قصة حقيقية الغرق فى مياه الخليج (2)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
قصة حقيقية الغرق فى مياه الخليج (2)

11 سبتمبر 2010

بقلم: حسن المستكاوي

ابتعدنا بالزورق الزودياك المطاطى عن اليخت الحديث الذى كان يدور غارقا فى مياه الخليج، بعد أن اندلع حريق فى غرفة الآلات، دون سبب معروف. وعندما أسرعت لإيقاظ أبى وهو نائم فى إحدى القمرات، رأيت جدران القمرة البلاستيكية تغلى من شدة الحرارة، فأصابنى الفزع.. كنا 12 شخصا فى الزودياك، وشاءت الأقدار أن ينقذنا هذا القارب الصغير الذى طلبته قبل أن نغادر الميناء بلحظات لممارسة رياضة الغطس على حافة صخور الجزيرة التى سنتجه إليها فى قلب الخليج العربى..

أنقذنا الزودياك، على الرغم من أن اليخت كان مجهزا بقوارب إنقاذ يمكن إنزالها إلى المياه هيدروليكيا.. لكن لحظة اشتعال النيران توقفت العقول، وضاع التفكير كانت الساعة تقترب من الرابعة عصرا.. ونحن فى وسط المياه التى غابت عنها الأمواج فجأة، وأصبح البحر بساطا، وكان الموج يضرب فى مقدمة اليخت ونحن فى الطريق إلى الجزيرة، ويؤرجحه يمينا ويسارا.. لكن هدوء البحر بعد غضبه كان رسالة.. أدركنا معناها فيما بعد، إذ كانت تكفى موجة واحدة لتقلب القارب رأسا على عقب، ليبتلع البحر من لا يجيد السباحة وتلتهم أسماك القرش التى تحيط بنا من يجيد السباحة..

لا نرى أرضا حولنا، ولا نعرف أين موقعنا ولا نعرف إلى أين نتجه، ولا أمل فى ظهور وحدات إنقاذ لأننا لم نستغث طلبا للنجدة، ومياه البحر تبدو ممتدة بلا نهاية، والشمس تستعد للمغيب.. شاهدنا جزيرة على مسافة بعيدة، حاولنا التحرك إليها، إلا أن التيار كان يدفعنا إلى الخلف، وموتور الزودياك ضعيف ومثقل بأوزان 12 شخصا، وبمقاومة المياه.. قررنا أن نترك أمرنا لله سبحانه وتعالى، وقررنا الاستسلام لحركة التيار.. كانت تلك لحظة فريدة قلما يعرفها الإنسان.. لحظة انتظار بصيص أمل فى الحياة، وفى الوقت نفسه الاستعداد لمواجهة الموت.. وكان الاختبار شاقا وصعبا. فهى لم تكن لحظة خاطفة تحسم الأمر وتكسر الخيط المشدود الذى يفصل بين الحياة وبين الموت.. فقد استمر هذا الموقف 14 ساعة تقريبا، منذ اندلع الحريق فى غرفة آلات اليخت، وحتى الرابعة من فجر اليوم التالى..

لماذا شب الحريق فى آلات اليخت الجديد الكبير فجأة.. كيف اشتعلت فيه النار وأكلت اليخت فى 30 دقيقة..؟ هل هو هذا الحوار الفلسفى الذى كان دائرا أثناء تناول طعام الغذاء بين بعض أعضاء الرحلة حول وجود الله ومظاهر ودلائل وجوده؟

يقول رواد البحار إنه عندما تتعرض سفينة لخطر الغرق، فإن البحارة يرددون جملة «لا إله إلا الله» أملا فى النجاة. ومنذ بدأت المحنة ظل 12 رجلا تائها فى عرض البحر يرددون هذه الجملة وأولهم هؤلاء الذين كان يتناقشون ويتساءلون عن وجود الله ودلائل وجوده.. وأثناء تلك المناجاة والابتهالات بجملة التوحيد، كانت هناك مناجاة النفس.. أب يدعو الله بصوت خافت وفى توسل ورجاء: «يارب خذ حياتى فقد عشت وكبرت فى السن، وأنقذ ابنى فالحياة ما زالت أمامه»..

