًا للمهاجمين.

2- كانت قنابل 2 رطل لا تؤثر في دشم العدو، حتى إذا أصابتها، وذلك من متانة الدشم فلا تترك إلا أثرًا أسودًا على جدرانها مكان الطلقة.

3- لم يحمل الأخ حسن الجمل ما يكفي من قنابل الدخان مما كشف المهاجمين في مواقعهم الحساسة على مشارف المستعمرة، وقد ظهر الصباح وانعدم الساتر الطبيعي لهم وهو ظلمة الليل، مما عرضهم لرشاشات العدو المباشرة.

4- عاودت المدفعية ضربها دون أن يصدر لها الأخ عبد المنعم عبد الرءوف الإشارة الحمراء المتفق عليها، مما عرض المهاجمين إلى دانات المدفعية المصرية لأنهم كانوا مشتبكين مع العدو في أرض واحدة.

5- لم يتمكن الأخ محمد حسن العناني المكلف بوضع طوربيد البنجالور تحت الأسلاك الشائكة لنسفها وفتح ثغرة فيها بسب إصابته في فخذه وهو يتقدم نحو الأسلاك بعد زوال الدخان الساتر، وقد نزف نزيفًا شديدًا من هذه الإصابة تلطخ بسببه سرواله الكاكي فأصبح جميعه بلون الدم، فاستغاث بشقيقه عبد الوكيل بصوت منخفض وكان من رمان البرن، فبدأ يتحرك نحوه رغم ما في ذلك من مخالفة عسكرية حيث لا يصح الاقتراب من المصاب أثناء المعركة، لأن موقع المصاب أصبح مكشوفًا للعدو وجاهزًا لضرب كل من يتقدم إليه دون اتخاذ إجراء لحمايته أثناء التقدم كسواتر الدخان أو النيران الكثيفة تجاه العدو، لتشغل أو تمنع من أصاب الأول أن يصيب الثاني.

وقد بدأ عبد الوكيل بالزحف للخلف بعض الشيء، وسحب بندقية شقيقه وسلمها لقائد الفصيلة الذي لم يكن مسلحًا ببندقية، بل كان يحمل مسدسًا، وحاول محمد التحرك ولكنه لم يستطع حيث ازداد نزيف الجرح وآلامه، فلم يتحمل شقيقه وزحف نحوه مغلبًا العاطفة على القاعدة، فأصابته دفعات طلقات مباشرة فور اقترابه منه استشهد على أثرها على الفور، وكان استشهاد الشقيقين تحقيقًا لرؤية صالحة رآها أبوهما الصالح، فتحققت كفلق الصبح، حيث رآهما مجتمعين في رحاب الجنة.

ولما ذهب الإمام الشهيد ليواسي الأب الصالح رد عليه قائلا لو أردت ولدي الثالث لأرسلته فورًا إلى ميدان الشرف والكرامة.

وقد استشهد في هذه المعركة الأخ أحمد السيد، وجرح الأخ معروف الحضري وهو على أسلاك المستعمرة، وإذا كان عدد الشهداء والجرحى في هذه المعركة كبيرًا، إلا أن أحدًا منهم لم تكن إصابته من الخلف.

وقد استمرت المعركة مع الخيط الأول للفجر واستمرت حتى الظهر حين تم الانسحاب إلى الوادي، ومن هناك نقل الجرحى والشهداء إلى المستشفى، وكانت قائمة الجرحى كالآتي:

1- بكباشي معروف الخضري

2- كمال عزمي.

3- سالم حسن سالم

4- محمد فؤاد إبراهيم.

5- عبد الحميد غالي

6- ملازم مصطفى ميره.

وكانت قائمة الشهداء كالآتي:

1- نور الدين الغزالي

2- محمد أنور عبد الرحمن الفرسيسي.

3- محمد محمد كرم حسين

4- رشاد محمد مرسي.

5- محمود عبد الجواد أحمد

6- محمد حسن العناني.

7- عبد الوكيل حسن العناني

8- حسن مصطفى العزازي.

9- جميل أنور الأعسر

10- محمد عثمان بدر.

11- محمد عثمان عبد الله

12- هرون عبد العزيز حسان.

13- محمود إبراهيم السيد

14- محمد كامل بيومي.

15- السيد فرج السيد

16- علي متولي خليل

17- عبد العزيز إسماعيل

18- محمد حسن علي.

19- فتحي محمود مراد

20- حسن صالح أبو عيسى الكواكبي.

21- عبد الوكيل حسن علي

22- محمد عبد الجليل عبد الله.

23- عبد الحميد حسنين

24- عبد الظاهر سليمان.

25- سيد محمد منصور

26- مصطفى حسن المزين.

27- مصطفى عبد المطلب عبد الحميد

28- مكاوي محمد مصطفى.

29- محمود شعبان

30- عدلي محمود شيش.

31- زين العابد عوض الله محمد

32- جابر عبد الجواد.

33- أمين محمود سليمان

34- جماد الدين أحمد إدريس.

35- علي حسن بركات

36- مصطفى شديد.

37- محمد مختار حمزة

38- رفعت محمد عثمان.

39- عبد الرازق أبو السعود

40- محمد إبراهيم رضيه.

41- عبد السميع قنديل

42- أحم محمد السيد.

43- الحاج عيسى إسماعيل عيسى.

الإخوان في معسكر النصيرات:

معركة بين علي صديق ومدرعات العدو واستشهاد الأخ رفعت عثمان بيد بدوي خائن

بعد انتهاء معركة الطيران بغزة انتقلت فصيلتين من الكتيبة إلى معسكر النصيرات وبقيت فصيلة يحيى عبد الحليم بمعسكر الطيران.

وصل إلى علم الإخوان بمعسكر النصيرات أن قافلة من المصفحات والعربات المدرعة للعدو تتحرك لتموين مستعمرة كفار ديروم، فانطلق إليها علي صديق بفصيلته، ودارت بينه وبينهم معركة خلف المستعمرة استعمل فيها طلقات مضادة للدبابات من مدافع البويز، فكانت ذخيرتها تخترق جدار المصفحات وتقضي على الجنود المخبئين بداخلها.

وأسفرت النتيجة عن انسحاب هذه المصفحات رغم أن القوة التي واجهتها لم تزد على فصيلة مشاة - وقد تغيب عن العودة مع إخوانه بعد نهاية المعركة الأخ رفعت عثمان.

وقد تبين لنا أنه كان قد توجه إلى المعسكر أثناء المعركة لإحضار ذخيرة بعد أن نفذت ذخيرته، وطلب من أحد الأعراب مصاحبته كدليل فاختار له طريقًا خلفيًا يمر ببيارة غير مأهولة، ثم ضربه برصاصة في ظهره أردته قتيلاً طمعًا في الحصول على بندقيته وقد دفن الأخ الشهيد بدير البلح.

خدعة صهيونية وخيانة بدوي آخر:

استمر الشهيد أحمد عبد العزيز محاصرًا لمستعمرة دير البلح لفترة طويلة بعد معركة دير البلح الثانية، حتى رفع اليهود العلم الأبيض فوقها دليلا على التسليم، فأرسل الشهيد أحمد عبد العزيز إلى الأخ محمود عبده قائد كتيبة الإخوان بمعسكر النصيرات يطلب فصيلة مشاه للاستيلاء على مستعمرة «كفار ديروم».

وقد كلف الأخ محمود عبده فصيلة بقيادة الأخ علي صديق مجهزة بأسلحة سريعة الطلقات تساعدها فرقة ألغام لنسف ما قد يكون بداخل المستعمرة من ألغام.

وما إن مالت الشمس للمغيب حتى كانت الفصيلة قد سلمت نفسها للقائد أحمد عبد العزيز وتقدم قائدها لتحيته، فأصدر إليه تعليمات باحتلال المستعمرة التي أعلنت التسليم برفع العلم الأبيض، وقدم إليه أحد البدو دليلا إلى طريق اقتحام المستعمرة.

وما إن قربت الفصيلة من المستعمرة عبر حقول الشعير حتى اختفى البدوي عن الأنظار واستلم مدفعًا من وراء دشمة كان قد أعدها ثم أخذ يطلق سيلا من الرصاص على أفراد الفصيلة، فانبطحوا مسرعين متخذين من أعواد الشعير سواتر، ثم فوجئوا بالمستعمرة تفتح عليهم أتونا من النيران غطت بها جميع الجهات.

وقد صدرت التعليمات بسرعة إلى الجميع بالسكون التام حتى لا تهتز أعواد الشعير فتدل عليهم، وقد استشهد عدد من الإخوان في هذه المعركة وجرح عدد آخر نتيجة لغدر هذا البدوي الخائن، الذي أمكن القبض عليه عند الانسحاب وأخذه إلى المعسكر، وعندما ضيق عليه الخناق اعترف بأنه يعتبر أحد أفراد هذه المستعمرة وأنه تزوج فيها من صهيونية وله فيها أولا وكان يجمع الأخبار عن العسكريين عددًا وعتادًا، مع تحديد أماكن تجمعهم ويعود بها مساء كل يوم إلى المستعمرة.

توبة البدوي الخائن والاستيلاء على قافلة مصفحات:

وفي لحظة من لحظات الندم صحا ضمير البدوي الخائن وأخذ يجهش بالبكاء عما اقترفه من جرم في حق عروبته ودينه، وعرض أن يحرك قولاً من المؤن والذخائر من المستعمرة الأم، ليصطادها الإخوان تكفيرًا عن جريمته.

وبالفعل اتصل بالمستعمرة لاسلكيًا وكان يتكلم العبرية كأحد أبنائها وأبلغهم أن الإخوان يحاصرون المستعمرة وهي في حاجة ماسة إلى نجدة سريعة.

وقد استجابت المستعمرة وحددت للبدوي خط سير القافلة المكونة من 15 مصفحة ولوري وعليها التموين والذخيرة والسلاح يتبعها ونش كبير لإنقاذ ما قد يتعطل منها أثناء السير.

وفي المكان والزمان المحددين وقف علي صديق وفصيلته مستترين بالخنادق، وبالقرب منه وقف اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف يقود سيارة تجر مدفعًا مضادًا للدبابات، حتى إذا ظهرت القافلة فاجأتها نيران الفصيلة بنيرانها ونيران المدفعية المضادة بقذائفها فاختل سير القافلة، وانفرط عقدها، وترك اليهود سياراتهم ومصفحاتهم وارتدوا هاربين إلى مستعمرتهم خشية الوقوع أسرى في أيدي المجاهدين من الإخوان، وقد جرح منهم أثناء الفرار من جرح وقتل من قتل، وكان نصرًا مظفرًا غنمت الفصيلة فيه هذا الرتل من السيارات والمصفحات بما عليه من مؤن وذخائر، حيث استدعى قائدها عدد من السائقين في المعسكر لسحبها جميعًا غنيمة للمسلمين.

ضرب مستعمرة بير إسحاق

تأهب الأخ يحيى عبد الحليم الذي استمر بفصيلته في معسكر الطيران بغزة إلى عملية ليلية، فانتقى عشرة أفراد للقيام بدورية قتال وخرج ومعه ثالثة من الضباط الألمان.

تحركت السرية في الساعة الثامنة مساءً وواصلت يسرها مدة ساعتين وعملت كمينًا بين مستعمرتي بير إسحاق وكفار ديروم، ولكن شيئا من سيارات العدو أو صفحاته لم يظهر حتى انتصف الليل.

فقررت السرية السير جنوبًا إلى مستعمرة بير إسحاق التي تبعد عن موقعها بأربعة كيلو مترات، وفي الواحدة صباحًا كانت السرية داخلت بيارة وأفرادها منبطحين جميعًا في حذر وكل ممسك ببندقيته في وضع استعداد، حيث شعروا بشبه حركة التفاف حولهم، فلما اطمأنوا تقدم ثلاثة منهم إلى المستعمرة بعد قطع السلك وقذفوها بقنابل متفجرة قتلت واحدًا من الأعداء، ثم انسحبت بعد ذلك عائدة إلى معسكرها فوصلت سالمة مع تباشير الفجر.

ضرب مصفحات يهودية:

في يوم الجمعة 6 مايو علم الإخوان بمعسكر الطيران بغزة بوجود مصفحات يهودية غارزة في الرمل فسيروا سرية داخل مصفحة وذهبت لمقاتلتها بقيادة الأخ يحيى عبد الحليم، وعلى بعد 1500 متر من المصفحات اليهودية أحد جنود السرية مواقعهم للضرب واستمرت المعركة ساعة، جرح فيها الأخ محمد فؤاد، والأخ محمد الشاذلي، واستشهد فيها الأخفتحي الخولي، وقتل وجرح من اليهود من قتل وجرح، وعادت السرية إلى مواقعها بمعسكر الطيران.

تحرك الكتيبة إلى الشمال بعد دخول الجيش المصري واحتلالها للعوجة وعسلوج وبئر سبع

بعد دخول الجيش المصري في 15 مايو سنة 1948م أرض فلسطين تقدم في اتجاهين الأول يوازي الساحل الفلسطيني شمالاً، والثاني إلى الجنوب حيث أقام اتصالا مع الجيش الأردني الذي اندفع إلى القدس واشتبك مع اليهود هناك.

وقد قرر القائد أحمد عبد العزيز أن تتحرك كتيبة الإخوان مع القوات الخفيفة داخل النقب لما يعلمه عن هذه الكتيبة من مقدرة فائقة على التحرك والعمل والفدائي.

فتحركت الكتيبة في قول يتكون من مائة عربة ناقلة جنود وعربات مدرعة ومدفعة مضادة وعربات تموين وأسلحة وذخيرة وسيارات نقل مياه وعربات إسعاف، وتوغلت في صحراء النقب مارة بالكثير من المستعمرات اليهودية.

وكانت الكتيبة تطلق قنابل الدخان في اتجاه كل مستعمرة تمر بها، حتى استطاعت اجتياز هذه المناطق ووصلت مدينة العوجة، حيث تركت كتيبة من القوات الخفيفة بقيادة اليوزباشي محمد سالم، ثم واصلت السير نحو بلدة عسلوج، حيث تركت بها كتيبة أخرى بقيادة الأخ عبد المنعم عبد الرءوف لحماية خط العوجة- عسلوج، ثم واصلت السير في اتجاه بئر سبع عاصمة النقب، وهي محاطة بعدد من المستعمرات، وقد استقرت كتيبة الإخوان ببئر السبع بقيادة الأخ محمود عبده، وواصل القول سيره نحو الشمال، وفي الطريق فتحت القوات الخفيفة مدفعيتها الثقيلة على المستعمرة الغربية من بئر سبع لتحطيم روح اليهود المعنوية فلا يفكروا في الهجوم عليها، ثم واصلت سيرها في اتجاه الظاهرية حتى وصلت مدينة القدس فعسكرت هناك قرب المسجد الأقصى.

كتيبة الإخوان في بئر سبع:

عسكرت كتيبة الإخوان في المدرسة الثانوية ببئر سبع وكانت الدراسة معطلة وأمر قائد الكتيبة الأخ محمود عبده سرعة تحصين المدرسة لأهميتها، وكلف أفراد الكتيبة بحفر الخنادق وإعداد الدشم من جميع الجهات، وتطوع كثير من أهالي البلدة وشبابها مساهمين في هذا العمل العسكري دفاعًا عن مدينتهم كما تطوع الكثيرون منهم لحمل السلاح وكانوا شجعانا أوفياء.

هجوم العدو على المدينة وإلحاق خسائر ضخمة به في كل مرة:

حاول العدو مرات ومرات مهاجمة المدينة بمصفحاته ومدفعياته ولكنه كان يرد في كل مرة تاركا خلفه الكثير من الجرحى والقتلى، حتى يئس وتقوقع داخل مستعمراته وبدأ دور الإخوان في الهجوم.

علي صديق يقتنص دبابة ضخمة في بئر سبع:

لما شاهد الأهالي تتابع هجمات كتيبة الإخوان على مستعمرات العدو في هذه المنطقة تحمسوا وقرروا التعاون مع أفرادها، فأسر الشيخ سلامة بن سعيد من أثرياء المدينة إلى قائد الكتيبة بأخبار عن تحرك العدو في طريق مجهولة، ويمكن لقناصة الإخوان اقتناصه، وعلى الفور أمر الأخ محمود عبده قائد الكتيبة تجهيز سرية من سبعة أشخاص بقيادة الأخ علي صديق، يكونون جميعًا من أمهر الكفاءات القتالية مع تجهيز الألغام الكهربائية اللازمة لنسف الجسر الذي تمر فوقه مصفحات العدو.

