قضية الشهيد الإمام حسن البنا (الجزء الاول)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
قضية-حسن-البنا.jpg

بقلم/ الاٍستاذ فتحي عبد الحميد


الإهداء

إلى شهداء العقيدة والحرية في جميع الأقطار والأزمان إلى الذين جادوا بأرواحهم رخيصة في سبيل مبادئهم. إلى الذين وهبوا أممهم المجد. وانتشلوا من بين مهاوي الذلة والهوان شعوبهم.

إلى كل صاحب رسالة ومبدأ يلقي في سبيله ألوانا من العذاب وصنوفا من الاضطهاد حتى حقق رسالته. .. ووصل إلى غاياته.

إلى الذين جاهدوا فانتصروا والذين جاهدوا وما زالوا في الطريق إلى هؤلاء جميعا أهدي قبسا من روح الشهيد حسن البنا ليكون رمز فداء ومثل تضحية وعنوان جهاد وطريق انتصار.

فتحي عبد الحميد

كلمة الوكيل العام للإخوان المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا الكتاب عرض لتطور قضية اغتيال الأستاذ حسن البنا جمع فصوله وفروعه ودفوعه السيد الأستاذ فتحي عبد الحميد فجزاه الله خيرا عن هذا المجهود الضخم والقضية كقضية في ذمة التاريخ.

أما حسن البنا فلن يستطيع كتاب أن يحيط به بل حسب حسن البنا أنه انشأ تاريخا وحول جيلا عاش به في ظل القرآن وسار به على نهج رسول الله.

وعزاؤنا نحن، أن الإسلام ماضي إلى غايته. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

22ذي القعدة سنة 1373/ 22 يوليه سنة 1954 الدكتور خميس


الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان المسلمين

اتصلت بالأستاذ عابدين مرارا وتكرارا بخصوص كلمة مباركة طيبة لهذا الكتاب فلم أوفق في رؤيته حيث إنه في استعداد تام للسفر إلى الأقطار الحجازية لتأدية فريضة الحج وزيارة الروضة الشريفة.

فإلى اللقاء أيها الأخ القارئ العزيز وإلى كلمة السكرتير العام في الجزء الثاني.. إن شاء الله.

فتحي عبد الحميد

كلمة الأستاذ عبد القادر عودة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين: والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن من القضايا ما حول مجرى التاريخ ورسم له طريقه إلى قرون طويلة وقضية الشهيد الإمام حسن البنا مثال عصري لهذا النوع من القضايا.

لقد قتل الرجل لتقتل فكرته ولتموت دعوته ولكن قتل الداعية صاحب الفكرة أدى إلى نشر الفكرة وانطلاق الدعوة كما أودى بهؤلاء الذين أمروا بالقتل حماية لأنفسهم أو استبقاء لأوضاعهم.

وقديما قتل الحسين رضي الله عنه للقضاء على المنافسة الهاشمية ولحماية الدولة الأموية فكان قتله هو السبب الأول والأخير الذي أودى بالدولة الأموية ومكن للهاشمية في مختلف أشكالها العلوية العباسية.

وفي هذه القضية من العبر ما يستلفت الأنظار ويسترعي الأبصار فقد أريد للقضية أن تولد ميتة ولكن شاء الله ألا توجد ألا ومعها مقومات الحياة حيث التقط أحد المارة رقم السيارة التي هرب بها الجناة ويبقى التحقيق مفتوحا في القضية زمنا طويلا دون حاجة إلى ذلك وكان المعقول أن يختم التحقيق بعد شهر أو شهور من الحادث بقرار حفظ يهدم الدليل القائم أو يضعفه ولكن عناية الله صرفت المسئولين عن ذلك فيبقى التحقيق مفتوحا أكثر من ثلاث سنوات دون أن يكون هناك ما يمكن تحقيقه. وبذلك بقي الدليل القائم سليما حتى جاءته الأدلة الأخرى تؤيده وتدفع القضية معه إلى ساحة القضاء وظن الذين فكروا في الجريمة ودبروا لها أنهم بمنجاة من العقاب وأن لهم من السلطان ما يدفع عنهم الاتهام ويحميهم من القصاص فأخفوا الأدلة ومنعوا تقديمها وتتبعوا الشهود بالإغراء وبالوعيد حتى إذا أيقنوا أن القضية انتهت إذ بها تبدأ وإذا بسلطانهم قد زال وحصانتهم قد ذابت ثم إذا بالاتهام يحيط بهم ويداه تطوق أعناقهم وحقت عليهم كلمة الله «حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة» الآية الكريمة.

هذا قليل من كثير سيجده القارئ في هذه الأجزاء التي قام بتسجيلها من وقائع القضية أدق تسجيل، وعني بتسجيل وجهات النظر المختلفة كما أبداها الاتهام والادعاء بالحق المدني من ناحية والدفاع عن المتهمين من ناحية أخرى.

وحسبي أن أقول عن هذه الأجزاء أنها تحوي أكبر قضية عرفتها مصر وعرفها الشرق العربي والبلاد الإسلامية وأنها أجزاء لا غنى عنها لكل من يريد أن يلم بتاريخ مصر الحديثة وتاريخ الفكرة الإسلامية وتطورها كما أنه لا غنى عنها لكل مشتغل بالقانون.

والله تعالى أسأله أن يجزي القائم على أمر هذه الأجزاء خير الجزاء.

عبد القادر عودة (المحامي)

كلمة الأستاذ عبد الكريم منصور

الله أكبر

الله أكبر الله أكبر على من طغى وتكبر – ساد حكم مصر ملك طغى وتكبر وألقى في الأرض الفساد حكم بغير ما أنزل الله وعطل سنة رسول الله وأغلق بيوتا يذكر فيها اسم الله. وقتل الصالحين من عباد الله وعذب المؤمنين والمؤمنات وظن أنه لا غالب له وعاونه في ذلك رجال اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وكان أمرهم فرطا فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فاعتبروا يا أولي الألباب. إن الله قوي. إنما أمره لشيء أن يقول له كن فيكون.

ولله جنود السموات والأرض إن الله قوي عزيز. أنزل لعباده القرآن الكريم فيه هدى للناس على لسان رسول أمين نزل في أمة متطاحنة متضاربة يعوزها المال ويعوزها التعليم الفني ويعوذها الرجال فما كادت هذه الأمة تطبقه حتى سادت فوق العالمين شرقا وغربا على يد رجال تحابوا في الله. قل لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم وخلف من بعده خلف أضاعوا الصلاة والزكاة ولم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وعطلوا كتاب الله وسنة رسوله فكان البأس بينهم شديدا وسلط الله عليهم بذنوبهم من هو أشد منهم كفرا. وجاء الإمام حسن البنا يذكر الناس بالقرآن وسنة الرسول فتآمر عليه المتآمرون من ملك ورئيس حكومة وأعوانهما...

قتل الإمام حسن البنا في شارع من أكبر شوارع عاصمة القطر المصري تحت رقابة البوليس وبيد عصابة من رجال البوليس وبقتله ألب الله على الملك ووزرائه القلوب فاهتزت الوزارة وتداعي كرسي الملك الذي لم يتق الله وكان حربا على عباد الله المؤمنين.

لقد تشرفت بالجهاد مع الإمام الشهيد وصدمت الحكومة برفع دعوى أمام مجلس الدولة بإلغاء قرار حل هيئة الإخوان فألغي قرار حل هيئة الإخوان- فألغي وأعيدت جماعة الإخوان وما النصر إلا من عند الله وحده.

لقد كنت ملاصقا للإمام في وقت العسرة ففي آخر حياته قام من مكانه وأجلسني فيه وفي المستشفى قدمني على نفسه في المطالبة بالإسعاف والعلاج فكان حقا على أن أطالب بدمه من المجرمين الذين قتلوا عباد الله المؤمنين لا لشيء إلا لجهادهم في سبيل الله والحكم بكتاب الله وسنته وقد لاقى المسلمون ما لاقوه بعد انتهاء حكم الخلافة الإسلامية فانتشرت الجرائم في هذا الوقت وسجلت الإحصائيات الرسمية 800 قتيل في هذه السنة بمصر بسبب السرقات عدا القتلى المجهولين أو من تحورت أسباب قتلهم وأنفقت الحكومة القائمة حينذاك من أموال المسلمين الآلاف من الجنيهات بسبب السجون والموظفين مع أنها لو طبقت الحدود لقطعت أيدي خمسة وفي ذلك رحمة للصوص ورحمة للناس الذين يقتلون بالمئات تراق دماء الأبرياء وتزهق أرواحهم فترتفع إلى الخالق تشكو عدم تطبيق الحدود ومن مصلحة قائد الجيش في أية دولة إسلامية أن يقوى الروح الإسلامية في الجيش لأن القرآن يربي جنوده على الروح الفدائية «أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ...»

والقرآن يأمر الجنود في رحى القتال بعدم التسليم للعدو أو أسرهم فيقول الله للجنود: «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا محترفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير» والعسكريون يعلمون خطورة أسر جنودهم في كشف الأسرار الحربية.

ولا تتربى الأخلاق ولا تقل الجرائم في مختلف أنواعها إلا بالدين لأن التقوى تتنافى مع الإجرام. وقلما يوجد شخص تتصل روحه بروح الله وهو يرتكب الجرائم فيجب عقاب تارك الصلاة والمرتد عن دين الإسلام حفظا لكيان المجتمع والأخلاق ذلك العقاب المقرر في الشريعة الإسلامية.

لقد درست في المدارس والجامعات المدنية والفرنسية وحصلت على الشهادات العالية فما زادني ذلك إلا اقتناعا بأن تشريع الله هو التشريع الذي لا يعلوه تشريع من تشريعات البشر ومستعد لإقناع من يريد الإقتناع وقد آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.

عبد الكريم منصور (المحامي)

فصول الكتاب 1- الإمام الشهيد حسن البنا. 2- من كلام الإمام الشهيد حسن البنا. 3- الخطاب التاريخي الخطير للإمام الشهيد. 4- قضية فلسطين 5- دور الإخوان في هذه القضية 6- حقائق عن فلسطين العربية. 7- الإخوان يقومون بشبابهم المثقف بحرب العصابات 8- ماذا حدث في مجلس الدولة...؟ 9- الأدلة القوية في أول حكم لمحكمة الثورة؟

هذه الحقائق جمعت من مراجع حقيقية صحيحة.

الإمام الشهيد حسن البنا

بسم الله الرحمن الرحيم

كان الإمام الشهيد حسن البنا نسيج وحده في كل خطوة خطاها في حياته منذ حداثته الأولى إلى أن بلغ هذه المكانة الكبيرة في نفوس الملايين في مصر والعامل كله بقيادته الموفقة لدعوة الإخوان المسلمين.

وسنتناول بعض المراحل الرئيسية من تاريخ حياته لنعرض فيها هذا النوع والامتياز الذي كان يهيئه منذ الصغر لحمل رسالته الضخمة فيما بعد.

ومن اليسير تقسيم هذا التاريخ إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

تستفاد من عنوان هذا الباب وإن كان تقسيما غير جامع ولا مانع لأن التعلق بالدعوة كان يصاحبه ويمتزج بدمه مرحلة الطلب وفي مدة الوظيفة، فكان فيهما متأثرا بهيمنة الدعوة على نفسه وكذلك كان طابع حياته مرشدا عام للإخوان المسلمين متأثرا مرة بطابع التلمذة الذي يحمله على الجد وطلب المزيد أبدا من المعرفة ومرة بطابع التعليم والأستاذية الذي كان يتميز في عرضه لفكرته الإسلامية على الناس عرضا تعليميا يعمد إلى تقرير حقيقة الدعوة في النفوس ويثبتها شيئا فشيئا في قلوب السامعين بعيدا عن الأسلوب الخطابي وأن أوتي فيه السبق الذي لا تسهل مجاراته، ومع ذلك فلا مناص من تناول حياته في ضوء هذا التقسيم.


القسم الأول حسن البنا طالباً

يتناول هذا القسم أبرز الخصائص التي يمتاز بها الطالب حسن البنا في هذه المرحلة الباكرة من حياته.

ولعل أبرز ما تتميز به حياة الطالب درجة الجد في دروسه والتقدم بين أقرانه فإن وفي الطالب هذا الجانب وكان له فيه إشراق ولمعان أوشك المتفائلون أن يعتبروه قد بلغ الكمال ولم يطالبوه بالمزيد ولكن حسن البنا كان نابغا في دروسه سباقا لأقرانه غير أن هذه الناحية على أهميتها في حياة الطالب لم تكن شيئا مذكورا إذا عدت المزايا الضخمة تميز بها هذا الطالب في سائر جوانب حياته التعليمية إذ كان حسن البنا:

أولا: مثال النبوغ في واجباته المدرسية.

ثانيا: مثال السبق في التوسع من الإطلاع ولاسيما في الثقافة الإسلامية.

ثالثا: مثال الأدب مع والديه وأساتذته.

رابعا: مثال النفس الأدبيه الواثقة التي تعيش لرسالة.

خامسا: مثال المؤمن الداعية الذي ينبعث دائما عن فكرة ورسالة

أولاً: الطالب حسن البنا في دروسه

لو ذهبنا نستقصي مراحل السبق في هذا المجال لاستغرقنا من الصفحات ما يضيق عنه الكتاب ولكننا نكتفي بأن نقرر بأن حسن البنا لم يتخلف يوما عن الأولية في أي سنة من سني دراسته التي بدأت بالمدرسة الأولية ثم الإعدادية في المحمودية «البحيرة» ثم بمدرسة المعلمين الأولية في دمنهور ثم بمدرسة دار العلوم في القاهرة.

كان في هذا المدارس جميعا أول أقرانه وكانت مسافة الفرق بينه وبين الذين يلونه تبين في أكثر الأحيان عن نبوغ غير عادي في هذا الطالب الناشئ فإذا أضفنا إلى ذلك أنه صاحب في بعض فترات حياته شبابا معروفين بحدة الذكاء وقوة العارضة بدا وجه السبق الجهابذة الذين يولوا منصب الوزارة بعض الوقت أنه كان زميلا للإمام حسن البنا أو يسبقه فلم يستطع إلا أن يكون الثاني الذي ظفر بالبعثة حينما أباها حسن البنا إيثارا للتفرغ لدعوته.

ثانياً: الطالب حسن البنا في إطلاعه

كان حسن البنا منذ أيام التلميذة الأولى شغوفا بالإطلاع مستغرقا كل ما فضل من وقته عن ضرورات الواجبات المدرسية في الإطلاع والتزود من المعرفة.

ولقد قرأ وهو دون الخامسة عشرة كثيرا من كتب الحديث فضلا عن حفظه القرآن وأكثر كتب السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والمؤلفات المعروفة عن الدعوات والحركات التي ظهرت في أنحاء العالم.

أما إطلاعه في الأدب والشعر فقد كان أوسع من أن ينسب إلى أستاذ كبير وحسبك أن تعلم أنه دخل الامتحان الشفوي في الأدب العربي في دبلومة دار العلوم وهو يحفظ مختاراته الخاصة من جيد الشعر عشرة آلاف بيت، تولى جمعها بنفسه وتدوينها بخطه من أول الشعر الجاهلي إلى عهد شوقي وحافظ عبد المطلب وكان له في ذلك ذوق رفيع يميز به جيد الشعر ويترجم ببعض ما يحفظ منه عن آماله واتجاهاته في الحياة، ومن طرائف ما يروي عنه أنه جلس في الامتحان الشفوي أمام الأستاذين المرحومين أبي الفتح الفقي وعلى الجارم فسألاه ما يحفظ من معلقة طرفه ابن العبد فما زال يسمعهما منها حتى اطمأنا إلى سلامة حفظه وفهمه ثم سأله الأستاذ أبو الفتح عن أروع بيت أعجبه من القصيدة فأجابه الطالب حسن البنا على الفور:

إذا القوم من فتى خلت إنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

فنهض الشيخ أبو الفتح واقفا وقد وضع عمامته على المنضدة وهو يقول: «مرحى... مرحى» أن هذا الطالب سيكون له شأن عظيم فلما سأله الأستاذ الجارم عن سر هذا الانفعال أجابه الأستاذ أبو الفتح «لقد كنت في موقف هذا الطالب أؤدي هذا الامتحان بين يدي الأستاذ الإمام محمد عبدة رحمه الله فسألني عن أروع بيت أعجبني من شعر طرفة فأخذت أعرض من القصيدة أبياتا لم تنل تقدير الإمام ثم قال لي «أتتحدث عن بيت من القصيدة بالإعجاب وتنسى قول طرفة:

إذا القوم قالوا من فتى قلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

ثالثاً: أدبه مع أساتذته ووالديه

لا محل للإطالة في هذا الباب لأن كل الذين اتصلوا بالرجل في أية مرحلة من مراحل حياته كانوا يؤخذون بما عليه من الأدب الرفيع والحياء الجم حتى لقد كان المرء يقع في ذهنه أن هذا الرجل هو كله أدب وحياء وأن غلبة هذا الطابع عليه كانت تخفي عن عارفية الكثير الرائع من آيات نبوغه وعبقريته.

ولقد كان الأستاذ عبد العزيز عطية المراقب بوزارة المعارف ورئيس الإخوان بالإسكندرية الآن أستاذا للطالب حسن البنا في مدرسة المعلمين بدمنهور فظل تعلقه به وافتتانه بأدبه مستقرا في أعماق نفسه محتفظا له بالمكان الأول في قلبه بعد أن انقطعت الصلة سنوات عديدة تجاوز العشر بين التلميذ والأستاذ بسبب الانتقالات بين المدارس والبلاد حتى إذا لمع اسم التلميذ حسن البنا على رأس اللحاق بدعوته سعيدا أن يدخل في جنود الدعوة التي يقودها أحد تلامذته.

وما وجد الإمام الشهير في حفل أو اجتماع شهده الأستاذ عبد العزيز عطية إلا شهد الناس جميعا أكمل آيات الفضل يتنافسها الرجلان حسن البنا يحرص على أن يقدم أستاذة عبد العزيز ويؤثره بالصدارة وعبد العزيز عطية يأبى إلا أن يعلن اعتزازه بمكان الجنيدية بين يدي تلميذه حسن البنا.

رابعاً: نفسه الأدبية «وأكله أوراق الشجر»

ليس على الطالب في أثناء الدراسة من عبء إلا أن ينهض بدروسه ولا سيما إذا كان ذووه في حالة من الرزق تيسر لهم كفالة أعبائه، ولكن التلميذ حسن البنا كان خارقا للعادة في كل شأنه لذلك لم يكد يجاوز الحادية عشر من عمره حتى أصر على والده أن يهيئه لعمل يكسب به قوته، وعبثا يحاول الوالد البار أن يقنع ولده بأنه لا يزال ملزما بنفقاته حتى يختتم مرحلة الدراسة، ويفضي الأمر بين النفس والده العالم الجليل إلى أن يخرج التلميذ من البيت ويضرب في الحقول ويعيش يومين على أوراق الشجر أباء أن يأكل من طعام لم يساهم فيه بجهده وعمل يده حتى يضطر الوالد بعد العثور عليه أن يعلمه تجليد الكتب وصناعة الساعات، وكان مشتغلا بهما بجانب عمله العلمي الضخم في إخراج كتاب «الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد» وعندئذ اطمأنت نفس التلميذ إلى مواصلة الدراسة على أن يخصص من وقت الفراغ جانبا للمشاركة في عمل والده بعد أن ربط له أجرا أسبوعيا قدره ثمانون قرشا كان يتسلمها من أبيه يوم الخميس ثم يسلمه صباح السبت إليه مشاركة منه في نفقات الأسرة التي يعيش بين ظهرانيها.

ولقد ظل هذا الطابع طابع الاعتداد بالنفس يلازم الإمام الشهيد في كل أدوار حياته حتى كان يردد دائما «بغضت إلى المنن».

وما أعلمه تلقى منه من إنسان مهما يكن قريبا إلى نفسه ألا ظل مثقلا بها حتى يردها إلى صاحبها بخير منها أو مثلها وسنمثل لذلك بالكثير من الأمثلة عندما نتكلم عنه مرشدا عاما للإخوان المسلمين.

خامساً: سلطان الفكرة على نفسه

كان العمل لإعلاء كلمة الله، والرغبة في إنقاذ المسلمين بتحقيق رسالة الإسلام عقيدة راسخة مستقرة في نفس حسن البنا منذ أدرك معنى الحياة، وكان التعبير عن هذه العقيدة يتطور مع تطور سنة وإدراكه ومحيطه الاجتماعي ولقد كان من مظاهر سلطان هذه العقيدة على نفسه في فترات التعليم المختلفة ما يلي:

أ‌- جمعية منع المحرمات: «وأول علقة في سبيل الله»

وقد أنشأها وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الإعدادية مع فريق قليل من زملائه الناشئين وكان هدفها أن ترسل خطابات سرية غفلا من الإمضاء إلى كمل رجل تراه هو أو بعض أفراد أسرته على معصية أو مخالفة لحدود الله متضمنة إبانة حكم الله، وتغليظ العقوبة للمخالفين بين يدي الله والنصح بتجنب هذا الأمر إرضاء لله واتقاء لغضبه.

ومن عجب أن يبقى أمر هذه الجمعية محكم الكتمان بين هؤلاء الناشئين الصغار ومدينة المحمودية يضج أهلها بأثر هذه الخطابات ولا يعرفون لها مقدرا حتى تقع هذه الحادثة الطريفة:

في المحمودية صاحب مقهى بلدي يجلب راقصة قروية إلى مقهاه في يوم السوق الأسبوعي للمدينة ليجذب بها الرواد إلى المقهى فتزعجة الخطابات السرية أسبوعا بعد أسبوع ويزيده إزعاجا أن تهبط عليه في وسط السامر الذي عقده حول الراقصة ولكها زجر للرجل عن هذه المعصية وإنذار بأن الله بناصيته عن ذنبه وذنب الراقصة وذنوب كل من اجتمع حولها ونظر إليها.

ويبغ الغيظ بصاحب المقهى أن يهيئ في الأسبوع التالي كمينا في كل زاوية من زوايا السامر لتضبط اليد التي تقذف الخطاب وتنتقم منها لكل من أزعجتهم الخطابات في مثل مروق السهم، ويراع الناس حين يرون هذه اليد موصولة بجسم لا يعلو عن الأرض إلا بضعة أشبار ويضطر صاحب المقهى أن يضع منضدتين أحداهما فوق الأخرى لينصب فوقهما التلميذ الناشئ حسن البنا ويعلن الناس وهو لا يكاد يصدق أن هذا الحادث الناشئ هو الذي أقضى مضاجع أهل البلدة بالخطابات الفياضة بالأمر والنهي والإرشاد والزجر وينتهي الموقف بأول بلاء يلقاه التلميذ الداعية في سبيل الله بلطمات وضربات تبتدره بها أيدي هؤلاء السادرين في غوايتهم الراغبين عن كلمة الحق والصراط المستقيم.

ب‌- موضوع الإنشاء التاريخي: وفي السنة الثانية بدار العلوم وجه إليه أستاذ اللغة العربية موضوع الإنشاء التالي:

- ما هي آمالك بعد أن تتخرج من المدرسة؟ وكتب التلميذ حسن البنا موضوعا لم يعلن فيه عن أمله بأن يكون وزيرا أو موظفا كبيرا أو ثريا عظيما بل كتب الموضع وحصر آماله به في أن يسعد بلاده وهو لا يجد لإسعادها طريقا أسلم من أن تؤسس نهضتها على الفكر الإسلامية، ويصعب على من يقرأ هذا الموضوع الذي كتبه التلميذ حسن البنا وهو في السابعة عشر من عمره أن يجد فرقا بينه وبين تصميم دعوة الإخوان المسلمين في حدودها البينة الواسعة كما عرفها العالم في الأعوام الأخيرة.

وسنورد موضوع الإنشاء بنصه منقولا عن كراسة المدرسة في موضعه من الكلام.

ج_ محاضرة عمر بن عبد العزيز:

ولقد عقدت مدرسة دار العلوم كلها اجتماعا عاما استمعت فيه إلى الطالب حسن البنا يعرض سيرة الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز عرضا تحليليا يسهل على المتتبع له أن يتبين من زواياه اتجاهات نفس الطالب والمثل العليا التي تشغله في حياته.

ولقد كان أهم ما تلحظه من هذا العرض اعتقاد المحاضر بأن صلاح الإمام هو أقصر الطريق لصلاح الأمة ولقد غلب هذا المعنى على نفسه فكان يردد دائما قول الحسن البصري رضي الله عنه: «لو كانت دعوة مستجابة عند الله لجعلتها للسلطان لأن الله يصلح بصلاحه خلقا كثيرا».

ومن آيات تأثره العميق بهذه الفكرة أنه كان حريصا على ألا يدعو الناس إلى أمر ما لم يكن حمل نفسه عليه وظهر أثره فيه.

