مصر في الحرب العالمية الأولى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مصر في الحرب العالمية الأولى


لطيفة محمد سالم

الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984

مقدمة

"مصر في الحرب العالمية الأولى" معنى له مغزاه الواسع والمتشعب، وهو موضوع لم يدرس من قبل دراسة علمية صحيحة، ولم يقتصر على التاريخ السياسي الذي لجأ اليه الكثيرون من اصحاب هذا الاتجاه بتناول فترة طويلة من الزمن، يؤرخون لها، ويتتبعون احداثها، ويعرضون لابرز الشخصيات فيها. انما هو مزيج مختلط له طابعه الخاص جمع بين السياسة والاقتصاد والاجتماع في اطار موحد وشامل ليخرج شكلا له طابعه الاصيل. ولهذا فان هذه الدراسة تخدم المذهب الجديد للمؤرخين لانها انصبت في كنه متطور للأسس الاكاديمية لكتابة التاريخ.

طرقت كل الابواب لهذا الموضوع الحي حتى تمكنت من اخراجه الى حيز الوجود، حيث اننا في هذه الآونة في حاجة ملحة وضرورية الى الكشف عن الجانب المغفل من تاريخنا القومي وخاصة اوضاع مصر في هذه الفترة الحرجة والتي كان لها دور في تاريخ مصر النضالي.

وصادفت الدراسة صعوبات خاصة جمة يتعلق بعضها بصعوبة الحصول على الوثائق والمصادر الاصلية، وحتى عند العثور على بعضها كان الامر صعبا لتداخل التواريخ والموضوعات وعدم التنظيم والترتيب داخل دور المحفوظات والوزارات والمصالح الحكومية. هذا بالاضافة الى ندرة المراجع التي ركزت احداثها على هذه الفترة، ثم مشقة الدوريات التي كانت معاصرة لفترة الحرب، فهناك مشكلة عدم اكتمال اعدادها اذ عمل فيها الزمن الشيء الكثير، فمنها الممزق، ومنها المتآكل، ومنها المفقود.

وهذا يحتاج من الباحث على معايشة كاملة لها حتى يستطيع ان يقارن بينها من ناحية، وأن يتحقق مما ورد فيها من اخبار ووقائع واحداث من ناحية أخرى، هذا فضلا عن الاستعانة بالمذكرات الشخصية ومقارنة بعضها البعض وادراك اتجاهات أصحابها، علاوة على الرجوع للمصادر الحية اي الاشخاص الذين عاصروا احداث الدراسة او اشتركوا في بعضها والتاكد من سلامة اوراقهم. وكان لابد من ربط الحقائق برباط دقيق يقوم على المقارنة والوصول الى النتائج المرضية. واخيرا اضع بين أيديكم هذا المجهود عله ينال رضاكم، واكون قد قدمت لمصر صفحة نقية من تاريخها المجيد.

وتحتوي الدراسة على خمسة فصول بالاضافة الى المدخل والختام. والبداية مع المدخل الذي يشير للأساسيات السياسية الانجليزية في مصر منذ عهد الاحتلال وحتى اعلان الحرب العالمية الأولى.

ويشمل الفصل الاول "الحالة السياسية" اعلان الحرب واثره في الموقف السياسي داخل مصر، وخطوات بريطانيا بشأن تغيير حالة مصر السياسية وترنحها ما بين الضم والحماية، وعزل خديويها عباس حلمي الثاني وتولية الامير حسين كامل سلطانا عليها، وتفضيل اعلان الحماية البريطانية على مصر، والظروف التي مرت بها في ظل الحماية، واعتلاء الامير احمد فؤاد عرش السلطنة المصرية، ونهاية الحرب وتأليف الوفد المصري، ثم الاعتراف الدول بالحماية.

ويتناول الفصل الثاني الحياة الاقتصادية، فيتتبع خطوات الوضع المالي، ويلقي الضوء على الميدان الزراعي من قطن وباقي المحصولات وانتاج حيواني ثم يوضح حالة الصناعة، كما يتعرض للتجارة.

ويبين الفصل الثالث الاوضاع الاجتماعية والمظاهر الثقافية، عناصر الخريطة الاجتماعية لمصر: الاجانب، كبار ملاك الاراضي، المثقفون، التجار، العمال، الفلاحون. ويتعرض لامراض المجتمع المصري في هذه الفترة من فقر وجرائم وافعال وسلوك جنود الامبراطورية البريطانية، ثم يعرج على التيارات الثقافية وما ينطوي تحتها: الصحافة الفكر، المسرح.

ويشكل الفصل الرابع المجهود الحربي وفيه يتحدد ما سعى اليه اعداء بريطانيا ورد الفعل الانجليزي في مصر، ودور كل من الجيش المصري والرديف، وفيلق العمال وفيلق الجالة، والعمل الميداني وجمع الدواب، ومصادرة الاقوات ، والخدمات الصحية ، وتحصيل الاموال، والاستحواذ على المباني والاراضي وما الزمت به المصالح والهيئات.

واخيرا ياتي الفصل الخامس الحركة الوطنية ليصور ردود فعل الاحداث السابقة على الشعب وتصرفات الانجليز ازاء الموقف واجراءات القمع والترجمة الفعلية للمصريين تجاه ذلك، واستمرارية سياسة العنف الانجليزية ثم الحركة الوطنية خارج مصر.

والنهاية الختام الذي يعطي حصرا لما عاشته مصر اثناء الحرب العالمية الأولى

والله ولي التوفيق

دكتورة لطيفة سالم

مدخل:عرض سريع للسياسية الانجليزية في مصر ابان عهد الاحتلال 1882-1914

بعد انكسار الثورة العرابية احتل الانجليز مصر في الوقت الذي كانت فيه من الناحية الرسمية لها استقلال ذاتي بمقتضى معاهدة لندن والفرمانات التي منحتها الدولة العثمانية لها، وملأت انجلترا الراي العام العالمي، واعلنت ان مهمتها في مصر موقوتة، وتعددت تصريحات مسئوليها بان الجلاء عن ارضها اجله قريب، ولكن ما اعلنه ساستها شيئ والواقع شيء اخر.

سارت سياسة انجلترة ابان الاحتلال في اربع اتجاهات تمكنت من خلالها السيطرة على الموقف في مصر.

الأول: محاولة اقناع الدول بان مصر لانجلترا والسعي للاعتراف بالوضع القائم بها.
الثاني: تخطيط علاقاتها مع الدولة العثمانية صاحبة السيادة الشرعية على مصر.
الثالث:الارتباط بينها وبين الخديوي الحاكم المستمد سلطته من خليفة المسلمين في تركيا.
الرابع: موقفها تجاه الحركة الوطنية.

وامتزجات هذه الاتجاهات في تركيبة خاصة، تمكنت انجلترا بها من ان تحقق اغراضها.

الاتجاه الأول

منذ البداية راحت انجلترا تعمل على تهيئة المناخ الدولي، وكانت فرنسا اولى الدول التي هنأت انجلترا بانتصارها في التل الكبير واعتبرته انتصارا لها في الجزائر وتونس، ورغم ذلك فمنذ اللحظة الاولى لاحتلال انجلترا لمصر رأت ضرورة ابعاد النفوذ الفرنسي منها، وكانت المراقبة الثنائية اولى تلك الخطوات، فألغتها في 18 يناير 1883 حيث عقدت عزمها على الانفراد بالمراقبة المالية، ولم تعبأ بالمعارضة الفرنسية. ومضت تعمل على الحد من الدولية التي تفشت في الادارة المصرية واحلال الانجليزية محلها، فأصبح الانجليز يسيطرون على الجيش والبوليس والمالية والاشغال والحقانية والمعارف.

وتأزم الموقف بين الدولتين، وكانت حادشة فاشودة التي أرادت منها فرنسا مناوأة النفوذ الانجليزي في مصر، لكن سرعان ما صفيت الامور امام الخطر الالماني الذي يهددهما، وكان للملك ادوارد لك انجلترا وللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر دور في سياسة التعاون بينهما الذي انتهى بالاتفاق الودي عام 1904، ووضح فيه تبادل المصالح بين الدولتين بشأن الاوضاع في مصر ومراكش، ووافقت الدول عليه، وبذلك اصبح لانجلترا وضع شرعي في مصر، ولا تعد نقطة ضعف في الدبلوماسية الانجليزية.

ولما كانت روسيا حليفة لفرنسا في ذلك الوقت، فرأت انجلترا ان تعقد معها عام 1907 اتفاقا هادفة الاستئثار بالمسألة المصرية. أما ألمانيا، فحسنت انجلترا علاقتها بها وتراجعت عن موقفها بشأن المشروعات الاستعمارية الالمانية في غرب افريقيا حتى لا تعارضها في مصر.

وايدت الولايات المتحدة موقف انجلترا في مصر، فمجد روزفلت بالاحتلال الانجليزي، وقد اعترف جراي ان حكومته كانت على تفاهم مع حكومة الولايات المتحدة في هذا الشأن.

الاتجاه الثاني

غمضت سياسة إنجلترا تجاه الدولة صاحبة السيادة على مصر. فكثيرا ما كانت تعلن لها عن نيتها في سحب جيوشها منها، وكثيرا ما حددت الميعاد. وقلقت الدولة العثمانية لهذا الوضع، فاستعانت بجمال الدين الافغاني صاحب صيحة وحدة العالم الاسلامي التي هي قبلته، وعندما ارادت تعيين الحدود بين مصر وممتلكاتها رأت أن تضم العقبة وملحقاتها وشبه جزيرة سيناء الى ولاية الحجاز، وأرسلت الفرمان الجديد لعباس الثاني في 17 يناير 1882 حاملا هذا المعنى.

اعتبرت انجلترا ان ذلك تهديدا للمصالح الانجليزية في مصر، وأمر كرومر بعدم قراءة الفرمان، ومضى ضغط انجلترا عليها حتى تراجعت في الأمر، وتبع ذلك ان طلب كرومر من وزير الخارجية المصرية عدم احداث اي تغيير في العلاقات بين مصر والدولة العثمانية الا بموافقة انجلترا.

عادت الدولة العثمانية مرة اخرى في اوائل عام 1905 لعرقلة مسار انجلترا في مصر بعد ان تحسنت ظروفها الداخلية والخارجية، فنضجت مسألة الجامعة الاسلامية. واصبح الشعور الوطني في مصر قريبا منها بفضل مجهودات الحزب الوطني. وظهور المانيا كدولة قوية يمكن للدولة العثمانية الاعتماد عليها فأثارت مسألة الحدود

وعندما احست انجلترا بالموقف اعدت سيناء للاعمال الحربية، واعتدى الاتراك في سيناء، واحتلوا طابا لمد السكة الحديد من معان الى العقبة، وطالبت انجلترا الدولة العثمانية باسم مصر ان تجلو عن طابا، هذا في الوقت الذي توقعت فيه تركيا تأييد الدول لها، فخاب املها في ذلك، ففرنسا وروسيا كانت ميولهما لانجلترا، والمانيا فضلت الحياد.

لهذا تراجعت وانسحبت في مايو 1906 بالرغم من انها الدولة صاحبة الحق في استرداد وديعتها، لكن وقوف انجلترا لها بالمرصاد وعدم موافقتها على نقل شبر من الارض المصرية لها بدا وكأن انجلترا اصبحت صاحبة السيادة الرسمية على مصر.

وجاءت الحرب الطرابلسية في صيف عام 1911 اذ اعلنت ايطاليا الحرب على الدولة العثمانية في برقة وطرابلس الغرب، ووقفت مصر منها موقف الحياد، وهذا ما املته عليها سلطات الاحتلال. وكان باكورة اعمال كتشنر بالرغم من مخالفته لمعاهدة لندن. ولكن انجلترا لم تستطيع ان تحول بين المصريين واخوانهم، فقدموا الذخيرة والاموال والمؤن والمعونات الطبية.

وتكرر حياد مصر في حرب البلقان عام 1913، وبذلك اصبح ما يربط مصر بالدولة العثمانية لا يقره ولا يعترف به احد، ونجحت انجلترا في الاستحواذ على مصر. وما لبث الامر ان قامت الحرب العالمية الأولى لينقطع كل رباط بين مصر والدولة العثمانية.

الاتجاه الثالث

رات انجلترا ان تحدد الشكل الذي تتخذه العلاقة بين كل من الخديوي وحكومته وبين سلطات الاحتلال تلك التي كانت عليها ان تكون سيدة الموقف. وكان توفيق اول حاكم لمصر في ظل الاحتلال، علمته ثورة قوى مصر جميعها بانه لابد وان يرتمي في احضان انجلترا، فهو مدرك انه مدين بعرشه لانجلترا، ومن هنا اصبح طوع امرهم.

وجاء عباس حلمي الثاني، فأشعره الانجليز انه تولى العرش بفضلهم اذ تم حساب سنه بالتقويم الهجري ولم يتعين له مجلس وصاية. ورغم محاولات كرومر لكسبه الا انه أراد ان تكون له شخصيته، فكون حاشية جديدة، وأعطى العفو لرجال الثورة العرابية، وراح يرسل اوامره رأسا الى المديريات، واقال رئيس الوزراء مصطفى فهمي الموالي للانجليز وعين حسين فخري بدلا منه في 15 يناير 1893، فكان لهذا دوي كبير داخل مصر وخارجها، واندهشت انجلترا ورفضت الوزير الجديد واصر عباس على موقفه ولكن انتهى الامر بتكوين وزارة رياض بعد ان هددته الحكومة الانجليزية بالعزل.

منذ البداية راى عباس توثيق صلته بالجيش وتفويض سلطة كتشنر سردار الجيش المصري وبذلك يصبح له النفوذ على الجيش، وكانت حادثة ازمة الحدود عام 1894 حين سافر عباس الى مديرية الحدود وابدى انتقاداته لنظام الجنود وتدريبهم امام السردار الذي غضب وابلغ لندن فامرت بعزل وزير الحربية وكان عباس قد عينه، وطلبت من الخديوي ان يقدم الاعتذار والا عزل. ورضخ عباس للامر خاصة بعد ان صرحت انجلترا بوجوب احلال الامير محمد علي على عرش مصر مكانه.

وراح عباس يسلك طريق الود والصداقة مع كرومر في الوقت الذي يقوم بمجهودات سرية ضد الانجليز، ففي عام 1895 الف بالاتفاق مع مصطفى كامل لجنة سرية للدفاع عن مصر ضد الانجليز بالكتابة في الصحافة في مصر وباريس باسماء مستعارة، ولم يكن ذلك يتم عن وطنية عباس اذ انه لجأ غلى ذلك لصرامة رقابة كرومر وطغيانه وسيطرته، فلم يترك له شيئا الا الشكل الرسمي والعنوان الظاهري. هذا بالاضافة الى سوء العلاقة التي كانت السمة بين عباس والدولة العثمانية، ذان فلابد له من الاعتماد على الحركة الوطنية التي كانت تعطيه ولا تسلبه.

ارادت انجلترا احباط مساعي عباس ورات انه من المصلحة ان تغير كرومر بآخر يمكن ان يهادن الحركة الوطنية من جهة خاصة بعد دنشواي، والخديوي من جهة أخرى. ووقع الاختيار على جورست صاحب الخبرة في الادارة المصرية والعلاقات الطيبة مع عباس فاراد ان يستخدمه للقضاء على الحركة الوطنية.

ونجحت سياسة الوفاق بعد العداء، واطلقت يد عباس في بعض الشئون العامة والاوقاف واعطى بعض الحقوق في منح الرتب والنياشين، بل انه عند تأليف وزارة بطرس غالي في نوفمبر 1908 سمح له بترشيح بعض انصاره. وتخلى عباس عن الحزب الوطني وحاربه عن طريق حزب الاصلاح على المبادئ الدستورية. ووصل جورست الى ما كان يصبو اليه.

لم يستمر الامر على هذا الحال اذ ارادت انجلترا ان يعود العهد الكرومري لمصر عقب وفاة جورست بعد ان ايقنت انه لابد من تركيز كل السلطة في يد رجلها وحده خاصة بعد قتل بطرس غالي فاصبح من الخطأ عزو الحركة الوطنية الى عباس. واختارت لندن كتشنر ليحكم مصر، ذلك العسكري الصارم والذي كانت تربطه بعباس ذكريات تركت بصماتها السيئة في نفسه.

فكان لابد له من الانتقام، فاصبح الحاكم بامره حتى فيما يمتلكه عباس، وسحبت من السلطة الخاصة بادارة الاوقاف واصبح لها وزارة مستقلة تحت الرقابة الانجليزية. ووافقت الدولة العثمانية على ذلك، وعندما اعترض عباس هدد بالعزل، وأشيع ان كتشنر يريد ان يكون له مقام في سراي عابدين.

ولم يصبح للخديوي عمل غير زيارة مزارعه وانززوى بعيدا لدرجة انه فكر ان يتخلص مما هو فيه بالتنازل عن العرش لولي عهده. هذا في الوقت الذي صمم فيه كتشنر على ضرورة خلعه. فعندما سافر الى لندن في يونيو 1914 كان عاقدا النية على تنفيذ ذلك، وسرعان ما قامت الحرب العالمية الأولى وتولى وزارة الحربية الانجليزية وتم له ما اراد.

الاتجاه الرابع

كان لابد لانجلترا من وأد الحركة الوطنية، فمنذ اللحظة الاولى لاحتلالها اعتقدت انه بتلك الاجراءات التي اتخذتها عقب تصفيتها للثورة العرابية قد استأصلت جميع الاتجاهات الثورية لكنها لم تتكمن، فالنزعة الوطنية استمرت مسيطرة على المصريين الذين ارادوا الانتقام منها فتكونت جمعية الانتقام، وواضح من اسمها مهامها، ولكن لم تكمل برنامجها بعد ان اجهز الانجليز عليها.

ومضى طريق المقاومة عن طريق الصحافة، فكانت "الأستاذ" التي انشاها النديم في 23 أغسطس 1893 وجهة المثقفين الذين اخذوا على عاتقهم زعامة الحركة الوطنية. وقد ساعدهم على ازدياد نشاطهم، الخديوي الذي تقرب منهم وسمح لهم بعقد الجلسات في قصره. وبذلك تأسس الحزب الوطني سرا عام 1896 الذي برز فيه مصطفى كامل ومحمد فريد.

كان كرومر بالمرصاد للحركة الوطنية فأراد احتواءها حتى يمكنه قذفها والتفريق بين عباس وبينها لكنه لم يستطيع امام تيار الحركة، فنفى النديم المتقد حماسة لكن مصطفى كامل حمل لواء المحاربة عن طريق الصحف سواء القائمة او التي أنشأها داخل مصر وخارجها، وأراد تأليب الرأي العام الدولي ضد انجلترا، واعتمد على فرنسا التي ما لبث الامر ان خيبت أماله عقب الاتفاق الودي عام 1904 فاتجاه الى المانيا ليضمها للقضية المصرية، لكن مجهوداته لم تلق النجاح الذي كان ينتظره حتى الدولة العثمانية التي رأى انها الجديرة بزعامة العالم الاسلامي بتبعيتها لم تستطع ان تقدم له المساعدة.

وجاءت حادثة دنشواي والاحكام الجائرة التي صدرت ضد الفلاحين نقطة تحول في تاريخ الحركة الوطنية، واستغل مصطفى كامل هذه الحادثة لاعلان الحرب على انجلترا لما اتخذته من اجراءات قاسية، وكانت النتيجة ان رأت الحكومة الانجليزية تقويض السياسة الكرومرية في الحكم المطلق، فأقصت كرومر عن منصبه، فاعتبر ذلك نصرا قويا للحركة الوطنية.

واعلن رسميا عن تأليف الحزب الوطني عام 1907، وحددت مبادئه، الجلاء، واستقلال مصر كما أقرته معاهدة لندن، وايجاد حكومة دستورية بالبلاد، ونشر التعليم ، وترقية الاقتصاد، وتحسين الحالة الصحية، وبث الشعور الوطني في الشعب.

وتألف حزب الأمة من الباشوات وكبار ملاك الاراضي الذين ساءتهم مبادئ الحزب الوطني، وكان حزب الأمة يلقى التشجيع من الانجليز ليضربوا به الحزب الوطني فكسبوا بذلك رضاء الطبقة الارستقراطية عن احتلالهم لمصر التي كان كل ما تتمناه مجلسا نيابيا. ومن هنا انحصر مؤيدو الحزب، بينما كان الحزب الوطني ينضم تحت لوائه الناس جميعهم.

كان على جورست ان يتخذ سياسة جديدة تجاه الحركة الوطنية بأن يخفف من وطأة الحكم الاستبدادي في الوقت الذي يسعى فيه للقضاء عليهم باتباع المسالمة، فاراد توسيع اختصاصات مجالس المديريات، وخول لمجلس الشورى القوانين جعل جلساته علنية وحق سؤال الوزراء، ولكن ذلك لم يثن الشعب عن الوقوف امام الاحتلال. وأثرت الثورة التركية في مصر وصمم المصريون على الدستور والحرية.

واتسع نطاق الحركة الوطنية، وعبرت عن نفسها في شكل اجتماعات ومظاهرات ومقالات صحفية عنيفة لعب فيها المثقفون دورا بارزا. وكان من جراء ذلك حملة من الاعتقالات الواسعة لكل من تسول له نفسه طلب الدستور لكن ذلك لم يوقف المسيرة الوطنية.

رأت انجلترا تغيير وزارة مصطفى فهمي بأخرى يسخط عليها الشعب حتى توزع الكراهية والمسئولية بين سلطات الاحتلال وبينها. فتألف وزارة بطرس غالي في 12 نوفمبر 1908. وأعقب ذلك وضع قانون باحالة تهم الصحافة الى تهم الصحافة الى محاكم الجنايات بعد ان كانت من اختصاصات محاكم الجنح حتى ترهب الصحفيين الذين – كما ادعت – يسممون اذهان الشعب

وعدلت بعض نصوص قانون العقوبات، فلفقت التهم للابرياء، وحوكم محمد فريد بناء على ذلك، ثم تقرر العودة الى قانون المطبوعات لعام 1881 في 25 مارس 1909. وهو يعطي السلطات الادارية حق فرض الغرامات على الصحف او انذارها او تعطيلها او اغلاقها، واحتج الحزب الوطني وصحيفته على ذلك محاولين اثارة الرأي العام، وقامت المظاهرات لتعلن رفضها لكن كانت دائما القوة المسيطرة على كل شي.

وجاء مشروع مد امتياز قناة السويس اربعينة سنة من 1968 إلى 2008 نظري اربعة ملايين جنيه تدفع على اربعة اقساط انتصارا للحركة الوطنية التي رفضت وباصرار تنفيذ ذلك اذ تمكن محمد فردي من الحصول على نسخة من المشروع في أكتوبر 1909 ونشرها في اللواء وطالبت اللجنة الادارية للحزب الوطني بعرض المشروع على الجمعية العمومية، فاضطر المسؤولن تحت الضغط الى دعوة الجمعية التي رفضت المشروع.

وبازدياد الغضب الذي امتلأت به النفوس اغتيل بطرس غالي الذي نمت على يديه أحداث القمع، اذ كان آلة في يد الانجليز ، أقر معاهدة الحكم الثنائي للسودان، ورأس اللجنة في قضية دنشواي، واعاد قانون المطبوعات، ووافق على مد امتياز قناة السويس، اغتاله ابراهيم الورداني من اتباع الحزب الوطني واحد اعضاء الجماعة السرية – جمعية اليد السوداء – التي شكلت للانتقام من الخونة، وحكم عليه بالاعدام وقبض على كثير من اعضاء الجمعية. وكلف برونيات بوضع مشروع قانون العقوبات، فجعل التعدي على الخديوي جناية لا جنحة ومعاقبة من يعتدي بالطعن على الاحتلال.

وراحت اليد العليا تبطش يمينا وشمالا، تقبض على الناس وترميهم في السجون، وتفتش البيوت، وتضطهد الحركة الوطنية. فوضع نظام خاص في المدارس هدف منه منع الطلبة من الاشتراك في المظاهرات، والمعاقبة بالسجن لكل من يشترك في اتفاق جنائي لارتكاب الجنايات حتى ولو لم يشترك في ارتكابها.

وبناء على ذلك قدم عبد العزيز جاويش للمحاكمة امام المحاكم الجنائية اذ رأت سلطات الاحتلال انه يحرض على كراهية الحكومة والعيب في حق ذات ولي الامر عندما كتب مقدمة كتاب "وطنيتي" للشيخ علي الغاياتي الذي حكم عليه هو الاخر بالسجن وعلى محمد فريد الذي كتب تقريظا لنفس الكتاب. واما هذه الظروف غادر هؤلاء الوطنيون الارض المصرية علهم يستطيعون خدمة الحركة الوطنية خارج مصر بعيدا عن بطش الانجليز.

تبع جورست على عرش العمادة في مصر كتشنر الذي اخذ يعمل منذ اللحظة الاولى على تصفية الحركة الوطنية وخاصة اتباع الحزب الوطني فاتسعت حركة الاعتقالات، وجرت التحريات حتى على من كان خارج مصر من المصريين، وقويت سلطة كتشنر واصبح وكانه ملك شرقي مطلق الارادة لا ترد له كلمة ولا يداينه احد، وتخيل انه بالعنف والضغط على المصريين سيقضي على الحركة الوطنية، لكن ذلك لم يتحقق فازدادت وارتفعت الاصوات التي تطالب بالاستقلال والدستور والبرلمان

فرأى أنه لابد من التمويه بايجاد شكل نيابي يحل محل مجلس الشورى والجمعية العمومية ويكون اوسع اختصاصا، فانشئت الجمعية التشريعية في اول يوليو 1913، ووضع ضروطا لاعضائها تجعلها هيئة ارستقراطية تعمل لمصلحتها ولمصلحة انجلترا لكن هذا لم يمنع ان تواجدت فهيا عناصر وطنية اصبح لها دور في تاريخ مصر النضالي. وهكذا تبلورت سياسة انجلترا تجاه مصر طوال فترة الاحتلال لتبدأ مرحلة جديدة مع قيام الحرب العالمية الأولى.