وفي المساء تحرك علي صديق ومعه أفراد الكمين في سيارة وحملوا كل لوازمهم من ذخيرة وألغام مضادة للمصفحات وجهاز لاسلكي ومواد تموينية جافة تكفي لمدة ثلاثة أيام، ولبس أفراد السرية ملابس بدوية حتى وصلوا إلى الطريق الإسفلتي، ثم وضعوا أمتعتهم فوق ظهر الجمال حتى يظنهم الرائي من البدو الرُّحَّل، وقادهم دليل من اختيار الحاج سلامة وهم في طريقهم إلى المستعمرة يسترهم ظلام الليل البهيم.

ثم حطت السرية رحالها وسط واد عميق بالقرب من الطريق المسفلت الذي يربط المستعمرات بعضها ببعض، والذي سيكون أرضًا للمعركة، وتسلل بعض أفرادها إلى الكوبري الذي تعبر فوقه المصفحات، فوضعوا الألغام فوق قواعده الرئيسية، ثم حفروا الخنادق بسرعة لبقية أفراد المجموعة في المواجهة الكبرى، مع العمل على توفير الحماية لظهور المهاجمين وقد تم توزيع الذخيرة والتموين والزمزمية مملوءة بالماء بما يكفي كل خندق ثلاثة أيام، وجلس قائد السرية الأخ علي صديق ومعه بطارية التفجير يومين على هذا الحال وقد أمر جنوده أن لا يظهروا إطلاقًا وأن يصلوا متيممين داخل الخنادق حتى يظهر العدو وتبدأ المعركة.

وقبل ظهر اليوم الثالث وكان يوم جمعة ظهرت القافلة في الطريق فأصدر الأخ علي صديق أمره بعدم إطلاق النار إلا بعد أن يتم نسف الكوبري محافظة على الذخيرة، حيث إن المعركة في أرض العدو وسوف تتوالى نجداته من المستعمرات المجاورة.

وما إن وصلت المصفحة التي تتسع لأكثر من سبعين من العساكر اليهود إلى الهدف حتى أدار على المفجر الكهربائي، فارتفع صوت انفجار هائل زلزل المنطقة وتصاعدت منه الأتربة وكأنها تصعد من بركان، وما إن انقشع التراب حتى ظهرت المصفحة وقد هوت وسط هذا الوادي السحيق، وفي الحال ألقى الإخوان المكلفون بضب الناقبل، قنابل شديدة الانفجار على المصفحة حتى لا ينجو من ركابها أحد، ثم تلى ذلك نيران مدافع سريعة الطلقات من الشهيد علي صبري.

وقد سر قائد الكتيبة فور إبلاغه لاسلكيا يبدأ المعركة وأرسل فرقة لضربه إحدى المستعمرات لتعطيل خروج أي نجدات منها، أما المستعمرة الثانية فقد أخرجت نجدة إلى أرض المعركة وبدأت في نقل القتلى والجرحى في عربات نقل تحت وابل من نيران الإخوان وهم في خنادقهم لا يراهم أحد، وقد وقع في هذه النجدة العديد من الإصابات.

ثم انسحب الإخوان عندما رأوا عربة جنود تحاول تطويقهم، وشاءت إرادة الله أن تصل فرقة من إخوان بئر سبع بمجرد رؤيتهم لهذه السيارة حاملة الجنود أسرعوا في إطلاق النار عليها فولت هاربة إلى داخل المستعمرة ولم يجرؤ أحد من اليهود على الخروج.

ثم قام الإخوان بجمع السلاح المتخلف عن الأعداء، وقضوا ليلة في حراسة المصفحة التي لم تصب من الضربة لمتانتها حتى حضر الأخ محمود عبده في الصباح ومعه جرار كبير استطاع أن يرفعها لتقف على عجلاتها، ثم تمت قيادتها إلى بئر سبع وسط فرح الأهالي وتكبيرهم.

وقد أذاع راديو الهاجاناه نعيا لهذه المصفحة وجنودها فقد كانت أكبر وأقوى مصفحاتهم على الإطلاق.

ولم يخسر الإخوان إلا شهيدًا واحدًا في المعركة هو الأخ علي صبري الذي دفن في بئر سبع في مشهد رهيب جمع العسكريين والمدنيين.

تحرك الكتيبة من بئر سبع إلى بيت لحم:

في اليوم التالي تحركت الكتيبة من بئر سبع مارة بالخليل حيث كان يعسكر عدد كبير من إخوان الإسكندرية منهم الشهيد يوسف عفيفي الذي استشهد فيما بعد في بئر سبع، ثم واصلت الكتيبة سيرها إلى بيت لحم، حيث عسكرت بجوار مقر قيادة الشهيد أحمد عبد العزيز، وهناك ضربت المدفعية القدس الجديدة ضربًا متواصلا بينما الأخ المجاهد يرتل آيات من كتاب الله في صوت رخيم ويردد معها الله أكبر الله أكبر، ضربت خيبر.

تحرك الكتيبة إلى صور باهر:

في 26 يونيو سنة 1948م تحركت كتيبة الإخوان إلى صور باهر، حيث قرر القائد تحصين المدينة فأعد مشروع دفاع عنها وأسهم الإخوان مع الأهالي في تنفيذه، وكان من بينهم الأخ مالك نار، فأنجزوا حفر الخنادق وإتمام التحصينات في سرعة ملحوظة وبنجاح كبير، ثم عسكر الإخوان في مدرسة صور باهر في انتظار عمل كبير.

احتلال العسلوج

سبق أن جاء على لسان اللواء أحمد علي المواو بك في شهادته أمام المحكمة في قضية السيارة الجيب عن احتلال الإخوان لبلدة العسلوج النص الآتي:

«العسلوج هذه بلد تقع على الطريق الشرقي، استولى عليها اليهود أول يوم في الهدنة، ولهذه البلدة أهمية كبيرة جدًا بالنسبة لخطوط المواصلات، وكانت رئاسة الجيش تهتم كل الاهتمام باسترجاع هذا البلد حتى أن رئيس هيئة أركان الحرب أرسل لي إشارة هامة يقول فيها: لا بد من استرجاع هذه البلدة بالهجوم عليها من كلا الطرفين من الجانبين، فكلفت المرحوم أحمد عبد العزيز بك بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم، وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة، ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دخول القرية والاستيلاء عليها».

ويفصل لنا الأخ يحيى عبد الحليم قائد السرية التي احتلت العسلوج وقائع هذه المعركة في سلسلة الله أكبر الصادرة عن دار الأنصار بالقاهرة تحت عنوان «بطولات إسلامية معاصرة» - من الانتصارات الباهرة لكتائب الإخوان المسلمين في فلسطين سنة 1948 فيقول: «كانت قوات قائد القوات الخفيفة البكباشي أحمد عبد العزيز كلها من متطوعي الإخوان المسلمين، وقد كلفت هذه القوة باحتلال الخط -عسلوج- بئر سبع الخليل لحماية ميمنة الجيش المصري المتمركز على المنطقة الساحلية على الخط -رفح- غزة- أسدود غرب فلسطين ولحماية النقب ومحاصرة اليهود وطردهم من جنوب فلسطين- ولما كانت القوة قليلة العد لا تستطيع حماية هذا الخط الطويل، اضطر القائد أن يترك فصائل صغيرة لحماية القرى المتحكمة في هذا الطريق.. ومن أهمها قرية (عسلوج) التي كانت تشرف على الطريق الرئيسي المرصوف وكان يقوم على قيادة الخط العوجة -عسلوج- الأخ اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف.

وقد ترك الأخ عبد المنعم عبد الرءوف معظم قواته بالعوجة لأنها كانت مركز تموين القوات الخفيفة، وترك قوة صغيرة بقرية العسلوج بقيادة الأخ الشهيد عبد الوهاب البتانوني ومعه جنديان هما الشهيد رشاد محمد زكي، والشهيد محمد حامد ماهر.

وفي أول أيام الهدنة انتهز اليهود فرصة اطمئنان المقاتلين بإعلان الهدنة من ناحية، وقلة عدد جماعة العصلوج من ناحية أخرى، فقرروا الغدر بهم واحتلال العسلوج، وكان الأخوة الثلاثة في مخزن الذخيرة حين دخل اليهود القرية دون مقاومة لاحتلالها، ولما انتبهت حماية القرية وكان ثلاثتهم داخل مخزن الذخيرة إلى دخول اليهود، قرروا أن لا يمكنوهم من اغتنام أسلحتهم وذخائرهم الموجودة بالمخزن، ولو كان ذلك على حساب تقديم أنفسهم شهداء، فاختبئوا خلف كومة من صناديق الذخيرة حتى امتلأ المخزن بجنود العدو المزهو بالنصر، وأشعل الشهداء الثلاثة النار في صناديق المفرقعات في لحظة واحدة فانفجرت انفجارًا هائلاً أحال المخزن إلى كومة من الأنقاض قتل تحتها أغلبية القوة المهاجمة من اليهود، واستشهد الأبطال الثلاثة ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 170].

وقد حاول اليهود التمركز في القرية بعد هذه الكارثة المدمرة التي لحقتهم، فانشأوا مواقع دفاعية فوق المرتفعات المواجهة للقرية وأحاطوها بأسلاك شائكة وبنوا بها عددًا من الدشم حتى صارت موقعًا حصينا لهم فأصبحوا متحكمين مسيطرين على الطريق الرئيسي العوجة- بئر سبع.

ولأهمية موقع القرية وتحكمها في الطريق وقربها من الحدود المصرية -طلب رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصري من القائد العام ضرورة استردادها من اليهود بأي ثمن، وأرسل مساعد مدير العمليات الحربية إلى فلسطين لهذه المهمة، فصدرت الأوامر إلى كتيبة من الجيش المصري بأسلحتها المساعدة مع سرب من سلاح الطيران المصري في 17/ 7/ 1948 لتتحرك لمهاجمة عسلوج والاستيلاء عليها، وأخذ سلاح الطيران في ضرب موقع العدو ثم تلاه سلاح المدفعية، ولما جاء دور المشاة تعذر عليها دخولها.

استنجدت القيادة العامة بقوات المتطوعين، واتصلت بالمرحوم أحمد عبد العزيز لإرسال قوة تقتحم القرية، وتمهد لقوات الجيش احتلالها، واتصل هو بدوره بقائد الإخوان المسلمين الأخ اليوزباشي محمود عبده بموقع «صور باهر» على مشارف القدس.

وقد كلف الأخ اليوزباشي محمود عبده الأخ يحيى عبد الحليم باختيار فصيلة للقيام بهذه المهمة فاختار عشرين أخًا.

وكانت مهمة الاختيار عسيرة وصعبة فالكل والحمد لله على روح متساوية في الإيمان والجميع يبغي الشهادة والجميع يتمثل بقول القائل:

ركضًا إلى الله بغير زاد

إلا التقى وعمل الميعاد

والصبر على الله في الجهاد

وكل زاد عرضة للنفاد

غير التقى والبر والإرشاد

وهكذا وبمجرد أن شعر الإخوان أن هناك مهمة فدائية حتى تسابق وتدافع الجميع واقتحموا مكتب قائد القوة وكل منهم يريد أن ينال شرف الشهادة ويحصل على إحدى الحسنيين، وكان على رأس هؤلاء المطالبين بإلحاح في الاشتراك في هذه العملية الأخ شرف الدين قاسم من إخوان بورسعيد، فدخل مكتب القائد وصرخ بأعلى صوته أنت تحابي وتختار للشهادة غيري!!!.

وما كان القائد ليحكم العاطفة في هذا الموقف وأمره بالعودة إلى مكانه وذكره بحديث رسول الله (ص): «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» فعاد الأخ شرف ليكون عينًا ساهرة في سبيل الله حقًا، ولكن بدموع باكية.

قدمت الفصيلة المجاهدة نفسها يوم 17/7/ 1948 إلى الصاغ حسن فهمي عبد المجيد والملازم خالد فوزي من ضباط الجيش المصري، وقد تطوع الضابطان معها للقيام بهذه المهمة.

ولكن ما إن وصل إلى علم قيادة مدفعية بيت لحم أن قوات الجيش التي كلفت بالاستيلاء على عسلوج قد أحرزت بعض التقدم حتى أصدرت لها الأمر بالعودة إلى مواقعها في «صور باهر» وما كادت تصل إلى الموقع حتى جاءت إشارة عاجلة من القائد أحمد عبد العزيز يستدعيها للقائه، ذلك لأن قوات الجيش تعذر عليها اقتحام القرية.

وعندما التقى الأخ يحيى عبد الحليم بالقائد أحمد عبد العزيز حدثه باهتمام شديد وجاد وشرح له دقائق العملية بالتفصيل، وكان اللقاء مملوءًا بالحماسة والإيمان وكان توجيه القائد أحمد عبد العزيز مملوءًا بالصدق والإخلاص والنصائح القيمة المفيدة والتشجيع بالكلام الطيب مع التوصية بالثبات عند اللقاء وأن النصر مع الصبر.

ركبت الفصيلة السيارات وكلمات القائد تملأ السمع والفؤاد، وانضم إليها الدكتور محمد غراب طبيبب القوة المخلص التقي الطاهر «أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحد».

ولقد تفاءل قائد الفصيلة بوجوده، وبدأ تحركها ليلا، حتى وصلت أرض العسلوج وكانت أرضًا مسطحة مكشوفة ليس بها سواتر، بينما كان العدو مستترًا في دشمة المحصنة، وكان يغطي أرض المعركة التي بينه وبين الأخوة المهاجمين بالنيران المكثفة، وكان على هذه القوة أن تضع خطة سريعة خاطفة لتخطي هذه العقبات دون خسائر.

فقررت التقدم السريع في قفزات سريعة متعرجة، وانبطاح حتى نقترب من الدشم.

اجتمع الأخ يحيى عبد الحليم بأفراد الفصيلة ووزع على كل منهم دوره بدقة، وأفهمه البدائل حين تكون مفاجآت غير منتظرة، والحيز الذي يجب أن يتصرف الأخ فيه حين ينقطع الاتصال بينه وبين قائده القريب.

وظهر بوضوح في هذه الجلسة القصيرة مدى الترابط المتين بين أفراد هذه القوة ودرجة الحب العالية التي تربط بين الأخوة، وحرص الجميع على السمع والطاعة المبصرة، فجاءت الثواني الأولى من المعركة والكل بحمد الله على درجة عالية من الثقة بالله والاتصال به والتوكل عليه.

تكونت المجموعة المتقدمة من يحيى عبد الحليم، وعبد الكريم السيد، وإسماعيل عبد النبي وهذه مجموعة القلب.

كما كانت هناك مجموعة في الميمنة ومجموعة في الميسرة ومجموعة تعزيز من الخلف تتابع التقدم وتراقب بدقة المجموعات الأمامية.

وبعد دقائق بدأت مدفعية الفصيلة تدك مواقع العدو ودشمه، وواصلت الضرب، وتوالى نزول الدانات على الموقع وسكتت المدافع فكان سكوتها هو كلمة السر لبدء الهجوم.

تقدمت مجموعة القلب في سرعة مذهلة وكأنها تتقدم على أجنحة الملائكة، ولسان حالها يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [اطه: 84].

وكان الشعور مرهفًا والحواس يقظة حذرة، فرصاص العدو يتساقط على المهاجمين كالمطر وهم يوجهون قلوبهم إلى الله القائل: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126]. ويجدون في التقدم السريع حتى تسللوا إلى القرية زحفًا لمقابلة الذين كفروا تحت وابل من النيران ودانات مدافع الهاون التي تتساقط بجوارهم.

وما إن اقتربت مجموعة القلب من العدو بحيث لا تؤثر نيرانه عليها إذا بالأخ محمد إسماعيل عبد النبي يهاجم على الموقع، بينما يقف الأخ يحيى عبد الحليم والأخ عبد الكريم السيد يراقبان الموقف حتى أنهى الأخ عبد النبي تطهير الموقع ودخل الجميع الدشمة فوجدوا فيها ثلاث جثث لليهود.

ومن هذه الدشمة التي اعتبرت نقطة تقدم تقدمت باقي المجموعات وتم بحمد الله استرداد قرية العسلوج في سرعة خاطفة حيث فر اليهود منها تاركين وراءهم سيارات ومعدات وأسلحة كثيرة وعددًا كبيرًا من صناديق الذخيرة، واحتموا وتحصنوا بالتبة المشرفة على الطريق الرئيسي في انتظار وصول قوة كبيرة يبدأون بها استعادة القرية وإجلاء المتطوعين.

أما المتطوعون فقد كان تفكيرهم منصب على القضاء على الدشمة التي لا تزال تواصل ضرب النار، فقررت مجموعة القلب الهجوم عليها مجتازة مساحة تزيد على خمسمائة مترًا من أرض مكشوفة مغمورة بالنيران المكثفة، ويكون وراءها طقم مدفع 6 رطل يضرب بصفة مستمرة أثناء تقدم المجموعات.