د- مدرسة الدعوة والخطابة:

وكان من أهم مظاهر سلطان الدعوة على نفسه وهو في مرحلة الطلب أن أنشأ مدرسة الدعوة والخطابة في مسكنه المتواضع وقد ضم إليها عددا ممن اختارهم من زملائه التلاميذ يدربهم في أوقات الفراغ على الخطابة وأساليب تبليغ الدعوة آملا أن يخرج منهم دعاة إلى الله يتخللون الريف المصري مبشرين ومنذرين.

هـ- جمعية إسلامية في القاهرة:

وفي السنة الثالثة من درا العلوم اشتعل قلبه غيرة لإنشاء جماعة إسلامية كبيرة تضم صفوة المؤمنين وخلاصة الغيورين على الفكرة الإسلامية وبهذه العاطفة المتوقدة طرق بيوت نخبة طيبة من إعلام الرجال يومئذ من أخص من شجعه منهم المرحوم الأساتذة الشيخ عبد العزيز شاويش والشيخ يوسف الدجوي وأحمد باشا تيمور والسيد رشيد رضا وقد أسفر اتصاله بهم وسعيه بينهم وبين عشرات من رجال مصر يومئذ عن إنشاء جمعية إسلامية معروفة قام فيها بكل أعمال التهيد وجهود الدعوة والتأليف وظهرت فيها أسماء كريمة كان لها في تاريخ هذه الجمعية أثر مشكور وبقي اسم حسن البنا في نطاق هذه الجمعية خافيا إلا عمن عمل حسن البنا كل علمه طلبا لرضوانه وهو الذي يعلم كل مستخف بالليل وسارب بالنهار.


القسم الثاني: حسن البنا أستاذاً

قد تبدو المهمة التعليمية التي كان يباشرها حسن البنا هينة القدر بجانب الاسم الكبير كان يصاحب الرجل في حياته ولكنه رحمه الله كان شديد الاعتزاز بصفته المعلم موقنا بأن رسالة المعلم هي أجل رسالة ينهض بها رجل متى فهمها على حقيقتها ووفي لها حق الوفاء ولا يعني القارئ موضوع الدرس التي كان يلقنها حسن البنا لتلاميذ مدرسته ولكن يعنينا الأثر الذي كان يطبعه في نفوس تلاميذه.

ومن هذه الناحية نستطيع أن نقرر أنه كان مثال المدرس الذي يجمع بين صفتي الجلد والصراحة وبين التمتع بمحبة تلاميذه.

لقد كانت دروس الدين اختيارية في نظم وزارة المعارف وكان أكثر مغناطيسا يجذب التلاميذ إلى هذه الدروس الاختيارية فتبدو المقاعد فيها أكثر ازدحاما منها في أي درس من الدروس الإجبارية.

وكان طرازه الفريد في قيادة التلاميذ مثار الحب والاحترام جميعا بل كان بنفسه ومثله العليا أكبر من جميع النظم التي وضعتها وزارة المعارف، ولذلك لم يكن يعنيه أن يتقيد ألا بما يطمئن إليه منه ولقد دخل عليه يوما أحد المفتشين من رجال التعليم المسيحيين، وهو يعطي درسا في الحساب بمدرسة عباس الابتدائي وبيده عصا وبينما كان قانون وزارة المعارف يحرم ضرب التلاميذ بالمادة 88 فأسرع إليه أحد زملائه يهمس في أذنه أن يخفى العصا قبل أن يدخل المفتش فأبى إلا حملها في يمينه ومجادلة المفتش عنها حينما سأله عن حملها مع تحريم ذلك في القانون وأسفرت المجادلة عن قول هذا المفتش المسيحي: «لو خطر ببال واضعي القانون أن بين المدرسين من هم في مثل ذمتك وحس تقديرك لما حرم استعمال الضرب في تأديب التلاميذ».

بين المدرسة والجماعة

ولقد كان الأعباء التي يحملها حسن البنا في دعوة الإخوان المسلمين أضخم من أن تترك في طاقته ما يستطيع أن يؤدي معه واجبات المدرسة أقل أداء ولكن المواهب النادرة والهمة الغالبة التي تميز بها الرجل أسعفته بالطاقة التي استطاع أن يؤدي بها الواجب أكمل ما يكون الأداء.

لقد كان يبقى في مدرسته إلى الساعة الثالثة أو الرابعة ثم يخرج منها إلى القطار متجها مثلا إلى المنيا فيصلها في الثامنة حيث يلقى محاضرته ويشرف على شئون الدعوة في الأقاليم، ويجتمع الاجتماع الخاص بالإخوان ويؤدي بعض الزيارات، وفي الساعة الثانية أو في السابعة صباحا ليكون في المدرسة قبل الثامنة يؤدي بها عمله اليومي كاملا وربما انصرف مر أخرى عصرا في نفس الموعد إلى طنطا مثلا أو دمنهور ليؤدي نفس المهمة ثم يعود في القطار الصعيدي المعروف بركاب الوجه البحري فيبلغ القاهرة مع شروق الشمس، ويدخل المدرسة قبل الفراشين أنفسهم حيث يجدد وضوءه ونشاطه ويستأنف علمه إلى أخر اليوم، وقد يتكرر هذا الأمر مرات في الأسبوع الواحد وهو لا يمل واجبه المدرس فإن وجد ليلة خالية من السفر قضاها إلى السحر في دار الإخوان في القاهرة.

وكذلك كانت حياته سلسلة متصلة من الدأب المضني والكفار المرهق وهو لا يرى بحمد الله إلا مثالا للهمة والنشاط والإقبال والبشاشة مع أن تنقلاته بالقطارات لم تكن إلا في عربات الدرجة الثالثة ما لم تدع ضرورة في النادر القليل من زحمة القطارات أو الرغبة في تأليف بعض ركاب الدرجات الأخرى.

ملف خدمته يتحدى وزير المعارف

وفي سنة 1941 أوعز إلى الحاكم العسكري أن ينقل المدرس حسن البنا إلى أقاصي الصعيد فنقله وزير المعارف إلى قنا تنفيذا لهذه الرغبة وضج لهذا التصرف نواب كرام فمضوا إلى وزراء أحزابهم معاتبين ومحاسبين فلما وجدوهم بين الغفلة والعناد توجه الأستاذ محمد عبد الرحمن نصير النائب الدستوري يومئذ إلى الحاكم العسكري لسؤاله عن الأسباب التي أدت إلى هذا النقل فزعم وزير المعارف أن السؤال من اختصاصه وأجاب عليه بالأتي:

«لقد علمت أن الأستاذ حسن البنا يقوم بدعايات واجتماعات من أنواع مختلفة من شأنها أن تصرفه عن القيام بواجبه كموظف على الوجه الذي تقتضيه مصلحة الدولة فأمرت بنقله ولا شك أن أول واجب للموظف هو أن يؤدي للدولة عملا كاملا بذمة وصدق وألا ينصرف عنه إلى عمل أخر» وهنا علق النائب المحترم بأن وزير المعارف هو الذي أخطره بأن النقل جاء بأمر من الحاكم العسكري وأنه لذلك يرى الإجابة غير مرضية ويحول السؤال إلى استجواب.

ولقد راع كثيرا من النواب وهم يعرفون ذمة حسن البنا وأمانته أن يبلغ الجرأة على الحقائق لهذا الوزير أن يعرض بذمة الرجل الذي يعتبر عنوان الذمة والأمانة وضج هؤلاء النواب مطالبين بإيداع ملف مكتب المجلس رغم معارضة الوزير ومن هذا الملف أيقن النواب أن إجابة الوزير كانت شركا نصبه له موظفوه ليطلقوا لسانه بالأكاذيب والخرافات في مجال المحاسبة والدقة أمام نواب الأمة الأمر الذي لو وقع في أمة أخرى لا وجب على الوزير أن يتخلى فورا عن مكانه بعد أن وقع في هذا الخطأ الجسيم وحسبك أن تعلم أن الملف قد استبانت منه حقائق ثلاث تقطع بما ينطوي عليه قول الوزير من وزر وافتراء:

الأول- من حيث إتقان العمل وتحدد درجته شهادة المفتشين بأنها بين جيد وممتاز فضلا عن عبارات الإطراء التي تسبق كلمة التقرير.

الثانية: في درجة الوفاء بالتزاماته المدرسية فقد تبين أنه في خلال خمسة عشر عاما لم يأخذ من الإجازات المرضية إلا أربعة أيام.

الثالثة: في قدرته على الجمع بين واجبات المدرسة والدعوة إذ تبين أنه لم يستنفذ أيام أجازاته العارضة القانونية في أية سنة من السنوات.

فلم يكن بد من أن ينحني الوزير أمام هذه الحقائق الدامغة ويتفادى مناقشة الاستجواب بإعادة الأستاذ البنا إلى القاهرة قبل أن يحين موعد الاستجواب.

الدعوة في محيط الإخوان

ومن البداهة بمكان أن حسن البنا الذي لم ينس الدعوة وهو تلميذ ناشئ هو خير من يرعى حقها وهو معلم ناضج، ولذلك كان دائبا على بث مبادئه في نفوس إخوانه دأبا ظهر أثره في عشرات النابهين من رجال الدعوة اليوم الذين وضعوا لبانها في عهد الزمالة بل لقد كان حسن النبا في سلوكه ومنهاجه داعية وقدرة جذابة لأكثر من عاشروه فأقبلوا إلى دعوته راضين مختارين.

لا يستطيع المؤرخ لدعوة الإخوان المسلمين أو لمرشدها الراحل طيب الله ثراه أن يفصل بين تاريخ الدعوة وتاريخ منشئها ولذلك فإننا أن تناولنا تاريخ حياة الشهيد رضوان الله عليه فأننا نقرأ كتاب هذه الدعوة قراءة تفصيلية منذ قيامها حتى اليوم الذي لحق فيه بالرفيق الأعلى وإذا تتبعنا الفترة الأولى من حياته وجدنا خطواتها متفقة مع ما نجد لهذه الدعوة من الطهارة والخلود والدأب على نشر الفضائل والتخلي بها والفناء في سبيل حمل الناس عليها حملا قد يصل إلى الاستعانة بالحاكم حينا وقد وتجهد فيه جهدا عجيبا ويجمع الأتواب والأحبة عليها ويدعو الناس دعوة حارة إليها.

ولد رحمه الله في بلدة المحمودية من إقليم البحيرة في 17 أكتوبر سنة 1916 من أبوين كريمين محتدا ودينا وخلقا ليسا من ذوي الثراء والجاه وعاش في كنفهما حتى اختاره الله لجواره وشب وترعرع حتى أدخله والده مدرسة الرشاد الدينية وكانت مدرسة أهلية لجل من أهل العلم والدين والفضل وانتبه أستاذه لحسه المرهف وعقله الواسعة وتفكيره الدائب فيما حوله وتجمع أترابه حوله وتجمع أترابه حوله على فكرة نافعة أو دفع أذى عن الناس أو مساعدة لمحتاج أو دفاع عن الدين أن تنهك حرمة مما يعرف من حرماته أو تصحيح لما أعوج من عبادة الناس في صلاة أو غيرها مما يأتيه المسلمون من العادات المخالفة للدين، وتلك الخلال هي التي أفني حياته فيها وقتل من أجلها وحورب طوال حياته المباركة بسببها وأذن فهذا الاستعداد العجيب الذي خلق معه هو الذي نما بنموه وتحول إلى قوة دافعة لا تعرف العقبات وإلى الإرادة الحديدية التي لا يثنيها عن النفاذ مانع إلا إرادة الله وإلى ذلك العزم الشديد الذي لا يفل سلاحه ولا تخمد ناره ولا تلين له قناة حتى يدرك ما يريد.

وكله موجه إلى الخير يضاف إلى ذلك بيئة منزل صلاح لا تقع العين فيه على أذى وحسن توجيه لما ينفع وتشجيع على الصالحات وإغراء بكل نوع من البر الذي يهدي إليه الله سبحانه من رضى عنه وغذاء علمي صاف فتح عينيه عليه أول ما استطاع أن يتذوق العلم في فروعه، وهكذا نجد أن حسن الاستعداد الخلقي إذا وجد ما ينميه ولا يصده ويدحره ويعمل على طمسه يأتي بالغرائب والعجائب كما نرى في حياة هذا الشهيد.

ولكي يتم الله على الشهيد حسن النبا نعمته حوله إلى حفظ القرآن الكريم ليلتحق بمدرسة المعلمين بدمنهور إذ كان لا يلتحق بهذه المدرس ألا من أجاد حفظ القرآن الكريم وحصل على قدر نافع من اللغة العربية والحساب والدين وبعض المواد الأخرى دخل هذه المدرسة وانتقل بذلك إلى محيط بلده المحمودية التي نشأ فيها فوجد في مدرسته الجديدة طلابا وأساتذة وحضارة وجماعات ترضي كثرا من رغباته وتوسع حوله دائرة العمل والتفكير والسعي وتشعبت أمامه المواد المختلفة التي كان يلتهمها التهاما ويشارك في نقاشها بحثها وفهمها مشاركة الراغب المحب ثم هو يجد أخوانا فيهم من النصح والمعرفة ما يغريه بدعوتهم إلى المشاركة فيما يهواه ويرضاه من التدين والدعوة إليه والمشاركة فيه ثم يصادف بدمنهور شيخ الطريقة الحصافية وكان شيخا متصوفا عالما اختلف إليه الشهيد هو وبعض إخوانه فأخذ عنه واجتهد في سلوك طريقته وتعبد وسهر في العبادة وتبل إلى الله على صغر سنة وأطال حتى انطبع بطابع قوي واضح كان مرضيا لرغباته حبيبا إليه لازمه واستقام عليه حتى قضي نحبه.

يحدثنا أستاذه في هذه المدرسة يقول: «كان الطالب الشيخ حسن الساعاتي –كما كان يسمي حينذاك- سنة 1921 شابا هادئ الطبع رزينا لا يستفز أمثاله في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة يثبت عينه في معلمه إذا شرح لا يترك شيئا غمض فهمه إلا إذا استدرك فيه كان قوي الفهم قوي الإدراك حسن القراءة واضح النبرات لا يصعب عليه نوع من العلوم العربية والدينية والرياضية والأدبية أو الفينة هذا مع ما عرف عنه أنه كثير التهجد ليلا كثير القراءة والسهر ولقد شاعت هذه الأخلاق في فصله حتى ليندر أن يجد المعلم يوما مأخذا على طالب دخل ذات يوم هذا الفصل المدير العام للتعليم الابتدائي وكان في زيارة هذه المدرسة وكان إنجليزيا هو مستر جورج روب، فوجد الدرس مسائل تطبيقية على باب من أبواب الطبيعة وأخذ يمتحن الطلاب فأجابوه إجابات صحيحة مرتبة فتحداهم في سؤال ووعد أن يدفع خمسين قرشا للطالب الذي يجيب وطرح سؤاله واختار المجيب ولكنه لم يختر حسن الساعاتي –فأجاب الطالب إجابة كاملة صحيحة ففهمه مستر روب وأعلب إعجابه فانتفض الطالب يقول أعطني الخمسين قرشا ولكنه أخلف بوعده كما أخلف غيره من بني جنسه في الجلاء عن مصر»

ثم يحدثنا هذا الأستاذ يقول: «كنت أدرس التربية وعلم النفس مع الطبيعة لفضل حسن الساعاتي وأعطيت اختيارا للطلاب في علم النفس فأجاب الطالب حسن إجابة اضطرتني أن أعطيه الدرجة النهائية وأكتب تحتها لو كان لدي ما أعطيه لك فوق النهاية الكبرى لأعطيتك، وتشاء الصدف أن ينتخب هذا المعلم عضوا بمكتب الإرشاد في سنة 1947 إذ كان رحمه الله رئيسا للمكتب فيلقى رحمه الله سؤالا على المكتب في موضوع هام ويطلب إلى هذا الأستاذ أن يجيب فأجاب بما شفي نفس الشهيد فيقول إجابة كاملة صحيحة وهي رد على ما كتبه إلى سنة كذا على ورقة امتحان علم النفس وكان رحمه الله يحفظ لأساتذته قدرهم ومنزلتهم ويكبرهم ويحترمهم».

أتم رحمه الله الدراسة بمدرسة المعلمين بدمنهور وكل المعلمين يعرفون أن معلومات حسن الساعاتي واستعداده وكثرة إطلاعه وقراءته أكثر من أن تكون لطالب مثله فتقدم إلى امتحان المسابقة للدخول في دار العلوم العليا بتفوق عجيب ودخل هذه المدرسة فوجد رحالة وسعة ووجد بيئة علمية قوية ممتدة وجد طلابا عركوا كثيرا من المعارف والعلوم في الأدب والشريعة والفلسفة وغيرها ما يروي ظمأهم ويشبع نهمهم وكان الشهيد معهم في تلك الحقبة من الزمن في المكان المرموق والقمة التي يستشرف إليها النبغاء جمع من حوله طلابا نظمهم في جماعات في القاهرة وإلى «القهاوي» وخطب ونصح وداء هو ومن معه ونجحوا كثيرا آخر الأمر في دعة الناس إلى الخير كل ذلك ولم يتنبأ له أحد بما سيكون من أمره ولم يتنبأ نفسه بشيء مما آل أمره إليه إلا أن الآمال الكبار التي كان يمتلئ بها قلبه وتملك عليه مشاعره وتشغل حسه وعقله هي الإصلاح لما حوله ما في هذا البلد مما يندي له جبين الحياء من منكرات ظاهرة تتمثل في المواخير ونوادي الميسر وأماكن البغاء والربا والعري وأماكن الفساد وكان يضيق بها ويحدث من حلوه فيها وكانت الخمس السنوات التي قضاها في القاهرة طالبا بدار العلوم فرصة دراسة للعلوم المختلفة دراية لا يقتصر فيها على الكتب المقررة بل يرجع إلى المطولات والأبحاث بما كون لنفسه به رأيا وفكرا خاصا لفت الأنظار إليه وكانت فرصة دراسته للمجتمع المصري الصاخب في حاضرة البلاد المجاورة دراسة كون عليها بلد مسلم ولقد ساعده على استيعاب هذه الدراسة شدة إحساسه الفطري بأدواء المجتمع وواسع إطلاعه على حقائق الإسلام ومعارفه وطبه لهذا الأدواء لقد انضج ذلك لكه فكره ورأيه حتى أخذ عليه حسه وأذهله عن نفسه وشغله عن أهله وولده بعد أن كان له ولد وأهل وهكذا كانت حياة الإمام الشهيد كلها عجب.

من كلام الإمام الشهيد

أربعة أعوام في الجامعة

وتحت هذا العنوان ألقيت هذه الكلمة في حفل من أحفال الطلاب أيضا: ونسجلها هنا للذكرى كتوجيه من توجيهات المكتب العام لطلابه أمس واليوم حباه الله الشباب:

ستة يبعثون مجد الأمة: من خطبة لفضيلة المرشد العام في طلاب الإخوان المسلمين من شباب الجامعة المصرية:

أيها الإخوان يا شباب الله ورسوله وكتابه:

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: ففي مثل هذه الذكريات تتجدد آمال وتحيى مشاعر، وأن من حق هذه الذكريات علينا أن نتحدث فيها بعواطفنا ومشاعرنا وآلامنا وآمالنا وأن نكون في ذلك جد صرحاء ولا يفوتني في مفتتح هذه الكلمة أن أحي تلك الساعة البيضاء المباركة التي جلست فيها إلى ستة من إخوانكم منذ أربعة أعوام نتذاكر فيها واجب شاب الجامعة نحو الإسلام، وقد تخرج نم الستة اثنان هما موظفان ولولا أني أعلم كراهيتهم لذكر اسمائهم ولولا أنني سعيد بتشجيع هذا الشعور فيهم لذكرتهم، ولكن حسبهم في جهادهم ثواب الله في نهاية العام الثاني جمع هذا الحفل أربعين من إخوانكم وفي نهاية العام الثالث كان عددكم ثلاثمائة لكم السمو إلى ذلك العالم الملكي والاتصال بهذا الملأ الروحاني والدخول في حيز قوله تعالى: «ولسوف يرضى»

أيها الإخوان: إذ وضح هذا لديكم رأيتني أحب أن أتحدث إليكم في نقاط ثلاث: ماهية دعوتكم، موقفكم حيال ما يجب عليكم وأظنكم ملاحظين أنني كثير ما أتحدث إليكم عن هذا الهيكل وأذكركم به فمعذرة إذ أنني أشعر دائما أننا في أشد الحاجة إلى هذا التذكر الدائم دعوتكم أيها الإخوان سامية للغاية، أنتم تريدون أن تفهموا الإسلام على وجهه ثم تعلموا به على وجهه ثم تقنعوا الناس بما اقتنعتم به حتى إذا استوى صفكم واجتمعت كتيبة الله حولكم تخطيتم العمل الفردي إلى العمل الجمعي أو بعبارة أخرى تمت لكم الواجبات الفردية وبقيت عليكم الواجبات الاجتماعية هذه الناحية الإيجابية في دعوتكم أما الناحية السلبية فلستم طلاب حكم ولكنكم طلاب منهاج وإصلاح ومبدأ. ففي اليوم الذي يتحقق فيه منهاجكم تكون في المحاريب مثواكم وإلى المساجد مراحكم ومغداكم «فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب» وليست الخصومة بينكم وبين الناس خصومة أشخاص ولا ذوات ولكنها خصومة عقائد ومناهج ويوم يعتنق أشد الناس خصومة لكم مبادئكم نغسل نحن جميعا على قدميه، ونسلمه الراية سعداء مغتبطين فرحين، لأننا نعلم أن الخفي في هذا السبيل خير من الظاهر ونقرأ قوله تعالى: «فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون» يخطئ خطأ كبيرا من يتهمكم بخصومة حكومة من الحكومات الإسلامية أو هيئة من الهيئات العامة فأن موقف هذه الحكومات وهأنتم الآن في عامكم الرابع تزيدون ولا تنقصون «والبلد الطيب يخرج نباته بإذن الله».

أيها الإخوان: قبل أن آخذ معكم في حديث الدعوة أحب أن أوجه إليكم هذا السؤال: هل أنتم على استعداد بحق لتجاهدوا وليستريح الناس؟ وتزرعوا لتحصدوا؟ وأخيرا لتموتوا وتحيى أمتكم وهل أعددتم أنفسكم بحق لتكونوا القربان الذي يرفع الله به هذه الأمة إلى مكانتها؟

من العاملين من يعمل ابتغاء المال أو الوظيفة أو المنصب أو عرض من الأعراض في هذه الدنيا ومنهم من يعمل ابتغاء ثواب الله ورضوانه في الآخرة، ومنهم من سمت نفسه ورق حسه ودق فأحب الخير للخير وعمل الجيل لذاته وشعر بأن ما يجد من حلاوة التوفيق لهذه المنزلة فيه الكفاء لما بذل من تضحيات في سبيلها، وأدرك سر قول العارف «حسبك من ثوابك على الطاعة أن رضيك مولاك لها أهلا» بل سر قوله تعالى «بل الله يمن عليكم أن هداكم إلى الإيمان إن كنتم صادقين» فإن كنتم من الصنف الأول فتخلوا حالا عن هذا الميدان الكريم فما أفلح فيه نفعي قط، ويأبى الله أن يكون دينه القيم أحبولة لجر المغانم الدنيوية الزائلة، وإن كنتم من الصنف الثاني فاعملوا راشدين فإن الله لا يضيع من أحسن عملا، وستجزون بالدرهم دينارا وبالحسنة أضعافا مضاعفة «وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما» وإن كنتم من الصنف الثالث «فبخ بخ» وهنيئا والهيئات لا يعود أحد أمرين أما عاملة بالإسلام والمسلمين في حدود ظروفها وطاقتها فنحن أول أعوانها وأخلص أنصارها وخير من يشد أرزها ويعيننا على الإسلام وإما متبرمة بالإسلام ما له وما عليه فهل يسع أي مسلم ولو كان هذا المسلم نفسه ألا أن يكون عليها لا لها ويمتاز الإخوان المسلمون في هذا عن الناس بأنهم يؤثرون النصيحة على التشهير والتضحية والسلم والحب على التصادم والحرب وبيان الوضع والقول اللين على الغلاظة والجفاء ذلك تعليم الله لرسوله «فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى».

ويأخذ الناس عليكم في دعوتكم أنكم لا تحققون مناهجكم في أنفسكم تحقيقا تاما كاملا: وأنا مع الناس في أن هذا صحيح إلى حد كبير فنحن ما زلنا عاجزين عن تحقيق منهاجنا تاما كاملا في أنفسنا ولا أحب أن نعتذر بأن معظم هذا العجز يرجع إلى الظروف أكثر مما يرجع إلى الأشخاص فإن المقام مقام طموح إلى الكمال لا دفاع عن النقص، ولكني أحب أن أنبه إلى الفارق بين الإخوان وبين غيرهم في الدعوة العريضة ويتسترون بخلابة الألفاظ والإخوان مع هذا الاعتراف دائبون على طلب الكمال حتى يأخذوا منه بالنصيب الذي قدره الله لهم.

