الفرق بين المراجعتين لصفحة: «محمد الغزالي»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لا ملخص تعديل
 
(١٣ مراجعة متوسطة بواسطة ٣ مستخدمين غير معروضة)
سطر ١: سطر ١:
{{مقالة غير مراجعة أعلام}}
'''<center><font color="blue"><font size=5>الداعية الأديب الشيخ محمد الغزالي (1335 ـ 1416هـ = [[1917]] ـ [[1996]]م)</font></font></center>'''




== تقديم ==
'''بقلم / المستشار [[عبدالله العقيل]]  .. بالإشتراك مع / الدكتور [[جابر قميحة]]'''
 
== مقدمة الناشر ==


[[ملف:الغزالى.jpg|إطار|<center>'''الداعية الشيخ محمد الغزالي'''</center>]]
[[ملف:الغزالى.jpg|إطار|<center>'''الداعية الشيخ محمد الغزالي'''</center>]]
عالم ومفكِّر إسلامي مصري، يعدّه الكثير من المهتمين بالفكر الإسلامي أحد أهم أعلام هذا الفكر في النصف الثاني من القرن العشرين.
يعد الغزالي أحد دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، عرف عنه تجديده في الفكر الإسلامي وكونه من المناهضين للتشدد والغلو في الدين. سببت انتقادات الغزالي للأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي العديد من المشاكل له سواء أثناء إقامته في [[مصر]] أو في المملكة العربية السعودية.
كان الشيخ "محمد الغزالي" واحدًا من دعاة [[الإسلام]] العظام، ومن كبار رجال الإصلاح، اجتمع له ما لم يجتمع إلا لقليل من النابهين؛ فهو مؤمن صادق الإيمان، مجاهد في ميدان الدعوة، ملك [[الإسلام]] حياته؛ فعاش له، ونذر حياته كلها لخدمته، وسخر قلمه وفكره في بيان مقاصده وجلاء أهدافه، وشرح مبادئه، والذود عن حماه، والدفاع عنه ضد خصومه، لم يدع وسيلة تمكنه من بلوغ هدفه إلا سلكها؛ فاستعان بالكتاب والصحيفة والإذاعة والتلفاز في تبليغ ما يريد.
رزقه الله فكرا عميقا، وثقافة إسلامية واسعة، ومعرفة رحيبة ب[[الإسلام]] ؛ فأثمر ذلك كتبا عدة في ميدان الفكر الإسلامي، تُحيي أمة، وتُصلح جيلا، وتفتح طريقا، وتربي شبابا، وتبني عقولا، وترقي فكرا. وهو حين يكتب أديب مطبوع، ولو انقطع إلى الأدب لبلغ أرفع منازله، ولكان أديبا من طراز حجة الأدب، ونابغة [[الإسلام]] "[[مصطفى صادق الرافعي]]"، لكنه اختار طريق الدعوة؛ فكان أديبها النابغ.
ووهبه الله فصاحة وبيانا، يجذب من يجلس إليه، ويأخذ بمجامع القلوب فتهوي إليه، مشدودة بصدق اللهجة، وروعة الإيمان، ووضوح الأفكار، وجلال ما يعرض من قضايا [[الإسلام]] ؛ فكانت خطبه ودروسه ملتقى للفكر ومدرسة للدعوة في أي مكان حل به. والغزالي يملك مشاعر مستمعه حين يكون خطيبا، ويوجه عقله حين يكون كاتبا؛ فهو يخطب كما يكتب عذوبة ورشاقة، وخطبه قطع من روائع الأدب.
والغزالي رجل إصلاح عالم بأدواء المجتمع الإسلامي في شتى ربوعه، أوقف حياته على كشف العلل، ومحاربة البدع وأوجه الفساد في لغة واضحة لا غموض فيها ولا التواء، يجهر بما يعتقد أنه صواب دون أن يلتفت إلى سخط الحكام أو غضب المحكومين، يحرّكه إيمان راسخ وشجاعة مطبوعة، ونفس مؤمنة.
== المولد والنشأة ==
في قرية "نكلا العنب" التابعة لمحافظة البحيرة بمصر ولد الشيخ محمد الغزالي في (5 من ذي الحجة 1335هـ = 22 من سبتمبر [[1917]] م) ونشأة في أسرة كريمة، وتربى في بيئة مؤمنة؛ فحفظ القرآن، وقرأ الحديث في منزل والده، ثم التحق بمعهد الإسكندرية الديني الابتدائي، وظل به حتى حصل على الثانوية الأزهرية، ثم انتقل إلى القاهرة سنة (1356هـ = [[1937]] م) والتحق بكلية أصول الدين، وفي أثناء دراسته بالقاهرة اتصل  بالإمام [[حسن البنا]] وتوثقت علاقته به، وأصبح من المقربين إليه، حتى إن الإمام البنا طلب منه أن يكتب في مجلة "[[الإخوان المسلمين]]" لما عهد فيه من الثقافة والبيان؛ فظهر أول مقال له وهو طالب في السنة الثالثة بالكلية، وكان [[البنا]] لا يفتأ يشجعه على مواصلة الكتابة حتى تخرج سنة (1360هـ = [[1941]] م) ثم تخصص في الدعوة، وحصل على درجة "العالمية" سنة (1362هـ = [[1943]] م) وبدأ رحلته في الدعوة في مساجد القاهرة.
== النشأة ==
نشأ في أسرة كريمة مؤمنة, وله خمس اخوة, فأتم حفظ القرآن بكتّاب القرية في العاشرة, ويقول الإمام محمد الغزالي عن نفسه وقتئذ: '''“كنت أتدرب على إجادة الحفظ بالتلاوة في غدوي ورواحي، وأختم القرآن في تتابع صلواتي، وقبل نومي، وفي وحدتي، وأذكر أنني ختمته أثناء اعتقالي، فقد كان القرآن مؤنسا في تلك الوحدة الموحشة”.'''
والتحق بعد ذلك بمعهد الإسكندرية الديني الإبتدائي وظل بالمعهد حتى حصل منه على شهادة الكفاءة ثم الشهادة الثانوية الأزهرية, ثم إنتقل بعد ذلك إلى القاهرة سنة (1356هـ الموافق [[1937]] م) والتحق بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف, وبدأت كتاباته في مجلة ([[الإخوان المسلمين]]) أثناء دراسته بالسنة الثالثة في الكلية, بعد تعرفه على الإمام حسن البنّا مؤسس الجماعة, وظل الإمام يشجعه على الكتابة حتى تخرّج بعد أربع سنوات في سنة (1360هـ = [[1941]] م) وتخصص بعدها في الدعوة والإرشاد حتى حصل على درجة العالمية سنة (1362هـ = [[1943]] م) وعمره ست وعشرون سنة, وبدأت بعدها رحلته في الدعوة من خلال مساجد القاهرة, وقد تلقى الشيخ العلم عن الشيخ [[عبد العظيم الزرقاني]], والشيخ [[محمود شلتوت]], والشيخ [[محمد أبو زهرة]] والدكتور [[محمد يوسف موسى]] وغيرهم من علماء الأزهر الشريف.
==دراسته==
حصل الغزالي على شهادة الثانوية [[أزهر (جامعة)|الأزهرية]] عام [[1937]] ثم التحق بكلية [[أصول الدين]] في العام نفسه، تخرج منها سنة [[1941]] حيث تخصص بالدعوة والإرشاد. حصل على [[درجة العالمية]] سنة [[1943]].<ref>[http://www.alghazaly.org/index.php?s=timeline خط زمني لسيرة الشيخ الغزالي الذاتية]</ref>
إنضم في شبابه إلى جماعة [[الإخوان المسلمين]] وتأثر بمرشدها الاول [[حسن البنا]].
سافر  إلى  [[الجزائر]] في بداية الستينيات للتدريس في [[جامعة الأمير عبد القادر]] للعلوم الإسلامية ب [[قسنطينة]],درس فيها رفقة العديد من العلماء الأجلاء كالشيخ  [[يوسف القرضاوي]]  و الشيخ البوطي حتى التسعينات من القرن الماضي .


نال العديد من الجوائز والتكريم فحصل على [[جائزة الملك فيصل]] للعلوم الإسلامية عام [[1989]] م .
"صاحب الرسالة يعيش لفكرته، ويعيش في فكرته، فحياته فكرة مجسمة تتحرك بين الناس، تحاول أبدًا أن تفرض نفسها على الدنيا، وأن تغرس في حاضر الناس جذورها؛ لتمتد على مر الأيام والليالي فروعًا متشابكة تظلل المستقبل وتتغلغل فيه".


هكذا عاش الداعية والأديب، المجاهد والرائد المصلح الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)، الذي كان صاحب رسالة دعوية وإصلاحية ملكت حياته، ووجهت خطواته؛ فوقف بين الدعاة علمًا، وبين المصلحين طودًا شامخًا، وبين مفكري وكُتَّاب النهضة قلمًا وسيفًا مسلطًا على أسباب التخلف، إذ عاش [[الإسلام|للإسلام]]، ونذر حياته لخدمته، وسخَّر قلمه وفكره في بيان مقاصده، وجلاء أهدافه، وشرح مبادئه، والذود عن حماه، ومقارعة خصومه.


==مع الإمام [[حسن البنا|البنا]]==
رزقه الله فكرًا عميقًا، وثقافة واسعة، ومعرفة رحبة ب[[الإسلام]] أثمرت عطاءً سخيًا في ميادين الفكر الإسلامي والتجديد والإصلاح والدعوة، فأحيا الأمة، وأصلح أجيالها، وربَّى شبابها، وبنى عقولهم على صحيح الدين، وتقديم الصورة الوسطية للمسلم المنشود في العصر الحديث، ولم يترك سبيلاً لبلوغ هدفه الإصلاحي إلا سلكه متأبطًا كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) سندًا له ومرجعًا.


**'''يتحدث الشيخ الغزالي عن لقائه الأول بالإمام حسن البنا فيقول:'''
وهبه الله فصاحة وبيانًا أحسن استثمارهما في تأليف القلوب وتهيئتها لسماع ما يعرضه من قضايا الإسلام، فكانت خطبه ودروسه ملتقى للفكر ومدرسة للدعوة بما تفيض به من عذوبة ورشاقة وبلاغة جعلته يقف في مقدمة مصافِّ الدعاة الأدباء.


كان ذلك أثناء دراستي الثانوية في المعهد بالإسكندرية، وكان من عادتي لزوم مسجد (عبد الرحمن بن هرمز) حيث أقوم بمذاكرة دروسي، وذات مساء نهض شاب لا أعرفه يلقي على الناس موعظة قصيرة شرحاً للحديث الشريف: (اتق الله حيثما كنت... وأتبع السيئة الحسنة تمحها.. وخالق الناس بخلق حسن) وكان حديثاً مؤثراً يصل إلى القلب.. ومنذ تلك الساعة توثقت علاقتي به.. واستمر عملي في ميدان الكفاح الإسلامي مع هذا الرجل العظيم إلى أن استشهد عام [[1949]] م ” .
كان الشيخ الغزالي في دعوته كالطبيب الماهر الذي كشف علل المجتمع، وعرف أدواءه، وحدد له العلاج في تجديد الإيمان، وتعميق اليقين، ومحاربة البدع وأوجه الفساد، وتعزيز العدل الاجتماعي، ومقاومة الاستبداد السياسي، وتحرير المرأة من التقاليد الدخيلة، وتحرير الأمة بتوحيدها، والدعوة إلى التقدم، والاعتزاز باللغة العربية، والثقافة الإسلامية، ومقارعة الخصوم في فكرهم، وليس في شخوصهم، فأرسى أدب الإسلام في الخلاف والجدل والحوار.


'''وفي عام [[1945]] كتب الإمام [[حسن البنا]] إلى الشيخ محمد الغزالي يقول له :'''
وقد اتخذ الشيخ الغزالي من الأدب والبلاغة وسيلة إيضاح في خطبه ومقالاته ومحاضراته، فجمع بين الفكرة الصائبة والعرض الشيق، والأسلوب البليغ، والكلمات المؤثرة، واللغة الرشيقة السلسة، والإيقاع الهادئ الذي يأخذ بالألباب، ويأسر القلوب، ويوقظ العقول بتجسيد الفكرة في قالب أدبي بديع ينبض بالحياة.


**'''” أخي العزيز الشيخ محمد الغزالي:'''
وإذا كان الشيخ الجليل قد رحل جسدًا، فإن عطاءه الدافق الذي تفيض به مؤلفاته ومحاضراته وخطبه ومقالاته ما زال حيًا ومتجددًا.


'''السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد'''، قرأت مقالك ([[الإخوان المسلمون]] والأحزاب) في العدد الأخير من مجلة (الأخوان) فطربت لعبارته الجزلة ومعانيه الدقيقة وأدبه العف الرصين. هكذا يجب أن تكتبوا أيها [[الإخوان المسلمون]].. اكتب دائماً وروح القدس يؤيدك، والله معك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ”
وتأتي هذه الدراسة التي ينشرها مركز الإعلام العربي في إطار تقدير العلماء الأجلاء، ووضع عطائهم في دائرة الضوء، نبراسًا للأجيال الصاعدة، وتهدف الدراسة التي أعدها اثنان من تلامذة الإمام الغزالي وزملائه، هما المفكر الإسلامي المستشار [[عبد الله العقيل]]، ود. [[جابر قميحة]] - أستاذ الأدب العربي - إلى المساهمة في تعميق الرؤية، وتجديد الوعي بعطاء الشيخ المجدد وسط حالة التخبط الفكري التي تعيشها الأمة، مع تسليط الضوء على زوايا الإبداع الأدبي في تراثه وملامح أسلوبه الشعري وخصائصه، مما يثري المكتبة العربية، ويسهم في إبقاء مشاعل النهضة والانطلاق الحضاري على قاعدة القرآن والسنة.


'''ومن يومها أطلق الإمام [[حسن البنا]] على الشيخ الغزالي لقب ” أديب الدعوة ”.'''
والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل.


الناشر


==الداعية الأديب الشيخ محمد الغزالي .. بقلم/ المستشار [[عبدالله العقيل]]==


== في ميدان الدعوة والفكر ==
===تمهيد===


[[ملف:gha.gif|تصغير]]
حين أكتب عن الشيخ محمد الغزالي السقا، فإنما أكتب من خلال معرفتي به عن قرب، ومعايشتي له، وقراءتي وسماعي له، وهذا بعض حقه عليّ، وشيء من الوفاء لمن تتلمذت على يديه، وهي ذكريات وخواطر مضى على بعضها قرابة نصف قرن، وقد سبقني للكتابة عنه في حياته وبعد مماته الكثير من [[الإخوان]] الذين يعرفون قدر الغزالي ومنزلته، وعلى رأسهم العلاَّمة الدكتور [[يوسف القرضاوي]] الذي كان أكثر قربًا، وأطول رفقة.
كان الميدان الذي خُلق له الشيخ الغزالي هو مجال الدعوة إلى الله على بصيرة ووعي، مستعينا بقلمه ولسانه؛ فكان له باب ثابت في مجلة الإخوان المسلمين تحت عنوان "خواطر حية" جلَّى قلمه فيها عن قضايا [[الإسلام]] ومشكلات المسلمين المعاصرة، وقاد حملات صادقة ضد الظلم الاجتماعي وتفاوت الطبقات وتمتُّع أقلية بالخيرات في الوقت الذي يعاني السواد الأعظم من شظف العيش.


ثم لم يلبث أن ظهر أول مؤلفات الشيخ الغزالي بعنوان "[[الإسلام]] والأوضاع الاقتصادية" سنة (1367هـ = [[1947]] م) أبان فيه أن للإسلام من الفكر الاقتصادي ما يدفع إلى الثروة والنماء والتكافل الاجتماعي بين الطبقات، ثم أتبع هذا الكتاب بآخر تحت عنوان "[[الإسلام]] والمناهج الاشتراكية"، مكملا الحلقة الأولى في ميدان الإصلاح الاقتصادي، شارحا ما يراد بالتأمين الاجتماعي، وتوزيع الملكيات على السنن الصحيحة، وموضع الفرد من الأمة ومسئولية الأمة عن الفرد، ثم لم يلبث أن أصدر كتابه الثالث "[[الإسلام]] المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين".
===معرفتي به===


والكتب الثلاثة تبين في جلاء جنوح الشيخ إلى الإصلاح في هذه الفترة المبكرة، وولوجه ميادين في الكتابة كانت جديدة تماما على المشتغلين بالدعوة والفكر الإسلامي، وطرْقه سبلا لم يعهدها الناس من قبله، وكان همُّ معظم المشتغلين بالوعظ والإرشاد قبله الاقتصار على محاربة البدع والمنكرات.
عَرفتُ أستاذنا الغزالي من خلال ما كنت أقرأ له من مقالات في [[جريدة الإخوان المسلمين|مجلة الإِخوان المسلمون]]) التي كانت تصل إلينا بمكتبة [[الإخوان المسلمين]] في الزبير سنة [[1946]]م.


ولمَّا قـدمت إلى [[مصر]] للدراسة الجامعية سنة [[1949]]م، تعـرّفت إليـه عن طـريق الإخوة الزملاء: [[مناع القطان]]، و[[محمد بكري]]، و[[يوسف القرضاوي]]، و[[يعقوب عبد الوهاب]]، و[[أحمد العسال]]، و[[محمد الصفطاوي]]، و[[محمد الدمرداش]]، والحاج [[وهبة حسن وهبة]].


== في المعتقل ==
كانت لنا مع شيخنا الغزالي لقاءات متكررة كثيرة يزودنا فيها بالعلم النافع، ويثير في نفوسنا الحماس للعمل في سبيل الله والمستضعفين، ويبصرنا بمكائد الأعداء في الداخل والخارج، ويكشف مخططاتهم الماكرة لحرب [[الإسلام]] والمسلمين، ويفضح دعاوى الشيوعية والعلمانية والماسونية والإلحاد والوجودية والصليبية والصهيونية، ويحذِّرنا من التحالف المشؤوم بين قوى الشر ضد [[الإِسلام]] ودعاته، ويوضح لنا سبل التصدي لمقاومة هذه الهجمة الشرسة من قوى الكفر مجتمعة.


ظل الشيخ يعمل في مجال الدعوة حتى ذاعت شهرته بين الناس لصدقه وإخلاصه وفصاحته وبلاغته، حتى هبّت على جماعة "[[الإخوان المسلمين]]" رياح سوداء؛ فصدر قرار بحلها في (صفر 1368هـ = ديسمبر [[1948]] م) ومصادرة أملاكها والتنكيل بأعضائها، واعتقال عدد كبير من المنضمين إليها، وانتهى الحال باغتيال مؤسس الجماعة تحت بصر الحكومة وبتأييدها، وكان الشيخ الغزالي واحدا ممن امتدت إليهم يد البطش والطغيان، فأودع معتقل الطور مع كثير من إخوانه، وظل به حتى خرج من المعتقل في سنة (1369هـ = [[1949]] م) ليواصل عمله، وهو أكثر حماسا للدعوة، وأشد صلابة في الدفاع عن [[الإسلام]] وبيان حقائقه.
إن أستاذنا الشيخ الغزالي داعية متوقد الذهن، جياش العاطفة، عميق الإيمان، مرهف الإحساس، قوي العزم، شديد المراس، بليغ العبارة، يتأثر ويؤثر، حلو المعشر، رقيق القلب، كريم الطبع... يلمس هذا فيه كل من عاش معه، أو رافقه أو التقاه، فهو لا يحب التكلف، ويكره التعالم والتحذلق، يعيش الواقع بكل مشكلاته، ويتصدى للمعضلات، ويكشف الحقائق، ويدق جرس الخطر؛ ليحذر الأمة من الوقوع في المهالك والسقوط في الهاوية التي يقود إليها شياطين الإنس والجن في الشرق والغرب على حدٍّ سواء.


ولم ينقطع قلمه عن كتابة المقالات وتأليف الكتب، وإلقاء الخطب والمحاضرات، وكان من ثمرة هذا الجهد الدؤوب أن صدرت له جملة من الكتب كان لها شأنها في عالم الفكر مثل: "[[الإسلام]] والاستبداد السياسي" الذي انتصر فيه للحرية وترسيخ مبدأ الشورى، وعدّها فريضة لا فضيلة، وملزِمة لا مُعْلِمة، وهاجم الاستبداد والظلم وتقييد الحريات، ثم ظهرت له تأملات في: الدين والحياة، وعقيدة المسلم، وخلق المسلم.
والشيخ الغزالي من أعلام [[الإسلام]] في العصر الحديث، وهو داعية قل نظيره في العالم الإسلامي اليوم، يتمتع ببديهة حاضرة، وديباجة مشرقة تأخذ بمجامع القلوب، حتى إنني كنت أحفظ مقاطع بل صفحات كاملة من كتبه، وأرتجلها في الخطب بنصها، وقد ذكر ذلك الدكتور [[محمود القرضاوي|القرضاوي]] في كتابه ([[الشيخ الغزالي كما عرفته]]) فقال: «أذكر أن الأخ [[عبد الله العقيل]] حين كان يدرس في كلية الشريعة ب[[الأزهر]] في أوائل الخمسينيات، كان يحفظ مقدمة الطبعة الثانيـة لكتاب ([[الإسلام والأوضاع الاقتصاديـة]]) ومطلعها: لم تستذلّ شعوب كما استذلت شعوب الشرق، ولم يُستغل شيء في هضم حقوقها كما استغلّ الدين.. إلخ» انتهى.