المياه تهاجم حواف القارب، ويقترب الشعور بالغرق، والابن يفكر فى مشهد انسحاب الأب أمامه إلى أعماق المياه لأنه لا يجيد السباحة، فيسأل الله أن يكون رحيما به وبنا جميعا.. ويناجى أب آخر الله سبحانه وتعالى أن يكتب له النجاة من أجل أسرته وابنه الصغير.. ويتعالى النداء بالتوحيد كلنا فى صوت واحد ونفس واحد بلا توقف: «لا إله إلا الله».. ويبقى سلطان السويدى رئيس الاتحاد القطرى لكرة القدم فى ذلك الوقت وصاحب اليخت على صلابته وشجاعته وحكمته، فيخفف من مشاعر الخوف والفزع التى تصيبنا، ويبعث الأمل فى النفوس، وبأنه لو كان الله سبحانه وتعالى يقدر لنا الغرق والموت لظلت أمواج البحر عالية وعاصفة حين بدأت المحنة ولغرقنا منذ اللحظة الأولى.. وقد كانت هديته سبحانه وتعالى هذا القارب الصغير الذى اشتريناه قبل أن نغادر الميناء بلحظات..

سكون الليل، وسط البحر، وحركة أسماك القرش التى تدور حول اليخت، جعلت اليأس يسكن نفوسنا، بعد أن مضت ساعات، دون أن نرى بصيص أمل فى النجاة.. ثم يعود الأمل مع أصوات الدرافيل التى أحاطت بالقارب.. هل حقا تسرع الدرافيل لإنقاذ الإنسان وهو فى

خطر.. كيف تشعر بأنه فى خطر؟!

الليل ينتصف. والخوف يختلط بالأمل. والموت يقترب بكل الظروف والمشاهد، وفى الوقت نفسه تدق القلوب بالرغبة فى الحياة وتتحدى الظلام والخوف واليأس.. وفجأة نرى ضوءا قادما من بعيد يبدو مثل شمعة صغيرة ضئيلة فى وسط المياه.. ضوء يحيى الأمل ويرفع درجة التحدى، ونندفع نحوه بهمة وبقوة دفع التيار.. كم كان جميلا أن يكون معنا التيار.. مضت الساعات، ونحن نقترب من الضوء.. وفى الرابعة فجرا وصلنا إليه بعد 14 ساعة من بداية المحنة.. وكان المشهد مذهلا. فهذا الضوء كان لحفار بترول فى مياه الخليج، وتحديدا فى المياه الإقليمية لدولة الإمارات.. وهو مبنى بارتفاع عمارة من 15 طابقا.. أخذنا فى الصياح والصراخ بأمل أن يرانا من يعملون بالحفار.. فكر بعضنا فى السباحة حتى السلالم المعدنية المثبتة فى جانب هذا المبنى العملاق، وكانت الفكرة مستحيلة حيث تكثر أسماك القرش وتسكن بجوار الحفارات، لتتغذى على فضلات الطعام التى تلقى بالمياه..

بمعجزة أخرى شاهدنا عمال الحفار وسط الظلام على الرغم من دوى الآلات، أسرعوا بتسليط الكشافات على المياه، ورفعونا بسلة عملاقة على مجموعات وقد ارتسمت على وجوههم علامات الدهشة والذهول.. من أنتم من أين جئتم وكيف وصلتم وماذا حدث لكم؟

كتب الله لنا عمرا جديدا.. وحين اكتملت صفوفنا فوق سطح الحفار اختلط البكاء بالضحك، وامتزج الصمت بالهذيان، والسعادة بالأحزان.. كانت الدموع تغرق الوجوه وتغسلها..وتغسل أجسادنا وأرواحنا. ــ حملتنا طائرة مروحية من الحفار إلى أبوظبى فى رحلة استمرت 45 دقيقة.. لعل ذلك يوضح كم كانت الأرض بعيدة، وكم كانت النجاة بعيدة.. وكم كانت صيحة التوحيد «لا إله إلا الله».. هى طوق النجاة..

المصدر