ويأخذ بعض الناس عليكم كذلك أنكم هادئون لا ثائرون مبطئون في عصر السرعة، ويحملون ذلك منكم على خور في العزم وضعف في الهمة ومداجاة ومواربة فذكروا هؤلاء بقول القائل: «رب عجلة تهب ريثا». وأن الله قال له: أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» ولم يقل له بالسرعة والجفوة والغلظة ذلك أمر الله أنزله إليكم، وأفهموهم أن الإخوان إذا علموا أن السرعة ستهب لهم النجاح 99٪ وأن الحكمة ستهب لهم النجاح 100 ٪ فهم يؤثرون البطء الحكيم لإحراز النجاح الكامل ذلك اجتهادكم وهذا رأيهم فإذا جاءت السرعة التي يعلم بها الإخوان أن البطء والهدوء سيقف تقدمهم أو يأخذ من انتصارهم فسيعلمون حينئذ كيف يذودون عن دعوتهم وكيف تكون الموتة الكريمة في سبيل الغاية العظيمة «فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون» إنكم دعاة تربية وعماد انتصاركم إفهام هذا الشعب وإقناعه وإيقاظ شعوره من كل نواحيه علو قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام ومبادئ الإسلام وهذه غاية لا تدرك في أيام ولا تنال في أعوام قليلة ولكنه الجهاد الدائب والعمل المتواصل ومقارعة جيوش الجهالة الأمية والمرض والفقر و الأحقاد والأضغان وخفة الأحلام وتقطيع الأرحام وتنظيف رواسب قرون عدة سرى الفساد فيها إلى كل مكان:

أفترون أن هذا أمر يسير؟؟

بل عن غايتكم أوسع من هذا فإنكم تريدون من هذا الشعب أمة نموذجية لتنسج على منوالها الأمم الشرقية جميعا: وتريدون من هذه الأمم وحدة إسلامية تأخذ بيد الإنسانية جميعا إلى تعاليم الإسلام هذه حدود مهمتكم التي يراها الناس بعيدة وترونها أنتم الإسلام الذي فرضه الله على عباده قريبا أم بعيدا «فإن تولوا فقل آذنتم على سواء وأن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون» وذلكم هو الشعاع الذي أشرق على قلوبكم من شمس قوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا» وحبسكم هذه الليلة ولعلي أتحدث إليكم بقية هذا الحديث بعد انتهاء امتحان إخوانكم وانضمامهم إليكم إن شاء الله تعالى.


خطاب عظيم للإمام الشهيد إلى ملوك الدول العربية وأمرائها=

في رجب من سنة 1366 هجرية: بعث الإمام الشهيد بهذا الخطاب إلى الملك الطاغية ورئيسين حكومته الرئيس السابق مصطفى النحاس حينذاك وإلى حضرات أصحاب الجلالة والسمو ملوك وأمراء وحكام بدان العالم الإسلامي المختلفة كما بعث به كذلك إلى عدد عظيم من كبار البارزين في هذه البلدان من ذوي الصفات الدينية والدنيوية: وها نحن نعيد نشره في كتابنا: فلا زالت كثير من القطرات التي تصمنها والتوجيهات التي أشتمل عليها أمنية عزيزة لكل عربي ولكل مسلم: نسأل الله تحقيقها.

أهم ما جاء في الخطاب:

حضرة صاحب ...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإنما حملنا على التقدم بهذه الرسالة إلى مقامكم الرفيع رغبة أكيدة في توجيه الأمة التي استرعاكم الله أمرها ووكل إليكم شأنها «في عهدها الجديد»توجيها صالحا يقيمها على أفضل المسالك، ويرسم لها خير المناهج ويقيها التزلزل والاضطراب، ويجنبها التجارب المؤلمة الطويلة ولسنا ببغي من وراء ذلك شيئا إلا أن نكون قد أدينا الواجب وتقدمنا بالنصيحة وثواب الله خير وأبقى.

تبعة الراعي:

يا صاحب ...

إن الله ولك إليكم أمر هذه الأمة، وجعل مصالحها وشئونها وحاضرها ومستقبلها أمانة لديكم ووديعة عندكم وأنتم مسئولون عن ذلك كله بين يدي الله تبارك وتعالى ولئن كان الجيل الحاضر عدتكم، فإن الجيل التالي من غرسكم وما أعظمها أمانة وأكبرها تبعة أن يسأل الرجل عن أمة «وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» ثم أخذ الإمام الشهيد يشرح في كتابه العظيم «نحو النور» السلام والعزة القومية: والإسلام والقوة الجندية: والإسلام والصحة العامة، والإسلام والعلم، والإسلام والخلق، والإسلام والاقتصاد، ونظم الإسلام العام، ثم قال مخاطبا، الملوك والرؤساء: يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساسا لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة، وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر، ولكن الحق غير ذلك بالمرة، فإن الإسلام الذي وضعه الحكم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة، وذلك من قبلن فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد أشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسا ولا غموضا في حماية الأقليات ثم قال يريد الناس أصرح من هذا النص الكريم «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين» الآية الكريمة ثم استطرد الإمام الشهيد إلى أن قال عن بعض خطوات الإصلاح العملي: مخاطبا إياهم: يا صاحب...

بعد ما أوضحنا ما يجب أن يسود الأمة في نهضتنا الجديدة من شعور روحي نحب أن نعرض ختاما لبعض المظاهر والآثار العملية التي يجب أن يميلها الشعور، وسنذكر هنا رؤوس موضوعات فقط ونحن نعلم تماما العلم أن كل مطلب من هذه المطالب يحتاج إلى بحث فسيح واسع دقيق تتوافر فيه جهود الأخصائيين وكفايتهم كما أننا نعلم أننا لم نستقص بعد كل حاجيات الأمة ومطالبها ومظاهر النهضة جميعا، ولسنا نعتقد أن تحقيق هذه المطالب من الهنات الهينات بحيث يتم ي عشية أوضحاها، كما أننا نعلم أن كثيرا منها أمامه من العقبات المتشعبة ما يحتاج إلى طول الأناة وعظيم الحكمة وماضي العزيمة كل ذلك نعلمه ونقدره ونعلم إلى جانبه أنه إذا صدق العزم وضح السبيل وأن الأمة القوية الإرادة، إذا أخذت في سبيل الخير فهي لابد واصلة إلى ما تريد إن شاء الله تعالى، فلتتوجهوا والله معكم أما رءوس مناحي الإصلاح المرتكز على الروح الإسلامية الصحيح فهي:

أولا: في الناحية السياسية والقضائية والإدارية:

1- القضاء على الحزبية وتوجيه قوة الأمة السياسية في رأي واحد.

2- إصلاح القانون حتى يتفق مع التشريع الإسلامي في كل فروعه.

3- تقوية الجيش والإكثار من فرق الشباب وإلهاب حماستها على أسس من الجهاد الإسلامي الصحيح.

4- تقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية جميعا وبخاصة العربية منها تمهيدا للتفكير الجدي العملي في شأن «الخلافة» الضائعة.

5- بث الروح الإسلامية في دواوين الحكومة بحيث يشعر الموظفون جميعا بأنهم مطالبون بتعاليم الإسلام.

6- مراقبة سلوك الموظفين الشخصي وعدم الفصل بين الناحية الشخصية والناحية العملية.

7- تقديم مواعيد العمل ي الدواوين صيفا وشتاء حتى يعين ذلك على الفرائض ويقضي على السهر الكثير.

8- القضاء على الرشوة والمحسوبية والاعتماد على الكفاية والمسوغات القانونية فقط.

9- أن توزن كل أعمال الحكومة بميزان الأحكام والتعاليم الإسلامية فتكون نظم الحفلات والدعوات الاجتماعات الرسمية والسجون والمستشفيات بحيث لا تصطدم بتعاليم الإسلام وتكون الدوريات في الأعمال على تقسيم لا يتضارب مع أوقات الصلاة.

10- استخدام الأزهريين في الوظائف العسكرية والإدارية وتدريبهم.

ثانيا: في الناحية الاجتماعية والعلمية:

1- تعويد الشعب احترام الآداب العامة ووضع إرشادات مقررة بحماية القانون في ذلك الشأن، وتشديد العقوبات على الجرائم الأدبية.

2- علاج قضية المرآة علاجا يجمع بين الرقي بها والمحافظة عليها وفق تعاليم الإسلام حتى لا تترك هذه القضية التي هي أهم قضايا الاجتماع تحت رحمة الأقلام المغرضة والآراء الشاذة.

3- القضاء على البغاء بنوعيه العلني والسري واعتبار جريمة «الزنا» جريمة منكرة يجلد فيها فاعلها.

4- القضاء على القمار بكل أنواعه من ألعاب ويانصيب ومسابقات وأندية.

5- محاربة الخمر كما تحارب المخدرات وتحريمها وتخليص الأمة من شرورها.

6- مقاومة التبرج والخلاعة وإرشاد السيدات إلى ما يجب أن يكون .

7- إعادة النظر في مناهج تعليم البنات ووجوب التفريق بينها وبين تعليم الصبيان.

8- منع الاختلاط بين الطلبة والطالبات واعتبار خلوة أي رجل بامرأة لا تحل له جريمة يؤاخذان بها.

9- تشجيع الزواج والنسل بكل الوسائل المؤدية إلى ذلك ووضع تشريع يحمي الأسرة ويحرص عليها ويحل مشكلة الزواج .

10- إغلاق الصالات والمراقص الخليعة وتحريم الرقص.

11- مراقبة دور التمثيل وأفلام السينما والتشديد في اختيار الروايات والأشرطة.

12- تهذيب الأغاني واختيارها ومراقبتها والتشديد في ذلك.

13- حسن اختيار ما يذاع على الأمة من المحاضرات والأغاني والموضوعات واستخدام محطة الإذاعة في تربية وطنية خلقية فاضلة.

14- مصادرة الروايات المثيرة والكتب المشككة والصحف التي تعمل على إذاعة الفجور وتستغل الشهوات استغلالا.

15- تنظيم المصايف تنظيما يقضي على الفوضى والإباحية التي تذهب بالغرض الأساسي من التصييف.

16- تحديد مواعيد افتتاح وإغلاق المقاهي العامة ومراقة ما يشتغل بها روادها وإرشادهم إلى ما ينفعهم وعدم السماح لهم بهذا الوقت الطويل كله.

17- استخدام هذه المقاهي في تعليم الأميين القراءة والكتابة ويساعد على ذلك الشباب المتوثب من رجال التعليم الإلزامي والطلبة.

18- مقاومة العادات الضارة اقتصاديا أو خلقيا أو غير ذلك، وتحويل تيار الجماهير عنها إلى غيرها من العادات النافعة لتذيب نفسها تهذيبا يتفق مع المصلحة وذلك كعادات الأفراح والمآتم والموالد والزار والمواسم والأعياد وما إليها وتكون الحكومة قدوة صالحة في ذلك.

19- اعتبار دعة الحسبة ومؤاخذة من يثبت عليه مخالفة شيء من تعاليم الإسلام أو الاعتداء عليه كالإفطار في رمضان وترك الصلاة عمدا أو سب الدين وأمثال هذه الشئون.

20- ضم المدارس الإلزامية في القرى والمساجد وشمولها معا بالإصلاح التام من حيث الموظفون والنظافة وتمام الرعاية حتى يتدرب الصغار على الصلاة ويتدرب الكبار على العلم.

21- تقرير التعليم الديني مادة أساسية في كل المدارس على اختلاف أنواعها كل بحسبه وفي الجامعة أيضا. 22- تشجيع القرآن في المكاتب العامة الحرة وجعل حفظه شرط في نيل النجاح في كل مدرسة.

23- وضع سياسة ثابتة للتعليم تنهض به وترفع مستواه وتوحد أنواعه المتحدة الأغراض والمقاصد وتقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة وتجعل المرحلة الأول من مراحله خاصة بتربية الروح الوطني الفاضل والخلق القويم .

24- العناية باللغة العربية في كل مراحل التعليم وإفرادها في المراحل الأولى عن غيرها من اللغات الأجنبية.

25- العناية بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني ولتربية الوطنية وتاريخ حضارة الإسلام.

26- التفكير في الطرق لتوحيد الأزياء في الأمة تدريجيا.

27- القضاء على الروح الأجنبية في البيوت من حيث اللغة العادات والأزياء والمربيات والممرضات.. إلخ وتمصير ذلك لكه وبخاصة في بيوت الطبقات الراقية.

28- توجيه الصحافة توجيها صالحا وتشجيع المؤلفين والكاتبين على طرق الموضوعات الإسلامية الشرقية.

29- العناية بشئون الصحة العامة من نشر الدعاية الصحية بمختلف الطرق والإكثار من المستشفيات والأطباء والعيادات المتنقلة وتسهيل سبل العلاج.

30- العناية بشأن القرية من حيث نظامها ونظافتها وتنقية مياهها ووسائل الثقافة والراحة والتهذيب فيها.

ثالثا: في الناحية الاقتصادية:

1- تنظيم الزكاة دخلا ومنصرفا بحسب تعاليم الشريعة السمحة

والاستعانة بها في المشروعات الخيرية التي لا بد منها كملاجئ العجزة والفقراء واليتمامى وتقوية الجيش.

2- تحريم الربا وتنظيم المصارف تنظيما يؤدي إلى هذه الغاية وتكون الحكومة قدوة في ذلك بالتنازل عن «الفوائد» في مشروعاتها الخاصة بها كبنك التسليف والسلف الصناعية وغيرها.

3- تشجيع المشروعات الاقتصادية والإكثار منها وتشغيل المتعطلين من المواطنين فيها واستخلاص ما في أيدي الأجانب مها للناحية الوطنية البحتة.

4- حماية الجمهور من عسف الشركات المحتكرة وإلزامها حدودها والحصول على كل فائدة ممكنة للجمهور.

5- تحسين حالة الموظفين الصغار برفع مرتباتهم واستبقاء علاوتهم ومكافآتهم وتقليل مرتبات الموظفين الكبار.

6- حصر الوظائف وخصوصا الكبيرة منها الاقتصار على الضرورة وتوزيع العمل على الموظفين توزيعا عادلا والتدقيق في ذلك.

7- تشجيع الإرشاد الزراعي والصناعي والاهتمام بترقية الفلاح والصانع من الناحية الإنتاجية.

8- العناية بشئون العمال الفنية والاجتماعية ورفع مستواهم في مختلف النواحي الحيوية.

9- استغلال الموارد الطبيعية كالأرض البور والمناجم المهملة وغيرها.

10- تقديم المشروعات الضرورية على الكماليات في الإنشاء والتنفيذ.

وبعد فهذه رسالة الإخوان المسلمين نتقدم بها وأنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف أية هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة إسلامية نحو الرقي والتقدم نجيب النداء ونكون الفداء ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا والدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وحسبنا الله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

حسن البنا

الإخوان وقضية فلسطين

"إن كل أرض يقال فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله هي جزء من وطننا له حرمته وقداسته والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره "... «حسن البنا»

لم يكن اهتمام الإخوان بقضية فلسطين وليد الحوادث الأخيرة التي أعقبت قرار التقسيم: ولكنه سبق ذلك التاريخ بزمن طويل فالإخوان «كهيئة إسلامية عالمية» كانت تضع في برنامجها مهمة الدفاع عن القضايا الإسلامية عالمية» كانت تضع في برنامجها مهمة الدفاع عن القضايا الإسلامية في مختلف أنحاء المعمورة وكانت دورهم دائما موئلا للمجاهدين الأحرار من مختلف بلاد العروبة ومواطن الإسلام وكان لفلسطين المكان الأول الأوفى من عنايتهم واهتمامهم في أول القبلتين وثالثة الرحمين الشريفين وهي تمثل مركزا وسطا في البلاد العربية وضياعها يعزل العالم الإسلامي بعضه عن بعض:

ولو نجح اليهود في احتلالها لأصبحت مباءة خطرة لعناصر الشر وبركانا زاخرا بالنار يزعزع أمن البلاد العربية وسلامنا.

وحين وضحت نيات السياسة البريطانية في فلسطين أخذ الإخوان يعتقدون المؤتمرات تباعا ويبيون للشعب والحكومات حقيقة هذا الخطر الذي يهدد كيانهم ومستقبلهم حتى نجحوا في إشراك العالم الإسلامي كله في القضية وباتت قضية المسلمين والعرب لا قضية أهل فلسطين وحدهم وحين قامت القلاقل في فلسطين أخذوا يمدون المجاهدين العرب هناك. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أخذ الإخوان يعملون للقضية عملا إيجابيا فأرسلوا وفودا من دعاتهم وشبابهم يؤلبون العرب ويستحثونهم لكفاح ويتولى فنر منهم تدريب الشباب الفلسطيني تدريبا سريا سريعا ولقد نجحوا في ساحات التدريب ولا يزال أ÷ل فلسطين يحمدون للداعية الإسلامية «سعيد رمضان» مواقفه الكريمة وأثره البالغ في توجيه الشباب العرب وجهة صالحة.

ويذكرون بالفخار والإكبار جهود كبار المشرفين على هذه الحركة التوجيهية.

وقد أدرك اليهود ما ينطوي عليه هذا التدخل من خطر شديد على أهدافهم وخططهم فقاموا ينشرون المقالات الطوال المأجورة في صحف أوروبا وأمريكا ويفعمونها بالتهم الخطيرة عن الإخوان المسلمين وحقيقة خطرهم على مصالح الولايات المتحدة وبريطانيا وكانوا يحاولون بذلك استعداد الحكومة الأمريكية لتقوم بعمل حاسم وسريع وتستأصل هذا الخطر الإسلامي الذي يهدد مصالحها بالزوال وليس أدل على ذلك من مقال كتبته فتاة صهيونية تدعى «روث كاريف » ونشرته لها جريدة «الصنداي ميرور» في مطلع عام 1948 ونقلته جريدة المصري في ذلك الوقت لقارئها ونحن بدورنا ننقل أهم ما جاء به من التهم يرى القارئ مدى النجاح الذي أحرزته الدعاية اليهود حين أقنعت حكومات أوروبا بخطورة حركة الإخوان المسلمين ودفعتها لمحاربتها بشدة وكانت الأسلحة التي وجهتها مع الأسف الشديد – هم تلك الطائفة المنكودة من المتزعمين والمستوزرين !! قالت الكاتبة في مقالها:

«إن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة وأن الإسلام هو خير الأديان جميعا وأفضل قانون تحي عليه شعوب الأرض كلها» .

ثم استطردت تصف خطورة حركة الإخوان إلى أن قالت:

والآن وقد أصبح الإخوان ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التداخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ألا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة فقد حان الوقت للعشب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال يسترون وراء هذا الاسم الرومانتيكي الجذاب اسم الإخوان المسلمين وقالت: هذا هو بيت القصيد- أن اليهود الآن في فلسطين هم أعنف خصوم الإخوان ولذلك كان اليهود الهدف الأساسي لعدوان الإخوان وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط يعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية وطالبوا علنا بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة وبعد هجوم عنيف على ساحة المفتي الأكبر وعلى المرحوم الإمام الشهيد ختمت مقالها.

وإذا كان المدافعون عن فلسطين «أي اليهود» يطالبون الآن مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة فإنهم لا يطالبون بذلك لأن الدول اليهودية في حاجة إلى الدفاع عن نفسها ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلى فلسطين لتواجه رجال الإخوان وجها لوجه وبذلك يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد شمال أفريقيا إلى الباكستان ومن تركيا إلى المحيط الهندي.

ولم يكن هذا المقال هو الأول من نوعه إذا دأبت الصحف على نشر مقالات طويلة من هذا النوع ولم يضيع للإخوان جهدهم في مناقشة هذه الأقوال إذ كانوا يعدون العدة لمناقشتها عمليا حين تلتحم الأسلحة ويبدأ دورها الرهيب فمضوا في خطتهم واستمرت وفودهم ودعاتهم تؤدي دورها الجليل حتى تشكلت المنظمات العسكرية وحين تشكلت المنظمات العسكرية العربية وأخذت تمارس تدريبها قام خلاف بين قواد «النجاده» و «الفتوه» وفطن الإخوان للخطر الكبير الذي ينطوي عليه هذا الخلاف فقاموا بمحاولات كثيرة للتوقف بين وجهات النظر المتعارضة انتهت باختيار مجاهد كبير وكيل الإخوان حينئذ للشئون العسكرية منظما لهذه التشكيلات فقبل هذا العمل الجليل وسافر فورا إلى فلسطين وأخذ يباشر تنفيذ برنامجه الحافل الذي أعده لتدريبها وتنظيمها ولكن لم تمض إلى فترة حتى فطنت حكومة الانتداب إلى هذه المحاولة وفهمت أن الدعوة الإسلامية تريد أن تزاحم لتحتل مكان القيادة في النضال المنتظر ومعنى ذلك بوضوح أن تنقلب خطط الإنجليز رأسا على عقب وتفشل سياستهم في فلسطين فقاموا بمطاردة دعاة الإخوان وشبابهم وأمر هذا المجاهد بمغادرة البلاد.

هذا في فلسطين أما في مصر فقد كان دور الإخوان رئيسيا في تسيير الأمور على النحو الذي سارت عليه ويجدر بنا قبل أن نتكلم على دورهم العسكري خلال الحرب أن نبين أثرهم البالغ في تهيئة الأمة لقبول فكرة الحرب إذ المعروف أن الجيش المصري لم يشترك في الحرب الفلسطينية إلا استجابة لرغبة الشعب وتمشيا مع إدارته تلك الإدارة التي ظهرت بوضوح في المظاهرات الكبرى التي مع إرادته تلك الإدارة التي ظهرت بوضوح في المظاهرات الكبرى التي قادها الإخوان وعمت أنحاء البلاد مطالبة الحكومة بالتدخل الحاسم للقضاء على الدولة اليهودية الوليدة قبل أن تستقر أقدامها ويصلب عودها، وكان إجماع الشعب على هذا الرأي إعلان لروح جديدة أخذت تسري في أوصاله بعد أن مزقه الاستعمار ونجح في قتل روح الجهاد في نفوس أبنائه وعلمه زعماؤه نوعا سقيما من الجهاد في نفوس أبنائه وعلمه زعماؤه نوا سقيما من الجهاد لا يتجاوز إلقاء الخطب «عصماء»أو السير في مظاهرة عاتية تحطم واجهات المتاجر وتقلب عربات الترام وتصل أقصاها من العنف والقوة حين تقذف وجوه رجال البوليس بالحجارة.

وكانت هذه الروح وليدة كفاح مرير دام عشرين عاما. وثمرة جهاد متواصل لعوامل الضعف والانحلال لتحويل الشعب عن هذا الطريق الخاطئ وتهيئته تهيئة صحيحة لتحمل أعباء الجهاد المنتج والإقبال على تضحياته وتكاليفه ولقد وضحت هذه النتيجة بأجلى مظاهرها حين أصر الشعب كله على ضرورة العمل الإيجابي السريع لإنقاذ فلسطين والوقوف أمام أطماع الصهيونية ولو أدى ذلك إلى إدخال الجيش والمساهمة في القضاء على الدولة الآثمة ولقد ساعد الإخوان في تحقيقي هدفهم هذا كثرة شعبهم التي امتدت في مدن القطر وقراه. واجتمع فيها خلاصة شباب مصر المؤمن وكثرة خطبائهم ودعائمهم الذين كانوا يجوبون المدن والقرى داعين الناس إلى الجهاد الديني لإنقاذ الأرض المباركة من خصوم الإسلام إلا لداء فقامت في ثورة إسلامية عنيفة كان من ثمارها تلك الحشود الهائلة من شباب مصر التي كانت تتوجه لمراكز الدعوة وكلها شوق إلى القتال وتحرق للجهاد والاستشهاد ولن يستطيع مكابر أن ينكر على الإخوان جهادهم في هذا السبيل أو يقلل من أهمية هذا الدور التمهيدي للحرب الذي قاموا به فنجحوا في تعبئة القوى الشعبية وتوجيهها وجهة صالحة ونجحوا في حمل الأمة على قبول فكرة الحرب بل والمطالبة بها في إصرار وعناد ووقوف الشعب كله بعد ذلك يؤيد جيشه المحارب ويتحمل في سبيل ذلك الكثير من الضغط والتضييق في حريته وأرزاقه.

