الفرق بين المراجعتين لصفحة: «قالب:كتاب الأسبوع»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لا ملخص تعديل
لا ملخص تعديل
(٢٩ مراجعة متوسطة بواسطة نفس المستخدم غير معروضة)
سطر ١: سطر ١:
<center>'''[[:تصنيف:مكتبة الدعوة|مكتبة الموقع]]'''</center>
<center>'''[[:تصنيف:مكتبة الدعوة|مكتبة الموقع]]'''</center>
<font color="blue"><font size=4> ''' [[الإخوان المسلمون في سجون مصر (من عام 1942م-1975م)]]''' </font></font>


'''<center><font color="blue"><font size=3>[[الذوق .. سلوك الروح]]</font></font></center>'''
'''بقلم المهندس / [[محمد الصروي]]'''
بسم الله الرحمن الرحيم


*'''بقلم / الأستاذ [[عباس السيسي]]'''
'''وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الأنعام:1].... وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [ الإسراء: 111 ]...'''


إلى الذين استجابت جوارحهم إلي إلهامات الروح وهواتف القلب. فانطلقت تعبر عن دقة الأحاسيس وسمو المشاعر ـ بما يضفي على حركة الحياة لمسات من الذوق الرفيع المكنون في فطرته ويترجم عن كنه الإنسان وعقيدته.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ محمد بن عبد الله r، الذي تربى على يديه جيل قرآني فريد، قال الله – عز وجل – في شأنهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] هذا ثناء الله عليهم سجله إلى يوم الدين، كأعظم وثيقة شرف عرفتها البشرية، وكانت هذه الآية الكريمة هي وسام الشرف الرباني من الطبقة الأولى.. ليس لذواتهم، ولكن لصفاتهم المتميزة في ذات الآية: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، مع الإيمان بالله الواحد.. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أرقى وظيفة على وجه الأرض منذ أن وطئت أقدام آدم عليها وحتى قيام الساعة.


[[ملف:عباس السيسي.jpg|تصغير|<center>'''الأستاذ [[عباس السيسي]]'''</center>]]
ثم توالت من بعدهم أفواج الدعاة إلى هذا الدين الخاتم، الذي نحن على يقين جازم الشك فيه ولا مراء في فضل إتباعه وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ البقرة: 251 ]، ومن فضل الله على العالمين – المذكور في هذه الآية – أن يهيئ  لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجد لها دينها. وفي يقيني أن هذا المجدد لن يكون وحده أن يحمل هذه الأمانة.. بل لابد من صحبة تتعاون معه، وتؤازره، وتشد عضده، وتحمل تعاليمه إلى الآفاق، كما فعل الحواريون مع عيسى ابن مريم، وكما فعل جيل الصحابة العظيم الفريد مع رسول الله محمد r.. وكما فعل العلماء الأجلاء في هذه الأمة، جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل.. وحملة هذا المشعل الرباني لا يرضى عنهم أصحاب الشهوات، وأهل السلطان، فتكون مواجهة شرسة.. والشراسة من جانب الطغيان ضد هؤلاء الدعاة الذين لا حول لهم ولا قوة.. وليس لهم سلاح إلا الكلمة الطيبة.. فتأتي الابتلاءات والمحن قاسية وعنيفة.. وطويلة كذلك.. حتى إذا صبر هؤلاء الدعاة.. نزل عليهم نصر الله.. وأعظم نصر لهم، ليس في هلاك الطغاة، ولكن في انتشار دعوتهم وإيمان الناس بعقيدتهم، ومع الفساد في الأرض، أو تقليص حجمه على الأقل.. وأن ينتصر الدعاة على أنفسهم فيهبوا أرواحهم رخيصة لله عز وجل، يظنها الطغاة قتلاً، ويراها الدعاة شهادة، وفوزاً ونعيماً وملكاً كبيراً ) وَلَا تَحْسَبَنّو الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( [ آل عمران: 169 ].
ولقد تعرض [[الإخوان المسلمون]] عبر تاريخهم الطويل، للعديد من المحن والشدائد والابتلاءات، والتي كانت تهدف – كلها – إلى استئصال شأفة هذه الدعوة وإطفاء نور الله ( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [ التوبة: 32 ].


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذى بعثه الله تعالى هداية ورحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين الذين اهتدوا بهديه واستنُّوا بسنته إلى يوم الدين
وصدق الله العظيم إذ يقول وهو يرسم الطريق للسالكين على مر الدهور والعصور: ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ( [ إبراهيم: 13، 14 ] .
ولقد تحدثنا في هذا البحث عن المحن والشدائد والابتلاءات التي تعرَّض لها [[الإخوان المسلمون]] في ثلاثة أبواب رئيسية:


أما '''بعد'''
'''الباب الأول:''' ويشمل ما تعرَّض له [[الإخوان المسلمون]] من ابتلاءات قبل انقلاب [[يوليو]] سنة [[1952]] م.
'''الباب الثاني:''' ويشمل ما تعرض له [[الإخوان]] من ابتلاءات شاملة في عهد الانقلاب أعوام: 54، 55، [[1965]] م.
'''الباب الثالث:''' ويتحدث عن الواقع الدعوى بعد الإفراج عن [[الإخوان المسلمين]] في أوائل السبعينات وحتى عام [[1975]] م.


فكل كتاب قصة.. وقصة هذا الكتاب بدأت بواقعة حدثت معي بدار النشر والصوتيات باسكندرية. حين كنت أجلس في حجرة المكتب أتحدث مع أحد الإخوة من الشباب جاء لزيارتي فدخل أخ واستأذن أن يتحدث معي في موضوع خاص فاستأذنت وخرجت معه إلى حجرة أخرى وطال الحديث بعض الوقت. فلما عدت الأخ غاضبا لأني تأخرت عليه.
ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يتقبله، وأن ينفع به آمين، والحمد لله رب العالمين.  


فجلست وقلت له هل تظنني أخطأت في حقك؟ قال نعم. قلت: دعني أوضح لك الأمر لنعرف من المخطئ في هذا الموقف المفروض ياأخى أن هذه الحجرة مكتبي.
[[محمد الصروي]]
[[أغسطس]] [[2005]] م


وكل من يريد مقابلتي أقابله بها فإذا جاء أحد الإخوة وطلب مقابلتي مقابلة خاصة يكون من الواجب عليك أن تستأذن في الخروج حتى ينتهى من حديثه.
الابتلاءات سنة ربانية كونية


فإذا كان عدد الموجودين أكثر من واحد فعليهم أن يستأذنوا في الخروج أو أخرج أنا.
<div class="reflist4" style="height: 500px; overflow: auto; padding: 3px" >
...[[الذوق .. سلوك الروح|تابع القراءة]]
 
الابتلاء في اللغة معناه الامتحان.. والاختبار.
 
وفعله ابتلى.. والفعل المجرد هو (بلى) .. ومنه بلاه بلاءً حسناً. ومنه في التنزيل المحكم: ) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ( [ البقرة: 124 ]، أي امتحنه واختبره بها، ومنه أيضاً: ) إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ( [ البقرة: 249 ]، ومنه أيضاً: ) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ( [ النساء: 6 ].
 
في الآية الأولى امتحن الله إبراهيم واختبره..  وفي الآية الثانية امتحن الله قوم طالوت بالنهر، وفي الآية الثالثة أمر بامتحان واختبار اليتامى إذا بلغوا سن الرشد .
الامتحان:
 
نظام عادل إلى حد كبير، من أنظمة الكون، وذلك لتقويم شخص ما. فهو إذاً نوع من العدالة الذي اشتهر بين الناس:
 
* فالطلبة في الفصل الدراسي يستمعون إلى المدرس شارحاً لهم الدروس، وهو لا يعرف من استوعب ومن ذاكر ومن كان شارداً بفكره وروحه رغم حضور (جسده) في الفصل. كيف تميز بين هذا وذاك.. لا شيء سوى الامتحان. وامتحان الشهادة الابتدائية أسهل من الإعدادية.. والإعدادية أسهل من الثانوية.. وهكذا تتدرج صعوبة الامتحان حتى يحصل الطالب على الدكتوراة، وصعوبة الامتحان هنا نوع من العدالة، )  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( [ الزمر: 9 ] والتفرقة لا تكون إلا بالامتحان.
* وفي الوظائف يكون الامتحان نوعاً من العدالة.. إذا كنت صاحب مصنع مثلاً فامتحان تعيين البواب والفراش والعامل العادي سهل ويسير، قد تكفي فيه بمقابلة الشخص للتأكد من تمام صحته، وقدرته على بذل الجهد.. وكفى.
 
أما إذا أردت مديراً للمصنع.. فالامتحان صعب وعسير، وقد تلجأ إلى مكتب خبرة بعد الإعلان في الجرائد عن الوظيفة، ويخضع المتقدمون لاختبارات فنية و (تكنولوجية) وإدارية، وسرعة بديهة وحسن تصرف وعمق نظر، والإنصاف في المعاملة بين الموظفين.. إضافة إلى فحص شهاداته وخبرته وسيرته الذاتية.. لماذا؟! لأن المهمة صعبة وشاقة وخطيرة ومؤثرة.
 
* واختيار وكلاء الوزارات أصعب، فلابد أن تتعرض لفحص واختبار، وتنعقد من أجل ذلك لجنة للترشيح بين المؤهلين فنياً وإدارياً.
* وفي [[مصر]] العزيزة، في كليات الطب، عند الحصول على شهادة الدكتوراه، تتعرض للامتحان من حوالي 24 أستاذاً، ولا يمكن أن يجيزوك من أول اختبار، لماذا؟! لأنك ستكون مسئولاً عن أرواح الناس.
* وهناك بلاد لا يمكن السفر إليها إلا بعد الحصول على شهادة إتقان لغة مثل أمريكا، فلابد للدارس من اجتياز امتحان (toifel) وهو امتحان صعب وعسير.
* وبديهي أن أي وظيفة لها أهمية كبيرة يكون امتحانها أصعب، وكذلك أي وظيفة مرتبها كبير.. فيقابل المرتب الكبير امتحان كبير وشاق وعسير.. ومتنوع، قد يشمل التحريري والشفوي والعلمي.. وفي معظم الأحوال تحتاج إلى مقابلة شخصية مع صاحب العمل بعد اجتياز كل الامتحانات المؤهلة للوظيفة.. وهذا أيضاً نوع من العدل الذي استقر عليه الناس وتعارفوا.. وقد حدث هذا لسيدنا يوسف ، ففي قصته المبسوطة في القرآن الكريم في سورته (سورة يوسف)) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ( [ يوسف: 54 ] ولعل سيدنا يوسف u، رأى أن الملك لم يتعرف على كل مواهبه وإمكاناته الشخصية (أقصد نعم الله عليه) .. فاستدرك على الملك قائلاً: ) اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ( .
'''إني حفيظ عليم:'''
هذا الكلام الطويل عن الامتحانات كنظام كوني عادل للتقويم ارتضاه الناس على مر العصور كنوع من العدالة فيما بينهم [ما لم تشبه شائبة الغش أو المحسوبية أو الرشوة كما في كافة الدول المختلفة].
 
'''وهو نظام عادل أيضاً من نظم الصناعة:'''
 
* فأنت تصهر الذهب لكي تنقيه من الشوائب، فيصير ذهباً خالصاً (عيار 24).. فإذ خُلط صار عيار (21) أو عيار (18) ولكلٍ سعره وثمنه الذي يقل كلما اختلطت به الشوائب.
* وأنت أيضاً تقوم بتقطير البترول لكي تحصل منه على مكوناته المختلفة وتميز بينها، بالحرارة العالية التي قد تصل إلى (950ºم) ففيه وقود الطائرات وهو أغلاها ثمناً (النافثا)، وفيه وقود السيارات (البنزين) وفيه الكيروسين والجازولين، وأخيراً  المازوت والقار، وقد يتفحم بعضه ويصير فحماً.
 
وهذه العمليات في الصناعة تسمى فتنة. والفتنة في اللغة معناها الاختبار والامتحان.. كما جاء في القاموس: فتنت الذهب والفضة ووضعتهما على النار وأذبتهما حتى يتميز الرديء من الجيد.. وفي السوائل توجد عملية التقطير، وهو فصل السوائل غالية الثمن عن السوائل رخيصة الثمن. فهو أشبه بامتحان مجموعات السوائل المختلطة لتمييزها عن بعضها البعض.
ولعل هذا يضاهي في الإنسانية قول الله عز وجل: ) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ( [آل عمران: 179].
 