الفصل الأول: الحالة السياسية

في أواخر القرن التاسع عشر ظهرت المانيا كدولة موحدة ارادت ان تفرض مطالبها على دول اوربا بان يكون لها مثل ما لهم، وبدات تسعى لتحقيق ذلك، وكان أول عمل تقوم به هو اثارة المسالة المراكشي 1904 - 1905 وذل على اثر عقد اتفاق ودي بين انجلترا وفرنسا عام 1904، ولكنها فشلت وكان من نتائج ذلك انضمام روسيا الى دول الاتفاق الثنائي عام 1907. وعادت ألمانيا فرأت فرنسا ان تشتري سكوتها بمنحها القسم ا لداخلي من الكونغو الفرنسية.

وعلى الفور راحت المانيا تستعد لتقوية اسطولها الحربي لكي تستطيع الوقوف اما انجلترا، وبزيادة عدد قواتها المسلحة، ثم التقرب من الدولة العثمانية في الوقت الذي كانت فيه آخذة في الضعف والتدهور. فمنذ اعلان الدستور العثماني الذي كان بادرة تقسيم جديد للدولة حدثت عدة حوادث اثبتت ذلك

ففي عام 1908 و1909 قامت النمسا بضم ولايتي "البوسنة والهرسك" التي كانت تديرهما بمقتضى معاهدة برلين عام 1878 والتي كانت تحتلها عسكريا ما يقرب من ثلاثين عاما، واستقلال كل من بلغاريا والجبل الاسود، والحربين البلقانيتين الاولى والثانية، وارتداد الراية العثمانية نحو القسطنطينية، واخيرا غزو ايطاليا لطرابلس الغرب وبرقة واجلاء العثمانيين عنها، وعن بعض جزر الارخبيل والبحر المتوسط.

لذا كان يبدو انه لا سبيل على ابقاء الدولة العثمانية، فسارعت المانيا اليها اذ رات فيها خير حليف للوقوف امام الدول الاوروبية وخاصة انجلترا، وكان الامبراطور وليم الثاني امبراطور المانيا قد اظهر ميله الشديد للدولة العثمانية اذ كان من سياسته مد سكة حديد "برلين-بغداد-البصرة" وزار الاراضي المقدسة بفلسطين وظهر بمظهر الحامي للاسلام حتى لقد اطلق على نفسه اسم الحاج وليم.

بدأت العلاقات بين الدولة العثمانية والمانيا تتحول الى مفاوضات خاصة من الناحيتين الاقتصادية والحربية، وفي 22 يوليو 1914 اقترح انور باشا وزير الحربية في الدولة العثمانية على السفير الالماني عقد محالفة دفاع ضد روسيا وفعلا عقدت هذه المحالفة في 2 أغسطس 1914 بين كل من الدولة العثمانية من جهة والمانيا والنمسا من جهة اخرى، وتضمنت هذه المعاهدة السرية تقديم المساعدات الحربية للدولة العثمانية من المانيا في حالة نشوب حرب، وبأن تتولى المانيا الدفاع عنها اذا ما هددت بحرب، وعلى اثر ذلك انضمت البعثة الحربية الالمانية تحت قيادة فون ساندرز للجيش العثماني.

وفي 10 أغسطس وصلت سفينتات المانيتان هاربتان من الاسطول الفرنسي ودخلتا خليج جناق. وكان على الدولة العثمانية كبلد محايد عدم السماح لهم بالدخول، واحتجت انجلترا لدى الدولة وطالبت باعادة السفينتين ولكنها لم تابه في الوقت الذي راحت تدلل على حسن نيتها بانها تريد فقط ان تحتفظ ببعض الخبراء الالمان للتدريب الحربي. وفي الخفاء بدات تعمل على التعبئة العامة للجيش واقامة الاستعدادات.

واما هذا الموقف هددت انجلترا بتغيير الوضع السياسي في مصر. ففي 17 أغسطس اعلمت سفيرها بالقسطنطينية بتبليغ الدولة العثمانية "ان حكومة جلالة الملك لا تقصد تغيير الحالة الحاضرة بمصر اذا وقفت الدولة العثمانية على الحياد". وبناء على ذلك رددت الدولة اقوالها في مسالة الحياد هذه. ولكن كان ذلك مجرد ايهام حيث ان الشواهد دلت على اشتراكها الفعلي في الحرب.

وتغلغل النفوذ الالماني داخل الدولة العثمانية حتى الصحافة اصطبغت بالالمانية اذ راى الساسة انه بانضامهم لالمانيا سيتخلصون من الامتيازات. وسيستردون ولاياتهم، ويقفون امام عدوتهم الكبرى روسيا، بل وتعود مصر والهند والبلاد الاسلامة الى حظيرة الخلافة الاسلامية، وتصبح الدولة العثمانية سيدة الشرق بعد انهزام انجلترا وحلفائها. ومضت الدولة في سياستها هذه، فتعرضت للسفن البريطانية وهي تحمل بضائع من روسيا الى البحر المتوسط تفتشها وتؤخر ابحارها في مياه الدردنيل وراحت تعد حملة لغزو مصر.

وفي النصف الاول من سبتمبر 1914 كان الجيش العثماني اخذا في التجمع على حدود مصر. وجمعت الجمال الكافية للحملة لاختراق سيناء والوصول لمصر، وفي نفس الوقت قرر مجلس الوكلاء بان الحكومة العثمانية تبلغ الحكومة المصرية الارادة السنية القضاية بالغاء الامتيازات وتطلب منها تنفيذها في مصر بصفتها وولاية عثمانية، وقرر المجلس ايضا ارسال احتجاج لانجتلرا على طرد قنصلي المانيا والنمسا من مصر بصفة غير قانونية

وعلى اثر ذلك قدم السفير الانجليزي بالقسطنطينية احتجاجا للباب العالي على جمع الجيوش العثمانية بالقرب من الحدود المصرية، وحذر الباب العالي من عواقب هذه السياسة التي ترمي الى مهاجمة مصر واغلاق قناة السويس، فاجابه الصدر الاعظم بانه لا غرابة في هذا الامر فالاستعداد قائم بالفعل في جميع انحاء البلاد، وان للدولة العثمانية الحق في ذلك، لان مصر اعلنت حالة الحرب على المانيا والنمسا وهما غير محاربتين للدولة العلية صاحبة السيادة على مصر، وطردت قنصليها من مصر بغير وجه حق.

واستمرت الدولة في سياستها ودلت اعمالها على انها اصبحت في حالة حرب مع انجلترا، فقد تم ارسال فيلقي الموصل ودمشق للجنوب وكذلك بقصد اعداد هجوم على مصر عبر قناة السويس عن طريق غزة والعقبة، وتسليح فيلق كبير من العرب الرحالة لمساعدة هذه الحملة، وجمعت النقالات ومهدت السبل حتى الحدود المصرية، وارسلت الالغام الى العقبة والغيت في خليجها لحماية الجيش ضد اي هجوم بحري، وفي 26 سبتمبر اوقفت مدمرة انجليزية خارج الدردنيل، واجبرت على العودة، واعطي قائد الدردنيل الاوامر باغلاق المضائق.

وتوتر الجو بين الدولة وانجلترا، وكانت الاولى تحس ان الثانية تعد لها عملا عدائيا في مصر، فهي تخشى ان تضمها اليها، وراحت تذيع في الدول الصديقة ان انجلترا نقضت اتفاق 1888 ليس فقط باحتلالها قناة السويس وانما ايضا بتسليحها للوقوف امامها. وقد كان من الطبيعي ان يخلق موقف انجلترا نوعا من القلق والريبة للحكومة العثمانية بالنسبة للحالة في مصر ومن تلك الاجراءات التي اتخذت حتى ان مصر اعتبرت بانها غدت جزءا من الامبراطورية البريطانية، فالاحداث تؤيد ذلك اذ اصبح كل شيء في مصر يبدو كانه في صف انجلترا.

وفي 12 أكتوبر 1914 كتب ماليت الى ادوارد جراي يقول له:

"لقد اكدت للصدر الاعظم في مناسبات عدة بان حكومة جلالة الملك لن تغير الحالة في مصر ومع ذلك فان التصريح بان مصر كدولة في حالة حرب وطرد وكلاء المانيا والنمسا الذين تسلموا اوراق اعتمادها من الباب العالي، ووصلو كتائب عسكرية من الهند. هذا كله خلق جوا من القلق في تركيا"، ومضت الحكومة العثمانية تندد باعمال انجلترا في مصر، ففي اول نوفمبر 1014، ارسل السلطان منشورا الى الدول العظمى "ليلفت نظرها الى ان وجود الجنود الانجليز في مصر لا يسمح بممارسة حقوق سيادته".

وباعلان انجلترا الحرب على الدولة العثمانية رات ضرورة السيطرة التامة على مصر والقضاء على التبعية الاسمية لها خاصة وقد كانت تعلم جيدا ان مصر هي الهدف المقصود، فعملت منذ اليوم الاول لنشوب الحرب معها على جعل مصر اشبه بمستعمرة انجليزية، فمنذ الاول من أغسطس اخذت الحاميات الانجليزية ترسل الى الإسكندرية وضواحيها لحفر الخنادق واقامة الاستحكامات: وقد اقيمت معظم هذه الاستحكامات على السواحل المصرية، ووقفت السفن الحربية البرطيانية في عرض البحر المتوسط على مسافات قريبة من السواحل المصرية، ونصبت المدافع في حصن كوم الدكة والمكس وحصنت المدرعات ميناء الإسكندرية، ووزعت الجنود الانجليزية لمراقبة حدود مصر وبالذات الحدود الشرقية.

ورغم ذلك، فقد اعلنت مصر حيادها، فعندما قامت الحرب، وقبل اعلان انجلترا الحرب على المانيا بيوم اجتمع مجلس الوزراء برئاسة حسين رشدي – رئيس الوزراء والقائمقام الخديوي الذي كان بالآستانة – في 3 أغسطس 1914 واوصى بتعليمات يجب مراعاتها في الموانئ المصرية بخصوص سفن المتحاربين في اثناء تلك الحرب بين امبراطور المانيا وامبراطور روسيا والحرب بين امبراطورية النمسا والمجر ومملكة الصرب لضمان حياد قناة السويس ، وبذلك تقرر سريان قواعد الحيادة بمصر.

ولم يكن غريبا على مصر ان تسلك هذا المسلك خصوصا وان الدولة صاحبة السيادة الاسمية عليها لم تشترك في الحرب هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى فقد وقفت مصر قبل ذلك على الحياد في الحرب الطرابلسية التركية والحرب البلقانية في وقت كان عليها الاشتراك فيهما بجانب الدولة صاحبة الحق الشرعي في مصر.

ولم يرق لالمانيا، فعقب اعلان ذلك الحياد توجه قنصل المانيا الى حسين رشدي بسراي بولكلي بالإسكندرية، وساله عن معنى ذلك الحياد والحامية الانجليزية موجودة على ارض مصر، فلم يجبه رشدي في الحال ووعده بالاجابة عقب معرفة الرد، وعلى اثر ذلك اجتمع الوزراء وتناقشوا في الامر ولكنهم لم يتوصلوا الى حل فرفعوا الامر للوكالة البريطانية التي بدورها رفعته للندن. وكان ذلك يعني ان اعلان الحياد كان صوريا حيث اشارت كل الامور ان مصر غدت جزءا من الامبراطورية البريطانية.

وفي حقيقة الامر فقد كان رشدي يرغب في استمرار حياد مصر ويحلل الجود، سبب تراجعه عن ذلك بأنه كان يلتمس من يؤيده في ذلك فلم يجد احدا لان الخديوي كان آذ ذاك في الاستانة، واعضاء الجمعية التشريعية متفرقين في الاقاليم، والواقع ان رشدي منذ بادئ الامر كان ضعيفا امام الانجليز كانوا يحيطون به من كل جانب وعلى راسهم قائد جيش الاحتلال باينج وشيتهام نائب المعتمد الانجليزي في مصر، لذ كان عليه ان يذعن لرغبات انجلترا واولى تلك الرغبات دخول مصر الحرب بجانبها.

وجندت انجلترا بعض الصحف المصرية لتقوم بحملة ضد حياد مصر وبضرورة دخولها الحرب الى جانب الحلفاء، ومارست ضغوطها وانتهى الامر بخضوع رشدي واستسلامه فامضى قرار الخامس من أغسطس الذي زج بمصر في الميدان الحربي وجعلها خاضعة للاوامر البريطانية. واقحمها في تلك الحرب التي قدمت لها وضحت من اجلها، وخرجت مصر عن حيدتها واصبحت رهن اشارة انجلترا وغدت جزءا من امبراطوريتها.

ويتضح لنا من ديباجة القرار بانه "اشير على الحكومة المصرية، وكان معنى هذا انه املى على مصر ويؤيد ذلك لورد لويد بقوله:

"انه لا يمكن الادعاء بان التصريح قد اوصت به موجة من الحماس التلقائي من جانب الحكومة المصرية للقضية الانجليزية، وعدا هذا فرئيس الوزراء كان بطبيعته ذا دهاء وحذر وكان يعمل في تلك الاونة اخذا على عاتقه المسئولية الجسيمة المترتبة على قيامه بالحكم بالنيابة عن الخديوي في احوال لم يسبق لها مثيل من قبل لدرجة انه لا يكاد يكون محتملا ان يصدر تصريحا محددا بحمض ارادته".

من هذا نرى ان رشدي قد اخرج مصر عن حيادها، وكان في استطاعته ان يخلق حالة تضطر انجلترا لتقديم نوع من الحكم الذاتي على الاقل. فهي في موقف عصيب، وكان قرار الوزارة الرشدية هو الذي سيحدد الطريق الذي ستسلكه انجلترا

ويعلق احد شهود العيان بقوله:

"لقد كان زملاؤه متفرقين وليس امامه ملجأ للاستشارة، ومصلحة مصر تقتضي الحياد، ومصلحة بريطانيا تقضي بالاشتراك في الحرب، فانطوى رشدي امام تهديد المندوب البريطاني الى الثانية لا الى الاولى. وانه لو كان على راس الوزارة رجل اشد صلابة لاستغل الفرصة للمساومة، ولكنه لم يشترط شيئا ولم يطلب تعويضا، وحاقت العاقبة بمصر من جراء هذا الاهمال، وليس في وسع رشدي ان يقول كلمة تخفف من وقعت تسليمه، فقد كان من الممكن له ان يساوم ولكنه لم يفعل ذلك الشئ، الذي جعل مصر تعاني من ذلك".

وربما كان رشدي يظن ان عدم اصداره قرار الخامس من أغسطس والتمسك بحياد مصر قد يقضيان الى ضم مصر الى ممتلكات البريطانية ، اذ قال في خطاب له في 17 أغسطس 1914 الى الخديوي عباس الذي كان بالآستانة:

"انه غدا واثقا عن طريق المستشارين العائدين من انجلترا انه لولا ذلك القرار لكان قد اعلن ضم مصر الى الامبراطورية نهائيا. هكذا صدر هذا القرار رغم عدم سلامته قانونيا باعتبار ان مصر لم تكن اذ ذاك تملك توقيع اي اتفاق سياسي على هذه الدرجة من الخطورة بغير موافقة الباب العالي صاحب الحق الشرعي فيها، فهو اذن يتعارض مع الفرمانات التي تنص على ان اجراءات الحرب يجب ان يصدر بها امر من السلطان وحده، وكانت الدولة العثمانية حتى ذلك الوقت على الحياد. ومع ذلك فقد كانت مصر بمقتضى قرار مجلس الوزراء هذا قد "سحبت نفسها من سيادة الباب العالي".

ودخلت مصر الحرب مجانا، وقد حاول رشدي ان يبرر مسلكه هذا بتلك المحاولات التي اذيعت في ذلك الوقت والتي جاءت بناء على طلب بعض الشخصيات المصرية بشان اعطاء مصر تعويض بناء على موقفها من الحلفاء.

ويذكر بهي الدين بركات في مذكراته بانه جاء على لسان

"نائب من نوابنا المعروفين – المكباتي بك – ومستشار من مستشارينا المشهورين بالذمة والضمير ويظهر انها على افواه الناس يقولون :ان رشدي باشا ينتظر قدوم ونجت باشا سردار الجيش المصري وهو الذي سيقوم بالاعمال في مصر ليطلب منه مكافأة الامة المصرية في خطتها في الحرب الحاضرة، ولقد كاشف عمال الوكالة البريطانية بذلك، وقد اختفت ماهية تلك المكافأة، فمن قائل انها الجلاء عن مصر وعقد معاهدة هجومية دفاعية معها، فمن قال بل ان ما تطلبه اكثر تواضعا من ذلك وهو منحها المجلس النيابي المنشود".

ويؤيد لطفي السيد بان رشدي قد فاتح ونجت بشان هذا الامر وبين له بان "مصر مستعدة لمناصرة بريطانيا بشرط ان تعترف باستقلال مصر، فارتاع للفكرة ووعده بان يعرض الامر على حكومته"، وبدأت تلك المحاولات في الاتساع ، فطلب لطفي السيد من جراهام مستشار الداخلية اعلان استقلال مصر وتنصيب الخديوي ملكا عليها. وفي حديث جمع رشدي مع لطفي السيد ومحمد محمود ابان الاول ما دار بينه وبين ستورز – السكرتير الشرقي للوكالة البريطانية – بشان ذلك الموضوع وبان الاخير يؤيد فكرة الاستقلال وسيخابر اباه العضو في البرلمان لاثارة هذه المسالة.

وفي لقاء بين لطفي السيد وعدلي يكن وستورز طرحت المسالة المصرية، ووضع في بيت نجيب باشا صورة المعاهدة بين مصر وانجلترا التي تضمنت اعترافها باستقلال مصر، واعتراف مصر بمصالح انجلترا في قناة السويس. لكن كل ذلك كان للايهام بان الحكومة تعد شيئا جديدا، ولم يخرج الامر عن حيز الاجتماعات، وانتشرت تلك الاشاعات واصبحت خير مخدر لاعصاب المصريين.

كانت الخطورة التالية بعد قرار الخامس من أغسطس تنفيذ ما جاء فيه، ومن اهم بنوده قطع علاقات مصر مع اعداء انجلترا، واخضاع الرعايا الالمان والنمساويين الى مراقبة شديدة وسيطر الانجليز على المواصلات السلكية واللاسلكية فمنع شيتهام ممثل انجلترا في مصر ارسال برقيات الشفرة الصادرة من ممثلي دول الاعداء.

وراحت انجلترا تطبق اجراءاتها على السفن الالمانية والنمساوية، ففي 7 أغسطس امرت سلطة ميناء الإسكندرية انزال شحنة ثلاث سفن المانية وارسى هلبهم، وطلبوا من ربانها رفع آلاتها بدون الحصول على اذن من قواد السفن الالمانية.

ومضت البحرية البريطانية تنقب عن تلك السفن من قواد السفن المعادية في البحر المتوسط منذ اوائل أغسطس، فقد حدث في السادس عشر منه ان طرادا انجليزيا اخذ يستولي على السفن النمساوية واحضرها الى الإسكندرية اذ اعتبرتها السلطة غنيمة من الغنائم، اما عن بقية السفن التجارية الالمانية التي كانت بميناء الإسكندرية فاعتبرت من الغنائم ونزل اليها موظفو مصلحة الموانئ والفنارات ونزعوا منها الآلات التي تسيرها حتى لا تتحرك من مكانها.

وفي بورسعيد منعت السفينة الألمانية Derfflinger من الرحيل وحجزت السفينة Andros وقد ارسلت المانيا تشكوت من تصرفات الجيش الانجليزي مع سفنها وبحارتها واحتجت أيضا على القرار السابق بجملته وخاصة على المادة التي تعطي لانجلترا حقا لقواتها البحرية والحربية بممارسة الحرب في الاقليم المصري، قد بينت المانيا ان بلدا كمصر فيه نظام الامتيازات الاجنبية يتنافى معها تلك الحقوق التي اعطيت لانجلترا بمقتضى ذلك القرار وان هذا يحرج المانيا كقوة لها امتيازات في مصر وانه من المفروض انه يكون الامر للحكومة المصرية اذ هي الملزمة بالمحافظة على تلك الامتيازات.

لم يهم انجلترا اعتراضات المانيا واتجهت الى تعطيل الصحيفة الالمانية في مصر Aegyptische Nahrichten فقد كان مجهود جراهام مستشار الداخلية – القضاء على اي نفوذ يمكن له ان يؤثر على المصريين ويكون ضد انجلترا.

اما بالنسبة للنمسا والمجر ، فقد احتجتا ايضا على قرار الحكومة المصرية الصادر في 13 أغسطس الذي ينص على سريان جميع احكام قرار الخامس من أغسطس وتطبيقه على النمسا والمجر، وطلبتا استفتسار قانونيا لذلك القرار واوضحتا ان الامبراطورية العثمانية لم تعلن الحرب عليهما فكيف اذن تكون مصر تلك الدولة التابعة قانونيا لها ان تقطع علاقاتها وتصبح في حالة حرب معهما.

جاءت بعد ذلك الخطوة التالية لخروج رجال الوكالة الالمانية من مصر. ففي أوائل سبتمبر سنة 1914 قصد سان استفانو الجنرال بنج ضابط من ضباط اركان حرب جيش الاحتلال الانجليزي، وقابل ممثل اعمال وكالة المانيا السياسية في دار الوكالة وابلغه بضرورة خروج الوكالة وقناصلها من مصر في ظرف ثلاثة أيام، وقدم له بلاغا بذلك، فرفضه القنصل.

فكان رد الانجليزي بانه اذا حل الميعاد سيخرجهم بالقوة، فأبلغ الالماني وزارة الخارجية وطلب حمايته ولكن الوزير – عدلي يكن – قابله وقال له: "اصرح فيما يختص بالقرار الذي قرره قائد جيش الاحتلال بشانك ان هذا العمل لم يصدر عن الحكومة المصرية بل هو نتيجة قرار قررته السلطات الانجليزية وليس في وسع الحكومة المصرية منع تنفيذه".

وتحت تهديد قائد جيش الاحتلال الانجليزي ترك البلاد قناصل كل من المانيا والنمسا والمجر، ورحلوا لبلادهم بضغط من مكسويل ولم تستطع الحكومة المصرية ولا رئيسها ان تحمي ممثلي هذه الدول. وتبعا لذلك اقفلت ابواب القنصليات الالمانية والنمساوية في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد وسافر المعتمدان بعد ان وكلا الى معتمدي امريكا وايطاليا حماية رعايا دولتيهما في مصر. ورأت انجلترا ضرورة القضاء على اي حركة نشاط الماني في مصر يتمثل في الرعايا الالمان والنمساويين.

ومضى شهر أغسطس ولم تتخذ تدابير لتسجيل الالمان والنمساويين المقيمين في مصر او لمنع الاحتياطيين منهم في الجيش من السفر، وفي سبتمبر منع الاحتياطيون العزاب من السفر ثم المتزوجون، وفي أكتوبر صدر امر بتسجيل الاسماء بالنسبة للذين جاوزوا الثماني والاربعين سنة فقد كانت لهم رخصة بالاقامة في البلاد وممارسة اعمالهم، تبعهم الاحتياطيون العزاب فقد ارسلوا الى الإسكندرية، ثم الى مالطة

وفحصت اوراق الذين كانت اعمارهم ما بين الثمانية عشر والخامسة والاربعين، ومن لم يستطع تقديم دليل على انه معفي من الخدمة العسكرية ارسل الى مالطة فبلغ عدد الذين ابعدوا اليها الفا وستمائة وواحدا وخمسين شخصا حتى اواسط سبتمبر 1914، اما بقية الرعايا فقد خضعوا لمراقبة شديدة، وقد صدر اعلان من مكسويل امر استدعاء للرعايا الالمان في منطقة القناة لتقديمهم الى الحكومة لعمل اللازم اما لترحيلهم او للضغط عليهم.

هكذا راحت السلطة في مصر تنكل برعايا المانيا وحلفائها، وعلا صوت المانيا بالاحتجاج على التصرفات الوحشة لعساكر الانجليز تجاه رعايها وعلى سبيل المثل فقد كان مستر هانزجيجوت – وهو احد الرعايا الالمان – يملك عزبة بالقرب من السويس، فاوقف عن مزاولة عمله بواسطة الجنود الانجليز وسجن في سجن السويس ثم نقل الى القاهرة ووضع تحت المراقبة.

وبعد اعلان الحماية على مصر وتقدم الاعمال العسكرية في سوريا، رأت السلطة العسكرية انه لا غنى عن اتخاذ تدابير اشمل من الاولى ضد الالمان والنمساوين لاسيما بعد ان عرفت ان كثيرين منهم يبثون في صدور المصريين الاعتقاد بقوة المانيا ونصرتها في الحرب.

وفي وائل 1915، طلب من جميع الالمان والنمساويين على اختلاف اعمارهم ان يغادروا البلاد وذلك رغم احتجاجات كل من المانيا والنمسا والدولة العثمانية والتنديد بانه ليس من وجه الحق ان تامر السلطة الانجليزية التي لم يعترف بها الباب العالي باحتلالها لمصر معتمدي المانيا والنمسا بالمغادرة رغم انهما اخذا اوراق تعيينهما من الحكومة العثمانية. لكن كل هذا لم يزعزع الانجليز عن اي تصرف فرضته على مصر ومضت في البرنامج الذي رسمته لنفسها للسيطرة على مصر وابعاد ما مكن ابعاده من اي خطر يهدد امنها فيها.

