قراءة في رسالة المؤتمر الخامس (1)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
قراءة في رسالة المؤتمر الخامس (1)


بقلم: وليد شلبي

مقدمة

لا شك أن المؤتمر الخامس كان من أهم المؤتمرات التي عقدها الإخوان في أواخر الثلاثينيات الميلادية من القرن الماضي؛ ففيه تكلَّم الأستاذ الإمام حسن البنا عن كثيرٍ من القضايا التي تهمُّ الإخوان وغيرهم؛ فتحدَّث عن غاية الإخوان ومناهجهم ووسائلهم، وعن إسلامهم وخصائص دعوتهم وعن موقفهم من الهيئات والأحزاب، وموقفهم أيضًا من الدول الكبرى.

ثم أنهى كلمته بحديثٍ عن التضحية وعن الجهاد؛ وهي الدعائم التي قام عليها الدين الإسلامي في عهد الأسلاف الكرام- رضوان الله تعالى عليهم- ثم بثَّ الأمل في نفوس الإخوان، وأنهم قادرون- بإذن الله- على أن يُعيدوا هذا المجد مرةً أخرى لو سلكوا ما سلكه الأسلاف الكرام بهمَّةٍ وعزيمة.

والحقيقة أن الرسالة تُعد من أهم وثائق الجماعة ورسائلها التي توضِّح فكرَ الجماعة ومنهجها، كما أنها مليئةٌ بالمعاني الشيِِّقة الجزلة، وتتناول الكثير من المفاهيم التي تشكِّل محاور أساسية في دعوة الإخوان، ومنها اكتسبت هذه الرسالة العظيمة أهميتها ومكانتها؛ لكونها تمس الكثير من القضايا الفكرية الحساسة التي تصيغ التكوين الفكري للإخوان المسلمين.

ومن المعلوم أن وقت كتابة الرسالة كان العالمُ الإسلامي يعيش واقعًا بئيسًا، وهو ما ذكره الإمام حين قال "أضحكني وأبكاني حكم فقهي رأيته عرضًا في كتاب (الشرح الصغير على أقرب المسالك) قال مؤلفه: "مسألة امرأة مسلمة سُبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها وافتداؤها ولو أتى ذلك على جميع أموال المسلمين", ورأيت مثله قبل ذلك في كتاب (البحر في مذهب الأحناف), رأيتُ هذا فضحكتُ وبكيتُ، وقلت لنفسي: أين عيون هؤلاء الكاتبين لتنظر المسلمين جميعًا في أسرِ غيرهم من أهل الكفر والعدوان؟!".

بهذا يحدِّد الأستاذ الإمام البنا الروح التي تشد إليها الرسالة جميعًا.. وهي ضخامة المشكلة التي يجب أن نضطلع بالقيام بها، وهي وقوع المسلمين جميعًا في أسرِ أهل الكفر والعدوان، وهو أمر يرفضه الدين نفسه؛ لأنه كما يذكر الأستاذ الإمام البنا: "والإسلام يأبى على أبنائه إلا أن يعيشوا سادةً في أوطانهم، أئمةً في ديارهم، فما يعيشه المسلمون الآن وضع مخزٍ بالغ السوء والبؤس".

ضخامة التبعة.. المشكلة والثمن

ولقد قرَّر الإمام- رحمة الله عليه- قاعدةً عظيمةً، وهي عدم قدرة قوةٍ مهما بلغت من العُدَّة والعتاد من القيام بهذه المهمة وحدها، ولكن ينبغي أن تضطلع بها الملايين، وعلى الأمة جمعاء أن تقوم بدورها تجاه هذه المهمة الضخمة.

ولقد صدق حدس الإمام بدعوته الباكرة الفريدة لاضطلاع الأمة بدورها، وإننا لنجد العالم الآن عالمَ التكتلات الضخمة والكيانات الكبرى، ومَن لا يستطع أن يقوم بهذا فعليه أن يرضى بالحياة الدنيا، وهذا يؤكِّد ضرورة قيام الاتحادات الكبرى، ولا يمكن أن نكون القوة الضاربة إلا بتوحد الأمة كلها... "ألا فلتعلم الأمة ذلك، وليعلم الإخوان المسلمون"؛ لذا فإن كل ما يبعد الأمة عن تحقيق هدفها وغايتها ينبغي تقييده.