=== لقاؤه الندوي ===


== من هنا نعلم ==
يقول الشيخ [[أبو الحسن الندوي]] في كتابه القيِّم ([[مذكرات سائح في الشرق العربي]]): «كنت حريصًا على الاجتماع بالشيخ محمد الغزالي الذي حدثني عنه الطالب [[عبد الله العقيل]] وأثنى عليه بصفة خاصة وأهداني بعض مؤلفاته، فهو من شخصيات [[الإخوان المسلمين]] البارزة، وأحد كتَّاب النهضة الدينية ب[[مصر]]، وقابلت مؤلف ([[الإسلام والأوضاع الاقتصادية]]) و([[الإسلام والمناهج الاشتراكية]]) و([[الإسلام المفترى عليه]]) و ([[من هنا نعلم]])، قابلت الرجل الذي يغذي [[جماعة الإِخوان المسلمين]] بالغذاء الفكري والروحي الصحيح والأدب الإِسلامي الدسم، وسررت لهذه المقابلة؛ لأني رأيت فيه رجلاً صالحًا مثقفًا نشيطًا صاحب قلب حيٍّ وعقل نيِّر، ووجه يفيض بالبشر، ورأيت أن كلاً منا يعرف صاحبه عن طريق الكتب والرسائل ويرى في هذه الكتب صورة أفكاره ومبادئه...» انتهى.


وفي هذه الفترة ظهر كتاب للأستاذ خالد محمد خالد بعنوان "من هنا نبدأ"، زعم فيه أن [[الإسلام]] دين لا دولة، ولا صلة له بأصول الحكم وأمور الدنيا، وقد أحدث الكتاب ضجة هائلة وصخبا واسعا على صفحات الجرائد، وهلل له الكارهون للإسلام، وأثنوا على مؤلفه، وقد تصدى الغزالي لصديقه خالد محمد خالد، وفند دعاوى كتابه في سلسلة مقالات، جُمعت بعد ذلك في كتاب تحت عنوان "من هنا نعلم".
=== مولده ونشأته ومشايخه ===


ويقتضي الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ خالد محمد خالد رجع عن كل سطر قاله في كتابه "من هنا نبدأ"، وألّف كتابا آخر تحت عنوان "دين ودولة"، مضى فيه مع كتاب الغزالي في كل حقائقه.
ولد شيخنا الغزالي في يوم [[1917]]/22/9م في قرية (نكلا العنب) من إيتاي البارود بمحافظة [[البحيرة]] ب[[مصر]].


ثم ظهر له كتاب "التعصب والتسامح بين المسيحية و[[الإسلام]]"، وقد ألفه على مضض؛ لأنه لا يريد إثارة التوتر بين عنصري الأمة، ولكن ألجأته الظروف إلى تسطيره ردًّا على كتاب أصدره أحد الأقباط، افترى فيه على [[الإسلام]]. وقد التزم الغزالي الحجة والبرهان في الرد، ولم يلجأ إلى الشدة والتعنيف، وأبان عن سماحة [[الإسلام]] في معاملة أهل الكتاب، وتعرض للحروب الصليبية وما جرّته على الشرق الإسلامي من شرور وويلات، وما قام به الأسبانيون في القضاء على المسلمين في الأندلس بأبشع الوسائل وأكثرها هولا دون وازع من خلق أو ضمير.
ونشأ في أسرة محافظة يغلب عليها العمل بالتجارة، وكان والده من حفظة القرآن الكريم، وقد نشأ الابن على ذلك، فحفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات، وتـلقى تعليمه في كتّاب القرية، ثم التحق بالمعهد الـديني ب[[الإسكندرية]]، حيث أكمل المرحلتين الابتدائية والثانوية، ثم انتقل إلى [[القاهرة]]، ودرس بكلية أصول الدين سنة 1357هـ  [[1937]]م، وحصل على الشهادة العالمية سنة 1361هـ  [[1941]]م، ثم تخصص في الدعوة والإرشاد، حيث نال شهادة الماجستير 1362هـ  [[1943]]م، وتزوج وهو طالب بكلية أصول الدين ورزق بتسعة من الأولاد.


من أهم مشايخه الذين تأثر بهم فترة الدراسة: الشيخ [[عبد العزيز بلال]]، والشيخ [[إبراهيم الغرباوي]]، والشيخ [[عبد العظيم الزرقاني]] وغيرهم.


== الغزالي و[[عبد الناصر]] ==
===عمله===


بعد قيام ثورة [[1952]] م ، ونجاح قادتها في إحكام قبضتهم على البلاد، تنكروا لجماعة [[الإخوان المسلمين]] التي كانت سببا في نجاح الثورة واستقرارها، ودأبوا على إحداث الفتنة بين صفوفها، ولولا يقظة المرشد الصلب "[[حسن الهضيبي]]" وتصديه للفتنة لحدث ما لا تُحمد عقباه، وكان من أثر هذه الفتنة أن شب نزاع بين الغزالي والإمام المرشد، انتهى بفصل الغزالي من الجماعة وخروجه من حظيرتها.
بعد تخرّجه عمل إمامًا وخطيبًا في مسجد (العتبة الخضراء) ثم تدرّج في الوظائف حتى صار مفتشًا في المساجد، ثم واعظًا ب[[الأزهر]] ثم وكيلاً لقسم المساجد، ثم مديرًا للمساجد، ثم مديرًا للتدريب فمديرًا للدعوة والإرشاد.  


وقد تناول الغزالي أحداث هذا الخلاف، وراجع نفسه فيه، وأعاد تقدير الموقف، وكتب في الطبعة الجديدة من كتابه "من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث"، وهو الكتاب الذي دوّن فيه الغزالي أحداث هذا الخلاف فقال: "لقد اختلفت مع المغفور له الأستاذ [[حسن الهضيبي]] ، وكنت حادّ المشاعر في هذا الخلاف؛ لأني اعتقدت أن بعض خصومي أضغنوا صدر الأستاذ [[حسن الهضيبي]] لينالوا مني، فلما التقيت به –عليه رحمة الله- بعد أن خرج من المعتقل تذاكرنا ما وقع، وتصافينا، وتناسينا ما كان. واتفقت معه على خدمة الدعوة الإسلامية، وعفا الله عما سلف". وهذا مما يحسب للغزالي، فقد كان كثير المراجعة لما يقول ويكتب، ولا يستنكف أن يؤوب إلى الصواب ما دام قد تبين له، ويعلن عن ذلك في شجاعة نادرة لا نعرفها إلا في الأفذاذ من الرجال.
وقد قضى في معتقل الطور سنة 1369هـ  [[1949]]م، حوالي السنة، وقضى في سجن طرة عام 1385هـ  [[1965]]م فترة من الزمن.  


وفي سنة 1391هـ  [[1971]]م أعير للمملكة العربية [[السعودية]] أستاذًا في (جامعة أم القرى) بمكة المكرمة، ودرّس في كلية الشريعة بقطر، وفي سنة 1401هـ  [[1981]]م، عُيِّن وكيلاً لوزارة الأوقاف ب[[مصر]]، كما تولى رئاسة المجلس العلمي لجامعة الأمير [[عبد القادر الجزائري]] الإسلامية ب[[الجزائر]] لمدة خمس سنوات وكانت آخر مناصبه.


وظل الشيخ في هذا العهد يجأر بالحق ويصدع به، وهو مغلول اليد مقيد الخطو، ويكشف المكر السيئ الذي يدبره أعداء [[الإسلام]] ، من خلال ما كتب في هذه الفترة الحالكة السواد مثل: "كفاح دين"، "معركة المصحف في العالم الإسلامي"، و"حصاد الغرور"، و"[[الإسلام]] والزحف الأحمر".
===أول معرفته ب[[الإمام البنا]]===


ويُحسب للغزالي جرأته البالغة وشجاعته النادرة في بيان حقائق [[الإسلام]] ، في الوقت الذي آثر فيه الغالبية من الناس الصمت والسكون؛ لأن فيه نجاة حياتهم من هول ما يسمعون في المعتقلات. ولم يكتفِ بعضهم بالصمت المهين بل تطوع بتزيين الباطل لأهل الحكم وتحريف الكلم عن مواضعه، ولن ينسى أحد موقفه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عُقد سنة (1382هـ = [[1962]] م) حيث وقف وحده أمام حشود ضخمة من الحاضرين يدعو إلى استقلال الأمة في تشريعاتها، والتزامها في التزيِّي بما يتفق مع الشرع، وكان لكلام الغزالي وقعه الطيب في نفوس المؤمنين الصامتين في الوقت الذي هاجت فيه أقلام الفتنة، وسلطت سمومها على الشيخ الأعزل فارس الميدان، وخرجت جريدة "الأهرام" عن وقارها وسخرت من الشيخ في استهانة بالغة، لكن الأمة التي ظُن أنها قد استجابت لما يُدبَّر لها خرجت في مظاهرات حاشدة من الجامع الأزهر، وتجمعت عند جريدة الأهرام لتثأر لكرامتها وعقيدتها ولكرامة أحد دعاتها ورموزها، واضطرت جريدة الأهرام إلى تقديم اعتذار.
'''وعن صلته ب[[الإمام الشهيد]] [[حسن البنا]]، يروي الأستاذ [[محمد المجذوب]] في كتابه ([[علماء ومفكرون عرفتهم]]) على لسان الغزالي قوله:'''


«... كان ذلك أثناء دراستي الثانوية في المعهد الديني ب[[الإسكندرية]]، وكان من عادتي ملازمة مسجد عبد الرحمن بن هرمز في منطقة رأس التين بعد المغرب من كل يوم لمذاكرة الدروس، وذات مساء، وإذا ب[[الإمام البنا]] يلقي على الناس موعظة قصيرة شارحًا فيها الحديث الشريف: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، وكان حديثًا مؤثرًا يتصل بأعماق القلب، فما إن فرغ منه حتى وجدت نفسي مشدود القلب إليه، ومنذ تلك الساعة توثقت علاقتي به، ومضيت معه عقب صلاة العشاء إلى مجلس يضم بعض رجال الدعوة، ثم استمر عملي في ميدان الكفاح الإسلامي مع هذا الداعية العملاق إلى أن استشهد سنة 1369هـ  [[1949]]م» انتهى.


== في عهد [[السادات]] ==
===علاقة الغزالي بمرشدي [[الإخوان المسلمين]]===


[ملف:ملف:تن.gif|تصغير]]
وكتب الغزالي في مقدمة كتابه ([[دستور الوحدة الثقافية للمسلمين]]) فقال: «... مُلْهم هذا الكتاب وصاحب موضوعه الأستاذ [[الإمام حسن البنا]]، الذي أصفه ويصفه معي كثيرون، بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة. فقد وضع [[الإمام البنا]] جملة من المبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم من خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء بيد آسية، وعين لماحة، فلا تدع سببًا لضعف أو خمول...» انتهى.
واتسعت دائرة عمل الشيخ في عهد الرئيس السادات، وبخاصة في الفترات الأولى من عهده التي سُمح للعلماء فيها بشيء من الحركة، استغله الغيورون من العلماء؛ فكثفوا نشاطهم في الدعوة، فاستجاب الشباب لدعوتهم، وظهر الوجه الحقيقي لمصر. وكان الشيخ الغزالي واحدًا من أبرز هؤلاء الدعاة، يقدمه جهده وجهاده ولسانه وقلمه، ورزقه الله قبولا وبركة في العمل؛ فما كاد يخطب الجمعة في جامع "عمرو بن العاص" -وكان مهملا لسنوات طويلة- حتى عاد إليه بهاؤه، وامتلأت أروقته بالمصلين.


ولم يتخلَّ الشيخ الغزالي عن صراحته في إبداء الرأي ويقظته في كشف المتربصين بالإسلام، وحكمته في قيادة من ألقوا بأزمّتهم له، حتى إذا أعلنت الدولة عن نيتها في تغيير قانون الأحوال الشخصية في مصر، وتسرب إلى الرأي العام بعض مواد القانون التي تخالف الشرع الحكيم؛ قال الشيخ فيها كلمته، بما أغضب بعض الحاكمين، وزاد من غضبهم التفاف الشباب حول الشيخ، ونقده بعض الأحوال العامة في الدولة، فضُيق عليه وأُبعد عن جامع عمرو بن العاص، وجُمّد نشاطه في الوزارة، فاضطر إلى مغادرة مصر إلى العمل في جامعة "أم القرى" بالمملكة العربية السعودية، وظل هناك سبع سنوات لم ينقطع خلالها عن الدعوة إلى الله، في الجامعة أو عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
وعن الأستاذ [[حسن الهضيبي]] المرشد الثاني [[للإخوان المسلمين]]، كتب الغزالي يقول: «... من حق الرجل أن أقول عنه: إنه لم يسع إلى قيادة [[الإخوان المسلمين]]، ولكن [[الإخوان]] هم الذين سعوا إليه، ومن حقه أن يعرف الناس عنه، أنه تحمل بصلابة وبأس كل ما نزل به، فلم يجزع ولم يتراجع، وبقي في شيخوخته المثقلة عميق الإيمان واسع الأمل حتى خرج من السجن.


الحق يُقال إن صبره الذي أعز الإيمان، رفعه في نفسي، وإن المآسي التي نزلت به وبأسرته، لم تفقده صدق الحكم على الأمور، ولم تبعده عن منهج الجماعة الإسلامية منذ بدأ تاريخها. وقد ذهبت إليه بعد ذهاب محنته وأصلحت ما بيني وبينه، ويغفر الله لنا أجمعين» انتهى.


== في [[الجزائر]] ==
وعن الأستاذ [[عمر التلمساني]] المرشد الثالث [[للإخوان المسلمين]] كتب الغزالي يقول: «... في سنة 1369هـ  [[1949]]م، ونحن في معتقل الطور مع الألوف من [[الإخوان]] بعد استشهاد [[الإمام حسن البنا]]، رأيت الأستاذ [[عمر التلمساني]] في خطواته الوئيدة، ونظراته الهادئة، يمشي في رمال المعتقل باسمًا متفائلاً، يُصبِّر [[الإخوان]] على لأواء الغربة وقسوة النفي ويؤمل الخير في المستقبل، ورأيتني أمام رجل من طراز فذ، تحرِّكه في الدنيا مشاعر الحب والسلام، وكان يكره الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويؤثر العزلة، ويرى أنسه في الانقطاع إلى الله، ولم تكن رذائل الرياء والتطلع تعرف طريقًا إلى فؤاده، ذهبت إليه لأتعاون معه في خدمة الإسلام، فقال لي: تعلم أن هذا عبء ثقيل تحملته برغمي وقبلته وأنا كاره؟! قلت: نعم أعلم ذلك، فأنت ما سعيت إلى صدارة، ولا تطلعت إلى إمارة، ومثلك جدير برعاية الله وتسديده..» انتهى.


ثم انتقل الشيخ الغزالي إلى [[الجزائر]] ليعمل رئيسا للمجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسطنطينة، ولم يقتصر أثر جهده على تطوير الجامعة، وزيادة عدد كلياتها، ووضع المناهج العلمية والتقاليد الجامعية، بل امتد ليشمل [[الجزائر]] كلها؛ حيث كان له حديث أسبوعي مساء كل يوم إثنين يبثه التلفاز، ويترقبه الجزائريون لما يجدون فيه من معانٍ جديدة وأفكار تعين في فهم الإسلام والحياة. ولا شك أن جهاده هناك أكمل الجهود التي بدأها زعيما الإصلاح في الجزائر: عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، ومدرستهما الفكرية.
هذا الذي قاله الغزالي عن [[الإمام البنا]] ثم [[حسن الهضيبي|الهضيبي]] ثم [[عمر التلمساني|التلمساني]] يكشف لنا عن نفسية الشيخ الغزالي وأصالته ونفاسة معدنه.


ويقتضي الإنصاف القول بأن الشيخ كان يلقى دعما وعونا من رئيس الدولة الجزائرية "الشاذلي بن جديد"، الذي كان يرغب في الإصلاح، وإعادة [[الجزائر]] إلى عروبتها بعد أن أصبحت غريبة الوجه واللسان.
===شهادات بحق الغزالي===


وبعد السنوات السبع التي قضاها في الجزائر عاد إلى مصر ليستكمل نشاطه وجهاده في التأليف والمحاضرة حتى لقي الله وهو في الميدان الذي قضى عمره كله، يعمل فيه في (19 من شوال 1270هـ = 9 من مارس [[1996]] م) ودفن بالبقيع في المدينة المنورة.
وحسبه فخرًا واعتزازًا أن يتلقى وهو في مرحلة الشباب الرسالة التالية من الإِمام [[حسن البنا]] سنة [[1945]]م وهذا نصها: «... أخي العزيز الشيخ محمد الغزالي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، قرأتُ مقالك ([[الإخوان المسلمون]] والأحزاب) في العدد الأخير من [[جريدة الإخوان المسلمين|مجلة الإِخوان المسلمون]]) فطربت لعبارته الجزلة، ومعانيه الدقيقة، وأدبه العف الرصين، هكذا يجب أن تكتبوا أيها [[الإخوان المسلمون]]، اكتب دائمًا وروح القدس يؤيدك، والله معك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، [[حسن البنا]]» انتهى.


يقول د. [[عبد الصبور شاهين]]: «... ما أكتبه هنا شرف لي قبل أن يكون تقديمًا للكتاب، والحق أن كتابًا يوضع على غلافه اسم الأستاذ الغزالي لا يحتاج إلى تقديم، فحسبه في تقديري أن يتوج بهذا العلم الخفاق وقد قرأت الدنيا له عشرات الكتب في [[الإسلام]] ودعوته، وتلقت عنه ما لم تتلق عن أحد من معاصريه، حتى إن عصرنا هذا يمكن أن يطلق عليه في مجال الدعوة عصر الأستاذ الغزالي» انتهى.


== الغزالي بين رجال الإصلاح ==
ويقول الأستاذ [[عمر عبيد حسنة]] ـ مدير تحرير مجلة الأمة القطرية ـ: «... كتابات الشيخ الغزالي تحمل عاطفة الأم على وليدها المريض، الذي تخشى أن يفترسه المرض، وبصيرة الطبيب الذي يقدم العلاج، وقد يكون العلاج جراحة عضوية إن احتاج الأمر إلى ذلك، وكانت كتبه تواجه التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء، ونجد الشيخ الغزالي في الخندق الأول، حيث أدرك الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها أعداء الإسلام» انتهى.


يقف الغزالي بين دعاة الإصلاح كالطود الشامخ، متعدد المواهب والملكات، راض ميدان التأليف؛ فلم يكتفِ بجانب واحد من جوانب الفكر الإسلامي؛ بل شملت مؤلفاته: التجديد في الفقه السياسي ومحاربة الأدواء والعلل، والرد على خصوم [[الإسلام]] ، والعقيدة والدعوة والأخلاق، والتاريخ والتفسير والحديث، والتصوف وفن الذكر. وقد أحدثت بعض مؤلفاته دويًّا هائلا بين مؤيديه وخصومه في أخريات حياته مثل كتابيه: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" و"قضايا المرأة المسلمة".
ويقول الأستاذ [[قطب عبد الحميد قطب]]: «إنني واحد من عشرات الألوف المؤلفة التي تعشق من أعماق قلوبها الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي.. وأشهد أن حبي لهذا العالم الكبير والداعية الشهير أكبر من حبي لنفسي، فهو من القلة النادرة التي تربّى على علمها وفضلها أكثر من جيل، لا في [[مصر]] وحدها، ولكن في كثير من البلدان العربية والإسلامية، كيف لا وهو الذي تربى في أحضان الدعوة ورضع من لبانها وتتلمذ على جهابذة العلم وأساتذة الفكر وأساطين الدعوة، وعلى رأسهم [[الإمام الشهيد]] [[حسن البنا]]» انتهى.


وكان لعمق فكره وفهمه للإسلام أن اتسعت دائرة عمله لتشمل خصوم [[الإسلام]] الكائدين له، سواء أكانوا من المسلمين أو من غيرهم، وطائفة كبيرة من كتبه تحمل هذا الهمّ، وتسد تلك الثغرة بكشف زيغ هؤلاء، ورد محاولاتهم للكيد للإسلام.
ويقول د. [[عبد الستار فتح الله سعيد]]: «.. لا ينسى تاريخ [[الإسلام]]، ما قام له الأئمة الأعلام من جهد ناصب لرد الغارة الجاهلية العارمة، وحشد الأمة حول معالم [[الإسلام]] الشامل، الذي لا يقبل التجزئة والتفريق، ولقد قامت أفواج متلاحقة تذود عن معالم الوحي والحق، وفي ظلال المدرسة الربانية المجاهدة التي أسسها [[الإمام الشهيد]] [[حسن البنا]] تربى شيخنا محمد الغزالي وحمل أعباء الدعوة مع رجالها الكبار، ثم صار ـ بفضل الله ـ علمًا من أعلامها، ومضى يرفع لواءها شامخًا في وجه الاستبداد والإلحاد، ويذود عن شرف [[الإسلام]] بقلمه ولسانه، ويجلي حقائق الوحي الأعلى، ويقارع الجاهلية الطامسة يوم ضرب الطغيان على أمتنا ليلاً بهيمًا» انتهى.


أما الجبهة الأخرى التي شملتها دائرة عمله فشملت بعض المشتغلين بالدعوة الذين شغلوا الناس بالفروع عن الأصول وبالجزئيات عن الكليات، وبأعمال الجوارح عن أعمال القلوب، وهذه الطائفة من الناس تركزت عليهم أعمال الشيخ وجهوده؛ لكي يفيقوا مما هم فيه من غفلة وعدم إدراك، ولم يسلم الشيخ من ألسنتهم، فهاجموه في عنف، ولم يراعوا جهاده وجهده، ولم يحترموا فكره واجتهاده، لكن الشيخ مضى في طريقه دون أن يلتفت إلى صراخهم.
أما شيخ [[الأزهر]] الدكتور [[عبد الحليم محمود]]، فقد كان يقدِّر الشيخ الغزالي ويعـرف له حقـه وفضـله، ويفخر به ويعتز ويقول: «ليس لـدينا إلاَّ غزالي الأحـياء والإحياء» يعني الغزالي المعاصر، والغزالي أبا حامد صاحب إحياء علوم الدين.