ومضى قائد الاحتلال في مصر بناء على تلك السلطة المخولة له من لندن في تنفيذ بقية اجراءاته اذ اصبح هو الامر الناهي والمتصرف الوحيد في الشئون المصرية جمعاء، فهو يقوم بكل عمل دون استشارة، يصدر كل الاوامر وتنفذ دون ان يعلم حتى رئيس الوزراء القامئقام الخديوي الحاكم الشرعي للبلاد

وحتى الجمعية التشريعية – وهي الهيئة النيابية الوحيدة في مصر – خاف الانجليز من صدور اي صوت معارضة منها تجاه تصرفاتهم فرأوا اسكاتها اذ يعلمون ان كثيرا من اعضائها كانت لهمس ابقة في الاعتراض وكان قد انتهى الفصل التشريعي الاول والوحيد في يونية 1914، وموعد انعقادها العادي في 17 نوفمبر فرأت ان تعطلها نهائيا حتى نهاية الحرب ولكن للتمويه عملت على تأجيلها في بادئ الامر الى اول يناير 1915.

هذا في الوقت الذي اخضعت البلاد فيه طولا وعرضا وفرضت الرقابة على الصحف والبرقيات والرسائل وكممت الافواه حتى لا يخرج احد يعارضها. وفي نفس الوقت وصل لمصر اعداد هائلة من الجنود الهندية، واصبحت مصر معسكرا لجيوش انجلترا وحلفائها وبذلك تمكن الانجليز من السيطرة عليها سيطرة تامة.

واعقب ذلك اصدار قانون التجمهر في 18 أكتوبر 1914 واعتبار كل اجتماع من خمسة اشخاص على الاقل في طريق او محل عمومي ولو لم يكن له قصد جنائي يخول رجال السلطة ان يامروا المتجمهرين بالتفرق. ومن لم يطع هذا الامر يخضع للعقاب، والقصد من ذلك القانون هو منع ما يكدر او ما يجعل الحالة خطرة، وكان على رجال البوليس تنفيذ ذلك وتشتيت اي تجمهر ليكدر السلام او لشئ آخر

فأخذوا يمنعون اي اجتماع ويؤرقون الناس في حياتهم، وللأسف فان هذا القانون طبق فقط على المصريين ولم يطبق على الاجانب الاوروبين ذلك لان جمعية محكمة الاستئناف المختلطة سلطتها مقصورة على المسائل المدنية والمخالفات، اما قانون التجمهر فمن قوانين الجنح. لان العقوبة المنصوص عليها فيه عند مخالفة امر رجال البوليس اكثر من حبس اسبوع وقد تبلغ ثلاث سنوات كما ان الغرامة تزيد على مائة جنيه وقد تصل الى خمسين.

وارتفعت الشكوى من اختلال معاملة المصريين على الاوروبين بان يكون القانون الاستنثائي نافذا على الجميع لان الاوربيين لا يريدو ان يختصوا بمعاملة احسن من التي يعامل بها اهل مصر ويطلبون الا يعاملوا بطريقة اسوأ من التي يعامل بها غالبا الوطنيون.

وراحت ايدي السلطة تبطش بالآمنين وتمنع اي اجتماع سواء كان في مقهى ام نادي ام في الطرقات. ولكن رغم ذلك لم تستطع ان تمد يدها الى تلك الاجتماعات السرية التي كانت تعقد والتي اخذت على عاتقها قيادة الحركة الوطنية في اثناء الحرب.

ثم امتد اليد الى الصحافة، ففرضت الرقابة الصارمة عليها وعطل بعضها وطهر البعض الآخر وبه أماكن المقالات البيضاء تعني حذف الرقابة عليها، فقد كانت الرقابة بمراجعة كل ما يكتب عن الحرب وبالذات عن تحركات الجيش الالماني قبل طبعها وتم ذلك في اول نوفمبر قبل ان تعلن الاحكام العرفية على البلاد تلك الاحكام التي تخول السلطة العسكرية الرقابة على الصحف.

خطوات تغيير وضع مصر السياسي

بعد قرار الخامس من أغسطس رات انجلترا ضرورة عمل شئ آخر، فلم يكفيها اقحام مصر في هذه الحرب بل لابد من تغيير الوضع السياسي في مصر وذلك لتوقعها دخول الدولة العثمانية الحرب رغم تاكيد الاخيرة في استمرار حيادها، وقد كانت على يقين من دخول الدولة العثمانية الحرب لذا تقرر تغيير الحالة السياسية في مصر

بعد ان رات ان الفرصة قد حانت لانهاء السيادة العثمانية واحلال السيادة الانجليزية على مصر قانونيا، لذا ارسل جراي الى شيتهام بمصر في 27 سبتمبر 1914 برقية يبلغه فيها بانهاء السيادة العثمانية على مصر، وضرورة عزل الخديوي عباس وتعيين الامير حسين كامل مكانه وانه في امكانه اعلان الاحكام العرفية على مصر، اما بالنسبة للامتيازات الاجنبية والمحاكم المختلطة فبلغه بالنظر فيهما فيما بعد.

من هذا نرى ان انجلترا منذ بادئ الامر فكرت في عزل عباس، وهذا فعلا ما كانت تنويه حتى قبل الحرب، فقد سافر كيتشنر لبحث هذا الموضوع وبمجئ الحرب اتيحت هذه الفرصة بل ولتغيير الوضع السياسي في مصر.

كان على انجلترا في ذلك الوقت وهي حليفة كل من روسيا وفرنسا ان تعلمهما بهذه الخطوة حتى لا تلقي اي معارض، فاستدعي جراي كل من ممثلي فرنسا وروسيا في لندن وابلغهما بذلك – انه اذا دخلت الدولة العثمانية الحرب فستعلن الحماية البريطانية على مصر – وعندما راى منهما عدم المعارضة اسرعت وزارة الخارجية البريطانية بتبليغ القرار رسميا ببرقية مرسلة الى كل من سير برتي – سفيرها بفرنسا وسير بوكانان سفيرا في روسيا ليبلغ الامر رسميا الى كل من الحكومتين وابانت لهما انه سيستمر العمل بنظام الامتيازات والمحاكم المختلطة، وقد ارسلت صور من هذه المذكرة الى كل من شيتهام بمصر وماليت بالآستانة.

عندما وصلت هذه المذكرة الى شيتهام وكان على دراية كافية ويعلم جيدا شعور المصريين في ذلك الوقت من اعلان الحماية على البلاد، وعلى الفور كثرت اجتماعاته بحسين رشدي الذي تخوف هو الاخر من اعلان الحماية واكد له ان ذلك الاجراء قد يفضي الى قيام الثورة في البلاد ونحى نفسه عن مسئولية ذلك بل وهدد بالاستقالة لانه كان يامل نوال شئ لصالح مصر بعد توقيعه على قرار الحرب

وعندما احس شيتهام بهذا الموقف المعقد رأى ان يرسل لحكومته يطلب التريث في اعلان الحماية والاكتفاء باعلان الاحكام العرفية بعد ان اتفق مع قائد القوات البريطانية، وابان ان ذلك سوف يهدئ الحالة واشار ببقاء رشدي في منصبه وبجانبه رجال الدين لان الحصول على تايديهم امر لهم اهمية كبرى لما لهم من تاثير على الشعب خصوصا بعد ان يعلن الحرب على تركيا صاحبة الخلافة الاسلامية. كذلك اوضح انه يمكن اتخاذ الاجراءات تدريجيا للوصول الى اعلان الحماية واخيرا الح في ضرورة فرض الاحكام العرفية على البلاد.

جاءت بعد ذلك الخطوة المتوقع حدوثها وهي اعلان الاحكام العرفية. فعلى اثر نشوب الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا في الاول من نوفمبر، اصبح من المتوقع حدوثه ان تعلن الحرب بينها وبين انجلترا لذا سارعت انجلترا باعلان الاحكام العرفية على مصر، وعندما اراد مكسويل اعلانها لقى معارضة من جانب حسين رشدي في بادئ الامر لدرجة انه هدد بالاستقالة

لكن رشدي كعادته دائما يتمنع في اول الامر ثم ما يلبث ان يخضع لليد العليا المتحكمة في كل شيء، وفي 2 نوفمبر اعلن مكسويل انه امر من قبل الحكومة البريطانية ان ياخذ على عاتقه مراقبة القطر المصري لكي يضمن حمايته، وبناء على ذلك اصبحت مصر تحت الحكم العسكري وهذا في حد ذاته يدل على ان انجلترا قد عقدت العزم لفرض سلطاتها على مصر والقضاء على سيادة الدولة العثمانية

وفي الوقت نفسه اصدر مكسويل اعلانا آخر حذر فيه الاهال من تكدير السلام العام ومساعدة اعداء انجلترا ودعاهم الى اتباع جميع الاوامر التي تصدرها السلطة العسكرية. وقد ابلغ شيتهام هذا الامر المنشور الى رشدي فادخل عليه بعض التعديل بخصوص السلطة فيما يتعلق بالوسائل الحربية التي اصبحت منحصرة في يد القائد العسكري.

وفي 7 نوفمبر اعلن مكسويل بانه من يوم 5 نوفمبر اصبحت بريطانيا العظمى وتركيا في حالة حرب وبين ان دولته تحارب لغرضين وهما:

"الدفاع عن حقوق مصر وحريتها بالتي اكسبها محمد علي في الاصل في ميدان القتال واستمرار هذا القطر في التمتع بالسلم والرخاء اللذين تحققت بهما مدة الاحتلال البريطاني، ولعلم بريطانيا بما للسلطان بصفته الدينية من الاحترام والاعتبار عند مسلمي القطر المصري فقد اخذت على عاتقها جميع اعباء هذه الحرب بدون ان تطلب من الشعب المصري اية مساعدة ولكنها مقابل ذلك تنتظر من الاهالي وتطلب اليهم الامتنع عن اي عمل من شانه عرقلة حركاتها او اداء اي مساعدة لاعدائها".

وهذا اعتراف صريح من انجلترا على لسان قائد جيوشها في مصر بان لمصر حرية معترفا بها كسبتها على يد محمد علي في ميدان القتال. ومنذ ذلك الحين خول للقائد العام للجيوش البريطانية في مصر السلطة والسيطرة. وعلى الفور طبق قرار مجلس الوزراء الصادر في الخامس من أغسطس على الدولة العثمانية واعتبرت مصر منذ ذلك الوقت في حالة حرب معها.

وقد اتفق رشدي مع شيتهام على ان يبقى في منصبه عندما يتلقى منه مذكرة رسمية تنقل اليه نسخة من المنشور القصير الذي كتبه مكسويل يعلن فيه حالة الحرب مع الدولة العثمانية متكفلا بالمسئولية التامة في الدفاع عن البلاد كذلك طلب من الشعب بالا يساعد العدو وبان يكون كل وزير له سلطته في الامور الملكية الخاصة به.

هكذا اعلنت الاحكام العرفية ووضعت مصر تحت الحكم العسكري الذي انزلها الى مرتبة الاغلال واصبحت تلك الاحكام وصمة في جبينها، تلك الاحكام التي صدرت بموافقة رئيس الوزراء ووزرائه، فقد كان من الممكن ان يتشدد في الموقف ولكن كبقية الاجراءات الي اتخذتها انجلترا منذ بادئ الحرب خضعوا لها مستمسلمين. وبذلك اصبح الجيش البريطاني وسلطته فوق كل شئ فهما السلطة التشريعية والتنفيذية للبلاد، حيث امتدت الاحكام العرفية على كل مظهر من مظاهر الحياة المصرية.

وفي 6 نوفمبر سلم مكسويل مذكرة الى لندن يبلغها انه اتخذ كل الاجراءات لمنع المصريين من تقديم اية مساعدة للعدو وخاصة تركيا، بعد ذلك البلاغ الذي اصدره يحذر فيه من توزيع المنشورات التي تعادي انجلترا والتهديد بالمحاكمة امام مجلس عسكري.

وانتهى الامر بان اصبحت مصر في حالة حرب مع الدولة صاحبة السيادة عليها من الناحية القانونية. وبذلك نجد ان انجلترا التي سبق ان توسلت بالسيادة العثمانية للتخلص من الخديوي اسماعيل وعزله تعمل على هدم هذه السيادة متعللة بانها تريد ان تغدق هذه السيادة على المصريين انفسهم في سبيل تطورهم نحو الحكم الذاتي.

وكثرت الاجتماعات بين شيتهام ورشدي بشان الحالة السياسية في مصر وكان من خطة الاول تنفيذ الامور تدريجيا فهو على يقين من ان لندن تنوي تغيير الحالة السياسية في مصر لذا اجرى محاولات كثيرة لاقناع رشدي بتقبل اعلان الحماية على مصر، وقد ايقن انه ممكن لرشدي الموافقة على الحماية في مقابل اعطاء مصر نوعا من التعويض مقابل انفصالها عن الدولة العثمانية.

واخيرا راى رشدي ان يعمل شيئا – في نظره – لصالح مصر بان يحصل على بعض الامتيازات من انجلترا فاعد مذكرة شفوية لشيتهام تحدد العلاقة بين الدولتين، وقد اوضح سعد زعلول في مذكراته محتوياتها فيقول: "كان رشدي قد قدم قبيل هذا التاريخ – 18 ديسمبر 1914 – مذكرة الى شيتهام قال فيها: اما قرار الحكومة البريطانية بتعديل حالة مصر السياسية، ينبغي وضع نظام سياسي اداري لهذا القطر يوفق بين حماية مصالح انجلترا السياسية، وفوائد الاوربيين المالية والتجارية ويكون من شانه ان يحقق بقدر الامكان آمال الامة حتى ترضى عن الحالة الجديدة

واليك ما يمكن عمله: اعلان ان مصر دولة ملكية دستورية مستقلة بالقيود الآتية:

أولا: ان يكون لانجلترا حق حماية قناة السويس والمحافظة بوجه الاجمال على سلام القطر الصمري.

ثانيا: ان يكون لانجلترا حق المراقبة المالية مراقبة تؤدي الى الغاء صندوق الدين واستبداله بهيئة انجليزية.

ثالثا: ضرورة موافقة الحكومة الانجليزية على القوانين المختصة بالأجانب.

رابعا: ضرورة موافقته على عقد اية معاهدة مع اي دولة اجنبية. وبان يكون للحكومة المصرية حاكم وراثي بشارات الملك المعتادة كالعلم الوطني والجيش الوطني والسكة الوطنية وامتيازات الشرف الوطنية.

وتستلزم الطريقة الجديدة للدولة تعديل القانون النظامي المالي بجعل راي الجمعية الشرعية قطعيا في بعض المسائل لاسيما المسائل الآتية:

أولا: الحقوق والواجبات المترتبة على الصفة المصرية كحق الانتخاب والخدمة العسكرية.
ثانيا: المحاكم الشرعية.
ثالثا: الاوقاف.
رابعا: المجالس الحسبية.
خامسا: التعليم المدني والديني.
سادسا: فرض الضرائب الجديدة وكل تعديل في الضرائب الموجودة او الغاؤها. سابدا: اعطاء امتيازات تتعلق باكثر من مديرية".

ويعقب على ذلك

"عرض على رشدي باشا هذه المضكرة ورغبت ان تضاف اليها القوانين المدنية والجنائية الخاصة بالوطنيين فلم يعراض ولكنه اشار الى تشدد الانجليز، ومن الغريب ان يعد الآن في عرفه وفي عرف زملائه من لم يرض عن الحالة الجديدة من غير فائدة للجمعية او بفائدة لا تذكر طائشا متهورا في الرأي".

كان هذا هو نص المذكرة التي اعدها رشدي لشيتهام، ومن يتمعن فيها يجد انها مجحفة بحق مصر، فهي في حد ذاتها حماية قبل ان تصدر الحماية وانجلترا فيها هي سيدة الموقف، فمصالحها السياسية تفيض بها المذكرة وليست انجلترا فحسب، ولكن الاجانب ايضا فهي تعضد مصالحهم، فكيف امكن لرشدي ان يطالب بان تكون مصر دولة مستقلة ملكية دستورية.

وانجلترا واضعة يدها عليها بهذا الشكل، اذا عطاها الحقوق الكثيرة، اعطاها حق احتلال البلاد بحجة المحافظة على سلامتها كما فعل من قبل في قرار الخامس من أغسطس حينما قال "نظرا لان وجود جيش الاحتلال في القطر". وهذا اعتراف صريح من رئيس الوزراء باحتلال انجلترال مصر.

وقد كررها مرة ثانية في المذكرة ، كذلك الحق في السيطرة على قناة السويس. ولم يكتف رشدي بالسيطرة السياسية اذ اطلق يدها في السيطرة المالية فجعل لها حق المراقبة المالية بعد الغاء صندوق الدين واعطاها الاشراف على قوانين الاجانب بل والسيطرة على العلاقات الخارجية.

اذن ماذا بقي لمصر بعد ذلك؟ انه من عليها باشياء بسيطة، ليست لها اهمية اطلاقا، لقد كان في امكان رشدي وهو يعلم تمام العلم ان انجلترا في ذلك الوقت كان يمكنها ان تضحي باي شيء يقرب مصر الى الاستقلال السياسية نتيجة لظروف الحرب وتقدم المانيا فيها، وكانت مواقفه ضعيفة رغم انه هدد بالاستقالة في اكثر من مرة لكنها اقتصرت على الناحية الشكلية فقط. ورغم الضعف الظاهر في المذكرة فان رشدي ما لبث ان تراجع حتى عما جاء فيها وقبل ان تكون مصر تحت الحماية البريطانية دون قيد او شرط او حتى دون التمسك بما جاء فيها من طلبات لا قيمة لها.

من هذا نرى ان مسلك الوزارة قد خلا من الحنكة والاقدام وهذا في حد ذاته شجع الانجليز على سوق المصريين للحرب عنوة، ولم يقنع كل من رشدي وعدلي بهذا بل جاوزاه الى حد التطوع بالاحاديث والتصريحات هللوا فيها للسياسة الانجليزية بتلك الحماية التي احتضنوها واعتبروها امنية من الاماني الوطنية التي تتوقع مصر اليها.

مصر ما بين الضم والحماية

على اثر دخول الدولة العثمانية الحرب ضد الحلفاء رات انجلترا حتمية تغيير الوضع الراهن في مصر، وكان عليها ان تسلك احد طرق اربعة لتغيير تلك الحالة، فاما ان تضمها اليها، واما ان تدمجها في امبراطوريتها مع اعطائها حكما ذاتيا، واما ان تستكمل السيطرة عليها بان تحل محل الدولة العثمانية وذلك باعلان الحماية عليها، واما ان تعطيها الاستقلال التام مع عقد معاهدة تصبح بها مصر دولة محالفة لانجلترا.

وفي حقيقة الامر فان دخول الدولة العثمانية الحرب قد عجل باتخاذ اي من هذه الخطوات، لكن ليس معنى ذلك ان انجلترا لم تفكر في تغيير الحالة الا عندما دخلت الحرب مع الدولة العثمانية. ففي شهر سبتمبر سنة 1914 قررت وزارة الخارجية الانجليزية تغيير الحالة السياسية في مصر باعلان الحماية عليها بعد ان تاكدت من تحالف المانيا مع الدولة العثمانية. ومن تلك الاجراءات الحربية التي تقوم بها الاخيرة هادفة قناة السويس الطريق الواصل للقوات الهندية الى فرنسا هذا من ناحية، ولاهميتها الاستراتيجية وحاجة انجلترا في السيطرة عليها من ناحية اخرى.

وكان من دواعي قلق انجلترا ايضا انه اذا انتصرت المانيا فستكون سيدة الشرق وبالتالي ستغير الوضع في مصر بارغام انجلترا بالجلاء عنها والسيطرة عليها. واخيرا عقدت انجلترا عزمها على ضم مصر للامبراطورية البريطانية، فقد ارادت ان تشدد قبضتها عليها، وان تعزز مركزها فيها ابان فترة الحرب وذلك بجعل مركزها فيها قانونيا.

فمنذ بداية الحرب واجهت انجلترا مشكلتين:

الاولى هي الوضع الدولي لمصر، والثانية هي الاحتواء على طبقة رجال السراي تلك الطبقة العلا التي تنتمي للاتراك، وتغلبت انجلترا على المشكلة الثانية واصبح رجال السراي والوزراء موالين لها. ما بالنسبة للمشكلة الاولى فكان لزاما عليها ان تغير الوضع في مصر وبان تجعل صفتها شرعية فيها، فهي تشعر ان مركزها

بالرغم من انه كان قويا فعلا بفضل وجود جيش الاحتلال الذي عزز باضافة جيوش الامبارطورية لمواجهة اعباء الحرب - ضعيفا من الوجهة القانونية:

"فقد كان حاكم مصر هو الخديوي، وكان مجلس الوزراء هو مستشار، ولم يكن للقنصل البريطاني موضع ما في الدستور ولم يحتفظ له بسلطات ما في اي معاهدة او اتفاق ابرم بين الطرفين، ولم يكن الموظفون الانجليز قانونيا غير خدام الخديوي، ومع ذلك كان ثم قيد واحد بسلطة الخديوي اعترف به القانون وهو سلطة تركيا".

وفي لندن كانت اغلبية الوزارة ترى ضم مصر الى الامبراطورية حتى يمكن لانجلترا حل مسالة الامتيازات الاجنبية بحزم وبسرعة لانها اصبحت عقبة في الاعمال التشريعية والتنفيذية، لهذا صرح جراء بضم مصر الى بريطانيا. وكان مما يبرر خطوة الضم وجود انجلترا في حالة حرب مع الدولة العثمانية مما يترتب عليه ان تصبح مصر جزءا من الامبراطورية البريطانية بحق الفتح.

كذلك اعتقدت انجلترا انه بعدم الضم ستنتصر الدعاية العثمانية في مصر وستنشأ عن ذلك القلاقل والاضطرابات واختلال الأمن وسينضم المصريون الى اعداء انجلترا عن طريق الجهاد ومن هنا سيقاوموا الحكم الاجنبي في بلادهم، لذا رأت ضرورة تحديد مركزها في مصر خصوصا وهي تعلم ان اكثر المصريين من اتباع الحزب الوطني، ذلك الحزب نصير الدولة صاحبة الخلافة والحق الشرعي في البلاد.

لكن جاءت الاخبار من مصر ترفض الضم وتفضل عليه اعلان الحماية بعد ان ايقنت ان الحالة العامة في مصر لا تسمح بتنفيذ فكرة الضم، بينما كانت ترى ان الحماية هي النتيجة الطبيعية والمنطقية الى حد لا يمكن مهاجمتها لسياسة كرومر التي كانت تهدف دائما الى ابقاء الحكم في ايدي المصريين ومن ورائهم الانجليز. وانها التطور الطبيعي الذي لا ينطوي على اي تغيير في السياسة الانجليزية والذي يفهمه المصريون بدون صعوبة. وفوق ذلك فان من مزاياها انها لا تجرح العزة الوطنية. فقد كانوا يزهون اشد الزهو بوجود حاكم مستقل.

والقانون الدولي يفسر الحماية بوجه عام بانها علاقة بين دولتين احداهما قوية والاخرى ضعيفة وتقوم الاولى بموجبها بحماية الثانية من اي غزو او اعتداء يقع عليها، فهي عقد بين اثنين تطلب احداهما ان تكون تحت رعاية الاخرى، وتقبل الاخرى تحمل اعباء هذه الحماية، اذن فمن الضروري ان تطلب الدولة الصغرى ان تكون تحت حماية الكبرى.

وبعبارة اوضح فان نظام الحماية يمتاز بتلك المرونة التي يحافظ فيها على الشكل الظاهري لنظام الحكم في مصر وان كان في حقيقته يجعل لانجلترا السيادة التامة عليها خاصة بعد ان انكرت جميع اسس الحماية واغفلت نصوصها القانونية حيث مضت تتصرف بمفردها دون اي اعتبار للطرف الآخر في ذلك العقد ذي الطرفين الموجب والسالب.

وفي 10 سبتمبر نصح شيتهام وزير الخارجية الانجليزية باعلان الحماية على مصر بان ان راى انه يجب ان تظهر انجلترا من لا يريد من وراء الحرب توسعا اقليميا. وبخاصة فان مركزها في مصر كان مركز المستعمر بالفعل ان لم يكن بالقانون. وقد بين احد المسئولين البريطانيين في مجلس العموم البريطاني سبب تفضيل الحماية بقوله: "لقد فضلت الحماية على الضم لان الضم يجعل الشعب المصري من رعايا التاج البريطاني، اما الحماية فهم رعايا لحاكمهم".

خافت انجلترا من ضم مصر ان يثور المسلمون، فكيف يمكن ان يرفرف علم الانجليز فوق ارض مصر، فان ذلك لن يرضي علماء الدين ولا الشعب المصري. هذا بالاضافة الى ان الضم يحتاج الى اعداد كبيرة من الانجليز تضاف للوظائف ، والى حامية اكبر تكون تحت الأمر لان مصر لن تكون هادئة ابدا لو اعلن ضمها واصبحت تابعة مباشرة للتاج البريطاني لا للخلافة الاسلامية.

من اجل ذلك فضل رجال الانجليز في مصر اعلان الحماية عليها بحيث تصبح مصر من اختصاص وزارة الخارجية، ورأوا ان الحماية تعد خطوة في سبيل الحكم الذاتي كتمهيد لتعاون المصريين مع انجلترا. واخيرا وفي 11 سبتمبر 1914 قبل جراي اعلان الحماية البريطانية على مصر. وعلى اثر قبوله جرت المراسلات بين شيتهام حول ايجاد صيغة ملائمة يصدر بها منشور الحماية. اذ كان رجال الوكالة البريطانية يخشون ظهور شعور ديني معادي لبريطانيا.