ولعل سقوط الخلافة كان من أبرز مظاهر الواقع البئيس الذي تحدَّث عنه الإمام؛ فالخليفة هو مناط الكثير من الأحكام وواسطة العقد ومهوى الأفئدة وظِلُّ الله في أرضه، ونرى في السيرة أن المسلمين تركوا تجهيز النبي واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ركَّز الإمام على خاصيةٍ من أهم خصائص الإخوان المسلمين، وهي البُعد عن مواطن الخلاف؛ حتى تستطيع الأمة القيام بهذا التكليف؛ وهو خروج المسلمين من سيطرةِ أهل الكفر والعدوان.

وأكَّد الإمام ضرورةَ تربية الأمة؛ لأنه لا تستطيع الأمة القيام بدورها وهي جاهلة، ولعل الواقع البئيس الذي كانت- وما زلت بكل أسف- تحياه الأمة ودور الخصوم الأذكياء الأقوياء الذين استطاعوا أن يصبغوا الأمة بغير مظاهر الإسلام هو تشخيصٌ للواقع في أنهم أبعدوها عن مظاهر الحياة الإسلامية، وسهَّلوا لها عبادة الله في المسجد وعبادة غيره خارجه.

ولعل هذا كان واضحًا في قول مصطفى لطفي المنفلوطي في بعض كتبه "وأصبح السيد في بيته يستحي من خادمة غرفته الأوروبية أن تطَّلع على جهله بعاداتِ قومها في لبس الحذاء وخلع الرداء أكثر مما يستحي من الله"، وهذه هي الطبقة التي أوجدها المستعمر وحرص على رعايتها.

تغليب العمل على القول

لقد كان الإمام الشهيد واضحًا تمامًا في بداية هذه الرسالة في تركيزه على وضع أساسٍ مهم في نفوس الإخوان حين قال: "كنت أود أن نظل دائمًا نعمل ولا نتكلم, وأن نَكِلَ للأعمال وحدها الحديثَ عن الإخوان وخطوات الإخوان, وكنت أحب أن تتصل خطواتكم اللاحقة بخطواتكم السابقة في هدوءٍ وسكونٍ من غير هذا الفاصل الذي نحدِّد به جهاد عشر سنوات مضت لنستأنف مرحلةً أخرى من مراحل الجهاد الدائب في سبيل تحقيق فكرتنا السامية"؛ فهو هنا يركز على تغليب العمل على القول وإيثار تحقيق الإنجازات على رفع الشعارات، واعتبار كل جهدٍ مبذولٍ في سبيل الله نوعًا من الجهاد في سبيل رفعة الدين وإعلاء رايته.

الهدف من المؤتمر

ولقد أوضح الإمام الشهيد الهدف الرئيس من المؤتمر؛ فهو للتقييم واستعراض النتائج وعدم الحياد عن الغايات والوسائل؛ لعدم الانحراف عن المستهدفات الأساسية للدعوة، كما تمَّ وضعها من البداية، ومن هنا ينبغي على مَن يسير في هذا الطريق مراجعة نفسه ووسائله ومراحله في كل فترة، ولا عيبَ في هذا حتى تستقيم الأعمال وتتضح الأهداف.. "ولا بأس أن ننتهز هذه الفرصة الكريمة فنستعرض نتائجنا, ونراجع فهرس أعمالنا, ونستوثق من مراحل طريقنا ونحدِّد الغاية والوسيلة".

ولو اتبعنا منهج الإمام هذا في المتابعة والتقييم لكانت النتيجة كما وضَّحها الإمام: "فتتضح الفكرة المبهمة, وتصحح النظرة الخاطئة, وتعلم الخطوة المجهولة, وتتم الحلقة المفقودة, ويعرف الناس الإخوان المسلمين على حقيقةِ دعوتهم من غير لَبْسٍ ولا غموض"، فهذا هو الهدف من مراجعة الأعمال وتقييمها من وقتٍ لآخر؛ فعلى الداعية أن يراجع نفسه وأن يهتم بتصحيح الصورة الذهنية عنه لدى الآخر وعدم تجاهلها، وأن يوضح أهدافه ومراميَه الحقيقية بكل وضوح وبدون لَبْسٍ أو غموض؛ فهذا واجبه، وهو في ذات الوقت حقٌّ الآخر عليه.