وتضمنت كتبه عناصر الإصلاح التي دعا إليها على بصيرة؛ لتشمل تجديد الإيمان بالله وتعميق اليقين بالآخرة، والدعوة إلى العدل الاجتماعي، ومقاومة الاستبداد السياسي، وتحرير المرأة من التقاليد الدخيلة، ومحاربة التدين المغلوط، وتحرير الأمّة وتوحيدها، والدعوة إلى التقدم ومقاومة التخلف، وتنقية الثقافة الإسلامية، والعناية باللغة العربية.
لقد استفاد شباب الصحوة الإسلامية المباركة من علم الشيخ الغزالي وجرأته وصراحته، وصدقه ووضوحه، وكان له تلامذة في [[الأزهر]] في [[مصر]] وفي أم القرى في مكة المكرمة وفي كلية الشريعة في [[قطر]] وفي جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في [[الجزائر]]، ومن خلال: الخطب، والدروس، والمحاضرات، والندوات، والكتب، والمقالات، والاجتماعات والمؤتمرات.


واستعان في وسائل إصلاحه بالخطبة البصيرة، التي تتميز بالعرض الشافي، والأفكار الواضحة التي يعد لها جيدا، واللغة الجميلة الرشيقة، والإيقاع الهادئ والنطق المطمئن؛ فلا حماسة عاتية تهيج المشاعر والنفوس، ولا فضول في الكلام يُنسي بضعه بعضا، وهو في خطبه معلِّم موجه، ومصلح مرشد، ورائد طريق يأخذ بيد صاحبه إلى بَر الأمان، وخلاصة القول أنه توافرت للغزالي من ملكات الإصلاح ما تفرق عند غيره؛ فهو: مؤلف بارع، ومجاهد صادق، وخطيب مؤثر، وخبير بأدواء المجتمع بصير بأدويته.
وهؤلاء التلامذة يعدون بالألوف من أنحاء العالم الإسلامي، وهم أوفياء لدعوة [[الإسلام]] حملوا الراية مع أستاذهم وشيخهم وانطلقوا يبلغون دعوة الله وينشرون رسالة [[الإسلام]] ويقودون الأمة إلى مواطن الخير والفلاح والنصر والنجاح.


وقد برز منهم أساتذة كبار وعلماء فحول، تقرّ بهم العيون وتعلّق عليهم الآمال، ومن هؤلاء: العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ منَّاع القطان، والشيخ محمد الراوي، والدكتور أحمد العسَّال.. وغيرهم.


== إنتاجه العلمي ==
===إنتاجه العلمي===


[[ملف:هن.gif|تصغير]]
إن لشيخنا الغزالي مؤلفات كثيرة جاوزت الستين كتابًا في موضوعات مختلفة، بالإضافة للمحاضرات والندوات والخطب والمواعظ والدروس والمناظرات التي كان يلقيها داخل [[مصر]] وخارجها، وإن خطبه في الجامع [[الأزهر]] وجامع عمرو بن الـعاص وخطب العيد في ميدان عابدين وجامع مصطفى محمود.. لها شأن عظيـم وأثر بـالغ كبير، حيث كان يحضرهـا الألوف من الناس.
إن لشيخنا الغزالي مؤلفات كثيرة جاوزت الستين كتاباً في مواضيع مختلفة، بالإضافة للمحاضرات والندوات والخطب والمواعظ والدروس والمناظرات التي كان يلقيها داخل مصر وخارجها، وإن خطبه في الجامع الأزهر وجامع عمرو بن العاص لها شأن عظيم وأثر بالغ كبير، حيث كان يحضرها الألوف من الناس، ومن أهم مؤلفاته التي طبعت أكثر من مرة في مصر وخارجها:


===مؤلفاته===


== أهم مؤلفاته ==
[[ملف:14-الشيخ-محمد-الغزالي.jpg|تصغير|250px|يسار|'''<center>الشيخ [[محمد الغزالي]]</center>''']]


#[[الإسلام]] والأوضاع الاقتصادية
#[[الإسلام]] والأوضاع الاقتصادية
سطر ١٨٦: سطر ١٦٥:
#في موكب الدعوة... إلخ.
#في موكب الدعوة... إلخ.


ولقد ترجم الكثير من هذه المؤلفات القيمة إلى العديد من اللغات كالإنجليزية والتركية والفارسية والأوردية والإندونيسية وغيرها.
ولقد تُرجم الكثير من هذه المؤلفات القيمة إلى العديد من اللغات، كالإنجليزية والتركية والفارسية والأوردية والإندونيسية وغيرها. ومعظم الذين قاموا بهذه التراجم هم من تلامذة الشيخ الغزالي ومحبيه وعارفي فضله الذين استفادوا من فيض علمه وعطائه.
 
===صفاته===
 
'''يقول العلاَّمة الدكتور [[يوسف القرضاوي|القرضاوي]]:'''
 
«قد تخالف الغزالي أو يخالفك في قضايا تصغر أو تكبر وتقل أو تكثر، ولكنك ـ إذا عرفته حق المعرفة ـ لا تستطيع إلا أن تحبه وتقدِّره، لما تحسه من إخلاص لله، وتجرد للحق واستقامة في الاتجاه، وغيرة صادقة على [[الإسلام]].
 
صحيح أنه أُخذ على الشيخ أنه سريع الغضب، وأنه إذا غضب هاج كالبحر حتى يغرق، وثار كالبركان حتى يُحرق، وسر هذا أن الرجل يبغض الظلم والهوان لنفسه وللناس، ولا يحب أن يَظلم أو يُظلم، ولا أن يستخف بكرامة أحد، كما لا يستخف بكرامته أحد، كما أنه لا يطيق العوج والانحراف، وبخاصة إذا لبس لبوس الاستقامة، أو تستر بزي الدين، فهو الذي يقاتله سرًا وعلانية.
 
ثم إن من صفات الشيخ الغزالي أنه ـ إن كان سريع الغضب ـ فهو سريع الفيء، رجاع إلى الحق إذا تبيَّن له، ولا يبالي أن يعلن خطأه على الناس علانية، وهذه شجاعة لا تتوافر إلاَّ للقليل النادر من الناس.. فهو شجاع عندما يهاجم ما يعتقده خطأ، شجاع عندما يعترف بأنه لم يحالفه الصواب فيما كان قد رآه.
 
قد يأخذ الناس على الشيخ الغزالي بعض آرائه وفتاويه؛ لأنها ليست على مشربهم ولكن الذي أعلمه أن الشيخ الغزالي لم يخرج في فتوى أو رأي على إجماع الأمة المستيقن، وقد اتُّهم شيخ الإسلام ابن تيمية قديمًا بأنه خرق الإجماع في قضايا الطلاق، وما يتعلق به، وهي التي قال فيها تلميذه الحافظ الذهبي: «وله فتاوى نيل من عرضه بسببها وهي مغمورة في بحر علمه».
 
والغزالي يعترف بالفضل لإخوانه وزملائه أمثال الشيخ سيد سابق والشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ زكريا الزوكة والشيخ [[إسماعيل حمدي]] وغيرهم.
 
بل كان يُخجلني بقوله أمام الملأ: (اسألوا [[يوسف القرضاوي]] فهو أولى مني، لقد كان فيما مضى تلميذي، وأما اليوم فأنا تلميذه). وهذه منزلة لا يرقى إليها إلا الصادقون» انتهى.
 
لقد كثرت لقاءاتي مع الشيخ الغزالي وتعددت منذ التقيته أول مرة ب[[مصر]] سنة [[1949]]م وإلى أن لقي ربه.
 
فقد زار [[الكويت]] أكثر من مرة وخطب وحاضر، وسعدنا به في الندوة الأسبوعية مساء الجمعة وكانت آخر ندوة له هي التي شاركه فيها الشيخ عبد العزيز المطوع والدكتور عصام البشير، كما كانت زياراتي له بالقاهرة أكثر من مرة وآخرها قبل فترة وجيزة من وفاته.
 
ثم شاء الله أن يحضر مؤتمر الجنادرية ليشارك في ندوة ([[الإسلام]] والغرب) وكنت وقتها في زيارة لسورية بدمشق، فإذا بالأنباء توافينا بالخبر الذي زلزل كياني حزنًا على فقده، فهو شيخي وأستاذي وأنا مدين له بفضل كبير.
 
لقد كان الغزالي علمًا شامخًا، وداعية مجددًا، ومجاهدًا صلبًا، ومقاتلاً شجاعًا، وكاتبًا قمة في البلاغة والأدب قل نظيره في دنيا العروبة والإسلام، كما ذكر ذلك الأستاذ عبد العزيز عبد الله السالم في جريدة الرياض.
 
===من أقواله===
 
*"إن البركة هي رعاية السماء لعملك المتقن، فلا يخطئ هدفه ولا يفقد ثمرته.
 
*هي التوفيق لاستغلال الشيء على أحسن وجوهه، ووضع الأمور في مواضعها دون عناء أو عوج.
 
*هي الإفادة الكاملة من الوقت والمال، فلا يضيع هذا في لغو، ولا يضيع ذاك في باطل.
 
*البركة هي هداية الله للجهد الإنساني، فلا يذهب فريسة خطأ، ولا يفشل نتيجة غضب" ... كتاب "[[مع الله]]" طبعة دار القلم ص230
 
===وفاته===
 
وقد توفي في الرياض يوم [[1996]]/9/3م ـ 1416هـ ونُقل إلى المدينة المنورة، حيث دفن في مقابر البقيع. وكان لصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله ابن عبد العزيز آل سعود دوره المشكور في تقدير الرجل وتكريمه في حياته وبعد مماته ومواساة أسرته.
 
رحم الله شيخنا الجليل الشيخ محمد الغزالي السقا وجزاه الله عن [[الإسلام]] والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين، وحشرنا الله وإياه مع الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
 
==وقفة نقدية مع الشيخ محمد الغزالي - الأديب الشاعر .. بقلم/ الدكتور[[جابر قميحة]]==
 
في [[سبتمبر]] سنة [[1917]]م كان مولده، وفى [[مارس]] سنة [[1996]]م كان رحيله.. رحيله من دنيا الناس الفانية، إلى عالم البقاء في رحاب الله(1)، كان آخر ما سمعناه منه في [[مصر]] خطبة عيد الفطر سنة 1416هـ بمسجد مصطفى محمود ب[[الجيزة]].
 
فكان - كعهدنا به - متوهج العقل والمشاعر، معبرًا في صراحة وتفتح، وشباب وإيمان عن هموم المسلمين والعرب، وما حيك، ويحاك لهم من مؤامرات الظلم والعدوان.
 
وكان - يرحمه الله - يعالج القضايا الإسلامية والعربية والاجتماعية بالنظرة الشاملة الفاحصة الواعية، موزعًا نظره على كل الزوايا والمنحنيات والنتوءات، فلا يترك من «مساحة» الموضوع قيد أنملة إلا استوعبه، وعالجه.
 
وكان - يرحمه الله - يتمتع بقدرة خاصة على استدعاء الشواهد القرآنية والنبوية، والتاريخية، والعلمية، والإحصائية لتأييد آرائه وتدعيمها، ولكن بدون تعنت أو تعسف، أو افتئات، متحليًا في جدله بأدب [[الإسلام]] في أناة ووقار ولين ورحمة، ولكن دون أن يتخلى عن حماسة المتمكن، واستعلاء الإيمان.
 
حتى الذين هاجموا - في شدة وقسوة وتشنج - بعض مؤلفاته الأخيرة، وخصوصًا كتابه في السنّة، وطور بعضهم هجومه من «تجريح» ما كتب، إلى «تجريح من كتب»، حتى مع هؤلاء ظل عف القلم، عف اللسان، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى(2).
 
===بعض من أعطياته===
 
ومما يشهد له في هذا المقام موقفه من كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، لقد أحدث الكتاب ضجة كبرى؛ لأنه كان غاصًا بالغلط والمغالطات والهجوم الضاري على ثوابت [[الإسلام]]، منتصرًا للتوجهات والمذاهب الغربية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن هذا الهراء كان صادرًا من «عالم أزهري»، تصدى له الإمام محمد الغزالي سنة [[1950]]م بكتابه «[[من هنا نعلم]]»، وبعلمه الموسوعى الغزير، وقوة عارضته، استطاع أن ينقض كتاب خالد عروة عروة، وخيطًا خيطًا دون أن يخدش الرجل في خلقه وعقيدته، وبذلك استطاع الغزالي - بهذا الكتاب، وبما تلاه من كتب - أن يرسي أدب الإسلام في الجدل والمناظرة، والحوار، والتحدي، والتصدي(3).
 
ونشهد لأستاذنا الغزالي - كذلك - قدرته الفائقة على الربط بين القديم والحديث، وكان يؤمن بأن «الحديث» يجب ألا يرفض لحداثته «بدعوى أنه بدعة»، أو يرفض «لعلمانية» صاحبه، وإلا كنا ممن لا يعدلون لشنآن قوم، والتوجيه الإلهي الحق هو {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
 
وقبل البعثة حضر محمد – صلى الله عليه وسلم - في دار عبد الله بن جدعان حلفًا لنصرة المظلومين والمستضعفين هو «حلف الفضول»، وبعد أن بُعث نبينا أثنى على الحلف، وأعلن أنه لو دعى إليه في [[الإسلام]] لأجاب(4).
 
ومما يزيد على نصف قرن، وضع الغزالي أمامنا «الميزان الصحيح»، إذ كتب «... نحن نقول: إننا نحارب التدين الباطل بالتدين الصحيح، ونحارب الكهانة المنافقة ب[[الإسلام]] الحق، ونختبر كل ما يجد في الدنيا من أسماء وحقائق بما لدينا من كتاب وسنة، فما وافق مواريثنا المقدسة من كتاب الله وسنة رسوله قبلناه، وما جافاه نبذناه، ولا كرامة»(5).
 
ومن إبداع الغزالي - رحمه الله - تلك الخاطرة التي كان يكتبها أسبوعيًا في صحيفة «الشعب» بعنوان «هذا ديننا»، يعالج في كل منها قيمة من القيم الإسلامية الإنسانية، أو مشهدًا من مشاهد «انكسار المسلمين» أمام «الأكلة» من [[الصهيونية|الصهاينة]] والصليبية العالمية، ومن على دربهم سار، وقد تمثل خاطرته حملة على بدعة ضارة أو عادة اجتماعية خبيثة، أو ما دار في هذا الفلك، وكانت الخاطرة لا تزيد على ثلاث مئة كلمة، ولكنها كانت - بما تتمتع به من «تكثيف» و«تقطير» في التقييم وجمال عرض - شهادة حقيقية بأن الغزالي من أبرع من يكتب «الخاطرة» في عصرنا هذا، وبذلك اجتمع لقلمه القدرة على كتابة «[[السفْر الضخم]]»، وكتابة الأسطر المقطرة الوافية، وما أصعبها إلا على أمثال الغزالي العظيم.
 
===واحد من تلاميذه أنا..===
 
وأشهد وأعتز بأنى كنت واحدًا من تلاميذ شيخنا محمد الغزالي، وما زلت، ولكننى - وأعترف - كنت تلميذًا «لفكر» أكثر منى تلميذًا «لمفكر»، كنت تلميذًا أتلقى، أكثر منى تلميذًا يلتقي، فقد عشت الغزالي: فكرًا، وأدبًا، وحصائل نفس وعقل وروح، أكثر من معايشة مجالس ولقاءات، وقد يكون من أسباب ذلك سنوات غربة موزعة على قرابة ربع قرن قضيتها متقطعات بين [[الكويت]] و[[باكستان]] و[[السعودية]] والولايات المتحدة الأمريكية.. غربة إرادية تهدف إلى تعليم الشباب في جامعات هذه البلاد أدبًا ونقدًا وفكرًا ودراسات نقدية وإسلامية.
 
ولكن واقعى النفسى يقول - بلا غلو أو إفراط وإسراف -: إننى إن فاتنى «الرسم» فما فاتنى «الوسم»، وإن كانت «سيما» المؤمنين في وجوههم من أثر السجود، فإنى رأيتها في شخصية الغزالي التي جمعت في أقطار النفس بين التواضع واستشعار العزة واستعلاء الإيمان، وجمعت في أقطار القلب بين روحانية دفاقة، وواقعية لا تجور، وجمعت في أقطار العقل بين سعة الأفق، والحسم، والقدرة على النقد والنقض والإقناع. إنه الحضور الدائم للشيخ العظيم:
 
وما كلّ مفقود يُراع لفقدِهِ      
:::ولا كل حيٍّ فائقٌ ومحبّب
 
ولا كل من يحيا الحياة بحاضرٍ
:::ولا كل من في القبر ماضٍ مغيّب
 
فإن خلود المرء بالعمل الذى
::: يقودُ مسار الخير لا يتهيبُ
 
عزيزًا مع الحق القويم.. منارةً
:::تشد إليها كل قلب وتجذب
 
فالغزالي ما غاب، وما زال - وسيظل - حاضرًا فائقًا، وإن غاب برسمه وجسمه، وهذه سمة العظماء الأجلاء من البشر، أيًا كانت مواقعهم في دنيا الناس... قيادة ورياسة وجندية، وفكرًا وأدبًا وشعرًا.
 
ولكنى أعود فأقول بصدقية المحب المتابع: إننى عشت الغزالي وسمًا ورسمًا وجسمًا وحسًا وشعورًا وصوتًا، ومجالسة ومصاحبة، ومعاناة وفكرًا؛ فقد اكتشفت  أن بين «المادى الغزالي»، و«المعنوى الغزالي» ترادفًا؛ لأنه كله يمثل منظومة اسمها محمد الغزالي، ذات أنساق متسقات، وإن اختلفت في الأشكال، كباقة الزهر تجمع بين الورد والنرجس والفل والريحان، ولكنها جميعًا تلتقى في سمات ثلاث: التلاحم والجمال والتقطير.
 
وهكذا كان شيخنا الغزالي، اتساقًا في الفكر، ودقة في العرض، وإيمانًا بالمقول، وتوافقًا في الأعطيات، وقوة في الإقناع والاستمالة، ولا نزاع.
 
===قطوف من الشجرة الشامخة===
 
وأشهد أننى - وأنا طالب في بداية المرحلة الثانوية أواخر الأربعينيات - فتحت عينى وعقلى وقلبى معايشًا متتلمذًا على بواكير أعطياته الفكرية: [[الإسلام]] والأوضاع الاقتصادية ([[1947]]م) و[[الإسلام]] والمناهج الاشتراكية، و[[الإسلام]] المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، ثم [[الإسلام]] والاستبداد السياسى، وتأملات في الدين والحياة، وعقيدة المسلم، وخلق المسلم، ثم كتاب: من هنا نعلم ([[1950]]م) الذى قصم ونقض فيه كل ما كتبه: [[خالد محمد خالد]]: من هنا نبدأ، وعشرات من الكتب بعدها.
 
وزيادة على ما أثريته من هذه الكتب في مجالات العقيدة والفكر ومناهج التناول والمعالجة والبحث والخلق الإسلامي العتيد... خرجت بأدب رفيع آسر جميل «وإن من البيان لسحرًا»، فالرجل - رحمه الله - كان يعرض الحقائق الإيمانية، والمضامين الفكرية، وقواعد الدين والخلق في أسلوب طلى أخاذ، يشد القارئ إلى المعروض - كتابًا أو مقالاً، أو خطبة، أو محاضرة - ويحقق له المتعة الوجدانية، زيادة طبعًا على الحصائل الفكرية... إنه يقدم الدواء في «عصائر» طيبة المذاق، فواحة الأريح، منزهًا عن التجرد والجفاف، فجاء نقيًا نديًا، يؤتى أكله - بإذن ربه - كل حين، وإن كل شريحة من شرائحه النصية في أى كتاب من كتبه لتصلح شاهدًا على هذه السمة: حلاوة الأسلوب وطلاوته، وتدفقه وقوة أسره، ونقدم في السطور الآتية بعض القطوف التى تدل على هذه السمة:
 
1 - إذا دهمتك شدة تخاف منها على كيانك كله، فما عساك تصنع؟ تدع الروع ينهب فؤادك، والعواصف الجائحة ترمى بك في مكان سحيق، أم تقف مطمئنًا، وتحاول أن تتلمس بين هذه الضوائق مأمنًا يهديك إليه الفكر الصائب؟(6)
 
2 - ... والحق أن الرجولات الضخمة لا تعرف إلا في ميدان الجرأة، وأن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلامًا لذيذة في نفوس أصحابها، وما تتحول حقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة.
 
وكما أن التردد خدش في الرجولة، فهو تهمة للإيمان، وقد كره النبي (ص) أن يرجع بعدما ارتأت كثرة الصحابة المصير إليه(7).
 
3 - الرجل صاحب الرسالة يعيش لفكرته، ويعيش في فكرته، فحياته فكرة مجسمة تتحرك بين الناس، تحاول أبدًا أن تفرض على الدنيا نفسها، وأن تغرس في حاضر الإنسان جذرها ليمتد على مر الأيام والليالى فروعًا متشابكة تظلل المستقبل. وتتغلغل فيه(8).
 
4 - إن محمدًا وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة، فهم إذا انبعثوا لطاعته كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات، بأشواق من نفوسهم، ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم.
 
والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب، وليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة(9).
 
===التمثل والاستشهاد===
 
ومن اللوازم الأسلوبية للغزالي الإكثار من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية والحكم السلفية، والمأثور من الشعر القديم، وكذلك بعض الشعر الحديث، وهو يملك موهبة بصيرة قادرة على التقاط الشواهد، ووضعها في أنسب مكان لها، فيتحقق الانسياب والاندماج والتوافق، وكأن شواهده - غير القرآن والأحاديث النبوية - ما صيغت إلا للنص المعروض، ومن دقة اختياره المأثورة الآتية في سياق النعى على أدعياء الدين والتدين، الذين يفرطون في دينهم من أجل الحياة الناعمة، وزهرة الحياة الدنيا:
 
«عن مالك بن أنس قال لي أستاذي ربيعة:(10)
 
يا مالك، من السفلة؟ قلت: من أكل بدينه. فقال: من سفلة السفلة؟ قلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه»، فصدقني (أي قال لي: صدقت).
 