'''وظيفة الدعاة إلى الله:'''
 
وهي رد الناس إلى ربهم وبارئهم وخالقهم، وهي عند الله – عز وجل – أعلى الوظائف وأرقاها، وأصعبها وأدقها، وتحتاج إلى مهارات شخصية متعددة.. وكفاهم شرفاً أن    اختارهم الله واصطفاهم ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( [آل عمران: 33] .
وكفاهم شرفاً أن الله صنعهم على عينه – سبحانه وتعالى – قال: ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ( [طه: 39].
وكفاهم شرفاً: أنهم يقومون بأخطر مهمة على وجه الأرض، وهي محاربة الفساد.. ومحاربة أكبر الجرائم وهي استعباد الإنسان للإنسان.. فالدعاة يقومون بنشر التوحيد الذي ينزع عبودية كافة الطواغيت والشهوات والنزواعت، وعبودية المفسدين في الأرض.. إلى قمة الحرية.. ومنتهى الحرية.. وهي عبودية رب العالمين، وحده دون سواه، فليس بعد عبودية رب العالمين إلى رق الطغاة والبغاة والمفسدين.. فضلاً عن رق الشهوات.
 
وفي الوظيفة الأولى؛ وظيفة محاربة الفساد في الأرض يقول الله جل وعلا في شأن الدعاة:            ) وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ( [ البقرة: 251 ].
وظيفة الدعاة إلى الله إذاً، هي أدق الوظائف وأصعبها، ولابد لها من اختبارات وامتحانات تناسب صعوبة وعظمة هذه الوظيفة.
 
وظيفة الدعاة إلى الله هي المركز المرموق للبشر عند الله عز وجل.. ولابد لها من مؤهلات. فإذا تراضى الناس في دنياهم نظاماً للتأكد من مؤهلات وظائف الدنيا.. فلماذا لا يرضون منهج الله في إعداد حملة دعوته؟!. إن أجر وظيفة الدعاة إلى الله عز وجل هي أعلى مرتب وأكبر أجر.. لا يعدله أجر وظيفة مهما كانت الوظيفة.. كما جاء في الحديث: " أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، فما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر ".. فالحواس التي يدرك بها الإنسان، ويقيس بها الأمور هي العين، السمع، القلب.. هذا النعيم فوق إدراكها.. فكيف تدركه؟ وأهل الجنة بين هذين الأجرين يتفاوتون، في الأملاك والنعيم والأجر.. كل هذا بخلاف الحور العين. والقصور والأنهار.. وراحة البال ) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا        تَأْثِيمًا ( [الواقعة: 25].
 
لماذا لا يكون مقابل هذا الأجر امتحان واختبار، للتفرقة في الجزاء والأجر والمرتبات والمكافآت المختلفة بين الناس من أهل الجنة !!.
 
والذين يرفضون مبدأ الامتحان للتفرقة بين أصحاب الأجور المختلفة ظالمون، والله لا يقبل منهم منهجاً ولا نظاماً، كما في الحديث: " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا "، فمن العدل أن تتم التفرقة بين كل هذه الأصناف من البشر،                    وفي التنزيل: ) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ( [آل عمران: 179]، هذه سنة كونية.. ونظام عادل للتمييز بين الناس.
 
ويصف الله عز وجل الناس الذين لا يريدون الامتحان منهجاً للتفرقة بين البشر والعدالة بينهم، أنهم (واهمون) .. فسد خيالهم، وضل تصورهم، واختار القرآن الفعل (حسب) للدلالة على هذا القصور في الفهم والتصور والإدراك.. ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ( [العنكبوت: 2]، ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( [آل عمران: 142]، فالعدل والعقل والمنطق.. كلها توجب الامتحان للتفرقة بين درجات الناس في الدنيا والآخرة، وكذلك الدعاة.. وكلما كانت المنزلة أكبر كان الامتحان (البلاء أو الاختبار) أصعب، لذلك كان للأنبياء والرسل أصعب الامتحانات وأدق الاختبارات.. وفي الحديث: " أشد بلاءً: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " .
 
لذلك يجب على الذين اختاروا طريق الدعاة إلى الله عز وجل سبيلاً واختاروا هداية الناس مهنة.. والعمل على التمكين لشريعة الله وظيفة لهم..أن يوطنوا أنفسهم على قبول امتحانات التأهيل لهذه الوظيفة الربانية العظيمة، وأن يتعاملوا مع الابتلاء بصبر وحب.. بل يشكرون الله عز وجل أن اختارهم لهذه الوظيفة السامية.. والمرموقة أيضاً، فامتحان الدعاة سنة كونية، وناموس رباني للتأهيل لهذه المهمة العظيمة.. ولهذه الوظيفة المرموقة عند الله عز وجل.
إن الذين ينجحون في امتحان الدعاة يحصلون على وسام رباني، تم تسجيله في أعظم الكتب على وجه الأرض وهو القرآن الكريم. هذا الوسام يسمى وسام (الخيرية).. وهو أرفع الأوسمة بعد وسامي النبوة والشهادة. ) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( [آل عمران: 110] فهذه الخيرية ترتبط وجود وعدماً بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
'''
أنواع البلاء:'''
 
ويصنف د. [[محمد عبد القادر أبو فارس]] أنواع الابتلاء إلى نوعين (1). فردي، وجماعي، والأخير هو الذي تحدثنا عنه آنفاً. أما النوع الفردي فهو  ما يحدث للإنسان من ابتلاءات وهو في دوامة الحياة الدنيا. وهذا قدر مكتوب على البشرية كلها ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ( [البلد: 4].. إن جريان دوامة الحياة مع البشرية مليء بالمعاناة والمصائب.. ولكل إنسان نوع من المكابدة يُمتحن به.. " فمن رضا فله الرضا، ومن سخط فله السخط " كما ورد في الحديث الشريف.
وهذا معناه أن البشرية كلها تكابد، وتبتلى، وتمتحن.. وتختبر .. لكن تختلف الامتحانات في أسئلتها، وأجوبتها، والشهادات الممنوحة لها. ذلك ناموس الحياة الدنيا.
 
 
'''الابتلاء الفردي:'''
 
وهو ما يحدث للإنسان من امتحانات في صورة مصائب، يُبتلى بها ليشكر أو يكفر، ليصبر أو يجزع.. فالشكر والصبر نجاح في الامتحان (الابتلاء) .. والجزع والكفر رسوب في الامتحان.. لذلك كان الرضا بالقضاء والقدر ركناً من أركان الإيمان ينهدم الإيمان بانعدامه.. أو على الأقل يهتز ويتزعزع.. وفي الحديث: " ليس من من لط الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية " ذلك لأن لطم الخدود وشق الجيوب تعبير عن السخط، وعدم الصبر على المصائب.
 
ولقد نقل صاحب الظلال عن الإمام [[محمد عبده]] كلاماً طيباً عن ناموس الابتلاء الذي يصيب النبات والحيوان والإنسان في تفسير قوله تعالى: ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ( [البلد: 4 ]، جاء فيه(1) " فإذا تصورت كم تعاني البذرة في أطوار النمو: من مقاومة فواعل الجو، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، تستعد.. إلى أن تلد بذرة أو بذوراً أخرى.. والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (.. ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع، واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم.
) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ( في مكابدة ومشقة (2)، وجهد وكد، وكفاح وكدح. كما قال في السورة الأخرى: ) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ( [الإنشقاق: 6].
 
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تنتهي، تبدأ في الكبد والكدح والنَّصَب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء – بإذن ربها – وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض – إلى جانب ما تذوقه الوالدة – ما تذوق، وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى يكاد يختنق في مخرجه من الرحم!
 
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأَمَرُّ، يعمل فمه ورئتاه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة!.. ويعان في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد، والذي يلاحظ الوليد حينما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي، يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة. وعند بروز الأسنان كبد، وعند انتصاب القامة كبد، وعند الخطو الثابت كبد، وعند التعلم كبد، وعند التفكر كبد.. وفي كل تجربة جديدة كبد، كتجربة الحبو والمشي سواء. ثم تفترق الطرق، وتتنوع  المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته وهذا يكدح بفكره، وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء. وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف.. وهذا يكدح لملك أو جاه. وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوات أو نزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وهذا يكدح إلى الجنة. والكل يحمل حمله ويصعد كادحاً إلى ربه فيلقاه! وهناك الكبد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء. إن الكبد طبيعة الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكبد في النهاية، فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة لينتهي إلى الكبد الأشق والأمرّ في الأخرى، وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله. إلا أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء، إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير. ليس مثله طمأنينة بال، وارتياح للبذل. واسترواح بالتضحية. فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين! أو للانطلاق من هذه الأثقال، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان! والذي يموت في سبيل دعوة، ليس كالذي يموت في سبيل نزوة. ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه. " أ. هـ. [[سيد قطب]] ".
 
هكذا ترى الابتلاء الفردي قدراً مكتوباً على الإنسان في كل مراحل حياته.. ذلك الابتلاء الفردي تراه واضحاً ظاهراً إذا صار الإنسان شاباً يافعاً أو رجلاً مكتمل الرجولة.. ومن أمثلة الابتلاء المعتادة.. الامتحان في الصحة والمال، وفقد الولد، وعدم الأمن.. فمن صبر فاز وله البشرى. والقرآن يؤكد ذلك بلام التوكيد في الآية الكريمة: ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( [البقرة: 155] وأحاديث فضل الصبر على أنواع المصائب والابتلاءات والاختبارات الفردية كثيرة.. ومبسوطة كذلك في كتب فضائل الأعمال. منها مثلاً فقد الولد كما جاء في حديث البخاري: " ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبض صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه.. إلا الجنة ".
وفي البخاري أيضاً عن فقد الصبر. عن أنس بن مالك  قال: سمعت رسول الله r يقول: " إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته عنهما الجنة، يريد عينيه ".
 
فللصبر على البلاء الفردي أجر كبير كذلك عند الله، لمن آمن وعمل صالحاً ثم صبر على الامتحان والابتلاء.. ذلك لأن طبائع الأشياء: أن ليس كل الناس يصلح ليكون داعية إلى الله عز وجل. وسوف يكون من الفتنة أن يبتلى الدعاة فقط، ولا يبتلى غيرهم من الناس. فكل البشرية في الابتلاء والامتحان والمكابدة سواء.. لكن طلاب الآخرة إذا نجحوا في الامتحان كان أجرهم أعظم وأكبر من مجرد الصبر على المصائب.
 
</div><noinclude> </noinclude>
 
 
ابتلاءات [[الإخوان]] قبل الثورة
 
<div class="reflist4" style="height: 500px; overflow: auto; padding: 3px" >
 
أول قضية لُفقت [[للإخوان المسلمين]] ([[1942]]م)
 
 
كانت أول قضية(1) لفقها أتباع الإنجليز، الذين كانوا يحكمون [[مصر]] في عام ([[1942]] م) هي اتهام بعض [[الإخوان]] بمحاولة قلب نظام الحكم.. فقام " المجلس البريطاني " في مدينة (طنطا) بتلفيق القضية للأخوين:
 
- [[محمد عبد السلام فهمي]]... مهندس بمصلحة الطرق والكباري (صار فيما بعد عميداً لهندسة [[:تصنيف:إخوان أسيوط|أسيوط]]، فوكيلاً لجامعة [[الأزهر]]، ثم رئيساً لهيئة السكة الحديد).
 
- [[جمال الدين فكيه]].. موظف ببلدية طنطا.
 
قد كانا من كبار [[الإخوان المسلمين]] بطنطا – آنذاك. " وقلب نظام الحكم " هي التهمة المفضلة التي يتهمون بها [[الإخوان]] منذ أكثر من ستين عاماً، ) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( [الذاريات: 53].
وأودع [[الإخوان]] سجن الحضرة ب[[:تصنيف:إخوان الأسكندرية|الإسكندرية]]، على ذمة القضية الجنائية العسكرية العليا رقم 822 لسنة ([[1942]] م) – قسم الجمرك – [[:تصنيف:إخوان الأسكندرية|الإسكندرية]].
 
والمجلس البريطاني (British Counsel) مؤسسة ظاهرها ثقافي، لنشر اللغة الإنجليزية والعادات والتقاليد البريطانية في طنطا، لكن المشرفين عليها كانوا موالين للإنجليز قلباً وقالباً.
أما المحقق فكان الأستاذ [[محمد توفيق رفقي]] رئيس النيابة وأعضاء المحكمة هم المستشارون: [[فؤاد بك أنور]] (رئيساً)، [[محمد توفيق إبراهيم]] بك (عضواً)،[[ زكي أبو الخير الأبوتجي]] بك (عضواً)، ومعهم اثنان من العسكريين.
 