غير أن تربية الإخوان وتعاليمهم لم تضع هباء إذ ظل الشعب حتى أخر مراحل القتال وما صاحبها من هزائم وانسحابات يتمتع بروح معنوية عالية بل رأيناه يعمد إلي القوة ليرغم الحكومة الضعيفة على قبول الهدنة والتقليد بقرارات مجلس الأمن ومواصلة القتال في عنف وشدة ولا تزال هذه الروح تتألق في صفوفه حتى اليوم من جديد حتى تقوض أركان الدولة الباعثة وتعيد لفلسطين المباركة عروبتها وإسلامها وبعد أن علمنا أثر هيئة الإخوان في تهيئة الشعب للحرب وبعد أن علمنا أهمية هذه النتيجة في الجولة الماضية وما يتبعها من جولات نستطيع أن نحكم على عظم الدور الذي لعبه الإخوان في هذه المرحلة الفاصلة في تاريخ الأمة الإسلامية، والإخوان بعد ذلك لم يكونوا مبتكرين ولا مجددين حين أولوا هذه الناحية كل عنايتهم لأن الإسلام قد أولاها عظيم اهتمامه حين جاء ليبث هذه المعاني في نفوس المسلمين ويوضح لهم الطريق الذي تسلكه الأمم الحية إن أرادت أن ترد حقا مغتصبا أو تذود عن حياضها بحد السيف وصدق الله العظيم «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا ترجون وكان الله عليما حكيما».

حقائق عن فلسطين

فلسطين بلاد عربية منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، تلك حقيقة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، ولكن أبت السياسة الإنجليزية الاستعمارية إلا أن تجعل منها قضية شائكة متشعبة، وأن تجعل من شعبها البائس كبش الفداء أمام سلطان اليهود ونفوذهم، ولن تجد مشكلة لعب فيها الاستعمار دورا رئيسيا كهذه المشكلة ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا أن بريطانيا هي التي خلقتها لتحقيق خطة مرسومة، فالمعروف أن اليهود اضطروا في أواخر القرن الماضي من جراء المذابح الهمجية التي وقعت عليها في عهد الطغيان إلى التفكير في إيجاد وطن قومي يحتمون بجنسيته ويكون ملاذا لهم إذا هبت عليهم العواصف وأصبحوا هدفا لطغيان جديد. ولم تكن فلسطين هي هدفهم ألا وحد لكنهم اختلفوا في تحديد الأرض التي يلجأون إليها وكانت فلسطين إحدى المواطن التي فكروا فيها لما لمهم بها من صلات تاريخية ترجع إلى آلاف السنين، وكانوا يعلمون حقيقة الصعاب التي تعترضهم في الوصول لهذه الغاية ففلسطين في ذلك الحين كانت جزءا من أملاك الدول العثمانية، فوق ما تحتله من مكانة خاصة في نفوس العرب والمسلمين، فحاولوا حبس النبض في عاصمة آل عثمان، وتوجه زعمائهم إلى الباب العالي يلتمسون شراء بعض الأراضي واستثمارها غير أن السلطان قابلهم بجفاء وغلظة مما جعلهم ينصرفون عن التفكير في هذا الشأن حتى قامت الحرب العظمى في عام 1914 وتغيرت تبعا لنتيجتها أوضاع كثيرة في العالم، وورثت بريطانيا وحليفاتها تركة «الرجل المريض» بمقتضى معاهدة «سايكس بيكو» في مايو 1916 وآلت فلسطين إلى بريطانيا فوجدها اليهود فرصة سانحة وقاموا يعادون السعي فلم يجدوا هذه المرة إعراضا وجفاء ولكن وجدوا تأييدا وعطفا شاملا، مما أغراهم بمضاعفة الجهود والسير بالفكر نحو التنفيذ.

كان هناك شبه اتفاق بين الحلفاء والجماعات اليهودية على أقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، واستطاعت الفكرة الصهيونية أن تكسب نصرا جيدا حين مصل بعض زعمائها أمام عصبة الأمم، وترك اللجنة منها رسم الخطة التي تنتهجها دول الحلفاء لإبراز الفكرة إلى عالم الوجد، ومن هنا جاء صك انتداب فلسطين ضربة قاصمة لأمال العرب ومشجعا لليهود في مواصلة الكفاح ويكفي لإبراز الشذوذ الذي كان يرافقه أن ثبت بعض ما جاء في نصوصه الرسمية فقد جاء في البند الثاني من ذلك الصك ما نصه:

«تكون الدولة المنتدبة (أي بريطانيا) مسئولة عن جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي» وجاء في المادة الخامسة ما نصه:

«يعترف بهيئة يهودية صالحة كهيئة عمومية لتشير وتعاون إدارة فلسطين في الشئون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك مما يؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين»

ونلاحظ أن صك الانتداب قد حول كل هذه الضمانات لليهود حين كان عددهم في فلسطين لا يكاد يتجاوز 6٪ من مجموع عدد السكان. ومما يؤكد تدخل الإنجليز ليخرج الصك في هذه الصورة الشاذة أن نصوصه لم تخرج في معناها عن الوعد المشهور الذي وجهه اللورد «بلفور»وزير خارجية بريطانيا في 2 نوفمبر سنة 1917 إلى البارون «روتشيلد» الزعيم الصهيوني الإنجليزي والذي جاء فيه:

«أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسنبذل جهدنا لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضير الحقوق المدينة والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى».

وأوضح ما في هذا التصريح من تناقض عجيب فإن مجرد التفكير في أقامة وطن قومي لليهود يضر أبلغ الضرر «بالطوائف غير اليهودية» وهم أهل البلاد والغالبية العظمى من السكان.


فلسطين بين قوتين

«ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين»...«قرآن كريم»

نحن الآن في شهر نوفمبر من عام 1947 والعالم كله يرقب باهتمام النتائج التي توشك أن تتمخض عنها لجان فلسطين في مجلس الأمن: والعالم العربي يمسك أنفاسه جزعا على مستقبل شقيقته الصغرى، وكان الجميع يعلمون أن قرار التقسيم الذي يوشك أن يصدر سوف يحيل الأرض المقدسة مهد الرسالات والسلام إلى بركة من الدماء تتناثر حولها الجثث والأشلاء. فاضت الصحف العربية بأنباء الاستعدادات العسكرية التي تجري في فلسطين لخوض حرب عنيفة يتقرر فيها مصير الجنسين، وكان اليهود يستعدون من زمن بعيد تحت ستار من الكتمان ساعدهم عليه امتلاكهم لمناطق برمتها لم يكن يستطيع عربي دخولها، وكان زعماؤهم العرب الأماثل الذين كانوا يرسلون التصريحات العنيفة والتهديدات المرة كل من عاصمة حكمه، بصورة كان من شأنها ـحزب الرأي العام العالمي ووقوفه في صف اليهود الضعفاء خدمة عظمى قدمها زعماؤنا الأمجاد من حيث. لا يشعرون ولكن رغم هذا التكتم كان من المعروف أن اليهود يملكون عدة منظمات عسكرية في فلسطين وبعض بلدان أوربا الشرقية وكانت هذه المنظمات تزيد من مجموعها على الثمانين ألف جندي وقد شكلت على أساس حرب العصابات لتقاوم الهجمات العربية.

وكان من أشهر هذه المنظمات جيش الهاجانا «حرس المستعمرات» الذي بدأ تشكيله أبان الحكم العثماني على هيئة نظام الخفراء وظل يكبر وينمو تحت رعاية الإنجليز حتى استطاع أن يكون جيشا منظما كامل التدريب والإعداد ولقد ساعده على استكمال تدريبه اشتراك بعض وحداته في حروب الصحراء خلال الحرب العالمية الثانية تحت اسم «الفيلق اليهودي» فاستطاع أن يتدرب تدريبا عسكريا مشروعا ويشاهد عن كثب تشكيلات الجيوش الكبيرة وتحركاتها وساعدته هذه الظروف كذلك على تهريب كمية كبيرة من العتاد وتحزينها في مقاطعات مجهولة من أرض فلسطين.

ولقد حاولت بريطانيا أن تداري موقفها فقبلت أن تطوع عددا من الشباب العرب في جيوشها ولكنها بدلا من أن تشركهم عمليات في الحرب كما صنعت مع اليهود إذا بها تشكل منهم مجموعات من «الحمالين» الذين يعملون في الخدمات العامة وراء الخطوط، وكانت القوات العسكرية اليهودية مندمجة في هذا الجيش حتى قامت الاضطرابات العربية في فلسطين عام 1936 وحدث خلاف بين زعماء هذه الوحدات فنشأت عن ذلك جماعات متطرفة كانت تميل إلى العنف والإرهاب وهي التي عرفت فيما بعد باسم «أرجوان زفائي ليومي» وجمعية «اشترين» الإرهابية وهذه الخيرة قامت بالدور الرئيسي في أعمال الإرهاب التي شنها اليهود البريطانيين في أواخر حكمهم وهي الأعمال التي اعترف الدكتور «حايم وايزمان» رئيس الجمهورية الإسرائيلية» في كتاب أصدره أخيرا بعنوان «الأخطاء والتجارب » والذي قال فيه بصراحة أن تلكؤ بريطانيا في تنفيذ وعدها لليهود هي التي أثارت الجماعات اليهودية ودفعتها للقيام بأعمال الإرهاب.

ومن الفرق التي شكلت في مطلع هذه الحرب فرقة «الباماخ» الفدائية وقد أنشئت على النمط الروسي وسلحت تسليحا حديثا يتناسب والدور الرئيسي الذي أعدت له جلبت لها من الخارج سيارات مصفحة من النوع الذي يصلح السير عبر الأراضي الفلسطينية وكانت جميع القرى والمستعمرات مقدمة على أساس عسكري يناسب الدفاع والهجوم فكانت كلها محاطة بالأسلاك الشائكة وحقول الألغام مليئة بالأسلحة والمعدات.

كانت هذه الاستعدادات تجري تحت سمع الحكومة البريطانية وبصرها وهي التي تولت تحصين المستعمرات وتسليحها وساعدت اليهود على إقامة مصانع الذخائر والأسلحة الصغيرة كتلك التي أقيمت في «ناتاتيا» و «الياجور» وإلى مثل هذه المصانع كانت تهرب أجزاء السيارات والدبابات من شتى بقاع العالم فتركب وتخبأ في الأماكن المعدة لهذا الغرض حتى إذا جاء الوقت المعلوم خرجت من مخابئها لتهاجم الجموع الشعبية شبه العزلاء.

هكذا كان الاستعداد اليهودي يجري لحرب الإبادة التي عولوا على خوضها أمام الجانب الأخر من طرفي الصراع فكان على النقيض تماما رغم الثورات المتلاحقة التي خاضها والتي أظهر فيها من ضروب البطولة ما قل نظيره في التاريخ، فالشعب ما قل نظيره في التاريخ فالشعب الفلسطيني ظل في حالة حرب مع الصهيوينة وحليفتها بريطانيا منذ أن صدر وعد بلفور وفي الوقت الذي كان يهود العالم كله يؤيدون إخوانهم في فلسطين تأييدا إيجابيا ويمدونهم بالأسلحة والذخيرة والكفاءات العسكرية كان الشعب العربي الفلسطيني يقف في الميدان وحده ينازل دسائس اليهود والاستعمار ولا يجدي من أبناء العمومة في الأقطار العربية المجاورة أدنى عون أو مساعدة، اللهم ألا تلك المواقف المسرحية لمندوبي العرب في المحافل الدولية.

ولقد ظل هذا النوع من الجهاد هو المسيطر على عقول زعماء العرب ورجالهم حتى بدا الصراع فعلا وبعد أن ظهرت النتيجة الحتمية لهذا الصراع لذلك لكه من الطبيعي أن يبدأ القتال وليس هناك تكافؤ بين القوى المتحاربة، ولقد أدرك الشعب الفلسطيني ذلك فقام ينظم نفسه بعد أن سبق السيف العدل، فشكلت في مطلع هذه الحرب عدة منظمات عسكرية أخذت تمارس التدريب على قدر ما تسمح به حكومة الانتداب فتشكلت منظمة «النجادة» وتشكلت بعدها «الفتوة» التي كان يشرف عليها الحزب العربي الفلسطيني وكانت جوالة «الإخوان المسلمين» مشكلة قبل ذلك بوقت قصير، ولقد انخرط في صفوف هذه المنظمات ألوف من الشباب غير أن القيود التي فرضها الإنجليز على التسلح والتدريب وقفت حائلا دون إعدادها وتجهيزها فظلت مفككة لا يجمعها نظام ولا تربطها قيادة حتى بدأت لمعركة وهذه الفرق لا تزال تدرب أعضاءها على السير في طابور منتظم، ولم يكن في استطاعة الشعب الفلسطيني أن يقوم بأي عمل جدي نحو أعداد نفسه، فإن القيود التي فرضتها حكومة الانتداب كانت لا تزال تمنع الناس من إحراز الأسلحة فضلا عن الظهور بها والتدريب على استعمالها وأذن فإنه لمن الظلم البين أن يلام الشعب الفلسطيني على هذا التقصير المعيب ولكن اللوم كله يتركز في زعماء الجامعة العربية الذين شغلوا أنفسهم بمعالجة القضية عن طريق المحادثات والمفاوضات والاعتماد على الوعود البريطانية الكاذبة، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة العمل الجدي فيقيموا لهم المعسكرات في الدول العربية التي يتمتع بشيء من الاستقلال ويتولوا تدريبهم على أيدي الضباط الأكفاء وليكونوا على استعداد للدفاع عن كيانهم إذا جد الجد.

وطويت أوراق المحادثات وأصبح الحكم للقوة المسلحة ومن الإنصاف للواقع أن نقرر أن زعماء الدول العربية قد فكروا أخيرا في سلوك هذا الطريق فقرروا في اجتماع «عالية» في عام 1947.

افتتاح معسكر على حدود سوريا وتكليف الهيئة العربية باختيار عدد من عدد من خيرة الشباب من مختلف الجهات ليتدربوا على أعمال العصابات والاضطلاع بالقيادة الصغيرة حتى إذا أتموا التدريب رجعوا إلى بلادهم ليدربوا غيرهم ويشرفوا على تنظيم حركة المقاومة في مناطقهم، هذه الخطة كانت هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذ فلسطين وقد فهممها زعماء العرب بعد فوات الوقت ورغم ذلك فإن الحكومة البريطانية لم تسمح بتنفيذها ووجهت مذكرة إلى الحكومات العربية تستنكر فيها هذا التصرف وتعتبره عملا عدائيا موجها إلى مصالحها في فلسطين، فانكمشت دول الجامعة أمام هذه المذكرة وماتت الخطة في مهدها وبدأ المعسكر يسرح الشباب الفلسطيني وظلت حركة المقاومة الوطنية تعتمد على جماعات من المحاربين لا تجمعهم خطة ولا قيادة .

وأرادت الجامعة أن تنظم الحركة في داخل البلاد فعينت الفريق «طه الهاشمي باشا» واللواء «إسماعيل صفوت باشا» يعمل معهم عدد كبير من الضباط العراقيين والسوريين ومنحتهم سلطات واسعة وأموالا كبيرة، ووكلت لهم مهمة التنظيم والتدريب ولكنهم لم يقوموا بعمل جدي لإنقاذ الموقف وبدل أن يعكفوا على تنظيم الجيش الداخلي في البلاد والتحكم في منابع القوة الدافقة والحماسية العنيفة في الشعب الفلسطيني أخذوا يجمعون عددا من المتطوعين من البلاد العربية وينفقون عليهم الأموال الباهظة ويجرون عليهم الرواتب الضخمة ونسي هؤلاء القادة «العباقرة» أن فلسطين لم تكن في ذلك الوقت في حاجة إلى رجل واحد من الخارج بقدر ما كانت محتاجة إلى عقول تنظيم القوى الموزعة وتوجيهها وجهة سليمة، وحتى هذه السريا التي أتعب القواد أنفسهم في إعدادها والإنفاق عليها لم تأت بالنتائج المطلوبة إذا كانت ضعيفة إلى أبعد الحدود في التدريب فوق أن أفرادها كانت تنقصهم الروح المعنوية العالية، إذ كانت غالبيتهم من العمال المتعطلين الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم ووجدوا الجهاد فرصة سانحة للكسب، فما كادوا يدخلون البلاد حتى تعددت حوادث السلب والنهب والتهجم على الأعراض والمتاجر.

اشتد إحساس العرب بخطورة الحالة وضعف أملهم كثيرا من الجامعة العربية ولجنتها العسكرية ومضوا يواصلون إعداد أنفسهم بأنفسهم فانهالت وفودهم على البلاد العربية تستجلب الأسلحة والذخائر وتعتمد على الهيئات الشعبية في جمعه وشرائه وقد تم فعلا ذلك.

الإخوان المسلمون في حرب فلسطين

«الإخوان يقومون بحرب العصابات»

قد يظن البعض أن حروب العصابات أو الحروب غير النظامية بصفة عامة هي أعمال فوضوية لا هدف لها ولا نتيجة من ورائها وأود قبل أن أبين الدور الذي قام به الإخوان حين اشتغالهم بهذا النوع من القتال و أوضح بإيجاز ما هي حرب العصابات ومدى تأثيرها على النتائج العامة للحروب.

فالواقع أن هذا النوع من القتال لا يمكن أن يقوم به إلا رجال يؤمنون إيمانا عميقا بعدالة الفكرة التي يحاربون من أجلها ولضمان النتائج الحاسمة يجب أن يكون هؤلاء الأفراد على مستوى رفيع من التدريب والذكاء ذلك لأنهم يتعرضون في قتالهم إلى كثير م المآزق الخطيرة ولأن مهمتهم الأساسية هي محاربة العدو في أرض تحتلها قواته ليثيروا الرعب والفوضى في مؤخرته ويقوموا بهجمات خاطفة على طرق مواصلاته ويدمرون ما تقع عليه أعينهم من أسلحة ومعدات ويمكن تلخيص النتائج التي تطلب من جال العصابات على الوجه الآتي:

أولا: إنزال الخسائر بالعدو دون الاشتباك معه في معارك مباشرة

ثانيا: إرغام العدو على تشتيت قواته وتخصيص جزء كبير منها لمطاردة هذه العصابات ومكافحتها.

ثالثا: إرغامه على حراسة منشآته وطرق مواصلاته حراسة قوية وفي هذا ما يبعثر قوته ويجعله في قلق دائم.

رابعا: إثارة العناصر الوطنية ضد قواته والتعاون معها وتسخيرها لتسقط الأنباء والتحركات ومعرفة الأهداف العامة، التمرين والحشد.

الأعمال الحقيقية للإخوان

بعد استبسال العظيم الذي قام به الإخوان المسلمون في حرب فلسطين فكان موضع إعجاب الكثير وعمل الإخوان في صمت تام و هدوء دون جلبة أو إعلان، فكانوا كثيرا ما يعملون ويعملون، فقد حدث مرة أن قامت قوة كبيرة من الإخوان وكان هدفها: تدمير شبكة المياه بين مستعمرتي «بيري» و«أنكوما» وأباحت أنابيب المياه لأعراب المنطقة ينتزعونها من الأرض تحت حراستهم حتى نزعت من الأنابيب مساحات شاسعة ثم رابطت في المنطقة لتمنع العدو من إصلاحها وصبر اليهود عسى أن تنصرفي لشأنها ولكن القوة العنيدة ظلت تواصل تدمير الأنابيب ونزعها والتعرض للمصفحات والقوافل التي تحاول إصلاحها فلم تجد القيادة الإسرائيلية بدا من الدخول في معركة مباشرة فجمعت عددا كبيرا من المصفحات من جميع المستعمرات وأحاطت القوة الصغيرة من جميع الجهات وأخذت تقترب منها على أمل أن تظفر بها وثبت الإخوان ثباتا عجيبا وأوقعوا من اليهود عددا من القتلى قبل أن يبعثوا في طلب النجدات من معسكراتهم.

وجاءت مصفحات وأقامت نطاقا حول مصفحات العدو الذي سقط في يده حين رأى نفسه محصورا بين نارين فاضطر إلى طلب نجدات أخرى من المستعمرات القريبة وامتلأ ميدان المعركة بقوات كبيرة من الجانبين: واشتد القتال بين الفريقين شدة لم يسبق لها مثيل حتى يئس العدو من زحزحة الإخوان عن موقفهم: فأخذ يطلق سحبا من الدخان ليستر انسحابه وما كادت أطباق الدخان تنجاب عن ميدان المعركة حتى سارع الإخوان يجمعون غنائمهم من السلاح ويعودون لتدمير الأنابيب من جديد وأيقن اليهود أنه لا قبل لهم بمواجهة هذه القوات المتفانية في حرب شريفة فلجأوا إلى أسلحة الغدر والخيانة وحاولوا تسميم آبار يستعملها الإخوان في منطقة «خزاعة» حيث كان أحد المجاهدين يرابط فيها بسريته ولكن عين الله المبصرة ويقظة الإخوان مكنتهم من اكتشاف الجريمة قبل وقوعها وذلك أنهم لمحوا رجلين يرتديان الملابس العربية ويتظاهر أن باستجلاب الماء وكان منظرهما يدعو إلى الريبة فاقترب منهما الجندي الحارس وأمرهما بالوقوف فلاذا بالفرار فتعقبهما الجندي الحارس وعدد من الإخوان وأدركوهما ولم يبق بينهما إلا خطوات وأمروهما بالتسليم مهددين إياهم بإطلاق النار فرفعا أيديهما بالتسليم وحين اقترب إخوان منهما انبطحا على الأرض في سرعة وقذفا على المهاجمين عددا من القنابل اليدوية وأسرع الإخوان بملاصقة الأرض ثم أطلقوا النار فأردوهما قتيلين وبلغت النقمة من الإخوان من هذا العدو أن حملوا الجثتين إلى مستعمرة «نيريم» وهناك على مقربة من العدو ونضحوا الجثتين بالبترول وأشعلوا فيهما النار على مرأى من المستعمرة، وجن جنون اليهود وأخذوا يلوحون بأيديهم في غضب وانفعال وحين جن الليل هاجموا مواقع الإخوان في خزانة انتقاما لهذا الحادث ولم يتمكنوا من زحزحة الإخوان أو إبادتهم وأن كانوا قد نجحوا في قتل أحد المجاهدين الأبرار، وهكذا نجحت الخطة الجديدة ولم يعد الإخوان في حاجة إلى معاودة الهجوم. ولقد حاولت القيادة اليهودية أكثر من مرة القضاء على العصابات وتطهير المنطقة منها فكانت ترسل عددا كبيرا من قواتها وكان هذا أقصى ما يريده الإخوان فيستدرجونهم إلى المناطق الوعرة ويحاصرونهم في الشعاب والوديان.

وجن جنون الإخوان عند سماعهم هذا النبأ غير أن الأوامر التي وصلتهم بعد ذلك من المرشد الشهيد – كانت تأمرهم بالتزام الهدوء والإخلاد إلى السكينة ولن يتصور أحد عظم الكارثة التي كان يمكن أن تقع لو ركب «الإخوان» رؤوسهم وقاموا بأي إجراء طائش إذا كانوا هم وحدهم يدافعون عن منطقة من أكبر المناطق والعدو يحيط بهم من كل جانب وينتظر الفرصة ليبتلع هذه المدن الغنية الواسعة وقدر الإخوان عظم الخطر، فقهروا عواطفهم واكتفوا بإرسال برقية إلى كبير الأمناء بقصر عابدين ضمنوها سخطهم الشديد لصدور هذا الإجراء الظالم.

ثم عكفوا على أداء واجبهم من جديد وكأن شيئا لم يحدث حتى انتهت الحرب وأعلنت الهدنة وبدأوا يغادرون أسر اليهود ليقعوا مرة أخرى في أسر السعديين، وقدر لهم أن يلبثوا في الأسر الآخر عاما كاملا، قضوه بين معسكرات الاعتقال في «رفح» و «العريش» حتى انهارت قوائم العهد الأغبر بما حملت من أوزار وآثام، وبدأ المجاهدون يستردون حرياتهم المفقودة شيئا فشيئا.


دخول الجيش المصري إلى فلسطين

«ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه»

توغل الجيش المصري في أرض فلسطين، غير مبال بخطر شديد يجثم على ميمنته، ويتمثل في عدد هائل من المستعمرات المحصنة التي أعدت بإتقان، لتقوم بدورها في الوقت المناسب.

وكانت الخطة العربية العامة تقضي بأن يحتل هذا الجيش قطاعا هائلا يمتد من قرية «رفح» على الحدود المصرية إلى قرية «يبنا» على مسيرة عشرين ميلا من «تل أبيب» حيث تكون الجيوش العربية الأخرى الزاحفة، قد اختلت نقطا مماثلة قريبة منها، ثم تتجمع هذه القوات وتتصل مكونة حلقة فولاذية حول عاصمة العدو، لتفصلها عن بقية المناطق.

وكان واضعو الخطة يعتقدون أن احتلال العاصمة، سينهي هذه الحرب ويضطر العصابات اليهودية المسلحة إلى الاستسلام.

ولقد فات هؤلاء أن المستعمرات اليهودية قد وزعت في فلسطين توزيعا عسكريا تحت إشراف الإنكليز، يضمن لليهود الاستمرار في القتال مدة طويلة وأن كل مستعمرة في هذه المستعمرات كانت تحتوي على أعداد كبيرة من الجند ومقادير هائلة من السلاح والعتاد ويمكن لهذه القوات أن تتجمع وتكون جيشا لجبا، وتستمر في المقاومة حتى تتدخل الدول الكبرى وتضيع على العرب ثمرة انتصارهم.