وقال الفضيل بن عباس: «لأن آكل الدنيا بالطبل والمزمار أحب إليّ من أن آكلها بدين»(11).
 
ولا يكاد فصل من كتاب للغزالي - وأكاد أقول صفحة - يخلو من شاهد من شواهد الشعر القديم يلتحم بنثره كأنهما يخرجان من مشكاة واحدة، يقول الغزالي:
 
«وإنني بعدما بلوت الناس أجدني مضطرًا لأن أقول: محِّض عملك لله، وانشد ثوابه وحده، ولا تنتظر أن يشكرك أحد من الناس، بل توقع أن يضيق الناس بك!! وأن يحقدوا عليك، وأن يبتغوا لك الريبة، وينسوا الفضل!! وأن يكونوا كما قال الشاعر:
 
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحًا
:::عنى وما سمعوا من صالحٍ دفنوا
 
جهلاً علينا، وجبنًا عن عدوهمُ 
:::لبئست الخلتان: الجهلُ والجبنُ(12)
 
وللشعر الحديث مكان في كتاباته وخطبه، ومن كلماته: «فالنهج الأقوم أن يكون مصدر طاقتنا المادية والمعنوية هو الحق وحده.
 
وماذا على المريض المصاب بقرحة الأمعاء، لو أنه حسب الموت نُقلة من بلد إلى بلد، وماذا لو تحمل نبأ العلة التى أصابته بطمأنينة وتسليم لأنه يؤمن بالله، ولا يحزن من لقائه، وإن اقترب موعده؟! ومن أبيات للشاعر محمد مصطفى حمام:
 
علمتنى الحياة أن حياتى
:::إنما كانت امتحانًا طويلا
 
قد أرى بعده نعيمًا مقيما
:::أو أرى بعده عذابًا وبيلا
 
علّ خوفى من الحساب كفيلٌ
:::ليَ بالصفح يومَ أرجو الكفيلا
 
عل خوفى يردنى عن أمورٍ
:::خبثتْ غايةً وساءت سبيلا
 
وعد الله من يُنيب ويخشى
:::بطشه رحمة وصفحًا جميلا
 
وبحسبى وعدٌ من الله حقٌ
:::إنه كان وعده مفعولا»(13)
 
===الوجوه المتقابلة===
 
وفي أداء الشيخ يكثر توظيف التضاد، أو ما يمكن أن نسميه «الوجوه المتقابلة»، وما يسمى فنيا «المفارقة»، وهو أسلوب «يعتمد بصفة أساسية على عرض المتناقضات، أو المتقابلات، فهو يقتضي وجود «طرفين» تربط بينهما علاقة الضدية، وقد تكون المفارقة بين لفظين كالأبيض والأسود، كما تكون بين صورتين أو لوحتين متقابلتين لهدف فني أو فكري»(14)، ويسميها بعضهم «بلاغة الأضداد»(15).
 
والتناقض في المفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل، أو بتعبير مقابل: تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف(16).
 
وواضح أن الهدف الأساسي من المفارقة هو خلق التمييز القوي الواعي لإدراك الفرق الشاسع بين الوجهين المتقابلين، فبضدها تتميز الأشياء، وذلك يكون قوة نفسية دافعة للمتلقي أن يختار الوجه الأحسن الأفضل.
 
ونقدم في السطور التالية نموذجين لهذه المفارقة، أو «الوجوه المتقابلة» من كتابات الشيخ:
 
1 - النفس المختلة تثير الفوضى في أحكم النظم، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلة، ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير.
 
إن القاضي النزيه يكمل بعدله نقص القانون الذي يحكم به، أما القاضي الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة.
 
وكذلك نفس الإنسان حين تواجه ما في الدنيا من تيارات وأفكار، ورغبات ومصالح.
 
 
ومن هنا، كان الإصلاح النفسى الدعامة الأولى لتغلب الخير في هذه الحياة، فإذا لم تصلح النفس أظلمت الآفاق، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم(17).
 
2 - تمثيلية الصلاة في إطار من غيبوبة عقلية تامة، هل له من صلاته شيء؟ إننا لن نعده مبارزًا بالعصيان، وتاركًا للفريضة، لكن هل هذه التمثيلية تزكي نفسًا، وترفع رأسًا؟
 
هذا المصلى الذاهل صنو المؤمن المقلد، وكلاهما لا تنهض به حياة، ولا يرشد به مجتمع؛ لأن كليهما معطوب من داخله، وأجهزته النفسية والفكرية في حالة ركود، على أن خطورة هذا النوع من التدين تبدو في ميادين الأعمال العادية، فالرجل صاحب الفكرة أو صاحب الدعوة يتفاعل مع الحياة العامة، وتتفاعل معه؛ لأنه يستحيل أن يتحرك بمعزل عنها، فإن كان صاحب عقل يقظان، ويقين وثّاب فرض نفسه عليها، وطوع كل شيء حوله لما يريده.
 
والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمّة، والبيئة المائعة أثر أناس أمرهم فرط، وأخلاقهم سائبة.
 
والأمة المجاهدة صنْع أناس يغالون بإيمانهم، ويسخرون ما يملكون لدعمه، ويوجهون مواهبهم العلمية، وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية لخدمة ما يعتنقون.
 
والمؤمنون المقلدون، والمصلون الذاهلون ينفعلون، ولا يفعلون، ويقادون ولا يقودون، ويعيشون وفق ما يقال لهم، لا ما توحيه ضمائرهم(18).
 
===من ملامح الأداء التعبيرى===
 
ومع سهولة الأسلوب وتدفقه وحلاوته نرى السجع قليلاً في عباراته، وأكثر منه الازدواج، فالأسلوب في مجموعه أسلوب مرسل لا تكلف فيه ولا تصيد، كما أنه في أدائه يكثر من التكرار المعنوي أو ما يسمى بالترادف، أى أداء المعنى الواحد بأساليب متعددة بهدف تأكيد المعنى وترسيخه، كما أنه يزيد من امتداد جاذبية الأسلوب، ومن ثم تقوية ارتباط القارئ بالمقروء تحقيقًا للغرض المرجوّ المنشود.
 
ومع ذلك نجد في «التكرار المعنوي» بعض الفروق الكمية بزيادة محدودة في المعنى، أو ملمحًا - ولو ناصلاً - بفتح الطريق لزيادة في التفكير والتوليد، ومن التكرار المعنوي قوله:
 
«ونظرت للقراء الذين يطالعون الصحف، والجمهور الذي يسمع الإذاعة، فما وجدت جبينًا مقطبًا، ولا عينًا دامعة، ولا تعليقًا محزونًا!! إنهم يقرءون أخبارًا لسكان كوكب آخر!!
 
إن الغزو الثقافى نجح أتم نجاح في إماتة الأخوة الإسلامية، وإهالة التراب عليها»(19).
 
ومن سماته الأسلوبية إيثار نوعين من الجمل: الجمل المساوية التي تأتي على قدر الفكرة المعبرة عنها، وأكثر منها الجمل الطويلة التي تتسع للفكرة المنبسطة الممتدة، كما رأينا في نص سابق:
«والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمّة...
 
والأمة المجاهدة صنع أناس يغالون بإيمانهم...
 
وتجسيم المعنويات - أي إبراز المعنوي في صورة حسية - وكذلك تشخيص الجامد ببث الروح والنبض فيه - فكأنه حي من الأحياء - هي ظاهرة مطردة في التصوير عند الغزالي، كما نرى في الأمثلة الآتية:
 
- ولن يتم تذوق النفس لبرد الرضا بإصدار أمر جاف، أو فرض تكليف أجوف، كلا، فالأمر يحتاج إلى تلطف مع النفس، واستدراج لمشاعرها النافرة، وإلا فلا قيمة لأن تقول: أنا راض، ونفسك طافحة بالضيق والتقزز!! وأول ما يطلبه الإسلام منك أن تتهم مشاعرك حيال ما ينزل بك(20).
 
لقد جسم الغزالي الرضا، والأمر، والتكليف، والضيق والتقزز.. فبدت في صورة حسية مجسَّدة، كما شخص: النفس والمشاعر؛ فإذا بها في صورة حية نابضة.
 
وهذه الظاهرة التصويرية - زيادة على ما فيها من طرافة - تبرز المعروض أمامنا كأننا نراه رأى العين، فيزيد إحساسنا به، ومعايشتنا له.
 
===تأثر بالأداء القرآنى===
 
وكل ما ذكرناه آنفًا من الملامح الموضوعية والفنية في نثر الغزالي إنما جاءت أثرًا من آثار معايشته للأسلوب والمضامين القرآنية، وعن السمة الأخيرة يقول شهيد [[الإسلام]] [[سيد قطب]]: «التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسَّة المتخيلة عن المعنى الذهنى والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنسانى، والطبيعة البشرية، ثم يرتقى بالصورة التى يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنسانى شاخص حى، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية..»(21).
 
'''والمفارقة أو «الوجوه المتقابلة» من أبرز سمات الأسلوب القرآنى، وخصوصًا في عرض مشاهد القيامة كما نرى في الآيات الآتية:'''
 
{هل أتاك حديث الغاشية. وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة. تصلى نارًا حامية. تسقى من عين آنية. ليس لهم طعام إلا من ضريع. لا يسمن ولا يغنى من جوع. وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية. في جنة عالية. لا تسمع فيها لاغية. فيها عين جارية. فيها سرر مرفوعة. وأكواب موضوعة. ونمارق مصفوفة. وزرابي مبثوثة}(22).
 
فالغزالي عاش القرآن معنى ومبنى، وتربى على مائدة [[الإسلام]] بعقيدة قوية، وعقلية ناضجة، وحافظة واعية، فلا عجب أن يتأثر بالأسلوب القرآنى، وطوابعه الفنية، ومضامينه وتوجيهاته الإنسانية.
 
هذا عن الغزالي كاتبًا وخطيبًا.. أي الغزالي ناثرًا، فماذا عن الغزالي الشاعر؟
 
===الشاعرية والشاعر===
 
وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان طالبًا في السنة الرابعة من المعهد الدينى الثانوي صدر لمحمد الغزالي ديوان شعر باسم «الحياة الأولى»(23)، وفى طبعته الأخيرة(24) قرأنا لأستاذنا الكبير الدكتور مصطفى الشكعة تقديمًا، بل دراسة ضافية للديوان وشعر الفقهاء: مناحيه وموضوعاته وتطوره، وهي دراسة من ثمانين صفحة، أي بعدد صفحات الديوان نفسه.
 
و«الحياة الأولى» عنوان كالمنشور الزجاجى الذى يعطى ألوان الطيف السبعة، مع أن مصدرها شعاع واحد.
 
وكذلك هذا العنوان قد يبادر ابتداء فيعطينا دلالة دينية تعني (الحياة الدنيوية)، استلهامًا لقوله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى}(الضحى: 4)، وقد يعطي دلالة زمانية.. تعني أنه «شعر الحياة الأولى»، أى الشبيبة الباكرة.
 
وقد يكون المقصود «الأولوية» بمفهومها القيمي، لا «الأوَّلية»، بمفهومها الزمني، كأن الديوان يرسم الحياة الأوْلى - بفتح الهمزة وتسكين الواو - أي الحياة «الأجدر» بأن تعاش دينًا وخلقًا وسلوكًا.. فهي صاحبة المرتبة الأولى - بضم الهمزة - متقدمة على كل المراحل.
 
ونقرأ القصيدة التى استهل بها ديوانه، فإذا عنوانها: «الحياة الأولى أو نحو المجد»؛ مما يشى بأنه يريد الدلالات الأخيرة، وإن أشار إلى الدلالة الزمانية في مطلع القصيدة:
 
ثمانى عشرة مرت سهادًا
:::أُردتُ على المنام ولن أُرادا(25)
 
ويقول الدكتور الشكعة: «.. هكذا طمأن الشيخ قارئ شعره من مجرد أن تقع عيناه على عنوان أولى قصائده أنها سيرة ذاتية رفيعة المحتوى، بل هي منهج لسيرة ذاتية سوف يقوم الشيخ الشاب على التزامه في مسار نقى، ومضمار نظيف، سعيًا إلى مستقبل مجيد، ومكانة رفيعة، كل ذلك القول الرصين أطلقه الشاعر، وهو ابن ثمانية عشر ربيعًا»(26).
 
والديوان خلا تمامًا من الغزل حتى البريء منه، وخلا من الهجاء والنفاق، والمدح الكاذب، وكل ما يشين ذوي المروءة، ولكنه عالج الحكمة والإخوانيات، والتعبير عن ذاته وسلوكه، ومكارم الأخلاق والإنسانيات والروحانيات في طوابع ووجهات صوفية، وتحدث عن بعض مظاهر الطبيعة كالفجر والشروق والشمس وبعض الموضوعات الوطنية(27).
 
'''فشعره إذن دار حول محاور ثلاثة رئيسية لا يكاد يتعداها، وهي:'''
 
1 - قصائد الطرح أو الدفق الروحى والأخلاقيات.
 
2 - قصائد الطبيعة.
 
3 - قصائد الوطنية أحداثًا وشخصيات.
 
===حقائق ثلاث===
 
'''وبين يدى الديوان تطالعنا - بعد معايشة قصائده - بضع حقائق تتلخص فيما يأتي:'''
 
1 - المعروف أن الشعراء الإسلاميين، وذوي التوجهات الدينية، وأكاد أقول شعراء العربية بعامة، وخصوصًا في شعر الشباب والبدايات، يميلون بل يكثرون من النظم في المناسبات الإسلامية كذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة، والإسراء والمعراج، وبدر، والفتح.. وغيرها، وعلى ذلك كان شوقي و حافظ، وأحمد محرم، ومحمد الأسمر، ومحمود غنيم، وعزيز أباظة وغيرهم.
 
ولكننا لم نجد شاعرنا الغزالي يخوض هذا المخاض، وينظم في هذه المناسبات التى تهم كل مسلم، وهو مَنْ هو تدينًا وفقهًا، واعتزازًا بالإسلام.
 
وقد يفسر ذلك بأن الشاعر قد استغرقه شعر الدفق الروحى التصوفى، فوجد فيه ما يكفيه مئونة هذه الموضوعات من شعر المناسبات.
 
وربما جاء هذا التوجه كنوع من «الاعتزاز الذاتى» دفعه إلى إغفال نهج الآخرين، وتوجههم الموضوعى والفنى.
 
2 - في عناوين كثير من قصائد الغزالي عرامة وقوة إيحاء بعيدًا عن المباشرية والتصريح، مثل: الزمن السَّحور - سرى وثرى - نور الحقيقة - صمت الريف الهامد - الموت الضال في مرض الطفولة - سقطت ولما تنضج - النور الغريق - الشروق في القبور - ابن الظلمات.
 
وأشهر من نجد عنده هذه السمة في العصر الحديث الشاعر محمود حسن إسماعيل - رحمه الله - فمن عناوين قصائده: أحزان الغروب - ثورة الضفادع - الناي الأخضر - لهيب الحرمان - سجينة القصر - أدمع ومآتم - أغاني الرق - عبيد الرياح - جلاد الظلال - حصاد القمر - عاشقة العنكبوت - هدير البرزخ(28).
 
3 - الغزالي في تشكيله الشعري اتباعي كلاسيكي فهو ينهج النهج الخليلي في نظام القصيدة: الوزن الواحد والقافية الواحدة، وهو يعتز بهذا «النظام» ويُخلص الولاء له في مغالاة؛ حتى إنه يرى أن الخروج عليه يُخرج الإبداع من وصف الشعرية ليدخله دائرة النثر، ولذلك حمل حملة شعواء على ما سماه «بالشعر المرسل»، فهو - في نظره - تقليد أعمى لما يكتبه الغربيون، وهو انسلاخ منكود من النظام الشعرى العربى الأصيل الذى أرسى قواعده من قرابة عشرين قرنًا، وهو لا يزيد على كونه تقطعًا عقليًا في الفكرة المعروضة كأنها أضغاث أحلام، أو خيالات سكران، في ألفاظ يختلط هزلها وجدها، وقريبها وغريبها، وتراكيب يقيدها السجع حينًا، وتهرب من قيوده أحيانًا.
 
فالسمة الغالبة على هذا اللغو لا تتخلف أبدًا: التفكير المشوش، أو اللاتفكير، والتعبير الذى يجمع الألفاظ بالإكراه من هنا ومن هنا، ويحاول وضعها في أماكنها، وتحاول هى الفرار من هذه الأماكن(29).
 
ونأخذ على هذا الرأى أنه خلط بين مصطلحات ثلاثة: الشعر المرسل، والشعر الحر، وقصيدة النثر، ومقصد شيخنا الحملة على الشعر الحر لا الشعر المرسل، وهما مختلفان:
 
فالشعر المرسل Blank Verse: هو الشعر الذي يلتزم بوحدة الوزن مع اختلاف القافية(30)، ولعبد الرحمن شكري كثير من هذا النوع، ولكنه لا يجد له نصيرًا في الوقت الحاضر.
 
أما الشعر الحر Free Verse، أو شعر التفعيلة فهو الشعر الذي لا يلتزم بوحدة الوزن أو وحدة القافية(31)، فهو متحرر من الوزن الواحد والقافية الواحدة، ولكنه يجعل «التفعيلة» - لا البحر - أساس الوزن. ورائد هذا اللون - في الأدب العربى - بدر شاكر السياب بديوانه «أزهار ذابلة»، أو نازك الملائكة بقصيدتها «الكوليرا» على خلاف في ذلك.
 
وما يسمى بقصيدة النثر - وهي ترجمة للمصطلح الفرنسى Poeme en Prose - هناك شبه إجماع على صعوبة وضع تعريف جامع مانع لها، وإن كان الرافضون لها - وما أكثرهم - يسجلون عليها ما تحتويه من فوضى وانقلاب وتمرد عشوائى، وتنكر لكل مفاهيم البناء والشكل، وخصوصًا البناء الموسيقي(32).
 
وتؤكد «سوزان برنار» أنه يوجد في قصيدة النثر - في آن واحد - قوة فوضوية مدمرة تميل إلى رفض الأشكال الموجودة، وقوة منظمة تميل إلى وحدة شاعرية(33).
 
ونحن مع شيخنا الغزالي في رفض الشعر المرسل - بالمفهوم الصحيح الذى عرضناه - لمجافاته للذوق العربى.
 
ونحن معه في رفض ما يسمى بقصيدة النثر؛ لأنه لا علاقة بينها وبين الشعر، وللأسباب التى ذكرها الدكتور محمد عبد المطلب آنفًا.
 
ولكننا نخالفه في تقييمه للشعر الحر - الذى أطلق عليه خطأ الشعر المرسل؛ لأن الشعر الحر لم يتخل عن الوزن، إذ إنه اعتمد على التفعيلة لا البحر، والمطبوعون من الشعراء أبدعوا من هذا الشعر روائع كقصيدة «شنق زهران» لصلاح عبد الصبور، وما زال الشعر الحر يعايش الشعر الخليلي في سلام ووئام.
 
===شاعر الحلول والاستبطان===
 
وشعر الغزالي لا يعطيك مفتاحه من أول قراءة، إذ يحتاج قراءة ثانية، وشيئًا من التأني والمعاناة، وهو يذكرني بكلمة أبي إسحاق الصابي فيما يرويه عنه ابن الأثير:
 
«إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه(34).
 
والتصريح، ووضوح الذاتية.. والأوصاف المباشرة يخرج بالعمل الشعرى عن نطاق الجمال، ويجعله تقريريًا(35).
 
فهذا الطابع الذى يسم شعر الغزالي يعد ميزة طيبة بمعيار الشاعرية.
 
وقد وصفْنا الغزالي - بعد معايشتى لشعره - بأنه «شاعر الحلول والاستبطان»، وأعني بالحلول: معايشة موضوعه واندماجه في جوانيته بصرف النظر عن القشور والمظاهر الخارجية.
 
وأعنى بالاستبطان تأمل موضوعه وتعمقه لاستخلاص ما فيه من طروحات وأعطيات نفسية. ولننظر إلى بعض شعره في الطبيعة، فقصيدته في «الشمس»(36)، نرى فيها الشاعر لا يهتم «ببرَّانية» هذا النجم العظيم، ولكن بما يستخلصه من معطيات النفس ودروس الحياة ومتطلباتها:
 
أشرقى في الوجود طُهرًا وضيئًا  
:::وأنيرىالبديل من ظلمات
 
وأميتى الياس المعذب موتًا  
:::بدّليه تيقظًا من سُبات
 
الوداع الميمون يبدو أصيلا
:::مائج النور في سنا أمنياتي
 
فى نضار من الأشعة سكرى
:::بحبور يحيى رفات الموات
 
خير ماض يحفه خير آت
:::يتهادى في ذلك الميقات
 
'''وفي مقطوعة مستقلة من أربعة أبيات بعنوان (نور الحقيقة)((37) يبلغ الشاعر شأوًا عظيمًا من الاندماج والتأمل، وهو ما سميناه «الحلول والاستبطان» وفيها يقول الشاعر:'''
 
أيها النور أنت تُلقي وضوحًا
:::لأناس عاشوا بأبشع سرّ
 
لا يطيقون في الحقيقة عيشًا
:::فضياء الحقيقة الغمرُ يُزرى
 
حشرات في نورها الحقِّ تفنى
:::مثل قتل الشعاع كلَّ مضرّ
 
ولهذا الظلامُ خيرٌ من النور
:::إذا كنتَ لا ترى وجه حرّ
 
ومن فضول القول أن نذكر في هذا المقام أن قصائده الأربع في «الخمرة الإلهية»(38) تتمتع بسمة «الحلول والاستبطان» على نطاق رحيب مكين؛ مما لا يحتاج منا إلى وقفة للإبانة والتوضيح.
 