اهتم الإمام [[حسن البنا]] بالمحاكمة، ووكل جمعاً غفيراً من المحامين للدفاع في هذه القضية. وهم الأساتذة:
 
[[محمد علوبة]] باشا (نقيب المحامين)، [[عبد الرحمن البيلي]] بك (صار نقيباً للمحامين فيما بعد)، [[محمد فريد أبو شادي]] (صار أيضاً نقيباً للمحامين فيما بعد)، [[عمر التلمساني]]... محام وعضو مكتب الإرشاد.. ثم المرشد الثالث بعد ذلك، [[علي منصور]] (نقيب المحامين فيما بعد)، [[محمد فهمي أبو غدير]]، محام وعضو مكتب الإرشاد.
 
ورغم كفاءة المحامين، إلا أن الإمام [[حسن البنا]] بذل جهوداً كبيرة، ونجح في توكيل الأستاذ المحامي القدير [[علي بدوي]] عميد كلية الحقوق جامعة [[:تصنيف:إخوان القاهرة|القاهرة]]... وكان أستاذ كل الأساتذة المحامين والمستشارين في ذلك الحين... وهو عميد القانونيين في [[مصر]] على مدى نصف قرن من الزمان.
 
وقد مكث [[الإخوان]] في سجن الحضرة ثمانية شهور رهن التحقيق، ولما حان وقت المحاكمة تم نقلهما إلى سجن الاستئناف بوسط [[:تصنيف:إخوان القاهرة|القاهرة]]، وكانت من أشهر المحاكمات في ذلك الوقت.
 
ترافعت النيابة واتهمت الأخوين بتهمة الخيانة العظمى!! رغم أن شيئاً من ذلك لم يحدث على الإطلاق!، ولكن النيابة ادعت أنهم يعدون (جيشاً)!!! للترحيب بمقدم "[[روميل]]" القائد الألماني الشهير الذي جهز جيشاً لضرب الإنجليز، ولكنه – أي [[روميل]] – انهزم في موقعة " العلمين " الشهيرة.
 
حكمت المحكمة أخيراً بالبراءة للأخوين فهمي وفكيه، وكان نصراً للعدالة، ورفعة [[للإخوان]].
هذه قصة أول محاكمة [[للإخوان]] عام ([[1942]] م). أما سجن الحضرة الذي شرف باستقبال الأخوين الكريمين فهو سجن صغير في حي الحضرة ب[[:تصنيف:إخوان الأسكندرية|الإسكندرية]]، لم يحدث عليه أي تطور طيلة خمسين عاماً.
 
[[الإخــوان]] في معتقل الهاكستــب
 
 
في [[ديسمبر]] [[1948]]م أصدر رئيس الوزراء [[محمود فهمي النقراشي]] قراراً بحل [[جماعة الإخوان المسلمين]] استجابة لرغبة الإنجليز، فأغلقت دور [[الإخوان المسلمين]] ، وصودرت ممتلكاتهم، واعتقل عدد كبير منهم – إلا فرداً واحداً هو الإمام [[حسن البنا]]...، وبعد عشرين يوماً من حل الجماعة اغتيل [[محمود فهمي النقراشي]] رئيس الوزراء، على يد الطالب [[عبد المجيد حسن]] الذي ارتدى زي ضابط شرطة ودخل مكتب رئيس الوزارة وقتله بمسدسه... وجاء [[إبراهيم عبد الهادي]] رئيساً للوزراء الذي انتقم باغتيال [[حسن البنا]] في 12 [[فبراير]] [[1949]] م، وكان [[الإخوان]] المعتقلون بالآلاف قد أودعوا في معسكر الهاكستب.
 
وهذه المنطقة كانت معسكراً للإنجليز، وهي بين [[:تصنيف:إخوان القاهرة|القاهرة]] ومحافظة [[:تصنيف:إخوان الشرقية|الشرقية]] تبعد حوالي 30 كيلو متراً شمال شرق [[:تصنيف:إخوان القاهرة|القاهرة]] ، وبعد أن رحل عنها الإنجليز قامت الحكومة بتجهيزها كمعتقل[[ للإخوان المسلمين]].
 
وفي عام [[1948]] م تم اعتقال وترحيل [[الإخوان]] من جميع المحافظات إلى معتقل الهاكتسب كمركز تجميع، تمهيداً لترحيلهم إلى جبل الطور في سيناء.
 
ويحكى الأخ [[علي أبو شعيشع]](1) في كتابه " [[يوميات بين الصفوف المؤمنة]] " أن هذا المعتقل كان فيه أسرة (جمع سرير)، لكن بسبب كثرة عدد المعتقلين كان كل اثنين من [[الإخوان]] المعتقلين ينامان على سرير واحد.. وقد تم توزيع بطاطين (أغطية) عليهم... وكعادة [[الإخوان]] قاموا بترتيب المعتقل.. وأبرز ما حدث في هذا المعتقل هو السرعة الفائقة في تنظيم [[الإخوان]] لأمورهم داخله رغم أنه كان مجرد محطة للترحيل إلى جبل الطور.. ومن هذه الترتيبات:
 
- طابور رياضة الصباح لجميع [[الإخوان]].
 
- تقديم الوجبات الغذائية وانتظامها.
 
- إيقاظ [[الإخوان]] قبل صلاة الفجر.
 
كان أحد [[الإخوان]] وابنه يطوفان المعتقل يرددان نداءً عذبًا:
 
يا نائمًا مستـغرقًا في النوم
:::قمْ واعبدْ الحي الذي لا ينام
 
مـولاك يدعـوك إلى ذكـــره
:::وأنت مشغـــول بطيب المنـام
 
وقد كنت أعتقد أن معتقل الهاكستب ليس به أحداث.. فالكلام عنه في المراجع نادر.. حتى عثرت على كتيب للدكتور [[حسان حتحوت]] أستاذ النساء والولادة والمفكر الإسلامي والإخواني القديم الذي صاحب الإمام [[حسن البنا]] عشر سنوات.. هذا الكتيب بعنوان " [[العقد الفريد – عشر سنوات مع الإمام حسن البنا]] ".
وننقل هنا من كتاب د. [[حسان حتحوت]] بعض هذه الفترات (بتصرف):
 
" معسكر الهاكستب عنابر واسعة من البناء سابق التجهيز، كل منها محاط بالأسلاك الشائكة، فلا منفذ منه ولا إليه، كان المبنى الذي ذهبت إليه يسمى عنبر الإدارة لأن به مكتب قومندان المعسكر والضابط، وبعد إجراء التسجيل والتسليم دخلت دهليزاً طويلاً فوجدت الأخ [[إبراهيم الشربيني]] (رحمة الله.. كان رجلاً شهماً ووطنياً مخلصاً) يهش للقائي..
 
كانت هناك غرفة وحيدة صغيرة يشغلها مع عدد عبد المجيد و[[فتحي البرعي]] (وكان طالباً بكلية الزراعة ولا أدري أين هو الآن). كان كل منهم يشغل ركناً، فدعوني لأشغل الركن الرابع، وكان سائر [[الإخوان]] في العنبر المجاور.
 
كان في جناح الإدارة كذلك المعتقلون من اليهود والشيوعيين والوفديين، ولكن في طرف آخر غير منفصل إلا معنوياً، وكان الفناء واسعاً من دون السلك الشائك، فترك مجالاً للتمشية والرياضة. وطالما تمشيت مع الزميل (ع. ح)(1) ، وكانت الأحاديث بيننا ممتعة فكرياً، رغم تناقض العقائد والمنطلقات. وأحياناً نتمشى مع الشاب التقي [[يوسف القرضاوي]] الطالب بالأزهر، نذكر الله وندعوه ونأنس به، ولم يدر بخلدنا آنذاك أن هذا الشاب سيصبح واحداً من أكبر فقهاء العصر. وكنا نأخذ (الجراية) جافة من المتعهد، إذ صنع المعتقلون مواقد كهربائية بحفر قالب طوب وإيداع سلك يوصف طرفاه بالكُبس الكهربائي. لم يكن الطعام بالغ الرداءة ولا بالغ الحسن، ولكنه كان مملاً. واشتهينا ذات يوم (تورتة) من محل جروبي، لكنه كان اشتهاءً من قبيل الخيال.. حتى قال زميلنا [[وجيه الباجوري]] (الدكتور فيما بعد) إن الأمر ليس بهذا الإعجاز، وأخذ على عاتقه تنفيذه.. ونحن غير مصدقين.
وكان وجيه طالباً بالطب، ليس له صلة بالسياسة، لكنه كان ابن خالة [[عبد المجيد حسن]] الذي قتل النقراشي، فأتوا به ووالده الدكتور الباجوري – رحمه الله – الذي كان أستاذ الفسيولوجيا بكلية الطب، ومن أحب الأساتذة إلينا. المهم بعد أيام وصلت (التورتة)، فكيف وصلت؟! جاءت في السيارة الوحيدة التي يسمح لها بدخول المعتقل بدون تفتيش. جاءت في شنطة سيارة قائد المعتقل، بعد أن أقام وجيه علاقة إيجابية مع سائق السيارة وبعض عساكر الشرطة.. بما يعود بالنفع على الطرفين.
كانت هذه الفترة من أمرح فترات حياتي (ولا أقول أسعدها) .. كان لدي إدرار غزير من النكت والقوافي والقفشات، لدرجة أن الأخ (أ. ف) كان يتبعني باستمرار ومعه دفتر وقلم ليسجل عني ما أقول.. وكان بعد طالباً في الطب معتقلاً على ذمة الوفديين ولم يكن وفدياً ولا يحزنون. وكانت للأخ الفنجري اهتمامات بالتنويم المغناطيسي لم نأخذها مأخذ الجد الذي يفضي إلى الرفض أو القبول، لكنه في إحدى هذه المرات نوم واحداً من المعتقلين (لا أذكر اسمه ولكنه كان فيما بعد إماماً لمسجد السيدة زينب)(1) ، وطلب منه أن يذهب إلى [[إبراهيم عبد الهادي]] (رئيس الوزراء) ليرى ماذا يفعل: فأجاب بأنه اكتشف مؤامرة تمرد في الأورطة التاسعة بالجيش، وأن عبد الهادي نفسه يحقق الآن مع عدد من الضباط !! أخذناها آنذاك بفتور.. وكنا في أواسط [[1949]] م !!!.
وسارت الأمور على وتيرة واحدة في المعتقل (وكنت دائماً أسميه المعكسر).. وأعلنوا أنهم فتحوا باب التظلم للمعتقلين.. فمن أراد قدم طلباً جاءه الرد خلال شهر، لكن كل الردود كانت سلبية وتقضي برفض التظلم، وفي يوم من الأيام استدعى الضابط النوبتجي المعتقل [[محد الشحات]] (دكتوراه فيما بعد) ليوقع على علمه بالرد على التظلم. قال له "امض هنا" قال "أمضي على أيه" قال له " مش مهم تعرف" فأجابه لا أوقع على شيء لا أعرفه. قال الضابط "امض يا حيوان" فأجاب الشحات " أنت اللي حيوان"! وقامت القيامة! وانهالت العصى من الجنود على الشحات والمسكين يصيح ويستغيث في علقة لا يعلم لها آخر. وهنا أمسك معتقل يهودي اسمه إلياهو " كان طالباً بالطب " بحجر ورماه باتجاه غرفة الضابط!!. وساد هدوء بدأت معه الحلقة التالية: إذ قام جنود الشرطة بإشراف الضابط بتكسير مكتب القومندان وتكسير زجاجات الكوكاكولا الفارغة في إخراج متقن لإقناع النيابة بأن المعتقلين قاموا بحركة تمرد كبيرة اعتدوا فيها على الضابط ومبنى الإدارة.
 