وتراجعت لندن عن رايها على اثر نشوب الحرب مع الدولة العثمانة اذ رات ضرورة ضم مصر نهائيا الى الامبراطورية البريطانية ورفض فكرة الحماية واعتبار مصر كنيوزلندا واستراليا يحكمها مباشرة حاكم عام بريطاني، وبلغت مرحلة الاقتناع بالفكرة انها اعدت للتنفيذ. وطلب من كتشنر لما له من خبرة سابقة في مصر، بان يتعاون في ترشيح الحاكم الجديد من كبار رجال الانجليز ليكون حاكما مباشرا لمصر.

وفي 13 نوفمبر 1914 صدر قرار بضم مصر الى ممتلكات التاج البريطاني والغاء جنسيتها، ومنح المصريين الرعوية البريطانية، وارجأت انجلترا بحث مسالة الامتيازات الاجنبية والمحاكم المختلطة للمستقبل لطمأنة الدول الاجنبية وعلى حد قولها "لمرعاة شعور الفرنسيين بصفة خاصة"، وبان يعلن الضم في 19 نوفمبر اليوم الذي تصل فيه القوات الهندية لمصر.

ومضى جراي في تنفيذ القرار فكانت اولى خطواته هي الموافقة الدولية حتى يصبح الوضع قانونيا، لذا ارسل الى حكومتي فرنسا وروسيا بمذكرة تفصيلية عن الاسباب التي دفعت حكومته لاتخاذ هذا القرار. واعرب لفرنسا عن استعداد انجلترا للتنازل عما لها في مراكش مقابل تنازل فرنسا عما لها في مصر. وعلى الفور جاء رد روسيا معلنا موافقتها على قرار الضم، وبينت انها تعتبر مصر من الممتلكات البريطانية حتى من قبل ان تصبح روسيا وبريطانيا حليفتين وعرضت على روسيا مقابل ذلك تسوية مسالة القسطنطينية والبواغير لصالحها.

وعلى اثر ذلك اعدت المسودات في الحال الامر الملكي الذي سيصدره الملك جورج الخامس يعلن فيه للجميع بان مصر اصبحت تحت التاج البريطاني. وبعد ان انتهت الاجراءات اللازمة لضم مصر فوجئت لندن برفض فرنسا الموافقة على الضم اذ وصلت برقية من السفير البريطاني في فرنسا تعني هذا ومتضمنة بان انجلترا قد ضمت قبرص اليها فاذا تكرر ذلك مع مصر، فان هذا سيسبب صدمة للراي العام وبين لجراي ان وزير الخارجية الفرنسي يكتفي بوضع بديل للخديوي عباس، وبانه يفضل اعلان الحماية على مصر بدلا من الضم حتى لا يقال ان انجلترا ستجني فوائد من وراء الحرب.

وحتى لا تظهر فرنسا امام شعبها بانها مخلب قط للنار التي تشعلها انجلترا. وان هذا – ضم مصر – سيتخذه الالمان ذريعة ضد انجلترا ويكفي جدا ما قامت به من ضرب منطقة الشيخ سعيد والاستيلاء عليها، وانه اذا كانت انجلترا ترى ان الضم ضرورة فانه يقترح وجوب اصدار اعلان او تبادل للمذكرات بين الحكومتين البريطانية والفرنسية حتى يدرك الشعب انه كان هناك اتفاق بين الحكومتين واعرب الوزير ايضا عن عدم رغبته في ضم مراكش وتاجيل هذه المسائل لما بعد الحرب. كذلك ابان السفير – سفير انجلترا في فرنسا – بان سفير روسيا في باريس يفرك يديه فرحا لان عملية ضم مصر للممتلكات بريطانيا سيتحي الفرصة لتسوية مسالة البحر الاسود.

وفي 19 نوفمبر ابلغت لندن سفيرا في فرنسا بان سلامة الموقف الداخلي في مصر هو اهم هدف لها في الوقت الحاضر، وابلغت ايضا بتروجراد بانها لا ترغب في احداث تغيير كبير في النظام القائم في مصر تفاديا لحدوث اضطرابات داخلية، وانه من الخير تاجيل البحث في جميع التعديلات الاقليمية حتى يتفق عليها بين الحلفاء بعد ان تضع الحرب اوزارها.

هذا في الوقت الذي جاءت فيها البرقيات من مصر ترفض فكرة الضم، ففي 14 نوفمبر كتب شيتهام للخارجية يرفض بشدة الفكرة، وذكر انه اخذ رأي المستشارين الانجليز في مصر، وبين ان ما يحدث قرار ضم مصر واحلال حاكم بريطاني مكان الحكومة المصرية "تغير اكبر بكثير مما قدرناه، ستتطلت الآثار التي ستترتب عليه ان تكون موضع اعتبار دقيق".

هذا وسبق ان اللورد كرومر اصر، وجورست اعلن، وكتشنر صرح بأن احتلال مصر اجراء مؤقت، فكيف يمكن التراجع، يقول ستورس في مذكراته "كيف تنتزع من دولة صغيرة آخر مظهر للكيان الفردي، وبدا لنا ان قرار ضم مصر سيكون نهاية لصدق كلمتنا فلن يعود احد يصدقنا.. ان الوزراء المصريين قبلوا المسئولية الخطيرة في مصر محمية ولو ان بريطانيا ضمت مصر اليها فسوف يستقيل جميع هؤلاء الرجال كرجل واحد وسيكون لهذا عواقب لا يمكن التنبؤ بها

وقد بعث شتيهام ببرقية احتجاج الى لندن وصاغ الاحتجاج كل من جراهام وبرونيات وشيتهام وأنا، وكانت البرقية التماسا بتخفيف حكم الاعدام بضم مصر الى الامبراطورية بوضع مصر تحت الحماية. وذلك بمجرد الغاء السيادة التركية عليها وتسجيل الاحتلال البريطاني لمصر. واكسابه مظهرا شرعيا باعتبار الاحتلال قانونا الى جانب كونه امرا واقعا، والمحافظة على عرش اسرة محمد علي سليما مع استمرار الوضع الذي كانت مصر تتمتع به قبل الاحتلال وبعده..

وقد كنت من اعداء الضم وانصار الحرية، فلقد فات الوقت ولم يعد ممكنا في القرن العشرين ان نقضي على قومية الاجناس او نحاول ابتلاعها وحتى ولو كان ذلك ممكنا عمليا في اي مكان اخر فانه ليس ممكنا في مصر، ان طمي النيل الذي امتصه العبريون والفرس واليونانيون والرومان والاتراك امتصاصا كاملا بحيث محا كل اثر لهم، هذا الطمي ليس بالبيئة المناسبة لاية تجربة جديدة.

هكذا كان الخلاف، أما الحكم على مصر بالاعدام بضمها الى الامبراطورية ام الحكم عليها بالاشغال الشاقة المؤبدة بوضعها تحت الحماية.. اما استقلال مصر او الحكم عليها بالبراءة فلم يكن موضع تفكير اطلاقا لا من الوكالة البريطانية في مصر ولا من رجال لندن، ولا ممن يهتم بالامر من الوزراء المصريين وعلى راسهم رشدي.

وللمرة الثانية وقف رجال الوكالة البريطانية ضد فكرة الضم بعد مشاورات عدة، وقدموا الحجج والبراهين على عدم صلاحيتها وبينوا انه من المستحسن ان تصدر وسائل الرقابة المختلفة التي تتطلبها الحرب من الحكومة المصرية عن ان تصدر باسم الحاكم الانجليزي للامبراطورية.

وكتب شيتهام لجراي في 18 نوفمبر 1914 يقول:

"وقد اضيف الى هذه الاعتبارات المباشرة ان النظام الراهن للحكم عن طريق اهل البلاد ليس اعظم اشكال الحكم كفاية غير انه يفهم هنا كما انه يعوض العيوب الادارية التي تنجم عن الضم، فالضم يجب ان ينطوي على ان تكون بريطانيا العظمى مسئولة مباشرة وبدرجة اكبر على وجود مستوى اعلى من الحكم والقيام بحماية ادق للمصالح الانجليزية وقد يتم هذا في النهاية الا انه لا يحدث ذلك الا اذا ابعد الموظفون المصريون على نطاق واسعة وعلى الرغم من من الكفايات ستزيد زيادة كبيرة يكون لها اعتبارها فانه سوف توجد طبقة لها اثرها من المتذمرين".

كذلك اوضح شيتهام ان وجود نظام الامتيازات الاجنبية في مصر يزيد مركز انجلترا في مصر صلابة وتعقيدا اذا انضمت الامبراطورية، هذا في الوقت الذي كان يخشى من اثر القرار في البلاد العربية التي بدأت فيها حركات التحرر والوقوف أمام دولة الخلافة. وعملاء الانجليز فيها يثيرون شعور الكراهية ضد الاتراك، فاذا جاءت بريطانيا وضمت مصر فسيتحول الشعور ضدها.

ونتيجة لذلك دعا جراء مجلس الوزراء وعرض عليه الموقف فقرر ان يلغي القرار الاول الصادر في 13 نوفمبر والقاضي بضم مصر وان تعلن الحماية البريطانية عليها، وكان ذلك في 19 نوفمبر 1914 غير انها لم تعلن الا في 18 ديسمبر والسبب ان المفاوضات طالت بين حسين كامل المرشح لعرش مصر وبين السلطات البريطانية في مصر حول قبوله العرش.

وكان بلندن حزب يؤيد الحماية ويفضلها على الضم يتزعمه لورد كرومر اذ يقول:

" لا نستيطع ان ننكر ان هناك بعض الخلل في التوازن والافضلية لو قورنت الحماية بالضم البسيط العادي .. ولا شك عندي مطلقا في ان الحكومة البريطانية قد سلكت سبيل الحكمة والصواب في مجاراتها للرأي العام وتفضيلها الحماية على بسط السيادة التامة".

واخيرا فضلت انجلترا نظام الحماية على الضم، وابلغ الى الممثلين في مصر، ذلك لانه كان نظام يتفق مع سير الاحتلال لمرونته وتفاوت معناه، فهو اذن يحمل معنى السيطرة . . لا يختلف كثيرا عن منطقة النفوذ السياسي وينتهي في حالة الوسط دفاعا عن البلاد المحمية، كما ان تعرضه لشئون البلاد المحمية امر قابل للشد والجذب.

فالدول الحليفة لانجلترا مثلا والمشتركة معها في الحرب تستطيع بذلك النظام ان تقبله لانه يمكنها من القيام بكل شئون الحرب في مصر بدون تقييد بالمستقبل وتستطيع مصر الرضوخ له كحم القوة مع امل في المستقبل، وبقبول شركاء انجلترا للحماية ورضوخ مصر لهم تستطيع انجلترا من هذا وذاك ان تقضي اغراضها في مصر.

وراحت انجلترا تدعي وتؤيدها في ذلك صحافتها بانها اعلنت الحماية على مصر نتيجة لدخول الدولة العثمانية الحرب، وانفصاهم العلاقة بينها وبين مصر، وبانها بذلك اعطتها الاستقلال تحت ظل الحماية، وهكذا تحولت الحماية المقنعة التي مارستها انجلترا على مصر طوال فترة احتلالها لها الى حماية سافرة.

عزل الخديوي عباس حلمي الثاني

في صيف 1914 سافر كتشنر عاقدا العزم على السعي لدى حكومته لاقناعها بخلع الخديوي عباس الثاني عدوه اللدود، وعلة هذا النقمة هي بقايا تلك الحفظية القديمة التي تركت الرجلين عدوين لا يتصافيان بعد ازمة الحدود. وشعر الخديوي بما اعتزمه كتشنر في سفرته تلك السنة، فاستحسن ان يجعل رحلته الصيفية الا الاستانة الا الى اوروبا حتى اذا سعت الحكومة البريطانية عند الباب العالي في مسالة خلعه اذا اقتنعت برأي مندوبها فيكون على مقربة ليستطلع الخبر، وليحسن العلاقاة بينه وبين رجال الحكومة التركية، وليبذل ما في وسع لاحباط سعي الانجليز وهو لا يجهل انهم لاقون من الصدر الاعظم سعيد حليم اذنا صاغية في تلك الاونة لانه كان يطمع في خديوية مصر.

وفي 23 يوليو 1914 سافر عباس الى الاستانة بعد ان امضى بعض الوقت في باريس، وعند نشوب الحرب قرر العودة الى مصر غير ان الحكومة الانجليزية رفضت عودته وابلغت شيتهام قرارها. ومع ذلك فان حسين رشدي لم يكف عن مطالبة الخديوي بالعودة الى مصر، حتى انه ارسل اليه في 30 أغسطس يبلغه بأنه "متى وصلت الجنود الهندية الى مصر فاني ساطلب من الوكالة البريطانية عودة سمو الخديوي في الحال واهدد بالاستقالة في حالة معارضتها". وفي حقيقة الامر لم يحدث هذا وكان ذلك في حد ذاته تخديرا لاعصاب الخديوي وهو بعيد عن عرشه.

وفي 3 سبتمبر 1914 زار سفير انجلترا ماليت عباس وطلب منه السفر لايطاليا وترك الاستانة، ولكن الخديوي رفض لانه اعتقد انه سيرسل منفيا الى مالطة، ثم تقابل ترجمان انجلترا مع عباس واخبره بان وجوده في الاستانة يشجع التراك على تاليف مائة الف عسكري لاخراج الانجليز من مصر، وقد اخبره بان دورية خيالة عددها عشرون شخصا من العرب وصلت رفح فحيتها النقطة المصرية على الحدود ، وبعد ان مكثت الدورية يومين في الاراضي المصري رجعت وقد ارسلت انجلترا مذكرة للصدر الاعظم في 23 سبتمبر للفت نظره لهذه الحادثة.

وافهمه بانه البرقيام التي ارسلها الى مصر كانت ذات معنى سياسي فالبرقية التي ارسلها في العيد الصغير لرشدي يخبره فيها بانه يود بان يكون بين المصريين، والثانية الى سعد زغلول بعزيه فيها في وفاة مصطفى فهمي ويرجو له طول البقاء ليخدم اميره وبلاده زمنا طويلا، ثم الثالثة التي تبشر بشفائه.

وفي 27 سبتمبر افهمه بان عليه الذهاب الى نابولي في الحال، فلما ذكر له انه ليست لديه اية نية في الاقامة بها رد عليه السفير بلهجة التاكيد " انك لن تعود الى مصر مرة اخرى" وقد ابان محمد فريد في مذكراته هذه الحادثة اذ قال : "ان سفير انجلترا قصد الخديوي في قصره وطلب منه ان يغادر الاستانة الى غير مصر .. إلى ايطاليا مثلا او سويسرا لانه يشاع بانه يتفق مع الاتراك على ارسال جيش يطردهم من مصر فاجابه الخديوي عباس بالرفض رغما عن تهديد السفير له بان هذا المنع يؤثر على مصالحه المادية والادبية ايضا".

ورفض الخديوي لاعتقاده بانهم يودون القبض عليه بنفيه الى مالطة او غيرها حتى لقد اظهر خوفه في حالة ما اذا طلبوا منه العودة لمصر نفسها، وطلب من محمد فريد مقابلة انور باشا وطلعت بك ليتفق معهما على الجواب الذي يعرض على السفير الانجليزي اذا طلب منه ذلك، فكان الجواب ان يدعي المرض. ووضع الخط التلغرافي المباشر بين رشدي والخديوي تحت رقابة رسل بك الحكمدار الانجليزي للجيش المصري.

وازدادت رغبة الخديوي في استمرار حكمه لمصر في الوقت الذي تاكد فيه من ان الانجليز لا يريدوه انه يعود الى مصر، فحاولوا ان يهددوه بنسف المحروسة ثم راحوا يحدثونه عن حرارة الجو في مصر، وانتهى الامر باقناعه باستحالة تحقيق رغبته بالعودة الى عرشه، فبدأ نشاطه في الاستانة وكان اول عمل يقوم به حتى يضمن ولاء المصريين له هو تقربه من محمد فريد.

ففي ذلك الوقت كان بسويسرا وعندما عرف كل ما حدث هذا ترك سويسرا الى الاستانة بعد ان تاكد هو الاخر ان الفرصة قد حانت لتحسين علاقتها بالخديوي حتى يستطيع ان يكون له سند للوقوف امام الانجليز، ولعله كان يطمع في دخول مصر مع الخديوي لانه كان على ثقة كبيرة من انتصار المانيا. وعلى علم بتغلغل النفوذ الالماني في تركيا وانه بانتصار كل من تركيا والمانيا ستتخلص مصر من انجلترا.. لذلك انتقل للاستانة ليكون اولا على مقربة من الخديوي الذي منع من العودة الى مصر، وثانيا ليكون على يقين من تصرفات الدولة العثمانية حيال مصر.

ويحدد محمد فريد موقف الخديوي بعد ان رفضت انجلترا عودته الى مصر فيقول:

"تقابلت مع يوسف باشا فشرح لي الحالة وقال ان الخديوي ممنوع من السفر الى مصر. وان الانجليز يخشون من ان يقم بحركة ضدهم هناك، وان هناك رايين متنازعان: الاول الاتفاق مع الانجليز على منح مصر الدستور، وانفصالها عن الدولة العلية، وقبول الاحتلال بشروط معينة والثاني الاتفاق مع الترك على استرداد استقلال مصر بالقوة بمساعدتهم وعودة الحالة الى ما كانت عليه قبل الاحتلال، وان الخديوي يميل الى الشق الثاني، واتفق فعلا مع انور باشا على تنفيذ هذا الراي" لقد فكر عباس في القيام بثورة يكون هو محركها ورئيسها وان يكون القائد ويفتح مصر بمساعدة الاتراك.
بهذا ترى ان عباس فضل الاتجاه الى المناوئين لانجلترا حتى يستطيع تنفيذ اغراضه. لقد غير سياسته واخذ يدلي بتصريحات، ففي حديث له مع مستر كارل فون يصرح "بانه من الطبيعي ان اتمسك بتركيا في هذه الحرب فمصر جزء من الامبراطورية العثمانية".

وفي الحال طلب الخديوي من فريد ان يتوسط له لدى رجال الحكومة التركية وبان يقنعهم باخلاصه في العمل لان العلاقة بينهما كانت قد ساءت بسبب موقفه من الحرب الطرابلسية حيث اطلع الانجليز على خطط تهريب الاسلحة والضباط، وقد تم فعلا اللقاء بين فريد وطلعت وعرف منه : "انهم مفتكرون فيها – مصر – ومتفقون على تخليصها، وانهم يستعدون لذلك انتظارا للفرصة، وان الخديوي غير مخلص، ولكن ممكن استعماله كالة لما له من النفوذ عند العمد والاعيان على شرط عدم اطلاعه على تفاصيل الخطط".

ووضعت الخطة على اساس اثارة حماس المصريين الى جانب الدولة صاحبة الخلافة الاسلامية، واعد عباس منشورا لارساله الى مصر يتضمن الهجوم على السياسة الانجليزية في مصر، وما اعدته الدولة من عتاد وعدد لاسترجاع مصر واعادة العرش الخديوي الشرعي، وتلك السياسة الجديدة التي تمنح الدستور الكامل وتطلق الحرية والاستقلال والتقدم.

وكان على عباس ان يرضي المانيا حيث ان انتصارها يثبت دعائم حكمه في مصر، فارسل في اوائل سبتمبر الى امبراطورها برقية تهنئة يهنئه فيها على سلامة ابنه ونجاته فرد عليها الامبراطور باخرى يتمنى فيها سعادة مصر، واعقب ذلك ان ذهب عباس الى السفارة الالمانية بالاستانة واظهر استعداده لتقديم المساعدة وفعلا تم الاتفاق على ان تقوم تركيا بارسال حملة الى مصر يكون الخديوي على راسها مع القائد الالماني بشرط الا يترتب على هذه الحملة جعل مصر ايالة عثمانية، بل لها ان تحتفظ بامتيازاتها بمقتضى الفرمانات. وان تبقى مصر للمصريين، وان يعود الخديوي للعرش، وقد ايد امبراطور المانيا خطة الخديوي هذه لدى الحكومة العثمانية عن طريق سفيره بالاستانة.

غير ان هذه الخطط ما لبثت ان احبطت اذ اعد الاتراك حملتهم بقيادة جمال باشا وبدون علم عباس ورفضوا حتى ان يصاحبها اذ كان انور باشا يخشى تدخله في القيادة لعدم استعداده العسكري وكان يرى انه لا يسافر من الاستانة الى بعد ان يتم النصر للجيش التركي على قناة السويس".

وهذا هو تفسير الحيرة التي اعترت بعض الكتاب الانجليز المعاصرين لتلك الفترة امثال Elgood بصدد سلوك الخديوي في خلال الحرب حيث يقول:

"انه مما يثير الدهشة فعلا انه اي الخديوي لم يزر سوريا وفلسطين ليشجع جنود الحملة التي الفت لغزو مصر، وقد يبدو بوصفه خديويا شرعيا ان يكون مشتركا مع الجيش، والا فانه من المحتمل جدا ان القسطنطينة كانت تتوجس خيفة من صدق النية".

ولما راى الخديوي ان الامر تعقد بالنسبة لقيادة الحملة له رغب في تعيين عمه البرنس ابراهيم حلمي قائمقاما له يرافق جمال باشا قائد الحملة ويدخل معه مصر نائبا عنه حتى يعود هو، وتكلم في ذلك مع الصدر وكان سفير المانيا قد وافق عندما عرض الخديوي عليه ذلك ولكن الصدر لم يعطه ردا صريحا بحجة اخذ راي انور باشا ثم وصلته برقية من قومندان الحملة بمنعه من السفر الا بعد ان يجتاز الجيش العثماني قناة السويس

وارجع جمال باشا رجال الخديوي الى الاستانة. وهذا دليل على ان جمال باشا لا يريد الخديوي ولا رجاله عند دخول مصر لانه سيغيرون ادارة الحكم في مصر فقد ادلى طلعت بحديث لالماني يدعى بودل، بان مجلس النظار سيجتمع قبيل دخول الجيش العثماني مصر ليقرر ما يتبع في ادارتها وانه سيدعو الخديوي للمجلس ليبدي ملاحظاته.

ولما تعقد الموقف الى هذا الحد ادرك عباس ان وجوده في الاستانة سيكون خطرا على حياته فغادرها الى فيينا في 15 ديسمبر 1914، ولم تمض سوى ايام قليلة حتى عزلته انجلترا من حكم مصر.

الامير حسين كامل سلطانا لمصر تحت الحماية

منذ ان اعلنت الحرب وانجلترا تفرض سلطتها الفعلية على مصر حيث اصبحت الحاكمة الحقيقية للبلاد، وجاءت هذه الحرب فرصة لعزل من يناوئها في سياستها، فقررت عزل عباس ووضع مصر تحت الحماية البريطانية وانهاء السيادة العثمانية، وكانت على يقين من تحالف تركيا مع المانيا ومجهوداتها تجاه مصر. لذا رات تغيير الاوضاع كلية في مصر.

وقع اختيار لندن على الامير حسين كامل لتعيينه على عرش مصر بعد عزل الخديوي. ففي 27 سبتمبر 1914 ارسل جراي الى شيتهام يبلغه بانه في حالة حدوث اي هجوم تركي على مصر تعلن الحماية البريطانية ويتولى خديوي مصر الامير حسين كامل. اختارت حسين كامل ليمثل الصورة المزيفة لحاكم مصر، فلم يبد فيه الشعب او الوزراء رايا، ككل اجراء اتخذته انجلترا منذ نشوب الحرب بحكم سيطرتها على شئون البلاد كلية.

ويبين ستورس سبب اختيار حسين فيقول:

"انه لم يكن هناك شك فيما يتعلق باختيار الحاكم الجديد، لقد كان حسين معروفا ومحترما لدى المصريين باعتباره مزارعها عمليا، ومحترما ايضا لدى الاجانب والسلك الدبلوماسي باعتباره سيدا تربى في بلاط التوليري العظيم، وباعتباره ايضا شقيق توفيق وابن اسماعيل"..

وبدأت الاتصالات بين شيتهام والامير حسين، ففي بادئ الامر ذهب شيتهام سرا لمقابلة حسين ليفاتحه في قبول منصب الخديوية وطالبت المقابلة الاولى بينهما نظرا لخطورة وسرية الموضوع فتواعدا على لقاء ثاني، فكان ايضا طويلا وسريا وعقب انتهائه ارسل شيتهام للخارجية يبلغه بان حسين لا يستطيع ان يقبل الخديوية في الوقت الذي ستثور فيه مشاعر المصريين بدخول الحرب ضد الخليفة بدون منح مصر اي وعد بمنحها الاستقلال الذاتي تحت السيادة البريطانية.

اذن فالامير لم يرفض العرش من حيث المبدا ولكنه كان يخاف من النتيجة اذا لم تنتصر انجلترا في الحرب، ومن صدى هذا التعيين في العالم الاسلامي، ماذذا سيقولون عندما تعين دولة مسيحية حاكما لمصر خلفا للخديوي الذي خلعته لانضمامه لخليفة المسلمين.