وقد أحدث نزول الدانات على الموقع ارتباكًا وذعرًا في نفوس العدو وخصوصًا وهم يشعرون أنه لم يبق غير هذه الدشمة من دشمهم، التي أسكتت جميعًا، بينما ازدادت القوة المهاجمة جراءة وجسارة وعزمًا ثابتًا على بلوغ الهدف.

واصلت مجموعات الهجوم التقدم تتقدمهم مجموعة القلب وقطعوا نصف المسافة أو يزيد في قفزات سريعة وزحف مستمر، برغم وابل الرصاص المنطلق من الرشاشات السريعة الطلقات حتى إذا كان بين مجموعة القلب وبين العدو حوالي سبعين مترًا وتوقفت نيران مدفعية الهجوم وسكنت أيضا نيران العدو وتقدم الأخ إسماعيل عبد النبي، ولكن ما إن تحرك حتى انطلقت في اتجاهه دفعة هائلة من الطلقات المتتابعة فأشار إليه يحيى أن يتوقف تمامًا كما أشار أيضًا إلى عبد الكريم بالسكون التام وعدم الحركة، وبعد هنيهة تقدم يحيى إلى الأمام في سرعة فائقة وصمت تام، وإذا بالنيران تفتح بغزارة وبسرعة نحوه فيصيب إحداها ساقه اليسرى مخترقة عظمة الركبة من الأمام، نافذة من عظمه الساق وعظمة الفخذ، أعجزته عن مواصلة التقدم فأشار إلى إسماعيل عبد النبي بأن ذخيرة اليهود قد نفذت وآخرها هو ما أصابه، ولابد من الهجوم والاقتحام في حذر شديد وجراءة فائقة وجسارة لا تعرف التردد، فتقدم الأخ إسماعيل ومعه الأخ عبد الكريم ومن وراءهم مجموعة الميمنة وظلت مجموعة الميسرى تترقب، حتى إذا أصبح إسماعيل أمام الدشمة قفز عليها وانتظره عبد الكريم بالخارج، حتى ناداه إسماعيل فقاما بتطهير الدشمة والقضاء على المقاومة الأخيرة، وقتل جميع من بقى فيها، ثم تابعوا الفارين بالطلقات النارية وتم تأمين الاستيلاء على القرية.

وعندما حمل المجاهدون قائدهم المصاب في ساقه على نقاله تحققت آية مذهلة من آيات رعاية الله للصادقين، فقد هاجمتهم طائرات إسرائيلية انخفضت إلى ارتفاع قريب وكانت ثلاث طائرات، توالى إطلاق النار من مدفعيتها السريعة الطلقات تجاه النقالة، فأسرع حملة النقالة بالاختباء في مخبأ قريب ولم يصب أحد منهم بسوء، أما النقالة فقد اخترق الرصاص المنصب عليها وكأنه منصب من أفواه القرب معظم قماشها، ولكن المصاب الراقد فوقها لم يصبه سوء، وكأن أيدي الملائكة كانت تدفع الرصاص المتساقط ليتحول بعيدًا عن الجسد الجريح إلى الحواف في إعجاز مذهل.

وقد تمكن الأخوة المسيطرون على باقي الدشم المحتلة من إطلاق مدافعهم الرشاشة في اتجاه الطائرات الثلاث ووالوا الضرب حتى فرت جميعًا واكتمل النصر ودوى في الفضاء آذان المؤذن الأخ مصطفى المبلط الذي اعتلى المأذنه وأشرقت القلوب بسماع صوته يجلجل الله أكبر الله أكبر، وكان هذا الأذان إيذانًا لقوات الجيش المصري بالاندفاع إلى القرية مهللين ومكبرين وهتفت الجموع كلها في بشر وسرور الله أكبر سقطت عسلوج.

وقام قواد الفصائل من الجيش بتنظيم حراسة شديدة خشية المفاجأة فوضعوا في كل دشمة وكل موقع قوة كبيرة، وأحاطوا القرية بعيون حارسة وبقلوب مؤمنة، وفي الجانب الآخر كان هم جنود العدو الهرب حفاظًا على الحياة وطلبًا للنجاة حيث أصيبوا بحالة ذعر فكانوا ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 50، 51].

وقفة لازمة عقب هذا الوصف الواقعي للمعركة:

1- لقد شاهدنا ثلاثة رجال من المسلمين تفاجئهم قوة الأعداء داخل مخزن ذخيرتهم الأمر الذي يجعل المقاومة مستحيلة، ومع ذلك لا يرتضون الاستسلام للعدو ويصممون على أن يضحوا بأنفسهم في سبيل إلحاق خسارة فادحة بالعدو، فينسفون المعسكر بما فيه، ليقضوا على كل قوة العدو دفعة واحدة، ولا يسمحوا له بغنيمة جزء من مال المسلمين وحسبهم أنهم في الجنة وعدوهم في النار.

إن التفكير في هذه الحقيقة التاريخية لجدير أن يجسد مدى التغيير الذي تضفيه العقيدة الإسلامية على المسلم عملا لا قولا.

إننا عندما كنا نقرأ عن الفرق الانتحارية اليابانية ونحن صغار، كنا نعجب أشد العجب من هذا الجندي الياباني الذي يتطوع لقيادة طوربيد متفجر في عرض البحر ليصطدم بسفينة من السفن الأمريكية فيغرقها بمن فيها ويغرق معها، وكنا نعتبر مثل هذه الروح الفدائية خرافة لا يقدر عليها إلا اليابانيون، لاعتقادهم أن أرواحهم تنسخ في أجساد أخرى، وتترقى إلى درجات أعلى بعد أن تعود إلى الحياة في الأجساد الجديدة.

وها نحن نعيش حتى نرى المسلمين الذي تمكنت العقيدة في نفوسهم، وتأكدوا من صدق ربهم الذي وعد الشهداء بالجنة، فصار الموت أحب لهم من الحياة، وقد يكون انتصار فرد واحد على دواعي الضعف البشري، فيقدم على تفجير نفسه مع أعدائه راكضًا إلى الجنة وهم إلى النار، أمرًا مشهودًا، أما أن يتفق ثلاثة في وقت واحد ولا يختلفون، ويشعلون المتفجرات بأيديهم في لحظة واحدة لينفجروا ويفجروا أعداءهم، فذلك لا يمكن أن يتأتى إلا لمن يرى الجنة رأى العين فيعبر الدنيا سعيدًا بدخول الجنة دون تردد أو وجل.

2- إن عشرين رجلا من المؤمنين قد أنجزوا عملا عجزت كتيبة بأسرها ومعها مساعد مدير العمليات بالجيش المصري أن تعمله، على الرغم من مساعدة أسلحة الطيران والمدفعية.

وإن المتفكر في هذه الظاهرة ليدرك أن التمسك بالعقيدة الإسلامية علمًا وعملا، وتنشئة الأمة على مبادئها، هو الضمان الأكيد للبقاء على كيان الأمة وعزها ومجدها، وأن كل ما عدا ذلك هزل لا خير فيه.

وأن ما قرأنا عن الفتوحات الإسلامية التي قام بها جند من وسط الصحراء ضعاف البنية، قليلو العدة، أمام أباطرة الفرس والرومان، ليست قاصرة على ذلك العهد الذي اقتصرت فيه الحروب على الفرس بالسيف، ولكنها سنة ماضية في كل زمان ومكان، فنحن نرى أثنى عشر رجلا يتقدمون في أرض منبسطة وسط سيل النيران المنهمر ليحتلوا موقعًا محصنًا بالدشم ومزودا بأفتك الأسلحة وأمضاها، ويحققون في هذا الزمان المعجزة التي حققها آباؤهم، بل أكبر وما من جديد إلا أنهم شربوا كأس الإيمان صافيًا راقراقًا، كما شربه أجدادهم، فصاروا فرسانًا بالليل ورهبانًا بالنهار، وجرت الحكمة على أفواههم، فصاروا عباقرة الفلسفة في الحكم والعدل والسياسة والسلم والحرب، تتلمذ عليهم الأجيال إلى اليوم.

3- إن الجريح المسلم وقد اخترق الرصاص ساقه وفخذه مارًا بالركبة لم يتخلف، بل استمر يقود المعركة حتى انتصر، رغم إصابته، ولا غرو، فقد جعل قدوته خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح، والمثنى بن حارثة، وسعد ابن أبي وقاص، وغيرهم من قادة المسلمين وجنودهم البواسل.

وما عبور الفرات بالخيل لمواجهة العدو ثم مهاجمة الفيل بالسيف إلا نوع من أنواع الفداء الذي يقترب مما نراه اليوم من هجوم على النيران المشتعلة والدشم الحصينة دون تردد أو خوف، بل باندفاع وإصرار.

4- إن النصر بيد الله ومن الله، وإن المسلمين لا يكلفون إلا بإعداد ما يستطيعون من عدة ثم عليهم أن يواجهوا بها أعداءهم مهما أوتوا من قوة وما داموا يتسلحون بالإيمان العميق واثقين بأنهم لن ينالوا إلا إحدى الحسنيين النصر أو الجنة فسوف ينصرهم الله أو يدخلهم الجنة.

وها قد رأينا جريحًا على نقالة مستهدفًا من ثلاث طائرات برشاشاتها ليس معه إلا الله، فقد اختفى إخوانه في جحور للحماية من وابل الرشاشات السريعة الطلقات المنهالة على موقع الجريح كالمطر، ولكن جند الله الذين لا نراهم بالأعين أبعدوا كل هذا الرصاص عن جثمان الجريح، فلم يصب بأذى بينما تهتك قماش النقالة من حوله في كل أجزائه، فلم يبق فيه مكان لثقب جديد.

درس عملي لرجال الأمة الإسلامية وقادتها ليعلموا كم هي الخسارة التي تفقدها الأمة بالبعد عن اتخاذ الإسلام الحنيف شرعة ومنهاجًا، إنهم لا يخسرون الدنيا فقط، بل يخسرون أيضًا يد الله الحانية على عباده المخلصين.

احتلال التبة 86

لقد جاء ذكر احتلال التبة 86 في شهادة اللواء أحمد فؤاد صادق باشا الذي خلف اللواءأحمد علي المواوي في قيادة حملة فلسطين، أمام المحكمة في قضية السيارة الجيب حيث قال سعادته بالنص واصفًا الأعمال البطولية للإخوان المسلمين أمام المحكمة:

«نعم سمعت بعد وصولي لرئاسة القوات من قلم المخابرات العسكرية أن اليهود يبحثون دائما عن مواقع الإخوان لتجنبوها في هجومهم، فجثت عن حالتهم الفنية، وأمرت بتمرينهم أسوة بالجنود ودخلوا مدارس التدريب، وأصبح يمكن الاعتماد عليهم في كثير من الأحوال التي تستدعي بطولة خاصة، مثلا أرسلتهم من دير البلح إلى ما يقرب من 100 كيلو إلى الجنوب لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش فاستبسلوا وأدوا واجبهم تمامًا- واشتركوا أيضا في الدفاع عن الموقع 86 في دير البلح وأعطيتهم واجبًا من الواجبات الخطيرة، فكانوا في كل مرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن أكتب لرياسة مصر أطلب لهم مكافأة بنياشين».

لا تدهش أيها القارئ العزيز وأنت تسمع القائد العام لحملة فلسطين بعد أن أقسم اليمين وهو يشهد في المحكمة التي تحاكم الإخوان المسلمين باسم الدولة التي نصبته قائدًا عامًا للجيش وهو يقول في ثلاثة أسطر إن:

1- الإخوان كلفوا من قبله لملاقاة الهجوم الإسرائيلي على العريش، فتحركوا إلى أرض المعركة التي تبعد عنهم مائة كيلو واستبسلوا وأدوا واجبهم تماما.

2- إنهم اشتركوا في الدفاع عن الموقع 86 في دير البلح.

3- إنهم كانوا في كل مرة يعطيهم واجبًا من الواجبات الخطيرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن يكتب لرياسة مصر يطلب لهم مكافأة بنياشين، وإني أدعوك لتسمع رواية القائد التفصيلية لاشتراك الإخوان في احتلال الموقع 86 في منطقة دير البلح، كما جاءت على لسانه متحدثًا إلى سماحة مفتي فلسطين الذي كلف الكاتب الفلسطيني محمد علي قطب تنشرها ضمن سلسلة الله أكبر «بطولات معاصرة» التي تنشرها دار الأنصار تحت عنوان «التبة 86- الصاغ محمود عبده وإخوانه- قمة في الفدائية- قمة في التجرد والعطاء» قال اللواء فؤاد صادق باشا: تسلمت قيادة الجبهة والجيش المصري في أسوأ حالاته الدفاعية، من حيث خطوط المواجهة الممزقة، ومن حيث إمكانيات السلاح الضعيفة والذخيرة الفاسدة، ومن حيث حصار بعض شراذمة في «الفالوجة» وغيرها.

ولقد حملت عبئا ووزرًا، عبئا ثقيلا تنوء به الجبال الرواسي، ووزرًا شائنا يصبح وصمة في تاريخ حياتي العسكرية.

وكان عليَّ أن أحلل مع أركان حربي كل الموقف وأدرس كل الاحتمالات، فأغير من الخطة وفق ما يتناسب مع قدراتي العددية، ووفق ما تتطلبه المفاجآت التي تحدث بين ساعة وساعة، ولقد قضيت ليلتين متواصلتين مع أعواني وإخواني من الضباط ندرس الموقف بدقة متناهية فلا نغادر جزئية ولو بسيطة حتى نشبعها بحثًا وتمحيصًا، وبناء على ما حصلنا عليه من نتائج وضعنا الخطة الجديدة ووسائل العمل والتنفيذ، وحددنا تواريخ البدء.

هجوم يهودي مفاجئ واحتلالهم للتبة 86:

وعند الساعة الثانية ليلا من فجر أحد الأيام دوى انفجار شديد، تبعثه أصوات القذائف والرشاشات، وكنت لا أزال مستيقظًا في خيتمي، مستلقيًا على سريري لا يعرف النوم سبيله إلى جفني، فقمت من فراشي مسرعًا، وما إن بلغت وسط الخيمة حتى دخل أحد الضباط يخبرني بأن هجوما تشنه العصابات الصهيونية على أحد مواقعنا.

فخرجت مهرولا وأعطيت أوامري بالتأهب والمواجهة، وحاولنا الاتصال بالموقع فلم نفلح، كما حاولنا إرسال مدد فارتد على أعقابه لشدة المقاومة وكثافة النيران.

ثم أعطيت أوامر جديدة بتعزيز دفاعاتنا خشية أن نكون هدفا ثانيا، كما درست مع أركان حربي وضع خطة هجوم معاكس.

ولبثنا ننتظر ما تسفر عنه الساعات القادمة من أحداث.

وبعد أربع ساعات من دوي المدافع وانفجار القذائف وأزيز الرصاص، خفت الأصوات تدريجيًا وبدأت طلائع الجرحى القادمين من القادرين على الهرب رغم جروحهم تصل إلينا، فبادرناها بالإسعافات الممكنة، نقلنا أصحاب الإصابات الشديدة إلى مستشفى الميدان وتلقينا نبأ سقوط الموقع بألم ومرارة وخيبة أمل.

ولم يكن بد من استرجاع الموقع.. مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات لأسباب أهمها:

(1) القيمة الإستراتيجية لذلك الموقع إذ يقع على مرتفع عال يعرف بالتبة 86، ويتوسط خطوط مواصلاتنا التي نعتمد عليها في تحركاتنا وإمدادتنا.

(2) ولأنني لن أسمح شخصيًا -للمتآمرين هناك في القاهرة- أن يجعلوا من شباب مصر البررة ثمنًا بخسًا لخياناتهم، أو أن يتاجروا بأرواحهم على مذبح شهواتهم ومطامعهم، أو أن أكون مع إخواني ضباط الجيش، صاحب المجد التاريخي، أضحوكة أو ألعوبة أو ملهاة.

أول ومحاولة لاسترداد التبة بقوات الجيش المصري وفشلها بسبب الأسلحة الفاسدة:

اجتمعت بأركان حربي، ودرست معهم طبيعة الموقع، التبة (86)، ومنافذها الضعيفة، وعدد الجنود اللازم، والآليات، وكل ما يمكن أن يحقق الهدف، وأزمعت أمري أن يكون التنفيذ أي ساعة الصفر، منتصف الليلة التالية، حيث يفاجأ العدو ولا يزال في نشوة النصر، منصرفا لأخذ قسط من الراحة، وحيث لا يزال ضعيف التحصينات لم يتمركز بعد، وعهدت إلى أكفأ ضباطي بتنفيذ العملية.

ومع انطباق عقربي الساعة على الثانية عشر ليلا كانت فوهات المدافع تنطلق قريبًا أو تنفجر في الهواء، أو تفجر المدفع وطاقمه، وتتبعثر الأشلاء من حوله، وتصعد الأرواح الطاهرة إلى باريها شاكية غدر الغادرين، وعبث اللاهين، وتفاهة الخائنين.