على أن هذه الخطة لم يقدر لها النجاح لما انطوت عليه من جهل بالغ بقوى العدو وأساليبه في المقاومة فضلا عن عدم التعاون الذي لم نلمس أي أثر له في تنفيذها بين الجيوش العربية، التي كان مفروضا أن تعمل تحت قيادة موحدة، ولكن ما كادت المعركة تدخل دورها الحاسم حتى أصبح كل جيش يقاتل على حدة في المنطقة التي اختص ولقد زادت هذه الحقيقة وآثارها وضوحا حين أشتد الضغط على جبهة الجيش المصري في الجنوب وظلت الجيوش العربية الأخرى تنعم بالهدوء والراحة خلال الهدنة!

حتى إذا انتهت الحرب قام كل جيش يبرر موقفه وينحى بالملائمة على زملائه، ولنستمع إلى هذه المساجلة الصحفية التي دارت على صفحات «جريدة النهار» البيروتية بين القائد الأردني الجنرال «كلوب» والكولونيل «منير أبو فاضل» المفتش العام لقوات الجهاد المقدس.

فقد نشرت الجريدة المذكورة حديثا خطيرا للجنرال كلوب دافع فيه عن مسلك الجيش الأردني وبرر تراجعه عن اللد والرملة وتعرض بالنقد الشديد للجيش الأردني وبرر تراجعه عن اللد والرملة وتعرض بالنقد الشديد للجيش المصري مقررا أنه لم يقم بواجبه مطلقا لإنقاذ فلسطين فإن هذا الجيش «المصري» هو الذي عرقل بتصرفاته أعمال الجيش العربي الأردني ومنعه من القيام بهجوم صاعق على مراكز اليهود والقضاء عليها في مدة قصيرة..!!

ورد الكولونيل أبو فاضل على هذا الزعم متهما الجنرال كلوب بهذه التهم الخطيرة قائلا:

1- إن الجنرال كلوب هو الذي مهد للضربة القاتلة التي تلقاها الجيش السوري في «سمخ» وأنه هو الذي أفسح المجال للعدو ليلتف حول مواقع الجيش السوري في شمال فلسطين.

2- أ ن الجنرال كلوب هو الذي منع القوات الأردنية من الاشتراك في المعارك التي دارت في القدس، وأنه هو الذي منع مدفعية جيشه من دك مراكز اليهود، ومعاونة المناضلين العرب في دفاعهم عنها.

3- أن الجنرال كلوب هو الذي أمر بإخلاء اللد والرملة رغم أن قواته كانت كافية للدفاع عنا ولذلك ليفسح المجال للعدو للقيام بحركة التفاف حول جناح الجيش المصري وعزل قواته في الفالوجا، وضرب لذلك مثلا «أن قائد القوات الميكانيكية الأردنية في منطقة اللد كان بريطانيا، وهو الذي نفذ أوامر كلوب وأمر الجنود العرب بالانسحاب تاركا مئة ألف عربي لقمة سائغة لليهود، وكان القائد اليهودي الذي هاجم اللد ضابطا بريطانيا أيضا هو الأخر وأن أتصالا لاسلكيا تم بين الضابطين البريطانيين اتفقا فيه على سحب القوات العربية رغم إرادة الضابط العرب ومعارضة الجنود الأردنيين البواسل»

وليس من شأني في هذا الكتاب أن أناقش هذه التهم التي تبادلها قواد العرب ولكني أتخذها دليلا واضحا على عظم التعاون والثقة المتبادلة التي كانت تسود الجيوش العربية وهي تقوم بحملتا المقدسة لتحرير فلسطين من عصابات الشر وتسليمها لأهلها العرب لم تحاول المستعمرات اليهودية أذن أن تعترض طريق الجيش المصري حسب الخطة اليهودية العامة، بل أظهرت كل معاني الضعف والاستسلام وكان بعضها يرفع الأعلام البيضاء على قمم الأبراج الشاهقة حتى يمض الجيش في تنفيذ خطته.

ولقد حاول الجيش المصري دخول بعض المستعمرات القريبة من مواصلاته، وتركه اليهود يقترب منها ثم أخذوا يطلقون النار على وحداته من أبعاد قريبة فحاول الجيش اقتحامها بالقوة وكانت أول محاولة له أنه هاجم مستعمرة «نيريم» الدنجور على الحدود المصرية في 16 مايو ودكها بالمدفعي ثم حاول اقتحامها بمشاته ولكنه وجد فيها مقاومة عنيفة اضطرته لصرف النظر عن محاولته ومواصلة الزحف مكتفيا بمحاصرتها.

وتكررت المحاولة على كثير من المستعمرات ولكن هذه المحاولات ذهبت عبثا رغم كثرة الخسائر التي تكبدها الجيش ولا استطيع أن أمر على ذكر هذه المعارك دون أن أشير إلى الروح المعنوية العالية التي كان يتمتع بها أفراد هذا الجيش هذه الروح التي دفعتهم لملاقاة الموت بصدور عارية والتقدم صوب الأبراج المحصنة دون أدنى وقاية يحتمون بها إلا إيمانهم بالله وثقتهم في نصرة وتأييده.

ولقد أثبتت هذه الروح القوية وجودها وآتت ثمارها يوم أصر الجيش على اقتحام مستعمرة دير سنيد المحصنة في يوم 19 مايو وقام العدو مقاومة عنيفة غير أنه اضطر إلى إخلائها أمام ضغط هؤلاء الجنود البواسل وشدة بأسهم تاركا خلفه عشرات من القتلى وكميات وفيرة من المؤن والعتاد. ثم واصل الجيش تقدمة شمالا وأخذ يهاجم المستعمرات اليهودية الواحد تلو الأخرى فهاجم «كفار ديروم» و «بيرون إسحاق» و «كوكبه» و «نجبا» وغيرها نجح في اقتحام «نيتسانيم» بعد معركة دايمة أظهر الجنود المصريون فيها من ضروب البسالة ما يجعلهم في طليعة المقاتلين الممتازين غير أن هذه الروح العالية لم تلبث أن ضعفت بعد تدخل السياسة وفرض الهدنة الأولى والثانية وما صحب هاتين الهدنتين من انسحابات وهزائم.

ومما يجدر بي ذكره في هذا الوضع أن الجنود المصريين على الرغم من هذه الروح العالية وما أظهروه في بداية الحرب من شجاعة وثبات كان واضحا ما عليه حالتهم من نقص في التدريب والمقدرة خاصة فيما يتعلق «بالأعمال الليلية» حين كانت هذه الناحية متوفرة تماما في قوات العدو، ولا أظن إلا أن حضرات الضباط ممن اشتركوا في الحملة يوافقون على هذه الملاحظة، إذ كان العدو يقوم بأغلب معاركه في الليالي المظلمة وبصورة تنبئ عن مقدرة فائقة ومستوى عالي في التدريب.

كان مقررا للجش المصري كما ذكرت أب يواصل تقدمه إلى «يبنا» حسب الخطة العربية العامة، ولكن ما كادت طلائعة تتجاوز «أسدود» وتقترب من الهدف حتى تجمعت القوات اليهودية من منطقة «رحبوت» وهاجمته هجوما عنيفا، غير أن الجيش أفلح في صد هذا الهجوم وتكبيد العود خسائر فادحة ولكن اليهود بهجومهم هذا حققوا نتيجة واحدة، وهي «تثبيت» الجيش المصري في أسدود.

وكانت هذه هي نقطة التحول في الحرب إذ لزم الجيش المصري موقف الدفاع عن نفسه وعن الأرض التي احتلها وتغيرت تبعا لذلك نظرة القيادة العامة للموقف، وأخذت تنحو منحى جديدا، فبدل أن تبذل جهدها في تتبع العصابات اليهودية والقضاء عليها رأت أن تعزل مستعمرات النقب عن بقية أجزاء فلسطين فزحفت القوات المصرية شرقا واتصلت بقوات المتطوعين المصرين المرابطة في جبال الخليل، وبذلك أصبحت القوات المصرية تكون إطارا وهميا حول منطقة معادية تموج بعشرات المستعمرات وعشرات الألوف من الجنود.

والآن أريد أن أتساءل ما الذي كان يحدث لو تجمع اليهود على حدود مصر الشرقية، وحاولوا الاشتباك مع الجيش المصري عند دخوله لمنعه من التوغل في أراضي فلسطين؟ لا شك أن القيادة المصرية كانت تراع موقفها وتحجم عن المضي في تنفيذ خطبتها قبل أن تطهر هذه «الجيوب» الخطرة التي يتجمع فيها العدو.

ولكن اليهود لم يفعلوا ذلك لا ضعفا منهم كما يقول البعض ولكنهم وضعوا خطتهم الدفاعية على أساس «بعثرة» الجيش المصري وإعطائه الفرص ليحتل مساحات شاسعة، مع علمهم أنه لا يملك القوة العددية الكافية ليسيطر على هذه المناطق الواسعة سيطرة صحيحة، وعندئذ تقوم المستعمرات بدورها المرسوم فتهاجم قواته ويصبح من الميسور القضاء عليه.

ولقد كان الإنسان منا يعجب كثيرا وهو يمر على بعض المراكز الهامة التي يحتلها الجيش، فلا يجد إلا قوات ضئيلة مبعثرة هنا وهناك لا يمكنها الوقوف أمام أي هجوم لأكثر من دقائق معدودة.

وهناك لا يمكنها الوقوف أمام أي هجوم لأكثر من دقائق معدودة.

وكان هذا هو الوضع الطبيعي لجيش قليل العدد اضطرته ظروفه لحماية مناطق شاسعة يعجز عن حمايتها أضعاف أضعافه، وليست هذه الخطة التي اتبعها اليهود من تفكرهم ووضعهم لكنها خطة قديمة استعملت أكثر من مرة: استعملها الروس أمام نابليون حينما تركوه يحتل المناطق الشاسعة من الأراضي الروسية قبل أن يقوموا بالهجمات المضادة على جيشه، واستعملها الروس مرة أخرى حين عبرت الجيوش الألمانية الأراضي الروسية في يوينو عام 1941 عندما تركت المناطق الشاسعة ليحتلها النازيون فتتبعثر بذلك جيوشهم ويصبح من الميسور القضاء عليها وإيقاع الهزائم بها كما حدث بعد ذلك.

وقد تعجب حين تعلم أن كثيرا من ضباط أركان الحرب في الجيش الإسرائيلي كانوا ضباطا في الجيش الروسي خلال الحرب الروسية الألمانية وكانت هذه الخطط دروسا مستفادة، ونفذت بصورة مصغرة في فلسطين ونجحت نجاحا منقطع النظير.

ولست أدري كيف غابت هذه المعاني عن أذهان القادة العسكريين في الجيوش العربية، ولن يزال سر هذه الخطة قائما، يتذبذب بين «اللواء المواوي» القائد الأول للحملة وبين الساسة المصريين الذين كانوا يحركون القتال من القاهرة والذين كان أكبر همهم كسب الرأي العام وانتزاع تصفيقه للجيش الباسل الذي احتل ثلث فلسطين في مدة لا تتجاوز عشرين يوما، ببركة وزارة السعديين وحسن سياستهم!!

على أن أنصار «المواوي» يقولون أن الرجل لم يغب عن ذهنه ما في هذه الخطة من خطر ولكنه كرجل عسكري كان ينفذ ما يؤمر به مضطرا ويواصل الزحف كلما صدرت إليه الأوامر ولكن أنصاره يعودون فيقولون أن الواجب كلما يقضي عليه باعتزال القيادة، ومغادرة الميدان، وعدم المجازفة بسمعته العسكرية كقائد، وسمعة الجيش بتعريضه للهزيمة المنكرة من جراء خطة مرتجلة.

ولسوف تظل هذه النقطة الخطيرة التي ترتب عليها ما حل بالجيش وما حدث في فلسطين سرا مغلقا حتى تأتي يوم يستطيع فيه «المواوي» أن يواجه أمته وأن يحدد مسئولية الكوارث التي تعرض لها جيشنا في فلسطين والتي كادت تؤدي به لولا لطف الله وعنايته.

ولقد أوضحت في كلامي عن جهود المتطوعين في الدفاع عن بيت لحم كيف رأت القيادة العامة أن تجمع كتائبهم في بيت لحم والخليل، وحين تمت هذه الخطوة لم يبق مع القوات الرئيسية المصرية سوى قوات الإخوان الحرة التي كان يقودها مؤرخ هذه الصفحات والتي نفرد الأبواب التالية لمتابعة أعمالها والوقوف على مدى تأثيرها في سير العمليات التي دارت في هذه الجبهة.

كانت مهمة الإخوان في ذلك الوقت تتلخص في إرباك مستعمرات النقب وإشغالها في الدفاع عن نفسها أمام هجماتهم المتكررة حتى لا تفكر في الانقضاض على مؤخرة الجيش وهو مشغول بمعاركه الأمامية في مناطق أسدود والمجدل والفالوجا، فمرت بالإخوان في ذلك الوقت فترة من انشط الفترات وبلغت المعارك بينهم وبين اليهود إلى عنفوان شدتها، ولم يكن يمر واحد حتى تنشب الاشتباكات الدامية في مناطق مختلفة من الصحراء والإخوان، في كل ذلك غير مقيدين مطلقا بما جد من أساليب الخداع والتثبيط كقرارات الهدنة ووقف القتال بل لا أكون مبالغا إذا قلت أن الإخوان كانوا يعملون في قترات الهدنة أكثر مما يعملون في أوقات القتال، حتى وقع منهم في ذلك الحين كثير من الجرحى وعدد من الشهداء.

ولم يكن جهود الإخوان مقصورة على مهاجمة القوافل ومحاصرة المستعمرات بل كانوا يشتركون مع الجيش المصري في عملياته الهجومية، ولا ضرب مثلا على ذلك بمعركة «بيرون إسحق» إذا قرر الجيش اقتحامها ووضع خطة محكمة لذلك.

وكان كل ما تخشاه قيادة الجيش أن يتدخل المستعمرات الجنوبية في المعركة فطلب إلى البكباشي «عبد الجواد طبالة» أركان حرب المنطقة في ذلك الحين أن يقوم الإخوان بقطع الطرق التي تصل هذه المنطقة في ذلك الحين أن يقوم الإخوان بقطع الطرق التي تصل هذه المنطقة ومنع اليهود من دخول المعركة عن هذا الطريق فعهدت إلى الأخوين «نجيب جويل» و «محمد علي سليم» للقيام بهذه المهمة فخرجوا بفصائلهم ورابطوا على نقاط متقاربة على الطريق، وحين بدأت المعركة وأشتد الضغط على حامية «بيرون إسحق» بعثت تطلب المزيد من القوات، واستجابت لها القيادة اليهودية، وما هي إلا برهة يسيرة حتى امتلأ الطريق بالمصفحات القادمة من مستعمرات النقب الجنوبية، ونشبت معركة شديدة بين الإخوان وهذا العدد الهائل من المصفحات وحاول اليهود التخلص من هذا الحصار والوصول إلى ميدان المعركة ولكن قوة النيران الموجهة إليهم من الأسلحة الأوتوماتيكية ومدافع الهاون و «البيات»، وحقول الألغام بثت في طريقهم أقنعتهم بأن طريقي العودة هي أسلم طريق فبدأوا يتراجعون تاركين حامية «بيرون إسحق» تعاني ودها شدة المعركة وتستغيث بقيادتها ولا مغيث..!!

ولست أنسى يوم هاجم اليهود أحدى مضارب العرب الآمنة وأضرموا فيها النار بعد أن قتلوا كثيرا من رجالها وجاء الأحياء منهم يشكون إلينا إذ كان سبب المذبحة التي أوقعها اليهود بهم أنهم يتعاونون مع الإخوان «المجرمين» على حد تعبيرهم!

ولقد كنا مضطرين لمجابهة هذا العدوان بمثله حتى يأمن البدو على أنفسهم ويظلوا على ولائهم لنا فقررنا إيقاع مذبحة مشابهة باليهود وتسللت قوة من الإخوان في جوف الليل إلى إحدى المناطق الداخلية متوغلة في أرض يعتبرها اليهود حرمهم الخاص، وهناك على طريق السيارات بثوا حقلا كبيرا من الألغام، وانفلتوا في أحد الوديان المجاورة ينتظرون مقدم «الصيد» وجاءت قافلة كبيرة قرب الفجر، فلم تكد تمس الألغام حتى انفجرت وتطايرت أجزاء السيارات في الفضاء وظل الإخوان في مكمنهم حتى انجلى دخان الألغام، وقام من نجا من اليهود فأخذوا يطلقون عليهم النار حتى مات من مات، وفر من استطاع الفرار، ثم جمعوا القتلى وكدسوهم كومة واحدة، بعد أن أخذوا ما وجدوه من سلاح وعتاد، ولم ينس الإخوان أن يتركوا منشورا كتب فيه أن هذا الحادث بمثابة رد لما ارتكبته العصابات الصهيونية ضد العرب الآمنين. ولقد سمع القائد العام بهذه العملية الجريئة فأبدى رغبته في رؤية بعض الأسلحة التي غنمها الإخوان، وأعجب كثيرا بما شاهده منها خاصة أحد مدافع «المورتر» المصنوعة حديثا في بلجيكا وكانت هذه واحدة من عشرات المعارك التي قام بها الإخوان وسببت ارتباكا عنيفا لليهود، وأكسبت الإخوان خبرة لا تجاري في وسائل حرب العصابات الحديثة.


جاسوسية وجواسيس

«يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»...«قرآن كريم»

لم يعرف التاريخ شعبا كافح في سبيل حريته مثل ما كافح الشعب العربي الفلسطيني ولم يشهد التاريخ نوعا من أنواع التنكيل والإرهاب أشد وأقسى مما صبته بريطانيا على هذا الشعب الباسل لتصرفه عن حقوقه وأهدافه وأن الثورات المتتابعة التي شهدتها فلسطين منذ ابتليت بالاستعمار البريطاني لتعطي صورة صادقة نفسية هذا الشعب ومدى إيمانه بحقوقه وتمسكه بها إيمانا تغلغل في نفوس جميع أفرادها ومختلف طبقاته، وتساوى فيه البدوي والحضري ولقد بينت طرفا من جهاد هذا الشعب في صفحات سابقة، غير أن أحدنا لم يمل حين يستطرد في نشر هذه الصفحات المجيدة، التي سطرها المجاهدون بدمائهم وهم يكافحون أكبر قوتين في الأرض قوة المال وقوة السلاح قوة بريطانيا العظمى بجيوشها الجرارة، التي سطرها المجاهدون بدمائهم وهم يكافحون أكبر قوتين في الأرض، قوة المال وقوة السلاح قوة بريطانيا العظمى بجيوشها الجرارة وقوة الصهيونية بذهبها ونفوذها.

ولا ينتظر القارئ منى أن أحدثه عن الأسماء اللامعة التي سمع بها القريب والبعيد وتناقلتها الصحف والمجلات ولكني أغوص به إلى أعماق هذا الشعب ليرى مدى تغلغل روح الجهاد والتضحية في مختلف طوائفه وطبقاته.

فهذا سائق سيارة بسيط يطلب إليه الإنجليز أن يقود سيارة تحمل عددا من جنودهم إلى القدس حيث يساهمون في القضاء على اضطرابات وقعت حولها ولم يكن في وسعه أن يرفض فاستجاب لهم وقد بيت ي نفسه نية القضاء عليهم، فودع أهله ومضى بهم في طريق القدس وعلى تلك القمم الشاهقة المطلة على «باب الوادي» انحرف بسيارته إلى منحدر سحيق فاستقرت في القاع بحمولتها أشلاء ممزقة وصعدت روحه إلى بارئها بعد أدى واجبه.

وهذا طف ريفي في التاسعة من عمره، تمر به إحدى الدوريات الإنجليزية فيعز عليه أن يتركها تمر في أمان فتناول بندقية أبيه ويترصد إليها في إحدى الحدائق ويصوب إليهم بندقيته ويلحظه أحد الجنود فيصيبه برصاصة ثم يفتشونه فإذا البندقية خالية من الذخيرة وإذا الطفل مصاب في ساقه، فاستولى العجب على قائد القوة وبلغ منه التأثر مبلغه ولم يتمالك أعصابه فمال على الطفل يقبله ثم يحمله في سيارته لأحد المستشفيات.

ولقد حدثني أحد الإخوان ممن اشتركوا في اضطرابات عام 1936 أن الصحف اليهودية أخذت تجأر بالشكوى المرة من عصابات «خطرة» تغير على اليهود في شركة البوتأس على البحر الميت وقال لي أن تلك العصابات «الخطرة» لم تكن في الواقع إلا أعرابيا واحدا يدعى «سليمان بن خميس» من عربان «السعيديين» في وادي «عربة» لم تكن لدية إلا بندقية من نوع فرنسي قديم وما لا يزيد عن عشرين طلقة من الخراطيش الفارغة كان يملؤها بيديه من البارود والرصاص ثم يكمن بجانب منبع للمياه يدعى «العين البيضاء» كان اليهود يأخذون منه ما يحتاجون من مياه الشرب ويظل في مكمنه حتى إذا اقترب منه «الصيد» أطلق ما معه من رصاصات حتى إذا أصاب من أصاب منهم رجع مطمئنا إلى خيمته حيث يعاود تعبئة «الخراطيش» من جديد استعدادا لمعاودة الصيد وهكذا إلى أن ظفر اليهود به فأصابوا منه مقتلا ولكنه أبى أن يستسلم وظل يركض بعيدا عن المكان مخافة أن يظفر اليهود بجثته، حتى سقط قريبا من قومه واستشهد تاركا وراءه زوجتين وأطفالا، وسكتت حينذاك الصحف اليهودية عن الشكوى من تلك العصابات «الخطرة».

أمثلة كثيرة جدا لا يمكن حصرها في هذه الصفحات، ولكنك ترى من هذه الأمثلة مدى تعمق روح الجهاد وتغلغله في نفوس طبقات الشعب، فهذا سائق سيارة في مدينة، وذلك طفل في قرية، وذاك أعرابي في البادية لم تربط بينهم قيادة مشتركة ولا نظام موحد إلا رابطة الدين والوطن تلك هي منابع القوة التي فشل زعماء العرب في تسخيرها والتحكم فيها وتلك هي الروح التي كان يخشاها الاستعمار ويشفق على دولته أن يحاربها أمثال هؤلاء بعد أن يداخلهم شيء من التنظيم والتدريب ولقد أوضحت كيف وقفت بريطانيا أمام تدريب الشعب الفلسطيني واعتبرت ذلك عملا عدائيا موجها لمصالحها في فلسطين، في حين أنها وافقت على دخول الجيوش العربية، حتى قيل أن أحد كبار ضباط المخابرات الإنجليزية وهو ابريجادير جنرال «كلايتون» كان يحضر اجتماعات الجامعة العربية ويشترك في وضع الخطط العسكرية التي طبقت بدون تحريف في غزو فلسطين وليس سرا أن الجنرال «كلوب» قائد الجيش الأردني كان يدير المعارك في الجبهة الأردنية ويشترك في سياسة الحرب العامة فإذا جمعت هذه المعلومات بعضها إلى بعض أصبحنا أمام حقيقة واقعة وهي أن بريطانيا كانت من وراء كل ما يدبر في فلسطين.

والعجيب أن الخطة التي رسمها المستعمر لإبعاد الشعب الفلسطيني عن مسرح القتال، ومعالجة قضيته بنفسه هي الخطة التي سارت عليها الجيوش العربية المنقذة، فلم تكد تدخل فلسطين حتى بادرت بحل المنظمات العسكرية ونزعت السلاح تدريجيا من المجاهدين.

وكانت هذه هي أحد الأخطاء الكبرى التي عجلت بنهاية الحرب وختمتها على صورتها المفجعة ولست أجد في التاريخ جيشا قام ليحارب عدوا في بلد من البلدان إلا وبذل جهده للتقرب من أهل البلاد، وكسب تأييدهم وضمان معونتهم.

ولم يغب عن الأذهان ما كان من أمر السياسة الإنجليزية حين استطاعت التأثير على الشعوب العربية خلال الحرب العالمية الأولى، ودفعتهم لمحاربة الأتراك المسلمين، ولم تجرؤ جيوشها النظامية على النزول في الأراضي العربي إلا بعد أن نجحت في إشعال الثورة، وأرغمت الجيوش العثمانية على الحرب في ميدانين، وتوزيع قوتها بين مكافحة الثوار والوقوف في وجه جيوشهم.

وفي الحرب العالمية الثانية أخذ عملاء الحلفاء في أوربا ينظمون رجال المقاومة السرية في مناطق الاحتلال النازية، ويمدونهم بالمال والعتاد ليتعاونوا مع الحفاء، وكان ذلك تمهيدا لغزو أوروبا حتى أن قيادة الحلفاء لم تأمر بالنزول إلى الساحل الفرنسي إلا بعد أن وثقت من تأييد العناصر الوطنية وأعطتها الإشارة لتبدأ أعمال التخريب في مؤخرة الجيوش النازية.