واعيد جس نبض الامير، ولكن حسين رفض ايضا، ويقول ستورس:

"وكانت الحوادث تلح علينا، وسئمت الحكومة البريطانية التاخير، فقررت ان تحل هذه العقدة بضم مصر الى الامبراطورية البريطانية. ولكن بعد ان رفضت فكرة الضم عادة شيتهام مرة اخرى يبحث عن حسين الامر ليقنعه بتولي عرش مصر. فوجوده خائفا من قبول ذلك المنصب فقد كان امراء البيت المالك يقولون ان تركيا هي التي ستكسب الحرب، وانها ستقبض عليه، وتقضي على حياته.
وكانت زوجته الاميرة ملك هانم احدى جاريات والدة عباس، وهي تشعر بولاء نحو ام الخديوي وترى في تولي زوجها العرش خيانة له، وكان حسين ضعيفا امامها، هذا بالاضافة الى ان الامير كمال الدين الابن الوحيد له متزوج من ابنة الخديوي، وكانت زوجته تهدده بالطلاق اذا قبل ابوه الجلولس على العرش مكان ابيها..
لكن رغم ذلك فقد كانت داخلية حسين تدفعه الى ان يكون حاكما لمصر مكان عباس الذي يجرره ويسميه الشاب المعتوه ويعتبر نفسه احق بالعرش منه. ولكنه ظل يماطل على امل الحصول على شروط افضل في الوقت الذي كانت هناك ضغط تركي يمارس سرا عن طريق مبعوثين من الاستانة لاطالة المباحثات حتى منتصف يناير وهو الوعد الذي سيكون فيه الاتراك على استعداد للهجوم على مصر.
ولا اعتقد ان الامير تاثر تاثرا كبيرا بهذا الضغط على الرغم من ان الحريم في تلك الايام كانت مقصورة على الاتراك. وكان الضغط العائلي كالطواحين التي تطحن ببطء، ولكنها تطحن اجزاء متناهية الصغر. وكان الامير حسين يعتقد انه يقدم لبريطانيا معروفا بقبول العرش ولهذا فهو يطالب بتحقيق رغباته، ويطلب بتحويل مصر الى مملكة يحكمها ملك مصري، ولكن كان من المستحيل ان يحمل امير تابع – لملك بريطانيا – نفس اللقب الذي يحمله هؤلاء..
لهذا جرؤت ان اقترح ابدال لقب ملك بلقب سلطان وهو لقب عربي معناه (حامل سلطة الحكم) وقد قبل الطرفان (الامير والحكومة الانجليزية) اقتراحي، ولما كان لقب (صاحب الجلالة) مستحيلا ايضا لان ملك انجلترا يحمل لقب صاحب الجلالة، فلقد اقترحت ان نسميه صاحب العظمة، وهي مرادفة لصاحب السمو القديمة المبجلة. وكان اي تقهقر في الحرب للحلفاء في اي جبهة قد يلقى بنا في ازمة شنيعة تجعلنا تدلل لبيع تاج تقل الرغبة فيه ونضطر الى ان نعرض مزيدا من المغريات المقبولة".

واخيرا عرضت الحكومة البريطانية على حسين كامل عرش مصر مع لقب سلطان ولا شيء غير ذلك، ولكن حسين اعترض، واشار الى ان الوثيقة لا تحوي ذكرا للوراثة في اسرته او من بين سلالة محمد علي. وانه لم يسمح له باختيار علم مصر، وما اذا كان المصريون سيكونون رعايا بريطانيين ام يحتفظون بكيانهم وجنسيتهم في ظل حماية بريطانية؟

ويمضي ستورس:

"وكنت ارى ان الامير حسين علي حق تماما في هذه النقط الثلاث. ولكن لدينا تعليمات من لندن، وبدا انه من المستحيل اقناعه بالقبول. وكان الحل البديل لذلك هو اعلان الحماية على مصر دون اي سلطان، وكنت اعلم ان فرض العلم البريطاني على مصر وهو يحوي الصليب على ثلاثة اشكال سيكون له اثر سيء فيها، بل سيكون له اثر اسوء في جميع انحاء بلاد العرب.
وسوف يؤدي هذا الى تقوية الحزب الخديوي التركي عندما يعرف الناس أن الامير حسين رفض ان يتولى العرش لان كرامته لا تقبله .. وجهزنا برقية الى لندن تحوي رفض الامير العرش .. ولجأت الى محاولة اخرى فاوفدت علي شعراوي باشا وهو من اصحاب الاراضي الاثرياء – وكان على علاقة وثيقة بالامير طوال حياته – لمقابلته واقناعه بقبول العرش. واوفدت ايضا "امبراوز سينادينو" وهو يوناني على صلة بالوكالة طوال الخمس والثلاثين سنة الماضية لمقابلة حسين كامل واقناعه بقبول العرش، واتفقت معهما على ان يذهب كل واحد منهما على حدة للامير".

وبدا كلاهما يبذل المحاولات لاقناع حسين كامل،وكانت محاولة سينادينو اقوى من علي شعراوي. لذا طلب ستورس من شيتهام تاجيل البرقية – التي تحوي الرفض للعرش – المرسلة الى لندن

وقابل ستورس حسين بناء على ميعاد استطاع سينادينو ان يحدده معه

"استقبلني بقصره بهليوبوليس وجلست معه من العاشرة مساء حتى منتصف الليل. فبدا يذكر لي الامثلة على اخلاصه لانجلترا، وتحدث دون تحفظ على الاطلاق فقال انه يقبل العرش ولكنه لا يستطيع ان يقبله بالصورة التي تعرضها عليه الحكومة البريطانية وتوسلت اليه من اجل مصلحته ومصلحة البلاد ان يثق بالحكومة البريطانية التي استدعته من المنفى والتي لم تخدعه حتى الان، ومع ذلك فقد ظل الامير رافضا.
وفي الساعة الحادية عشرة والنصف مساء قلت للامير انني اخشى ان اكون متطفلا على وقت فراغه، فسالني عما اذا كانت سانصرف متاثرا بصورته كرجل عنيد؟ قلت كلا: ولكني متاثر بصورة بامير لائقة له في لورد كتشنر او في الحكومة البريطانية. وعندئذ بدا على الامير بعض التردد وقال لا يمكن ان اتركك ترحل ولديك مثل هذا الانطباع عني، فماذا تعتقد انه من الافضل ان افعله؟
قلت له: اسمح لنا ان نضع نصا قويا للوراثة وان نترك مسالة العلم والجنسية لحكم المندوب السامي البريطاني الذي سياتي، واشرت الى ان سلطانا على العرش يكون في موقف افضل كثيرا للمساومة من مطالب بالعرش مهما كان جليل الشان، وقلت لاه ايضا انه بعد ما تواجه وزارة الخارجية البريطانية هذا البرهان الواضح على حسن نيته فليس من المستحيل ان تمنحه قدرا اكبر من الثقة، وفكر الامير برهة
وقال: اذا ضمنت لي ان المندوب السامي البريطاني سوف يبت في المسالتين الاخيرتين لمصلحتي، وتحقق لي الوراثة في العرش فاني اقبل. قلت ان هذا ليس قبولا على الاطلاق بل مجرد تاجيل لموعد المطالب وانني اسف لان مثل هذا الشيء الصغير يحول بينك وبين عمل كل الخير الذي اعرف انك تكون قادرا على عمله، انه لم يعد امامنا الان الا ارسال البرقية التي تتضمن رفضك".

وبعد انصراف ستورس دخل سينادينو للامير وساله عما حدث فابلغه، فساله سينادينو لماذا لم تجب اجابة صريحة بانك قبلت العرش، فقال حسين: "لقد تركته يفهم على طريقة الخواجات، فرد عليه قائلا بان هذه المسالة تقتضي اجابة صريحة واضحة وراح سينادينو يؤكد للامير حسين ان لديه معلومات مؤكدة بان الانجليز سيكسبون الحرب، فرد عليه حسين بانه قرر قبول العرش بدون شروط.

وفي اليوم التالي استدعى حسين رئيس الوزراء وابلغه ما حدث وبانه قرر قبول العرش ثم امسك بالهاتف وطلب ستورس وابلغه انه على اتم الاستعداد لقبول اقتراحه الذي قدمه في الليلة السابقة، فرد عليه ستورس بان هذه المسالة اخطر من ان يتلقى فيها ردا بالهاتف وانه من واجب الامير ان يحضر بنفسه الى قصر الدوبارة ليبلغ شيتهام انه قرر قبول العرش بدون قيد او شرط.

قبل حسين هذا الازدراء، وذهب الى قصر الدوبارة وابلغ شيتهام بانه سحب رفضه السابق للعرش، وقبل شيتهام اوراق الموظف الجديد الذي حضر اليه خاضعا، وعلى الفور ارسل شيتهام برقية للندن بذلك الخبر، وصيغت المعلومات واصدرت الاوامر الى السلطان الجديد بالا يبت في امر كبير او صغير بغير موافقة دار الحماية، ورفع مرتبه من مائة الف جنيه مرتب الخديوية الى مائة وخمسين الف جنيه في السنة.

من هنا نرى ان حسين لم يفكر الا في نفسه، في لقبه، في وراثة ابنائه، اشياء كلها عديمة القيمة، لكنه كان كاسماعيل وتوفيق مهتما بمصالحه الشخصية حتى تمسكه في بادئ الامر بتعويض مصر باعطائها الاستقلال الذاتي ما لبث ان تنازل عنه. وعقب قبول السلطان الجديد العرش سمحت السلطة العسكرية للصحافة المصرية بنشر ما يهيئ الاذهان للتغير السياسي الذي كانت انجلترا تنوي اجراءه.

وجاء يوم 19 ديسمبر 1914 فخرج الامير من قصره متجها الى عابدين وفي فناء القصر اكتظ المدعوون بالسرادق المقام فيه، ويذكر الهلباوي – الذي كان من بين المدعوين – تاثير الحفلة على الحاضرين

اذ يقول:

"... جاءنا الامير عند دخوله فحييناه بدموع لم نستطع اخفاءها، لانه خيل الينا في ذلك الوقت اننا نشيع جنازة البقية الباقية من استقلال مصر، وان انجلترا قد استبدلت هذه الجنازة بمهزلة من المهازل استخفافا بعقولنا واحتقارا لكرامتنا. وما انسكب من دمع صديقي لطفي بك بات من العبرات في ذلك الموقف افقدنا شطرا عظيما من صداقة السلطان لانه عدها منا سوء معاملة او قلة وفاء".

وقد اشاع حسين كامل انه قبل العرش لخوفه من ان تجي انجلترا بحاكم اجنبي الى مصر، فمن اقواله "انما قبلت العرش لاحتفظ به لابن اخي، ولو لم اقبله لجاء الانجليز باجنبي يحكم البلاد"، وقد صرح حسين رشدي ايضا بان انجلترا قد احضرت اغاخان زعيم الطائفة الاسماعيلية من الهند لكي يتولى حكم مصر، وكثير من المراجع والكتب التي تناولت هذا الموضع تزعم هذا الزعم.

ولكن بالرجوع الى مذكرات اغاخان نجد ان انجلترا قد احضرته مصر ولكن ليس لحكمها انما ليهدئ من روح المصريين المتذمرة، يقول في مذكراته:

"كان كتشنر متيقظا لكل طارئ في الشرق – وبالذات في مصر – فقد ارسل الى مهمة دبلوماسية او شبه دبلوماسية كانت الوزارة تؤيدها، وكان الملك جورج الخامس موافقا عليها ومهتما بها. كانت تلك المهمة تتعلق بمصر حيث كان الوضع السياسي مضطربا ودقيقا، كان عباس بالاستانة ومصر بدون حاكم وكانت النتيجة في مصر شيئا يقارب الفوضى. وكان الشك اعمق ما يكون في الراي العام الاسلامي.
لهذه الاسباب كان من الضروري المحافظة على الامن الداخلي في مصر. اذن فقد كانت مهمتي ان اوضح هذا الراي واعمل على استقراره، لقد طلب مني ان اصحطب معي زميلا لي. ولذا لجات الى صديق قديم وعزيز لي هو سير عباس علي بك الذي كان عندئذ العضو الهندي في المجلس الدائم. وهكذا سافرنا الى القاهرة باسرع ما استطعت، وهناك استقبلنا استقبالا لا يكاد يكون ملوكيا. كنا هناك ضيفين رسميين على القائد العام البريطاني.
وانصرفنا فورا الى اداء مهتمنا الدقيقة الشاقة المتشعبة الى طبقات كثيرة من المجتمع المصري، فكان علينا اولا ان نكسب القصر او بالاحرى الشخصيات الرئيسية في العائلة المصرية الحاكمة. كان هناك حسين كامل واخوه احمد فؤاد، وكمال الدين حسين المتزوج من ابنة الخديوي عباس، والعلماء رؤساء جامعة الأزهر.
كما كان هناك عامة الشعب المصري منهم المتعلمون الذين يجلسون في مقاهيهم يطالعون ويناقشون الى ما لا نهاية وشوق كل عدد من كل صحيفة يتتبعون اخبار الحرب. والفلاحون الذين كانوا وما يزالون المصدر الحقيقي لقوة مصر. وكان علينا ان نقنع هؤلاء ان يؤيدو او يؤازروا قضية الحلفاء".

وجعل الانجليز وظيفة اغا خان في مصر سرية للغاية حتى يمكن لهم ان يهددوا المصريين باحضاره كاحتمال تنصيبه حاكما عليهم، ويذكر المنار:

" زار مصر محمد سلطان اغاخان زعيم طائفة الاسماعيلية اقدم الطوائف الباطنية جاءها عائدا من لندره.. وقد نزل ضيفا على مكسويل بمصر فلقى من الحفاوة والتكريم من الحكومة المصرية وكبراء الانجليز، وقد تم حديث بين محرر المنار واغاخان بشان تقدم المسلمين.. اما حديثنا عن حالة مصر ومسالة الحماية الانجليزية عليها فلا يجوز نشره".

وكما هيات انجلترا اذهان المصريين الى عزل عباس وتنصيب حسين كامل على العرش عملت على الاعداد لقبول نظام الحماية. والقى هذا على الصحافة اولا ثم على تصريحات المسئولين ثانيا. ففتحت الابواب للترحيب بالحماية بل والمطالبة بسرعة تنفيذها. ولعب رشدي دورا ايجابيا في ذلك، وانتهى الامر باعلان الحماية البريطانية على مصر في 18 ديسمبر 1914 واعقبه عزل عباس حلمي وتعيين حسين كامل حاكما لمصر.

وانكرت انجلترا جميع اسس الحماية واغفلت نصوصها القانونية وخالفت تصريحاتها بشان عدم تغيير الوضع الراهن حتى الوريث الشرعي لعباس حلمي لم تعينه مكان ابيه. وجدير بالذكر انه عندما الغت انجلترا الحماية قالت عنها: "كانت عملا غير مرض".

وجاء بلاغ انجلترا للسلطان الجديد ليسجل صفحة من الهون في تاريخ مصر الذي عاشته طيلة سنوات الحماية. ففيه اعلم الحاكم الجديد بان الحقوق التي كانت لسلطان تركيا وللخديوي السابق على مصر قد سقطت عنهما والت الى جلالة ملك بريطانيا العظنى، وان افضل وسيلة للقيام بالمسئولية الخاصة بالدفاع عن مصر هي اعلان الحماية البريطانية اعلانا صريحا، وان تكون الاتصالات بين حكومة مصر والدول الاجنبية بواسطة وكيل جلالته في مصر.

هذا هو دستور الحماية الذي وصفته "المانشيستر جارديان" بانه بمثابة ضم مصر الى انجلترا، اما التيمز فقد علقت عليه في الافتتاحية تحت عنوان "مصر تحت العلم البريطاني".

كان ذلك كافية لترجمة الوضع الذي غدت فيه مصر، والذي اصبح فيه المستر هنري مكماهون يتصرف في كل شيء حتى اصبحت مصر اشبه بمستعمرة انجليزية بعد ان قضى على الاستقلال الداخل والحقوق التي كانت لمصر ولخديويها بمقتضى الفرمانات. هكذا ارادت انجلترا، ونجحت في ان يكون لها ما ارادت، وقد صرح لويد جورج بان ما تم كانت نية مبيتة. ففي 18 نوفمبر كتب شيتهام الى جراي يقول: "ان الفكرة التي تطوي عليها الحماية هي الاندماج في الامبراطورية البريطانية دون ان تفقد مصر شخصيتها". وكتب كرومر: " لقد ادمجت البلاد في الامبراطورية البريطانية، ولم يكن هناك اي حل آخر ممكن".

كلف السلطان حسين عقب جلوسه على عرش مصر بتكليف اول وزارة في ظل الحماية تلك التي كان راضيا عنها والتي بفضلها وصل الى ذلك العرش واعتبرها مزيلة للخلافات الداخلية وموحدة للعناصر بما ينطوي عليها من مزايا كان يتوهمها متجاهلا ما تنطوي عليه من سلطة وسيادة استعمارية. ويعلق "الجود" على ذلك بقوله: "وتلك نبوءة كانت تنطوي على تفاؤل اكثر من ان تكون صداقة".

وشكلت الوزارة وعلى راسها حسين رشدي وامسك بزمام الداهلية، واسماعيل سري تولى الاشغال العمومية والحربية والبحرية واحمد حلمي الزراعة ويوسف وهبة المالية وعدلي يكن المعارف بعد ان الغيت الخارجية وعبد الخالق ثروت الحقانية واسماعيل صدقي الاوقاف. وجرت تغييرات كبيرة داخل الديوان الخديوي فاصبح ديوانا سلطانيا بعد ان ابعد كل من كانت له علاقة شخصية بعباس حلمي فعزل انصاره ورجال حاشيته بعد ان الصقت بهم التهم.

ورحب المسئولون بالمناصب الجديدة في ظل الحماية واعتبروها نظاما دائما لمصر الى الحد الذي اقر فيه ثروت اعجابه بها وتبعه باقي اعضاء الوزار. وبذلك لم يقدر الموقف تقديرا صحيحا، فقد كانت انجلترا في حاجة ملحة لمساعدة مصر، وكان يمكن لهم لا اقول املاء الشروط ولكن على الاقل نيل عهد مكتوب بان الحماية اجراء وقتي تقضيه الحرب تحصل مصر بعده على استقلال سياسي.

لكن مضت تصريحاتهم على صفحات الصحف وترديدهم لافضال النظام الجديد الذي خضعت له مصر بل والتغني بضعف مص روانها ان لم تكن انجلترا اعلنت الحماية عليها فستفتش لها عن دولة قوية تحميها. وحتى اثناء الحرب لم تستغل الصعوبات التي كانت تخطوها انجلترا بطلب شيء لصالح مصر وقت ان كانت الجيوش التركية تهدد قناة السويس. وهكذا وضع دستور الحماية وايده اصحاب المصالح الحقيقية ، وانتقلت البلاد الى دور تاريخي جديد ومرحلة قاسية من مراحل النضال الوطني.

وفي 21 ديسمبر 1914 اجتمع مجلس الوزراء اول اجتماع له في عهد الحماية تحت رئاسة الحاكم الدستوري الجديد، وفيه تقرر:

أولا: الغاء وظيفة قاضي مصر، الذي كان يعين من قبل تركيا دليل على العلاقة الدينية بين مصر ودولة الخلافة، وبذلك انقطع اخر رباط كان يربط مصر بتركيا. وقد اعترض هذا القاضي عند اعلان الحماية لمخالفة ذلك للفرمانات العثمانية. وفي 30 ديسمبر 1914 سافر محمد فوزي افندي اخر قضاة مصر متجها الى الاستانة.
ثانيا: اصدار مرسوم بتعيين رئيس ونائب مصريين للمحكمة الشرعية العليا وكانا قبل ذلك تركيين، ورئيس ونائب مصريين ايضا لمحكمة مصر الشرعية الابتدائية.
ثالثا: اصدار قانون معدل لبعض مواد لاحئة ترتيب المحاكم الشرعية وتقرر ان يكون تعيين رؤساء المحاكم الشرعية ونابها وقضاتها بامر من السلطان بناء على طلب وزير الحقانية ومسئولية مجلس الوزراء.

وتبعا للتغيير الجديد سرى الامر ايضا على خطبة الجمعة، فاصبح يدعى فيها للسلطان حسين بدلا من السلطان العثماني مع ابقاء الدعاء للخليفة دون ذكر اسم شخص معين لعدم اثارة الراي العام ومارست انجلترا السلطة الفعلية والرقابة الكلية حتى على اختصاصات مجلس الوزراء، واخذ كل من شيتهام ومكسويل وجراهام على عاتقهم ومنذ البداية الضغط على المصريين بمختلف الطرق

وعندما جاء اول يناير 1915 موعد انعقاد الجمعية التشريعية راى الانجليز ان الوقت لم يعد مناسبا لعقدها وذلك تتمة للضغط وكبت الحريات وتكميم الاوفاه، فاجلت الى 15 ابريل 1915 وفي 11 ابريل اجلت الى اول نوفمبر سنة 1915 واخيرا في 18 أكتوبر صدر مرسوم بتاجيلها بدون تحديد لميعاد آخر

وبايقاف العمل باحكام القانون النظامي الاساسي القاضي بتجديد انتخاب اعضاء الجمعية التشريعية ومجالس المديريات بدل الاعضاء الذين انتهت مدة عضويتهم بحكم القانو، أو الذين يكونون توفوا او شطب اسمهم منعا لاي سبب كان. وقد وافق رشدي ايضا على ذلك الايقاف لانه راى ان باستمرار اجتماعات الجمعية امكانية خروج اصوات المعارضة وخصوصا وانه كان يعلم ان سعد زغلول متزعم لحزب المعارضة في الجمعية وانه لن يسكت على كل هذه الاجراءات التي تحدث.

ويذكر سعد زغلول بصدد هذا:

"فاستطردت الكلام – مع ستورس – الى الجمعية التشريعية فقال انها الان نائمة بسبب الحرب، فقلت: ان نومها قد طال وتثقل فهل ستستمر نائمة، فقال الى ان تنتهي الحرب. قلت ان المجالس الشورية في بلاد الحرب تنعقد. فقال ولكنها لا تبحث الاشياء الى ظاهرا فقط. فقلت ان هذا الظاهر حرمت منه ايضا الجمعية التشريعية لانها اهملت اخذ راي اعضائها في مهام الامور ولو بصفة غير رسمية.
فقد تقررت الميزانية وهي من اهم الامور بدون ان يستشار احد من الاعضاء فيها، فقال ان عدم وجود وقت عندهم يتفرغون فيه لمشاركة الجمعية في اعمالها. فقلت مبتسما اني منعت الوزراء كثرة الاعمال من الاشتغال بالجمعية فلا اظن ان هذه الكثرة تمنعهم من مشاورة اعضاءها.
فقال انني اؤكد لك بان الحكومة واثقة بالجمعية وانها تشتغل بتوسيع اختصاصها، فقلت ان كان توسيع الاختصاص بالمعنى الذي قرناه في الجرائد، ان يكون راي الجمعية نافذا في مسائل الاوقاف والمحاكم الشرعية والمجالس الحسبية فهو قليل الاهمية بالنسبة لما كن نامله، ومع ذلك فقد قيدوه بقيود قللت من فائدته، وما دامت نية الحكومة نحو الجمعية حسنة، فمن اللازم اظهار هذه النية لا اخفاؤها.
وتقيد الجمعية بتلك القيود من شانه ان يوهم قلة ثقة الحكومة بالجمعية وان الاوفق ان يبدا بالاطلاق لا بالتقييد لانك اذا دعوتني للتنزه في هذه الحديقة بشرط الا اجول في مكان معين فيها ولا اتعداه الى سواه شعرت بالضيق وقلة الثقة بخلاف ما اذا دعوتني بالتجول فيها بلا شرط فاني اكون كثير المنة والشكر لك ولا اشعر بشيء من الضيق، فقال ولكنني اخشى اذا اطلقت الامر لك ان تفسد الزهر والثمر فالتزم بدعوة البوليس لاخراجك وهناك يكثر صياحكم وعلو الضجة منك".

ومن ذلك يتبين ان سعد زغلول لم يكن راضيا عما حل بالجمعية، ولم يكن بمفرده، فهناك آخرون. فحسين بك هلال اعترض على دخول مصر الحرب وخروجها من الحياد، وقدم مذكرة بهذا المعنى، واحمد عبد اللطيف المحامي لما وصلته الدعوة للشخوص الى القصر مع زملائه رفض واعلن ان كبير الامناء يعد النظام الجديد باظلا ولذلك فهو لا يشترك في اية حفلة من حفلاته.

وهكذا قضي على اخر مظهر من مظاهر الحياة النيابية في مصر بقيام الحرب وبالسلطة التي فرضتها انجلترا عليها وبالموقف المخزل الذي وقفه كل من السلطان ووزرائه بصدد هذه الجمعية، فقللوا من شانها وصرحوا بعدم صلاحيتها.

مصر في ظل الحماية

ترتب على اعلان الحماية ان رفعت انجلترا وظيفة المعتمد والقنصل العام البريطاني الى وظيفة المندوب السامي، وقد اختير لهذا المنصب السير هنري مكماهون، واخطات انجلترا عندما عينته فهو غير ملم باحوال مصر، وليست له اية خبرة سابقة بشئونها على غرار من كانوا قبله، ولم يكن في وضع يجعله يؤثر على المصريين كرجل له شهرة عالية واسعة النطاق بنفس الطريقة التي كان يتبعها كتشنر من قبله.

وصل مكماهون الى مصر في 9 يناير 1915 ليتولى مهام المنصب الجديد. فكان أول عمل يقوم به هو اطلاق ايدي المستشارين الانجليز في البلاد حتى اصبح هؤلاء هو الحكام الحقيقيون: "حتى كان منصب المستشار المالي في عهد الحماية اهم منصب في مصر، لان المستشار كان رئيس الوزراء الفعلي، اما رئيس الوزراء فقد كان عبارة عن انسان ميكانيكي يبصم القرارات، وتقتصر واجباته على تلقي الزهور والرياحين او الاحجار والرصاص حسب مقتضيات الحال".