ومن أرقى ما نظم الشاعر في ديوانه كله، وكذلك بالنظر إلى شعر آخرين من المشاهير قصيدته «تحية عرابي البطل»(39)، فهو لم ينهج النهج التقليدي في وصف الوقائع والأحداث والمواقف، ولكنه اعتمد على الحركة النفسية، وطروحاته الوجدانية في عرابي فاستهل قصيدته بقوله:
 
حيتكَ من نفسى عواطف ثائر
:::لا يستكين لسطوة من جائرِ
 
ويثيرها نارًا يهول وقودُها
:::فيبيدُ أو تلقاه أوْبة ظافر
 
حيتك من نفسى عواطف مخلص=
:::لا مأرب يلهيه شأن الفاجر
 
للمجد ما يبغى يكلل أمة
:::للنصر ما يسعى قليلُ الناصرِ
 
'''ثم يتحدث الشاعر عن شخصية الأمة المجاهدة:'''
 
فى حب مصرَ وفى سبيل خلودها
:::فى حب مصر طليقةَ من آسرِ
 
نفرت من الوادى الجموع تقودها
:::فى وجه عات ذي شكيمةِ قادر
 
'''ويستغرق الشاعر أغلب القصيدة في تحية عرابي المهزوم المكسور المقهور، ولكنه انكسار الشريف المجبر الذي كانت الظروف أقوى، وأقدر من كل طاقاته، ويهز الشاعر قلوبنا ووجداننا بالأبيات الآتية:'''
 
قُدست مهزومًا تعفر في الثرى
:::قدست مقهورًا كسير الناظرِ
 
قدست يوم بكيت إذ سقط الحمى
:::لا نصرَ يُرجى لا دفاع مغامر
 
'''ثم يتحدث عن غدر الغرب اللئيم ومؤامراته، ويختم قصيدته بالأبيات الآتية:'''
 
فى الأسر يرسف في قيود مهانةٍ
:::خير النفوس نُهىً وطيبُ ضمائر
 
فى الأسر ما أعيا وقد حاطت
:::ظُلَم الغد الداجى وظلْم الحاضر
 
حيتك أرواح تكافح لا تنى
:::دأبَ الحريص على الجهاد الذاكر
 
أبدًا هو العمل الحثيث أأثمرت
:::أغراسه أم تلك رُجعى الخاسر؟
 
لقد ضم الديوان قصائد طوالاً، وأخرى متوسطة الطول، كما ضم قطعًا قصيرة جدًا مستقلة بعضها لا يزيد على البيتين وهو ما يسمى شعريًا «الأبجرام» Epigram، وهى منظومة قصيرة جدًا تنتهى بفكرة طريفة ذكية(40).
 
ونأخذ على الشاعر أنه كثيرًا ما كان يستخدم بعض الألفاظ المعجمية الغريبة على القارئ، وقد أحسن الدكتور الشكعة صنعًا إذ شرح هذه الكلمات في هوامش الديوان.
 
وربما جاءه هذا الغريب غير الشائع من الألفاظ من حبه للشعر القديم، وكثرة محفوظاته منه.
 
كما نأخذ على الشاعر قلق بعض العبارات والكلمات في السياقة الشعرية.
 
ولكن قد يشفع للشاعر أنه نظم ديوانه، وهو طالب في المرحلة الثانوية قبل التحاقه بالجامعة الأزهرية.
 
إن هذا الديوان كان يحتاج إلى وقفات أطول نستوفي فيها كل العناصر الشعرية فيه من خيال وعاطفة وتعبير وموسيقى.. ولكني أرى أن المسار قد طال بنا، وقد أعلنا ابتداء أنها مجرد وقفة نقدية، وهي في نفس الوقت دعوة ضمنية للباحثين، وطلاب الدراسات العليا أن يدرسوا هذه الجوانب الأدبية من أعطيات الرجل - يرحمه الله.
 
ثم من حقنا أن نختم هذه الدراسة الموجزة بطرح سؤال مؤداه: وماذا بقى من الراحل العظيم؟
 
===وماذا بقى من الراحل العظيم؟===
 
لقد رحل الشيخ فجأة بدون وداع، وجاءت كرامة الرحيل - زمانًا ومكانًا - كفاء لكرامة الراحل، فمات في مناسبة لإكرام العلم والعلماء، وهذا هو عنصر الزمن الكريم. ومات في أرض مباركة طيبة، ودفن بالبقيع، وهذا هو عنصر المكان المبارك العظيم. ثم كانت كرامة الكرامات - بعد وفاته - متمثلة في فوزه بالإجماع الوجداني الشامل حزنًا هز القلوب، وشعورًا بجلال الخطب، وفداحة الفراق.
 
واستغرق هذا الشعور الإجماعي مشارق الأرض ومغاربها، ليضم الملوك والأمراء، والعلماء والفقهاء، والصغار والكبار، والرجال والنساء، وكل سويٍّ من عباد الله، وعزيز على النفس أن ترى - في عصرنا.. عصر الغربة والكروب - ساحات العلم والفقه والفكر، وقد خلت من محمد الغزالي، وكأنه المقصود بقول أبى تمام:
 
عادت وفودُ الناس من قبرهِ
:::فارغة الأيدى وملأى القلوب
 
قد راعها ما رُزئتْ، إنما 
:::يُعرف فقدْ الشمسِ عند المغيب
 
'''وبعدها يدور السؤال التقليدى: ماذا بقي من محمد الغزالي؟'''
 
وإنا لنجيب - بصدق وإيمان ويقين -: بقي منه الفكر الحر المستنير الذي يستقي حقائق الحياة والحق من كتاب الله وسنة رسوله، متقدمًا في الدرب لا تأخذه في الله لومة لائم.
 
بقي منه المرونة والسماحة، وسعة الأفق، ومنطق التسهيل والتيسير والتحبيب، بعيدًا عن التعصب الأعمى، والتشنج المسعور، وبعيدًا عن الغلو والإفراط، والتهاون والتفريط.
 
بقي منه مائدة طيبة من عشرات كتب في الفقه والسنة، والسيرة والسياسة، والنظم والسياسة الشرعية، وآداب النفس والمجتمع، والذود عن الإسلام في مواجهة الإلحاد، والصهيونية والصليبية والإباحية، وهي مائدة لا تنفد ولا تبور.
 
وكل أولئك يمثل حيثية الخلود الذي لا يعرف الموت، والتجدد الذي لا يعرف البلى، والتفوق الذي لا يعرف النقص والذبول.
 
سلام على محمد الغزالي، وألحقه الله بمعية النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.
 
==ألبوم صوره==
 
{| cellpadding="2" cellspacing="7" style="width:100%; vertical-align:top; border:1px solid #cfe0f3; background:#f2f6fa;"
<div style="margin:0; font-size:120%; font-weight:bold; text-align:right; color:#f2f6fa;"></div>
|-
| id="EnWpMpBook2" style="background-repeat:no-repeat; background-position:10% 50%; color:#000; text-align:center;" |
'''<center><font color="blue"><font size=5>  ألبوم صور الشيخ [[محمد الغزالي]]  </font></font></center>'''
 
 
'''<center> إضغط علي الصورة لتظهر بحجمها الكامل </center>'''
 
----
'''<center>&nbsp;<gallerytag>239</gallerytag> <br></center>'''
|}
 
==الهوامش والتعليقات==
 
(1) ولد الغزالي في قرية (نكلا العنب بمحافظة [[البحيرة]] في [[مصر]])، وهذه القرية نفسها ولد فيها الشيخ [[سليم البشري]] - شيخ [[الأزهر]] - والشيخ [[محمد عبده]]، والشيخ [[محمود شلتوت]]، و[[محمد البهي]].
 
(2) كتاب الغزالي هو ([[السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث]])، وقد أثار ضجة كبيرة، ودويًا عاليًا، وتعرض لهجومات شديدة ضاربة، ولكنى أشهد أن من هذه الردود كتابات موضوعية هادئة أشهرها كتاب «[[حوار هادئ مع محمد الغزالي]]»، ل[[سليمان بن فهد العودة]] (الرياض 1409ه).
 
(3) يشهد ل[[خالد محمد خالد]] - رحمه الله - أنه رجع - بعد ذلك ببضع سنين عن كل ما كتب في كتابه ([[من هنا نبدأ]])، وذلك في كتاب بعنوان «[[دين ودولة]]»، وافق فيه كل ما كتبه الغزالي في كتابه ([[من هنا نعلم]]).
 
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 138 (المكتبة التوفيقية - [[القاهرة]] [[1978]]م).
 
وانظر: [[جابر قميحة]]: [[المدخل إلى القيم الإسلامية]]، ص 23 (دار الكتاب المصري، [[القاهرة]] [[1984]]م).
 
(5) الغزالي: [[من هنا نعلم]]، ص 110 (ط 2، دار نهضة [[مصر]] - [[القاهرة]] [[1997]]م).
 
(6) الغزالي: [[جدد حياتك]]، ص 24) دار نهضة [[مصر]] - [[القاهرة]] [[2004]]م).
 
(7) السابق 49، وهو يشير إلى رأي النبي (صلى الله عليه وسلم) في البقاء والتحصن بالمدينة للدفاع عنها، ولكنه نزل على رأي الصحابة في الخروج إلى قتال المشركين، فكانت معركة أحد (انظر سيرة ابن هشام 2/ 63، 105).
 
(8) الغزالي: [[تأملات في الدين والحياة]]، ص 102 (دار الكتاب العربي - المنياوي: [[القاهرة]] [[1951]]م).
 
(9) الغزالي: [[فقه السيرة]]، ص 151) دار الكتاب العربي - المنياوي، [[القاهرة]] [[1952]]م).
 
(10) هو: أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ، الملقب بربيعة الرأي، وهو فقيه أهل المدينة، أخذ عنه مالك. كان يكثر الكلام ويقول: «الساكت بين النائم والأخرس»، ت 36ه.
 
(11) من هنا نعلم، ص 94.
 
(12) جدد حياتك، ص 113.
 
(13) السابق، ص 30، 31.
 
(14) سيزا قاسم: المفارقة في القصص العربى المعاصر، مجلة فصول، العدد الثانى، المجلد الثانى - [[القاهرة]] [[1982]]م.
 
(15) لويس عوض: الأهرام 7/ 7/ [[1972]]م.
 
(16) د. [[علي عشري زايد]]: عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ص 138 (مكتبة العروبة - [[الكويت]] [[1981]]م).
 
(17) [[جدد حياتك]]: ص 94.
 
(18) الغزالي: [[الغزو الثقافى يمتد في فراغنا]]، ص 69 (دار الصحوة - [[القاهرة]] [[1987]]م).
 
(19) السابق: ص 87.
 
(20) الغزالي: [[جدد حياتك]]، ص 134.
 
(21) [[سيد قطب]]: [[مشاهد القيامة في القرآن]]، ص 5 (دار المعارف - [[القاهرة]] [[1947]]م).
 
(22) سورة الغاشية: الآيات 1 - 16، وانظر [[سيد قطب]]: السابق 188.
 
(23) صدر سنة 1354هـ - [[1936]]م عن المطبعة الإسلامية ب[[الإسكندرية]]، وكان ثمنه عشرين مليمًا.
 
(24) دار الشروق ب[[القاهرة]] (1426هـ - [[2005]]م).
 
(25) ديوان الحياة الأولى 81 (مع ملاحظة أن هذه الصفحة هي أول صفحة في الديوان، أما ما قبلها فقد استغرقته الدراسة التى كتبها الدكتور [[مصطفى الشكعة]].


ومعظم الذين قاموا بهذه التراجم هم من تلامذة الشيخ الغزالي ومحبيه وعارفي فضله والذين استفادوا من فيض علمه وعطائه
(26) [[مصطفى الشكعة]] من تقديمه للديوان 43.


(27) انظر: الشكعة، السابق 40، 41.


==وفاته==
(28) [[جابر قميحة]]: شرائح النثر في شعر الأميرى 58 (بحث قدم في الملتقى الثالث للأدب الإسلامى بالمغرب - أغادير، في الأيام 16 - 18 من [[يناير]] [[2001]]م).


توفي في 9 مارس [[1996]] م في السعودية أثناء مشاركته في مؤتمر حول [[الإسلام]] وتحديات العصر ودفن بالبقيع وكان قبلها صرح بأن امنيته أن يدفن في البقيع وتحقق له ما تمنى.
(29) انظر: الغزالي: [[مشكلات في طريق الحياة الإسلامية]]، 102 - 105 (الدوحة - [[قطر]] - كتاب الأمة رقم 1).


(30) [[مجدي وهبة]]: معجم مصطلحات الأدب 46 (مكتبة [[لبنان]] - بيروت [[1974]]م).


==المصادر==
(31) السابق 181.
(32) د. [[محمد عبد المطلب]]: النص المشكل 188 (الهيئة المصرية العامة للكتاب [[1999]]م).
(33) [[سوزان برنار]]: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا 157 (ترجمة: زهير مجيد - بغداد 1393ه).
(34) ابن الأثير: المثل السائر 1/92 (مكتبة الخانجى - [[القاهرة]] [[1979]]م).
(35) د. [[محمد غنيمى هلال]]: قضايا معاصرة في الأدب والنقد 60 (دار نهضة [[مصر]] - [[القاهرة]]، د.ت).


* موقع الشيخ محمد الغزالي .
(36) ديوان: الحياة الأولى 144.
(37) السابق 116.
(38) الديوان 83 - 90.
(39) الديوان 157.
(40) [[مجدي وهبة]]: مرجع سبق 142.


*إسلام أون لاين


[[تصنيف:أعلام الحركة الإسلامية]]
[[تصنيف:أعلام الحركة الإسلامية]]
سطر ٢٠٦: سطر ٦٧٣:
[[تصنيف:أعلام من مصر]]
[[تصنيف:أعلام من مصر]]
[[تصنيف:أعلام البحيرة]]
[[تصنيف:أعلام البحيرة]]
[[تصنيف:المقالة الجيدة]]
[[تصنيف:مقالة جيدة أعلام]]

المراجعة الحالية بتاريخ ٠٧:٠٤، ٧ نوفمبر ٢٠١٢

الداعية الأديب الشيخ محمد الغزالي (1335 ـ 1416هـ = 1917 ـ 1996م)


بقلم / المستشار عبدالله العقيل .. بالإشتراك مع / الدكتور جابر قميحة

مقدمة الناشر

الداعية الشيخ محمد الغزالي

"صاحب الرسالة يعيش لفكرته، ويعيش في فكرته، فحياته فكرة مجسمة تتحرك بين الناس، تحاول أبدًا أن تفرض نفسها على الدنيا، وأن تغرس في حاضر الناس جذورها؛ لتمتد على مر الأيام والليالي فروعًا متشابكة تظلل المستقبل وتتغلغل فيه".

هكذا عاش الداعية والأديب، المجاهد والرائد المصلح الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)، الذي كان صاحب رسالة دعوية وإصلاحية ملكت حياته، ووجهت خطواته؛ فوقف بين الدعاة علمًا، وبين المصلحين طودًا شامخًا، وبين مفكري وكُتَّاب النهضة قلمًا وسيفًا مسلطًا على أسباب التخلف، إذ عاش للإسلام، ونذر حياته لخدمته، وسخَّر قلمه وفكره في بيان مقاصده، وجلاء أهدافه، وشرح مبادئه، والذود عن حماه، ومقارعة خصومه.

رزقه الله فكرًا عميقًا، وثقافة واسعة، ومعرفة رحبة بالإسلام أثمرت عطاءً سخيًا في ميادين الفكر الإسلامي والتجديد والإصلاح والدعوة، فأحيا الأمة، وأصلح أجيالها، وربَّى شبابها، وبنى عقولهم على صحيح الدين، وتقديم الصورة الوسطية للمسلم المنشود في العصر الحديث، ولم يترك سبيلاً لبلوغ هدفه الإصلاحي إلا سلكه متأبطًا كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) سندًا له ومرجعًا.

وهبه الله فصاحة وبيانًا أحسن استثمارهما في تأليف القلوب وتهيئتها لسماع ما يعرضه من قضايا الإسلام، فكانت خطبه ودروسه ملتقى للفكر ومدرسة للدعوة بما تفيض به من عذوبة ورشاقة وبلاغة جعلته يقف في مقدمة مصافِّ الدعاة الأدباء.

كان الشيخ الغزالي في دعوته كالطبيب الماهر الذي كشف علل المجتمع، وعرف أدواءه، وحدد له العلاج في تجديد الإيمان، وتعميق اليقين، ومحاربة البدع وأوجه الفساد، وتعزيز العدل الاجتماعي، ومقاومة الاستبداد السياسي، وتحرير المرأة من التقاليد الدخيلة، وتحرير الأمة بتوحيدها، والدعوة إلى التقدم، والاعتزاز باللغة العربية، والثقافة الإسلامية، ومقارعة الخصوم في فكرهم، وليس في شخوصهم، فأرسى أدب الإسلام في الخلاف والجدل والحوار.

وقد اتخذ الشيخ الغزالي من الأدب والبلاغة وسيلة إيضاح في خطبه ومقالاته ومحاضراته، فجمع بين الفكرة الصائبة والعرض الشيق، والأسلوب البليغ، والكلمات المؤثرة، واللغة الرشيقة السلسة، والإيقاع الهادئ الذي يأخذ بالألباب، ويأسر القلوب، ويوقظ العقول بتجسيد الفكرة في قالب أدبي بديع ينبض بالحياة.

وإذا كان الشيخ الجليل قد رحل جسدًا، فإن عطاءه الدافق الذي تفيض به مؤلفاته ومحاضراته وخطبه ومقالاته ما زال حيًا ومتجددًا.

وتأتي هذه الدراسة التي ينشرها مركز الإعلام العربي في إطار تقدير العلماء الأجلاء، ووضع عطائهم في دائرة الضوء، نبراسًا للأجيال الصاعدة، وتهدف الدراسة التي أعدها اثنان من تلامذة الإمام الغزالي وزملائه، هما المفكر الإسلامي المستشار عبد الله العقيل، ود. جابر قميحة - أستاذ الأدب العربي - إلى المساهمة في تعميق الرؤية، وتجديد الوعي بعطاء الشيخ المجدد وسط حالة التخبط الفكري التي تعيشها الأمة، مع تسليط الضوء على زوايا الإبداع الأدبي في تراثه وملامح أسلوبه الشعري وخصائصه، مما يثري المكتبة العربية، ويسهم في إبقاء مشاعل النهضة والانطلاق الحضاري على قاعدة القرآن والسنة.

والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل.

الناشر

الداعية الأديب الشيخ محمد الغزالي .. بقلم/ المستشار عبدالله العقيل

تمهيد

حين أكتب عن الشيخ محمد الغزالي السقا، فإنما أكتب من خلال معرفتي به عن قرب، ومعايشتي له، وقراءتي وسماعي له، وهذا بعض حقه عليّ، وشيء من الوفاء لمن تتلمذت على يديه، وهي ذكريات وخواطر مضى على بعضها قرابة نصف قرن، وقد سبقني للكتابة عنه في حياته وبعد مماته الكثير من الإخوان الذين يعرفون قدر الغزالي ومنزلته، وعلى رأسهم العلاَّمة الدكتور يوسف القرضاوي الذي كان أكثر قربًا، وأطول رفقة.

معرفتي به

عَرفتُ أستاذنا الغزالي من خلال ما كنت أقرأ له من مقالات في مجلة الإِخوان المسلمون) التي كانت تصل إلينا بمكتبة الإخوان المسلمين في الزبير سنة 1946م.

ولمَّا قـدمت إلى مصر للدراسة الجامعية سنة 1949م، تعـرّفت إليـه عن طـريق الإخوة الزملاء: مناع القطان، ومحمد بكري، ويوسف القرضاوي، ويعقوب عبد الوهاب، وأحمد العسال، ومحمد الصفطاوي، ومحمد الدمرداش، والحاج وهبة حسن وهبة.

كانت لنا مع شيخنا الغزالي لقاءات متكررة كثيرة يزودنا فيها بالعلم النافع، ويثير في نفوسنا الحماس للعمل في سبيل الله والمستضعفين، ويبصرنا بمكائد الأعداء في الداخل والخارج، ويكشف مخططاتهم الماكرة لحرب الإسلام والمسلمين، ويفضح دعاوى الشيوعية والعلمانية والماسونية والإلحاد والوجودية والصليبية والصهيونية، ويحذِّرنا من التحالف المشؤوم بين قوى الشر ضد الإِسلام ودعاته، ويوضح لنا سبل التصدي لمقاومة هذه الهجمة الشرسة من قوى الكفر مجتمعة.

إن أستاذنا الشيخ الغزالي داعية متوقد الذهن، جياش العاطفة، عميق الإيمان، مرهف الإحساس، قوي العزم، شديد المراس، بليغ العبارة، يتأثر ويؤثر، حلو المعشر، رقيق القلب، كريم الطبع... يلمس هذا فيه كل من عاش معه، أو رافقه أو التقاه، فهو لا يحب التكلف، ويكره التعالم والتحذلق، يعيش الواقع بكل مشكلاته، ويتصدى للمعضلات، ويكشف الحقائق، ويدق جرس الخطر؛ ليحذر الأمة من الوقوع في المهالك والسقوط في الهاوية التي يقود إليها شياطين الإنس والجن في الشرق والغرب على حدٍّ سواء.

والشيخ الغزالي من أعلام الإسلام في العصر الحديث، وهو داعية قل نظيره في العالم الإسلامي اليوم، يتمتع ببديهة حاضرة، وديباجة مشرقة تأخذ بمجامع القلوب، حتى إنني كنت أحفظ مقاطع بل صفحات كاملة من كتبه، وأرتجلها في الخطب بنصها، وقد ذكر ذلك الدكتور القرضاوي في كتابه (الشيخ الغزالي كما عرفته) فقال: «أذكر أن الأخ عبد الله العقيل حين كان يدرس في كلية الشريعة بالأزهر في أوائل الخمسينيات، كان يحفظ مقدمة الطبعة الثانيـة لكتاب (الإسلام والأوضاع الاقتصاديـة) ومطلعها: لم تستذلّ شعوب كما استذلت شعوب الشرق، ولم يُستغل شيء في هضم حقوقها كما استغلّ الدين.. إلخ» انتهى.