وردت العصابات الصهيونية بنيران غزيرة محكمة التصويب، فأوقعت في صفوف جنودي إصابات متعددة وبالغة، وامتلأ الميدان بالجثث، ولولا أن الله سبحانه وتعالى ألهم قائد العملية بالانسحاب لأبيدت الفرقة المهاجمة عن بكرة أبيها دون أن تحقق ولو جزءًا يسيرًا من مهمتها.

عادت الفرقة محطمة مهشمة، فروى لي الضابط الجريح ما لقيه مع إخوانه الجنود من عنت ومشقة، وحكى لي التفاصيل، فتألمت وأسقط في يدي، ورحت أدور في الخيمة الكبيرة بين أسرة الجرحى مواسيًا ومخففًا عنهم ما أصابهم، مشددًا من عزائمهم.

ثم خلوت إلى نفسي في خيمة القيادة أ

زرع أرضها بخطوات متثاقلة تارة، أو أجلس متهالكا على كرسي المكتب ذو الإضاءة الخفيفة، سارحا بفكري وخيالي نحو أرض الوطن، متصورًا مفاسد الفاسدين، وعبث العابثين، وسخرية الساخرين، واستهتار المسئولين، أتصورهم في لهوهم وفجورهم، وصفقات خياناتهم، وأقارن بين هذا الفساد وبين ما نحن فيه من مكابدة للشدائد ومقارعة للموت، ثم أهب واقفًا مذعورًا كمن لدغته عقرب.

ومع الهزيع الأخير من الليل الطويل، ليل الألم والمرارة واليأس، انتفضت في كياني عزيمة الجندي المصري الأبي، فقررت أن أنتصر مهما كان الثمن، انتصر على الخيانة، وأنتصر على اليأس وانتصر على العدو.

وطلبت إلى الجندي الحارس على باب الخيمة أن يأتيني فورا بالضابط «أحمد» وعلى جناح السرعة.

كان هذا الضابط يتمتع بكفاءات عالية وميزات خاصة، فيه الإقدام والشجاعة والخبرة القتالية الواسعة، مغامرًا ذكيًا حذرًا.

وما هي إلا لحظات حتى كان الضابط أمامي يقرع الأرض بقدميه ويؤدي التحية العسكرية، قامة مديدة.. وعينان حادتان كعيني الصقر، تشعان بالعزيمة والسحر النفاذ.

وضعت يدي على كتفه، ثم تأبطت ذراعه، ورحنا نمشي في أرض الخيمة، وحدثته حديث القلب المفتوح، وبحت له بكل ما يخالج نفسي عن الوطن.. وعن القيادة السياسية الفاسدة، وعن الجيش، كنت أتكلم وهو صامت لا يحير جوابًا غير الجواب المألوف (تمام يا فندم)، يقولها وصرير أسنانه يسبق ألفاظه، وأخيرًا، وبعد أن شحنت نفسه وقلبه بما أفرغته من ذاتي وكياني ولم يكن بحاجة إلى ذلك، طلبت إليه أن يقوم بإعادة الهجوم على التبة (86) لاستعادة الموقع.

مبينًا له الأهمية القصوى والحاجة الماسة.

وقلت ذراعه من ذراعي، والتفت إلي وهو في مقابلتي مؤديا التحية، ثم قال -حاضر يا فندم.. ولكن لي رجاء.. فقلت وما هو؟

أن تمهلني اليوم لأجري اختبارا على ما بين يدي من عتاد وسلاح وذخيرة ومدى صلاحيتها كي لا ترتد على جنودي بالقتل والدمار، ثم انصرف إلى إعداد الخطة اللازمة، ثم أعرضها على سيادتكم.

قلت: لقد سبقتني يا «أحمد» إلى ما كان يجول في صدري.

إنني أريد للعملية أن تنجح ولابد للنجاح من إعداد أسبابه، وتوفر عناصره، وأن نقطة دم واحدة من جندي أغلى من كل ما على الأرض.

هيا توكل على الله وإنني بانتظارك.

كان ذلك اليوم طويلا مملا، شعرت بساعاته، متباطئة متماهلة، كنت أستحث عقارب ساعتي فلا تستجيب لي، وهي الصَّمَّاءُ الجامدة، ومع الأصيل دخل علي «أحمد» فخفق قلبي لرؤية ابتسامته المشرقة، وأشرق الأمل في نفسي بعد طول ظلام، كان يعلو ثغره طيف ابتسامة، ويظهر في محياه بريق العزم، فجلسنا حول المنضدة التي بسط فوقها لفافة كانت في يده، إنها خريطة متصلة لكل أبعاد العمل وجزئياته، إنها المهمة الأمل.. وبعد المناقشة وقفت ووقف، ثم شددت على يده مصافحًا، فأحسست بحرارة دمه الذي يفور من جسمه إلى درجة الغليان، وجرت من عيني دمعة لم أستطع مغالبتها وقلت بصوت متهدج على بركة الله.

كانت عصابات اليهود قد أقامت تحصيناتها في (التبة 86)، وتشكيلات دفاعها مستفيدة من عامل الزمن، بين احتلال الموقع والهجوم الفاشل الذي قمنا به لاستعادته.

المحاولة الثانية لاسترداد التبة بقوات الجيش المصري وفشلها لوقوع المهاجمين في كمين:

وانطلقت فرقة القائد «أحمد» الضابط المغامر المقدام لتؤدي مهمتها فودعته بيد حانية وعين رانية ونفس آملة مؤملة..

وعدت إلى خيمة العمليات، وحاولت الجلوس قريبًا من ضابط اللاسلكي، ولكني وقفت فجأة، وبدأت أزرع المكان جيئة وذهابًا، كان شعوري يتأرجح بين الثقة والقلق، ويهتز كرقاص الساعة يمنة ويسرة، أرجو النصر وأطلبه، وأخشى الفشل.

إنني أعرف «أحمد» تمام المعرفة، وأثق به كل الثقة، لكن التجربة الهجومية السابقة لا تزال ماثلة في ذهني بكل أبعادها المأساوية، وأيضا فإن الموقف مرهبون بالمفاجآت، والعدو الصهيوني غدار لئيم ماكر.. كل هذا كان يبعث القلق في نفسي.

استمر الاتصال اللاسلكي بيننا واضحا دون تشويش، حتى كان بدء الهجوم وانفجار الموقف، فغطى دوي المدافع وصوت القذائف على الوضوح، ولكنه لم ينقطع، وبعد مضي زمن يسير بدأت أنباء التقدم ونجاح الهجوم تعيد الثقة الكاملة إلى قلبي والطمأنينة إلى نفسي ويزول من خاطري شبح القلق الرهيب.

فجلست وأخذت أتابع تطورات العملية.. وفجأة تغير كل شيء.

انقطع الاتصال.. وطغى عليه صوت المعركة، وتطايرت القذائف تلهب السماء والأرض بنيرانها، سيارات الإسعاف تنقل الجرحى والقتلى.. يا للفشل الرهيب ولفظ الضابط «أحمد» أنفاسه الأخيرة بين يدي.. على سرير المستشفى الميداني، وقد تشوه وجهه،وانفصلت ذراعه اليمنى عن جسده.

لماذا فشلنا؟؟

كان هذا هو السؤال الذي ركزت عليه..فأجابني الناجون: لقد استدرجنا فوقعنا في كمين وضاع الأمل!!.

الإيمان العميق بالله يقود القائد العام إلى طريق النصر -الاعتماد على الإخوان المسلمين لأنهم على عقيدة الحق:

ولكن الأمل مع الإيمان الصادق والعزم الثابت لا يضيع: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].

تذكرت الآية الكريمة بعد ساعات من الحزن الشديد، تذكرتها قبل صلاة الفجر مع الليلة التالية، ففي تلك الليلة لم أعرف النوم، قضيت ساعاتها الطوال في وصل النفس بالله عز وجل، وشعرت بالهدوء ينساب إلى قلبي بارقة أمل ونسمة إيمان واطمئنان.

وساقتني قدماي إلى باب الخيمة، كان الظلام دامسًا، والليل حالكًا ونظرت إلى السماء وقد غطت وجهها سحب داكنة كثيفة، وصدقني فيما أرويه لك لقد رأيت انفراجًا في الأفق وأحرنا نورانية تسطر ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾.

ومضيت خارجا من الخيمة أجوب أنحاء المعسكر، وحديثي مع نفسي هو الحديث الطاغي قالت لي: لقد أخطأتم السبيل فلم تبلغوا الهدف.

قلت: وكيف؟ قالت: إن الغاية الحقة هي النصر أو الشهادة والسبيل هو الجهاد، أو لستم مسلمين؟

قلت: بلى ولكن!!!

فقالت مقاطعة: لا تجادلني على غير طائل.. فالمسلم الحق عبر التاريخ لم ينهزم أبدًا، كلما كان في ساحة الشرف أو ميدان الحروب والمعارك موصولا بالله تعالى، فهو يستمد منه القوى والنصر، ولن يخذله ربه أبدا.

المسلم الحق كان يردد شعاره العظيم «الله أكبر» فيدوي كالرعد القاصف، فيخلع معه قلوب الأعداء هلعا ورعبًا، ألم تقرأوا تاريخكم؟؟ أم أنكم ترونه للتسلية والتغني بالأمجاد.

إن هذا التاريخ حقيقة ماثلة وليس أسطورة أو خرافة، لقد اختلطت عليكم أساطير الأولين من غير طينتكم مع ما سطره أبطالكم من أمجاد، فضعتم، ولم تعودوا تميزون بين الحقائق والأوهام، لقد أصبتم بعمى البصر والبصيرة.

لقد تنكرتم لوجودكم ومكانتكم بين الأمم، تنكرتم لإسلامكم، وأعرضتم عن ذكر ربكم وذكرتم أربابكم من دون الله.. والله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه: 124- 126].

ثم قالت: اسمع يا فؤاد، واعلم أنك في امتحان عسير مع الله فإن أتيته ماشيًا بالرجاء هرول إليك بالنصر، ولا تبتغ غير ذلك سبيلا.

فقلت: حقا ما تقولين، ولكني لا أملك إلا نفسي.

فأجابت ساخرة: بل تملك نفسك وإخوانا لك ما جاءوا إلى فلسطين إلا رغبة في الله، لا طمعا بأرض أو مال أو جاه، أعرضوا عن الدنيا ابتغاء الآخرة، فماذا كان جزاؤهم؟ غدر بهم وعطلوا عن الجهاد بأمر من الاستعمار وأعوانه وزجوا في غياهب السجون والمعتقلات، هؤلاء سيشد الله بهم عضدك.

واستيقظت من حديث نفسي على طلب منها خطير.

أأفرج عن أناس مسجونين جاء الأمر بحبسهم من القاهرة؟

أأخالف أوامر السلطة؟ وأعرض نفسي للعقوبة؟ وما أدراك ما تكون؟

وماذا لو فر هؤلاء؟ وماذا لو وجهوا سلاحهم نحو صدور إخوانهم الجنود؟ أية فتنة تكون؟ وأيضا هل سيقبلون بتنفيذ المهمة؟ كلا كلا لن يكون هذا.

كنت قد بلغت أقصى طرف المعسكر حيث يوجد المعتقل الذي يضم خيرة من شباب مصر، ولا أدري حتى الساعة تفسيرًا لما كنت فيه، كيف ساقني القدر إلى ذلك المكان؟ لا أدري.

ثم قلت لنفسي وقد استبدت بي نزعة الإيمان.

- نعم أيتها النفس الكبيرة سوف أفرج عنهم ولو كان أمر اعتقالهم قد جاء من القاهرة، فهو ظلم وزور وبهتان.. نعم سأخالف أوامر السلطة فلا سلطان إلا للحق، ولن أخشى العقوبة، فعقوبة العبيد أيسر بكثير من عقاب رب العبيد، وإني لعلى ثقة كبيرة بأنهم لن يوجهوا سلاحهم نحو إخوانهم لأنهم «مسلمون» والمسلم أخو المسلم، ولن يفروا في طلب الحياة لأنهم جاءوا من أجل الموت.. ولن تكون فتنة بل سيكون النصر المؤزر بإذن الله.

وأما قبولهم بالتنفيذ فهو امتحان لشعارهم القائل: الموت في سبيل الله أسمى أمانينا.

وكنت أعرف من بين المعتقلين اليوزباشي «محمود عبده» ذلك الشاب الذي استقال من الجيش والتحق بكتائب الشباب المؤمن، وانضم إلى صفوف المتطوعين مدربًا ومجاهدًا ولقد قام على رأس مجموعته الفدائية بأعمال باهرة مجيدة، لا تزال ذرات تراب الأرض المقدسة تحتضن فصولها بحنان وشوق.

لقد كان هذا الشاب من خيرة الكفاءات التي يزخر بها جيشنا ويفخر، جيشنا الذي لم تعط له الفرصة الصادقة، أو تهيأ له أسباب الغلبة والانتصار، وإبراز الكفاءات، اللهم إلا أن يكون حارسًا للملك وأعوانه والطاغية وزبانيته، يتحكم في إدارته الكبرى والعليا «السير والبريجادير» «والميجر» وغيرهم.

ولقد عانى الضباط الوطنيون المؤمنون بربهم وبلدهم كثيرًا من جراء الفساد والتسلط والتخلص، التي كانت هي العناوين البارزة لجيشنا المسكين، فانتفضوا انتفاضات مختلفة متباينة، بعضها فردي وبعضها جماعي، لكنها جميعها في منطلقها وأغراضها كانت تعبر عن روح وطنية صادقة، لم تؤد حتى اليوم غرضها المنشود وغايتها السامية.

(محمود عبده) كان واحدًا من هؤلاء، ولكنه كان مع روحه الربانية الوثابة كفاءة قتالية قليلة النظير، وخصوصًا في حرب العصابات، فجمع المجد العسكري من طرفيه.

وكنت قد توصلت إلى قناعة تامة بأن النجاح في استعادة الموقع الاستراتيجي الهام (التبة 86) لا بد وأن يعتمد تكتيكيا على حرب العصابات، فهي التي تجدي وحدها وتنتج خصوصا بعد التجربتين الفاشلتين اللتين قمنا بهما من قبل.

ورافقني الضابط المسئول عن المعتقل إلى غرفة اليوزباشي محمود عبده، فدخلتها وطلبت من الضابط أن ينصرف ويتركني، فإن لي حديثًا خاصا مع السجين.

كانت الغرفة أشبه بالتخشيبة ضوءها خافت، رطبة باردة ضيقة، وفوجئ اليوزباشي محمود عبده بدخولي عليه، فهب واقفا يؤدي التحية العسكرية، فقد كان بيني وبينه رفقة وصحبة.

جلست على المقعد الخشبي وجلس هو إلى جانبي، ودار بيننا حديث مرير، وحوار أشد مرارة، أحداث وذكريات وشؤون وشجون.

وكنت خلال ذلك أركز عن قصد على فدائية الشباب المسلم المؤمن الذي لا يبتغي أجر الحياة الدنيا بل يقصد بعمله وجه الله وحده، صور من فصول التاريخ القريب والبعيد، تلهب حماس الإنسان تزيده طلبًا لما عند الله واستمساكًا بالشهادة في سبيل الله.

بعد هذا التمهيد طلبت إلى (محمود عبده) أن يحمل هو وإخوانه عن الجيش المصري مسئولية استعادة الموقع (التبة 86)، فقد وقع اختياري عليهم ثقة مني بهم وبمقدرتهم.

إنه طلب في غير محله، يجافي المنطق والحق، بكل أبعاده ومنطلقاته بمعانيه وأغراضه، كيف أطلب إلى سجين معتقل ظلما وعدوانا أن يقوم عني بمهمة هي صميم مسئوليتي؟ ماذا تكون نفسيته؟ وأي صدى سوف يجاوب في أعماقها؟ قطعًا هو مفاجأة غير معقولة أو مقبولة.

ولقد كان غريبًا حقا أن لا يفاجأ جليسي بما طلبت وقلت، وفوجئت أنا.. فوجئت بالموافقة السريعة غير المشروطة.

فانتصبت واقفا مادًا يدي إلى يد اليوزباشي (محمود عبده) مصافحًا وعيناي تغشاهما الدموع.. وقبلت الرجل بين جبينه ثم قلت إلى اللقاء غدا لكي تعد للأمر عدته، فأجاب إلى اللقاء.

وعدت إلى خيمتي، فاستلقيت على سريري ونمت نوما عميقًا.

كانت الشمس بنورها الساطع قد بددت الغيوم وأشرق علينا يوم جديد غيره بالأمس فقد كان يوم البارحة ممطرًا كثيف السحب ليس من فرق بعيد بينه وبين الليل.

ثم استيقظت على صوت الضابط المرافق ينبهني إلى حلول وقت الظهر فقمت مرتاحًا نشطًا، متحفزًا للعمل. سويت من هندامي سريعًا وغدوت إلى غايتي.