ومنذ بادئ الامر رسم مكماهون لنفسه سياسة معينة وهي الاستئثار بالسلطة واهمال السلطان حسين، وتحقير رشدي فقبل اعلان الحماية كان العميد البريطاني لا يستطيع تنفيذ مشروع او اصدار مرسوم قبل الحصول على موافقة الوزراء المفوضين، وعلى ذلك فقد كان العميد البريطاني وموظفو قصر الدوبارة يترددون على جميع الحفلات التي يقيمها رجال السلك السياسي حتى وطدوا صداقتهم بممثلي الدول وبذلك تزول العقبات وحل الوئام محل الخصام. ولكن بعد اعلان الحماية اصبح عميد قصر الدوبارة هو الحاكم بامره حتى لقد انقطع الموظفون الانجليز تدريجيا عن زيارة المفوضيات الاخرى والاختلاط بالاجانب في مصر.

ترتب على ذلك ان اصبح السلطان وحكومته كمية مهملة مما ادى الى تزمر السلطان وانطوائه على نفسه، وعلى مرور الايام اشتدت الجفوة بينه وبينه مكماهون حتى صار كل منهما لا يرى الاخر. واخذت السلطات تتركز كلها في ايدي المستشارين بعد ان اعتبرهم مكماهون مسئولين راسا امامه وعليهم ان يوجهوا مكاتباتهم له مباشرة للرجوع الى لندن بشان اية تعليمات او توجيهات، وقد نعجب حينما نعلم ان هؤلاء المستشارين كانوا يعتبرون موظفين لدى السلطان نفسه.

وعمل مكماهون منذ اللحظة الاولى لوصوله على جعل السلطان يشعر بان درجة نائب جلالة ملك انجلترا فوق مستوى درجة سلطان مصر. اليس صاحب الجلالة هو الذي اختار حسين وعينه، اذن فحسين مدين لجلالته بتعيينه حاكما لمصر.. هو الخاضع الذليل لسيده وبالتالي لنائب سيده.

صدرت الاوامر الى السلطان الجديد بالا يبت في امر كبير او صغير من دون موافقة دار الحماية ولتسهيل هذه المهمة انشئ خط هاتفي مباشر بين مكتبه في قصر عابدين وبين مكتب المندوب السامي، وحتى ذلك استكثره النائب لكثرة مشغولياته، لذا اصبح الخط مباشر مع مستر ستورس السكرتير الشرقي لدار الحماية فتضايق السلطان لذلك وطلب ان يكون الخط المباشر بين ستورس وبين السكرتير السلطاني الخاص وكاد يجن ستورس من الهاتف المباشر فمثلا سكرتير السلطان يسال:

ان صاحب العظمة يريد ان يقيم مادبة غداء في القصر للعلماء فهل يدعوهم أم لا يدعوهم؟

وبعد خمس دقائق يساله: ان رئيس الوزراء يطلب مقابلة السلطان هل يقابله أم لا؟ وتمر خمسة دقائق أخرى فيساله السكرتير: ان احد الامراء يطلب سلفة من السلطان فهل يدفع له السلطان المبلغ المطلوب ام ان اخلاص هذا الامير للانجليز موضع شك؟

هذا الوضع كان يثير ستورس اذ يقول:

"بدات آسف لتركيب الهاتف المباشر الخاص الذي يربط مكتبي في قصر الدوبارة بالقصر في عابدين.. لقد وافقت على هذا بفكرة انه اوفر على نفسي استدعاءات السلطان الدائم، لكن اراكيل نوبار بك السكرتير السلطاني الخاص اصبح يستعمل الهاتف كالنفير، ينفخ فيه باستمرار يدمر به روحي واسفاه".

وقد ذكر سعد في مذكراته عن ضعف مركز السلطان امام قوة الانجليز يقول:

"حادث السلطان مكاتب جريدة ايطالية محادثة نشرتها جريدته، ولكن قلم المطبوعات هنا حذف منها بعض الجمل واقتضى لنشرها بتمامها في بعض الصحف العربية تحت عنوان (مخابرات بين الوزراء ومكماهون) وبلغني ان السير مكماهون استاء لهذا الحديث ونشره وارسل يعنف السلطان على محادثته لرجال الصحافة حتى قيل انه منع السطلان من الاجتماع بهم ومحادثتهم في الشؤون العامة".

وهكذا اعتبر المندوب السامي البريطاني حاكم مصر موظف صغيرا عنده، وما عليا الا ان يذهب اليه ويعرض عليه ما يريد ويطلب منه ما يشاء. اما مكماهون نائب جلالته لا يذهب الى قصر عابدين اذ اصبح هو الملك الحقيقي الغير متوج، لقد وضعت انجلترا هذه السياسة لاذلال السلطان وتحقيره حتى يشعرونه انهم كل شيء وانه بفضلهم جاء الى العرش.

ولم يكتف الانجليز بهذا بل ذهبوا الى اكثر من ذلك، فعندما عينوه سلطانا على مصر انعم ملك انجلترا عليه بوسام الحمام. وانتظر السلطان اين يذهب اليه مكماهون – كالعادة المتبعة في مثل هذه الاحوال – ويسلمه الوسام في قصره، واذا بنائب الملك يقول للسلطان انه لا يذهب لقصر عابدين وانما على السلطان ان ينتقل الى دار الحماية في قصر الدوبارة ليتسلم الوسام.

وساءت العلاقات حتى ان سعدا قال:

"علمت ان الخلاف المشار اليه سابقا حصل منذ زمن طويل عقب اهداء نيشان عظيم الشان الى السلطان من جلالة ملك انجلترا حيث اراد مكماهون نائب الملك ان يسلم هذا النيشان الى المهدى اليه في حفلة رسمية تنعقد بدار الحماية الانجليزية. فكبر ذل على السلطان وتخابر مع مكماهون في هذا الشان، ونتج عن هذه المخابرة ان عدل عن هذه الحفلة الرسمية الى وليمة بسيطة حضرها السلطان ووزارؤه وبعض كبار الانجليز وغيرهم، ولما اقبل السلطان على دار الحماية دخل من باب خاص وادخل الى غرفة خاصة على غير شعور المدعوين، وهناك سلم اليه السيد مكماهون ذلك النيشان وتنبه بحفظ هذا الامر وسار مكتوما على الجرائد وعن سائر الناس".

وكنتيجة لموقف مكماهون راح السلطان يتصرف باسلوب يقضي بتسديد الضربات له فكثيرا ما اتخذ من مرضه وسيلة للتنصل من لقائه، وعلى اثر هذا الجفاء حاول السلطان التقرب من الشعب وبالذات من الفئة المتعلمة – وخاصة بعد الاعتداء عليه وتحقير الطلبة له – فزار مدرسة الحقول للمرة الثانية في 10 ابريل 1916 وخاطب الطلبة. واعقب ذلك ان افرج عن بعض المعتقلين كخطوة له للتقرب من المصريين ضد الانجليز فقد كانت السلطات قد اعتقلت امين الرافعي وعبد الرحمن الرافعي وعبد الله طلعت وهم من رجال الحزب الوطني، فدعاهم السلطان من معتقلهم لمقابلته وشملهم بعطفه ورضاه وامر باطلاق سراحهم.

وكانت الخطوة التي تلت ذلك هي تفكير السلطان في تكوين حزب من الامة ضد انجلترا، يذكر سعد بهذا الصدد: " اخبرني عاطف ان عظمة السلطان قال في حديث له ان وقتي قد جاء، وافاد عاطف انه يريد ان يكون حزبا من الامة فانه قد تقبل الراي وتركه بالبشاشة وقال لهم انتم اولادي وانا ابوكم"

من هذا نرى ان العلاقة قد ساءت بين مكماهون والسلطان حسين لدرجة ان الاخير امتنع عن مزاولة اعماله الرسمية، وتنقل في املاكه بالريف تفاديا لاحتكاكه بمكماهون وكان دائم الشكوى من ازدياد قوة الموظفين الانجليز. ولقد وصلت الدرجة الى انه كان يشكو لبعض الانجليز من انه لم يلق من المندوب السامي مكماهون الرعاية الواجبة وبالتالي بينه وبين المستشارين وعلى راسهم سيسل وهذا مما ادى الى قيام الجفاء بينه وبينهم.

وازداد الامر سوءا ففي اواخر 1916 عين هنس مستشارا للداخلية الذي عمل بدوره هو الاخر على عزل السلطان، وكان اول عمل يعمله بالداخلية هو منع اتصال موظفي الادارة بالسلطان.

وكان من نتيجة هذا الخلال ان ادلى السلطان بتصريحات الى بعض مراسلي الصحف الاجنبية لمح فيها الى زهده في العرش ورغبته في اعتزال الحكم وعلى اثر هذا التصريح عالجت انجلترا الامر بان سحبت مكماهون وعينت ونجت بدلا منه كاستمرار في سياستها وهي الا تعين في مصر معتمدا بريطانيا الا اذا كانت لديه دراية واسعة وخبرة فائقة في مصر مثل كرومر وجورست واخيرا كتشنر.

لهذا اختارت ونجت اولا لدرايته الواسعة بشئون مصر واحوالها، فقد احتك بالمصريين كنتيجة لاشتغاله بالجيش المصري فترة طويلة، اذن فهو اقدر من مكماهون على تدعيم الحماية وامتلاك زمام الامور. ولتلك الصداقة الشخصية التي كانت تربط ونجت بحسين منذ ثلاثين عاما. حقيقة ان الحكومة الانجليزية لم تكن حريصة على صداقة حسين ولكنها خافت من ان يتقرب حسين للامة ويشترك الاثنان ضد انجلترا وبذلك يزداد الخطر عليها في ذلك الوقت العصيب الذي كان دوي انتصار المانيا عظيما.

هذا بالاضافة الى ان ونجت اكفأ الناس للعمل في مصر وخاصة في مثل هذه الظروف بعد غرق اللورد كتشنر. وقد كان ايضا للغزو التركي لقناة السويس الشغل الشاغل لانجلترا، ولاهمية مصر الحربية كان لابد من وضع نظام جديد خصوصا بعد ان ثبت ان هناك صدى لدسائس لالمانيا وتركيا. لذا كان من الضروري ان يعين مكان مكماهون رجل عسكري صارم كمندوب سامي وكنائب للملك لتكون له السلطة المطلقة لكبح جماح اي دسيسة تقوم. وهذا ينطبق على ونجت ذلك الرجل العسكري الذي يمكن له بسهولة السيطرة على الموقف.

واخيرا رات انجلترا ضرورة زيادة الضغط على المصريين والقضاء على اي حركة وطنية بعد ان ظهرت تلك الحركات التي هدفت اغتيال السلطان ووزرائه، وبتعيين ونجت اشتدت الاحكام العرفية وازداد الضغط لجعل مصر تساهم باكبر قد رممكن من المجهود الحربي اثناء الحرب.

وفي 12 أكتوبر 1916 كانت ونجت بالخرطوم عندما وصلته برقية التعيين الجديد، ولما كان السلطان حسين في ذلك الوقت موجودا باسوان حيث كان يقوم برحلة نيلية فسر جدا لتعيينه وارسل اليه رسالة عاجلة يدعوه لمقابلته باسوان وهو في طريقه الى القاهرة للتفاهم في علاقاتهما المستقبلية.

وتمت فعلا المقابلة وضاعت مرة اخرى من السلطان حسي فرصة لا تعوض من حيث انه في استطاعته بعد ان وضحت له نوايا انجلترا بان يطالب ونجت بوعد موثق صريح يحدد موقف مصر السياسي عقب الحرب، بعد تلك التضحيات التي قدمتها لانجلترا حتى ذلك الوقت. ولكن لم يكن حسين كما عهدناه غير شخص اناني لا يطلب الا ما يكون فيه مصلحة له. وتمت المقابلة وكانت كلها شكوى حسين من مكماهون وتصرفاته وازدراءه له.

وصل ونجت في اواخر ديسمبر 1916 القاهرة ليشغل منصبه الجديد. وليلقى على عاتقه سياسة جديدة وقد احيط بمظاهر العظمة والابهة اذ كانت له صلات بضباط الجيش المصري وله علاقات بكبار الشخصيات. كل هذا ساعده على فرض نفوذه دون معارض له او رقيب عليه بعد ان اصبح الحاكم بامره في طول البلاد وعرضها تسانده السلطة في تنفيذ اوامره. تلك السلطة التي طغت على كل شيء بمصر واستاثرت بكافة الامور فيها.

وما على السلطان الى الطاعة وما على وزرائه ورئيستهم الا الاستجابة وما على المصريين الا التضحية.

اخذ ونجت يعمل منذ وصوله على معالجة مسالتين حيويتين:

اولا: علاقة مصر ببريطانيا، تلك العلاقة التي ترتبت على اعلان الحماية.

ثانيا: الدور الذي يجب على مصر ان تقوم به لمساعدة انجلترا اثناء الحرب وتقديم المزيد من المجهود الحربي.

كان ول نشاط جاء به الى مصر هو نقل ادوارد سيسل المستشار المالي المؤيد لسياسة مكماهون ففي 31 يناير 1917 حرر برقية الى اللورد هاردنج وزير الخارجية الجديد في وزارة لويد جورج تقول: "لا يوجد عدم وفاق بيني وبين سيسل غير ان علاقاته مع السلطان ووزراءه ليست على ما يرام وانني اعتقد ازاء هذه الحقيقة انني لا اريد ان الاقي اية عراقيل في سبيل تعاملي مع الوزراء المصريين. وعلى الفور ودون انظار رد لندن نحي سيسل واحل محله سير برونيات.

بعد ذلك شرع في تنفيذ سياسته، ووضع نصب عينيه اولا وقبل كل شيء السعي لدى الحكومة المصرية لزيادة مجهودها الحربي في سبيل خدمة انجلترا رغم علو سهمها في هذا المجال، فقد اشتركت في حرب القناة ضد الاتراك وقدمت الرجال والجمال والاموال والمحصولات والمستشفيات.

وجاء دور تحديد العلاقة السياسية بين مصر وانجلترا، فبعد مرور سنتين من الحرب احست انجلترا ان تيار الحرب رفع كثيرا من اهمية مصر كحلقة اتصال في النظام الامبراطوري. وخافت من شبح الجامعة الاسلامية فقد كان يزعج كثيرين من وزارة الخارجية عندما كانت تفكر في ان هذه الجامعة تنتقل زعامتها وتؤول لمصر بعد انهيار الدولة العثمانية، وكذلك كانت ترى ان الاشراف على مصر سيكون عاملا جوهريا وفعالا لاحكام الاشراف على ميراث الامبراطورية العثمانية.

لهذا فكرت انجلترا في تغيير النظام السياسي في مصر واعلان ضمها الى الامبراطورية وكان جراي قد اعلن في عام 1916 بان انجلترا هي صاحبة السياسة على مصر وانها عازمة على استبقائها حتى ان لورد كيرزن اعتبر ان مصر قد غدت جزءا من الامبراطورية البريطانية وانها تعتبر بمثابة هند صغيرة بالنسبة لانجلترا في حين كانت وجهة نظر لويد الارتباط الدائم بين مصر والامبراطورية وذلك بالسيطرة التامة على مصر.

وفي لندن ارتفعت اصوات من يؤمنون بفكرة ضم مصر الى الامبراطورية كما ضمت قبرص اليها. وقد نصح بفكرة الضم النهائي الجنرال كيلتون، مدير المكتب العربي للمخابرات بالقاهرة. والذي كان يشرف على الشئون السياسية في دار الحماية فقد قدم تقريرا في 23 يوليو 1917 اوضح فيه ما كشفته الحرب من اهمية خطيرة لمصر، وما لقناة السويس من اهمية حيوية للامبراطورية وان هذه الامر ضروري لكي تضمن انجلترا مركزها في خط برلين بغداد.

هذا في الوقت الذي عدد فيه مخاطر ذلك الامر كالخوف من استقالة الوزراء، والموظفين مما يتعذر ادارة الحكم وتخلخل الاوضاع الداخلة ورد الفعل في اوساط المسلمين عامة وفي البلاد العربية خاصة لكنه انتهى باصراره على الضم والتخلص من اسرة محمد علي كلية. كان اذن على ونجت ان يعمل لجس نبض السلطان ووزرائه نحو تغيير نظام الحكم، فعكف على مفاوضتهما في امر العلاقات بين انجلترا ومصر ليعلم مدى استعداد السلطان ووزرائه لذلك.

ومرة اخرى ضاعت فرصة تحديد العلاقات بين مصر وانجلترا وقد كان في امكان السلطان ورشدي التفاوض مع ونجت على منح مصر الاستقلال، في ذلك الوقت الحرج الذي تجري فيه انتصارات المانيا في اوروبا، او ارتباطها معها بمعاهدة دفاعية ولكن لم يحدث هذا اذ سرعان ما لمس ونجت انه لا توجد اية معارضة من قبل السلطان وحكومته لنظام الحماية حيث دارت المفاوضات وقصرت المطالب على مجرد اطلاق ايديهما بدرجة اكبر في نظام الحكم الداخلي.

وفي 24 مارس 1917 ارسل ونجت تقريرا الى اللورد هاردنج بشان الماقبلة الطويلة التي تمت بينه وبين السلطان وحكومته حيث قال: "ليس لدي اي نوع من الشك في ان السلطان ووزرائه يرحبون بان يمنح المصريون درجة اكبر من نظام الحكم الداخلي في بلادهم اوسع من تلك الدرجة التي يتمتعون بها حاليا".

وبعد مشاورات بين ونجت والسلطان حسين الذي كان مقتنعا بالمزايا التي تعود على مصر من ضمها الى الامبراطورية ، كتب ونجت لسكرتير الدولة بلندن في 27 يوليو 1917 عن السياسة الواجب اتخاذها في مصر لاستمرار مركز الانجلز في مصر ولضمان تعاون المصريين، وذلك لن يتم الا بالغاء السلطنة وضم مصر، وان هذا الوضع سيؤثر على الشعب ولذلك فمن الضروري ان يكون الضم بتكتيك معين حتى يقابل بسلبية من المصريين.

كان بلندن فريق آخر – غير فريق الضم – ينادي بالتمسك باستمرار نظام الحماية ويعمد برايه على ان تصريح الحماية على مصر كان مصحوبا بعبارة صريحة تعبر عن عزم بريطانيا على التعجيل في طريق التقدم نحو منح مصر الحكم الذاتي، وتبعا لذلك فمن رايهم انه لدى بريطانيا احد امرين اما ان تعود بسياستها الى الوراء اي التمسك بنظام الحماية او التقدم في سبيل التحرر التدريجي.

وهي لا تريد ان ترخي قبضتها عن مصر كما انها ليست على استعداد لايلام هؤلاء المصريين الذين تعاونوا معها طوال فترة الحرب. هذا وقد وضعت بعض الاعتبارات الاخرى التي حولت من مسار الاقدام على ضم مصر. فالخوف من معاداة الوزارة المصرية التي تعاونت معها من جهة ثم للتذمر السائد بين الفلاحين الذين اصبحوا للمرة الاولى قابلين للهياج من جهة اخرى.

حتى ان اللورد كيرزن – الذي اصبح زعيم المعارضة في مجلس اللوردات وقد لعب دورا مهما في السياسة البريطانية – رفض فكرة ادماج مصر في الامبراطورية البريطانية وصرح ان ذلك امر غاية في الصعوبة ويجب ان يؤخذ بشيء من التروي. هكذا بترة فكرة الضم ورفضت مقصودة وعن عمد، خاصة بان ان اقتنع الانجليز وتصوروا ان دستور الحماية يمنح الحماية السياسية الواسعة ويظهر مقدرة الشعب المصري في حكم نفسه.

واخيرا وللمرة الثالثة قررت بريطانيا التمسك بنظام الحماية. وبذلك اصبحت مصر الشاغل الوحيد لدى انجلترا، فتارة تنوي ضمها اليها لتصبح احدى مستعمراتها وتارة اخرى تجعل الاوضاع كما هي عليه. وبعد الاتفاق على استمرار نظام الحماية رات انجلترا ان الوقت قد حان لالغاء الامتيازات الاجنبية ووضع اجراءات اخرى لاحتياجات الوضع الجدي. ففي دستور الحماية يصرح وكيل نائب الملك بان الامتيازات الاجنبية لم تعد ملائمة لتقدم البلاد.

وذلك لرغبتها في السيطرة التامة على مصر. وكانت في الاعوام السابقة للحرب ترغب في تسوية هذه المسالة بنيل موافقة فرنسا وايطاليا وبقية الدول على الغائها، فحمل وزير الخارجية ادوارد جراي اللورد كتشنر على تاليف لجنة لبحث مسالة المحاكم القضائية برمتها وقد وضعت اللجنة تقريرا في عام 1914 واقترحت فيه ادماج المحاكم المختلطة وتوحيد اختصاصها، غير ان وزارة الخارجية لم توافق على ذلك.

وقد شغل هذا الموضوع لندن فقدمت المذكرات الى وزارة الخارجية من رجال القانون الانجليز يطلبون فيها من الوزارة تاليف لجنة تهتم بهذا الموضوع هذا في الوقت الذي كان يفد الى وزارة الخارجية المذكرات من المقننين الانجليز بمصر الخاصة بموضوع الاصلاح القانوني الذي سيدخل مصر كنتيجة لالغاء الامتيازات الاجنبية.

وفي 24 مارس 1917 بناء على صدور امر من انجلترا تمت الموافقة على تاليف لجنة من اربعة اعضاء اشترط ان يكون منهم انجليزي ذو شخصية قانونية في مصر للنظر في امر اصلاح القضاء في حالة الغاء الامتيازات الاجنبية. ولوضع التعديلات التي يستدعي ادخالها في القوانين والنظم القضائية والادارية في البلاد التي يتطلبها الغاء الامتيازات في ظل نظام الحماية. وقد راس هذه الجنة يوسف وهبة وزير المالية. وكان السير برونيات المستشار المالي بالنيابة العنصر الفعال فيها بصفته مستشارا للمالية ومستشارا للقضاء والسير بريسفال وكيل محكمة الاستئناف.

كما كان الغرض من تاليف هذه اللجنة وضع القوانين والنظم التي تنسجم مع الحماية، وسميت "لجنة الامتيازات" . وكان روح هذه اللجنة وقررها سير برونيات. وقد وضعت عدة مشروعات قوانين كقانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات وقانون المرافعات. وبعض فصول من القانون المدني والتجاري، وقطعت شوطا بعيدا في وضع النظام القضائي الذي كان مزمعا وضعه على اساس ادماج القضاء الاهلي والقضاء المختلط وجعلهما نظاما موحدا محتلطا في قواعده وهيكله مع تغليب العنصر الانجليزي، ومما تقرر فيه جعل النائب العام انجليزيا.

تقدم الى هذه اللجنة عشرة من المحامين الانجليز، وطالبوا باعتبار اللغة الانجليزية لغة رسمية للمحاكم توضع بها القوانين وتترجم منها الى اللغة العربية او الفرنسية اذا دعا الامر الى ذلك. واستلزموا ان يسن القانون الاهلي وفقا للاصول الانجلزية والقانون الجنائي بصفة خاصة. وان يجلس قاضي انجليزي الى جانب القاضي المصري للنظر في المسائل الاهلية.

وفوق ذلك فانهم زعموا ان المصريين يقبلون هذه المطالب عن طيب خاطر وانها لازمة لضمان المصالح الانجليزية في مصر .وقد اعد سعد زغلول ردا على المشروع وارسله الى الاهرام والمقطم لينشروه فمنع الرقيب نشره. وفيه يستنكر سعد هذا الاجراء الغير قانوني ويبين ان مصر لن تقبل وان هدف انجلترا من ذلك جعل المصريين غرباء في بيوتهم.

وقد استمرت اجتماعات هذه اللجنة الى شهر نوفمبر 1918 حتى لقد بلغت جلساتها 128 جلسة ووضعت نظاما لمصر – الذي عرف باسم مشروع برونيات – كذلك وضعت قانونا للعقوبات ماخوذ من القانون الأنجلوساكسوني. وارسلت نسخ المشروع الى نقابة المحامين المصريين فرفضوه واحتجوا عليه "لانه مبني على اساس القضاء على كل استقلال بل وعلى كل وجود للقضاء المصري".

ومن واخر عام 1917 اقترح عدلي يكن وزير المعارف وثروت وزير الحقانية مسالة بحث الاصلاح التشريعي لا التعديلات التي تترتب على الغاء الامتيازات الاجنبية فحسب. والفت لجنة لهذا الغرض ضمت انجليز ومصريين، ومضت اجتماعاتها وتمخضت عن فكرتين متعارضتين الاولى انجليزي تنطوي على اعادة اقتراحات كرومر التي وضعها عامي 1904 و1906 والخاصة بان تترك الدول لانجلترا امر المصادقة على تغيير الاحكام الموجودة وان تكون مسئولة عن كل ما يرتبط بالاجانب الذين يمكن لهم ان يشتركوا في سن القوانين. اما الثانية فهي مصرية وترمي الى ان يمارس المصريون حقوقهم مع بعض التحفظات.

ورات انجلترا ضرورة اشراك الاجانب في مجالس المديريات والمجالس المحلية والقروية وتالفت لجنة من اجل ذلك الغرض. وطلب من محمد عل علوبة الاشتراك فيها، فتردد في البداية لكنه وافق حتى يسهم في معارضة اي نص يضر بمصر خاصة بعد ان ظهرت بوادر انتصار المانيا وحلفائها

وقد اتضح ذلك في احدى جلساتها، عندما ابدى رئيس قلم قضايا الحكومة وهو اجنبي ضرورة اشراك الاجانب في المجالس فرد عليه علوبة بقوله: "انت تريد اشراك الاجانب من القرى وليس في قرانا ما اعلم سوى بقال رومي وهو مسيطر فعلا على كثير من اهلها ويتحكم في شئونها لانه ليس بقالا فحسب وانما هو مراب وبائع خمور، وكيف تغلغل هذا النفوذ من قرانا ونحن نسعى الى استقلال بلادنا ببرلمان مصري ومحاكم مصرية".