لقاؤه الندوي

يقول الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه القيِّم (مذكرات سائح في الشرق العربي): «كنت حريصًا على الاجتماع بالشيخ محمد الغزالي الذي حدثني عنه الطالب عبد الله العقيل وأثنى عليه بصفة خاصة وأهداني بعض مؤلفاته، فهو من شخصيات الإخوان المسلمين البارزة، وأحد كتَّاب النهضة الدينية بمصر، وقابلت مؤلف (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) و(الإسلام والمناهج الاشتراكية) و(الإسلام المفترى عليه) و (من هنا نعلم)، قابلت الرجل الذي يغذي جماعة الإِخوان المسلمين بالغذاء الفكري والروحي الصحيح والأدب الإِسلامي الدسم، وسررت لهذه المقابلة؛ لأني رأيت فيه رجلاً صالحًا مثقفًا نشيطًا صاحب قلب حيٍّ وعقل نيِّر، ووجه يفيض بالبشر، ورأيت أن كلاً منا يعرف صاحبه عن طريق الكتب والرسائل ويرى في هذه الكتب صورة أفكاره ومبادئه...» انتهى.

مولده ونشأته ومشايخه

ولد شيخنا الغزالي في يوم 1917/22/9م في قرية (نكلا العنب) من إيتاي البارود بمحافظة البحيرة بمصر.

ونشأ في أسرة محافظة يغلب عليها العمل بالتجارة، وكان والده من حفظة القرآن الكريم، وقد نشأ الابن على ذلك، فحفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات، وتـلقى تعليمه في كتّاب القرية، ثم التحق بالمعهد الـديني بالإسكندرية، حيث أكمل المرحلتين الابتدائية والثانوية، ثم انتقل إلى القاهرة، ودرس بكلية أصول الدين سنة 1357هـ 1937م، وحصل على الشهادة العالمية سنة 1361هـ 1941م، ثم تخصص في الدعوة والإرشاد، حيث نال شهادة الماجستير 1362هـ 1943م، وتزوج وهو طالب بكلية أصول الدين ورزق بتسعة من الأولاد.

من أهم مشايخه الذين تأثر بهم فترة الدراسة: الشيخ عبد العزيز بلال، والشيخ إبراهيم الغرباوي، والشيخ عبد العظيم الزرقاني وغيرهم.

عمله

بعد تخرّجه عمل إمامًا وخطيبًا في مسجد (العتبة الخضراء) ثم تدرّج في الوظائف حتى صار مفتشًا في المساجد، ثم واعظًا بالأزهر ثم وكيلاً لقسم المساجد، ثم مديرًا للمساجد، ثم مديرًا للتدريب فمديرًا للدعوة والإرشاد.

وقد قضى في معتقل الطور سنة 1369هـ 1949م، حوالي السنة، وقضى في سجن طرة عام 1385هـ 1965م فترة من الزمن.

وفي سنة 1391هـ 1971م أعير للمملكة العربية السعودية أستاذًا في (جامعة أم القرى) بمكة المكرمة، ودرّس في كلية الشريعة بقطر، وفي سنة 1401هـ 1981م، عُيِّن وكيلاً لوزارة الأوقاف بمصر، كما تولى رئاسة المجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الجزائري الإسلامية بالجزائر لمدة خمس سنوات وكانت آخر مناصبه.

أول معرفته بالإمام البنا

وعن صلته بالإمام الشهيد حسن البنا، يروي الأستاذ محمد المجذوب في كتابه (علماء ومفكرون عرفتهم) على لسان الغزالي قوله:

«... كان ذلك أثناء دراستي الثانوية في المعهد الديني بالإسكندرية، وكان من عادتي ملازمة مسجد عبد الرحمن بن هرمز في منطقة رأس التين بعد المغرب من كل يوم لمذاكرة الدروس، وذات مساء، وإذا بالإمام البنا يلقي على الناس موعظة قصيرة شارحًا فيها الحديث الشريف: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، وكان حديثًا مؤثرًا يتصل بأعماق القلب، فما إن فرغ منه حتى وجدت نفسي مشدود القلب إليه، ومنذ تلك الساعة توثقت علاقتي به، ومضيت معه عقب صلاة العشاء إلى مجلس يضم بعض رجال الدعوة، ثم استمر عملي في ميدان الكفاح الإسلامي مع هذا الداعية العملاق إلى أن استشهد سنة 1369هـ 1949م» انتهى.

علاقة الغزالي بمرشدي الإخوان المسلمين

وكتب الغزالي في مقدمة كتابه (دستور الوحدة الثقافية للمسلمين) فقال: «... مُلْهم هذا الكتاب وصاحب موضوعه الأستاذ الإمام حسن البنا، الذي أصفه ويصفه معي كثيرون، بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة. فقد وضع الإمام البنا جملة من المبادئ تجمع الشمل المتفرق، وتوضح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم من خلال الماضي من أسباب العوج والاسترخاء بيد آسية، وعين لماحة، فلا تدع سببًا لضعف أو خمول...» انتهى.

وعن الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين، كتب الغزالي يقول: «... من حق الرجل أن أقول عنه: إنه لم يسع إلى قيادة الإخوان المسلمين، ولكن الإخوان هم الذين سعوا إليه، ومن حقه أن يعرف الناس عنه، أنه تحمل بصلابة وبأس كل ما نزل به، فلم يجزع ولم يتراجع، وبقي في شيخوخته المثقلة عميق الإيمان واسع الأمل حتى خرج من السجن.

الحق يُقال إن صبره الذي أعز الإيمان، رفعه في نفسي، وإن المآسي التي نزلت به وبأسرته، لم تفقده صدق الحكم على الأمور، ولم تبعده عن منهج الجماعة الإسلامية منذ بدأ تاريخها. وقد ذهبت إليه بعد ذهاب محنته وأصلحت ما بيني وبينه، ويغفر الله لنا أجمعين» انتهى.

وعن الأستاذ عمر التلمساني المرشد الثالث للإخوان المسلمين كتب الغزالي يقول: «... في سنة 1369هـ 1949م، ونحن في معتقل الطور مع الألوف من الإخوان بعد استشهاد الإمام حسن البنا، رأيت الأستاذ عمر التلمساني في خطواته الوئيدة، ونظراته الهادئة، يمشي في رمال المعتقل باسمًا متفائلاً، يُصبِّر الإخوان على لأواء الغربة وقسوة النفي ويؤمل الخير في المستقبل، ورأيتني أمام رجل من طراز فذ، تحرِّكه في الدنيا مشاعر الحب والسلام، وكان يكره الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويؤثر العزلة، ويرى أنسه في الانقطاع إلى الله، ولم تكن رذائل الرياء والتطلع تعرف طريقًا إلى فؤاده، ذهبت إليه لأتعاون معه في خدمة الإسلام، فقال لي: تعلم أن هذا عبء ثقيل تحملته برغمي وقبلته وأنا كاره؟! قلت: نعم أعلم ذلك، فأنت ما سعيت إلى صدارة، ولا تطلعت إلى إمارة، ومثلك جدير برعاية الله وتسديده..» انتهى.

هذا الذي قاله الغزالي عن الإمام البنا ثم الهضيبي ثم التلمساني يكشف لنا عن نفسية الشيخ الغزالي وأصالته ونفاسة معدنه.

شهادات بحق الغزالي

وحسبه فخرًا واعتزازًا أن يتلقى وهو في مرحلة الشباب الرسالة التالية من الإِمام حسن البنا سنة 1945م وهذا نصها: «... أخي العزيز الشيخ محمد الغزالي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، قرأتُ مقالك (الإخوان المسلمون والأحزاب) في العدد الأخير من مجلة الإِخوان المسلمون) فطربت لعبارته الجزلة، ومعانيه الدقيقة، وأدبه العف الرصين، هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان المسلمون، اكتب دائمًا وروح القدس يؤيدك، والله معك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حسن البنا» انتهى.

يقول د. عبد الصبور شاهين: «... ما أكتبه هنا شرف لي قبل أن يكون تقديمًا للكتاب، والحق أن كتابًا يوضع على غلافه اسم الأستاذ الغزالي لا يحتاج إلى تقديم، فحسبه في تقديري أن يتوج بهذا العلم الخفاق وقد قرأت الدنيا له عشرات الكتب في الإسلام ودعوته، وتلقت عنه ما لم تتلق عن أحد من معاصريه، حتى إن عصرنا هذا يمكن أن يطلق عليه في مجال الدعوة عصر الأستاذ الغزالي» انتهى.

ويقول الأستاذ عمر عبيد حسنة ـ مدير تحرير مجلة الأمة القطرية ـ: «... كتابات الشيخ الغزالي تحمل عاطفة الأم على وليدها المريض، الذي تخشى أن يفترسه المرض، وبصيرة الطبيب الذي يقدم العلاج، وقد يكون العلاج جراحة عضوية إن احتاج الأمر إلى ذلك، وكانت كتبه تواجه التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء، ونجد الشيخ الغزالي في الخندق الأول، حيث أدرك الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها أعداء الإسلام» انتهى.

ويقول الأستاذ قطب عبد الحميد قطب: «إنني واحد من عشرات الألوف المؤلفة التي تعشق من أعماق قلوبها الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي.. وأشهد أن حبي لهذا العالم الكبير والداعية الشهير أكبر من حبي لنفسي، فهو من القلة النادرة التي تربّى على علمها وفضلها أكثر من جيل، لا في مصر وحدها، ولكن في كثير من البلدان العربية والإسلامية، كيف لا وهو الذي تربى في أحضان الدعوة ورضع من لبانها وتتلمذ على جهابذة العلم وأساتذة الفكر وأساطين الدعوة، وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا» انتهى.

ويقول د. عبد الستار فتح الله سعيد: «.. لا ينسى تاريخ الإسلام، ما قام له الأئمة الأعلام من جهد ناصب لرد الغارة الجاهلية العارمة، وحشد الأمة حول معالم الإسلام الشامل، الذي لا يقبل التجزئة والتفريق، ولقد قامت أفواج متلاحقة تذود عن معالم الوحي والحق، وفي ظلال المدرسة الربانية المجاهدة التي أسسها الإمام الشهيد حسن البنا تربى شيخنا محمد الغزالي وحمل أعباء الدعوة مع رجالها الكبار، ثم صار ـ بفضل الله ـ علمًا من أعلامها، ومضى يرفع لواءها شامخًا في وجه الاستبداد والإلحاد، ويذود عن شرف الإسلام بقلمه ولسانه، ويجلي حقائق الوحي الأعلى، ويقارع الجاهلية الطامسة يوم ضرب الطغيان على أمتنا ليلاً بهيمًا» انتهى.

أما شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود، فقد كان يقدِّر الشيخ الغزالي ويعـرف له حقـه وفضـله، ويفخر به ويعتز ويقول: «ليس لـدينا إلاَّ غزالي الأحـياء والإحياء» يعني الغزالي المعاصر، والغزالي أبا حامد صاحب إحياء علوم الدين.

لقد استفاد شباب الصحوة الإسلامية المباركة من علم الشيخ الغزالي وجرأته وصراحته، وصدقه ووضوحه، وكان له تلامذة في الأزهر في مصر وفي أم القرى في مكة المكرمة وفي كلية الشريعة في قطر وفي جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في الجزائر، ومن خلال: الخطب، والدروس، والمحاضرات، والندوات، والكتب، والمقالات، والاجتماعات والمؤتمرات.

وهؤلاء التلامذة يعدون بالألوف من أنحاء العالم الإسلامي، وهم أوفياء لدعوة الإسلام حملوا الراية مع أستاذهم وشيخهم وانطلقوا يبلغون دعوة الله وينشرون رسالة الإسلام ويقودون الأمة إلى مواطن الخير والفلاح والنصر والنجاح.

وقد برز منهم أساتذة كبار وعلماء فحول، تقرّ بهم العيون وتعلّق عليهم الآمال، ومن هؤلاء: العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ منَّاع القطان، والشيخ محمد الراوي، والدكتور أحمد العسَّال.. وغيرهم.

إنتاجه العلمي

إن لشيخنا الغزالي مؤلفات كثيرة جاوزت الستين كتابًا في موضوعات مختلفة، بالإضافة للمحاضرات والندوات والخطب والمواعظ والدروس والمناظرات التي كان يلقيها داخل مصر وخارجها، وإن خطبه في الجامع الأزهر وجامع عمرو بن الـعاص وخطب العيد في ميدان عابدين وجامع مصطفى محمود.. لها شأن عظيـم وأثر بـالغ كبير، حيث كان يحضرهـا الألوف من الناس.

مؤلفاته

  1. الإسلام والأوضاع الاقتصادية
  2. الإسلام والمناهج الاشتراكية
  3. من هنا نعلم
  4. الإسلام والاستبداد السياسي
  5. عقيدة المسلم، خلق المسلم
  6. فقه السيرة، ظلام من الغرب
  7. قذائف الحق
  8. حصاد الغرور
  9. جدد حياتك
  10. الحق المر
  11. ركائز الإيمان بين العقل والقلب
  12. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام
  13. مع الله
  14. جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج
  15. الطريق من هنا
  16. المحاور الخمسة للقرآن الكريم
  17. الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر
  18. دستور الوحدة الثقافية للمسلمين
  19. الجانب العاطفي من الإسلام
  20. قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة
  21. السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث
  22. مشكلات في طريق الحياة الإسلامية
  23. سر تأخر العرب والمسلمين
  24. كفاح دين
  25. هذا ديننا
  26. الإسلام في وجه الزحف الأحمر
  27. علل وأدوية
  28. صيحة تحذير من دعاة التنصير
  29. معركة المصحف في العالم الإسلامي
  30. هموم داعية
  31. مائة سؤال عن الإسلام
  32. خطب في شؤون الدين والحياة "خمسة أجزاء
  33. الغزو الفكري يمتد في فراغنا
  34. كيف نتعامل مع القرآن الكريم
  35. مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه
  36. نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم
  37. من كنوز السنة
  38. تأملات في الدين والحياة
  39. الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين
  40. كيف نفهم الإسلام
  41. تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل
  42. قصة حياة
  43. واقع العالم الإسلامي في مطلع القرن الخامس عشر
  44. فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء
  45. حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي
  46. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين
  47. الإسلام والطاقات المعطلة
  48. الاستعمار أحقاد وأطماع
  49. حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة
  50. نظرات في القرآن
  51. ليس من الإسلام
  52. في موكب الدعوة... إلخ.

ولقد تُرجم الكثير من هذه المؤلفات القيمة إلى العديد من اللغات، كالإنجليزية والتركية والفارسية والأوردية والإندونيسية وغيرها. ومعظم الذين قاموا بهذه التراجم هم من تلامذة الشيخ الغزالي ومحبيه وعارفي فضله الذين استفادوا من فيض علمه وعطائه.

صفاته

يقول العلاَّمة الدكتور القرضاوي:

«قد تخالف الغزالي أو يخالفك في قضايا تصغر أو تكبر وتقل أو تكثر، ولكنك ـ إذا عرفته حق المعرفة ـ لا تستطيع إلا أن تحبه وتقدِّره، لما تحسه من إخلاص لله، وتجرد للحق واستقامة في الاتجاه، وغيرة صادقة على الإسلام.

صحيح أنه أُخذ على الشيخ أنه سريع الغضب، وأنه إذا غضب هاج كالبحر حتى يغرق، وثار كالبركان حتى يُحرق، وسر هذا أن الرجل يبغض الظلم والهوان لنفسه وللناس، ولا يحب أن يَظلم أو يُظلم، ولا أن يستخف بكرامة أحد، كما لا يستخف بكرامته أحد، كما أنه لا يطيق العوج والانحراف، وبخاصة إذا لبس لبوس الاستقامة، أو تستر بزي الدين، فهو الذي يقاتله سرًا وعلانية.

ثم إن من صفات الشيخ الغزالي أنه ـ إن كان سريع الغضب ـ فهو سريع الفيء، رجاع إلى الحق إذا تبيَّن له، ولا يبالي أن يعلن خطأه على الناس علانية، وهذه شجاعة لا تتوافر إلاَّ للقليل النادر من الناس.. فهو شجاع عندما يهاجم ما يعتقده خطأ، شجاع عندما يعترف بأنه لم يحالفه الصواب فيما كان قد رآه.

قد يأخذ الناس على الشيخ الغزالي بعض آرائه وفتاويه؛ لأنها ليست على مشربهم ولكن الذي أعلمه أن الشيخ الغزالي لم يخرج في فتوى أو رأي على إجماع الأمة المستيقن، وقد اتُّهم شيخ الإسلام ابن تيمية قديمًا بأنه خرق الإجماع في قضايا الطلاق، وما يتعلق به، وهي التي قال فيها تلميذه الحافظ الذهبي: «وله فتاوى نيل من عرضه بسببها وهي مغمورة في بحر علمه».

والغزالي يعترف بالفضل لإخوانه وزملائه أمثال الشيخ سيد سابق والشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ زكريا الزوكة والشيخ إسماعيل حمدي وغيرهم.

بل كان يُخجلني بقوله أمام الملأ: (اسألوا يوسف القرضاوي فهو أولى مني، لقد كان فيما مضى تلميذي، وأما اليوم فأنا تلميذه). وهذه منزلة لا يرقى إليها إلا الصادقون» انتهى.

لقد كثرت لقاءاتي مع الشيخ الغزالي وتعددت منذ التقيته أول مرة بمصر سنة 1949م وإلى أن لقي ربه.

فقد زار الكويت أكثر من مرة وخطب وحاضر، وسعدنا به في الندوة الأسبوعية مساء الجمعة وكانت آخر ندوة له هي التي شاركه فيها الشيخ عبد العزيز المطوع والدكتور عصام البشير، كما كانت زياراتي له بالقاهرة أكثر من مرة وآخرها قبل فترة وجيزة من وفاته.

ثم شاء الله أن يحضر مؤتمر الجنادرية ليشارك في ندوة (الإسلام والغرب) وكنت وقتها في زيارة لسورية بدمشق، فإذا بالأنباء توافينا بالخبر الذي زلزل كياني حزنًا على فقده، فهو شيخي وأستاذي وأنا مدين له بفضل كبير.

لقد كان الغزالي علمًا شامخًا، وداعية مجددًا، ومجاهدًا صلبًا، ومقاتلاً شجاعًا، وكاتبًا قمة في البلاغة والأدب قل نظيره في دنيا العروبة والإسلام، كما ذكر ذلك الأستاذ عبد العزيز عبد الله السالم في جريدة الرياض.

من أقواله

  • "إن البركة هي رعاية السماء لعملك المتقن، فلا يخطئ هدفه ولا يفقد ثمرته.
  • هي التوفيق لاستغلال الشيء على أحسن وجوهه، ووضع الأمور في مواضعها دون عناء أو عوج.
  • هي الإفادة الكاملة من الوقت والمال، فلا يضيع هذا في لغو، ولا يضيع ذاك في باطل.
  • البركة هي هداية الله للجهد الإنساني، فلا يذهب فريسة خطأ، ولا يفشل نتيجة غضب" ... كتاب "مع الله" طبعة دار القلم ص230

وفاته

وقد توفي في الرياض يوم 1996/9/3م ـ 1416هـ ونُقل إلى المدينة المنورة، حيث دفن في مقابر البقيع. وكان لصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله ابن عبد العزيز آل سعود دوره المشكور في تقدير الرجل وتكريمه في حياته وبعد مماته ومواساة أسرته.

رحم الله شيخنا الجليل الشيخ محمد الغزالي السقا وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين، وحشرنا الله وإياه مع الأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

وقفة نقدية مع الشيخ محمد الغزالي - الأديب الشاعر .. بقلم/ الدكتورجابر قميحة

في سبتمبر سنة 1917م كان مولده، وفى مارس سنة 1996م كان رحيله.. رحيله من دنيا الناس الفانية، إلى عالم البقاء في رحاب الله(1)، كان آخر ما سمعناه منه في مصر خطبة عيد الفطر سنة 1416هـ بمسجد مصطفى محمود بالجيزة.

فكان - كعهدنا به - متوهج العقل والمشاعر، معبرًا في صراحة وتفتح، وشباب وإيمان عن هموم المسلمين والعرب، وما حيك، ويحاك لهم من مؤامرات الظلم والعدوان.

وكان - يرحمه الله - يعالج القضايا الإسلامية والعربية والاجتماعية بالنظرة الشاملة الفاحصة الواعية، موزعًا نظره على كل الزوايا والمنحنيات والنتوءات، فلا يترك من «مساحة» الموضوع قيد أنملة إلا استوعبه، وعالجه.

وكان - يرحمه الله - يتمتع بقدرة خاصة على استدعاء الشواهد القرآنية والنبوية، والتاريخية، والعلمية، والإحصائية لتأييد آرائه وتدعيمها، ولكن بدون تعنت أو تعسف، أو افتئات، متحليًا في جدله بأدب الإسلام في أناة ووقار ولين ورحمة، ولكن دون أن يتخلى عن حماسة المتمكن، واستعلاء الإيمان.

حتى الذين هاجموا - في شدة وقسوة وتشنج - بعض مؤلفاته الأخيرة، وخصوصًا كتابه في السنّة، وطور بعضهم هجومه من «تجريح» ما كتب، إلى «تجريح من كتب»، حتى مع هؤلاء ظل عف القلم، عف اللسان، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى(2).

بعض من أعطياته

ومما يشهد له في هذا المقام موقفه من كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، لقد أحدث الكتاب ضجة كبرى؛ لأنه كان غاصًا بالغلط والمغالطات والهجوم الضاري على ثوابت الإسلام، منتصرًا للتوجهات والمذاهب الغربية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن هذا الهراء كان صادرًا من «عالم أزهري»، تصدى له الإمام محمد الغزالي سنة 1950م بكتابه «من هنا نعلم»، وبعلمه الموسوعى الغزير، وقوة عارضته، استطاع أن ينقض كتاب خالد عروة عروة، وخيطًا خيطًا دون أن يخدش الرجل في خلقه وعقيدته، وبذلك استطاع الغزالي - بهذا الكتاب، وبما تلاه من كتب - أن يرسي أدب الإسلام في الجدل والمناظرة، والحوار، والتحدي، والتصدي(3).