وفي خلال ساعة كانوا قد فصلوا المعتقلين الآخرين عن [[الإخوان]] وأخذوا التمام، ووصلت "فرقة الباشا" والباشا هو اللواء [[سليم زكي]] حكمدار العاصمة آنذاك. أما الفرقة فكانت مدربة على أعمال الضرب والقمع والعقاب. ومن آخر الممر رأينا الفرقة تتقدم ومنظر الخوذات والعصى كمنظر القباب والمآذن. وقفز أربعتنا إلى غرفتنا الصغيرة. وحاول أحدنا أن يقفز من فوق الحائط إلى غرفة بها معتقلون سودانيون لكنهم طردوه مهددين بالإبلاغ عنه. وفي المستقبل عندما جاء دور العتاب قالوا عيب أن يفر وواجبه أن يثبت مع إخوانه!! وأغلقنا الباب مستحكمين، وراح [[إبراهيم الشربيني]] يدق مسماراً كبيراً فوق الباب بنية أن يثني المسمار فكأنه ترباس، لكنه كان يدقه بكنكة قهوة صغيرة لا تجدي، وفوق ذلك فقد كان الباب نفسه من ورق الكرتون السميك.. فلما شرع الجنود في تحطيمه وجدنا البلطة تخترقه وتدخل بين رءوسنا. ورغم أن سماع صوت العصى تنهمر كالمطر على [[الإخوان]] في العنبر بين صياحهم واستغاثتهم كان يدفعنا إلى الاستماتة في دفع الباب لإغلاقه، إلا أننا خشينا من تحطيم أدمغتنا بالبلطة كانت أشد.. ولم نجد إلا ترك الباب، وقفزنا إلى الركنين البعيدين من الغرفة والكل يحاول أن يكون خلف صاحبه، ووجدتني خلف الزميل [[علي عبد المجيد]]، وانفتح الباب: وبدأ العسكر يتقدمون، وأخذت تهوي العصى عشوائية على كل مكان، أصابت واحدة عيني فانقدحت بمثل البرق وأذني ورأسي وجسمي كله. وأدركت أن تترسى خلف علي لا يغني شيئاً، فقررت أن أقف منكمشاً وأخرج من ورائه تحت الضرب الهاطل، لكنني كنت أجابه الشرطي منهم وأمسك به قابضاً على كتفه واضعاً وجهي في وجهه وأسأله بهدوء وابتسامة خفيفة: "لماذا تضربني؟ هل بيننا عداء؟ ألم يخطر ببالك أن تسأل نفسك لماذا تضربني؟".. فيشيح بوجهه عني ويجيء الضرب من كل مكان، فأمسك بشرطي آخر وأسأله نفس الأسئلة.. ورغم انكشافي وتعرضي للزيد إلا أن هذه العملية – محاولة وضع الإنسان أمام إنسانيته – قد أفادتني نفسياً كما شغلتني عن مجرد الجلوس في انتظار سلبي لما يجيء من ضربات.
 
وانتهى الأمر فجأة.. وصاح بهم أحد ضباطهم: " بس يا بن الكلب أنت وهوه " وكأن حنفية كانت مفتوحة فأقفلتها يد قوية، ورثيت لحال هؤلاء العسكر الذين ضاعت منهم إنسانيتهم فدربوا على أن يكونوا كلاباً مسعورة تنهش بأمر وتسكت بأمر.
 
وانسحب العسكر.. وخيم صمت رهيب.. ودخلت على العنبر المجاور أزوره فذكرني فوراً باللحمة المفرومة. أكوام من الأثاث المبعثرة والأجساد المبعثرة الملطخة بالدماء وبالكدمات. قام إليَّ الأخ الأستاذ [[صالح أبو رقيق]](1) معانقاً.. وقلنا بصوت واحد " تقبل الله ". إن الأخ صالح لما دخل الجند وقف أمامهم ومد ذراعيه جانباً يتلقى الضربات عمن وراءه من [[الإخوان]] ، وذلك من ضراوة العسكر. بل إن العسكري الذي كان ينهال عليه ضرباً إذا وقعت من يده العصا انحنى صالح والتقطها وردها إليه من جديد وعلى ثغره ابتسامة، فيأخذه الوحش وينهال عليه ضرباً من جديد!.
وبينما كنا جلوساً لا تسعفنا الكلمات لا تسعفنا الكلمات إذا بالأخ [[عبد الودود شلبي]] ، الطالب بالأزهر (وكيل الأزهر فيما بعد) يدخل جرياً وهو يكرر في هلع كبير " عثمان بن عفان .. عثمان بن عفان " ولعل أحد العساكر لاحقه بالخارج.. ولا ندري كيف، لكنها كانت كافية ليضحك الجميع ويتبدد هذا الجو الكئيب.
 
وكنت في " المعسكر " ألبس بنطلوناً قصيراً تاركاً النصف الأعلى من جسمي عارياً تماماً؛ ولهذا فقد بدا أثر الضرب صارخاً، وبدوت مخططاً مثل النمر تماماً وجروحي تنشع بالمصل والدم. وأخذني أحدهم إلى الجناح الآخر فضمد اليهود جراحي ووضعوا عليها مرهمًا. وجاءني [[هنري كورييل]] (يهودي – مؤسس [[الحزب الشيوعي المصري]]). وحدثني عن الشيوعية وعن انتصارها في الصين، واتوني بكتاب اسمه " [[النجمة الحمراء في الصين]] " . ودخل القومندان إليهم فألقوا عليّ ملاءة لإخفائي عنه. جاء يسأل إن الكوكاكولا قد وصلت إليهم، مؤكداً أنه لن يسمح بعد اليوم بها لأولاد الكلب الآخرين. وعلمت أنهم يلعبون البوكر مع القومندان واسمه (عبد الحفيظ) ويخسرون له قصداً، فكانوا ينالون تسهيلات كبيرة، بل كان بعضهم يخرج لقضاء الليل في بيته ويعود في الصباح. وعدت [[للإخوان]] وقد عز علينا النوم في تلك الليلة، لأن إشاعة سرت بأنهم سيحضرون فرقة الباشا مرة ثانية ليفاجئنا مرة أخرى في أثناء نومنا بعلقة جديدة. لكن لم يحدث. وفي الصباح أخرجونا فأوقفونا طابوراً وبدءوا في عد التمام. كنا في غاية الرهبة، فإذا سمع أحدنا اسمه أجاب صائحاً " أفندم " .. لكن حدث أن الضابط الذي ينادي على الأسماء وصل إلى اسم عبد الودود فقرأه هكذا: "عبد الوِدْودْ ". ولم يحتمل الأمر أن ننفجر بالضحك المتواصل، والضابط عاجز في خزيه فانصرف.
 
وعلمت فيما بعد أن يوم العلقة كان يوم زيارة للأسر.. فأعدت لي أمي كيكة فاخرة من صنع يديها، ولما ذهبوا إلى قسم الشرطة الذي تقوم منه قافلة الزوار عاملوهم بغلظة، وفاجئوهم بأن الزيارة ألغيت.. وعادت أمي وأبي كسيرين إلى البيت ووضعت الكيكة لم تمتد إليها يدوكأنها ميت مسجى حتى رموها في القمامة.. وبعد فترة جاءت أمي وأبي زائرين وحييتهما من خلال القضبان، وكنت ألبس قميصاً، سألتني أمي عن الجرح في جبهتي فأخبرتها أنها خبطة في الشباك.
 
وغداة العلقة أقاموا علقة خاصة لكبار الشخصيات الإخوانية ولحسن الحظ لم أكن منهم.
 
ومرت الأيام بعد ذلك ثقيلة تحت وطأة حر الصيف في الصحراء، الذي أوحى بأغنية كثر تردادها مطلعها " معتقل الأحرار بين لهيب النار – هاكستب.. هاكستب" كذلك تحت وطأة شوقنا إلى من بالخارج. والظاهر أن عدة حالات مرضية ظهرت بين المعتقلين، سواء في الهاكستب أو في معتقل جبل الطور، ووجدت الحكومة نفسها تحت ضغط شديد من أقرباء المعتقلين، ومنهم كثير من نواب البرلمان حتى من حزب الحكومة، فرجعت عن قرار المنع الكامل للعلاج بالمستشفيات، ونظمت فرقاً من الأطباء تزور المعتقلات مع التنبيه بعدم التحويل للمستشفيات، إلا في حالة الضرورة القصوى.. وأبلغنا بموعد قدوم الفريق الطبي لتسجيل أسماء الراغبين في الفحص!.
 
كانت فرصة ثمينة ولكن لمن يحسن انتهازها. صديقي [[إبراهيم الشربيني]] (رحمه الله) استحصل على حقنة وإبرة وعبأ 2 سنتيمتر من الحليب المركز المحلي (الذي له قوام العسل) وحقن نفسه بها في العضل. ومعروف أن حقنة الحليب ترفع الحرارة فكانت حقنة اللبن علاجاً معروفاً لحالات الرمد الصديدي في العينين قبل حقنة المضادات الكيمائية والحيوية، على اعتبار أن الحرارة العالية تقتل الميكروبات. وارتفعت حرارة إبراهيم إلى 42 درجة مئوية وعاينه الأطباء ولم يصرحوا بتحويله للمستشفى.
كانت لي أنا خطة مختلفة، والحرب خدعة، طليت إصبعي بطبقة من هذا الحليب وتركته حتى يجف. وشبكت في ملابسي الداخلية دبوس مشبك. وذهبت للأطباء في حالة أليمة من المرض أشكو لهم من ألم الكلية وتقيح البول.. كان مظهري يستدر الشفقة، وكان طبيعياً أن يعطوني كأساً طالبين عينة من البول. ونظراً لأن الغرفة كان بها ناس. وأن الحياء من الإيمان فقد ذهبت بالكأس إلى الحائط واستدرت مولياً ظهري.. وشككت إصبعي بالدبوس وغسلته بسيال البول وكان اللبن والدم والبول عينة ممتازة للبول ذي الصديد والدم.. فانزعجوا وقالوا: إلى المستشفى فوراً. ويا النعيم!. وإلى مستشفاي مرة أخرى. مستشفى الدمرداش الجامعي. نفس الغرفة الخاصة التي خرجت منها مكبلاً بالحديد.
 
ويواصل د. [[حسان حتحوت]] قائلاً: وفي هذه الفترة استطاع الأخ [[نجيب جويفل]] الذي كان تحت الحراسة أن يغافل حراسه ويهرب من المعتقل ومنه إلى [[:تصنيف:الإخوان في سوريا|سوريا]].
 
وكانت تأتينا أخبار قضايا [[الإخوان]] في المحاكم. ولأول مرة نعلم أن [[مصر]] قد دخلت عصر التعذيب في التحقيقات، وأن رئيس الوزراء كان يشرف على التعذيب بنفسه أحياناً، وأنه هدد أحد المتهمين بأن يأمر العسكري الأسود بأن يرتكب فيه الفاحشة، وكانت بدايات التفنن في التعذيب، وهي بدايات نمت وازدهرت وأنبتت من كل زوج قبيح.  
 
وزارني الدكتور [[حسن حتحوت]] ، عضو مجلس [[الحزب الحاكم]]، [[الحزب السعدي]] الذي يرأسه رئيس الوزراء [[إبراهيم باشا عبد الهادي]]. طلب مني أن أعطيه كلمة الشرف بأنني غير متورط في أي عمل إجرامي، حتى يبذل مساعيه الخاصة وهو مطمئن. وطمأنته على ذلك. وهو إنسان نبيل – رحمه الله – وإن كانت الظروف في ذاك الآن لا تنفع فيها الوساطة. وكانت أمي رحمها الله قد طرقت كل الأبواب وسلكت كل المسالك بلا هوادة، ولنا أقارب كبار في الأحزاب سواء الوفد أو أحزاب الأقليات (الحاكمة)، وأمي طاقة كبيرة لا تهمد ولا تخمد، بالقياس على أبي الذي كان ذا شخصية هادئة فلسفية تتقن الصبر وتتوكل على الله.
كانت [[مصر]] متوترة.. وسرت أخبار التعذيب بين شعب لم يعهدها من قبل.. وبرأت المحاكم المتهمين في بعض قضايا [[الإخوان]] الكبرى مشيدة بوطنيتهم وحسن بلائهم في [[:تصنيف:الإخوان في فلسطين|فلسطين]] ، وأهملت قضية جلاء الإنجليز عن [[مصر]] تماماً، وكانت المرارة في فم الجيش بعد [[:تصنيف:الإخوان في فلسطين|فلسطين]] وفي فم الشعب من كثرة المعتقلين.. وكان واضحاً أن الأمور لا تستقيم على هذا الحال.
 