ورغم تعدد تلك اللجان وتشعبها الا ان الامر اسفر في النهاية على مشروع برونيات الخاص بمنح الاجانب حق التشريع، ولعل ذلك يغري الدول بالتنازل عما يحق لها بموجب الامتيازات الاجنبية. وفي اوائل نوفمبر 1918 كان برونيات قد انتهى من العمل الذي اوكلته اليه لجنة الامتيازات الاجنبية الخاص بالدستور.

وقد قضى مشروع برونيات بانشاء مجلسين احدهما يسمى مجلس الاعيان او الشيوخ وهو يتالف من الوزراء، والمستشارين الانجليز وبعض الموظفين الانجليز يساويهم في الرتبة، هؤلاء معينون، ويتكون ايضا من اعضاء منتخبين ينتخبون بطريقة كثيرة القيود والشروط منهم خمسة عشر اجنبيا ينتخبهم الاجانب وثلاثون مصريا يجري انتخابهم على قواعد محدودة بحيث تكون الاغلبية لهذا المجلس للاجانب اذا ضم اليهم الوزراء والمستشارين الانجليز.

وهذا المجلس يملك وحده السلطة التشريعية، اما المجلس الاخر وهو مجلس النواب مؤلف من المصريين وسلطته استشارية، وليس له راي قاطع في عظيم ولا ضئيل من مصالح البلاد وللحكومة ان تتخطاه بارسال القوانين مباشرة الى مجلس الاعيان. ثم بالاضافة الى ذلك فالقوانين التي تصدر عن هذا المجلس او من ذاك لا تعتمد الى بعد اقرارها في وزارة الخارجية البريطانية.

ولقد كان من اهداف هذه التعديلات ايضا استدراج الاجانب الى الرضا بالغاء امتيازاتهم ريثما تنحصر السلطة كلها في ايدي المندوب السامي البريطاني. وبذلك تتحول مصر الى مستعمرة بريطانية. وعرض المشروع على رشدي لكنه رفضه عندما تنبه لخطورة نتائجه واعد مذكرة هاجمه فيها وعدد التضحيات التي قدمتها مصر من اجل انجلترا وحلفائها طوال الحرب واعطى صورة للنظام الدستوري الذي يجب منحه لمصر

ويتكون من مجلس نيابي ومجلس للاعيان فبالتغيين لمدى الحياة ولا يصدر قانون الا بعد تصديق المجسين عليه واعتماد السلطان له، اما القوانين التي كان تنفيذها لا يسري احدهما عليهم الا بعد قبول بريطانيا. وفي كلا المجلسين لا يجوز البحث في شئون الدين العمومي وبصفة عامة في جميع التعهدات والالتزامات الناشئة عن اتفاقات دولية. وان يكون الوزراء مسئولين بطريق التضامن امام مجلس النواب. وختم رشدي مذكرته بانفعال شديد للدرجة انه هدد بتقديم استقالته اذا خرج مشروع برونيات الى حيز الوجود.

هكذا رفض المشروع ورغم سرية مذكرة شردي الا انها عرفت لدى المصريين واثارت عاصفة من الاحتجاجات لدى طبقات الامة التي وجدت فيها تجاهلا للشعور الوطني الذي الهبته حوادث الحرب واشعلته نمو الديمقراطية. وانتهى الامر بتسليم اوراق المشروع ومن هنا نرى ان رشدي لاول مرة يتحرك وبعنف امام مطلب انجلترا فقد عهدناه مستمسلما الى حد كبير لكنه هذه المرة تشدد ونجح في تشدده.

علما انه بمجئ ونجت الى مصر كان عليه ان يضمها الى الامبراطورية ودخل في مناقشات مع السلطان ورئيس وزرائه عرف منها انه لا مانع لديهم في سبيل اشياء ظاهرية تعود عليهم ولكن بعد ان رفضت فكرة الضم هذه وعمل على الاستمرار في نظام الحماية القائم راى السلطان حسين ان تصريح الحماية الذي ناله من انجلترا لم يحدد شكلا للوراثة بل تركها لوقت آخر وعندما احس السلطان حسين بقرب نهاية حياته راى ان تكون ذريته وارثة عرش مصر لذا سعى في عقد مشروع اتفاق مع انجلترا هادفا معالجة امر الوراثة.

ومذكرات سعد زغلول تعطي ضوءا على هذا المشروع الذي فتح الباب لمشاريع اخرى قامت عليه اذ يقول: "اطلعني – رشدي – على مذكرة ومشروع اتفاق بين السلطان والحكومة الانجليزية يتضمن بان تكون حكومة مصر حكومة ملكية مقيدة تحت رئاسة سلطان وراثي وزراء ينتخبهم هو. ويكون من حقه ان يعطي حق الحكم الذاتي بالتدريج والا يكون له وكلاء في الخارج، ولكنه يقبل وكلاء الدول الاجنبية.

وان يكون للدولة الحامية الحق في ان تحتل اي نقطة من الديار المصرية على مصاريف من طرف الحكومة المصرية لاتزيد على مبلغ معين. وان يكون فيها سردار الجيش والمستشار المالي الذي يكون له حق الحضور في مجلس الوزراء ولا يعرض شيء من شانه تنقيص مال الحكومة الا باذنه ومستشارون في كل وزارة يكون من حقهم الشورى لا التنفيذ ولا تقبل الحكومة للوظائف الفنية الا من الانجليز ولا تنفيذ اي قانون لم تصدق عليه الجمعية التشريعية".

هكذا بعد ان ذاقت البلاد الامرين من جراء الحرب التي جرتها اليها انجلترا. وبعد ذلك الاذلال المضني للمصريين باعلان الحماية عليهم. وبعد فوات الفرص للحكام في المطالبة بشيء لصالح مصر، بعد هذا كله زاد السلطان الامرء سوءا بذلك المشروع الذي ينزل مصر الى مرتبة العبودية، ان كل ما هم السلطان هو وراثة العرش الذي كان يقلقه جدا حتى من قبل ان يتولى العرش. وفي مقابل ذلك اعترف باستمرار الحماية ولم يعارضها ابدا، ورضى عن تصرفات انجلترا اثناء فترة لاحرب بل اعطاها الحق بالاضافة الى حقوق الحماية في الاحتلال لاي بقعة من مصر، وكذلك اطلق يد المستشار المالي في ميزانية مصر، واطلق سيف السردارد فيها حتى الوظائف وافق على ان يحتلها الانجليز.

ان السلطان لم يات بجديد لمصر فقد وضع ذلك المشروع في اطار الحماية ولكنه زينه باطار رفيع ظاهر بحق السلطان في التدريج للحكم الذاتي ويجعل راي الجمعية التشريعية تنفيذيا.

واختلفت الاراء بصدد ذلك المشروع اذ اعتبروه انه خطوة في سبيل الحكم الذاتي فانقسموا الى رايين، اصحاب الراي الاول يقولون ان الاتفاق الان احوط لانه ربما ينتهي الامر للحلفاء ولا يكون لمصر نصيب من ان تسال اكثر مما تناله الان. وانه لا يليق بسلطان تعين من الانجليز ان يبدي مطالب ضدهم في مؤتمر الصلح لان ذلك خروجا عن حد اللياقة، واصحاب الراي الثاني يقولون ان الاتفاق الان يكون هربا من عرض مسالة مصر على مؤتمر الصلح.

حاول عدلي يكن فتح مسالة مصر والتفكير في اعطائها نوعا من الاستقلال فيذكر سعد: " حضر عندي اول امس عدلي باشا بعد ان مر قبله مرتين في ليلتين متعاقبتين وفهمت منه ان السونسي اغار على الحدود المصرية، وان السلطة العسكرية مشغولة بهذه المسالة، وفكر في انتهاز هذه الفرصة لفتح باب المخابرة مع رجال الانجليز بشان اعطاء مصر نوعا من الاستقلال ، فقلت ان الفتح لا يصح ان يكون على كل حال من الوزراء لانه ربما يقال بانهم يساومون الانجليز مساومة وينتهزون فرصة ضيقهم، فاستحسن ذلك، ولكن المسالة لا يصح ان تهمل والواجب البحث فيما يطلب".

وقد حضر لطفي السيد هو الاخر مشروعا يقول سعد:

"وقد رايت لطفي حضر مشروع طلب من السلطان في قضية مصر. وقد تناقشنا في موضوع الطلب لعلي المس تعديلا فيه من بعض الوجوه – عن مشروع السلطان – وما استقر عله الراي هو: ان تكون الحكومة دستورية بان يكون لها سلطان وراثي يدير شئون البلاد بواسطة وزارة ينتخب اعضاؤها ومجلس نواب تنتخب الامة اعضاءه، ويرجع اليه الامر في التشريع ومسئولية الادارة، وان يبقى الموظفون الانجليز في وظائفهم، حتى لا تخلو منهم والتي خلت يعين فيها مصري

واذا احتاجت الحكومة الى موظف ملكي او عسكري اجنبي فلا تختاره الا من اكفا الانجليز وتبقى وظيفة المستشار المالي على الاختصاص الذي تفسره المذكرة المقدمة من شريف باشا الخاصة بانشاء هذه الوظيفة مع ما اتفقت عليه الحكومة الانجليزية والحكومة المصرية من اعطائه اليه من اختصاصات صندوق الدين عند الغاءه.

وان يكون رئيس اركان الحرب في الجيش المصري من الانجليز، وان يكون للحكومة الانجليزية الحقة في ان تحتل القنال والمدن الثلاث التي عليه وهي بورسعيد والسويس والاسماعيلية للدفاع عنها اذا خيف او حصل الاعتداء عليها وان تتكفل بالدفاع عن فسها بجيشها الخاص، وعند الضرورة تنجدها الحكومة الانجليزية بجيوش من عندها، وان يكون لمصر الحق في ان تعقد مع الدول الاجنبية المعاهدات التجارية دون سواها ولا يكون ممثلون في الخارج الا وكلاء انجلترا.

وفي نفس الوقت – أغسطس 1917 – تقدم امين يحيى بتقرير الى ونجت يصدق فيه على الحماية هو الاخر ويطلب للامة مجلس نواب وقد عرض هذا المشروع علي شعراوي ومحمد محمود وطلب منهما امين يحيى الاشتراك معه في ذلك وتاييد المشروع.

وعندما احس رشدي انه حتى هذه المشاريع لم تنفذ وبدت قرائن الاحوال بان الصلح يتم بين المحاربين على ارجاع الاحوال الى ما كانت عله قبل الحرب وعليه تعود مصر الى تبعية الدولة العثمانية او تستقل كما استقل غيرها. اراد رشدي وعدلي بان يظهرا بانهما متفقان مع انجلترا وراضيان بحمايتها عليهم وبان رشدي يريد السفر الى انجلترا للتفاوض فيما يلزم وضع الحماية عليه من الاسس وهدد بانه اذا رفضت انجلترا ذلك فستكون النتيجة تقديم استقالته في الحال.

وفي تقرير ونجت لحكومته في 24 ديسمبر 1917 يبين ان رشدي قدم الى سير برونيات مسودة مشروع سياسي لتحديد العلاقات بين مصر وانجلترا ولكن ونجت عارضه بحجة انشغال حكومة لندن في ذلك الوقت بموضوع الامتيازات الاجنبية. وفي الحال ظهر خوف رشدي وتنصل من اعتزامه تقديم هذا البرنامج السياسي الجديد متعللا بان حديثه مع برونيات في هذا الموضوع كان ذو صبغة شخصية خالصة.

من هذا نرى ان كل مشاريع التنظيمات خرجت عن تنظيم اي علاقة حرة مع انجلترا، ومن اعطاء اي شيء لصالح مصر ، انها لم تخرج عن ما تريده انجلترا ، فهي مشروعات فاشلة لم يكن لها اي نتيجة حتى ان انجلترا لم تسمع اليها.

الامير فؤاد يتولى السلطة

كما بينت من قبل كان الشغل الشاغل للسلطان حسين هو عرش مصر، فقد اعرب قبل وفاته بسنتين عن تخوفه من ان حكومة بريطانيا تعيد العرش الى وارث الخديوي عباس حلمي، لذا اهتم السلطان بان يوضع نظام لوراثة العرش في اقرب وقت ممكن

وقد كانت رغباته الخاصة ان يكون على الترتيب الآتي:

1- ان يتولى العرش بعده اما ابنه الوحيد كمال الدين حسين او احمد فؤاد. 2- ان يتولاه الامير يوسف كمال اذا لم يكن للامير كمال الدين حسين او فؤاد ذكور.

وقد اريد بترشيح الامير كمال في الدرجة الثانية ان يكون استعداده للمفاجآت اذا مات الاولان بدون ان يكون لهما ابناء ذكور.

وكان حسين قد ارتاب فيما كتبه كرومر في كتابه "عباس الثاني" من عدم جعل سلطنة مصر وراثية، وفاتح مكماهون في هذا الشان، فقال له انه رأي شخصي له لا راي حكومته "ولكن من يعلم ان حكومته كانت تسترشد في امر التغيير الذي تم بمصر باللورد المشار اليه وسكوت مكماهون عن تقرير النظام الوراثي الموعود به في عهد الولاية الموجهة الى السلطان يبين ان هذا لم يكن رايا شخصيا بل راي الحكومة الانجليزية".

واصبح موضوع الوراثة محيرا لكل من السلطان ورشدي بعدما احس السلطان ان ابنه يزهد العرش في الوقت الذي توافد على العاصمة امراء بيت محمد علي كل منهم يطمع في ان يستولي هو على العرش وكان على راسهم الامير احمد فؤاد، وقد اثار ذلك سخط العارفين باخلاق هذا الامير وبعده عن الوطنية.

وبذل السلطان حسين قبل وفاته كل المساعي لحمل ابنه على قبول العرش، فكتب خطابات الاسترحام الى ملك انجلترا والى ادوارد جراي. ولكل من يهمهم الامر في لندن وتدخل رشدي في الامر توسل وترجى، وذلك لانه كان يكره الامير فؤاد ولا يريده وريثا لسلطنة مصر.

واخيرا رات انجلترا ان توافق على مبدا وراثة كمال الدين عرش ابيه، ولكنها في نفس الوقت وضعت الاستعدادات لحمل الامير على الرفض، فما كاد السلطان يعرف جواب لندن بموافقتها على تعيين ابنه حتى صرح الابن برفض ذلك العرش رغم المؤثرات والالحاحات سواء من السلطان او من الوزراء وعلى راسهم حسين رشدي وحينما ضغط عليه السلطان بضرورة قبول العرش اجابه بانه سينتحر بالرصاص. واعقب ذلك بخطاب رسمي يتضمن تنازله عن العرش.

واميل الى الاعتقاد بان انجلترا بدورها كانت غير راضية عن تولي كمال الدين حسين العرش. وقد ابلغت السلطان حسين بذلك والسبب هو تلك الميول التركية التي كانت مسيطرة عليه، فهو متزوج من ابنة الخديوي السابق عباس الاميرة نعمت الله، وبينما كان ونجت يلح على وزارة الخارجية البريطانية في وجوب اسناد العرش الى الوريث الشرعي – كمال الدين – وابدى استعداده الشخصي لحمل الامير كمال على العدول عن احجامه من اعتلاء العرش، كانت وزارة الخارجية البريطانية تفكر عكس ذلك تماما حيث كانت واثقة ان كمال الدين لا يميل الى انجلترا. وابدت رغبتها في تفضيل الامير فؤاد عليه اذ رات انه سيكون اسهل منه.

اذن كانت انجلترا تشك في كمال الدين بل وتعارض في توليته العرش لخوفها من عدم تعاونه معها فهو مائل للعزلة واستقلال الراي، وكانت في الوقت نفسه تخشى ان يكون عرضة للتاثير من جانب العناصر المعادية لها، لذا اصر ونجت عندما علم براي حكومته ضرورة كتابة تنازل رسمي عن العرش، ويقول سعد: "قال لي – الامير كمال الدين – ان خطاب التنازل حرره برونيات ونقح فيه وان المسودات التي سبقته محفوظة عنده اليوم لان فيها خط ونجت وغيره".

ولم يكن عدم تمسك الاخير بالسلطنة وطنية منه، فكثيرا ما كان يردد انه لا وطن له ولا يعرف الا انه مسلم فقط. وهذا بالاضافة الى انه كانت له زوجة فرنسية وابن منها. واحدث رفض الامير عرش مصر دويا عظيما، وانتشرت الاشاعات بان الانظار متجهة الى الامير عبد المنعم الذي ارسل الى انجلترا يطالب فيها بحثه فهو الابن الاكبر لعباس حلمي الثاني لكنها رفضت حيث سقط حقه في الوراثة بخلع ابيه وبانها لها الحق في انتخاب السلطان. وكان عباس قد حاول الحصول منها على وعد باعادته للعرش او حتى بتعيين ابنه ولكنه اخفق في هذا.

واخذ في البحث من جانب انجلترا عن ايجاد خلف للسلطان حسين يكون مرضيا عنه. ومحترما من المصريين. وراغبا في التعاون مع السلطات الانجليزية، وقادرا على الطاعة واذا لم يوجد مثل هذا الشخص، فلا جدوى من بحث مسالة ضم مصر الى انجلترا.

وقد اقترح في الدوائر الانتخابية ان تحول شئون مصر من اشراف وزارة الخارجية الى اشراف وزارة المستعمرات، وبهذا تصبح مشكلتها ادارية وتخرج من نطاق وزارة الخارجية التي لا تختص الا بالشئون السياسية. كان الامير فؤاد بالعاصمة منذ ايام مرض السلطان حسين ورفض ابنه للعرش فاستحسنه الانجليز وبدات الحكومة في تسوية ديونه.

ولم يكن حسين راضيا عن فؤاد كوريث للعرش في الوقت الذي كان فيه الوزراء غير ميالين اليه او راغبين فيه، فقد كانت شخصية فؤاد ضعيفة، ولم يكن محبوبا من احد ولا يوثق فيه، يذكر سعد: "فهمت من رشدي ان السلطان لا يود ان يزوره الامير فؤاد. وفهمت من عدلي انه لا يود ان يشتغل مع رشدي اذا كان يسلك مع فؤاد مسلكه مع السلطان لان للبرنس فؤاد ميولا لا تتفق مع مصلحة البلاد، فلو لم يجد من المقربين منه ما يقضي بتعديلها استمر فيها".

هذا بالاضافة الى انه لم يكن اكبر افراد الاسرة الخديوية. ولكن لم يسيطر عليه الكره الشديد للانجليز، لهذا فقد رات الحكومة الانجليزية تعيينه لانها اعتبرته اسلس قيادة من اي مرشح اخر مع علمها بانه كان ضئيل الشهرة، واذا تولى عرش السلطنة فلن يحصل على تاييد من الشعب او يكون له نفوذ كبير عليه فهو قضى شطرا طويلا من حياته في الخارج ولاسيما في ايطاليا، كما لم يكن له اصدقاء في البلاط لذا فهو سيضطر – كما اعتقدت انجلترا – ان يستند دائما عليها فاختارته ليكون مطواعا سهل الانقياد، وعين سلطانا على مصر في 9 أكتوبر 1917 ، وقد برهنت بهذا العمل السياسي ان لديها كل الحق في مصر وبذلك اظهرت انها القوة الفعلية المسيطرة عليها.

ووضع في بلاغ انجلترا لفؤاد التدخل البريطاني السافر، فقد اعتبرت نفسها مصدرا لولاية العرش، "ان حكومة صاحب الجلالة البريطانية تعرض على عظمتكم تبؤ هذا العرش السامي" ولم يكن هناك اي اتساع في اختصاصات الحاكم. وعهد السلطان الجدد لرشدي بتشكيل الوزارة الجديدة بعد ان اوضع له التعاون مع انجلترا "وقد تولينا بالاتفاق مع الدولة الحامية عرش السلطنة المصرية على ان يكون هذا العرش من بعدنا لورثتنا طبقا للنظام الوراثي الذي سيوضع بالاتفاق بينها وبيننا".

واستجاب رشدي للمرة الثانية والف الوزارة الثانية في عهد الحماية واصبح رئيسها ووزير الداخلية فيها، وكان اسماعيل سري وزيرا للاشغال والحربية والبحرية، واحمد حلمي للزراعة ويوسف وهبة للمالية وعبد الخالق ثروت للحقانية وابراهيم فتحي للاوقاف.

ونذ ان عينت انجلنرا فؤادا سلطانا على مصر اشعرته انه جاء للعرش بامرها وبانه يمكن تنحيته بكلمتها فهي التي وهبته المركزوهي المتحكمة في تصرفاته وخطواته، ففي اليوم التالي لاعتلائه العرش اراد كعادة خلفاء محمد علي تادية صلاة الجمعة في مسجد محمد علي الاكبر بالقلعة، وهنا تدخلت السلطة العسكرية ومنعته من الصلاة هناك. فكان ذلك من اول الاحتكاكات بين فؤاد والانجليز فقد بينوا له ان هذه المنطقة منطقة حربية حتى السلطان يحرم من دخولها، وكان هذا اذلالا كبيرا وتقيدا لحريته وتصرفاته الشخصية، ورغم ان هذا الاذلال لم يكن ذا قيمة كبيرة لكنه ترك اثرا في نفسية فؤاد.

اعقب ذلك ان اراد فؤاد ان يعمل شيءا يتفق مع هواه ويشعره بكيانه وكان لا يميل الى وزيرين في وزارته فاراد التخلص منهما واحلال آخرين محلهما، فاحمد حلمي كان لا يرتاح اليه وابراهيم فتحي كان يكرهه شخصيا وقدم فيه بلاغا للحكومة يتضمن الطعن في تصرفاته في الوزارة. واقترح رشدي على السلطان ادخال سعد زغلول وعبدالعزيز فهمي في الوزارة بان يضمن لمركزه – بعد ان تضع الحرب اوزارها – لونا من الاطمئنان بتحالفه مع الزعماء الذين كانوا يحظون اذ ذاك بتاييد كبير من الشعب.

وصادف اقتراح رشدي قبولا لدى فؤاد، فابلغ المندوب السامي ونجت الذي كتب لحكومته يقول:

"اني اعرف سعدا جيدا، وبالرغم من انه يشتهر بروحه الوطنية، فان له بلا ريب نفوذا كبيرا على الشعب كخطيب كما انه متمتع بقوة في البلاد، اما عب العزيز فهمي فهو محام ايضا يشتهر بامانته واستقامته التامة" واضاف قائلا عن الوزيرين المطلوب ابعادهما "كانا قد عينهما كتشنر وانهما موالين جدا للانجليز ولا يرغبان في البقاء في الوزارة لاستياء الشعب منهما، وان ادخال سعد زعلول وفهمي سوف يقوي النزعة الوطنية بلا شك في الوزارة الجديدة، ولكني من جهة ذلك لست معارضا بالكلية، فسعد الان وكيل الجمعية التشريعية وقد حصل بفضل مواهبه الخطابية على مركز فائق جدا. ولست متاكدا من انه ليس من الحكمة ان نحصل على تاييده للحكومة بدلا من ان نجعله معارضا لها في حالة ابعاده عن الوزارة".

وفي الواقع. لقد كانت لندن لا ترغب في احداث اي تغيير في الوزارة فهي لا تميل الى تعيين رجلين مثل سعد وفهمي، كما رات الا تنفذ اي طلب للسلطان خوفا من اثارة ما كانت تلك الحكومة تعتبره سياسة خطرة تخفف من الرقابة الانجليزية الشديدة.

واخيرا فقد كان ابراهيم فتحي من مؤيدي الحماية وعميل من عملائها، ومذكرات سعد مليئة بشوقه لدخول الوزارة وفي كثر محادثاته سواء مع رشدي ام السلطان ثم مع مكماهون وونجت.

ولقد استطاع ونجت ان يلعب دورا مهما في هذه الازمة وكان موقفه متناقضا، فقد راينا كيف اظهر رغبته في تعيين الوزيرين، ولكن لويد يصرح بان ونجت هو الذي رفض اقتراح السلطان ويؤيده في ذلك سعد اذ يقول "ان ونجت لا يرى وجا لتغيير وزارة الاوقاف لان وزير هذه الوزارة عرضة للقيل والقال فلا ينبغي تصديق كل ما يقال في حقه".

ويرجع سعد الى ان سبب عدم تعيينه في الوزارة هو ان برونيات – المستشار الشرعي لدار الحماية – راى ان في اشراك سعد شيئا سياسيا وقد كانت سياسة انجلترا في ذلك الوقت هي اسكات اي صوت يمكن له ان يعارض او يناقش اي امر من الامور فرضتها الحرب على مصر.

وأخيرا وضعت انجلترا حدا لكل هذه المساعي وجاء خطاب من لندن في 13 ديسمبر 1917 بان الحكومة الانجليزية لا ترى محلا للتغيير في الوزارة ولا في السياسة اثناء الحرب، وان فتحي حاز لثقة مكماهون وكتنشر ولم يثبت عليه شيء مما نسب اليه، وكان من المتوقع ان ترفض شخصية سعد زغلول فهو معروف كما اقر ونجت انه شريك مخالف وان سياسته دائما هجومية على الوزارة، وسحبت التغييرات المقترحة على الفور.

وهكذا عندما اراد السلطان – منذ بادئ الامر – ان يستغل الموقف لمصلحته الشخصية، بان يكون المصدر الرئيسي لتعيين الوزراء، اذ كانت تسيطر عليه فكرة بانه انسان رفيع الشان، على المقام، فالوزراء لم يوجدوا الا لتقديم النصح له، وانه يجب ان يتحكم فيهم، ضربت اراداته عرض الحائط.

وقد اثرت فيه هذه الازمة والمته كثيرا حيث قال في حديث له مع سعد: "ولقد تكلمت مع ونجت في حقوقي بالنسبة لتغيير الوزراء وهو ما كان للخديوي فقال ان الحماية من شانها الا تبقى تلك الحقوق على حالها".