الإخوان يخططون لاستعادة التبة ويحققون النصر بعون الله تعالى:

كان اليوزباشي (محمود عبده) بانتظاري مع أربعة من إخوانه في غرفة حراسة المعتقل وحين دخلت خرج الضابط الحارس، وخلونا إلى بعض.

عرفني اليوزباشي محمود عبده بالأخوة (م. س، ا، اء. ن. ع، ع. ف) على أنهم قادة فصائل الفرقة التي ستقوم بالمهمة، كانت عيونهم تشع بنور الأمل، وكلماتهم تنبئ العزم الصادق وتوحي بالنصر المؤكد، ومحورهم في ذلك كله إيمان راسخ لو وزن بالجبال الرواسي لرجح عليها.

بسطت أمامهم خريطة الموقع بتفاصيلها الدقيقة وعرضت معهم خطتي الهجوم السابقتين، وتناقشنا في أسباب فشلهما، ودرسنا كل ما يتعلق بالأمر بالتفصيل. ولم أحاول أن أتدخل في رسم الخطة الجديدة، بل تركت الأمر لأصحاب الشأن، ولكنني سألت عن عدد أفراد الفرقة التي ستؤدي المهمة وما هي أسماؤهم كي أعطي الأوامر اللازمة لإطلاق سراحهم وتحديد أماكن تواجدهم.

فقال محمود عبده 150 وهذه هي الأسماء.

وأخرج قصاصة عليها الأسماء مدونة وقدمها لي فتناولتها، ناديت على الضابط الحارس وبلغته أوامري، ثم قلت لليوزباشي محمود عبده:

- كم تريدون من أنواع السلاح وكمية الذخيرة ووسائل النقل؟ فنظر إلي نظرة ما عرفتها وما تعودتها من قبل في عينيه، امتزج فيها الألم المرير بالسخرية الحادة، ثم قال:

لا نريد من السلاح يا سعادة الباشا سوى ما صودر منا، نريد فقط سلاحنا وذخيرتنا التي دفعنا ثمنها من أموالنا الخاصة، من دمنا وعرقنا ودموعنا، استعدادًا لمثل هذا اليوم.

هذا هو السلاح الذي نريد.

ازداد إعجابي باليوزباشي (محمود عبده) وإكباري لأمثاله من الأحرار الأبرار، ذوي البطولة، واستصغاري واحتقاري للذين يخشونهم ويرهبونهم.

وخرجت مع اليوزباشي محمود عبده وإخوانه الأربعة، إلى حيث مخازن السلاح والذخيرة ليختاروا بأيديهم وحسب متطلباتهم ما يريدون.

وكنت في تصرفي هذا كتومًا، أخفي الأمر إلا عن فئة قليلة من الضباط الذين أثق فيهم كي لا تتسرب الأنباء، وتشيع الأخبار، وقد يحدث ما يعكس المراد، فتضيع الفرصة.

ومع منتصف الليلة التالية كانت تدرج خمس سيارات نقل كبيرة من طرف المعسكر باتجاه الشمال الشقي، تتقدمها سيارة جيب تحمل اليوزباشي محمود عبده وإخوانه وتتبعها سيارة جيب كنت أستقلها وأقودها بنفسي -رغبة مني في متابعة العملية، ولقد أصررت على ذلك رغم ممانعة محمود عبده واعتراضه حرصًا منه عليَّ ومحبة منه ليَّ.

كان الليل صامتًا موحشًا لا يشق سكونه سوى هدير محركات السيارات الضخمة والتي تتبين طريقها بصعوبة بسبب الضوء الخافت المخنوق الذي ينبعث من مصابيحها.

وحين بلغنا آخر منعطف يقودنا إلى الموقع توقفت السيارات وقفز منها بخفة ورشاقة رهبان الليل وفرسان النهار، الذين يحتضنون إيمانهم في صدورهم، وأرواحهم في أيديهم، يبذلونها بسخاء حين يستحق البذل.

وأذن مؤذن الجهاد:

واصطف الجميع خلف إمامهم (محمود عبده)، وأدينا ركعتي سنة، تتيمنًا، ولما انتهينا ابتهل (محمود عبده) بدعاء مأثور فأمنا جميعًا.

وأعطى (محمود عبده) أوامره همسًا، وزع قواته، وكان كل يعرف مهمته وعمله، وقبل بدء التحرك تقدم مني مصافحًا مودعًا قائلاً:

- إلى هنا انتهت مهمتك يا سعادة الباشا، فأرجوك أن لا تتقدم خطوة بعد هذا، وادع لنا الله تعالى أن يوفقنا.. وعد إلى المعسكر فهناك أخوة لنا أحوج منا إليك.

فشددت على يده، وتركته يمضي وعدت.. لا إلى المعسكر كما أراد، بل إلى مرتفع قريب تسلقته مشيًا حتى بلغت ذروته كي أستطيع مراقبة سير المعركة ما أمكنني النظر في هذا الليل الرهيب.

توزعت الفصائل إلى خمس مجموعات زحفت هونًا باتجاهين معاكسين، تتسلل بصمت كالقطا، تارة قفزًا وهرولة، وأخرى زحفًا على البطون، حتى انفتحت فوهات البنادق باتجاهها من تحصينات العدو ومواقعه تحصد الأرض ومن عليها حصدًا. ورد المهاجمون بنيران ضعيفة لاهثة توحي بالوهن، وهم مستمرون في الزحف لا يتراجعون، نفوسهم أقوى من سلاحهم، بالجلال الإيمان وروعة الإسلام!!

وبعد أقل من ساعة خلتها دهرًا طويلاً كان الليل قد تحول إلى نهار بسبب النيران الغزيرة من القذائف على أنواعها، خفت الحدة، وسكنت الأصوات وهدأ الرصاص.

وسمعت النداء العظيم يتجاوب في سماء الكون من أعلى التبة «الله أكبر الله أكبر» مجلجلا كدوي الرعد.

فأسرعت إلى سيارتي وأدرت محركها ولحقت بالأبطال الذين بلغوا قمة الموقع وقمة المجد.

وحضنت بشوق ولهفة وإعزاز اليوزباشي (محمود عبده) وإخوانه الأشاوش وهنأتهم بحرارة دموعي المنسابة على وجهي، واصطحبني القائد في جولة سريعة على أرجاء المواقع كي أعاين معه على الطبيعة ظروف المعركة.

وحاولت استنطاقه كيف أتعرف على كيفية سير الوقائع التي مروا بها، والمخاطر التي تعرضوا لها، والصعوبات التي واجهوها، ولكنه ظل صامتًا لا يجيب على أي سؤال، وقد يصرفني عن غرضي بكلمة عارضة عابرة، أو بإيماءة من رأسه لا توحي بأي جواب شاف.

ثم اغتنمت فرصة انفرادي بأحد الأخوة الذين شاركوا في قيادة المجموعات فحدثني بما أثلج صدري، وروح عن نفسي.

واحد من قادة الفصائل يصف المعركة:

اسمي عبد الهادي ناصف وكنت قائدًا للمجموعة الثالثة، وكانت خطتنا التي اتفقنا عليها تعتمد على الخطوات الآتية:

أولا: التسلل الصامت: دون إحداث أي حركة تكشف عن مواقعنا أو عددنا أو جهات هجومنا.

ثانيًا: المفاجأة: بحيث نواجه العدو من أماكن قريبة يصعب معها استعمال الأسلحة النارية.

ثالثًا: الاشتراك بالسلاح الأبيض: لأننا نعرف تمام المعرفة، نفسية العدو الصهيوني التي جبلت على الغدر والجبن.

ولقد راعينا كل المراعاة حدوث أي مفاجأة، ووضعنا للاحتمالات حلولا فورية نعتمدها عند الحاجة والضرورة، منها على سبيل المثال: تغيير خط التسلل إذا ما واجهتنا نيران العدو أو اكتشف وجودنا، وقد حذرنا من الرد بالمثل مهما كانت الظروف.. ومهما كانت التضحيات.

وبعد أن ودعناك يا سعادة الباشا، أخذ كل قائد مجموعته إلى نقطة سيره وانطلاقه وبدأنا التحرك. وكانت الجهة التي أسندت إليَّ مهمة الهجوم منها، صخرية كثيرة النتوء والتعرجات تنصب فيها الأشواك والنباتات الطفيلية والحشائش بين الصخور كأشباح ليل مخيفة.

ولقد ساعدتنا هذه الصخور على أن تكون بالنسبة لنا حصونا ستظهر فائدتها فيما بعد، وجعلت ما معي من الإخوة ثلاث فرق، بين الواحدة والثانية مسافة تسمح بسماع الهمس فلا نفترق أو نضل- على أن يكون ملتقانا على هدف واحد ونقطة واحدة قبل بلوغ ذروة التبة.

ومضيت في الطريق الشائك المخيف على رأس الفصيلة الوسطى بحيث أتمكن من مشاهدة الجناحين.

كان البرد شديدًا، والليل داكنًا معتمًا، والصعود مشيًا أو زحفًا مرهقًا، ولكنني نسين كل ما أن فيه، وتذكرت الغاية الكبرى والهدف الأسمى، تذكرت كرامتنا الممرغة في أوحال الخيانة والفساد والانحراف، وتذكرت جيشنا المسكين الذي فقد كل حول وطول، وأصبح دمية خرساء بكماء، تذكرت أمتنا المهيضة الجناح تتقاذفها تيارات العمالة الفكرية والسياسية.

ونسيت كل همومي البدنية.. وركبت موجة ضعفي وأسري وقيودي زدت من تقدمي وإصراري، بعد حين من السعي الدءوب، فوجئنا بمنبسط من الأرض لا يظله شيء، خال من الحجر والشجر، فأعطيت إشارة للفصائل بالتلبث في أماكنها ريثما أطمئن برهة إلى سلامة الموقف، ثم أشرت بمتابعة السير زحفًا على الأرض حتى نبلغ آخر هذا المنبسط.

وبعد قليل كانت المفاجأة الرهيبة، سطعت أنوار الكشافات فوق رءوسنا فجمدنا في أماكننا وكأننا التماثيل.. ولو أننا مكثنا على ما نحن عليه لسارت الخطة إلى غايتها المنشودة، غير أن الأخ علي شيحة من جناح اليمين صوب بندقيته نحو الكشاف المواجه لنا فأصابه، وهنا انهمرت في كل اتجاه نيران العدو العزيرة.

وسريعًا نظرت إلى الوراء وإلى الأمام فإذا التقدم أفضل وأقرب فطلبت من الجناحين الجري بسرعة كي نتخذ من الصخور أسوارًا طبيعية نحتمي بها.

وكان لا بد من المناوشة كغطاء لتقدمنا حتى إذا ما حمتنا الصخور ثانية توقفنا عن إطلاق النار، وسقط منا بعض الجرحى فاتخذنا من مناديلنا ضمادات مؤقتة لجراحهم، وتحاملوا على أنفسهم، فلم يرضوا أن يتخلفوا عن القافلة الزاحفة إلى الذروة، رغم كل الأوامر.

وكانت ذراع أحدهم تنزف بغزارة، تقدمت منه وحاولت أن أثنيه عن عزمه بجذبه أو هزه لعله في غيبوبة فيفيق منها، فنظر إلي بعينين براقتين وقال: ليتها كانت القاضية يا أخي.. إنني أشم رائحة الجنة فكيف تحرمني هذا النعيم؟؟ دعني أمضي في سبيلي، فلم أر مناصًا من موافقته على ما أراد، وأذعن لمشيئته.

ومضينا صعودًا والنيران تنهمر كأفواه القرب غزارة، ثم طيشا إلى غير هدف، وكأن أيد خفية تصدها عنا وتحمينا من لظاها، وكنا كلما اقتربنا من خط دفاع العدو انفرجت أساريرنا وزاد حماسنا. وفجأة ظهرنا بمجموعتنا كاملة وفي أيدينا خناجرنا تلمع وتضيء، فتمزق أستار الليل وتمزق ظهور جنود العدو الهارب.

ورحنا نتنادى ونتعارف: الله أكبر ولله الحمد، والمواقع تنهار وكأنها الهشيم، وسكت الكون إلا عن صدق النداء المعظم «الله أكبر».

بحثت عن الأخ الجريح، فوجدت مشهدًا مؤثرًا بالغ الروعة، وجدته مرتميًا فوق جثة أحد الصهاينة ويداه مطبقتان على عنقه، والصهيوني جاحظة عيناه، قد فارق الحياة، جذبت الأخ برفق فإذا خنجر في صدره، لقد صمم على الشهادة فنالها، وأراد سبيل الله فمضى فيها.

وبصعوبة بالغة استطعت أن أنزع يديه عن عنق الصهيوني وكأنهما قد أصبحتا قطعة واحدة.

يقول اللواء فؤاد صادق: «كنت أصغي للأخ عبد الهادي ناصف باهتمام شديد بدون مقاطعة، ثم بحثت عن اليوزباشي (محمود عبده) لأتمم جولتي معه وسرنا بين المواقع والتحصينات، وأحسست بأنني أنا الضابط الصغير وهو القائد الكبير، أنا التابع وهو المتبوع.

ويشهد الله أنني ما عثرت بجثة عدو صهيوني إلا وهي ممزقة بالخناجر لم أجد واحد قد صرعته رصاصة، كانت المعركة فعلاً بالسلاح الأبيض وهي الخطة المعتمدة.. ومررت بالتحصينات والاستحكامات فوجدت الأخوة قد احتلوها جميعًا وأقاموا من خلفها يتربصون، وأجرينا فورًا اتصالاً لاسلكيًا بالمعسكر، نخبره بالنصر ونطلب تحرك الآليات اللازمة وسيارات الإسعاف لنقل الجرحى والشهداء الخمسة.

معسكر الإخوان بالبريج يشترك مع الجيش المصري في هجمته الأولى على الموقع:

يقول الأخ كامل الشريف في كتابه الإخوان المسلمون في المعركة، وهو من قادة الإخوان المسلمين في معسكر البريج على الجانب الآخر من هذه المعركة الذي لم يشاهده اللواء صادق عندما أعطى الأوامر لضباطه مرتين باحتلال الموقع، وقبل أن يلجأ إلى الأخ محمود عبده لوجوده على جانب واحد مع مركز القيادة، كتب الأخ كامل الشريف يقول:

تحدث إلي الأميرالاي «محمود رأفت» قائد قطاع «دير البلح» بالتليفون في ساعة متأخرة من ليلة 23 ديسمبر، وأخبرني أن العدو قد نجح في اختراق خطوطنا الأمامية في دير البلح، وانتزع المرتفع من أيدي جنودنا، وقواته تتجمع الآن وتحاول الوصول إلى طريق المواصلات الرئيسي، ولكن قوات الجيش تحاول حصره فوق المرتفع حتى الصباح، حيث يمكننا أن نقوم بهجمات مضادة لاسترداده، وتطهيره، وطلب أن يستعد الإخوان ليكونوا «آخر ورقة» نقذف بها في وجه العدو بعد أن يقوم الجيش بهجماته المضادة، وأن هذه المعركة سوف يكون لها أثر بالغ في النتيجة العامة للحرب.

ولعل القارئ الكريم يلاحظ أن عبارات الأميرالاي «محمود رأفت» إنما تصف الهجمة الأولى التي أمر اللواء صادق بها لاسترداده الموقع بعد أن احتلته قوات العدو، يقول الأخ كامل الشريف: «ولم تكد الشمس ترسل أول أشعتها، حتى صدرت الأوامر لجنود الجيش بالتقدم فانسابوا في أفواج متلاحقة، تريد أن تصل إلى القمة، وتطرد العدو الرابض فيها، ولكن ارتفاع الموقع وسيطرة أسلحة اليهود على الأرض المحيطة به، كانا يمنعان الجنود من الاقتراب، وظلت الحالة هكذا، موجات إثر موجات وجرحى كثيرون، وشهداء يسقطون دون الهدف، وكيف يمكن للحوم آدمية أن تقاوم القنابل والرصاص؟ والعدو الماكر يربض خلف الخنادق التي أعدها بعناية ويصوب نيرانه منها على لحوم بشرية متراصة وبدأ جليًا للعيان أنه لا أمل مطلقًا في كسب المعركة إلا في حضور عدد من الدبابات».

وهنا يختفي من حديث الأخ كامل الشريف الجزء الذي لم يشعر به، والذي دار في غرفة القيادة بين اللواء صادق والضابط «أحمد» الذي كلف بالهجمة الثانية والذي ترتب عليه حضور الدبابات للبدأ في هذه الهجمة، ثم يستطرد الأخ كامل الشريف فيقول:

«وجاءت الدبابات، ودفعت إلى المعركة واحدة تلو الأخرى، فتعطلت منها اثنتان على سفح التل، ولم يستطع أحد الاقتراب من مواقع العدو، ووقف الضباط يلتمسون العون من الله العلي الكبير بعد أن جربت كل الأسلحة، ووضح جليًا أن هذه المعركة قد (ماعت) وضعف الأمل في جسمها.