وإذا كانت هذه الأساليب لم تغب عن الجيوش النازية، فلست أدري كيف غابت عن الجيوش الحليفة التي جاءت بدافع قومي لنشترك مع أهل فلسطين في إنقاذ وطنهم وليس في شك في أن الطريق كنت ممهدة أمام الجيوش العربية للإفادة من قوى الشعب الكامنة وتسخيرها للهدف المشترك ولو أخلص النية وتنصلت مؤقتا من خيوط السياسة البريطانية فالشعب العربي كان في حرب مريرة مع اليهود حتى دخول الجيوش العربية وكان ينتظر دخولها بفارغ الصبر ويعلق عليه أكبر الآمال.

وأذن فلقد كان من واجب الحكومة العربية أن تشرع فورا في تكوين جيش عربي قوي، يقوم بدوره في تحرير بلاده، ولكن ما أن دخلت الجيوش العربية وبدأت عملها حتى تعددت تهم التجسس والخيانة وترتب على ذلك شعور بعدم الثقة أخذ يتزايد يوما بعد يوم حتى انقلب إلى هوة سحيقة، استحال معها التعاون بين أهل البلاد والجيوش المنقذة التي جاءت لنجدتهم والذود عن كيانهم.

وأشهد أن الدعاية اليهودية قد أدت دورها ونجحت أبلغ النجاح حين أخذت أبواقها تذيع في كل مكان أن شعب فلسطين راض عن بقاء اليهود، وليس ثمة خلاف بينه وبينهم وأنه يعارض فكرة الحرب، واستغلت هذه الدعاية بعض حوادث الخيانة الفردية التي لن تخلو منها أمة من الأمم لتبرزها للناس في صورة مكبرة على أنها حركة اجتماعية عامة وساعد في تثبيت هذا المعنى وإلباسه ثوب الحقيقة تلك الحملات الصحفية التي تطوعت بها الصحف المصرية ولم تحاول أن تتحرى المصلحة والحقائق في نشرها بل قدمتها للناس غذاء فكريا مسموما على أنه سبق صحفي منقطع النظير.

ولعل القراء الكرام لا يزالون يذكرون تلك الصور والمقالات التي كانت تنشرها مجلات «دار الهلال» و «أخبار اليوم» عن الجواسيس العرب وكيف أن الحراس المصريين اليقظين «كذا» قد قبضوا على أعراب في داخل الخطوط المصرية فوجدوهم «مختومين» بختم الهاجاناه، وكيف أن الجيش المصري وجد أعرابا مقتولين ضمن قتلى اليهود في إحدى المعارك هذه الأنباء المختلفة وأشباهها كان لها أكبر الأثر في إيهام الجنود المصريين أنهم يحاربون في أرض معادية ويساعدون أقواما خونة باعوا أرضهم ثم امتشقوا الحسام دفاعا عن الصهيونية.

وإلى جانب ما في هذه الأنباء من تجن على الحقائق فإنها كانت سلاحا خطرا أثر تأثيرا بعيدا في قتل الروح المعنوية في الجنود المصريين فالجندي المصري كان يشعر أنه يقاتل دفاعا عن إخوانه المسلمين من العرب فعلى أي أساس يقاتل إذا أدخل في روعة أنه يدافع عن خونة يشتركون مع العدو في مقاتلة؟

ليت شعري هل فهمت هذه الصحف عظم الضرر الذي سببته حين أقدمت على نشر ما نشرته؟ أم أنها تعلم الحقيقة وتنشر لغرض نجهله والواقع أن الجنود المصريين كانوا معذورين حين آمنوا بهذا الوهم واعتبروه حقيقة واقعة ومضوا يعاملون العرب على أنهم جواسيس ويتوجسون منهم خيفة، وهم يقرأون كل يوم في الصحف المحترمة مثل هذه الأنباء المثيرة.

هذا الوهم الخاطئ دفع الجنود إلى اتهام كل بدوي بالتجسس ويكفي لإلصاق التهمة أن يوجد في جسده «وشم قديم» أو «كي» بالنار وقلما تجد في أجسام البدو من يخلو من الوشم وهو وسيلة الزينة، أو الكي وهو الوسيلة الوحيدة للعلاج، فإن وجدت هذه العلامتين فهو جاسوس خطر «مختوم» قبل أن تدخل التهمة دور التحقيق يكون صاحبنا هذا قد نال نصيبه الوافر من الضرب بالأيدي والركل بالأقدام.

ويكفي للتدليل على هذه الأخطاء وأثرها أن نذكر قصة واحدة شاهدناها بأعيننا وسمعناها بآذاننا وهي أيضا على سبيل المثال منطقة «بئر السبع» كان هناك أعرابي يدعى «ابن عقيل» وكان من العرب واسع الحيلة عظيم الشجاعة خبيرا بمسالك الصحراء ودروبها مما حدا بقائد منطقة «عسلوج» في ذلك الحين اليوزباشي «عبد المنعم عبد الرؤوف» أن يستغله في وضع الألغام على طرق اليهود فأدى الرجل دوره ببراعة وإخلاص يستحقان التقدير والإعجاب ثم نقل هذا اليوزباشي بفرقته وحل محلة آخرون واستمر هذا البدوي يؤدي دوره الجليل حتى بدأت المأساة التي كادت أن تودي به.

ذلك أنه عثر على عدد من الألغام الضخمة وضعها اليوم على طريق الجيش المصري، ولما كان الرجل قد اكتسب خبرة في الألغام لاشتغاله بها وقتا طويلا فقد نجح في نزعها من الطريق وحملها في كيس على كتفه مضى فخورا بعمله ليوصلها إلى قيادة الجيش في المنطقة ورآه الجنود من الحراس يحمل ألغام على ظهره فقبضوا عليه وأخذوا يتصايحون: جاسوس جاسوس، وانهالوا عليه ضربا دون سؤال أو جواب والرجل يحاول إقناعهم دون جدوى ثم تحسس بدنه فإذا هو «مختوم» بعدة أ×تام ترمز إلى عدد الأمراض التي أصيب بها في حياته.

والعجيب وهذا موضع العجب كله –أن تؤمن القيادة بأنه جاسوس وتشكل له محاكمة عسكرية لتحاكمه بتهمة الخيانة العظمة، ولم يكن المجلس العسكري في حاجة لمزيد من الأدلة فأصدر حكمه بإعدامه وكان المفروض أن تستمر هذه المهزلة إلى نهايتها لولا أن تدخل قدر الله في أخر لحظة، إذ تقدم أحد أعيان البدو وكان يعلم القصة كلها باسترحام إلى الجهات المسئولة يرجو إعادة النظر في قضية هذا المجاهد البائس.

وأعيدت المحاكمة وتشكل لها مجلس عسكري جديد، وطلب الأعراب في هذه المرة شهادة اليوزباشي «عبد المنعم عبد الرؤوف» الذي جاء ليؤدي شهادة الحق وليبين تعدد الخدمات التي أداها هذا الرجل ومن بينها إنقاذ أحمد سالم باشا ورتل من السيارات العسكرية معه، وكانوا على وشك أن يطأوا لغما هائلا وضعه اليهود في طريقهم وكان صاحبنا يرقب ذلك من مكمن قريب وحاولوا نزعها فلم يستطيع فظل يحرسها وقتا طويلا ليمنع أحدا من الاقتراب إليها.

وأما هذه الحجج الدامغة لم يجد المجلس العسكري بدا من تبرئته، مع منحه مالية وهبها له رئيس المجلس من جيبه الخاص.

ولولا الظروف وحدها لنفذ حكم الإعدام في هذا المسكين ولا زهقت روح بريئة ظلما وعدوانا، وأزهقت معها سمعة وكرامة لشعب مجاهد كريم، ولذهبت هذه القصة أيضا مثلا جديدا يضاف إلى غيره للتدليل على جاسوسية العرب وخيانتهم العظمى!!

وهكذا وقعت الجيوش العربية في الخطأ بسهولة وبدل أن تقوم بخطة مضادة تعيد بها للشعب المنكود ثقته بنفسه وبأصدقائه، وتضمه إلى صفها إذا بها تضخم الخطر وتحذر جنود وحداتها من التعامل مع العرب والاطمئنان إليهم.

ومن هنا خرجت تلك النغمة المرذولة على التجسس والخيانة، بدأت خافته محدودة ثم انقلبت إلى ضجيج هائل، طغى على صوت الحرب نفسها، وضاعت في غمارها معالم جهاد رائع وتضحيات فذة، قام بها الشعب الفلسطيني طيلة ثلاثين عاما، واختفت من الوجود تلك الصفحة المشرقة من جهاد عرب فلسطين، والصفحة التي مر بك طرف منها، وخطتها دماء الشهداء الأبطال من أمثال «عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وحسن سلامة» وزملائهم من زهرات الشباب الكريم، لتحل محلها صفحة سوداء قاتمة، ويتخللها الخزي والعار ويمليها الجهل وسوء التصرف، وتكون النتيجة الحتمية لهذا أن يحكم على الشعب الفلسطيني بالابتعاد عن مسرح القتال، والجلوس في مقاعد المتفرجين، حتى تنتهي مسرحية الحرب لتفيق الأمة المجاهدة فتجد نفسها مجموعات من اللاجئين المتشردين.

ولقد أصبحت جاسوسية العرب وخيانتهم سببا كافيا يقدمه الضباط الصغار، لتعليل الهزائم التي يمنون بها، أو لتعليل العمليات الجريئة التي يقوم بها اليهود لا تمر معركة من المعارك حتى تستمع لهذه الجملة من الجنود العائدين يقولونها بلهجة الواثقين «يا عم إذا كان العرب بيحاربونا مع اليهود» ثم يمضون في حبك القصص الخيالية، مؤكدين أن العرب كانوا يهاجمون مؤخرتهم ويطلقون عليهم الرصاص من حدائق البرتقال وأعجب ما في الأمر أن هذه الأنباء المختلفة كانت تلاقي آذانا صاغية في القيادات العليا تقبلها عقول المسئولين على أنها حقيقة واقعة لا تقبل الشك والتأويل.

ولقد استغلت هذه الحركة استغلالا سيئا في كثير من النواحي وأصبحت تهمة الجاسوسية سيفا مصلتا على أعناق الناس تكفي لاستعماله شهادة جندي مغرض، أو مدني موتور، لينزل على الرقاب في غير تردد ولا شفقة ولا عجب في بذلك فقد كانت الخواطر مبلبلة والأذهان مهيأة، لقبول التهمة وتصديقها ولو وقعت على أرسخ الناس قدما في الجهاد وأشدهم تفانيا فيه.

ولقد كاد الإخوان يقعون في هذه الأخطاء تحت تأثير الدعايات اليهودية، والأساليب التي خلقها اليهود لبذر بذور العداء بين أهل البلاد وإخوانهم من المجاهدين.

وواضح أن عرب فلسطين قد ابتهجوا بدخول الإخوان وارتاحوا إليهم، وسارعوا للانضمام في صفوفهم حتى أصبح عدد أهل البلاد المتطوعين مع الإخوان أكثر بكثير من عدد الإخوان نفسهم، ولم يسر اليهود بهذه الحركة، فعملوا منذ اليوم الأول على بذر بذور الفتنة بين الإخوان وأهل البلاد، وسلكوا كل سبيل لتقوي أركان هذه الوحدة فكانوا يأمرون جنودهم بارتداء الزي العربي في بعض المعارك لإيهام الإخوان أن عرب فلسطين يقاتلون مع اليهود.

ولقد حدثني أحد الإخوان الذين اشتركوا في معارك اللد أن هذه الطريقة بالذات اتبعت ضد الجيش الأردني إذ هجمت القوات اليهودية على المدينة والجنود يضعون على رؤوسهم العقال العربي تعلوه شارة الجيش الأردني، فخرج الناس يقولون أن الجيش الأردني يقاتل جنبا إلى جنب مع اليهود.!!

ولم يكف اليهود عن محاولاتهم فالتمسوا طرقا كثيرة، وكلما فشلت طريقة لجأوا إلى شيطانهم يلتمسون عنده غيرها حتى أعيتهم الحيل وفشلوا فشلا ذريعا في فصم عرى محبة جمعها الإسلام وباركتها يد الله.

أذكر ذلك اليوم الذي جاءني فيه أحد الأعراب من أصدقاء الإخوان ليقول لي أن شيخ العرب «فلان» جاءه وحمله رسالة إلينا مؤداها أن «م» وهو شخصية عربية كبيرة تحتل مركزا مدينا هاما في المنطقة –جاسوس لليهود، وأنه –أي «م» متصل بقيادة القوات الإسرائيلية في الجنوب وأنه يبلغهم الأخبار أولا بأول نظير وعود قطعها اليهود له بتعيينه حاكما عسكريا للمنطقة في حالة استيلائهم عليها.

وقال الأعرابي الصديق نقلا عن «فلان» أن هناك اتصالا سوف يتم بعد يومين في مكان محدد بين قائد أحد المستعمرات وبين الشخصية الكبيرة.

ولقد كان الخبر مثيرا للغاية، لأنه يتعلق بشخصية لها خطرها في المنطقة، ولقد ذهبنا في الموعد المحدد لاستجلاء الأمر وإلقاء القبض على الشخصية الكبيرة أثناء تفاوضها مع اليهود، غير أننا لم نجد شيئا، ولم تمض إلا أيام قلائل بعد هذه المحادثة حتى انكشف السر وظهر الخبيء إذا اختفى «فلان» مصدر الرواية وصاحبها وعلمت أنه في إحدى المستعمرات وأن الرواية كلها مختلقة لا أساس لها.

وليست إلا مناورة مدبرة أريد بها إشعال الفتنة بيننا وبين أهالي البلاد هذه الوسائل وأشباهها مما لا يتسع المجال لسرده هي التي نجحت بعد ذلك في توسيع شقة الجفاء بني أهل البلاد والجيوش النظامية ووصلت بالعلاقات بين الحلفاء الأصدقاء إلى تلك الحالة المؤسفة من الشدة وعدم الثقة، والتي ترتب عنها ما ذكرته من استحالة التعاون بين الشعب الفلسطيني وحلفائه من جيوش العرب ولقد صارحني أحد قواد المستعمرات اليهودية في النقب وكنا نتفاوض معهم خلال الهدنة الأولى بشأن نقل بعض الجثث، فقال لي في مجال الحديث حول الحرب «لقد نجحنا في إخراج الشعب الفلسطيني من المعركة وهو الذي مارس قتالنا خلال أعوام طوال، أما أنتم أيها الغرباء فلن نأبه لكم ولن يصعب علينا إلقاؤكم في البحر متى جاء الوقت المناسب» وقد كان.!!


الإخوان في النقب

«معركة كفار ديروم الأولى »

«كان الإخوان ينزعون ألغام اليهود وينسفونهم بها في صحراء النقب»...المواوي في شهادته

كثيرا ما يضع الإنسان لنفسه خطة يرتضيها ويسير عليها ويعتقد صوابها، ثم تأتي الحوادث بعد ذلك فتصرفه عن خطته فلا يملك إلا أن يسير في اتجاه آخر، وكثيرا ما يكون الاتجاه الذي يسلكه على الرغم منه صحيحا حتى إذا اطمأن إلى صحته ووثق في صوابه، نظر إلى خطته التي اختطها لنفسه وهنالك تبدو له عيوبها ويقف على كثير من مساوئها.

لم يكن الإخوان يعلمون عن المستعمرات اليهودية وتحصيناتها أكثر مما عرفته إدارة المخابرات في الجيوش العربية النظامية فلقد هونت هذه المخابرات من شأن التحصينات اليهودية وقللت من أهميتها حتى لقد قدرت إحداها مدة أقصاها 72ساعة ليفرغ أهميتها حتى لقد قدرت إحداها مدة أقصاها 72 ساعة لتفرغ.

وحتى سمعنا أحد المسئولين العسكريين في جيش عربي كبير يقول للوحدات العسكرية الزاحفة أنها ذاهبة في «نزهة عسكرية» إلى «تل أبيب» لا أكثر وحتى يقطع على الضباط دهشتهم قال له: إن الناس في قريته حين يقيمون الأفراح والليالي الملاح، يطلقون الرصاص في الهواء دليلا لفرحهم وعلامة لابتهاجهم، وأن الأسلحة التي معكم تكفي جدا لهذه المهمة الهينة اللينة.

قال هذا المسئول الكبير هذا الكلام أو معناه لوحدات جيشه الزاحف بينما كان كبير مسئول في دولة عربية أخرى يقول لمراسلي الصحافة وهو يهم بإصدرا الأوامر لجيشه ببدء الزحف: أن دخول الجيوش العربية كلها لم يكن في الواقع إلا لتقصير أمد الحرب وإنهائها بسرعة، ولما سأله الصحفيون عن مدى قدرة اليهود العسكرية قال لهم: «إن فرقة واحدة من جيشه كفيلة بالقضاء على العصابات اليهودية وإلقائها في قاع البحر في مدة لا تتجاوز أسبوعا واحدا

لا شك أن هذه العبارات التي وفاه بها العسكريون المسئولون عند بداية الحرب، والحوادث التي جاءت بعد ذلك تدل على درجة مهارة المخابرات الحربية في الجيوش العربية وعلى صحة المعلومات التي لديها عن نشاط الصهيونيين ومدى استعدادهم.

ولو وقف الأمر عند حد هذه التصريحات الكلامية لقلنا أنها من باب التشجيع ورفع الروح المعنوية لدى المحاربين، ولكن الخطط العسكرية والطرق التي نفذت بها والتدابير والأسلحة التي جابهنا بها العدو، كلها تدل دلالة واضحة على استهتار بالغ بالعدو وجهل مطبق بخططه وقوته، وتدل أيضا على أن جيوشنا دخلت الحرب على أنها «نزهة عسكرية» فعلا وأن الأسلحة والذخائر لم تكن في الواقع إلا بالقدر الذي يكفي لإقامة الأفراح والليالي الملاح!!

كان الإخوان في الفترة الأول من الحرب يجهلون المستعمرات اليهودية وطرق تحصينها فظنوا أن مقدورهم مهاجمتها واحتلالها رغم ما كانوا يعانونه من نقص في الأسلحة والمعدات ولقد تمت المحاولة الأولى في الساعة الثانية من صباح 14 إبريل سنة 1948 وكان الغرض منها احتلال مستعمرة «كفار ديروم» المحصنة، وهذه المستعمرة وإن كانت صغيرة الحجم إلا أنها كانت مقامة في وضع بالغ الأهمية لقربها من الحدود المصرية ولوقوعها على طريق المواصلات الرئيسي الذي يربط مصر بفلسطين, وكان في استطاعة حراسها أن يراقبوا الداخل والخارج وأن يقطعوا هذا الطريق في أي وقت يشاءون، وهم يختفون خلف أبراجهم المسلحة دون أن يتعرضوا لشيء من الأذى لذلك لكه اهتمت القيادة اليهودية بهذه وأحاطتها بحقول كثيفة من الألغام والموانع السلكية الشائكة ثم زودتها بعدد كبير من نخبة رجال «الهاجانا» وفرقة «البالماخ» الفدائية.

هذا وصف موجز لهذا «الجيب» اليهودي الخطر الذي حاول الإخوان تطهير واحتلاله ثم تلقوا على يديه درسا قاسيا، وكانت هذه المعركة هي نقطة التحول التي غيرت خطتهم وصرفتهم عن معاودة الهجوم على المستعمرات دون أن يملكوا المعدات اللازمة لهذا النوع من القتال.

هاجم الإخوان المستعمرة في وقت مبكر من صبيحة اليوم ونجحوا في المرور خلال الألغام عبر ممرات أعدوها طوال الأسبوع الذي سبق المعركة، واجتازوا عوائق الأسلاك الشائكة كل هذا تم بسرعة دون أن ينتبه حراس المستعمرات لما يجري حولهم، ولم يفيقوا إلا على صوت انفجار هائل أطاح بأحد مراكز الحراسة ثم بدأت المعركة داخل الخنادق وعي أبواب الأبراج و «الدشم»

وأبدى الإخوان في هذه المرحلة من ضروب البطولة والفدائية ما لا يمكن حصره وتصويره، واستطاع اليهود أن يسدوا الثغرات التي أحدثها المجاهدون في دفاعات المستعمرة، ثم حاصروا القوة الصغيرة التي نجحت في التسلل إلى أوكارهم ومضوا يحصدونها ببنادقهم ورشاشاتهم.

وهكذا فشلت المحاولة الأولى ومضى الإخوان يحملون شهداءهم وجرحاهم وكان يربون على العشرين وانتهت المعركة على هذه الصورة المؤسفة ولكنها ظلت مثلا فريدا للبطولة والتضحية.

ومما زاد في روعتها أنها كانت المعركة الليلية الوحيدة التي شهدتها معارك الجنوب وتمت بخفة وهدوء يدلان على متسوى عالي في التدريب المقدرة.

وظل الإخوان طوال فترة الحرب يتذاكرون المثل العليا التي سجلها المجاهدون فيها والتي أعادت للأذهان صورا حية من جهاد الصدر الأول، فهذا أحدهم وهو المجاهد «محمد سلطان» من مجاهدي الشرقية، يزحف على بطنه حاملا لغما هائلا وهدفه أحد مراكز الحراسة في المستعمرة ينتبه إليه الحراس وهو على قيد خطوات من هدفه، فيطلقون عليه رصاصات تصيبه في بذراعه، وتجزه عن المضي في زحفه، ولكنه يتحامل على نفسه ويزحف بصعوبة والدماء تنزف من جراه والرصاص يتناثر من حوله، ويظل يجاهد بعناد حتى يقترب من هدفه فيشعل اللغم فينفجر ويدمر مركز الحراسة ويقضي على البطل الفذ ويمضي ليلاقي ربه شهيدا.

وهذا المجاهد «عبد الرحمن عبد الخالق» يقود إحدى جماعات الاقتحام في المعركة ويستمر في قتاله الرائع رغم أوامر الانسحاب التي صدرت إليه، فيقول كيف ننسحب وإخواننا في داخل المستعمرة؟ ثم يذكر من معه قول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين فروا زحفا فلا تولوهم الأدبار» ويظل يقاتل بشدة حتى تصيبه رصاصة قاتلة في رأسه لتضع اسمه في عداد الشهداء الخالدين.

وهذا مجاهد آخر هو «عمر عبد الرؤوف» تصيبه رصاصة في صدره فتبدو على وجهه ابتسامة مشرقة، ويهتف بمن حوله «أترون ما أرى؟ ثم يأخذ نفسا طويلا ويقول هذه هي الجنة. إنني أرها. وأشم رائحتها»، ثم يلفظ أنفاسه الطاهرة، ليمضي إلى حنة ربه الموعودة.

لكل شهيد من شهداء هذه المعركة قصة في البطولة لا يزال إخوانهم الأحياء يرددونها بمزيد من الإعجاب والتقدير.

انتهت هذه المعركة وخرج الإخوان منها بنتيجة واحدة، فهموها وظلوا يعملون على أساسها طوال الفترة التي قضوها في فلسطين، فهموا أن مهاجمة المستعمرات اليهودية بهذا النقص الواضح في الأسلحة والمعدات هو انتحار محقق، وفهموا كذلك أنهم لن ينجحوا إلا في حرب عصابات ينزلون فيها الضربات على خصومهم خارج هذه المستعمرات دون التعرض لحصونهم واستحكاماتهم.

ولقد قلت للإخوان عقب هذه المعركة مباشرة: «إن اليهود أقوياء في هذه الحصون والأبراج فلن نهاجمهم فيها بعد اليوم، ولكننا سنغير على قوافلهم ونضطرهم لقتالنا في الأرض المكشوفة» وعلى هذه الطريقة بدأ الإخوان ينظمون أنفسهم في عصابات صغيرة ترابط على طرق المواصلات وتهاجم شبكات المياه ومراكز التموين، حتى اضطر اليهود إلى إخراج كثير من قواتهم لحراسة المواصلات والقوافل فاستطاع الإخوان بذلك أن يوقعوا بهم ضربات حاسمة سريعة وأن يغنموا منهم كميات وفيرة من العتاد والسلاح.


المعارك الأخيرة في «النقب»

إذا لقيت عدوك فاثبت له حتى يتقهقر فإذا تقهقر فاتبعه حتى يقع، فإذا وقع فاضرب عنقه....عمرو بن العاص

ظل الإخوان في معسكراتهم يمارسون التدريب ويستعدون للمعارك المقبلة، وتطلبهم قيادة الجيش بين حين وآخر ليقوموا بأعمال الدوريات على طول الجبهة وليتسقطوا أنباء العدو ويرصدوا تجمعاته وتحركاته، ويقوموا بوضع «الكمائن» في الوديان والجبال للإيقاع بدباباته ومركباته وكثيرا ما كانت تخرج مجموعات منهم لتتعاون مع كتائب الجيش، كما وقعت اشتباكات محلية في قطاعات الميدان المختلفة ولم تدم هذه الحالة «المريحة» طويلا إ قام اليهود بحركة التفاف واسعة قصدوا منها –كما جاء في المنشورات التي ألقتها قيادة القوات الإسرائيلية قبيل هذا الهجوم إلقاء الجيش المصري خلف الحدود فقاموا بهجومهم الكبير والأخير في 25 ديسمبر سنة 1948 ونجحوا في انتزاع منطقة كبيرة من الجيش غير أنهم فشلوا في تحقيق هدفهم المنشود من استخلاص بقية أجزاء فلسطين ولقد قدر للإخوان أن يساهموا في هذه المعارك الكبرى مساهمة فعالة ولا يزال الضباط والجنود يتغنون بها حتى الآن ويعتبرونها المثل الأعلى للجندية المؤمنة.