وزارني ذات صباح – مبكراً – الدكتور [[فؤاد الرشيد]] يقول إنه سمع من مصادر في السراي أن الملك أرسل يستدعي [[حسين باشا سري]] من مصيفه بالخارج.. وأن أكتم الأمر، وزارتني أمي بعدها بقليل وأخبرتني أنها على موعد للذهاب لبعض أقاربنا من ذوي السلطات في سلسلة مساعيها للإفراج عني، وأوصيتها أن تؤجل الأمر أياماً، متوقعاً أن تسقط الوزارة، وظنت أمي أني عبقري سياسي عندما بعث الملك بعد أيام خطاب الإقالة [[لإبراهيم عبد الهادي]] بسبب ما يعانيه الشعب من القلق والتوتر من حكمه، وتكليف [[حسين باشا سري]] بتشكيل وزارة محايدة تحل مجلس النواب وتحضر لإجراء انتخابات حرة بإشرافها.
و[[حسين باشا سري]] من السياسين المستقلين، أي ليس عضواً في حزب سياسي، وهو مهندس كفء، ومعه طاقم السياسين الذين يحتاج إليهم لتولي وزارة محايدة بفترة مؤقتة تجري فيها الانتخابات ليتولى الحكم بعد ذلك حزب الأغلبية.. ولم يكن ذلك صحيحاً دائماً، فإذا كان الوفد في الحكم وأراد الملك التخلص منه فلن تكون الانتخابات نزيهة، وإذا كانت أحزاب الأقلية في الحكم وأراد الملك التخلص منها فيكفي أن تعقد انتخابات نزيهة ليعود الوفد للحكم. وكان هذا النظام يتيح للملك أن يقلب كفه الميزان كلما ضاقت الحال بالناس من حكم أحد الفريقين، ديكتاتورية الأقليات أو محسوبيات الوفد؛ وذلك لامتصاص نقمة الأمة فلا تنفجر فيه، وإن كانت الحقيقة دائماً أنه لا يحب الوفد، ولا يرحب به نظراً لقاعدته الشعبية العريضة وتمسكه بالدستور في مواجهة الملك.
 
وبدأت وزارة[[ حسين سري]] تفرج عن المعتقلين. وخرجتُ إلى الحياة – بحمد الله (1).
إن الشيخ [[يوسف القرضاوي]] فيحكي أيضاً نقولا مطولة عن الحياة في معتقل الهاكستب في مذكراته أبرزها العلقة الساخنة التي تلقاها [[الإخوان]] المعتقلون من الضابط [[فريد القاضي]] الذي أراد أن يعلِّم المعتقلين كيف يحترمون الضابط، فاستدعى أورطة (سرية أو عدة سرايا) من العساكر (مثل عساكر الأمن المركزي) ومعهم العصى الغليظة، وأذاقوا المعتقلين جميعاً علقة شديدة جداً.. ورغم ذلك قابلها شعراء [[الإخوان]] بابتسامة شعرية، فأنشد أحدهم يناجي محبوبته فقال (2):
 
ولقد ذكرتك والجنود تعجني
وسط العنابر بالعصايا يا سوسو
..'''<center><font color="blue"><font size=5> [[الإخوان المسلمون في سجون مصر (من عام 1942م-1975م)|تابع القراءة]] </font></font></center>'''
 
<center>'''[[:تصنيف:مكتبة الدعوة|مكتبة الموقع]]'''</center>

مراجعة ٠٤:٢٧، ١٦ أكتوبر ٢٠٢١

مكتبة الموقع

الإخوان المسلمون في سجون مصر (من عام 1942م-1975م)

بقلم المهندس / محمد الصروي بسم الله الرحمن الرحيم

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الأنعام:1].... وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [ الإسراء: 111 ]...

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ محمد بن عبد الله r، الذي تربى على يديه جيل قرآني فريد، قال الله – عز وجل – في شأنهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] هذا ثناء الله عليهم سجله إلى يوم الدين، كأعظم وثيقة شرف عرفتها البشرية، وكانت هذه الآية الكريمة هي وسام الشرف الرباني من الطبقة الأولى.. ليس لذواتهم، ولكن لصفاتهم المتميزة في ذات الآية: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، مع الإيمان بالله الواحد.. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أرقى وظيفة على وجه الأرض منذ أن وطئت أقدام آدم عليها وحتى قيام الساعة.

ثم توالت من بعدهم أفواج الدعاة إلى هذا الدين الخاتم، الذي نحن على يقين جازم الشك فيه ولا مراء في فضل إتباعه وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ البقرة: 251 ]، ومن فضل الله على العالمين – المذكور في هذه الآية – أن يهيئ لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجد لها دينها. وفي يقيني أن هذا المجدد لن يكون وحده أن يحمل هذه الأمانة.. بل لابد من صحبة تتعاون معه، وتؤازره، وتشد عضده، وتحمل تعاليمه إلى الآفاق، كما فعل الحواريون مع عيسى ابن مريم، وكما فعل جيل الصحابة العظيم الفريد مع رسول الله محمد r.. وكما فعل العلماء الأجلاء في هذه الأمة، جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل.. وحملة هذا المشعل الرباني لا يرضى عنهم أصحاب الشهوات، وأهل السلطان، فتكون مواجهة شرسة.. والشراسة من جانب الطغيان ضد هؤلاء الدعاة الذين لا حول لهم ولا قوة.. وليس لهم سلاح إلا الكلمة الطيبة.. فتأتي الابتلاءات والمحن قاسية وعنيفة.. وطويلة كذلك.. حتى إذا صبر هؤلاء الدعاة.. نزل عليهم نصر الله.. وأعظم نصر لهم، ليس في هلاك الطغاة، ولكن في انتشار دعوتهم وإيمان الناس بعقيدتهم، ومع الفساد في الأرض، أو تقليص حجمه على الأقل.. وأن ينتصر الدعاة على أنفسهم فيهبوا أرواحهم رخيصة لله عز وجل، يظنها الطغاة قتلاً، ويراها الدعاة شهادة، وفوزاً ونعيماً وملكاً كبيراً ) وَلَا تَحْسَبَنّو الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ( [ آل عمران: 169 ].

ولقد تعرض الإخوان المسلمون عبر تاريخهم الطويل، للعديد من المحن والشدائد والابتلاءات، والتي كانت تهدف – كلها – إلى استئصال شأفة هذه الدعوة وإطفاء نور الله ( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [ التوبة: 32 ].

وصدق الله العظيم إذ يقول وهو يرسم الطريق للسالكين على مر الدهور والعصور: ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ( [ إبراهيم: 13، 14 ] . ولقد تحدثنا في هذا البحث عن المحن والشدائد والابتلاءات التي تعرَّض لها الإخوان المسلمون في ثلاثة أبواب رئيسية:

الباب الأول: ويشمل ما تعرَّض له الإخوان المسلمون من ابتلاءات قبل انقلاب يوليو سنة 1952 م. الباب الثاني: ويشمل ما تعرض له الإخوان من ابتلاءات شاملة في عهد الانقلاب أعوام: 54، 55، 1965 م. الباب الثالث: ويتحدث عن الواقع الدعوى بعد الإفراج عن الإخوان المسلمين في أوائل السبعينات وحتى عام 1975 م.

ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يتقبله، وأن ينفع به آمين، والحمد لله رب العالمين.

محمد الصروي أغسطس 2005 م

الابتلاءات سنة ربانية كونية

الابتلاء في اللغة معناه الامتحان.. والاختبار.

وفعله ابتلى.. والفعل المجرد هو (بلى) .. ومنه بلاه بلاءً حسناً. ومنه في التنزيل المحكم: ) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ( [ البقرة: 124 ]، أي امتحنه واختبره بها، ومنه أيضاً: ) إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ( [ البقرة: 249 ]، ومنه أيضاً: ) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ( [ النساء: 6 ].

في الآية الأولى امتحن الله إبراهيم واختبره.. وفي الآية الثانية امتحن الله قوم طالوت بالنهر، وفي الآية الثالثة أمر بامتحان واختبار اليتامى إذا بلغوا سن الرشد . الامتحان:

نظام عادل إلى حد كبير، من أنظمة الكون، وذلك لتقويم شخص ما. فهو إذاً نوع من العدالة الذي اشتهر بين الناس:

  • فالطلبة في الفصل الدراسي يستمعون إلى المدرس شارحاً لهم الدروس، وهو لا يعرف من استوعب ومن ذاكر ومن كان شارداً بفكره وروحه رغم حضور (جسده) في الفصل. كيف تميز بين هذا وذاك.. لا شيء سوى الامتحان. وامتحان الشهادة الابتدائية أسهل من الإعدادية.. والإعدادية أسهل من الثانوية.. وهكذا تتدرج صعوبة الامتحان حتى يحصل الطالب على الدكتوراة، وصعوبة الامتحان هنا نوع من العدالة، ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( [ الزمر: 9 ] والتفرقة لا تكون إلا بالامتحان.
  • وفي الوظائف يكون الامتحان نوعاً من العدالة.. إذا كنت صاحب مصنع مثلاً فامتحان تعيين البواب والفراش والعامل العادي سهل ويسير، قد تكفي فيه بمقابلة الشخص للتأكد من تمام صحته، وقدرته على بذل الجهد.. وكفى.

أما إذا أردت مديراً للمصنع.. فالامتحان صعب وعسير، وقد تلجأ إلى مكتب خبرة بعد الإعلان في الجرائد عن الوظيفة، ويخضع المتقدمون لاختبارات فنية و (تكنولوجية) وإدارية، وسرعة بديهة وحسن تصرف وعمق نظر، والإنصاف في المعاملة بين الموظفين.. إضافة إلى فحص شهاداته وخبرته وسيرته الذاتية.. لماذا؟! لأن المهمة صعبة وشاقة وخطيرة ومؤثرة.

  • واختيار وكلاء الوزارات أصعب، فلابد أن تتعرض لفحص واختبار، وتنعقد من أجل ذلك لجنة للترشيح بين المؤهلين فنياً وإدارياً.
  • وفي مصر العزيزة، في كليات الطب، عند الحصول على شهادة الدكتوراه، تتعرض للامتحان من حوالي 24 أستاذاً، ولا يمكن أن يجيزوك من أول اختبار، لماذا؟! لأنك ستكون مسئولاً عن أرواح الناس.
  • وهناك بلاد لا يمكن السفر إليها إلا بعد الحصول على شهادة إتقان لغة مثل أمريكا، فلابد للدارس من اجتياز امتحان (toifel) وهو امتحان صعب وعسير.
  • وبديهي أن أي وظيفة لها أهمية كبيرة يكون امتحانها أصعب، وكذلك أي وظيفة مرتبها كبير.. فيقابل المرتب الكبير امتحان كبير وشاق وعسير.. ومتنوع، قد يشمل التحريري والشفوي والعلمي.. وفي معظم الأحوال تحتاج إلى مقابلة شخصية مع صاحب العمل بعد اجتياز كل الامتحانات المؤهلة للوظيفة.. وهذا أيضاً نوع من العدل الذي استقر عليه الناس وتعارفوا.. وقد حدث هذا لسيدنا يوسف ، ففي قصته المبسوطة في القرآن الكريم في سورته (سورة يوسف)) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ( [ يوسف: 54 ] ولعل سيدنا يوسف u، رأى أن الملك لم يتعرف على كل مواهبه وإمكاناته الشخصية (أقصد نعم الله عليه) .. فاستدرك على الملك قائلاً: ) اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ( .

إني حفيظ عليم:

هذا الكلام الطويل عن الامتحانات كنظام كوني عادل للتقويم ارتضاه الناس على مر العصور كنوع من العدالة فيما بينهم [ما لم تشبه شائبة الغش أو المحسوبية أو الرشوة كما في كافة الدول المختلفة].

وهو نظام عادل أيضاً من نظم الصناعة:

  • فأنت تصهر الذهب لكي تنقيه من الشوائب، فيصير ذهباً خالصاً (عيار 24).. فإذ خُلط صار عيار (21) أو عيار (18) ولكلٍ سعره وثمنه الذي يقل كلما اختلطت به الشوائب.
  • وأنت أيضاً تقوم بتقطير البترول لكي تحصل منه على مكوناته المختلفة وتميز بينها، بالحرارة العالية التي قد تصل إلى (950ºم) ففيه وقود الطائرات وهو أغلاها ثمناً (النافثا)، وفيه وقود السيارات (البنزين) وفيه الكيروسين والجازولين، وأخيراً المازوت والقار، وقد يتفحم بعضه ويصير فحماً.

وهذه العمليات في الصناعة تسمى فتنة. والفتنة في اللغة معناها الاختبار والامتحان.. كما جاء في القاموس: فتنت الذهب والفضة ووضعتهما على النار وأذبتهما حتى يتميز الرديء من الجيد.. وفي السوائل توجد عملية التقطير، وهو فصل السوائل غالية الثمن عن السوائل رخيصة الثمن. فهو أشبه بامتحان مجموعات السوائل المختلطة لتمييزها عن بعضها البعض. ولعل هذا يضاهي في الإنسانية قول الله عز وجل: ) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ( [آل عمران: 179].