وكان لا بد من إلقاء الورقة الأخيرة، فطلب الأميرالاي» محمود رأفت إحضار الإخوان على عجل، وما إن سمع الجنود والضباط اسم الإخوان حتى سرت في نفوسهم روح جديدة من الأمل والثقة، وطلبت من القائمقام «علي مقلد» قائد الفرسان أن يوفر دباباته ليدفع بها أمام جنود الإخوان، وبعد لحظات وصل جنود الإخوان إلى ميدان المعركة، وترجلوا عند مكان أمين لتنظيمهم وإعدادهم، وكانت الخطة تقضي بتقسيم الإخوان إلى ثلاث مجموعات تهاجم اثنتان منها الموقع من الأمام ومن جهة الشمال، بينما تدور القوة الثالثة حول المرتفع وتهاجم مؤخرته وتمنع تدافع الإمدادات عليه، وتجذب اهتمام المدافعين إليها وتشغلهم عن القوتين الأخريين.

تقدمت الدبابات متجمعة أمام قوة الإخوان تحت ستار من نيران المدفعية والأسلحة الرشاشة، وتحت غلالة من قنابل الدخان التي كانت تطلقها مدافع الهاون التابعة للإخوان المسلمين، وأنطلق الإخوان إلى أهدافهم وقد علت وجوههم إشراقة الإيمان القوي وكانوا ينشدون في حماسة نشيدهم المعروف:

هو الحق يحشد أجناده

ويعتد للموقف الفاصل

فصفوا الكتائب آساده

ودكوا به دولة الباطل

وظلت مدافع الإخوان تقذف الموقع بقنابل الدخان فترة طويلة حتى أحالت القمة إلى سحابة قاتمة، لا ترى خلالها إلا ألسنة اللهب الناتج عن انفجارات القنابل.

وسكتت المدافع وانساب المجاهدون إلى أهدافهم، وبدأت معركة الخنادق وروع اليهود حين رأوا الإخوان يلقون بأنفسهم فوق الخنادق والدشم ويعاركونهم بالقنابل والحراب والأيدي، ورغم كثرة الضحايا من الإخوان فإن القوة تمكنت من احتلال خنادق العدو، وأخذت تطهرها جزءًا جزءًا.

ولا شك أن قوات الإخوان بقيادة الأخ «محمود عبده» قد التقت بقوات الإخوان القادمة من معسكر البريج في القمة، وتضافرت على تطهير كل المواقع واحتلالها على النحو الذي رواه لنا اللواء صادق وهو يتجول في الموقع مع الأخ محمود عبده، كما كانت أصوات الإخوان مجتمعين تجلجل في سماء القمة «الله أكبر».

ولما وصلت جنود الجيش لتحصين الموقع بعد أن تم تطهيره من اليهود انسحب الإخوان من معسكر البريج كما يقول الأخ كامل الشريف في سكون وهدوء إلى معسكرهم بعد أن أخذوا كميات وفيرة من الأسلحة الألمانية والروسية، وأكداسًا من القنابل والذخائر وكان الضباط يعانقونهم عند خروجهم، ويهنئونهم بهذا النصر الحاسم ويشيدون بجهودهم وفضلهم.

ثم يواصل اللواء فؤاد صادق قوله بعد هذا النصر المؤزر:

لقد كانت فرحتي وغبطتي بهذا اليوم لا توصف ولا تقدر، ولا أكون مبالغًا إذا ما قلت إنه كان أسعد وأغلى أيامي العسكرية، إذ تحققت فيه أمنية عزيزة غالية، شاركت فيها متواضعًا باتخاذ القرار الجريء الشجاع، والفضل كل الفضل فيها لله وحده ولطليعة شباب مصر المؤمن.

وقد آليت على نفسي أن أشهد لهؤلاء الأبرار الأطهار أمام الله، وأمام التاريخ وأمام الناس أنهم بالفعل الصورة الحية لأبناء المدرسة المحمدية في القرن العشرين، وأنهم سلالة النماذج الرائعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، يبذلون أغلى ما عند الإنسان دون منة أو رياء، فيجودون بالأرواح طلبًا لرضوان الله -عز وجل-.

كما آليت على نفسي أن أقول كلمة الحق في حقهم دون رهبة من سلطان أو خشية من طغيان، إذا ما آن الأوان.

ولقد صدق اللواء صادق باشا وعده فشهد شهادة الحق أمام محكمة الجنايات في قضية السيارة الجيب، كما شهد بنفس المعنى سلفه اللواء أحمد علي المواوي لما رواه من روعة أعمال الفداء التي قام بها الإخوان وخص بالذكر منها احتلال عسلوج على النحو الذي فصلناه سابقًا، كما حرص اللواء فؤاد صادق باشا أن ينقل التفاصيل كاملة إلى الحاج أمين الحسيني، لتصل إلى الناس على النحو الذي نشرته به دار الأنصار، فأخذنا عنها هذا الوصف الرائع، الذي صمم اللواء فؤاد صادق باشا أن يستوفيه وفاء بعهده أن يشهد لهؤلاء الإخوان إمام الناس بعد أن شهد لهم أمام السلطان، ونحن لا نشك أنه سيشهد أمام الله وهو جل وعلا خير الشاهدين.

جزاك الله خيرًا أيها القائد المصري الجريء الشجاع فقد كنت صادقًا مع نفسك وأهلك ووطنك، فنصرك الله بجند من أوليائه وهو خير الناصرين.

يقول اللواء فؤاد صادق باشا:

ثم عدت إلى مقر قيادتي، فاستقبلتني مظاهرة من الجنود مهللة، مكبرة، وعمت الفرحة كل الناس، ووصلت الأنباء إلى القاهرة، فجاءتني التهنئة والترقية، وصدرت الإدارة الملكية بمنحي وسامًا عسكريًا رفيعًا تقديرًا لما قمت به، ولو أنصف المسئولون يومها لأدركوا الحقيقة وعلموا أن الذي يستحق التهنئة هم صناع مجد ذلك اليوم العظيم، ومنحوا أهله وسام البراءة والحرية بدلا من الافتراء والقهر، بدلا من الكيد والدس والسجن.

وطلبت إلى الجنود والضباط أن يتصرف كل إلى واجبه وعمله، ثم توجهت إلى حيث تقف السيارات التي نقل اليوزباشي (محمود عبده) وفرقته.

الأبطال يستجيبون لطلب القائد العام ويدخلون طوعًا السجن العسكري بعد تحقيق النصر:

يواصل اللواء فؤاد صادق كلامه فيقول: وهنا لا بد أن أتوقف قليلا لقد واجهت من قبل موقفًا عسكريًا صعبًا، شديد الصعوبة، معقدًا بالغ التعقيد، سيئا غاية السوء، عانيت فيه من الحرج والهزيمة، ولكنني الآن في موقف أصعب وأقسى، تتنازعني فيه العوامل النفسية القاسية، تنتابني فيه ألوان من القهر والألم، وتفتت الجماد، وتذيب الصخر، فكيف بقلبي الإنسان الرقيق؟

لقد كان عليَّ أن طلب من اليوزباشي (محمود عبده) ورفاقه العودة إلى السجن!! إلى المعتقل!! إلى الأسر والعذاب!! فكيف أواجه الموقف؟! وبأي لسان أطلب ذلك؟ وممن؟ من الذين حموا شرفنا، ودافعوا عن كرامتنا، وصانوا رايتنا، وأنقذوا جيشنا؟

كنت أتقدم بخطوات بطيئة متثاقلة مترددة.. وحين أصبحت على قيد خطوات من السيارات التي لا تزال واقفة في مكانها، غلبتني عاطفتي الجياشة وتوقفت وقد أزمعت أن أصبح أذني لنداء قلبي، وأوامر حسي، غير عابئ بالنتائج، لكن الخوف كان أقوى من العاطفة، ولبئس جبن الإنسان في لحظات من الزمان.

وطلبت متلعثمًا، ترتجف الكلمات وكأنها تحت تأثير زمهرير بارد، أن ينزل الأحرار الأخيار من جديد ضيوفًا في فواقع الظلم والظلام، طلبت ذلك من القائد الظافر صانع البطولة اليوزباشي (محمود عبده)، وأنا في حالة غيبوبة العقل والحس، لم أستفق منها، فتعاودني حالة من الوعي العابر على فرقعة حذاء البطل وتحيته العسكرية وصوته الصارخ- حاضر يا أفندم أمرك يا سعادة الباشا.

وما أن أسبل ذراعه إلى جانبه حتى لفتني غيبوبة من الإعجاب والدهشة إذ كنت قبل غير واثق كل الثقة من تنفيذه، والرضوخ إليه، لأن الإنسان عندما يملك نسمة الحرية المدعومة بقوة السلاح يفتديها بحياته، فما بال هؤلاء الملائكة لا يعصون؟!!.

إنهم ليسوا خونة قطعًا، ولا متمردين حتمًا ولا عصاة، ولا مذنبين، إنهم يؤمنون بما قاله أحد أئمة السلف: (إن قتلي شهادة في سبيل الله، وتشريدي سياحة في أرض الله، وأسري خلوة مع الله).

لقد تعلمت من هؤلاء الأماثيل دروسًا كثيرة، ووعيت من مواقفهم عبرًا بالغة، فليت الناس يتعلمون ويعتبرون، وليت قومي يعلمون ويسمعون.

يقول الأخ محمد علي قطب بعد أن انتهى سماعه لهذه الشهادة التي جاءت وفاء من اللواء فؤاد صادق باشا بعهده الذي قال فيه:

«لقد سبق أن أقسمت أن شهد لهم أمام الله والتاريخ والناس بأحقيتهم وفضلهم، لقد بررت بقسمي حيث شهدت لهم في المحكمة شهادة التاريخ، وشهدت لهم بالحديث عن كريم خصالهم وجميل فعالهم أمام الناس، ولسوف ألقى الله تعالى شاهدًا أمامه سبحانه لعباده الطائعين المكرمين بصدق العزم واليقين». يقول الأخ محمد علي قطب بعد أن سمع هذا كله:

عدت إلى «صيداء» وفي جنبي قلب لا يرهب ولا يرغب، وروح لا ترى في الكون كبيرًا إلا الله وحده ولسان يردد:

لا أرى أكبر منه

ولا أرى مني أصغر

إن أحد أكبر مني

واحدًا فالله أكبر

أيها الأخ القارئ العزيز:

كنت أقف عقب كل واقعة حقيقية وقفة، أما عقب هذه الواقعة التاريخية، فقف أنت وعاود قراءتها، فالعبرة منها واضحة لا تحتاج مني إلى توجيه أو تعليق.

فقط أريد أن أقول للحكام المسلمين: إنكم تحكمون أمة مريضة، ودواؤها بين أيديكم ولا يليق بكم وأنتم في عصر النور أن تكرهوا الدواء. إن الرفاهية التي تعيشون فيها حاليًا من دماء شعوبكم المكسورة، سيتزيد رونقًا وبهاء إذا جاءت من تحت ظلال السيوف المؤمنة.


نماذج من الأعمال الخطرة التي قام بها متطوعوا الإخوان في الحرب في منطقة بيت لحم وصور باهر

1- احتلال مستعمرة رامات راحيل:

تعتبر هذه المستعمرة من المستعمرات الحصينة التي تقع على ربوة عالية، وتتحكم في الطريق الرئيسي الذي يصل بيت لحم، ويمكن لليهود منها إحصاء القوات الموجودة في بيت لحم من المجاهدين، وكذلك إحصاء حركاتها وسكناتها، لذلك كله رأى أحمد عبد العزيز أن يقتحمها.

ولقد بدأ في 24 مايو سنة 1948م فأرسل قوة من جنود الإخوان بقيادة (لبيب الترجمان) لتقوم باستكشاف المستعمرة وكتابة تقرير واف عن تحصيناتها، وقد تمكنت القوة من وضع تقرير مفصل عن المستعمرة ونقاط القوة والضعف في الدفاع عنها بعد أن استمرت يومًا كاملاً في مهمتها تتسلل إلى أقرب مكان ممكن وتراقب التحصينات ومواقع الدفاع، لتسليم التقرير وقد وضع هذا التقرير أساسًا للخطة.

وفي 26 مايو سنة 1948م بدأت مدفعية الإخوان بقصف الحصون والأبراج، ثم زحفت مشاتهم تحت غلالة من نيران مدفعية الهاون وقنابلها الدخانية، ثم تقدمت مجموعات الفدائيين من حملة الألغام (البنجالور) لنسف العوائق السلكية وحقول الألغام.

وقد بدأت الهجوم بعد منتصف الليل بعد أن نامت قوات الهاجاناه داخل مستعمراتهم، وفي الساعة الثانية صباحًا قصفت المدفعية المستعمرة بشدة فاشتعلت الحرائق في أكشاكها الخشبية، وتفجرت حقول الألغام التي لف بها العدو مستعمراته، ثم سكتت المدافع وأصدر الأخ (لبيب الترجمان) أوامره لقواته فبدأت تزحف تحت غلالة كثيفة من قنابل الهاون المتفجرة، وقنابل الدخان، وفي لمح البصر اندفع الفدائيون يفجرون ألغامهم تحت الأسلاك الشائكة، ومن ورائهم فصائل الاقتحام تعبر مسرعة لتحتل الأغراض التي خصصت لها.

ثم بدأ الاشتباك الرهيب عند الخنادق والدشم، وتسلل نفر من الإخوان إلى الأبراج العالية يفجرون تحتها الألغام ويحيلونها أنقاضًا ورمادًا، فاضطرب العدو وأخذ الأحياء من أفراده ينسحبون إلى مستعمرة «تل بيوت» عبر ممراتهم السرية.

وعكف المجاهدون على الخنادق يتمون تطهيرها، وارتفع صوت المؤذن على أعلى قمة فوق أعلى برج يييؤذن الله أكبر الله أكبر.

وقد عثر الإخوان على مائتي جثة من جثث اليهود تحت الأنقاض وبلغ جرحى الإخوان وشهداؤهم عشرة منهم شهيد واحد من إخوان شرق الأردن.

وقد غنم الإخوان الكثير من الخيرات والمؤن المكدسة في هذه المستعمرة، إذ كانت مركز التموين الذي يشرف على إمداد المستعمرات الواقعة في جنوبي القدس، ثم أجلوا عنها بعد يومين إلى معسكرهم بصور باهر بعد أن دمروها تدميرًا كاملاً ولم يتركوا فيها بقعة واحدة صالحة للإيواء، واكتفوا بحصار موقعها الخطير حتى لا يتسرب إليه الأعداء».

2- احتلال معسكر «ديرمار إلياس»:

حاول اليهود الانتقام لخسارتهم في رامات راحيل فهاجموا مقر قيادة الجيش الأردني في ديرمار إلياس وأجلوهم عن مواقعهم، فأصبح مقر قيادة الجيش الأردني محتلا باليهود، وكان هذا المقر خطرًا على معسكر الإخوان في صور باهر لقربه منه، فقرروا إجلاء اليهود واحتلاله.

تقدمت قوة منهم بقيادة الأخ حسين حجازي وهاجمت اليهود على غزة واضطرتهم للانسحاب بعد أن أوقعت بهم خسائر كبيرة، وقد ضم حسين حجازي إلى مجموعته مجموعة من جيش الجهاد المقدس الفلسطيني لمعاونته في هذه المعركة.

3- تدمير مستعمرة (تل بيروت):

كانت مستعمرة تل بيوت التي انسحب إليها اليهود الفارين من معركة رامات راحيل، دائبة التحرش بالإخوان فقرروا تدميرها.

وفي ليلة 4 يونيو 1948م انطلقت مجموعة من الإخوان الفدائيين بقيادة الأخ حسين حجازي من بيت لحم بتكتم شديد، حتى أن زملاءه في القوة لم يعلموا حقيقة المهمة التي سيقومون بها، واتجه بهم متسللين إلى مستعمرة تل بيوت فلغموا برجها الكبير، وعادوا سالمين.

وقد وصفت جريدة أخبار اليوم في عددها الصادرة في (5 يونيو سنة 1948م) هذا الهجوم الجريء فقالت: «وفي الليل تسلل (حسين) ومعه أربعة جنود.. وزحفوا على الأشواك في صور باهر أربعة كيلو مترات تحت تهديد الرصاص الطائر في الهواء والحيات الزاحفة بين الأحجار.

«وقرب الفجر سمعت بيت لحم انفجارًا مدويًا، وتهدمت ثلاثة حصون من (تل بيوت) وفي الصباح عاد (حسين حجازي) ليتلقى تهنئة قائده ومعها لقب بطل (تل بيوت)». ولقد شاهد الناس أحجار البرج الضخم تتناثر في الهواء ثم تتهاوى لتصنع من تراكمها قبر كبيرًا يضم نخبة كبيرة من رجال الهاجاناه.