وقبل أن أخوض في تفاصيل هذه الهجمات التي أسرعت بنهاية الحرب وعجلت بخاتمتها المفجعة, أود أن أبين الحالة التي كانت عليها القوات المتحاربة قبيل ذلك التاريخ ليكون القارئ على بينة من حقيقة الموقف.

وضحت في الصفحات السابقة كيف اضطر الجيش المصري أمام هجمات العدو المفاجئة خلال شهر أكتوبر إلى إخلاء المناطق الواسعة في «أسدود» و «المجدل» وما ترتب على ذلك من «إعفال» مجموعة لواء كاملة في قرية الفالوجا مما نتج عنه ضياع مدينة «بئر السبع» وسقوط الجزء الشمالي من «النقب» في يد اليهود وظل اليهود في «بئر السبع» وما حولها بينما ظلت القوات المصرية تحتل بعض المواقع على الطريق الذي يربط بئر السبع بقرية العوجا، على حدود مصر الشرقية، وبلك أصبحت قوات الجيش المصري موزعة على النحو التالي:

1- القوات الرئيسية المتجمعة في منطقة غزة –رفح، وفيه القيادة العامة.

2- قوات مختلطة تقدر في مجموعا بلواء تحتل بعض المواقع على طريق بئر «السبع» - «العوجا» وآخر مراكزها «عسلوج» على مسيرة عشرين ميلا من بئر السبع.

3- قوات المتطوعين المصريين والإخوان المسلمين وهي القوات التي عزلت بعد كارثة «الفالوجا» وظلت تدافع عن «الخليل» و «بيت لحم» و «صور باهر» وتقوم بتموين قوات الفالوجا المحصورة.

ولقد رأينا كيف نجح اليهود في اختراق خطوط الجيش المصري أمام دير البلح وكيف انتهت تلك المحاولة بهزيمة المنكرة، وخسارتهم الفادحة، غير أنهم لم يستكينوا عقب هذا الدرس المر، فتحسسوا نقاط الضعف في القوات المصرية وقاموا بمحاولة أخرى على نطاق واسع واكتسحوا في طريقهم القوات نمرة «2» التي ترابط على طريق «العوجا- بئر السبع» ولم تستطيع القوات المذكورة الصمود أمامهم أو حتى مجرد تعطيلهم ذلك أنها لم تكن موضوعة كمايبدو للمقاومة نفسها لم تكن تعرف الهدف من بقائها ولا الغرض الذي تكلف بحمايته فوق أن عددها المحدود لم يكن هناك أدنى اتصال بين هذه المواقع المبعثرة في الصحراء فبين كل موقع وآخ عشرات الأميال وكل موقع مسئول عن حماية نفسه وأخيرا ليست هناك قوات مستعدة لنجدتها في لحظات المعركة الأولى!

وأن القلم ليرتجف ويأبى أن يطاوع في تسجيل المهازل والأخطاء التي ارتكبها المسئولون وما أكثرها – في تلك الفترة بالذات ولست أدري حتى متى تظل هذه المآسي مختفية عن الرأي العام ومتى يفتح عينيه ليرى هذه لحقائق المخزية، ويعلم أنه كان مخدوعا حين آمن بالبطولات الزائفة وأنه كان مخدوعا حين أخفوا عنه الهزيمة المنكرة وراء مظاهر النصر المصطنع، وأرغموه على ابتلاع العلقم المر، بعد غمسه في الشهد والعسل..

لم تستطع هذه القوات وتلك حالتها أن تثبت فلم تلبث هذه المواقع أن انهارت وأخذ العدو يدور حول كل موقع ويمنع اتصاله بالمواقع الأخرى، ثم يعمل النيران في قواته المحصورة، وانطلق الطابور المدرع في هجوم خاطف إلى «العوجا» آخر موقع للجيش في صحراء النقب فقاومت حاميتها بعض الشيء، وانتظرت النجدات طويلا دون طائل حتى استسلمت وتسلل أفرادها لو إذا إلى الحدود المصرية بعد تدمير أسلحتهم ومعداتهم.

في مساء 26 ديسمبر بالذات استدعتني القيادة العامة في رفح حين يبين كل من القائمقام «سيف الدين» و القائمقام «الرحماني» من أركان حرب القائد العام- خطورة الحالة، ثم طلبوا مني إشراك «الإخوان» في المعارك التي تدور في منطقة «العسلوج».

وأذكر أن القائمقام «سيف الدين » اخبرني أن القائد العام يرى بقاء قوة من الإخوان لترابط في «العسلوج» وتكون مهمتها أربك العدو في منطقة «بئر السبع» بحركات عصابية كتلك التي كانوا يقومون بها في مناطق «الشلالة» و «تل جمة» ولا يستطيع غيرهم القيام بها فقلت له أنني لا أمانع مطلقا في استخدام الإخوان واستغلال نشاطهم على أوسع نطاق، غير أنني أرى أن عددهم المحدود لا يمكن أن يقوم بكل هذه الأعباء الكبار، وأن الحكومة لو خففت الضغط قليلا لأمكن إحضار عدد آخر من مصر.

وكنت أعلم أنني أطلب مستحيلا فإن تسليم فلسطين ومصر أيضا لليهود، كان أهون على السعديين والإنجليز من إعطاء شيء من الحرية للإخوان المسلمين ثم شكوت من قلة الذخائر التي لدينا، فأصدر القائد العام أمره بصرف أي كميات نطلبها من الذخائر أو الأسلحة لتخرج هذه القوة مكتملة العدة.

ولم نضيع الوقت فمضيت إلى المعسكر وهناك استقر الرأي على أعداد «سرية» لتخرج من ليلتها بقيادة الأخ المجاهد «حسن دوح» ويشترك معه من ضباط المعسكر الإخوان المجاهدان «عبد الهادي ناصف» و «فوزي فارس». وكان ضباط الرياسة يتصلون بي بين لحظة وأخرى يستعجلون خروج هذه القوة، ويبينون شدة الحاجة إليها لخطورة الموقف وارتباك الحالة وعند غروب الشمس تحركت السيارات والمصفحات بمن فيها وكان موقفا رائعا لا أنساه إذ أخذ المتخلفون في المعسكر يودعون إخوانهم بالنشيد الثائر، والهتافات المدوية.

ولقد علمت من بعض ضباط الرئاسة أن «اللواء فؤاد صادق» أرسل إشارة لرئاسة أركان الحرب يخبرها أن الموقف في العسلوج جد خطير، ولكنه أرسل الإخوان المسلمين إلى هناك وهو يستبشر بذهابهم خيرا.

وحين حاذينا مقر القيادة العامة في «رفح» وجدت أحد ضباط الرئاسة ينتظرنا على الطريق العام ومعه سيارتان كبيرتان محملتان بصناديق الذخيرة والقنابل، وسيارة ثالثة تحمل خزانا ضخما للماء ثم أخبرني أن القائد العام ينتظرني في مكتبه ويريد أن يتحدث إلى قبل سفر القوة, فتركت الإخوان على الطريق العام وذهبت إليه بمفردي، فوجدت لديه جمعا كبيرا من الضباط من ذوي الأشرطة الحمراء وكانوا قادمين من مصر على ما يبدو لمعاينة الحالة ومعاونة القائد العام في مهمته، واستأذنت ودخلت، فلما حييت أخذ القائد العام يبين الحالة بالتفصيل وفهمت أن هناك تطورات خطيرة قد جدت على الموقف.

كانت «العسلوج» قد انتهت وكانت مواقع «الشريف» قد سقطت هي وغيرها من المواقع وفهمت أن العدو يدير معاركه في مناطق أخرى من «النقب» وأن طلائع قواته المصفحة قد اشتبكت فعلا مع حامية «العوجة»!

وكانت أنباء شديدة الوقع على نفسي، ومعنى كل ذلك إبادة تلك القوات الكبيرة واقتحام حدود سيناء الشرقية وتذكرت حينها قول القائمقام «سيف الدين» منذ ساعات ومطلبه الخاص بإرباك العدو في «بئر السبع» تمهيدا لمهاجمتها واحتلالها، فآمنت أن القطار قد فات، وأن العدو لو نجح في احتلال «العوجة» فسيدين معاركه الهجومية في قلب الأراضي المصرية.

وعلمت مهمتي على وجه التحديد وكانت تقضي بأن أرافق قوة الإخوان حتى تستقر في تلك المنطقة، وأخبرني كبار ضباط الرئاسة أن الأوامر قد صدرت لقيادة تلك الجبهة بإعطاء الإخوان حرية العمل ومنحهم أي تسهيلات يطلبونها.

بعد حديثي مع القائد العام حييت الجميع وعدت إلى الإخوان ثم بدأنا السير وكانت وجهتنا مدينة «العريش» ورغم أن هناك طريقا قصيرا يصل «رفح» مباشرة «بالعوجة»، ألا أن المسئولين من الإخوان رأوا أن التقدم عليه محفوف بالمخاطر، ولم يستبعدوا وجو «كمائن» للعدو أو ألغام لتمنع تقدم أي نجدات تحاول أن تصل للقوات المنكوبة، فآثرنا أن نسلك الطريق الذي يمر بالعريش.

وصلنا «العريش» وتجاوزناها إلى «أبو عجيلة» فوصلناها في منتصف الليل وسمعنا دوي الإنفجارات العنيفة ورأينا أضواء القنابل المتفجرة تنعكس على صفحة الأفق فعلما أن المعركة لا تزال دائرة الروحى في «العوجة» وعلمت من موظفي النقطة ومن رجال البوليس أن حاميات «عسلوج» و «جبل الشريف» و «كوبري الإخوان» وغيرها من المواقع قد أبيدت بين أسر وقتل ومن نجا فقد أضطر للفرار والهيام على وجهه في صحراء النقب الواسعة.

ورأى الإخوان المسئولون أن التقدم للمعركة في هذا الوقت ليس من الصواب في شيء فالإخوان لم يناموا طوال الليل وإدخالهم في المعركة على هذه الصورة لن يأتي بأي نفع بل قد يضر أبلغ الضرر واتفق المسئولون على الانتظار في «أبو عجيلة» حتى الفجر وحتى ينال الإخوان شيئا من الغذاء والراحة وتستبين تطورات الموقف، وترجل الإخوان من سياراتهم وتناولوا شيئا من طعام خفيف ثم استلقوا على الأرض الصخرية الرطبة, حتى لمعت أشعة الفجر الأولى فأذن مؤذنهم للصلاة وقمنا نتوضأ على عجل، ثم صلينا الفجر جماعة وقرأ الإمام صدرا من سورة «الأنفال» ورأينا المعاني العميقة التي استشعرها المجاهدون الأول ممن نزلت في حقهم هذه الآيات خاصة ونحن في موقف يشبه موقفهم إلى حد بعيد.

ولما انتهت الصلاة تسابق الإخوان إلى أسلحتهم يعدونها ويختبرونها ثم أمتطو السيارات وأذكر أن الشهيد الكريم «علي الفيومي» كان يطوف على إخوانه في ابتهاج واضح مذكرا إياهم بقول الرسول صلوات الله عليه وسلامه لمقاتلي «بدر» «والله لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» وتحركت السيارات في طريقها إلى الميدان وكنت أرى خلال تقدمنا أن الطريق كانت واقفة لا تتحرك فسألت الجنود عن الخبر، فقيل لي أن العدو يضرب بمدفعيته نقطة على الطريق ليمنع اتصال النجدات بالقوات المحصورة في «العوجة» فلم نجد بدا من التقدم وكان الجنود المصريون يوسعون الطريق لسيارات الإخوان التي انطلقت غير عابئة بصيحات التحذير.

وعند أرض مرتفعة تعترض الطريق الرئيسي، رأينا قنابل العدو تتساقط فوقها ولم يكن في وسعنا أن نتقدم قبل أن نقضي على هذه العقبة فقررنا الاشتباك معها، ولاحظنا أن موقع العدو مستتر بعناية خلف أحد التلال المواجهة فترجل الإخوان في إحدى المنحنيات وأقاموا مدافعهم وأخذوا يضربون موقع العدو بشدة حتى سكتت مقاومته وانفتح الطريق وانسابت جموع السيارات المختلفة إلى أهدافها.

وركب الإخوان السيارات وواصلوا السير حتى وصلوا إلى موقع شاهق يشرف على ميدان المعركة وهناك التقيت بنفر من ضباط الجيش فسألتهم عن قيادة المعركة وأين أستطيع أن ألتقي بقائد المنطقة العام لا تلقي تعليماته وإرشاداته، فأخبروني أنهم منذ الليل يحاولون العثور على أحد القادة المحليين دون جدوى وأنهم قد جاءوا من «رفح» «والعريش» و «غزة» كنجدة سريعة لحماية «العوجة» فعجبت كثيرا لهذه الظاهرة، وطلبت للأخ «حسن دوح» تنظيم قوته في وضع دفاعي ففعل واختفت سياراتنا خلف أحد التلال وظللنا ننتظر فترة طويلة عسى أن يأتي أحد قادة المنطقة ليحرك هذه القوات الكبيرة، وطال انتظارنا دون جدوى.

وكان الموقف يدعو للأسف والسخرية: معركة محتدمة في قلب «العوجة» وجنودنا فيها يقاومون مقاومة الأبطال، وقد بحت أصواتهم في طلب النجدة، والنجدة على مقربة منهم لا تستطيع الوصول إليهم وليس هنا أحد ينظم المعركة ويديرها هذه هي الفوضى بعينها.

وكان العدو قد فهم ما نحن فيه من ارتباك فأرسل «فصيلة» من قواته تسللت عبر الوديان والجبال المحيطة بنا ثم ظهرت فجأة على مقربة منا وأخذت تمطر المنطقة بوابل من النيران وأحدثت «المفاجأة» مفعولها، أما سيارات الجيش الكثيرة فقد كان طبيعيا أن تتحرك راجعة للخلف للخلف لتنجو بنفسها وبما فيها من أسلحة وذخائر وأما الجنود فقد ارتبكت جموعهم، ومما زاد في ارتباكهم عدم وجود قيادة يرتبطون بها ويتلقون تعليماتها وأوامرها فتعلقوا في ذيول السيارات المتحركة ولم تلبث الطائرات اليهودية المطاردة أن ظهرت في الجو وأخذت تنقض على هذه الجموع المختلة وتكتسحها بالنيران الحامية.

وكان من الأخطاء الواضحة في هذه المرحلة وما أكثر أخطائها نقص الحماية الجوية لهذه القوات مما جعلها عرض لخطر الطائرات وأعطى لليهود فرصة السيطرة على الجو سيطرة كاملة ليس فيها منازع، وشعرنا نحن المحاربين بخطره، حين كانت طائراته تظهر لتفرغ حمولتها من النيران فوق رؤوسنا، ثم تعود أدراجها لتشحن جوفها بحمل جديد من المطارات القريبة وأراضي الهبوط الواقعة في منطقة «بئر السبع».

بقي الإخوان وحدهم فوق مرتفع «العوجة» وخشيت أن تكون هناك قوات أخرى للعدو في طريقها إلينا لتفاجئنا من جديد، فتداولنا الرأي وكان علينا أن نقرر أما أن ننسحب خلف القوات المنسحبة، أو نصمد فوق هذا المرتفع حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وكان الموقف بالغ الخطورة فبقاء الإخوان فوق حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا وكان الموقف بالغ الخطورة، فبقاء الإخوان فوق هذا المرتفع يعرضهم للإبادة التامة أمام عدو يفوقهم كثيرا في عدده وعدته، وانسحابهم أيضا سوف يغري العدو بملاحقتهم فيندفع وراء القوات المرتبكة ويقلب انسحابها إلى هزيمة منكرة، وليس أخطر من مهاجمتها الآن وهي على ما عليه من تفكيك وارتباك وأخيرا قررنا على اختيار أهون الضررين. يجب أن نصمد ونقاوم فأما أن تتراجع قوات العدو ونحتفظ بهذا الموقع ليكون نقطة ارتكاز لو فكرنا في استرداد العوجة، أما أن ننجح في إشغال العدو وتعطيله بعض الوقت حتى تستطيع قوات الجيش الوصول إلى نقطة أمينة، وتصبح قادرة على الدفاع عن نفسها.

واستمرت المعركة بين الإخوان والعدو فترة طويلة يئس بعده العدو وانسحب راجعا جنوبي «العوجة» وبقينا وحدنا حتى وقت الزوال وكانت المعركة في قلب «العوجة» قد أشرفت على نهايتها ولم نعد نسمع فيها إلا طلقات متفرقة, وكان أفراد حاميتها لا يزالون ينسحبون منها بعد أن يئسوا من وصول النجدات.... وبدأنا نفكر في موقفنا بشيء من القلق فإن بقاءنا فوق هذا المرتفع على مقربة من العدو يعتبر مغامرة خطرة خاصة إذا أقبل الليل –وبيننا وبين قوات الجيش عشرات الأميال ولا استبعد أن تسلل قوات العدو لتهاجمنا من الخلف أو تقطع علينا خط الرجعة فرأيت أن أذهب بمفردي إلى قوات الجيش وأحاول إقناع الضباط بالعودة لاحتلال هذا الموقع فليس هناك معنى للتخلي عن مسافة شاسعة من الأرض المصرية دون سبب، وإخلاؤها على هذه الصورة المزرية سوف يغري العدو بمواصلة التقدم ركبت إحدى السيارات الخفيفة ورجعت مسافة عشرين ميلا إلى الوراء فوجدت قوات الجيش موزعة خلف التلال في انتظار تعليمات جديدة من القيادة العامة.

كانت الخطة السليمة أن يبادر الجيش فيهاجم العدو في قلب «العوجة» ويرغمه على الانسحاب منها، قبل أن تستقر أقدامه فيها ولكن أين القيادة التي تنظم الخطة وتوجه هذه القوات الكبيرة وجهة صحيحة، ولقد بلغ من تلهفي على إتمام هذا الإجراء أن اتصلت بضباط هذه القوة وأخذت أشرح لهم وجهة نظري وأطلب إليهم اختيار أحدهم قائدا علينا جميعا حتى يمكننا وضع خطة موحدة نتحمل مسئوليتها ونقوم بتنفيذها ولكني لاحظت أن حضرات الضباط الذين حادثتهم على الرغم من إيمانهم الشديد وتحرقهم للقيام بعمل جدي كانوا يشفقون على أنفسهم من تحمل المسئولية لو فشلت المحاولة وتلك ظاهرة خطيرة لمستها في الجيش في كثير من المواقف التي تعاونت معهم فيها، فقد لاحظت أن المسئوليات الكبيرة تكاد تكون مركزة في أيدي أفراد قلائل من ذوي الرتب العالية أما الضباط من صغار الرتب فمهمتهم تنفيذ تعليمات هؤلاء دون أن يكون لهم حق التصرف حتى في أتفه المسائل ولو حدث وتصرف أحدهم حسبما يرى كان نصيبه التأنيب أن أصاب والعقاب الشديد إن أخطأ! هذه الأسباب وغيرها تجعل الضباط من صغار الرتب يحجمون عن تحمل المسئولية حين يجب التفكير والتصرف السريع، وليس أجد وسيلة لعلاج هذه الحالة سوى تعويد الضباط الصغار على حمل المسئوليات الكبار وقد يخطئ الضباط مرة وأخرى والواجب يقضي بالتغاضي عن أخطائه وتشجيعه –ما توفرت حسن النية في هذا الخطأ- وبذلك تتكون شخصيته ويصبح قادرا على التصرف راغبا في تحمل المسئوليات والتبعات.

وظللنا نتناقش وقتا طويلا، وبينما نحن على تلك الحالة إذ أقبلت سيارة «جيب» وترجل منها الأميرالاي «فؤاد ثابت» قائد القطاع والمسئول عن هذه المعركة والرجل الذي ظللنا ننتظره ليؤدي واجبه وقتا طويلا. وبوصوله وصلت أشارة من القيادة العام تحتم القيام فورا بهجوم مضاد لاسترداد «العوجة» وطرد العدو منها بأي ثمن وكان هذا ما يجب علمه منذ الصباح الباكر لو كان كل إنسان يؤدي واجبه ويرضي ضميره.

وأخذ القائد المسئول يرسم خطوطا بعصاه على الأرض ويبين موقع «العوجة» على الخريطة ثم سجل «أمر عمليات» وناول كل واحد منا نسخة منه تبين دور كل وحدة في المعركة المقبلة، وأخذت نسختي ومضيت على عجل إلى الإخوان لأعدهم للمعركة، وتبعتني قوات الجيش ومدفعيته يتقدمها القائد وضباط أركان حربه، وعدد من الضباط العظام.

وكانت «العوجة» تبدو صامته هادئة، عدا بعض سيارات مصفحة تتحرك حولها ولم تلبث مدفعية الجيش المصري أن أطلقت نيرانها على قوات العدو المتجمعة في القرية وعلى مصفحاته المستترة خلف سفوح التلال ثم بدأ الزحف وانطلق الإخوان إلى أهدافهم وفي اللحظة الأخيرة صدرت الأوامر بمنع التقدم والتراجع إلى المرتفع .. وهكذا فشلت العملية، وسقطت «العوجة» نهائيا، وبسقوطها وضع اليهود أيديهم على صحراء «النقب» كلها وأعطوا حرية التنقل بين أرجائه الواسعة في مساحة يحدها البحر الأبيض شمالا والبحر الأحمر جنوبا كما فتحت أبواب سيناء على مصاريعها للغزاة، يدخلون كيفما يشاءون...

أما لماذا فشلت هذه المعركة ورؤي عدم التقدم فيها، فكان مرده إلى الروح المعنوية التي كانت قد وصلت إلى أقصى مراحل الانهيار والضعف وإلى القيادة المحلية التي كانت تنفذ أوامر الهجوم على الرغم منها دون أن تكون راغبة في القتال، لذلك لم يلبث الجنود أن تراجعوا إلى المرتفعات الخلفية، ولم يتوقف تراجعهم إلا عند مرتفعات «الطارة» على حدود مصر الشرقية.

وتغيرت الآية وانقلبت الأهداف فبعد أن كان الهدف هو تحرير فلسطين والقضاء على العصابات الصهيونية بها، وإنقاذ أهلها من الفناء والتشرد أصبح الهدف الجديد هو الصمود أمام الحدود المصرية، ومنع تدفق العدو خلالها، واقتطاع شبه جزيرة سيناء.. فإلى أي مدى نجحنا في المحافظ على هذا الهدف الجديد..؟!

حل الإخوان وحكم مجلس الدولة

أرادت الحكومة السعدية أن تجس نبض الإخوان قبل أن تقدم على قرار حل هيئة الإخوان فبدأت بحل منطقتي الإخوان المسلمين ببور سعيد والإسماعيلية وفيهما قد تربى الرعيل الأول في هيئة الإخوان المسلمين لترى ماذا فعل الإخوان؟ ونظرا لأن البلاد كانت تحارب اليهود والإخوان المسلمين لو ثاروا ضد هذا العدوان الحكومي لوجد اليهود الفرصة. وساءت حالة البلاد بسبب ما أقدم عليه رئيس الحكومة السعدية عمل الاستفزاز والتحدي في محاربة دعوة الإخوان المسلمين فآثر الإخوان السكوت والاقتصار على النصيحة السلمية وهنا أشار الأستاذ عبد الكريم منصور بسرعة رفع دعوى أمام مجلس الدولة بطلب إلغاء أمر الحل ولكن نظرا لأنه لم يسبق رفع دعاوي في مصر بالطعن في الأوامر العسكرية وكان من السائد في الأذهان أنها بمثابة القوانين لا يجوز إلغاؤها فقد بدأ رأي الأستاذ عبد الكريم غريبا ولكن لم يهمل حيث انكب على دراسته رجال القانون ولكن سرعان ما ضربت الحكومة السعدية ضربتها الثانية فصدرت في 8 ديسمبر سنة 1948 الأمر العسكري رقم 63بحل هيئة الإخوان المسلمين وجميع فروعها في مختلف أنحاء البلاد وأذيع في مختلف بلاد العالم بالراديو وأسندت الحكومة السعدية إلى الإخوان تهما ضمنتها مذكرة طبعت منها الآلاف ووزعتها على البقالين والقهاوي ودور السينما والمراقص والخمارات والبارات وغيرها من المحلات الأخر مما لم يسبق له مثيل في التاريخ.