وظيفة الدعاة إلى الله:

وهي رد الناس إلى ربهم وبارئهم وخالقهم، وهي عند الله – عز وجل – أعلى الوظائف وأرقاها، وأصعبها وأدقها، وتحتاج إلى مهارات شخصية متعددة.. وكفاهم شرفاً أن اختارهم الله واصطفاهم ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( [آل عمران: 33] . وكفاهم شرفاً أن الله صنعهم على عينه – سبحانه وتعالى – قال: ) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ( [طه: 39]. وكفاهم شرفاً: أنهم يقومون بأخطر مهمة على وجه الأرض، وهي محاربة الفساد.. ومحاربة أكبر الجرائم وهي استعباد الإنسان للإنسان.. فالدعاة يقومون بنشر التوحيد الذي ينزع عبودية كافة الطواغيت والشهوات والنزواعت، وعبودية المفسدين في الأرض.. إلى قمة الحرية.. ومنتهى الحرية.. وهي عبودية رب العالمين، وحده دون سواه، فليس بعد عبودية رب العالمين إلى رق الطغاة والبغاة والمفسدين.. فضلاً عن رق الشهوات.

وفي الوظيفة الأولى؛ وظيفة محاربة الفساد في الأرض يقول الله جل وعلا في شأن الدعاة: ) وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ( [ البقرة: 251 ]. وظيفة الدعاة إلى الله إذاً، هي أدق الوظائف وأصعبها، ولابد لها من اختبارات وامتحانات تناسب صعوبة وعظمة هذه الوظيفة.

وظيفة الدعاة إلى الله هي المركز المرموق للبشر عند الله عز وجل.. ولابد لها من مؤهلات. فإذا تراضى الناس في دنياهم نظاماً للتأكد من مؤهلات وظائف الدنيا.. فلماذا لا يرضون منهج الله في إعداد حملة دعوته؟!. إن أجر وظيفة الدعاة إلى الله عز وجل هي أعلى مرتب وأكبر أجر.. لا يعدله أجر وظيفة مهما كانت الوظيفة.. كما جاء في الحديث: " أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، فما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر ".. فالحواس التي يدرك بها الإنسان، ويقيس بها الأمور هي العين، السمع، القلب.. هذا النعيم فوق إدراكها.. فكيف تدركه؟ وأهل الجنة بين هذين الأجرين يتفاوتون، في الأملاك والنعيم والأجر.. كل هذا بخلاف الحور العين. والقصور والأنهار.. وراحة البال ) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ( [الواقعة: 25].

لماذا لا يكون مقابل هذا الأجر امتحان واختبار، للتفرقة في الجزاء والأجر والمرتبات والمكافآت المختلفة بين الناس من أهل الجنة !!.

والذين يرفضون مبدأ الامتحان للتفرقة بين أصحاب الأجور المختلفة ظالمون، والله لا يقبل منهم منهجاً ولا نظاماً، كما في الحديث: " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا "، فمن العدل أن تتم التفرقة بين كل هذه الأصناف من البشر، وفي التنزيل: ) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ( [آل عمران: 179]، هذه سنة كونية.. ونظام عادل للتمييز بين الناس.

ويصف الله عز وجل الناس الذين لا يريدون الامتحان منهجاً للتفرقة بين البشر والعدالة بينهم، أنهم (واهمون) .. فسد خيالهم، وضل تصورهم، واختار القرآن الفعل (حسب) للدلالة على هذا القصور في الفهم والتصور والإدراك.. ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ( [العنكبوت: 2]، ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( [آل عمران: 142]، فالعدل والعقل والمنطق.. كلها توجب الامتحان للتفرقة بين درجات الناس في الدنيا والآخرة، وكذلك الدعاة.. وكلما كانت المنزلة أكبر كان الامتحان (البلاء أو الاختبار) أصعب، لذلك كان للأنبياء والرسل أصعب الامتحانات وأدق الاختبارات.. وفي الحديث: " أشد بلاءً: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " .

لذلك يجب على الذين اختاروا طريق الدعاة إلى الله عز وجل سبيلاً واختاروا هداية الناس مهنة.. والعمل على التمكين لشريعة الله وظيفة لهم..أن يوطنوا أنفسهم على قبول امتحانات التأهيل لهذه الوظيفة الربانية العظيمة، وأن يتعاملوا مع الابتلاء بصبر وحب.. بل يشكرون الله عز وجل أن اختارهم لهذه الوظيفة السامية.. والمرموقة أيضاً، فامتحان الدعاة سنة كونية، وناموس رباني للتأهيل لهذه المهمة العظيمة.. ولهذه الوظيفة المرموقة عند الله عز وجل.

إن الذين ينجحون في امتحان الدعاة يحصلون على وسام رباني، تم تسجيله في أعظم الكتب على وجه الأرض وهو القرآن الكريم. هذا الوسام يسمى وسام (الخيرية).. وهو أرفع الأوسمة بعد وسامي النبوة والشهادة. ) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( [آل عمران: 110] فهذه الخيرية ترتبط وجود وعدماً بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أنواع البلاء:

ويصنف د. محمد عبد القادر أبو فارس أنواع الابتلاء إلى نوعين (1). فردي، وجماعي، والأخير هو الذي تحدثنا عنه آنفاً. أما النوع الفردي فهو ما يحدث للإنسان من ابتلاءات وهو في دوامة الحياة الدنيا. وهذا قدر مكتوب على البشرية كلها ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ( [البلد: 4].. إن جريان دوامة الحياة مع البشرية مليء بالمعاناة والمصائب.. ولكل إنسان نوع من المكابدة يُمتحن به.. " فمن رضا فله الرضا، ومن سخط فله السخط " كما ورد في الحديث الشريف. وهذا معناه أن البشرية كلها تكابد، وتبتلى، وتمتحن.. وتختبر .. لكن تختلف الامتحانات في أسئلتها، وأجوبتها، والشهادات الممنوحة لها. ذلك ناموس الحياة الدنيا.


الابتلاء الفردي:

وهو ما يحدث للإنسان من امتحانات في صورة مصائب، يُبتلى بها ليشكر أو يكفر، ليصبر أو يجزع.. فالشكر والصبر نجاح في الامتحان (الابتلاء) .. والجزع والكفر رسوب في الامتحان.. لذلك كان الرضا بالقضاء والقدر ركناً من أركان الإيمان ينهدم الإيمان بانعدامه.. أو على الأقل يهتز ويتزعزع.. وفي الحديث: " ليس من من لط الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية " ذلك لأن لطم الخدود وشق الجيوب تعبير عن السخط، وعدم الصبر على المصائب.

ولقد نقل صاحب الظلال عن الإمام محمد عبده كلاماً طيباً عن ناموس الابتلاء الذي يصيب النبات والحيوان والإنسان في تفسير قوله تعالى: ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ( [البلد: 4 ]، جاء فيه(1) " فإذا تصورت كم تعاني البذرة في أطوار النمو: من مقاومة فواعل الجو، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر، إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، تستعد.. إلى أن تلد بذرة أو بذوراً أخرى.. والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان، حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (.. ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع، واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم.

) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ( في مكابدة ومشقة (2)، وجهد وكد، وكفاح وكدح. كما قال في السورة الأخرى: ) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ( [الإنشقاق: 6].

الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تنتهي، تبدأ في الكبد والكدح والنَّصَب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء – بإذن ربها – وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض – إلى جانب ما تذوقه الوالدة – ما تذوق، وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى يكاد يختنق في مخرجه من الرحم!

ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأَمَرُّ، يعمل فمه ورئتاه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة!.. ويعان في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد، والذي يلاحظ الوليد حينما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي، يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة. وعند بروز الأسنان كبد، وعند انتصاب القامة كبد، وعند الخطو الثابت كبد، وعند التعلم كبد، وعند التفكر كبد.. وفي كل تجربة جديدة كبد، كتجربة الحبو والمشي سواء. ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته وهذا يكدح بفكره، وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء. وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف.. وهذا يكدح لملك أو جاه. وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوات أو نزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وهذا يكدح إلى الجنة. والكل يحمل حمله ويصعد كادحاً إلى ربه فيلقاه! وهناك الكبد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء. إن الكبد طبيعة الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكبد في النهاية، فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة لينتهي إلى الكبد الأشق والأمرّ في الأخرى، وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله. إلا أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء، إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير. ليس مثله طمأنينة بال، وارتياح للبذل. واسترواح بالتضحية. فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين! أو للانطلاق من هذه الأثقال، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان! والذي يموت في سبيل دعوة، ليس كالذي يموت في سبيل نزوة. ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه. " أ. هـ. سيد قطب ".

هكذا ترى الابتلاء الفردي قدراً مكتوباً على الإنسان في كل مراحل حياته.. ذلك الابتلاء الفردي تراه واضحاً ظاهراً إذا صار الإنسان شاباً يافعاً أو رجلاً مكتمل الرجولة.. ومن أمثلة الابتلاء المعتادة.. الامتحان في الصحة والمال، وفقد الولد، وعدم الأمن.. فمن صبر فاز وله البشرى. والقرآن يؤكد ذلك بلام التوكيد في الآية الكريمة: ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( [البقرة: 155] وأحاديث فضل الصبر على أنواع المصائب والابتلاءات والاختبارات الفردية كثيرة.. ومبسوطة كذلك في كتب فضائل الأعمال. منها مثلاً فقد الولد كما جاء في حديث البخاري: " ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبض صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه.. إلا الجنة ".

وفي البخاري أيضاً عن فقد الصبر. عن أنس بن مالك  قال: سمعت رسول الله r يقول: " إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته عنهما الجنة، يريد عينيه ".

فللصبر على البلاء الفردي أجر كبير كذلك عند الله، لمن آمن وعمل صالحاً ثم صبر على الامتحان والابتلاء.. ذلك لأن طبائع الأشياء: أن ليس كل الناس يصلح ليكون داعية إلى الله عز وجل. وسوف يكون من الفتنة أن يبتلى الدعاة فقط، ولا يبتلى غيرهم من الناس. فكل البشرية في الابتلاء والامتحان والمكابدة سواء.. لكن طلاب الآخرة إذا نجحوا في الامتحان كان أجرهم أعظم وأكبر من مجرد الصبر على المصائب.


ابتلاءات الإخوان قبل الثورة

أول قضية لُفقت للإخوان المسلمين (1942م)


كانت أول قضية(1) لفقها أتباع الإنجليز، الذين كانوا يحكمون مصر في عام (1942 م) هي اتهام بعض الإخوان بمحاولة قلب نظام الحكم.. فقام " المجلس البريطاني " في مدينة (طنطا) بتلفيق القضية للأخوين:

- محمد عبد السلام فهمي... مهندس بمصلحة الطرق والكباري (صار فيما بعد عميداً لهندسة أسيوط، فوكيلاً لجامعة الأزهر، ثم رئيساً لهيئة السكة الحديد).

- جمال الدين فكيه.. موظف ببلدية طنطا.

قد كانا من كبار الإخوان المسلمين بطنطا – آنذاك. " وقلب نظام الحكم " هي التهمة المفضلة التي يتهمون بها الإخوان منذ أكثر من ستين عاماً، ) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( [الذاريات: 53].

وأودع الإخوان سجن الحضرة بالإسكندرية، على ذمة القضية الجنائية العسكرية العليا رقم 822 لسنة (1942 م) – قسم الجمرك – الإسكندرية.

والمجلس البريطاني (British Counsel) مؤسسة ظاهرها ثقافي، لنشر اللغة الإنجليزية والعادات والتقاليد البريطانية في طنطا، لكن المشرفين عليها كانوا موالين للإنجليز قلباً وقالباً. أما المحقق فكان الأستاذ محمد توفيق رفقي رئيس النيابة وأعضاء المحكمة هم المستشارون: فؤاد بك أنور (رئيساً)، محمد توفيق إبراهيم بك (عضواً)،زكي أبو الخير الأبوتجي بك (عضواً)، ومعهم اثنان من العسكريين.

اهتم الإمام حسن البنا بالمحاكمة، ووكل جمعاً غفيراً من المحامين للدفاع في هذه القضية. وهم الأساتذة:

محمد علوبة باشا (نقيب المحامين)، عبد الرحمن البيلي بك (صار نقيباً للمحامين فيما بعد)، محمد فريد أبو شادي (صار أيضاً نقيباً للمحامين فيما بعد)، عمر التلمساني... محام وعضو مكتب الإرشاد.. ثم المرشد الثالث بعد ذلك، علي منصور (نقيب المحامين فيما بعد)، محمد فهمي أبو غدير، محام وعضو مكتب الإرشاد.

