كتابات الإمام البنا عن الهجرة (1)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
كتابات الأستاذ حسن البنا عن الهجرة
حفل الإخوان المسلمين بالمدينة المنورة
الإمام حسن البنا

أقام الإخوان المسلمون بمدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة حفلاً رائعًا لمناسبة الهجرة النبوية، ودعوا كثيرًا من عظماء المدينة وغيرها من زوار مسجد الرسول ، وكان لى شرف الدعوة إلى هذا الحفل، وقد ألقى فضيلة المرشد كلمة ضمنها كثيرًا "من ذكريات الهجرة"، وإليك نصها.

بسم الله الرحمن الرحيم..

والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، وصحبه، ومن دعا بدعوته وجاهد فى سبيل شرعته. أيها الإخوة الكرام،

من حقكم علينا وقد لبيتم الدعوة، وأسعدتمونا بهذا الشعور الفياض، وهذه الأريحية الكريمة، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

إن هذه ساعة كريمة نتحدث فيها بكلام كريم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله فى آثار حبيبه ، نسأل الله تعالى أن يجعله عملاً مقبولاً، ويكتب لنا ولكم أجره وثوابه، فإنه اجتماع على طاعة الله تعالى والحب فيه، قال الله تعالى فى الحديث القدسى: "وجبت محبتى للمتحابين فىّ، والمتجالسين فىّ، والمتزاورين فىّ، والمتباذلين فىّ، اليوم أظلهم بجلالى يوم لا ظل إلا ظلى"، وها أنتم قد اجتمعتم من بلدان مختلفة، وأقطار بعيدة، يحدوكم الحب وتجمعكم طاعة الله تعالى وطلب رضوانه، اجتمعتم فى طيبة وفى الحرم النبوى، وقد أتاح الله لكم فرصة التعارف والتآلف والعمل للوحدة قال "إن من عباد الله أناسًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء والآخرون يوم القيامة لمكانهم من الله". قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس"، وقرأ هذه الآية: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس: 62]" .

وقد اجتمعنا فى هذا المكان على غير أرحام وتعارف سابق، وما جمعنا إلا العقيدة وأخوة الإسلام، وفى الحق إن هذا الاجتماع لم يكن لدرس ولا لتبادل منفعة، وإنما هو اجتماع للتعارف الذى دعا إليه القرآن بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات: 13]، اجتمعنا لنتذاكر فى الحق ونتواصى به ونعمل عليه، نسأل الله تعالى أن يوفقنا للمساهمة فيه.

خطر لى أن أسعد بكم فى هذا الاجتماع وفى تلك الليلة العظيمة وهذه المدينة المباركة؛ لأن ذلك هو الواجب إننا الآن نستقبل عامًا جديدًا ونودع عامًا ماضيًا، ومن حق الماضى علينا أن نذكر فيه أعمالنا، ونحاسب فيه نفوسنا، فإن وجدنا خيرًا حمدنا الله تعالى، وإن وجدنا شرًّا استغفرناه، ومن حق الحاضر أن نستقبله بعمل جديد وخطط جديدة فيها نفع الإسلام والمسلمين، وهل هناك موضع أولى بالذكرى من مدينة الرسول ومهبط الوحى ومأوى الأنصار والمهاجرين، هذا معنى يوحى إلىّ كثيرًا من الذكريات، وتذكرنى هذه المناسبة بذلك الحادث العظيم العميق الأثر، وهو حادث الهجرة. نستقبل عامًا جديدًا من أعوامها يذكرنا بذلك الشعور الفياض، وتلك النفوس الكريمة، وقد صدقت فى بلائها وجهادها وعملها.

حضرات الإخوان:

إن الناس رجلان: رجل لم يدرك سر الوجود، ولم يتبين وظيفته فى الحياة، إن سألناه: لم خلقت؟ وماذا تصنع؟ ولم وجدت؟ قال لك: دعنى فإنى عنك مشغول. فهو لا يدرى شيئًا فى الحياة كالشجرة العقيمة التى لا ثمر لها ولا خير فيها إلا الوقود للنار، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[الأعراف: 179]، ولحكمة يعلمها الله إن هذا الصنف ليس بالقليل ولكنه كثير.

وصنف آخر أراد أن يتبين سر الوجود ويعرف مهمته فى الحياة، فظن الحياة مركبًا فارهًا ومتعة جميلة، فأقبل على العمل بنفس راضية وقلب منشرح، وفى كلا الصنفين قال الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ* قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ* الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ﴾[آل عمران: 14-17].

فالصنف الأول أخطأ الطريق فضل ضلالاً بعيدًا والصنف الثانى أنار الله بصيرته فأشرقت مصابيح الهداية فى طريقه، وعلم أن متعة الآخرة لا تعدلها متعة الحياة الدنيا، عرف الحق وعرف وظيفة الحياة، وهى الإقبال على الله بكليته ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56]، ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾[الذاريات: 50]، ففروا إلى الله تعالى بقلوبهم وأحاسيسهم، وجعلوا أعمالهم خالصة لله.