ونشهد لأستاذنا الغزالي - كذلك - قدرته الفائقة على الربط بين القديم والحديث، وكان يؤمن بأن «الحديث» يجب ألا يرفض لحداثته «بدعوى أنه بدعة»، أو يرفض «لعلمانية» صاحبه، وإلا كنا ممن لا يعدلون لشنآن قوم، والتوجيه الإلهي الحق هو {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.

وقبل البعثة حضر محمد – صلى الله عليه وسلم - في دار عبد الله بن جدعان حلفًا لنصرة المظلومين والمستضعفين هو «حلف الفضول»، وبعد أن بُعث نبينا أثنى على الحلف، وأعلن أنه لو دعى إليه في الإسلام لأجاب(4).

ومما يزيد على نصف قرن، وضع الغزالي أمامنا «الميزان الصحيح»، إذ كتب «... نحن نقول: إننا نحارب التدين الباطل بالتدين الصحيح، ونحارب الكهانة المنافقة بالإسلام الحق، ونختبر كل ما يجد في الدنيا من أسماء وحقائق بما لدينا من كتاب وسنة، فما وافق مواريثنا المقدسة من كتاب الله وسنة رسوله قبلناه، وما جافاه نبذناه، ولا كرامة»(5).

ومن إبداع الغزالي - رحمه الله - تلك الخاطرة التي كان يكتبها أسبوعيًا في صحيفة «الشعب» بعنوان «هذا ديننا»، يعالج في كل منها قيمة من القيم الإسلامية الإنسانية، أو مشهدًا من مشاهد «انكسار المسلمين» أمام «الأكلة» من الصهاينة والصليبية العالمية، ومن على دربهم سار، وقد تمثل خاطرته حملة على بدعة ضارة أو عادة اجتماعية خبيثة، أو ما دار في هذا الفلك، وكانت الخاطرة لا تزيد على ثلاث مئة كلمة، ولكنها كانت - بما تتمتع به من «تكثيف» و«تقطير» في التقييم وجمال عرض - شهادة حقيقية بأن الغزالي من أبرع من يكتب «الخاطرة» في عصرنا هذا، وبذلك اجتمع لقلمه القدرة على كتابة «السفْر الضخم»، وكتابة الأسطر المقطرة الوافية، وما أصعبها إلا على أمثال الغزالي العظيم.

واحد من تلاميذه أنا..

وأشهد وأعتز بأنى كنت واحدًا من تلاميذ شيخنا محمد الغزالي، وما زلت، ولكننى - وأعترف - كنت تلميذًا «لفكر» أكثر منى تلميذًا «لمفكر»، كنت تلميذًا أتلقى، أكثر منى تلميذًا يلتقي، فقد عشت الغزالي: فكرًا، وأدبًا، وحصائل نفس وعقل وروح، أكثر من معايشة مجالس ولقاءات، وقد يكون من أسباب ذلك سنوات غربة موزعة على قرابة ربع قرن قضيتها متقطعات بين الكويت وباكستان والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية.. غربة إرادية تهدف إلى تعليم الشباب في جامعات هذه البلاد أدبًا ونقدًا وفكرًا ودراسات نقدية وإسلامية.

ولكن واقعى النفسى يقول - بلا غلو أو إفراط وإسراف -: إننى إن فاتنى «الرسم» فما فاتنى «الوسم»، وإن كانت «سيما» المؤمنين في وجوههم من أثر السجود، فإنى رأيتها في شخصية الغزالي التي جمعت في أقطار النفس بين التواضع واستشعار العزة واستعلاء الإيمان، وجمعت في أقطار القلب بين روحانية دفاقة، وواقعية لا تجور، وجمعت في أقطار العقل بين سعة الأفق، والحسم، والقدرة على النقد والنقض والإقناع. إنه الحضور الدائم للشيخ العظيم:

وما كلّ مفقود يُراع لفقدِهِ

ولا كل حيٍّ فائقٌ ومحبّب

ولا كل من يحيا الحياة بحاضرٍ

ولا كل من في القبر ماضٍ مغيّب

فإن خلود المرء بالعمل الذى

يقودُ مسار الخير لا يتهيبُ

عزيزًا مع الحق القويم.. منارةً

تشد إليها كل قلب وتجذب

فالغزالي ما غاب، وما زال - وسيظل - حاضرًا فائقًا، وإن غاب برسمه وجسمه، وهذه سمة العظماء الأجلاء من البشر، أيًا كانت مواقعهم في دنيا الناس... قيادة ورياسة وجندية، وفكرًا وأدبًا وشعرًا.

ولكنى أعود فأقول بصدقية المحب المتابع: إننى عشت الغزالي وسمًا ورسمًا وجسمًا وحسًا وشعورًا وصوتًا، ومجالسة ومصاحبة، ومعاناة وفكرًا؛ فقد اكتشفت أن بين «المادى الغزالي»، و«المعنوى الغزالي» ترادفًا؛ لأنه كله يمثل منظومة اسمها محمد الغزالي، ذات أنساق متسقات، وإن اختلفت في الأشكال، كباقة الزهر تجمع بين الورد والنرجس والفل والريحان، ولكنها جميعًا تلتقى في سمات ثلاث: التلاحم والجمال والتقطير.

وهكذا كان شيخنا الغزالي، اتساقًا في الفكر، ودقة في العرض، وإيمانًا بالمقول، وتوافقًا في الأعطيات، وقوة في الإقناع والاستمالة، ولا نزاع.

قطوف من الشجرة الشامخة

وأشهد أننى - وأنا طالب في بداية المرحلة الثانوية أواخر الأربعينيات - فتحت عينى وعقلى وقلبى معايشًا متتلمذًا على بواكير أعطياته الفكرية: الإسلام والأوضاع الاقتصادية (1947م) والإسلام والمناهج الاشتراكية، والإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، ثم الإسلام والاستبداد السياسى، وتأملات في الدين والحياة، وعقيدة المسلم، وخلق المسلم، ثم كتاب: من هنا نعلم (1950م) الذى قصم ونقض فيه كل ما كتبه: خالد محمد خالد: من هنا نبدأ، وعشرات من الكتب بعدها.

وزيادة على ما أثريته من هذه الكتب في مجالات العقيدة والفكر ومناهج التناول والمعالجة والبحث والخلق الإسلامي العتيد... خرجت بأدب رفيع آسر جميل «وإن من البيان لسحرًا»، فالرجل - رحمه الله - كان يعرض الحقائق الإيمانية، والمضامين الفكرية، وقواعد الدين والخلق في أسلوب طلى أخاذ، يشد القارئ إلى المعروض - كتابًا أو مقالاً، أو خطبة، أو محاضرة - ويحقق له المتعة الوجدانية، زيادة طبعًا على الحصائل الفكرية... إنه يقدم الدواء في «عصائر» طيبة المذاق، فواحة الأريح، منزهًا عن التجرد والجفاف، فجاء نقيًا نديًا، يؤتى أكله - بإذن ربه - كل حين، وإن كل شريحة من شرائحه النصية في أى كتاب من كتبه لتصلح شاهدًا على هذه السمة: حلاوة الأسلوب وطلاوته، وتدفقه وقوة أسره، ونقدم في السطور الآتية بعض القطوف التى تدل على هذه السمة:

1 - إذا دهمتك شدة تخاف منها على كيانك كله، فما عساك تصنع؟ تدع الروع ينهب فؤادك، والعواصف الجائحة ترمى بك في مكان سحيق، أم تقف مطمئنًا، وتحاول أن تتلمس بين هذه الضوائق مأمنًا يهديك إليه الفكر الصائب؟(6)

2 - ... والحق أن الرجولات الضخمة لا تعرف إلا في ميدان الجرأة، وأن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلامًا لذيذة في نفوس أصحابها، وما تتحول حقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة.

وكما أن التردد خدش في الرجولة، فهو تهمة للإيمان، وقد كره النبي (ص) أن يرجع بعدما ارتأت كثرة الصحابة المصير إليه(7).

3 - الرجل صاحب الرسالة يعيش لفكرته، ويعيش في فكرته، فحياته فكرة مجسمة تتحرك بين الناس، تحاول أبدًا أن تفرض على الدنيا نفسها، وأن تغرس في حاضر الإنسان جذرها ليمتد على مر الأيام والليالى فروعًا متشابكة تظلل المستقبل. وتتغلغل فيه(8).

4 - إن محمدًا وصل الناس بربهم على ومضات لطاف من تقدير العظمة ورعاية النعمة، فهم إذا انبعثوا لطاعته كانوا مدفوعين إلى أداء هذه الطاعات، بأشواق من نفوسهم، ورغبات كامنة تجيش بتوقير العظيم وحمد المنعم.

والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب، وليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة(9).

التمثل والاستشهاد

ومن اللوازم الأسلوبية للغزالي الإكثار من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية والحكم السلفية، والمأثور من الشعر القديم، وكذلك بعض الشعر الحديث، وهو يملك موهبة بصيرة قادرة على التقاط الشواهد، ووضعها في أنسب مكان لها، فيتحقق الانسياب والاندماج والتوافق، وكأن شواهده - غير القرآن والأحاديث النبوية - ما صيغت إلا للنص المعروض، ومن دقة اختياره المأثورة الآتية في سياق النعى على أدعياء الدين والتدين، الذين يفرطون في دينهم من أجل الحياة الناعمة، وزهرة الحياة الدنيا:

«عن مالك بن أنس قال لي أستاذي ربيعة:(10)

يا مالك، من السفلة؟ قلت: من أكل بدينه. فقال: من سفلة السفلة؟ قلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه»، فصدقني (أي قال لي: صدقت).

وقال الفضيل بن عباس: «لأن آكل الدنيا بالطبل والمزمار أحب إليّ من أن آكلها بدين»(11).

ولا يكاد فصل من كتاب للغزالي - وأكاد أقول صفحة - يخلو من شاهد من شواهد الشعر القديم يلتحم بنثره كأنهما يخرجان من مشكاة واحدة، يقول الغزالي:

«وإنني بعدما بلوت الناس أجدني مضطرًا لأن أقول: محِّض عملك لله، وانشد ثوابه وحده، ولا تنتظر أن يشكرك أحد من الناس، بل توقع أن يضيق الناس بك!! وأن يحقدوا عليك، وأن يبتغوا لك الريبة، وينسوا الفضل!! وأن يكونوا كما قال الشاعر:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحًا

عنى وما سمعوا من صالحٍ دفنوا

جهلاً علينا، وجبنًا عن عدوهمُ

لبئست الخلتان: الجهلُ والجبنُ(12)

وللشعر الحديث مكان في كتاباته وخطبه، ومن كلماته: «فالنهج الأقوم أن يكون مصدر طاقتنا المادية والمعنوية هو الحق وحده.

وماذا على المريض المصاب بقرحة الأمعاء، لو أنه حسب الموت نُقلة من بلد إلى بلد، وماذا لو تحمل نبأ العلة التى أصابته بطمأنينة وتسليم لأنه يؤمن بالله، ولا يحزن من لقائه، وإن اقترب موعده؟! ومن أبيات للشاعر محمد مصطفى حمام:

علمتنى الحياة أن حياتى

إنما كانت امتحانًا طويلا

قد أرى بعده نعيمًا مقيما

أو أرى بعده عذابًا وبيلا

علّ خوفى من الحساب كفيلٌ

ليَ بالصفح يومَ أرجو الكفيلا

عل خوفى يردنى عن أمورٍ

خبثتْ غايةً وساءت سبيلا

وعد الله من يُنيب ويخشى

بطشه رحمة وصفحًا جميلا

وبحسبى وعدٌ من الله حقٌ

إنه كان وعده مفعولا»(13)

الوجوه المتقابلة

وفي أداء الشيخ يكثر توظيف التضاد، أو ما يمكن أن نسميه «الوجوه المتقابلة»، وما يسمى فنيا «المفارقة»، وهو أسلوب «يعتمد بصفة أساسية على عرض المتناقضات، أو المتقابلات، فهو يقتضي وجود «طرفين» تربط بينهما علاقة الضدية، وقد تكون المفارقة بين لفظين كالأبيض والأسود، كما تكون بين صورتين أو لوحتين متقابلتين لهدف فني أو فكري»(14)، ويسميها بعضهم «بلاغة الأضداد»(15).

والتناقض في المفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل، أو بتعبير مقابل: تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف(16).

وواضح أن الهدف الأساسي من المفارقة هو خلق التمييز القوي الواعي لإدراك الفرق الشاسع بين الوجهين المتقابلين، فبضدها تتميز الأشياء، وذلك يكون قوة نفسية دافعة للمتلقي أن يختار الوجه الأحسن الأفضل.

ونقدم في السطور التالية نموذجين لهذه المفارقة، أو «الوجوه المتقابلة» من كتابات الشيخ:

1 - النفس المختلة تثير الفوضى في أحكم النظم، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلة، ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير.

إن القاضي النزيه يكمل بعدله نقص القانون الذي يحكم به، أما القاضي الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة.

وكذلك نفس الإنسان حين تواجه ما في الدنيا من تيارات وأفكار، ورغبات ومصالح.


ومن هنا، كان الإصلاح النفسى الدعامة الأولى لتغلب الخير في هذه الحياة، فإذا لم تصلح النفس أظلمت الآفاق، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم(17).

2 - تمثيلية الصلاة في إطار من غيبوبة عقلية تامة، هل له من صلاته شيء؟ إننا لن نعده مبارزًا بالعصيان، وتاركًا للفريضة، لكن هل هذه التمثيلية تزكي نفسًا، وترفع رأسًا؟

هذا المصلى الذاهل صنو المؤمن المقلد، وكلاهما لا تنهض به حياة، ولا يرشد به مجتمع؛ لأن كليهما معطوب من داخله، وأجهزته النفسية والفكرية في حالة ركود، على أن خطورة هذا النوع من التدين تبدو في ميادين الأعمال العادية، فالرجل صاحب الفكرة أو صاحب الدعوة يتفاعل مع الحياة العامة، وتتفاعل معه؛ لأنه يستحيل أن يتحرك بمعزل عنها، فإن كان صاحب عقل يقظان، ويقين وثّاب فرض نفسه عليها، وطوع كل شيء حوله لما يريده.

والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمّة، والبيئة المائعة أثر أناس أمرهم فرط، وأخلاقهم سائبة.

والأمة المجاهدة صنْع أناس يغالون بإيمانهم، ويسخرون ما يملكون لدعمه، ويوجهون مواهبهم العلمية، وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية لخدمة ما يعتنقون.

والمؤمنون المقلدون، والمصلون الذاهلون ينفعلون، ولا يفعلون، ويقادون ولا يقودون، ويعيشون وفق ما يقال لهم، لا ما توحيه ضمائرهم(18).

من ملامح الأداء التعبيرى

ومع سهولة الأسلوب وتدفقه وحلاوته نرى السجع قليلاً في عباراته، وأكثر منه الازدواج، فالأسلوب في مجموعه أسلوب مرسل لا تكلف فيه ولا تصيد، كما أنه في أدائه يكثر من التكرار المعنوي أو ما يسمى بالترادف، أى أداء المعنى الواحد بأساليب متعددة بهدف تأكيد المعنى وترسيخه، كما أنه يزيد من امتداد جاذبية الأسلوب، ومن ثم تقوية ارتباط القارئ بالمقروء تحقيقًا للغرض المرجوّ المنشود.

ومع ذلك نجد في «التكرار المعنوي» بعض الفروق الكمية بزيادة محدودة في المعنى، أو ملمحًا - ولو ناصلاً - بفتح الطريق لزيادة في التفكير والتوليد، ومن التكرار المعنوي قوله:

«ونظرت للقراء الذين يطالعون الصحف، والجمهور الذي يسمع الإذاعة، فما وجدت جبينًا مقطبًا، ولا عينًا دامعة، ولا تعليقًا محزونًا!! إنهم يقرءون أخبارًا لسكان كوكب آخر!!

إن الغزو الثقافى نجح أتم نجاح في إماتة الأخوة الإسلامية، وإهالة التراب عليها»(19).

ومن سماته الأسلوبية إيثار نوعين من الجمل: الجمل المساوية التي تأتي على قدر الفكرة المعبرة عنها، وأكثر منها الجمل الطويلة التي تتسع للفكرة المنبسطة الممتدة، كما رأينا في نص سابق: «والبيئة الفاضلة أثر أناس لهم شرف وهمّة...

والأمة المجاهدة صنع أناس يغالون بإيمانهم...

وتجسيم المعنويات - أي إبراز المعنوي في صورة حسية - وكذلك تشخيص الجامد ببث الروح والنبض فيه - فكأنه حي من الأحياء - هي ظاهرة مطردة في التصوير عند الغزالي، كما نرى في الأمثلة الآتية:

- ولن يتم تذوق النفس لبرد الرضا بإصدار أمر جاف، أو فرض تكليف أجوف، كلا، فالأمر يحتاج إلى تلطف مع النفس، واستدراج لمشاعرها النافرة، وإلا فلا قيمة لأن تقول: أنا راض، ونفسك طافحة بالضيق والتقزز!! وأول ما يطلبه الإسلام منك أن تتهم مشاعرك حيال ما ينزل بك(20).

لقد جسم الغزالي الرضا، والأمر، والتكليف، والضيق والتقزز.. فبدت في صورة حسية مجسَّدة، كما شخص: النفس والمشاعر؛ فإذا بها في صورة حية نابضة.

وهذه الظاهرة التصويرية - زيادة على ما فيها من طرافة - تبرز المعروض أمامنا كأننا نراه رأى العين، فيزيد إحساسنا به، ومعايشتنا له.

تأثر بالأداء القرآنى

وكل ما ذكرناه آنفًا من الملامح الموضوعية والفنية في نثر الغزالي إنما جاءت أثرًا من آثار معايشته للأسلوب والمضامين القرآنية، وعن السمة الأخيرة يقول شهيد الإسلام سيد قطب: «التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسَّة المتخيلة عن المعنى الذهنى والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنسانى، والطبيعة البشرية، ثم يرتقى بالصورة التى يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنسانى شاخص حى، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية..»(21).

والمفارقة أو «الوجوه المتقابلة» من أبرز سمات الأسلوب القرآنى، وخصوصًا في عرض مشاهد القيامة كما نرى في الآيات الآتية:

{هل أتاك حديث الغاشية. وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة. تصلى نارًا حامية. تسقى من عين آنية. ليس لهم طعام إلا من ضريع. لا يسمن ولا يغنى من جوع. وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية. في جنة عالية. لا تسمع فيها لاغية. فيها عين جارية. فيها سرر مرفوعة. وأكواب موضوعة. ونمارق مصفوفة. وزرابي مبثوثة}(22).

فالغزالي عاش القرآن معنى ومبنى، وتربى على مائدة الإسلام بعقيدة قوية، وعقلية ناضجة، وحافظة واعية، فلا عجب أن يتأثر بالأسلوب القرآنى، وطوابعه الفنية، ومضامينه وتوجيهاته الإنسانية.

هذا عن الغزالي كاتبًا وخطيبًا.. أي الغزالي ناثرًا، فماذا عن الغزالي الشاعر؟

الشاعرية والشاعر

وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان طالبًا في السنة الرابعة من المعهد الدينى الثانوي صدر لمحمد الغزالي ديوان شعر باسم «الحياة الأولى»(23)، وفى طبعته الأخيرة(24) قرأنا لأستاذنا الكبير الدكتور مصطفى الشكعة تقديمًا، بل دراسة ضافية للديوان وشعر الفقهاء: مناحيه وموضوعاته وتطوره، وهي دراسة من ثمانين صفحة، أي بعدد صفحات الديوان نفسه.

و«الحياة الأولى» عنوان كالمنشور الزجاجى الذى يعطى ألوان الطيف السبعة، مع أن مصدرها شعاع واحد.

وكذلك هذا العنوان قد يبادر ابتداء فيعطينا دلالة دينية تعني (الحياة الدنيوية)، استلهامًا لقوله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى}(الضحى: 4)، وقد يعطي دلالة زمانية.. تعني أنه «شعر الحياة الأولى»، أى الشبيبة الباكرة.

وقد يكون المقصود «الأولوية» بمفهومها القيمي، لا «الأوَّلية»، بمفهومها الزمني، كأن الديوان يرسم الحياة الأوْلى - بفتح الهمزة وتسكين الواو - أي الحياة «الأجدر» بأن تعاش دينًا وخلقًا وسلوكًا.. فهي صاحبة المرتبة الأولى - بضم الهمزة - متقدمة على كل المراحل.

ونقرأ القصيدة التى استهل بها ديوانه، فإذا عنوانها: «الحياة الأولى أو نحو المجد»؛ مما يشى بأنه يريد الدلالات الأخيرة، وإن أشار إلى الدلالة الزمانية في مطلع القصيدة:

ثمانى عشرة مرت سهادًا

أُردتُ على المنام ولن أُرادا(25)

ويقول الدكتور الشكعة: «.. هكذا طمأن الشيخ قارئ شعره من مجرد أن تقع عيناه على عنوان أولى قصائده أنها سيرة ذاتية رفيعة المحتوى، بل هي منهج لسيرة ذاتية سوف يقوم الشيخ الشاب على التزامه في مسار نقى، ومضمار نظيف، سعيًا إلى مستقبل مجيد، ومكانة رفيعة، كل ذلك القول الرصين أطلقه الشاعر، وهو ابن ثمانية عشر ربيعًا»(26).

والديوان خلا تمامًا من الغزل حتى البريء منه، وخلا من الهجاء والنفاق، والمدح الكاذب، وكل ما يشين ذوي المروءة، ولكنه عالج الحكمة والإخوانيات، والتعبير عن ذاته وسلوكه، ومكارم الأخلاق والإنسانيات والروحانيات في طوابع ووجهات صوفية، وتحدث عن بعض مظاهر الطبيعة كالفجر والشروق والشمس وبعض الموضوعات الوطنية(27).