ورغم كفاءة المحامين، إلا أن الإمام حسن البنا بذل جهوداً كبيرة، ونجح في توكيل الأستاذ المحامي القدير علي بدوي عميد كلية الحقوق جامعة القاهرة... وكان أستاذ كل الأساتذة المحامين والمستشارين في ذلك الحين... وهو عميد القانونيين في مصر على مدى نصف قرن من الزمان.

وقد مكث الإخوان في سجن الحضرة ثمانية شهور رهن التحقيق، ولما حان وقت المحاكمة تم نقلهما إلى سجن الاستئناف بوسط القاهرة، وكانت من أشهر المحاكمات في ذلك الوقت.

ترافعت النيابة واتهمت الأخوين بتهمة الخيانة العظمى!! رغم أن شيئاً من ذلك لم يحدث على الإطلاق!، ولكن النيابة ادعت أنهم يعدون (جيشاً)!!! للترحيب بمقدم "روميل" القائد الألماني الشهير الذي جهز جيشاً لضرب الإنجليز، ولكنه – أي روميل – انهزم في موقعة " العلمين " الشهيرة.

حكمت المحكمة أخيراً بالبراءة للأخوين فهمي وفكيه، وكان نصراً للعدالة، ورفعة للإخوان. هذه قصة أول محاكمة للإخوان عام (1942 م). أما سجن الحضرة الذي شرف باستقبال الأخوين الكريمين فهو سجن صغير في حي الحضرة بالإسكندرية، لم يحدث عليه أي تطور طيلة خمسين عاماً.


الإخــوان في معتقل الهاكستــب


في ديسمبر 1948م أصدر رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي قراراً بحل جماعة الإخوان المسلمين استجابة لرغبة الإنجليز، فأغلقت دور الإخوان المسلمين ، وصودرت ممتلكاتهم، واعتقل عدد كبير منهم – إلا فرداً واحداً هو الإمام حسن البنا...، وبعد عشرين يوماً من حل الجماعة اغتيل محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء، على يد الطالب عبد المجيد حسن الذي ارتدى زي ضابط شرطة ودخل مكتب رئيس الوزارة وقتله بمسدسه... وجاء إبراهيم عبد الهادي رئيساً للوزراء الذي انتقم باغتيال حسن البنا في 12 فبراير 1949 م، وكان الإخوان المعتقلون بالآلاف قد أودعوا في معسكر الهاكستب.

وهذه المنطقة كانت معسكراً للإنجليز، وهي بين القاهرة ومحافظة الشرقية تبعد حوالي 30 كيلو متراً شمال شرق القاهرة ، وبعد أن رحل عنها الإنجليز قامت الحكومة بتجهيزها كمعتقلللإخوان المسلمين.

وفي عام 1948 م تم اعتقال وترحيل الإخوان من جميع المحافظات إلى معتقل الهاكتسب كمركز تجميع، تمهيداً لترحيلهم إلى جبل الطور في سيناء.

ويحكى الأخ علي أبو شعيشع(1) في كتابه " يوميات بين الصفوف المؤمنة " أن هذا المعتقل كان فيه أسرة (جمع سرير)، لكن بسبب كثرة عدد المعتقلين كان كل اثنين من الإخوان المعتقلين ينامان على سرير واحد.. وقد تم توزيع بطاطين (أغطية) عليهم... وكعادة الإخوان قاموا بترتيب المعتقل.. وأبرز ما حدث في هذا المعتقل هو السرعة الفائقة في تنظيم الإخوان لأمورهم داخله رغم أنه كان مجرد محطة للترحيل إلى جبل الطور.. ومن هذه الترتيبات:

- طابور رياضة الصباح لجميع الإخوان.

- تقديم الوجبات الغذائية وانتظامها.

- إيقاظ الإخوان قبل صلاة الفجر.

كان أحد الإخوان وابنه يطوفان المعتقل يرددان نداءً عذبًا:

يا نائمًا مستـغرقًا في النوم

قمْ واعبدْ الحي الذي لا ينام

مـولاك يدعـوك إلى ذكـــره

وأنت مشغـــول بطيب المنـام

وقد كنت أعتقد أن معتقل الهاكستب ليس به أحداث.. فالكلام عنه في المراجع نادر.. حتى عثرت على كتيب للدكتور حسان حتحوت أستاذ النساء والولادة والمفكر الإسلامي والإخواني القديم الذي صاحب الإمام حسن البنا عشر سنوات.. هذا الكتيب بعنوان " العقد الفريد – عشر سنوات مع الإمام حسن البنا ". وننقل هنا من كتاب د. حسان حتحوت بعض هذه الفترات (بتصرف):

" معسكر الهاكستب عنابر واسعة من البناء سابق التجهيز، كل منها محاط بالأسلاك الشائكة، فلا منفذ منه ولا إليه، كان المبنى الذي ذهبت إليه يسمى عنبر الإدارة لأن به مكتب قومندان المعسكر والضابط، وبعد إجراء التسجيل والتسليم دخلت دهليزاً طويلاً فوجدت الأخ إبراهيم الشربيني (رحمة الله.. كان رجلاً شهماً ووطنياً مخلصاً) يهش للقائي..

كانت هناك غرفة وحيدة صغيرة يشغلها مع عدد عبد المجيد وفتحي البرعي (وكان طالباً بكلية الزراعة ولا أدري أين هو الآن). كان كل منهم يشغل ركناً، فدعوني لأشغل الركن الرابع، وكان سائر الإخوان في العنبر المجاور.

كان في جناح الإدارة كذلك المعتقلون من اليهود والشيوعيين والوفديين، ولكن في طرف آخر غير منفصل إلا معنوياً، وكان الفناء واسعاً من دون السلك الشائك، فترك مجالاً للتمشية والرياضة. وطالما تمشيت مع الزميل (ع. ح)(1) ، وكانت الأحاديث بيننا ممتعة فكرياً، رغم تناقض العقائد والمنطلقات. وأحياناً نتمشى مع الشاب التقي يوسف القرضاوي الطالب بالأزهر، نذكر الله وندعوه ونأنس به، ولم يدر بخلدنا آنذاك أن هذا الشاب سيصبح واحداً من أكبر فقهاء العصر. وكنا نأخذ (الجراية) جافة من المتعهد، إذ صنع المعتقلون مواقد كهربائية بحفر قالب طوب وإيداع سلك يوصف طرفاه بالكُبس الكهربائي. لم يكن الطعام بالغ الرداءة ولا بالغ الحسن، ولكنه كان مملاً. واشتهينا ذات يوم (تورتة) من محل جروبي، لكنه كان اشتهاءً من قبيل الخيال.. حتى قال زميلنا وجيه الباجوري (الدكتور فيما بعد) إن الأمر ليس بهذا الإعجاز، وأخذ على عاتقه تنفيذه.. ونحن غير مصدقين.

وكان وجيه طالباً بالطب، ليس له صلة بالسياسة، لكنه كان ابن خالة عبد المجيد حسن الذي قتل النقراشي، فأتوا به ووالده الدكتور الباجوري – رحمه الله – الذي كان أستاذ الفسيولوجيا بكلية الطب، ومن أحب الأساتذة إلينا. المهم بعد أيام وصلت (التورتة)، فكيف وصلت؟! جاءت في السيارة الوحيدة التي يسمح لها بدخول المعتقل بدون تفتيش. جاءت في شنطة سيارة قائد المعتقل، بعد أن أقام وجيه علاقة إيجابية مع سائق السيارة وبعض عساكر الشرطة.. بما يعود بالنفع على الطرفين.

كانت هذه الفترة من أمرح فترات حياتي (ولا أقول أسعدها) .. كان لدي إدرار غزير من النكت والقوافي والقفشات، لدرجة أن الأخ (أ. ف) كان يتبعني باستمرار ومعه دفتر وقلم ليسجل عني ما أقول.. وكان بعد طالباً في الطب معتقلاً على ذمة الوفديين ولم يكن وفدياً ولا يحزنون. وكانت للأخ الفنجري اهتمامات بالتنويم المغناطيسي لم نأخذها مأخذ الجد الذي يفضي إلى الرفض أو القبول، لكنه في إحدى هذه المرات نوم واحداً من المعتقلين (لا أذكر اسمه ولكنه كان فيما بعد إماماً لمسجد السيدة زينب)(1) ، وطلب منه أن يذهب إلى إبراهيم عبد الهادي (رئيس الوزراء) ليرى ماذا يفعل: فأجاب بأنه اكتشف مؤامرة تمرد في الأورطة التاسعة بالجيش، وأن عبد الهادي نفسه يحقق الآن مع عدد من الضباط !! أخذناها آنذاك بفتور.. وكنا في أواسط 1949 م !!!.

وسارت الأمور على وتيرة واحدة في المعتقل (وكنت دائماً أسميه المعكسر).. وأعلنوا أنهم فتحوا باب التظلم للمعتقلين.. فمن أراد قدم طلباً جاءه الرد خلال شهر، لكن كل الردود كانت سلبية وتقضي برفض التظلم، وفي يوم من الأيام استدعى الضابط النوبتجي المعتقل محد الشحات (دكتوراه فيما بعد) ليوقع على علمه بالرد على التظلم. قال له "امض هنا" قال "أمضي على أيه" قال له " مش مهم تعرف" فأجابه لا أوقع على شيء لا أعرفه. قال الضابط "امض يا حيوان" فأجاب الشحات " أنت اللي حيوان"! وقامت القيامة! وانهالت العصى من الجنود على الشحات والمسكين يصيح ويستغيث في علقة لا يعلم لها آخر. وهنا أمسك معتقل يهودي اسمه إلياهو " كان طالباً بالطب " بحجر ورماه باتجاه غرفة الضابط!!. وساد هدوء بدأت معه الحلقة التالية: إذ قام جنود الشرطة بإشراف الضابط بتكسير مكتب القومندان وتكسير زجاجات الكوكاكولا الفارغة في إخراج متقن لإقناع النيابة بأن المعتقلين قاموا بحركة تمرد كبيرة اعتدوا فيها على الضابط ومبنى الإدارة.

وفي خلال ساعة كانوا قد فصلوا المعتقلين الآخرين عن الإخوان وأخذوا التمام، ووصلت "فرقة الباشا" والباشا هو اللواء سليم زكي حكمدار العاصمة آنذاك. أما الفرقة فكانت مدربة على أعمال الضرب والقمع والعقاب. ومن آخر الممر رأينا الفرقة تتقدم ومنظر الخوذات والعصى كمنظر القباب والمآذن. وقفز أربعتنا إلى غرفتنا الصغيرة. وحاول أحدنا أن يقفز من فوق الحائط إلى غرفة بها معتقلون سودانيون لكنهم طردوه مهددين بالإبلاغ عنه. وفي المستقبل عندما جاء دور العتاب قالوا عيب أن يفر وواجبه أن يثبت مع إخوانه!! وأغلقنا الباب مستحكمين، وراح إبراهيم الشربيني يدق مسماراً كبيراً فوق الباب بنية أن يثني المسمار فكأنه ترباس، لكنه كان يدقه بكنكة قهوة صغيرة لا تجدي، وفوق ذلك فقد كان الباب نفسه من ورق الكرتون السميك.. فلما شرع الجنود في تحطيمه وجدنا البلطة تخترقه وتدخل بين رءوسنا. ورغم أن سماع صوت العصى تنهمر كالمطر على الإخوان في العنبر بين صياحهم واستغاثتهم كان يدفعنا إلى الاستماتة في دفع الباب لإغلاقه، إلا أننا خشينا من تحطيم أدمغتنا بالبلطة كانت أشد.. ولم نجد إلا ترك الباب، وقفزنا إلى الركنين البعيدين من الغرفة والكل يحاول أن يكون خلف صاحبه، ووجدتني خلف الزميل علي عبد المجيد، وانفتح الباب: وبدأ العسكر يتقدمون، وأخذت تهوي العصى عشوائية على كل مكان، أصابت واحدة عيني فانقدحت بمثل البرق وأذني ورأسي وجسمي كله. وأدركت أن تترسى خلف علي لا يغني شيئاً، فقررت أن أقف منكمشاً وأخرج من ورائه تحت الضرب الهاطل، لكنني كنت أجابه الشرطي منهم وأمسك به قابضاً على كتفه واضعاً وجهي في وجهه وأسأله بهدوء وابتسامة خفيفة: "لماذا تضربني؟ هل بيننا عداء؟ ألم يخطر ببالك أن تسأل نفسك لماذا تضربني؟".. فيشيح بوجهه عني ويجيء الضرب من كل مكان، فأمسك بشرطي آخر وأسأله نفس الأسئلة.. ورغم انكشافي وتعرضي للزيد إلا أن هذه العملية – محاولة وضع الإنسان أمام إنسانيته – قد أفادتني نفسياً كما شغلتني عن مجرد الجلوس في انتظار سلبي لما يجيء من ضربات.