ولعل هذا كان أكثر وضوحًا وجلاءً في حديثه- رحمه الله- عن حدود سماعنا للآخر حين قال "ولا بأس بأن يتقدَّم إلينا من وصلته هذه الدعوة ومَن سمع أو قرأ هذا البيان برأيه في غايتنا ووسيلتنا وخطواتنا"؛ فهو يُعطي الآخر الحقَّ في أن يقول رأيه في الغاية والوسيلة والخطوات التنفيذية.. فأي حقٍّ هذا يمكن أن يعطيَه أحدٌ لمخالفه ليصل ليقول رأيه في غايته؟! ولكنها الشفافية والوضوح وتغليب الصالح العام على الخاص، وهذا ما أكَّده في تقريره لمبدأ قبول النصح في عدم تكبُّرٍ أو تعالٍ أو احتكارٍ للحق دون الآخرين "فنأخذ الصالح من رأيه, وننزل على الحق من مشورته؛ فإن الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم".

الأخوة والحب في الله

الأخوة والحب في الله

يذكر كل مَن كان يحضر دروس الإمام الشهيد أنه كان يبدأ درسه بكلماتٍ عن الحب والأخوَّة في الله، وكان يطلق على حديث الثلاثاء عاطفة الثلاثاء: "أجدني في غنًى عن تحيتكم وشكركم, وعن وصف ما يغمرني من السعادة بموقفي هذا بينكم, ومن السرور والفرح بلقائكم ومن الأمل العظيم بمؤازرتكم وتوفيق الله إياكم.

أجدني في غنًى عن بيان هذا كله بهذا الفيض من العواطف النبيلة الذي يغمر هذا الاجتماع, فكان كل ما فيه ينطق بالحب العميق والارتباط الوثيق والأخوَّة الصادقة والتعاون المكين, ووفَّقكم الله لخير ما يحب ويرضى".

فعلى الدعاة العاملين لدين الله عدم إغفال الحب والأخوَّة في الله؛ فهما الوقود الدافع لعجلة الدعوة، وهما الضمانة الأكيدة- بعد توفيق الله وعونه- لاستمرار العمل ونمائه.. فكيف يتسنَّى لعملٍ بلا حب ومودة وتعاطف أن يُوصَف بأنه إسلامي؟! فنحن نتقرَّب إلى الله بحبِّنا لبعض وتعاوننا مع بعض، فلا ينبغي إذن أن نختلق أعذارًا تبرِّر تقصيرنا في هذا الجانب، وعلينا أن نعمل جاهدين لاستكمال النقص في طاعة الله أولاً ثم لتحقيق الأهداف ثانيًا.

منزلة القلب وأعماله

وينتقل الإمام بعد ذلك لبُعْدٍ جديدٍ يرسي به مبدأً مهمًّا؛ ألا وهو التركيز على أعمال القلوب وتهذيب النفوس؛ فلا ينبغي لداعيةٍ أن يغفلهما؛ فهما مناط العمل، وعليهما يقوم، وبهما يُقبل أو يحبط العمل "السعادة التي ينشدها الناس جميعًا إنما تفيض عليهم من نفوسهم وقلوبهم, ولا تأتيهم من خارج هذه القلوب أبدًا, وأن الشقاء الذي يحيط بهم ويهربون منه إنما يُصيبهم بهذه النفوس والقلوب كذلك.. وإن القرآن الكريم يؤيِّد هذا المعنى ويوضِّحه؛ ذلك قول الله- تعالى-: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11)"، فلنعلم أن الله مطَّلع على القلوب والنفوس والسرائر، وكما قال السلف: "إن أمراض القلوب أصعب وأشد من أمراض الأبدان"، وإن مكمن الخطر في معاصي القلوب والنفوس؛ فعلينا أن نفتش في نفوسنا وننقِّيَها ونتعهدها بين الحين والحين، ونصحح من نياتنا وتوجهاتنا؛ عسى الله أن يتقبَّل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.