بين القبور

في هذه الأيام الرهيبة اختفى فجأة الأستاذ عبد الكريم منصور المحامي عن أعين البوليس وأعين الناس واتخذ مكانه بين القبور في هذا الهدوء الصامت وبين عظام الموتى وفي هذه الأماكن الرهيبة التي تتحدث عن قوة الله وجبروته أخذ الأستاذ عبد الكريم يطلب من الله النصر ويستلهم ما أتاه الله من علم فكتب عريضة دعوى ومذكرة قانونية يقعان في حوالي المائة صفحة من الفولسكاب.

جاءت عريضة دعوى مجلس الدولة هذه قوية رهيبة اهتزت لها الحكومة السعدية ورجال القلم السياسي وطبعتها إدارة قضاء الحكومة ووزعتها على كبار رجال القانون ليبدي كل منهم رأيه فيها.

وكان لهذه الدعوة أثر عظيم في أن سجل حكمها طهارة دعوة الإخوان المسلمين وطهارة الإمام الشهيد حسن البنا. وسجلت اعتداء الحكومة السعدية على رجال القضاء وعلى دين الإسلام الحنيف.

سير الدعوى أمام مجلس الدولة

لقد نظرت الدعوى في مجلس الدولة تحت رئاسة الأستاذ كامل مرسي وقد وجدت الحكومة في ذلك الوقت أن القضاء سوف يدمغها بفساد مسلكها وتقيم الحجة على سوء سياستها فاصطنعت أسليب المكر والخداع.

وقد دق جرس التليفون فإذا المتكلم قد انتحل كذبا صفة هيئة الإخوان المسلمين وهدد رئيس مجلس الدولة بنسف درا المجلس أثناء نظر دعوى الإخوان المسلمين وكان بقصد المتكلم أن يثير في قلب القضاة الحقد والكراهية للإخوان فيحكمون ضدهم... ولكن فراسة رئيس مجلس الدولة وفطنته وذكاءه لم تنطلي عليه هذه الأساليب الممقوتة فخاطب المتحدث الدولة وفطنته وذكاءه لم تنطلي عليه هذه الأساليب الممقوتة فخاطب المتحدث بأنه كيف ينسف الإخوان مجلس الدولة أثناء نظر دعواهم التي يعلقون عليها أهمية كبرة ينسفونه وفيه مرشدهم ومحاميهم ولكن المتحدث صمم على كلامه فضحك رئيس المجلس.

نسف إدارة قضايا الحكومة

وذهب المتحدث أيضا يحدث مدير إدارة قضايا الحكومة بتوعده بنسف العمارة التي يقيم فيها بقصد إثارة رجال القضاء ضد الإخوان وسرعان ما خرج السكان والموظفين والمحامين إلى شارع قصر العيني في جحافل من الناس بين امرأة تولول ورجل منزعج وشاب مذعور وقد حضرت إلى قرب مكان المطافي وقطعت حركة المرور ينتظرون نسف عمارة عظيمة من عمارات القاهرة.

إشاعة سعدية

وأخذ المندسون من السعديين يشيعون في وسط الإخوان بضرورة التنازل عن هذه الدعوة التي رفعها الأستاذ عبد الكريم ولكن فطنة الإخوان وفراستهم قد جعلتهم يمضون جادين في دعواهم.

الحكومة السعدية تطعن مجلس الدولة

لقد حمي وطيس المرافعات في الدعوى ووجدت الحكومة أن دفاعها قد خذل في القضية فعمدت إلى منع صدور الحكم ضدها بالقوة وبأساليب ملتوية لم يسبق لها مثيل في التاريخ فمثلا عند نظر الدعوى حضر موظف حكومي واقتحم قاعة الجلسة وأخترق الصفوف ووقف أمام منصة القضاء وأثناء المرافعة تصدى لرئيس الجلسة وسلمه خطابا بإحالته إلى المعاش أثناء انعقاد الجلسة وأثناء المرافعة ولم يكد رئيس الجلسة وهو رئيس المجلس أن يقرأ هذا الخطاب ألا وبهت لهذا الأسلوب المشين فرفع الجلسة بعد أن ثبت هذا الفعل المشين في المحضر ليكون وثيقة عار يدمغ به حكم السعديين بالاعتداء على كرامة القضاء ومجلس الدولة.

إيقاف الدعوى

وتوقفت الدعوى بسبب قتل الإمام الشهيد حسن البنا أمام دار الشبان المسلمين وكل ذلك تم في ظروف غاضة مريبة.

السير في الدعوى:

دارت الأيام دورتها فإذا بالدعوى تشق سيرها وتأخذ طريقها ومن المفاجآت الغريبة في هذه القضية أن أحد حضرات المحامين فيها والذين كانوا يمثلون المركز العام قد عين وزيرا للداخلية الموجه ضده الدعوى فانعكس موقفه وأخذ يدافع عن قرار الحل مع أنه كان يقدم الأدلة التي تهدمه وقتها كان محاميا وكان يجول ويصول رافعا يديه طالبا إلغائه لما فيه من حيف وظلم ومخالفة صارخة للقانون.

إن الملك السابق لا يريد الإخوان وكذلك الإنجليز يريدون التخلص من الإخوان والسياسة الحزبية لها برامجها داخل الحكم تخالف الحرية التي تنادي بها خارج الحكم وكذلك من اليهود والأجانب يفزعون لكل دعوة إصلاح فيروجون ضد الإخوان الأكاذيب والأضاليل حتى البوليس السياسي كان يكتب التقارير الزائفة حسب الهوى والإطماع.

إنصاف للعدل

ولكن عناية الله الساهرة ورحمته قد شملت الإخوان فألهم الله قضاة مجلس الدولة فسجلوا بخط من نور حكما خالدا أصبح سجلا في التاريخ فكان هذا الحكم بردا وسلاما لأهل الدين وقذى في أعين كل أفاك مريب هماز مشاء بنميم. فحكم مجلس الدولة بمخالفة الحكومة السعدية للعدل والقانون مخالفة صارخة وأنهى المجلس بإلغاء قرار الحل مقررا بأن هيئة الإخوان إسلامية جامعة خدمت الإسلام والمسلمين من وقت نشأتها وأقامت دورا في كل دولة تنشر في ربوعها مبادئ الإسلام الحقة وتقدم للإنسانية ما يسعدها صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة لقوم يؤمنون.

حكم محكمة الثورة

وجاء الحكم الثاني من محكمة الثورة سجل فيه تدهور الحكم السعدي إلى درجة تقشعر منها وتندي لها جبين البشرية خجلا.

كيف وجه الإتهام؟

ولقد فتحت محمة الثورة باكورة أعمالها بفعل مجيد فطلبت ملف قضية الإمام الشهيد حسن البنا وبعد أن طلعت عليه ووجدت ما به من مآسي وما به من أدلة على ثبوت التهم وما به من اعترافات خطيرة وجهت الثورة إلى المذنب إبراهيم عبد الهادي الاتهام بأنه يسر لأعوانه قتل الإمام الشهيد حسن البنا.

التحقيقات وأدلة والاتهام

يقول المدعون بالحق المدني، أن أدلة الاتهام التي جاء في التحقيقات تنقسم إلى الأقسام الآتية:

1- أدلة عامة- سحب المسدس – قطع التليفون- منعه من السفر للخارج- إلخ إلخ.

2- الاعترافات :

أ- محمد محفوظ بأنه نقل القتلة بعربة محمود عبد المجيد.

ب‌- اعتراف حكمدار العاصمة السابق أحمد طلعت بأن الجزار طلب منه الذهاب إلى الليثي ليحمله على تغيير رقم السيارة التي حملت الجناة.

ت‌- اعتراف المتهم محمد سعيد أحد المجندين إلى أحد العساكر بسوهاج وهو بأنه اعترف له بأنه اشترك في حادث قتل الإمام الشهيد حسن البنا بتكليف من محمود عبد المجيد.

ث‌- اعتراف المتهم أحمد حسن جاد إلى أشخاص كثيرين بأنه

3- السيارة:

أ- قال محمود عبد المجيد بأن السيارة المقال عنها بأنها نقلت القتلة كانت أمام لوكاندة وأنه رآها وهي واقفة أمام اللوكاندة أثناء دخوله.

وقد شهد عبد الله فواز بما يكذب هذه الأقوال حيث قرر أنه كان ملازما لمحمود عبد المجيد ودخلا معا اللوكاندة ولم يشاهد السيارة وأن محمود عبد المجيد طلبه منه أن يشهد زورا.

وأن محمود عبد المجيد استحضر شهودا من أصدقائه وأصحابه من رجال البوليس قال المدعون بالحق المدني أنهم شهود مصطنعون تناقضوا في أقوالهم.

ب- شهد الأستاذ حسنى عباس بكلية التجارة بأنه رأى السيارة في مكان الحادث وأنه التقط رقمها وكان متأكدا مائة في المائة وظهر أن الرقم الذي أعطاه سيادته لم يكن موجودا بالقاهرة ثم عاد وتنكر لشهادته فقال أنه غير متأكد وأتضح من التحقيق أنه صديق من الصغر للضابط محمد محمد الجزار وأنه عندما حضر للمحقق حضر بصحبة محمد توفيق السعيد أحد ضباط البوليس السياسي.

ج- صادرت الحكومة عدد جريدة المصري الذي نشر فيه رقم السيارة التي نقلت الجناة

ء- شهادة محمد يوسف الليثي بأن شابا التقط الرقم وأخبره به

هـ - اعتراف رجال البوليس السياسي بأنهم علموا أن رقم السيارة قد عرف وأن السيارة لمحمود عبد المجيد ولم تخطر المحافظة ألا برقم واحد وليس بعده أرقام .

و- ذهب محمد وصفي رئيس حرس الوزارات إلى المحقق ليضلل في رقم السيارة التي شهد به الليثي.

ز- شهد شهود متعددون بأنهم عرفوا رقم السيارة التي استعملت في تهريب الجناة. منهم شهادة محمد حسين زهير في التحقيقات الأولى.

4- الاستعراض والاستعراف: عمل استعراض للمتهمين فقام الأستاذ عبد الكريم منصور باستخراج المتهمين أحمد حسين ومحمد سعيد المتهمين والمخبرين المنقولين من جرجا.

واستخرج محمد الليثي محمد محفوظ سائق السيارة كما استعرف محمد حسين زهير على أحمد حسين أحد المتهمين كذلك شاهد آخر بوجود أحمد حسين جاد أحد المتهمين أمام جمعية الشبان قبيل الحادث.

مع العلم بأن هذا المتهم يقول أنه كان خارج القاهرة في يوم الحادث.

5 – شهادة شهود من القاهرة –شهود من طما – شهود من سوهاج: كل أولئك شهدوا بم يؤيد الاتهام.

6- إذا قارنا كشوف ترقيات محمود عبد المجيد وأحمد حسين جاد ومحمد محمد الجزار مثلا قبل وقت تدبير القتل وبعده نجد أنه في المدة السابقة كانت الترقية تكاد لا تذكر بينما أصبحت ترقياتهم تسير بسرعة الطائرة بعد القتل وأخذت النياشين الملكية والألقاب ينعم بها الملك المخلوع على محمود عبد المجيد إلخ إلخ.

كما كانت تأمر السراي بزيادة مرتب محمد محمد الجزار.

7- أخلاق محمود عبد المجيد وحبه في الانتقام وسفك الدماء

8- قرائن:

أ- انتداب المخبرين في ظروف مريبة.

ب- طلبت المحكمة العسكرية بسوهاج بعض المخبرين لتأدية الشهادة أمامها فقال محمود عبد المجيد في يوم 10/ 2/ 1949 بأنهم لا يمكنهم السفر بسبب انشغالهم في مصر بأمور تتعلق بالحالة الحاضر- في القاهرة.

ولكن بمجرد أن تم القتل تم السفر إلى سوهاج وهذه يعتبرها المدعون بالحق المدني أنها قرينة قوية.

ح‌- عجز المخبرين أن يثبتا مكان وجودهم في وقت الحادث.

خ‌- تناقض المخبرين في أقوالهم مع محمود عبد المجيد رئيسهم ولم يعرف لهم عمل ظاهر في مدة إقامتهم بمصر.

د‌- نقل محمود عبد المجيد الصول البهي شرف بمجرد رغبته في معرفة اختصاص المخبرين والأعمال التي تسند إليهم.

ذ‌- وقوع الحادث بالصورة التي وقع بها حيث استغرق وقتا من الزمن أمام جمعية الشبان المسلمين وبها كثير من الشبان وأمام قهوتين بلدي وأمام أبور المجاري وبعد عدد كبير من العساكر والمخبرين وتم القتل تحت المراقبة البوليسية إلخ إلخ...

سجون ومعتقلات

وقد وجهت محكمة الثورة بعد أن أطلعت على ملف التعذيب بأن المتهم إبراهيم عبد الهادي أفسد إدارة الحكم وعذب المواطنين وإليكم ما سجله حكم محكمة الثورة.

الحكم السعدي:

بمجرد أن تولى المتهم إبراهيم عبد الهادي الوزارة في آخر ديسمبر سنة 1948 حرص على أن ينشر في ربوع البلاد قاطبة موجة من الإرهاب الأسود الباطش، مدللا بذلك على استطاعته وقدرته كحاكم مستبد ظالم، أن يقهر هذا الشعب ويذله، ويقضي علي حرياته وأرواحه وركز في سبيل تحقيق هذا الهدف الإجرامي جميع أدوات الجهاز الحكومي في ذلك الوقت فلم يعد لحكومته حينذاك عمل إلا فتح السجون في جميع أنحاء البلاد ليلقى في غياهبها المظلمة من أراد له سوء حظه أن يقع وينصب سخط المتهم عليه وغضه ولم يكتف المتهم بهذه السجون بل ألقى في معتقلات جبل الطور وهاكستيب وغيرها فريقا كبيرا من شباب الأمة ومثقفيها بطريقة جزافية وبصورة جماعية شاذة بعيدة بل منعزلين انعزالا تاما عن زوجاتهم وإخوانهم وآبائهم وأمهاتهم وأولادهم لا يعرف هؤلاء جميعا عنهم حتى أمكنة القبور التي قبروا فيها هم أحياء بل لقد بلغ التعسف والبغي والظلم بالمتهم أن أعد لهؤلاء المتعقلين قبورا في معتقلاتهم ليدفنوا فيها إذا ماتوا قضاء وقدرا أو بالقتل) .

حكم أسود

(ولقد عشنا جميعا يا سادتي القضاة في هذا الجو الأسود الخانق الظالم وكنا نرى ونسمع كيف كان مجرد ضبط ورقة في منزل معتقل يذكر فيها اسم صديق له أو قريب كيف كان هذا كافيا لاعتقاد صاحب هذا الاسم وزوجته وأولاده جميعا... بل لقد بلغ الطغيان والظلم بالمتهم أن أمر باعتقال أشخاص كانت كل تهمتهم عنده أنهم زاروا قبر المرحوم الشيخ حسن البنا.

اعتقال من يحمل مصحفاً

كما أمر أيضا باعتقال شيخ طاعن في السن يكاد يكون فانيا هو الشيخ النبراوي الذي أراد الشيخ حسن البنا أن يأوي لديه بمنزلة في قليوب بعد حل جماعته وأن يحبس نفسه فيه بعد أن رفض المتهم أن يجيبه إلى ما طلب بأن يصبح مصيدة كمصائد أنصاره من المعتقلين وأكثر من هذا يا سادتي القضاة كان مجرد حيازة شخص للقرآن الكريم في منزله أو معه كافيا وداعيا لاعتقاله؟؟

حكم بدون وازع من دين أو خلق

هكذا وبمثل هذه الأساليب والإجراءات كان الناس يعتقلون ويلقى بهم ي غياهب السجون، لا لشيء إلا لأن شهوة المتهم شاءت ذلك لأن الأساس الذي كان المتهم يقيم حكمه عليه هو فرض الإرهاب والطغيان على البلاد كائنة ما كانت صورة وأساليبه، بلا وازع من دين أو قانون أو خلق.

قطع الأرزاق

وكنا نرى ونسمع أيضا يا سادتي القضاة كيف تركت زوجات وأخوات وآباء وأمهات وأولاد المعتقلين بلا عائل يعولهم وينفق عليهم فانقطعت عنهم بسبب هذه الاعتقالات موارد الرزق ومرتبات أو أجور من كان يعولهم حتى اضطررن وهن المحصنات المحجبات أن يعملن في المنازل كخادمات أو يستجدين الناس في الطرقات.

الحض على الفوضى والتزوير

وقد سمعتم حضراتكم بالأمس على لسان الشاهد السيد حسين رأفت وهو الذي استشهد به المتهم نفسه كشاهد نفي له، قال هذا الشاهد لحضراتكم أنه وقت أن كان مديرا للدقهلية وكان المتهم رئيسا للوزارة ووزيرا للداخلية سأله هذا الرئيس عن عدد من اعتقلهم فلما أجابه بأنهم سبعة هاج وثار عليه وعنفه بقوله أنه كان يعتقد أنه سيعتقل 70 شخصا لا سبعة ولما سأله عما فعل بهم وقال له الشاهد أنهم أودعوا السجن فقط عنفه أيضا بقوله أنه كان يجب عليه أن يفعل بهم كما يفعل سائر زملائه من المديرين في المديريات الأخرى وليس بذلك الاعتقال فلما حدثه هذا الشاهد عن القانون وهو رجل قانوني هاج وثار عليه أيضا وقال له دائما القانون القانون مع أن المتهم مثل الشاهد وهو رجل قانون ولذلك كان هذا المسلك من الشاهد هو وباقي التصرفات الأخرى التي لم ترض المتهم الذي يكره القانون ورجال القانون سببا من الأسباب التي دعت المتهم إلى نقله من الدقهلية كحاكم لها إلى وظائف الديوان العام بوزارة الداخلية.

لجنة خاضعة لتقارير البوليس السياسي

أما ما قاله المتهم بالجلسة من أنه أجرى هذه الاعتقالات تحت رقابة اللجنة القضائية التي شكلها فمردود عليه بأن هذه اللجنة لم تكن قضائية محضة كما سماها إذ كان بها مدير الأمن أو وكيله وأن هذه اللجنة لم تظهر إلى الوجود إلا في مايو سنة 1949 أي بعد أن كان قد شبع اعتقالات حوالي 5شهور، وأن هذه اللجنة لم تكن لتصدر قراراتها إلا بناء على بيانات تقدمها إليها إدارة الأمن العام وتحت مسئوليتها، وهذا واضح من الكتاب المرسل لنا من السيد النائب العام الذي كان رئيسا لهذه اللجنة ومعروض على حضراتكم الآن بعض الأمثلة من واقع الملفات يستدل منها بجلاء كيف كان المتهم يختم قرارات هذه اللجنة التي يعتصم بها الآن في دفاعه.

لحساب من الاعتقالات

وإنا لا ندري يا سادتي القضاة لحساب من ولمصلحة من كانت هذه الاعتقالات على هذه الصور السوداء؟ هل كانوا ممن يطعنون الجيش المصري في ظهره أبان معركة فلسطين وذلك بتعاونهم واتصالهم بالصهيونيين؟ أو هل كانوا ممن ينشرون تلك المبادئ الهدامة ليقضوا على النظام الاجتماعي للدولة؟؟

لو كانت هذه الاعتقالات لهذه الأسباب ومثيلاتها لقلنا .. أن الرجل يريد أن ينقذ وطنه بالقضاء على هؤلاء الخونة الكفرة.

أغراض مجرمة - الاعتقال إرضاء للمستعمر

لكن أن تجري هذه الاعتقالات على هذا النحو الطاغي، لا لشيء إلا لمجرد شهوة المتهم وانتقامه (كحاكم ظالم حكم فأفسد فظلم واستبد وتولى شئون الأمة فأفسد وأدار دفة الحكومة وسخر بعض رجالها إلى القتل وسفك الدماء والتعذيب وارتكاب الجرائم بأبشع صورها ما لم يعهده التاريخ) وإرضاء المستعمر وسنده ومعاونة الأول الملك السابق .. لكن أن تجري هذه الاعتقالات لهذه الأغراض المجرمة الدنيئة.. .فهذا ما لا يقبله لا قانون ولا عدل ولا ضمير.

وقد استحضرنا لحضراتكم بعض ملفات هذه اللجنة، وقد وضعناها تحت تصرف الحاضر مع المتهم بمجرد عثورنا عليها لكي يطلع ويتبين من هذه الملفات (ثبت منها أنها لجنة صورية وإجراءاتها صورية خصوصا وليس فيها محامون ولا يحضر أمامها المتهم ولا يطلع على شيء فيها ومستندات الدعوى سريه لا يطلع عليها المتهم ولا يراها وهذه المستندات من صنع البوليس وتقاريره وهي زائفة بدون شك ومن الفجر الجرئ واللعب بعقول الناس أن تسمى هذه اللجنة لجنة قضائية مع أنها مجرة من الضمان للمتهم من حق الحضور والمرافعة و...إلخ).

أولا- أن هذه اللجنة سبق أن قررت الإفراج عن ستة أشخاص هم فائق نجيب البتانوني، ورشدي أبو القوصى، ومحمد حليم السيد سويف ومحي الدين زهران وصلاح الدين فؤاد وعبد الحليم عبد الحميد بدوي وذلك في جلسة7/ 6/ 1949 ولكن وزارة الداخلية لم تنفذ هذا القرار وصدر أمر عسكري جديد باعتقالهم مرة أخرى في 12/ 6/ 1949 مع أن قانون تشكيل هذه اللجنة يجعل قرارها نهائيا محترما ولما كان هذا القانون يوجب عرض كل أمر اعتقال على هذه اللجنة فقد سارعت الحكومة بالإفراج عن هؤلاء المعتقلين في 15/ 7/ 1949 أي بعد حوالي أكثر من شهر من تاريخ صدور قرار اللجنة بالإفراج ولما عرض قرار الحكومة بالإفراج على هذه اللجنة قررت بانتهاء المدة لسبق صدور قرار منها بالإفراج.

تقارير بوليسية مزورة

ثانيا- ظهر لهذه اللجنة من بعض التقارير المتقدمة من السيد سعد الدين السنباطي أنه أورد بها بيانات عن بعض المعتقلين غير صحيحة وذلك بعد أن كانت قد ندبت ضباطا آخرين لإعادة فحص حالات بعض المعتقلين. ومن الطريف في هذا الصدد أن السنباطي كان قد أثبت في تقرير له عن أحد الأشخاص أنه يحوز جهازا استقبال لاسلكي في منزله بدون رخصة وقدم ضابط أخر تقريرا أخر بأن لهذا الجهاز رخصة.

وقد استحضرنا لهذا النوع من تصرفات السنباطي 14 ملفا كمثال لصحة تقاريره؟؟

اعتقال ظالم

ثالثا- كما استحضرنا أيضا عدة ملفات لبعض المتعقلين الذين أرجأت اللجنة النظر في أمرهم حتى تستوفي بعض البيانات عنهم، فتراخت وزارة الداخلية في تنفيذ هذه القرارات مدة بلغت شهورا بقي فيها هؤلاء الأشخاص معتقلين فلما وردت هذه البيانات للجنة أصدرت قرارها بالإفراج عنهم.

خصومة سياسية وليست شخصية

ويقول المتهمون أنه لم تكن الخصومة بين الإخوان وبين حكومة السعديين خصومة شخصية بل هي خصومة سياسية ورد المدعون بالحق المدني بأن الخصومات لم تكن خصومات شخصية بسبب بيع أو شراء ولا بسبب امرأة- بل هي خصومة سياسية وق امتلأ قلب رجال الحكومة السعدية بحقد سياسي فاجر وفي سبيل هذه الخصومة السياسية الفاجرة انتهكت الحكومة السعدية الحرمات وارتكب رجالها الجرائم.

وكثيرا ما سببت الخصومات السياسية حربا طاحنة بين بلدين وما قتل محمد على المماليك في مذبحة القلعة إلا لسبب السياسة وما سفك السعديون دماء طلبة الجامعة في حادث كوبري عباس إلا بسبب السياسة ولم يقتل المتهمون الإمام الشهيد حسن البنا بسبب بيع أو شراء وقد أثبتت محكمة الثورة أن الإمام الشهيد حسن البنا قتل لأسباب سياسية وليست لأسباب شخصية.


وسننشر في الجزء الثاني أهم ما سجلته محاضر جلسات محكمة الثورة

انتهى الكتاب الأول .....

وقد اقتبسنا دور الإخوان في معركة فلسطين من كتاب «الإخوان المسلمون في فلسطين» فكان لهذا الاقتباس أثر محمود، وسوف نسرد في الثاني:

1- رجال الثورة الأحرار على قبر الشهيد حسن البنا.

2- كيف بعثت القضية .. بعد ما كانت في طي النسيان.

3- الحلقات المفقودة في القضية؟

4- المفاجآت التي حدثت في أثناء المحاكمة؟

5- الدفوع الفرعية التي أثيرت في القضية؟

6- تصحيح الأوضاع القانونية في القضية!