وانتهى الأمر فجأة.. وصاح بهم أحد ضباطهم: " بس يا بن الكلب أنت وهوه " وكأن حنفية كانت مفتوحة فأقفلتها يد قوية، ورثيت لحال هؤلاء العسكر الذين ضاعت منهم إنسانيتهم فدربوا على أن يكونوا كلاباً مسعورة تنهش بأمر وتسكت بأمر.

وانسحب العسكر.. وخيم صمت رهيب.. ودخلت على العنبر المجاور أزوره فذكرني فوراً باللحمة المفرومة. أكوام من الأثاث المبعثرة والأجساد المبعثرة الملطخة بالدماء وبالكدمات. قام إليَّ الأخ الأستاذ صالح أبو رقيق(1) معانقاً.. وقلنا بصوت واحد " تقبل الله ". إن الأخ صالح لما دخل الجند وقف أمامهم ومد ذراعيه جانباً يتلقى الضربات عمن وراءه من الإخوان ، وذلك من ضراوة العسكر. بل إن العسكري الذي كان ينهال عليه ضرباً إذا وقعت من يده العصا انحنى صالح والتقطها وردها إليه من جديد وعلى ثغره ابتسامة، فيأخذه الوحش وينهال عليه ضرباً من جديد!. وبينما كنا جلوساً لا تسعفنا الكلمات لا تسعفنا الكلمات إذا بالأخ عبد الودود شلبي ، الطالب بالأزهر (وكيل الأزهر فيما بعد) يدخل جرياً وهو يكرر في هلع كبير " عثمان بن عفان .. عثمان بن عفان " ولعل أحد العساكر لاحقه بالخارج.. ولا ندري كيف، لكنها كانت كافية ليضحك الجميع ويتبدد هذا الجو الكئيب.

وكنت في " المعسكر " ألبس بنطلوناً قصيراً تاركاً النصف الأعلى من جسمي عارياً تماماً؛ ولهذا فقد بدا أثر الضرب صارخاً، وبدوت مخططاً مثل النمر تماماً وجروحي تنشع بالمصل والدم. وأخذني أحدهم إلى الجناح الآخر فضمد اليهود جراحي ووضعوا عليها مرهمًا. وجاءني هنري كورييل (يهودي – مؤسس الحزب الشيوعي المصري). وحدثني عن الشيوعية وعن انتصارها في الصين، واتوني بكتاب اسمه " النجمة الحمراء في الصين " . ودخل القومندان إليهم فألقوا عليّ ملاءة لإخفائي عنه. جاء يسأل إن الكوكاكولا قد وصلت إليهم، مؤكداً أنه لن يسمح بعد اليوم بها لأولاد الكلب الآخرين. وعلمت أنهم يلعبون البوكر مع القومندان واسمه (عبد الحفيظ) ويخسرون له قصداً، فكانوا ينالون تسهيلات كبيرة، بل كان بعضهم يخرج لقضاء الليل في بيته ويعود في الصباح. وعدت للإخوان وقد عز علينا النوم في تلك الليلة، لأن إشاعة سرت بأنهم سيحضرون فرقة الباشا مرة ثانية ليفاجئنا مرة أخرى في أثناء نومنا بعلقة جديدة. لكن لم يحدث. وفي الصباح أخرجونا فأوقفونا طابوراً وبدءوا في عد التمام. كنا في غاية الرهبة، فإذا سمع أحدنا اسمه أجاب صائحاً " أفندم " .. لكن حدث أن الضابط الذي ينادي على الأسماء وصل إلى اسم عبد الودود فقرأه هكذا: "عبد الوِدْودْ ". ولم يحتمل الأمر أن ننفجر بالضحك المتواصل، والضابط عاجز في خزيه فانصرف.

وعلمت فيما بعد أن يوم العلقة كان يوم زيارة للأسر.. فأعدت لي أمي كيكة فاخرة من صنع يديها، ولما ذهبوا إلى قسم الشرطة الذي تقوم منه قافلة الزوار عاملوهم بغلظة، وفاجئوهم بأن الزيارة ألغيت.. وعادت أمي وأبي كسيرين إلى البيت ووضعت الكيكة لم تمتد إليها يدوكأنها ميت مسجى حتى رموها في القمامة.. وبعد فترة جاءت أمي وأبي زائرين وحييتهما من خلال القضبان، وكنت ألبس قميصاً، سألتني أمي عن الجرح في جبهتي فأخبرتها أنها خبطة في الشباك.

وغداة العلقة أقاموا علقة خاصة لكبار الشخصيات الإخوانية ولحسن الحظ لم أكن منهم.

ومرت الأيام بعد ذلك ثقيلة تحت وطأة حر الصيف في الصحراء، الذي أوحى بأغنية كثر تردادها مطلعها " معتقل الأحرار بين لهيب النار – هاكستب.. هاكستب" كذلك تحت وطأة شوقنا إلى من بالخارج. والظاهر أن عدة حالات مرضية ظهرت بين المعتقلين، سواء في الهاكستب أو في معتقل جبل الطور، ووجدت الحكومة نفسها تحت ضغط شديد من أقرباء المعتقلين، ومنهم كثير من نواب البرلمان حتى من حزب الحكومة، فرجعت عن قرار المنع الكامل للعلاج بالمستشفيات، ونظمت فرقاً من الأطباء تزور المعتقلات مع التنبيه بعدم التحويل للمستشفيات، إلا في حالة الضرورة القصوى.. وأبلغنا بموعد قدوم الفريق الطبي لتسجيل أسماء الراغبين في الفحص!.

كانت فرصة ثمينة ولكن لمن يحسن انتهازها. صديقي إبراهيم الشربيني (رحمه الله) استحصل على حقنة وإبرة وعبأ 2 سنتيمتر من الحليب المركز المحلي (الذي له قوام العسل) وحقن نفسه بها في العضل. ومعروف أن حقنة الحليب ترفع الحرارة فكانت حقنة اللبن علاجاً معروفاً لحالات الرمد الصديدي في العينين قبل حقنة المضادات الكيمائية والحيوية، على اعتبار أن الحرارة العالية تقتل الميكروبات. وارتفعت حرارة إبراهيم إلى 42 درجة مئوية وعاينه الأطباء ولم يصرحوا بتحويله للمستشفى.

كانت لي أنا خطة مختلفة، والحرب خدعة، طليت إصبعي بطبقة من هذا الحليب وتركته حتى يجف. وشبكت في ملابسي الداخلية دبوس مشبك. وذهبت للأطباء في حالة أليمة من المرض أشكو لهم من ألم الكلية وتقيح البول.. كان مظهري يستدر الشفقة، وكان طبيعياً أن يعطوني كأساً طالبين عينة من البول. ونظراً لأن الغرفة كان بها ناس. وأن الحياء من الإيمان فقد ذهبت بالكأس إلى الحائط واستدرت مولياً ظهري.. وشككت إصبعي بالدبوس وغسلته بسيال البول وكان اللبن والدم والبول عينة ممتازة للبول ذي الصديد والدم.. فانزعجوا وقالوا: إلى المستشفى فوراً. ويا النعيم!. وإلى مستشفاي مرة أخرى. مستشفى الدمرداش الجامعي. نفس الغرفة الخاصة التي خرجت منها مكبلاً بالحديد.

ويواصل د. حسان حتحوت قائلاً: وفي هذه الفترة استطاع الأخ نجيب جويفل الذي كان تحت الحراسة أن يغافل حراسه ويهرب من المعتقل ومنه إلى سوريا.

وكانت تأتينا أخبار قضايا الإخوان في المحاكم. ولأول مرة نعلم أن مصر قد دخلت عصر التعذيب في التحقيقات، وأن رئيس الوزراء كان يشرف على التعذيب بنفسه أحياناً، وأنه هدد أحد المتهمين بأن يأمر العسكري الأسود بأن يرتكب فيه الفاحشة، وكانت بدايات التفنن في التعذيب، وهي بدايات نمت وازدهرت وأنبتت من كل زوج قبيح.

وزارني الدكتور حسن حتحوت ، عضو مجلس الحزب الحاكم، الحزب السعدي الذي يرأسه رئيس الوزراء إبراهيم باشا عبد الهادي. طلب مني أن أعطيه كلمة الشرف بأنني غير متورط في أي عمل إجرامي، حتى يبذل مساعيه الخاصة وهو مطمئن. وطمأنته على ذلك. وهو إنسان نبيل – رحمه الله – وإن كانت الظروف في ذاك الآن لا تنفع فيها الوساطة. وكانت أمي رحمها الله قد طرقت كل الأبواب وسلكت كل المسالك بلا هوادة، ولنا أقارب كبار في الأحزاب سواء الوفد أو أحزاب الأقليات (الحاكمة)، وأمي طاقة كبيرة لا تهمد ولا تخمد، بالقياس على أبي الذي كان ذا شخصية هادئة فلسفية تتقن الصبر وتتوكل على الله.

كانت مصر متوترة.. وسرت أخبار التعذيب بين شعب لم يعهدها من قبل.. وبرأت المحاكم المتهمين في بعض قضايا الإخوان الكبرى مشيدة بوطنيتهم وحسن بلائهم في فلسطين ، وأهملت قضية جلاء الإنجليز عن مصر تماماً، وكانت المرارة في فم الجيش بعد فلسطين وفي فم الشعب من كثرة المعتقلين.. وكان واضحاً أن الأمور لا تستقيم على هذا الحال.

وزارني ذات صباح – مبكراً – الدكتور فؤاد الرشيد يقول إنه سمع من مصادر في السراي أن الملك أرسل يستدعي حسين باشا سري من مصيفه بالخارج.. وأن أكتم الأمر، وزارتني أمي بعدها بقليل وأخبرتني أنها على موعد للذهاب لبعض أقاربنا من ذوي السلطات في سلسلة مساعيها للإفراج عني، وأوصيتها أن تؤجل الأمر أياماً، متوقعاً أن تسقط الوزارة، وظنت أمي أني عبقري سياسي عندما بعث الملك بعد أيام خطاب الإقالة لإبراهيم عبد الهادي بسبب ما يعانيه الشعب من القلق والتوتر من حكمه، وتكليف حسين باشا سري بتشكيل وزارة محايدة تحل مجلس النواب وتحضر لإجراء انتخابات حرة بإشرافها.

وحسين باشا سري من السياسين المستقلين، أي ليس عضواً في حزب سياسي، وهو مهندس كفء، ومعه طاقم السياسين الذين يحتاج إليهم لتولي وزارة محايدة بفترة مؤقتة تجري فيها الانتخابات ليتولى الحكم بعد ذلك حزب الأغلبية.. ولم يكن ذلك صحيحاً دائماً، فإذا كان الوفد في الحكم وأراد الملك التخلص منه فلن تكون الانتخابات نزيهة، وإذا كانت أحزاب الأقلية في الحكم وأراد الملك التخلص منها فيكفي أن تعقد انتخابات نزيهة ليعود الوفد للحكم. وكان هذا النظام يتيح للملك أن يقلب كفه الميزان كلما ضاقت الحال بالناس من حكم أحد الفريقين، ديكتاتورية الأقليات أو محسوبيات الوفد؛ وذلك لامتصاص نقمة الأمة فلا تنفجر فيه، وإن كانت الحقيقة دائماً أنه لا يحب الوفد، ولا يرحب به نظراً لقاعدته الشعبية العريضة وتمسكه بالدستور في مواجهة الملك.

وبدأت وزارةحسين سري تفرج عن المعتقلين. وخرجتُ إلى الحياة – بحمد الله (1). إن الشيخ يوسف القرضاوي فيحكي أيضاً نقولا مطولة عن الحياة في معتقل الهاكستب في مذكراته أبرزها العلقة الساخنة التي تلقاها الإخوان المعتقلون من الضابط فريد القاضي الذي أراد أن يعلِّم المعتقلين كيف يحترمون الضابط، فاستدعى أورطة (سرية أو عدة سرايا) من العساكر (مثل عساكر الأمن المركزي) ومعهم العصى الغليظة، وأذاقوا المعتقلين جميعاً علقة شديدة جداً.. ورغم ذلك قابلها شعراء الإخوان بابتسامة شعرية، فأنشد أحدهم يناجي محبوبته فقال (2):

ولقد ذكرتك والجنود تعجني وسط العنابر بالعصايا يا سوسو

..
تابع القراءة
مكتبة الموقع