ووضَّح الإمام بعد ذلك بُعدًا مهًّما في تربية النفس، وبدأ فيه بنفسه حين قال: "ولهذا وقفت نفسي منذ نشأت على غايةٍ واحدةٍ هي إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقةً وعملاً.."؛ فهو هنا يرسي مبدأ المسئولية الفردية بادئًا بنفسه؛ فعلى كل داعية أن يؤديَ دوره على وجهٍ يرضى ربه عنه ولا يتكل على أحد ليؤديَ عنه هذا الدور، وليتذكَّر قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41)) (النجم).

حقيقة فكرة الإخوان المسلمين

ثم تحدَّث- يرحمه الله- عن نقطةٍ في غاية الأهمية، وهي حقيقة فكرة الإخوان المسلمين حين قال: "ولهذا كانت فكرة الإخوان المسلمين إسلاميةً بحتةً في غايتها وفي وسائلها؛ لا تتصل بغير الإسلام في شيء"؛ ففكرة الإخوان مستمَدَّة من الإسلام وقائمة عليه ومن أجله تعمل وتضحي؛ فحين يتعاطى الإخوان مع مختلف مجالات العمل الدعوي فهم يتعاطون مع الإسلام في حقيقة الأمر، وينفِّذون تعاليمه كما فهموه وكما فهمه الأسلاف في عهد النبوة وما بعده من عهود؛ لذا فليس غريبًا أن يرفع الإخوان في انتخاباتهم شعار "الإسلام هو الحل"؛ حيث إن الإسلام هو حجر الزاوية ومحور الاهتمام الماثل أمام أعينهم في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من أعمالهم ووسائلهم؛ فكل خطوةٍ أو كلمة أو عمل لا بد أن يوزن بميزان الإسلام وتعاليمه ويُقيَّم على أساسه.

وضرب الإمام الشهيد مثلاً رائعًا في ضرورة تحويل همسات القلوب لواقعٍ ملموسٍ حين قال: "ظلت هذه الخواطر حديثًا نفسانيًّا ومناجاةً روحيةً بها في نفسي لنفسي, و قد أفضي بها إلى كثيرٍ ممن حولي, وقد تظهر في شكل دعوة فردية أو خطابة وعظية أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس, أو حث لبعض الأصدقاء والعلماء على بذل الهمة ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير"؛ فهو لم يقف عند حدِّ الوعظ والخطب وحسب، ولكنه استثمر هذا الوضع في تحفيز الناس واستخراج المخزون الهائل من الطاقة والحب للإسلام وتوظيفه لخدمة الدين ورفعته ونشر القيم النبيلة في المجتمع.

فلا بد من توظيف الحدث كما ينبغي واستثماره لما فيه خدمة الإسلام وإعلاء رايته، وهذا ما ذكره حين قال: "ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي وأهابت كوامن في قلبي, ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل, وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه, والتأسيس بعد التدريس"؛ فعلى الدعاة استثمار الأحداث- وكثيرًا ما هي- وتوظيفها لخدمة الدين وتوعية الناس وتوجيههم لتحويل عواطفهم لواقعٍ ملموسٍ ومؤثِّرٍ وفاعلٍ في الأحداث.

واختتم الإمام الشهيد هذا المحور بعرضه لحاله هو وصحبه الكرام وما كانوا عليه من استشعارٍ لهَمِّ الأمة وما آلت إليه من ذُلٍّ وهوانٍ، ولكنه- يرحمه الله- وظَّف هذه المشاعر الجيَّاشة للعمل لنصرة الدين وإعلاء رايته: "ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونُحلل العلل والأدواء، ونُفكِّر في العلاج وحسم الداء, ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حدِّ البكاء".

فكما يقول العلماء: إن الهمَّ من الهمة؛ فأول طريق الهمة هو استشعار الهمِّ ولكن بإيجابيةٍ وبلا يأس أو قنوط، وتحويل هذه المشاعر لنتائج ولثمار حلوة.. "و في الإسماعيلية أيها الإخوان وُضعَت أول نواة تكوينية للفكرة, وظهرت أول هيئة متواضعة نعمل ونحمل لواءها؛ نعاهد الله على الجندية التامة في سبيلها تحت اسم (الإخوان المسلمون)، وكان ذلك في ذي القعدة سنة 1347 هـ".


المصدر