لهذا أحب ونحن فى مستقبل عام جديد نودع العام الماضى أن نقف بينهما وقفة المدقق المعتبر، إنه فى أول السنة الدراسية عندنا نوزع على التلاميذ الكراسات الجديدة، وبالطبع تكون نظيفة، وهنا يهتم المدرس بملاحظة الكراسات وخلوها من الإتلاف، ويأمرهم بقيد ما وجب عليهم فيها، ويضع العقاب لكل تلميذ يهمل فى أداء واجبه، ونحن الآن بيننا كراسة جديدة عددها ثلاثمائة وستون ورقة وسنكتب فيها كل يوم ورقة، فيجب أن تكون كراستنا نظيفة، فإن المعلم دقيق، وإن الناقد بصير لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء ﴿إِن تُبْدُوا مَا فِى أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ﴾[البقرة: 284]، ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق: 18]، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾[الإسراء: 13-14]، هذا معنى من معانى التذكرة، وإن النظام الوضعى لا يجوز فيه الشطب والمحو، لكن الله تعالى كريم يحب العفو، رحيم بعباده يجازى التائبين على توبتهم متى أخلصوا فيها ولم يصروا على ما فعلوا ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾[آل عمران: 135-136]، ﴿وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾[الشورى: 25]، فإن أردتم أن تعيدوا نظرة على الماضى فالنظرة أن تحاسبوا أنفسكم فيما عملتم من خير وشر، فاحمدوا الله على الخير، وتوبوا إلى الله من الشر، فردوا الحقوق إلى أصحابها، وتوبوا إلى الله من تقصيركم فى حقه، أما النظرة إلى الحاضر فبالعزم على عدم فعل الذنوب واقتراف المعاصى، والعزم على فعل الطاعة والخير هذا.

وإنى أحب أن نمر مرًّا سريعًا على بعض المواقف البارزة، وعلى الحوادث المهمة، والتى تفيدنا فى حياتنا العملية، ومن أهم هذه الحوادث "حادث الهجرة" السعيد، حادث كله دروس وعبر وعظات لو أخذ المسلمون ببعض ما فيها لظلوا سادة الناس، فإن هجرته كانت فاصلاً بين عملين من أعماله ، العمل الأول: الإصلاح الفردى بمكة، والإصلاح الجماعى بالمدينة، ففى مكة كونت العقيدة ووضعت اللبنات التى أسست عليها الدعوة، وكان ذلك تارة فى السر وتارة فى العلن وهكذا، والمشركون يحاربون دعوته ويقومون عقبة فى سبيل نشرها، ولكن أبى الله إلا أن يكون من هؤلاء المؤمنين خير أمة أخرجت للناس، أما فى المدينة فكان الأمر على خلاف ذلك، فقد بنى النبى من هذه اللبنات أمة عظيمة بعد أن كون أفرادها تكوينًا صحيحًا، وبنى هذه النفوس على صفتين، وكونها على لونين، إيمان عجيب فى قلوب عجيبة أفيض عليها من لدن الحق -تبارك وتعالى- ما نزل به الروح الأمين ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾[النمل: 79]، آمن بربه الذى لا يقهر، وآمن بكتابه الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وآمن بالنبى ، وقد بلغ الرسالة وآمن بهمته ليحرص على تلك الرسالة، فكان إيمانًا عجيبًا فى تصرفاته، كانوا يعبدون أصنامًا فحطموها، وكانوا يشربون خمرًا فأراقوه، وكانوا يتخاصمون فوحدهم الإيمان، وتغيرت ألوان حياتهم. والعجب فى أمرهم أنهم تربوا مع مجاوزة وقت التربية، لكن الإيمان إذا حل فى قلب المؤمن هدى إلى صراط مستقيم، لم يخرجوا من مكة كراهية فيها، ولكن نصرة لدين الله، ونشرًا لدعوة رسول الله .

وأريد أن أستقصى تطورات هذه النفوس، ولكن أريد أن أستخلص هذه النفس الكريمة، وأبين أنها لم تأسف على شىء فى سبيل نصرة النبى ، وحملوا الدعوة حملاً كريمًا، ونشروا دين الله نشرًا حكيمًا، فلا همّ لهم إلا تبليغ الرسالة قال الله فيهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنفال: 64].

التقى رستم قائد الفرس بعربى من طلائع جيش المسلمين فقال له: ما الذى أخرجكم من دياركم؟ فقال: ما لهذه الدنيا خرجنا، بل كنا ضعافًا فقوانا الله، وكنا ضالين فهدانا الله، وأمرنا أن نبلغ الرسالة، فإن دخلت فيما دخلنا فنحن وأنتم سواء، وإلا فالسيف بيننا وبينكم. فقال له رستم: انظر إلى هذه الجيوش. فنظر الرجل ساخرًا ثم قال: يا هذا إنك لا تحارب الناس، ولكنك تحارب القدر، فنحن قدر الله سلطنا الله عليك.

فلو أن معنا بعض هذا الإيمان لاستطعنا أن نجدد فينا الحياة، وأن نحل مصاعب الحياة.

سجن بعض الصالحين فى قلعة بمصر فدخل عليه بعض تلامذته يتألمون من حالته فقال: سجنى جنتى، وقتلى شهادة. فانظر إلى هذه النفس كيف ترى السجن مغنمًا. إذن لابد من الإيمان والصبر والصدق والوفاء والوحدة والحب والإيثار، فإن هذه الأخلاق الكريمة هى التى بنى عليها المجتمع الإسلامى ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر: 9].

كنت أتصور المدينة وقد نزلها فجعل منها ثكنة عسكرية فإذا النساء والرجال حول القلعة الواحدة تتحرك حركة واحدة، يتدربون كل يوم خمس مرات حين يسمعون أذان ابن أم مكتوم، تجد منهم وحدة العمل ووحدة الكلمة، فإذا ما اختلفوا فى أمر نزل القرآن للفصل بينهم ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾[المجادلة: 1]، إلى هذه الدرجة كانت صلة المجتمع بعضه ببعض يخضع الناس لهذا النظام، ويألفون هذا النظام حبًّا فى النظام وواضع النظام، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ووفقنا وإياكم للعمل بما عملوا إنه تعالى سميع الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.


المصدر: مجلة الاعتصام، العدد (17)، السنة السابعة، 26ربيع الأول 1365ه- 28 فبراير 1946م، ص(8-10)،


للمزيد

للمزيد من كلمات الإمام البنا عن الهجرة:


إقرأ أيضا :