4- دحر اليهود فوق جبل المكبر واحتلال رأس الأحرش:

كان جبل المكبر. واحدًا من المرتفعات التي يتولى الإخوان الدفاع عنها تحت إشراف الأخ محمود عبده قائد معسكر الإخوان في صور باهر.

وفي مساء 18 أغسطس سنة 1948م فكر اليهود أن يهاجموه على غرة من الإخوان، فبدأت جموعهم تتحرك في الساعة الثامنة من مساء هذا اليوم من أحياء القدس اليهودية ومن المستعمرات الواقعة في جنوبها، ثم بدئوا يزحفون في سكون وهدوء.

ولكن نقط المراقبة الأمامية للإخوان فطنت لهذه الحركة وأرسلت تخبر قائد صور باهر بهذا النبأ وتطلب توجيهاته السريعة.

بدأ محمود عبده يفكر في الموقع ويضع خطته على أساس الأنباء التي تصل إليه تباعًا، ولم يكن يعنيه وقف الزحف اليهودي والاحتفاظ بالموقع، ولكنه كان يريد إبادة هذه القوات وتلقين اليهود درسًا قاسيًا يحفظونه عن الإخوان وشدتهم في القتال.

كانت أول خطوات محمود عبده أن أمر فصيلة من جنوده، فدارت إلى اليمين واقتربت من الطريق الذي يستخدمه العدو في تحركاته، وأخذت تطلق النار على القوافل التي تتحرك جنوب المعركة، وفي نفس اللحظة كان يصدر أمره للمدافعين عن الجبل بالانسحاب إلى الوراء، حتى ظن العدو أن مقاومتهم انتهت، فتقدم ليحتل المواقع التي أخلاها المجاهدون، وفي هذه اللحظة أمر محمود عبده مدفعيته لتقذف الموقع من كل صوب، ولم يكن لليهود ما يحتمون فيه، فقتل منهم عددًا كبيرًا وبدأوا يتراجعون في ذعر وارتباك، ولكن القوة الخلفية فاجأتهم بنيران حامية أسقطت منهم عددًا كبيرًا.

وقد أصيب (محمود عبده) في هذه المعركة فحمله مرافقوه للخلف دون أن يفطن لذلك أحد، واستدعوا الأخ المجاهد (لبيب الترجمان) ليتولى قيادة المعركة في مرحلتها الختامية، حتى أخذ اليهود يتسللون فرادى إلى المنطقة الحرام وإلى دار الحكومة حيث يوجد بعض مراقبي الهدنة، فاتبعهم الإخوان وضربوا حصارًا محكمًا حول دار الحكومة وهددوا بتدميرها، مما اضطر رجال هيئة الأمم إلى الاستعانة بالبكباشي أحمد عبد العزيز الذي حضر ووافق على وقف إطلاق النار بشرط أن يحتل جنود الإخوان مرتفع (رأس الأحرش)، وبذلك أصبح الإخوان خطرًا شديدًا يهدد القدس الجديدة، من موقع يتيسر لهم فيه مراقبة حركات اليهود وسكناتهم.

وقد تكرر ذخر اليهود في اليوم التالي حيث حاولوا استرداد هذين الموقعين، بقوات كبيرة، ولكن يقظة الإخوان واستماتتهم في الدفاع وقفت سدًا منيعًا دون وصولهم لهذه الغاية.

مفاوضات تحديد حدود المنطقة الحرام واستشهاد البطل أحمد عبد العزيز:

بدأت بعد المعارك السابقة مفاوضات طويلة لتحديد حدود المنطقة الحرام، انتهت يوم 22 أغسطس سنة 1948م، وقرر أحمد عبد العزيز حمل نتائج المفاوضات بنفسه إلى القيادة المصرية العامة «بالمجدل» وصحبه في سيارة الجيب اليوزباشي «الورداني» واليوزباشي» صلاح سالم»() من ضباط رئاسة المواوي بالإضافة إلى سائق سيارته.

وعند عراق المنشية حيث ترابط قوة من الجيش المصري، وتمنع السير على هذا الطريق أثناء الليل، صاح الحارس يأمر السيارة القادمة بالوقوف، ولكن يبدو أن الراكبين لم يسمعوا صوت الحارس، فأطلق عليهم النار وأصيب أحمد عبد العزيز في جنبه إصابة فاضت بها روحه الطاهرة وهو في الطريق إلى عيادة طبيب بمدينة (الفالوجة) يصاحبه الضابطان «الورداني وصلاح سالم».

5- تدمير مركز قيادة صهيوني:

وقد حل محل القائد الشهيد في قيادة متطوعي الإخوان البكباشي «عبد الجواد طبالة» قائد كتيبة متطوعي الإخوان الثانية من هايكستب وكانت هذه الكتيبة تعمل في منطقة غزة- رفح، وكان الأخ «صلاح البنا» يرأسها وقد أصدر البكباشي «عبد الجواد طبالة» أمره بضم هذه الكتيبة التي كانت تحاصر بعض المستعمرات الواقعة في منطقة غزة -رفح إلى كتيبة الإخوان في صور باهر.

وبعد وصول الكتيبة نقض اليهود الهدنة واحتلوا منزلا في الشقة الحرام قرب مواقع الإخوان، واتخذوا منه وكرًا خطيرًا للقناصة يستعيضون به عن البرج الذي نسفه الإخوان في (تل بيوت)، وأخذوا يطلقون النار على مواقع الإخوان، وحاولوا اقتناص قائد المنطقة نفسه، حين كان يحاول الوصول إلى دار الحكومة للاجتماع بمراقبي الهدنة، فقرر الإخوان تدمير هذا البناء خاصة أن الأنباء كانت تشير إلى أن كبار ضباط الجيش الإسرائيلي قد نزلوا في هذا البناء واتخذوه مقرًا تشرف منه قيادتهم على جبهات المتطوعين وتضع خطة لمعارك شاملة وتكتسح فيها هذه القوات.

تسللت جماعة من الإخوان تحمل ألغامها وأسلحتها نحو هذا المنزل الواقع بين ثلاث مستعمرات من أخطر المستعمرات اليهودية، وأخذوا يزحفون حتى اقتربوا من الباب، وبينما كانوا يعالجون فتح الباب الخارجي انتبه اليهود، فأخذوا يطلقون عليهم النار من أعلى المنزل ومن الدشم المسلحة المقامة حوله، وبدلهم الإخوان الضرب، بعد أن ألقوا بألغامهم بعيدًا عن البناء، ثم فجروها وانسحبوا عائدين ومعهم جريح واحد هو الأخ (عثمان عبد المجيد).

وفي اليوم التالي. تحركت قوة كبيرة من متطوعي الإخوان وكان من بين أفرادها بعض الإخوان السوريين، وبعض الإخوان الأردنيين للهجوم على هذا البناء، ونجحت القوة التي تسللت تحمل المتفجرات في الوصول إلى المنزل وتدميره على جميع من فيه من الضباط والجنود، وقد وصف البكباشي عبد الجواد طبالة هذا الهجوم في إحدى المجلات العسكرية فقال:

«عالج قائد الدورية الباب معتمدًا على أن صوت الرصاص يعلو صوت معالجة الباب، ولكن الباب لم يفتح وهو موصد من الداخل، وإذا بالقائد يضغط بسبابة يمناه على تتك سلاحه فيطير قفل الباب ويفتح على مصراعيه، وفي لحظات أشعل الآخرون العبوات، وألقوا بها داخل الدار، وارتد الجميع للخلف قليلا ورقدوا إلى أن صم آذانهم صوت انفجار هائل تطاير على أثره الغبار في كل مكان.

ثم انسحبوا إلى رئاسة القطاع ومعهم جريح واحد هو المجاهد (ضيف الله) من الإخوان السوريين، وفي المساء كانت إسرائيل تذيع نبأ المعركة وتنعي إلى اليهود مقتل ضابط كبير من ضباطهم، ومعه عدد آخر من الضباط والجنود ماتوا تحت الردم، على مقربة من مواقع الإخوان المسلمين في صور باهر».

6- احتلال تبة «اليمن» وإطلاق اسم تبة الإخوان المسلمين عليها:

حاول اليهود الهجوم على (صور باهر) غير أن هجماتهم المتكررة تكسرت تحت تحصينات الإخوان القوية، فقرروا الاستيلاء على المرتفعات المجاورة، للانقضاض منها على (صور باهر)، وعلى قيادة القوات الخفيفة في بيت لحم، وحشدوا حشودهم لهذا الغرض.

فأرسل الأخ محمود عبده قوة كبيرة لتقوم بهجوم مضاد، تستعيد به تبة «اليمن» التي كانت أولى المرتفعات التي احتلها اليهود، وعين لقيادة هذه القوة الملازم أول خالد فوزي.

وقد نجح الإخوان في الهجوم الذي شنوه على اليهود الذين تراجعون بعد مقاومة شديدة وخسائر من الطرفين، وقد وصفت قيادة بيت لحم هذا الهجوم في إشارتها إلى قيادة الجيش بتاريخ 20 أكتوبر سنة 1948 تقول:

قام العدو بهجوم عنيف على جميع مواقعنا الدفاعية تحت ستار غلالة شديدة من نيران الأسلحة الأتوماتيكية والهاونات وقاذفات الألغام والمدفعية الثقيلة، صدت قواتنا الهجوم وتمكن العدو من الاستيلاء على مواقعنا بجبل «اليمن»، قامت قوة من الإخوان المسلمين بقيادة الملازم أول خالد فوزي بهجوم مضاد فطردت العدو بعد أن كبدته خسائر فادحة.

وقد علقت جريدة (الناس) العراقية في عددها الصادر 7/11/ 1948 على هذه المعركة بمقال تحت عنوان (بسالة متطوعي الإخوان المسلمين) جاء فيه: «وأن اليومين الماضيين امتازا ببسالة منقطعة النظير من متطوعي الإخوان المسلمين، فقد استولى اليهود شمال غربي بيت لحم بعد محاولات عديدة على جبل مرتفع يسمى «تبة اليمن» ويشرف على قرى «الولجة» و «عين كام» و «المالحة»، وما جاورها وأصبحوا يهددون كل المناطق المحيطة بها.

ورأت قيادة الجيش المصري ضرورة تطهيرها فندبت لذلك عددًا من متطوعي الإخوان المسلمين في «صور باهر» فتقدمت سرية منهم، ولم تمر ساعة حتى كانت هذه الفرقة قد أجهزت على القوة اليهودية وغنمت ذخيرتها ومتاعها وحررت قرية «الولجة» وأصبحت تسيطر على منطقة واسعة.

وقد أصدرت قيادة الجيش أمرًا بتسمية الجبل «تبة الإخوان المسلمين» وقد استشهد من الإخوان كل من مكاوي سليم علي من الزقازيق، والسيد محمد قارون من المنصورة، وإبراهيم عبد الجواد من الفيوم، رحمهم الله رحمة واسعة.

تموين قوات الجيش المصري المحاصرة في «الفالوجا»:

يئس العدو من اقتحام بيت لحم والخليل لوجود هذه القوات المؤمنة فيها فركز هجومه على قوات الجيش المصري في «أسدود» و «المجدل» واستطاع أن يجلي القوات عن هاتين المنطقتين، وأن يحاصر قوة كبيرة منها في «الفالوجا» يرأسها الأميرالاي سيد طه، فاهتم الإخوان بتموين هذه القوة المحاصرة حتى تستطيع الصمود على الرغم من أنه لم يعد لقوات الإخوان طريق يصلها بالقاهرة إلا طريق الخط الجوي عمان- القاهرة.

أخذت قوافل المعونة تتسلل عبر الصحاري الواسعة التي يسيطر عليها العدو، وهي تحمل المؤن للقوات المحصورة في الفالوجة، وتتعرض في طريقها لكثير من الاشتباكات مع دوريات العدو، وكان يقود الإخوان في تسللهم هذا لنجدة الجيش المصري في الفالوجا الأخ الكريم «اليوزباشي معروف الحضري». وقد تعقبه اليهود حتى استطاعوا الظفر به في إحدى العمليات ونقلوه إلى خطوطهم الخلفية أسيرًا حتى نهاية الحرب وتبادل الأسرى. يرحمك الله أيها الأخ الكريم رحمة واسعة ويرزقك الفردوس الأعلى من الصديقين والأنبياء والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.

وبينما كان الإخوان يعملون بهمة وإخلاص في تموين القوة المحاصرة في الفالوجا أصد النقراشي باشا قرار بحل هيئة الإخوان المسلمين في مصر ومصادرة أموالها، ولكن الإخوان قدروا حجم الكارثة لو أنهم قاموا بعمل مضاد، فهم وحدهم الذين يحمون مناطق بيت لحم والخليل وكانوا في هذا الالتزام ملتزمين بأوامر وصلتهم من المرشد العام، تلزمهم بالهدوء والسكينة منعًا من وقوع الكارثة وضياع هذه المنطقة الكبيرة التي تقع تحت حمايتهم وحدهم.


نماذج من عمليات الحصار ونسف الطرق التي قام بها الإخوان في الحرب والدفاع عن العريش

1- قامت قوة من الإخوان بقيادة المجاهد (حسن عبد الغني) بتدمير شبكات المياه بين مستعمرتي «بيرى» و «أتوكوما» وأباحت أنابيب المياه لأعراب المنطقة ينتزعونها من الأرض تحت حراستهم، حتى نزعت من الأنابيت مساحة شاسعة، ثم رابطت في المنطقة، لتمنع العدو من إصلاحها، وصبر اليهود يومين عسى أن تنصرف قوة الإخوان لشأنها، ولكن القوة العنيدة ظلت تواصل تدمير الأنابيب ونزعها والتعرض للمصفحات والقوافل التي تحاول إصلاحها، فلم تجد القيادة الإسرائيلية بدا من الدخول في معركة مباشرة خارج تحصينات المستعمرات وكان هذا هو المطلوب.

جمعت القيادة الإسرائيلية عددًا كبيرًا من المصفحات من جميع المستعمرات، وأحاطت بالقوة الإخوانية من جميع الجهات، وأخذت تقترب منها على أمل أن تظفر بها، وثبت الإخوان ثباتًا عجيبًا، وأوقعوا في اليهود عددًا من القتلى قبل أن يبعثوا في طلب النجدات من معسكراتهم.

وجاءت مصفحات الإخوان وأقامت حول مصفحات العدو، الذي أسقط في يده حين رأى نفسه محصورا بين نارين، فاضطر إلى طلب نجدات أخرى من المستعمرات القريبة، وامتلأ ميدان المعركة بقوات كبيرة من الجانبين، واشتد القتال بين الفريقين على نحو لم يسبق له مثيل، حتى يئس العدو من زحزحة الإخوان من موقفهم، فأخذ يطلق سحبًا من الدخان ليستر انسحابه، وما كادت أطباق الدخان تنجاب عن ميدان المعركة حتى سارع الإخوان يجمعون غنائمهم من السلاح، ويعودون لتدمير الأنابيب من جديد.

2- محاولة من اليهود لتسميم الآبار في خزاعة وحرق جثث الذين أقدموا على ذلك:

حاول اليهود تسميم آبار يستعملها الإخوان في منطقة «خزاعة» انتقامًا لتدمير أنابيب مياههم، وذلك بأن أرسلوا رجلين يرتديان الملابس العربية ويتظاهران باستجلاء الماء، وكان منظرهما يدعو إلى الريبة، فاقترب منهما الجندي الإخواني الحارس وأمرهما بالوقوف، فلاذا بالفرار، فتعقبهما الجندي الإخواني الحارس وعدد من إخوان سريته المرابطة في هذه المنطقة بقيادة المجاهد (نجيب جويفل) حتى أدركوهما وأمروهما بالتسليم أو إطلاق النار، فرفعا أيديهما بالتسليم، وحين اقترب الإخوان منهما، انبطحا على الأرض في سرعة وقذفا على المهاجمين عددًا من القنابل اليدوية وأسرع الإخوان بملاصقة الأرض ثم أطلقوا عليهما النار فأردوهما قتيلين.

وهنا على مقربة من مستعمرة «تيريم» حمل الإخوان الجثتين، ونضخوهما بالبترول وأشعلوا فيهما النيران على مرأى جيد من المستعمرات انتقامًا من هذا الغدر.

وجن جنون اليهود واخذوا يلوحون بأيديهم في غضب وانفعال، وحين جن الليل هاجموا مواقع الإخوان في «خزاعة»، ولكنهم لم يتمكنوا من زحزحتهم، وقد استشهد في هذه المعركة شهيد واحد هو الأخ «عيسى إسماعيل» من إخوان الشرقية.