فشعره إذن دار حول محاور ثلاثة رئيسية لا يكاد يتعداها، وهي:

1 - قصائد الطرح أو الدفق الروحى والأخلاقيات.

2 - قصائد الطبيعة.

3 - قصائد الوطنية أحداثًا وشخصيات.

حقائق ثلاث

وبين يدى الديوان تطالعنا - بعد معايشة قصائده - بضع حقائق تتلخص فيما يأتي:

1 - المعروف أن الشعراء الإسلاميين، وذوي التوجهات الدينية، وأكاد أقول شعراء العربية بعامة، وخصوصًا في شعر الشباب والبدايات، يميلون بل يكثرون من النظم في المناسبات الإسلامية كذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة، والإسراء والمعراج، وبدر، والفتح.. وغيرها، وعلى ذلك كان شوقي و حافظ، وأحمد محرم، ومحمد الأسمر، ومحمود غنيم، وعزيز أباظة وغيرهم.

ولكننا لم نجد شاعرنا الغزالي يخوض هذا المخاض، وينظم في هذه المناسبات التى تهم كل مسلم، وهو مَنْ هو تدينًا وفقهًا، واعتزازًا بالإسلام.

وقد يفسر ذلك بأن الشاعر قد استغرقه شعر الدفق الروحى التصوفى، فوجد فيه ما يكفيه مئونة هذه الموضوعات من شعر المناسبات.

وربما جاء هذا التوجه كنوع من «الاعتزاز الذاتى» دفعه إلى إغفال نهج الآخرين، وتوجههم الموضوعى والفنى.

2 - في عناوين كثير من قصائد الغزالي عرامة وقوة إيحاء بعيدًا عن المباشرية والتصريح، مثل: الزمن السَّحور - سرى وثرى - نور الحقيقة - صمت الريف الهامد - الموت الضال في مرض الطفولة - سقطت ولما تنضج - النور الغريق - الشروق في القبور - ابن الظلمات.

وأشهر من نجد عنده هذه السمة في العصر الحديث الشاعر محمود حسن إسماعيل - رحمه الله - فمن عناوين قصائده: أحزان الغروب - ثورة الضفادع - الناي الأخضر - لهيب الحرمان - سجينة القصر - أدمع ومآتم - أغاني الرق - عبيد الرياح - جلاد الظلال - حصاد القمر - عاشقة العنكبوت - هدير البرزخ(28).

3 - الغزالي في تشكيله الشعري اتباعي كلاسيكي فهو ينهج النهج الخليلي في نظام القصيدة: الوزن الواحد والقافية الواحدة، وهو يعتز بهذا «النظام» ويُخلص الولاء له في مغالاة؛ حتى إنه يرى أن الخروج عليه يُخرج الإبداع من وصف الشعرية ليدخله دائرة النثر، ولذلك حمل حملة شعواء على ما سماه «بالشعر المرسل»، فهو - في نظره - تقليد أعمى لما يكتبه الغربيون، وهو انسلاخ منكود من النظام الشعرى العربى الأصيل الذى أرسى قواعده من قرابة عشرين قرنًا، وهو لا يزيد على كونه تقطعًا عقليًا في الفكرة المعروضة كأنها أضغاث أحلام، أو خيالات سكران، في ألفاظ يختلط هزلها وجدها، وقريبها وغريبها، وتراكيب يقيدها السجع حينًا، وتهرب من قيوده أحيانًا.

فالسمة الغالبة على هذا اللغو لا تتخلف أبدًا: التفكير المشوش، أو اللاتفكير، والتعبير الذى يجمع الألفاظ بالإكراه من هنا ومن هنا، ويحاول وضعها في أماكنها، وتحاول هى الفرار من هذه الأماكن(29).

ونأخذ على هذا الرأى أنه خلط بين مصطلحات ثلاثة: الشعر المرسل، والشعر الحر، وقصيدة النثر، ومقصد شيخنا الحملة على الشعر الحر لا الشعر المرسل، وهما مختلفان:

فالشعر المرسل Blank Verse: هو الشعر الذي يلتزم بوحدة الوزن مع اختلاف القافية(30)، ولعبد الرحمن شكري كثير من هذا النوع، ولكنه لا يجد له نصيرًا في الوقت الحاضر.

أما الشعر الحر Free Verse، أو شعر التفعيلة فهو الشعر الذي لا يلتزم بوحدة الوزن أو وحدة القافية(31)، فهو متحرر من الوزن الواحد والقافية الواحدة، ولكنه يجعل «التفعيلة» - لا البحر - أساس الوزن. ورائد هذا اللون - في الأدب العربى - بدر شاكر السياب بديوانه «أزهار ذابلة»، أو نازك الملائكة بقصيدتها «الكوليرا» على خلاف في ذلك.

وما يسمى بقصيدة النثر - وهي ترجمة للمصطلح الفرنسى Poeme en Prose - هناك شبه إجماع على صعوبة وضع تعريف جامع مانع لها، وإن كان الرافضون لها - وما أكثرهم - يسجلون عليها ما تحتويه من فوضى وانقلاب وتمرد عشوائى، وتنكر لكل مفاهيم البناء والشكل، وخصوصًا البناء الموسيقي(32).

وتؤكد «سوزان برنار» أنه يوجد في قصيدة النثر - في آن واحد - قوة فوضوية مدمرة تميل إلى رفض الأشكال الموجودة، وقوة منظمة تميل إلى وحدة شاعرية(33).

ونحن مع شيخنا الغزالي في رفض الشعر المرسل - بالمفهوم الصحيح الذى عرضناه - لمجافاته للذوق العربى.

ونحن معه في رفض ما يسمى بقصيدة النثر؛ لأنه لا علاقة بينها وبين الشعر، وللأسباب التى ذكرها الدكتور محمد عبد المطلب آنفًا.

ولكننا نخالفه في تقييمه للشعر الحر - الذى أطلق عليه خطأ الشعر المرسل؛ لأن الشعر الحر لم يتخل عن الوزن، إذ إنه اعتمد على التفعيلة لا البحر، والمطبوعون من الشعراء أبدعوا من هذا الشعر روائع كقصيدة «شنق زهران» لصلاح عبد الصبور، وما زال الشعر الحر يعايش الشعر الخليلي في سلام ووئام.

شاعر الحلول والاستبطان

وشعر الغزالي لا يعطيك مفتاحه من أول قراءة، إذ يحتاج قراءة ثانية، وشيئًا من التأني والمعاناة، وهو يذكرني بكلمة أبي إسحاق الصابي فيما يرويه عنه ابن الأثير:

«إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه(34).

والتصريح، ووضوح الذاتية.. والأوصاف المباشرة يخرج بالعمل الشعرى عن نطاق الجمال، ويجعله تقريريًا(35).

فهذا الطابع الذى يسم شعر الغزالي يعد ميزة طيبة بمعيار الشاعرية.

وقد وصفْنا الغزالي - بعد معايشتى لشعره - بأنه «شاعر الحلول والاستبطان»، وأعني بالحلول: معايشة موضوعه واندماجه في جوانيته بصرف النظر عن القشور والمظاهر الخارجية.

وأعنى بالاستبطان تأمل موضوعه وتعمقه لاستخلاص ما فيه من طروحات وأعطيات نفسية. ولننظر إلى بعض شعره في الطبيعة، فقصيدته في «الشمس»(36)، نرى فيها الشاعر لا يهتم «ببرَّانية» هذا النجم العظيم، ولكن بما يستخلصه من معطيات النفس ودروس الحياة ومتطلباتها:

أشرقى في الوجود طُهرًا وضيئًا

وأنيرىالبديل من ظلمات

وأميتى الياس المعذب موتًا

بدّليه تيقظًا من سُبات

الوداع الميمون يبدو أصيلا

مائج النور في سنا أمنياتي

فى نضار من الأشعة سكرى

بحبور يحيى رفات الموات

خير ماض يحفه خير آت

يتهادى في ذلك الميقات

وفي مقطوعة مستقلة من أربعة أبيات بعنوان (نور الحقيقة)((37) يبلغ الشاعر شأوًا عظيمًا من الاندماج والتأمل، وهو ما سميناه «الحلول والاستبطان» وفيها يقول الشاعر:

أيها النور أنت تُلقي وضوحًا

لأناس عاشوا بأبشع سرّ

لا يطيقون في الحقيقة عيشًا

فضياء الحقيقة الغمرُ يُزرى

حشرات في نورها الحقِّ تفنى

مثل قتل الشعاع كلَّ مضرّ

ولهذا الظلامُ خيرٌ من النور

إذا كنتَ لا ترى وجه حرّ

ومن فضول القول أن نذكر في هذا المقام أن قصائده الأربع في «الخمرة الإلهية»(38) تتمتع بسمة «الحلول والاستبطان» على نطاق رحيب مكين؛ مما لا يحتاج منا إلى وقفة للإبانة والتوضيح.

ومن أرقى ما نظم الشاعر في ديوانه كله، وكذلك بالنظر إلى شعر آخرين من المشاهير قصيدته «تحية عرابي البطل»(39)، فهو لم ينهج النهج التقليدي في وصف الوقائع والأحداث والمواقف، ولكنه اعتمد على الحركة النفسية، وطروحاته الوجدانية في عرابي فاستهل قصيدته بقوله:

حيتكَ من نفسى عواطف ثائر

لا يستكين لسطوة من جائرِ

ويثيرها نارًا يهول وقودُها

فيبيدُ أو تلقاه أوْبة ظافر

حيتك من نفسى عواطف مخلص=

لا مأرب يلهيه شأن الفاجر

للمجد ما يبغى يكلل أمة

للنصر ما يسعى قليلُ الناصرِ

ثم يتحدث الشاعر عن شخصية الأمة المجاهدة:

فى حب مصرَ وفى سبيل خلودها

فى حب مصر طليقةَ من آسرِ

نفرت من الوادى الجموع تقودها

فى وجه عات ذي شكيمةِ قادر

ويستغرق الشاعر أغلب القصيدة في تحية عرابي المهزوم المكسور المقهور، ولكنه انكسار الشريف المجبر الذي كانت الظروف أقوى، وأقدر من كل طاقاته، ويهز الشاعر قلوبنا ووجداننا بالأبيات الآتية:

قُدست مهزومًا تعفر في الثرى

قدست مقهورًا كسير الناظرِ

قدست يوم بكيت إذ سقط الحمى

لا نصرَ يُرجى لا دفاع مغامر

ثم يتحدث عن غدر الغرب اللئيم ومؤامراته، ويختم قصيدته بالأبيات الآتية:

فى الأسر يرسف في قيود مهانةٍ

خير النفوس نُهىً وطيبُ ضمائر

فى الأسر ما أعيا وقد حاطت

ظُلَم الغد الداجى وظلْم الحاضر

حيتك أرواح تكافح لا تنى

دأبَ الحريص على الجهاد الذاكر

أبدًا هو العمل الحثيث أأثمرت

أغراسه أم تلك رُجعى الخاسر؟

لقد ضم الديوان قصائد طوالاً، وأخرى متوسطة الطول، كما ضم قطعًا قصيرة جدًا مستقلة بعضها لا يزيد على البيتين وهو ما يسمى شعريًا «الأبجرام» Epigram، وهى منظومة قصيرة جدًا تنتهى بفكرة طريفة ذكية(40).

ونأخذ على الشاعر أنه كثيرًا ما كان يستخدم بعض الألفاظ المعجمية الغريبة على القارئ، وقد أحسن الدكتور الشكعة صنعًا إذ شرح هذه الكلمات في هوامش الديوان.

وربما جاءه هذا الغريب غير الشائع من الألفاظ من حبه للشعر القديم، وكثرة محفوظاته منه.

كما نأخذ على الشاعر قلق بعض العبارات والكلمات في السياقة الشعرية.

ولكن قد يشفع للشاعر أنه نظم ديوانه، وهو طالب في المرحلة الثانوية قبل التحاقه بالجامعة الأزهرية.

إن هذا الديوان كان يحتاج إلى وقفات أطول نستوفي فيها كل العناصر الشعرية فيه من خيال وعاطفة وتعبير وموسيقى.. ولكني أرى أن المسار قد طال بنا، وقد أعلنا ابتداء أنها مجرد وقفة نقدية، وهي في نفس الوقت دعوة ضمنية للباحثين، وطلاب الدراسات العليا أن يدرسوا هذه الجوانب الأدبية من أعطيات الرجل - يرحمه الله.

ثم من حقنا أن نختم هذه الدراسة الموجزة بطرح سؤال مؤداه: وماذا بقى من الراحل العظيم؟

وماذا بقى من الراحل العظيم؟

لقد رحل الشيخ فجأة بدون وداع، وجاءت كرامة الرحيل - زمانًا ومكانًا - كفاء لكرامة الراحل، فمات في مناسبة لإكرام العلم والعلماء، وهذا هو عنصر الزمن الكريم. ومات في أرض مباركة طيبة، ودفن بالبقيع، وهذا هو عنصر المكان المبارك العظيم. ثم كانت كرامة الكرامات - بعد وفاته - متمثلة في فوزه بالإجماع الوجداني الشامل حزنًا هز القلوب، وشعورًا بجلال الخطب، وفداحة الفراق.

واستغرق هذا الشعور الإجماعي مشارق الأرض ومغاربها، ليضم الملوك والأمراء، والعلماء والفقهاء، والصغار والكبار، والرجال والنساء، وكل سويٍّ من عباد الله، وعزيز على النفس أن ترى - في عصرنا.. عصر الغربة والكروب - ساحات العلم والفقه والفكر، وقد خلت من محمد الغزالي، وكأنه المقصود بقول أبى تمام:

عادت وفودُ الناس من قبرهِ

فارغة الأيدى وملأى القلوب

قد راعها ما رُزئتْ، إنما

يُعرف فقدْ الشمسِ عند المغيب

وبعدها يدور السؤال التقليدى: ماذا بقي من محمد الغزالي؟

وإنا لنجيب - بصدق وإيمان ويقين -: بقي منه الفكر الحر المستنير الذي يستقي حقائق الحياة والحق من كتاب الله وسنة رسوله، متقدمًا في الدرب لا تأخذه في الله لومة لائم.

بقي منه المرونة والسماحة، وسعة الأفق، ومنطق التسهيل والتيسير والتحبيب، بعيدًا عن التعصب الأعمى، والتشنج المسعور، وبعيدًا عن الغلو والإفراط، والتهاون والتفريط.

بقي منه مائدة طيبة من عشرات كتب في الفقه والسنة، والسيرة والسياسة، والنظم والسياسة الشرعية، وآداب النفس والمجتمع، والذود عن الإسلام في مواجهة الإلحاد، والصهيونية والصليبية والإباحية، وهي مائدة لا تنفد ولا تبور.

وكل أولئك يمثل حيثية الخلود الذي لا يعرف الموت، والتجدد الذي لا يعرف البلى، والتفوق الذي لا يعرف النقص والذبول.

سلام على محمد الغزالي، وألحقه الله بمعية النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.

ألبوم صوره

ألبوم صور الشيخ محمد الغزالي


إضغط علي الصورة لتظهر بحجمها الكامل

 

الشيخ-محمد-الغزالي-وبنت-جمال-عطية-وبعض-العلماء

الشيخ-محمد-الغزالي-في-احد-الؤتمرات-والسهم-يشير-إلي-أحمد-عثمان-التويجري

الشيخ-محمد-الغزالي-01

الشيخ-محمد-الغزالي

الشيخ-محمد الغزالي1

الشيخ-الغزالى--وعز-الدين-إبراهيم-أثناء-المؤتمر-الثالث-للسيرة-والسنة-النبوية-1400هـ

الشيخ-الغزالي-في-لقاء-مع--المستشار-عبد-الله-العقيل

الشيخ-الغزالي-في-لقاء-مع-الشيخ-سعد-العبد-الله-ولي-عهد-دولة-الكويت

الشيخ-الغزالي-في-المعسكر-الرابع-لعين-شمس

الشيخ-الغزالي-بين-الجماهير-التي-كانت-تلتف-حوله-في-كل-مكان-السهم-يشير-إلي-محمد-عبد-القدوس

الشيخ محمد الغزالي5

الشيخ-أحمد-الباقوري-والغزالي-وعشماوي-والوليلي-ولبيب-في-لقاء-الثلاثاء-بميدان-الحلمية

الشيخ محمد الغزالي4

الشيخ محمد الغزالي3

الشيخ محمد الغزالي2

14-الشيخ-محمد-الغزالي

الدكتور-أحمد-الملط-والشيخ-محمد-الغزالي-والدكتور-حمدي-السيد

02-الشيخ-محمد-الغزالي

008-الشيخ-محمد-الغزالي

المستشار-عبد-الله-العقيل-مع-الشيخ-محمد-الغزالي-في-منزله-بالقاهرة

جمال-عطيه-وقت-عقد-قرانه-الثاني-ويشهر-الشيخ-الغزالي

عمر-التلمساني-ومحمد-الغزالي-ومصطفي-مشهور-في-مسجد-النور

يوسف-القرضاوي-والشيخ-الغزالي


الهوامش والتعليقات

(1) ولد الغزالي في قرية (نكلا العنب بمحافظة البحيرة في مصر)، وهذه القرية نفسها ولد فيها الشيخ سليم البشري - شيخ الأزهر - والشيخ محمد عبده، والشيخ محمود شلتوت، ومحمد البهي.

(2) كتاب الغزالي هو (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)، وقد أثار ضجة كبيرة، ودويًا عاليًا، وتعرض لهجومات شديدة ضاربة، ولكنى أشهد أن من هذه الردود كتابات موضوعية هادئة أشهرها كتاب «حوار هادئ مع محمد الغزالي»، لسليمان بن فهد العودة (الرياض 1409ه).

(3) يشهد لخالد محمد خالد - رحمه الله - أنه رجع - بعد ذلك ببضع سنين عن كل ما كتب في كتابه (من هنا نبدأ)، وذلك في كتاب بعنوان «دين ودولة»، وافق فيه كل ما كتبه الغزالي في كتابه (من هنا نعلم).

(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/ 138 (المكتبة التوفيقية - القاهرة 1978م).

وانظر: جابر قميحة: المدخل إلى القيم الإسلامية، ص 23 (دار الكتاب المصري، القاهرة 1984م).

(5) الغزالي: من هنا نعلم، ص 110 (ط 2، دار نهضة مصر - القاهرة 1997م).

(6) الغزالي: جدد حياتك، ص 24) دار نهضة مصر - القاهرة 2004م).

(7) السابق 49، وهو يشير إلى رأي النبي (صلى الله عليه وسلم) في البقاء والتحصن بالمدينة للدفاع عنها، ولكنه نزل على رأي الصحابة في الخروج إلى قتال المشركين، فكانت معركة أحد (انظر سيرة ابن هشام 2/ 63، 105).

(8) الغزالي: تأملات في الدين والحياة، ص 102 (دار الكتاب العربي - المنياوي: القاهرة 1951م).

(9) الغزالي: فقه السيرة، ص 151) دار الكتاب العربي - المنياوي، القاهرة 1952م).

(10) هو: أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ، الملقب بربيعة الرأي، وهو فقيه أهل المدينة، أخذ عنه مالك. كان يكثر الكلام ويقول: «الساكت بين النائم والأخرس»، ت 36ه.

(11) من هنا نعلم، ص 94.

(12) جدد حياتك، ص 113.

(13) السابق، ص 30، 31.

(14) سيزا قاسم: المفارقة في القصص العربى المعاصر، مجلة فصول، العدد الثانى، المجلد الثانى - القاهرة 1982م.

(15) لويس عوض: الأهرام 7/ 7/ 1972م.

(16) د. علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ص 138 (مكتبة العروبة - الكويت 1981م).

(17) جدد حياتك: ص 94.

(18) الغزالي: الغزو الثقافى يمتد في فراغنا، ص 69 (دار الصحوة - القاهرة 1987م).

(19) السابق: ص 87.

(20) الغزالي: جدد حياتك، ص 134.

(21) سيد قطب: مشاهد القيامة في القرآن، ص 5 (دار المعارف - القاهرة 1947م).

(22) سورة الغاشية: الآيات 1 - 16، وانظر سيد قطب: السابق 188.

(23) صدر سنة 1354هـ - 1936م عن المطبعة الإسلامية بالإسكندرية، وكان ثمنه عشرين مليمًا.

(24) دار الشروق بالقاهرة (1426هـ - 2005م).

(25) ديوان الحياة الأولى 81 (مع ملاحظة أن هذه الصفحة هي أول صفحة في الديوان، أما ما قبلها فقد استغرقته الدراسة التى كتبها الدكتور مصطفى الشكعة.

(26) مصطفى الشكعة من تقديمه للديوان 43.

(27) انظر: الشكعة، السابق 40، 41.

(28) جابر قميحة: شرائح النثر في شعر الأميرى 58 (بحث قدم في الملتقى الثالث للأدب الإسلامى بالمغرب - أغادير، في الأيام 16 - 18 من يناير 2001م).

(29) انظر: الغزالي: مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، 102 - 105 (الدوحة - قطر - كتاب الأمة رقم 1).

(30) مجدي وهبة: معجم مصطلحات الأدب 46 (مكتبة لبنان - بيروت 1974م).

(31) السابق 181.

(32) د. محمد عبد المطلب: النص المشكل 188 (الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999م).

(33) سوزان برنار: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا 157 (ترجمة: زهير مجيد - بغداد 1393ه).

(34) ابن الأثير: المثل السائر 1/92 (مكتبة الخانجى - القاهرة 1979م).

(35) د. محمد غنيمى هلال: قضايا معاصرة في الأدب والنقد 60 (دار نهضة مصر - القاهرة، د.ت).

(36) ديوان: الحياة الأولى 144.

(37) السابق 116.

(38) الديوان 83 - 90.

(39) الديوان 157.

(40) مجدي وهبة: مرجع سبق 142.