3- معركة أبو معليق وتدريب مجموعة من شباب البدو على القتال:

استفاد الإخوان من غدر اليهود في منطقة أبو معليق، حيث كانت إحدى القوافل اليهودية تمر قريبًا من مضارب البدو، وكان الإخوان قد لغموا هذا الطريق، فانفجرت الألغام في هذه القافلة، وظن اليهود السوء بالبدو، فغدروا بهم وأخذوا يطلقون عليهم النار، ولكن قوة من الإخوان كانت مستعدة عن قرب، فهاجمت مؤخرة اليهود حتى أرغمتهم على الهرب إلى مستعمراتهم.

والتحم البدو المجني عليهم بالإخوان لما رأوا جسارتهم، فقام الإخوان على تدريبهم على القتال، وكان الأخوة «علي صديق» و «نجيب جويفل» و «حسن عبد الغني» وغيرهم يتناوبون على تدريبهم، ثم قام الإخوان بتشكيل مجموعة منهم للتطوع في القتال، وفتحوا باب التطوع للآخرين، فانهال عدد كبير من الشباب البدو، وكون الإخوان منهم عددًا من السرايا المقاتلة أشرف على تدريبها الأخ نصر الدين جاد.

وحينئذ أقام الإخوان في المنطقة موقعًا حصينًا فوق تل مرتفع يشرف على مساحات واسعة من الأرض، وأحاطوه بالأسلاك والألغام، وزودوه بالأسلحة والعتاد، وأشرف قادة المعسكر على تنظيم دوريات مسلحة تخرج بمعونة البدو، وتتعرض لقوافل التموين اليهودية فتدمرها وتقتل الكثيرين ممن فيها، مما اضطر اليهود إلى مهاجمة الموقع أكثر من مرة بمصفحاتهم غير أنهم لم يفلحوا في اقتحامه.

وفي صبيحة يوم 19/7/ 1948م حشدوا قوات كبيرة من جميع المستعمرات القريبة ومهدوا لهجومهم بضرب شديد من مدفعيتهم ثم تقدموا تحت حماية المصفحات.

وقد تصدى لهم إخوان المعسكر بقيادة الأخ «محمد الفلاحجي» من إخوان الدقهلية وأحاطوا بهم وسط التلال المتناثرة على مقربة من قرية «أبو معليق» وأوقعوا بهم خسائر فادحة وأرغموهم على التقهقر بعد تدمير عدد من المصفحات.

وقد استشهد في هذه المعركة الشهيد «سيد حجازي» وجرح فيها قائد المعسكر الأخ «محمد الفلاحجي».

4- علي صديق يحصد اليهود على مشارف كفار ديروم:

بعد معركة الإخوان الثانية لاحتلال كفار ديروم بقيادة أحمد عبد العزيز واستشهاد عدد كبير في هذه المعركة التي لم يتتحقق أهدافها، قرر ضرب حصار على المستعمرة، وأحكموا الحصار، وفي اليوم التالي للمعركة حاول العدو تحطيم هذا الحصار وإدخال قافلة كبيرة محملة بالجنود والعتاد، وكانت هي الفرصة التي ينتظرها الإخوان، يسيل لها لعابهم، فنظموا كمينًا محكمًا، وحشدت مدفعية الإخوان مدافعها على سفوح التلال المشرفة على الطريق وحين دخلت القافلة في الدائرة المرسومة أمر اليوزباشي «حسن فهمي» قائد المدفعية بالضرب، فانطلقت المدافع من أبعاد قريبة، وحاول اليهود الدفاع عن أنفسهم بادئ الأمر، ولكنهم وجدوا أنفسهم محصورين داخل حلقة فولاذية، فاختاروا أهون الضررين وقذفوا بأنفسهم من المصفحات وحاولوا النجاة بأرواحهم فرارًا إلى مستعمرة «كفار ديروم».

وكان الأخ «علي صديق» مختبئًا بعناية وراء التلال القريبة، ينتظر هذه الخطوة، فلم يكد اليهود ينزلون من المصفحات ويتحركون تجاه المستعمرة، حتى انطلقت الرشاشات من كل صوب فحصدتهم حصدًا.

ولما حاول حماة المستعمرة تجدتهم، تركهم الإخوان يغادرون الأسلاك الشائكة ويبتعدون عن المستعمرة، ثم بدئوا يطلقون عليهم النار من «أوكار» معدة بعناية حتى سقط منهم عدد كبير، وتراجع الباقون إلى المستعمرة.

وقد غنم المجاهدون خمس عشرة مصفحة مشحونة بأحدث طراز من الأسلحة والذخائر ومواد التموين، وعمهم البشر لهذا الانتصار الرائع الذي عوض خسارتهم بالأمس، حيث وجدوا إحدى المصفحات مملوءة بالدجاج والطيور من مختلف الأنواع والأحجام.

وقد استمر الإخوان يحاصرون هذه المستعمرة حتى جلاء عنها اليهود، واحتلها الإخوان دون قتال في منتصف يوليو، بعد أن أفلحوا في إنهاك وحدة الهاجاناه، التي كات تحميها إلى درجة لم تعد تتحمل بعدها مزيدًا من البقاء.

5- علي صديق يحرق سيارة يهودية تتحرك من مستعمرة رامات راحيل في اتجاه مستعمرة الدجاج:

في ليلة من الليالي أثناء الهدنة الثانية كان الأخ «علي صديق» في حراسة لموقع (مجاهد) بدلا من الأخ «محمود حسن» الذي كان متعبًا فنصحه علي صديق بالراحة هذه الليلة.

وبينما كان علي يرقب ما حول المستعمرة إذا به يشاهد سيارة يهودية محملة بمجموعة من الضباط تتحرك ليلا من مستعمرة رامات راحيل في اتجاه مستعمرة الدجاج، فراوده خاطر سريع، أن يتقرب إلى الله بدماء هؤلاء المغتصبين الذين قال الله فيهم إنهم أشد عداوة للذين آمنوا ولم يكن يمنعه إلا قرار الهدنة.

ولكنه وقد كانت يده على الزناد، وجد نفسه يضغط موجهًا مدفعه الفيكرز تجاه سيارة العدو فاشتعلت النيران بمن فيها، وما إن سمعت مواقع الإخوان بهذه الطلقات، حتى صبت أتونا من نيرانها على جميع مواقع العدو.

وما إن سمع القائد بهذه النيران، حتى حضر إلى الموقع الذي انطلقت منه قذائف الموت وعندما أراد أن يستطلع الخبر، اكتفى الأخ علي صديق بأن أشار له بيده نحو السيارة المحترقة التي كانت في طريقها لاختراق خط الهدنة، وقد حقق مراقبو الهدنة في هذا الحادث.

6- قطع الطرق المؤدية إلى مستعمرة «بيرون إسحق» أثناء هجوم الجيش المصري عليها:

كانت مهمة الإخوان في ذلك الوقت تتلخص في إرباك مستعمرات النقب، وإشعالها في الدفاع عن نفسها، حتى لا تفكر في الانقضاض على مؤخرة الجيش المصري وهو مشغول بعاركه الأمامية في مناطق أسدود والمجدل والفالوجا.

فمرت بالإخوان في ذلك الوقت فترة من أنشط الفترات، وبلغت المعارك بينهم وبين اليهود إلى عنفوان شدتها، ولم يكن يمر يوم واحد حتى تنشب الاشتباكات الدامية في مناطق مختلفة من الصحراء، والإخوان في ذلك غير مقيدين مطلقًا بما جد من أساليب الخداع والتثبيط كقرارات الهدنة ووقف القتال.

بل لا يعتبر من المبالغة إذا قلنا أن الإخوان كانوا يعملون في فترات الهدنة أكثر مما يعملون في أوقات القتال، وقد قدموا في معاركهم هذه الكثير من الجرحى والشهداء.

وعندما فكر الجيش المصري في الهجوم على مستعمرة «بيرون إسحق» طلب البكباشي «عبد الجواد طبالة» من معسكر الإخوان أن يقوموا بقطع الطرق التي تصل إلى المستعمرة فعهدت بهذا العمل إلى الأخوين «نجيب جويفل» و «محمد علي سليم».

رابط «نجيب جويفل» و «محمد علي سليم» بفصائلهما على نقاط متقاربة على الطريق، فلما بدأت القوات المصرية الهجوم على المستعمرة واشتد الضغط على حاميتها بعثت تطلب المزيد من القوات، واستجابت لها القيادة اليهودية، وما هي إلا برهة يسيرة حتى امتلأ الطريق بالمصفحات القادمة من مستعمرات النقب الجنوبية ونشبت معركة شديدة بين فصائل الأخوين «نجيب جويفل» و «محمد علي سليم» وبين هذا العدد الهائل من المصفحات.

ولكن قوة النيران الموجهة إلى اليهود من الأسلحة الأوتوماتيكية ومدافع الهاون، وحقول الألغام التي زرعت في طريقهم اضطرتهم إلى العودة من حيث أتوا تاركين مستعمرة بيرون إسحق تعاني وحدها شدة المعركة أمام الجيش المصري وتستغيث ولا مغيث.

7- انتقام الإخوان من اليهود لهجومهم على أحد مضارب البدو وإشعال النيران به بعد أن قتلوا كثيرًا من رجاله وجاء الأحياء منهم يشكون من هذه المذبحة:

ظن العدو سوءًا بأحد مضارب البدو، واعتقد أن رجاله يتعاونون مع الإخوان فهجموا عليه وقتلوا العديد من رجاله وأضرموا فيه النار وجاء الأحياء منهم يستنجدون بمعسكر الإخوان من هذا الشر المستطير، فقرر الإخوان الانتقام لهم من اليهود.

تسللت قوة من الإخوان في جوف الليل إلى إحدى المناطق الداخلية متوغلة في أرض اليهود، حرمهم الخاص، وهناك على طريق السيارات بثوا حقلاً كبيرًا من الألغام، وانفلتوا في أحد الوديان المجاورة ينتظرون مقدم «الصيد» وجاءت قافلة كبيرة عند الفجر، فلم تكد تمس الألغام حتى انفجرت وتطايرت أجزاء السيارات في الفضاء، وظل الإخوان في مكمنهم حتى انجلى الدخان، وقام من نجا من اليهود، فأخذوا يطلقون عليهم النار، حتى مات من مات وفر من استطاع الفرار، ثم جمعوا القتلى وكدسوهم كومة واحدة، بعد ما أخذوا ما وجدوه من سلاح وعتاد، وتركوا أمام كوم الجثث منشورا ينبئ اليهود بأن هذا الحادث جاء ردًا على ما ارتكبوه ضد العرب الآمنين.

وقد سمع القائد العام بهذه العملية الجريئة فأبدى رغبته في رؤية بعض الأسلحة التي غنمها الإخوان، وأعجب كثيرًا بما شاهده منا خاصة أحد مدافع «المورتر» المصنوعة حديثًا في بلجيكا.

8- اشتراك الإخوان في الهجوم على مستعمرة دير سنيد بعد إحكام محاصرتهم لها:

كانت مستعمرة دير سنيد تحتل نقطة حاكمة بالنسبة للمناطق العربية المجاورة لها، وكانت هذه المستعمرة تقوم على الطريق الساحلي الرئيسي للجيش في قطاع غزة المجدل، ولم يكن بالإمكان تجاهلها أو الاكتفاء بحصارها، كما حدث بالنسبة إلى مستعمرة «كفار ديروم» أو «يتروم» وغيرها من مستعمرات النقب.

وفي 16 مايو سنة 1948م طلبت قيادة الجيش من الإخوان قطع خطوط مواصلات المستعمرات لتمنع وصول النجدات إليها من المستعمرات المجاورة عندما يوجه إليها الجيش المصري ثقله مهاجمًا.

وفي يوم 19 مايو سنة 1948 تحركت مدافع الميدان لتحتل مواقع قريبة من المستعمرة غير أن الهجوم الفعلي لم يبدأ إلا عصر يوم 19 حين أخذت المدفعية تركز نيرانها على موقع المراقبة الأمامي القائم جنوب المستعمرة، حتى دمرت أجزاءه البارزة على سطح الأرض تدميرًا، ثم حاولت المشاة اقتحامه، ولكنهم فوجئوا بنيران شديدة من الرشاشات مما اضطرهم إلى تأجيل الهجوم الحاسم.

كانت قوة الإخوان تقوم بحصار طرق المواصلات خلال الأربعة أيام السابقة للهجوم، وقد صد الإخوان خلال هذه المدة عدة محاولات جريئة من جانب العدو لتعزيز وحدة الهاجاناه في المستعمرة وإمدادها بالمؤن والذخائر، ولم تستطع مصفحات العدو من الوصول إلى المستعمرة مخترقة حصار الإخوان لها، إلا جزًا يسيرًا من طابرو يتكون من عشرين مصفحة، هاجم الإخوان من جهة مستعمرة «كفار ديروم» فاشتبكوا مع الطابور في معركة ضاربة بالرشاشات ومدافع البازوكا، مما اضطر هذا الطابور إلى الارتداد من حيث أتى بعد أن نجح عدد يسير منه في الوصول إلى المستعمرة وكان ذلك في لية 24 مايو سنة 1948.

وبينما كانت معارك الطرق تدور بين اليهود والإخوان كرر الجيش هجومه على المستعمرة المعزولة عن كل عون من الخارج، وحين اشتدت المعركة طلبت قيادة الجيش فصيلة من الإخوان للاشتراك فيها، وبالفعل اشترك الإخوان في الهجوم على هذه المستعمرة بفصيلة وثلاث مصفحات، كان الإخوان قد غنموها من اليهود في معارك النقب، وحتى سقطت «دير سنيد» المسماة «ياد مردخاي» في أيدي الجيش المصري وكان لسقوطها دوي عظيم، كما كان له أسوأ الأثر في نفوس الإسرائيليين.

ولا شك أن أهم دور في هذه المعركة كان نجاح الإخوان في منع وصول النجدات اليهودية للمستعمرة حيث لو أمكن لليهود إقامة جسر بين المستعمرة المهاجمة، ومجموعة المستعمرات التي حولها لتغيرت حتمًا نتيجة المعركة.

خاتمة لازمة لهذا الفصل

إن هذه الروح العالية في قتال الأعداء، هي أعز ما يتمنى أن يصل إليه الحكام الصالحون بين أفراد قواتهم المسلحة، ليضمنوا لأوطانهم النصر العزيز، ولقد رأينا الدول الحرة تتسابق في بذل كل مرتخص وغال لتصل بهؤلاء الأفراد إلى مثل هذا المستوى الرفيع من التضحية والفداء.

فإذا ما ظهر من بين أبناء وطننا العزيز من الأفراد المدنيين من ارتفعت روحهم المعنوية فاستبسلوا في القتال والتدريب على هذا النحو الفريد الذي رأيناه في الفصلين السابقين دون أن يكلفوا الدولة درهمًا ولا دينارًا، لوجب على حكامها المخلصين أن يدرسوا هذه الظاهرة الفريدة، ويتعرفوا على أسرارها لاستخدامها في بناء قواتهم المسلحة خاصة، وتعميمها بين جميع أبناء الوطن عامة، ليضمنوا لوطنهم عزًا تليدًا، ومجدًا أكيدًا، وليس هناك سر في ذلك كله إلا التربية الإسلامية والأخذ بمبادئها الغراء، التي أوصانا بها العزيز الحكيم.

ولقد ثبت لنا بيقين أن ما ظهر على أيدي صحابة رسول الله من بسالة فذة، ورغبة حقة في الاستشهاد في سبيل الله أدت إلى نصر المسلمين على دولتي الكفر: الفرس والروم مجتمعتين في فترة قصيرة من عمر الزمان، رغم قلة العدد والعتاد، لم يكن هذا الذي ظهر قاصرًا على ذلك الجيل وحده، بل هو نتيجة حتمية لكل من يطبق شريعة الإسلام ويربي أبناءه على مبادئها السمحة، وقد رأى حكام العرب والمسلمين كل هذا الذي قصصناه من بطولات أفراد الإخوان المسلمين في جبهتي القتال سواء في فلسطين أو في القتال، وكان جدير بهم جميعًا أن ينتفعوا بهذا السر الذي غاب عنهم عدة قرون، فيكرموا هؤلاء الأبطال ويأخذوا عنهم أسلوبهم في التربية والتدريب والوفاء، فيتحقق بذلك لدولهم الأمن والأمان ولأشخاصهم المجد الخالد والعز التالد، ولكننا رأينا العجب العجاب.

رأينا حكام مصر يقلبون لأبنائهم الذين استبسلوا في القتال باعتراف كبار قادة جيوشهم استبسالا أذهل كل من رأى ومن سمع، ظهر المجن، فيناصبونهم العداء ويبذلون كل مرتخص وغال لتحطيم هذه الروح العالية الفذة الفريدة، وتلك لعمري هي الخيانة العظمى التي نفرد لبيانها الفصل القادم إن شاء الله..


</include>