وفي تقرير ارسله ونجت الى حكومته يعلل فيه الباعث على سلوك فؤاد هذا بخوفه من الخديوي السابق وفي حقيقة الامر ان فؤاد اراد مناواة انجلترا من ناحية ومن ناحية اخرى فقد كان يشعر ان الامة غير راغبة فيه لذا اراد ان يعوضهم ويجعل من نفسه شخصا محبوبا بان تكون وزارته مرضي عنها بتعيين هذين الرجلين. هذا بالاضافة الى رغبته في الاستفادة منهم في ادارة امور البلاد، كما ان شعوره باحتقار رشدي له جعله ايضا يطلب ذلك.

وهذا الامر يعده بعض الانجليز – خطا سياسيا كبيرا من جانب الحكومة الانجليزية اذ ضاعت بعدم ادخال سعد زغلول وعبد العزيز فهمي الوزارة، ضم العناصر الوطنية الى الحكومة، وان هذا الخطا السياسي ليبدو جليا جدا في ضوء ما حدث بعد ذلك بعام.

ساءت العلاقات بين الانجليز وفؤاد ولم يحدث ما كانت تتوقعه. فهي اختارت فؤاد حتى لا يخلق العقبات امامها وفعلا حدث منذ ان تولى العرش ان سهل لها امورا ولكن ليست كل الامور التي جعل عجلتها تدور، انه فعلا جند المصريين لها، اعطاها كل شيء لدرجة انه وهبها ثلاثة ملايين جنيه لكنه في نفس الوقت راح يناوئها ويحاول ان يمارس اوتقراطيته عليها لكنه بفشله في تنفيذ اي شئ اراده مضى يمارس تلك الاتوقراطية على الوزراء محاولا السيطرة عليهم، فساءت العلاقات بينهم

فكتب ونجت الى حكومته يقول: "انني افهم لماذا يفضل بعض الوزراء كمال عن فؤاد، ان كامل كان يمثل بالنسبة لهم قوة أكبر، وهو راعي لحقوق المصريين اكثر من فؤاد" وكثيرا ما صرح اسماعيل سري بان فؤاد رجل استبدادي بالرغم من انه كان يرغب في ان يجعل سري رئيسا للوزارة بدلا من رشدي الذي كان يكرهه. وقد نتج عن ذلك ان اصبح رشدي غير قادر على تسيير امور الحكومة، فاصبح لا يدرس اغلب المسائل التي تعرض عليه في مجلس الوزراء، " واذا استفهم مستفهم من زملائه عن امر ما يكون خاصا بوزارة الداخلية التي يتولى امرها ارتبك في الجواب".

ويتابع سعد بصدد سوء هذه العلاقة: "فهمت منه – السلطان - انه غير راضي عن رشدي ومن اسباب عدم الرضا التي ذكرها انه كان يدافع عن ابراهيم فتحي الى اخر لحطة. وانه لم يرتب التغيير للترتيب الذي يؤدي الى النجاح، فكان يلزم ان يسعى اولا في الاسقاط – اسقاط فتحي – ثم في انتخاب غيره، ولم يفعل ذلك وبعدان حصلت المعارضة – معارضة لندن – في التغير حضر مع ابراهيم فتحي وتركه تحت وصعد هو وطلب تسامح عظمته فرفض بتاتا – السلطان

وقال ان رشدي باشا اراد بهذا ان يسلبني كل مسئولية على قلت ان مقاصد مولان السامية لا تستحق الا كل تعضيد قال متاثر كان هذه الكلمة مست موضع الالم اليس كذلك اني لا استحق هذا، قلت كذلك يا مولاي، ولكن قصد رشدي لا يمكن ان يكون سيئا، وان كان الخطا في قوله، وقد علمت منه انه كان مستعدا استعدادا تاما لان يضحي بمركزه خدمة لعظمتكم وتنفيذا لكلمتكم

قال عظمته اعلم ذلك وقد قدم رشدي بالفعل استعفاء بغير تاريخ، فقلت ارخه يوم 16 ديسمبر، وما اردت بالطبيعة ان استعمله ضده ولكني اطلعت عليه ونجت ومن هذه الاسباب ايضا انه تكلم مع برونيات وافضى اليه بخطته السياسية، فما كان من هذا الاخير الا ان سطر ما جرى منه بالقلم وارسله الى لوندره".

من هذا نرى مدى ما وصلت اليه العلاقة بين السلطان ورشدي وتصاعدت لدرجة ان رئيس الوزراء كان لا يزوره ابدا ليعرض عليه اي امر يختص بالوزارة. "وقد كانت الامور التي يقررها مجلس الوزراء تعرض عليه بعد ان يكون الاتفاق قد تم بين الحماية وبينهم. ولقد بلغ من الامر ان عرض عليه بيان الحكومة في مسالة احتكار القطن لنفسها باللغة الانجليزية التي لا يفهمها.

ورشدي باشا يسعى اغلب الاوقات الان في سراي السلطان ويكثر الاجتماع بالامير كما، ومقابلته في نادي محمد علي لجماعة من الانجليزي الذين حضروا للبحث في مسالة القطن، وكان هذا الامر مدعوا للعمل، ولم ياخذ عظمته خبرا بهذا الامر الا من رشدي، وسعى في ان يسرق من الاوقاف مقدار الف وخمسمائة فدان من اطيان المرحوم السلطان حسين بمبلغ مائة وخمسية الف جنيه".

اما الحكومة الانجليزية فقد سعت مذن البداية للتقليل من نفوذه حتى حينما اراد الحصول على قسط من الاصلاحات الخاصة بالامتيازات والتقدم الدستوري كان الرفض من سياستها، وقد احس ان موقفه سيكون صعبا اذا ما انتهت الحرب دون ان يحصل على اي امتياز مادي لمصر، لكن الانجليز ابوا "لانهم يريدون ان يفهموا عظمته من اول الامر الا يشارك في سياسة الملك" حتى لا يتوهم السلطان ان له سلطانا وان بيده وبامكانه الامر والنهي.

وخسر فؤاد .. خسر انجلترا ولم يستطع ان يكسب منها شيءا، خسر الوزراء وعلى راسهم حسين رشدي .. خسر الشعب فقد جاء بدون رغبته هذا في الوقت الذي لم ينجح ابدا في ان يجعل لنفسه شعبية بين المصريين.

نهاية الحرب وتاليف الوفد المصري

ظهرت ظروف دولية ساعدت على نهاية الحرب ولعبت دورا مهما في حياة مصر السياسية، وكان لها التاثير القوي على نفوس المصريين، فقد تغير الوضع الدولي في هذه الفترة. قام الروس بالثورة البلشفية عام 1917، وكان لسقوط روسيا القيصرية اولى نتائج هذه الحرب وعلى اثر ذلك انفجرت مراجل الشعور القومي في كل مكان، وكانت له انعكاساته في مصر.

كان العامل الثاني هو دخول الولايات المتحدة الامريكية الحرب بعد ان اى ولسون ان الانجليز وحلفاءهم لن يستطيعوا الثبات امام الالمان اذا لم تعاونهم امريكا بل وتشترك معهم في الحرب، ولكنه لم يستطع ان يقنع الشعب الامريكي بان انتصار المانيا يعرض سلامة الولايات المتحدة للخطر الا حينما ضربت الغواصات الالمانية البواخر الامريكية في عرض الاطلنطي. عند ذلك اعلن ولسون الحرب على المانيا. وهنا بدت للانجليز فرصة امل النصر وبخاصة بعد ان قاومت فردان الحصن الواقع بين المانيا وفرنسا مقاومة عنيفة بقيادة الجنرال بيتان. ومن هنا تغيرت كفة الميزان وازدادت رجحا بالنسبة للحلفاء.

عند دخول ولسون الحرب في جانب الحلفاء اعلن في 8 يناير 1918 مبادئ عامة اتخذتها العشوب نصيرا لها، اعلن تعميم "مبدأت مونرو" وتطبيقه في انحاء العالم، وبين ان لكل شعب حق في تقرير السياسة التي تتفق معه، وبان له الحق في تقرير مصيره هو وحده ولا احد غيره لا فرق بين شعب ضعيف واخر قوي، ونادى بانشاء جمعية امم لوضع الكفالات لضمان الاستقلال السياسي وسلامة الاملاك لجميع البلدان صغيرها وكبيرها على السواء، الى ان قرر ان الشعوب لا يجوز ان تنتقل من سيادة الى اخرى بمؤتمر دولي او باتفاق بين متنافسين واعداء، وان الاماني القومية يجب ان تحترم، وانه لا يجوز ان تساد الشعوب او تحكم الا بمخض ارادتها ورغبتها، واخيرا اضاف ان ممتلكات الدولة العثمانية يجب ان تكون سيادتها مضمونة.

واعتبر الناس ان تلك المبادئ انجيلا بين المتحاربين وعهدا صريحا بين المتحالفين ومنهم انجلترا التي صرح رئيس وزرائها مستر لويد علنا باقتناعه بهذه المبادئ وبان بلاده تلتزمها بعد الحرب، كذلك وافقت فرنسا عليها. جاءت تصريحات ولسن املا لكل امة ضعيفة، اعتبرتها دستورا وميثاقا وازدادت فرحتها عندما صدر التصريح الانجليزي الفرنسي في 7 نوفمبر 1918 والذي انصب على انصاف الشعوب العربية التي كانت تخضع للحكم العثماني.

بالاضافة الى ذلك، فقد ظهرت مملكة العرب كدولة مستقلة عقب قيامها بالثورة على العثمانيين فتلك البلاد المتاخرة حضاريا نالت هذا الاستقلال بفضل معاونة انجلترا لها، فمن مصر خرجت الثورة العربية ومراسلات الحسين مكماهون تكشف عن التعضيد الانجليزي للعرب والايعازب الثورة ضد الاتراك بل ومساعدتهم في الهجوم على الجناح التركي.

وفي 18 يوليو 1918 شرع الحلفاء في شن هجماتهم على الجيش الالماني، الذي دب فيه الياس واستسلم للقنوط. وبدا كل شي مبشرا للحفاء بالظفر، وفي نوفمبر قامت الثورة في المانيا واضطرت الحكومة الالمانية الى طلب الصلح، كما طلبته تركيا، واستسلمت النمسا وبلغاريا وبقية دول وسط اوروبا. كان لانهيار الدولة العثمانية صاحبة السيادة على مصر وانهزامها سببا في ايقاظ الوعي القومي في الشعوب العربية وخاصة في مصر اذ اصبحت غير مدينة بالتبعية لها.

وكان لتحرر شعوب وسط اوروبا من الحكم العنصري والالماني والنمسوي، ونيل كل من العرب والبلغار واليوغسلاف والسلوفاك استقلالهم، واشتداد الحركة الثورية في ايطاليا والمانيا لدرجة ان الجماهير الشعبية هناك اوشكت على قبض السلطة، هذا كله جعل المصريين يتوقعون هم ايضا بتغيير الحكم في بلادهم، هذه الاحداث بالاضافة الى الاوضاع الاجتماعية داخل مصر دفعتها للالتحام مع انجلترا.. فان الاحتلال والحركة الوطنية تجاهه ووضع مصر اثناء الحرب تفاعل كل ذلك وتبلور في صحوة جديدة.

وقفت مصر منذ اوائل القرن العشرين تشهد تلك الحركات الاستقلالية متمنية ان ينالها هي الاخرى هذا الاستقلال، رات ايران قد نجحت في االوقوف امام الاستعمار وقامت بثورتها 1905، وتركيا حيث تمكنت تركيا الفتاة من الاطاحة بالسلطان عبد الحميد واقامة حكم نيابي، وحتى افغانستان اعلنت ثورتها ضد انجلترا ونجحت في ذلك، وتلك الانتفاضة الثورية في الهند، وثورة ايرلندا التي اثبتت انه من الممكن لامبراطورية بريطانيا العظمى ان تنسلخ منها مستعمراتها.

احست مصر بان الوقت قد جاء، فان انجلترا افهمتها ان اعلان الحماية عليها جاء نظرا لظروف الحرب، وادخلتها بالتالي في حرب لاناقة فيها ولا جمل . قدمت مصر جميع مواردها .. جعلتها رهن اشارتها.. فحاربت وضحت برجالها حتى ان اللنبي قائد الحملة المصرية اعترف بان الجانب الاعظم من الفضل في نجاح حملة فلسطين وسوريا انما يرجع الى مصر.. وحارب المصريون في فرنسا وفي الدردنيل وفي السودان وفي الجزيرة العربية.. انهم اعتقدوا انه سيطبق عليهم المبدا القاضي بالا تحكم الشعوب على غير رضاها.

وبدا الشعب بجميع طبقاته ينتظر خيرا من انجلترا بعد تلك التضحيات الكبرى، هنا وفي تلك الفترة بدات الحركة الوطنية تظهر بوضوح بعد ان كتمت انفاسها حوادث الحرب، وبعد ان تاكدت ان النصر اصبح لانجلترا وحلفائها ولم تعد هناك دولة عثمانية صاحبة سيادة شرعية على مصر.

كان شعور المصريين منذ نشوب الحرب متجها للدولة العثمانية صاحبة الخلافة والحق الشرعي في مصر وكانت اغلبية الامة المصرية تتمنى فوز الاتراك والالمان. ولكن بانحدارهم رأوا ان تركيا والمانيا لن يقدرا على تخليصهم من الانجليز، اذن لابد من الوقوف امام انجلترا وجها لوجه وخصوصا بعد ان نشر في الصحف موافقة بعض الدول من حليفات انجلترا بالحماية على مصر واقرار النظام السياسي الكائن فيها.

وقد فكرت الطبقة الحاكمة ايضا في وضع مصر وعلاقتها مع انجلترا وانه بانتهاء الحرب يجب ان تنظم الحماية في اطار يمنح بعض السلطة لمصر. وكان في نية السلطان حسين ان يسافر بعد انتهاء الحرب مباشرة الى لندن لتنظيم الحماية غير انه كان لا يطمع في اكثر من توسيع درجة الاستقلال الداخلي في ظل الحماية البريطانية، وعندما بدا في الافق ان النصر لبريطانيا يبدو قريبا بما يرضي الامة فعهد الى رشدي بهذه المهمة وتنفيذ المشروع ولكن مرض السلطان ووفاته حال دون ذلك.

وتدرج الامر الى ان قام رشدي وعدلي في الايام الاخيرة من الحرب بوضع مشروعات لم تخرج عن الحكم الذاتي وتوسيع اختصاصات الجمعية التشريعية، وكانا يرغبان في السفر الى لندن لنفس الغرض الا وهو تنظيم الحماية. وفي واخر أغسطس 1918 اتفق السلطان فؤاد مع رشدي على ان نهاية الحرب ستكون فرصة لتحديد شكل الحماية باعطاء جزء كبير من الاستقلال الذاتي. ومن هذا يتضح ان الوقت قد حان لاعطاء مصر، وقد اختلفت وجهات النظر في الشيء الذي يعطي لها بين المصريين وبين السلطان ووزرائه.

مضى الذين كانوا ينتظرون نصرا المانيا وعثمانيا ويرحبون به فيما مضى، وجدوا الان ان الفرصة قد حانت لتغيير موقفهم، فقاموا يرددون بان مصر بمساعدتها للحلفاء ماديا وادبيا لها الحق في ان يعم هذا النصر عليها، وان ينالها الاستقلال، اما المعتدلون راوا ان الوقت قد حان للمطالبة بحكم ذاتي طبقا لما صرح به الساسة البريطانيين مرارا من ان تدخل انجلترا في مصر تدخل وقتي.

كان ونجت على دراية تامة بالشعور العام وقتذاك فارسل الى بلفور وزير الخارجية يبلغه بان التصريح الانجليزي الفرنسي له رد فعل في مصر بين طبقات الامة بان تعامل مصر بنفس المعاملة. وابان بان هناك شائعات لا يمكن تجاهلها تقضي بان المصريين يريدون مندوبا امريكيا ليبلغ امانيهم الى ولسن ثم اضاف اليه قائلا: "فاذا كان في امكانك ان تزودني ببعض التوجيهات بالنسبة لوجهات نظر حكومة جلالته في حالة بحث الصحف لموضوع مستقبل مصر فسيكون لذلك مساعدة كبيرة لي".

واهتمت وزارة الخارجية بالامر واقترح رئيس القسم المصري في الخارجية البريطانية صيغة للرد على ونجت بين فيها بان مصر وضعت تحت الحماية البريطانية نتيجة لعمل تركيا وانها بذلك اصبحت جزءا من الامبراطورية البريطانية، وبذلك ليس للرئيس ان يتدخل في شئونها.

وعلى الفور ارسل جراهام لونجت يقول: "نحن لا علم لنا بوجود المطالب الوطنية التي اشرت عليها ولا بالطريقة التي ستقدم بها ولابد قبل ادخال اي تعديل على النظام القائم في مصر من بحث عميق واخذ راي المسئولين الانجليز والمصريين، واود ان اؤكد لك اننا سوف لا نتخذ قرارا في هذا الشان الا بعد التشاور معك".

ويذكر محمد بهي الدين بركات: "وبينما نحن في هذه الحال اذ بنا نسمع مفاوضات الهدنة بين الالمان والولايات المتحدة وفيها يؤكد ولسون انه متمسك بخطته التي قالها في 8 يناير وما بعدها كاساس لصلح عادل، فطربنا لهذه النغمة وقال كل في نفسه هل لمصر حظ في الصلح القادم بصفة كونها من الشعوب الصغيرة التي نادى باستقلالها رئيس الولايات المتحدة الامريكية، وهلا تسري على المصريين القواعد التي فاه بها من حيث وجوب اشراك الامم الحاكمة او المستعمرة؟".

من هذا يتبين ان مبادئ ولسون وموافقة انجلترا عليها قد لعبت دورا مهما وايقظت الاماني الوطنية واثرها كان واضحا عليها، لقد نظموا لطريق واحد هو تحقيق مطالبهم بالاستقلال والحكم الذاتي.

وفي اثناء ذلك انتشر خبر مذكرة برونيات فخلقت عاصفة من الاحتجاجات والغضب لدى المصريين، وتتابعت التقارير ونجحت على اثر ذلك لوزارة الخارجية محذرا من تحفز المصريين للمطالبة بحقوقهم وبضرورة تحديد معنى الحماية وبين رغبة المصريين – من السلطان الى الفلاح – في تحقيق استقلال مصر الذاتي.

تبع ذلك ظهور فكرة ارسال وفد رسمي لمؤتمر الصلح للمطالبة بحقوق مصر، واعتبار مسالة مصر دولية وليس لاي دولة ان تنفرد بالنظر فيها. وان هذه المسالة تحتاج الى درس وتمحيص مثل اجتماع المؤتمر حتى لا ياتي يوم انعقاده الا ومصر مستعدة للمطالبة بحقوقها كاملة.

وقد تعددت الروايات واختلفت الاراء في صاحب الفكرة في تاليف الوفد المصري، فالرواية الاولى بان عمر طوسون هو المحرك الاول لفكرة انشاء وفد وارساله للمطالبة بحقوق مصر ويرجع السبب في انه فكر في ذلك للضغط الذي مارسته السلطة العسكرية عليه . يذكر سعد في مذكراته: "وهو – اي عمر طوسون – يشكو من السلطة ومصادرة اطيانه في ابي قير". هذا بالاضافة الى ميوله العثمانية، اذ كانت معروفة، فموقفه من تركيا في حربها ضد ايطاليا في طرابلس وقيامه وقتذاك بالدور الكامل لمساعدتها، فهذا مما دفعه الى الوقوف ضد انجلترا.

وقد تكلم عمر طوسون مع محمد سعيد في شان صلة مصر بانجلترا على ضوء تصريحات ولسون والتصريح الانجليزي الفرنسي فاقترح عليه محمد سعيد ان يتكلم مع سعد زغلول لشخصيته البارزة في الهيئة الاجتماعية وفي الجمعية التشريعية.

اما الرواية الثانية فتبين ان اعضاء في الجمعية التشريعية هم الذين خلقوا فكرة ارسال وفد لمؤتمر الصلح اذ تقول انه: "في يوم من ايام شهر سبتمبر 1918 بينما كان لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمي خارجين من مجلس ادارة الجامعة المصرية، واثناء سيرهم اعترض محمد محمود السبيل واضعا العصا امامهم في عرض الرصيف وقال: "الى اين تذهبون؟ انني اريد ان اتحدث عن مصير مصر. لقد انتهت الحرب وستحصل الهدنة ولابد من النظر في تاليف وفد كي يسافر للمطالبة بحقوق مصر.

وذهبوا الى منزل والد محمد محمود واستدعوا علي شعراوي وتناقشوا في ضرورة السعي للحصول على حقوق البلاد فابى سعد زغلول موافقته على ذلك قائلا: "ان الوقت غير مناسب لان الانجليز منتصرون وعددهم ومعداتهم كثيرة تملا البلاد. وهذا وضع لا امل معه في الحصول على شيء منهم. ثم استطرد سعد قائلا: "ارى الاول ان تؤلف جمعية يساعد اعضاؤها بعضهم بعضا".

وابدى عبد العزيز فهمي المخاوف من ذلك لان جمعية من هذا القبيل تكون بطبيعتها سرية وذلك مخالف للقانون ويدخل تحت العقاب فاجابه سعد: "اذن تكون جمعية اصدقاء". وقد قال عبد العزيز فهمي في خطبة له في 13 فبراير 1925 بعد ان اصبح رئيس حزب الاحرار الدستوريين: ".. وعندما شرعنا في تاليف الوفد بالحاح المرحوم علي شعراوي وسعادة محمد محمود باشا واجتمعنا لاول مرة في منزل سعادة محمد محمود نفر سعد من الفكرة بدعوة قوة الاحكام العرفية، واردنا ان نؤسس جمعية يكون الغرض منها السعي في مصالحنا الشخصية - او بالعربي الفصيح كما افهمنا – ليعينه على تحقيق ما يتطلع اليه من كرسي الوزارة فنفرنا منه واسفنا جميعا على انه كان معنا".

وفي حقيقة الامر فان مذكرات سعد زغلول تعكس رغبته لدخول الوزارة وبالسعي لدى الجهات لتحقيق ذلك، ولا يستبعد اطلاقا ما بينه وبين عبد العزيز فهمي ولكن يجب ان يؤخذ موقفه بشئ من الحرص.

ولما وجد سعد ان الامة مستعدة للنضال، واستاء من حالة مصر السياسية غير سياسته وراى ان يتصدر هذه الحركة اذ يقول في مذكراته:

"لقد فاتحت بعضهم في لزوم التفكير في مصيرها – مصر – بعد الحرب". من هذا نرى انه نسب لنفسه اولوية التفكير، وعلى اثر ذلك دعا اصحابه محمد محمود واحمد لطفي السيد وعبد العزيز فهمي الى عزبته بمسجد وصيف للتحدث فيما ينبغي عمله عندما تسنح الفرصة للبحث في المسالة المصرية بعد اعلان الهدنة فاجاب الدعوة محمد محمود واحمد لطفي السيد واعتذر عبد العزيز فهمي لمرضه.
وقد فكروا مليا في الكيفية التي يطالبون بها الانجليز لحق مصر، وفي اثناء رجوعهم قابلوا ابراهيم الهلباوي وفاتحوه في الموضوع وكلفون بنشر الفكرة بين المحامين وبذكر الهلباوي: "انه في خريف 1918 فكر الاستاذ احمد لطفي السيد وبعض اصدقائه في تالف وفد تكون مهمته اداء هذا الواجب – عرض قضية مصر على مؤتمر الصلح – وفي ذات يوم وانا عائد من قريتي بالبحيرة صادفت الاستاذ لطفي السيد مع المرحوم سعد زغلول باشا اتيين من مسجد وصيف وعلمت منهما انهما كانا يتداولاون اثناء السفر هذا الامر وعرضا علي ان اكون معهما.
فحبذت الفكرة وقلت انا معكما قلبا وقالبا بشرط الا ابرح مصر لان مركزي في مكتبي واشغالي في مزارعي لا تسمح لي بالسفر معكم الى الخارج. ومن فكرتي هذه خلقت فكرة جديدة وهي ان يكون الوفد ذا شقين: شق يسافر وآخر يبقى باسم لجنة الوفد المركزية".

اما الرواية الثالثة فهي ترجح فكرة تاليف الوفد الى رشدي، فقد كان يعلم مدى تهاونه في حق الشعب المصري وفي كل الاجراءات التعاونية التي نفذها لصالح الانجليز، فبوصفه مسئولا عن استرداد الوديعة التي في حوزة انجلترا فاتح عدلي واتفقا على مخاطبة من يثق بهم من رجال الامة على مطالبة الانجليز بحقوق البلاد وكان يستدعيم اليه بواسطة سكرتيره فردا فردا وباسم غير اسمه حتى لا يلفت نظر السلطة الى اجتماعاته بهم وكان اول من خوطب سعد زغلول وعبد العزيز فهمي ولطفي السيد. وقد وضع رشدي وعدلي مشروعا لتنظيم الحماية وفكر رشدي في السفر وتخابر مع قنصلي امريكا وايطاليا بشان سفر البعض للخارج.

وفي مقابلة بين سعد زغلول ورشدي في نادي محمد علي فتح الموضوع وبين سعد سعى زملائه معه في قضية مصر فرد عليه رشدي: "اننا نحن والسلطان فؤاد متفقون على السفر لاوروبا للمطالبة بحقوق مصر، وبين له ان من المصلحة ان يكون الى جانبنا فريق من الامة يدافع عن حقوقها نعتمد عليه لاخذ شيء من الانجليز".

هكذا اختلفت الاراء والروايات في صاحب الفكرة الاساسية لمشروع الوفد ومن المرجح ان الامير عمر طوسون هو صاحب الفكرة في تاليف الوفد، وانه لما احس سعد بذلك خشي ان يفلت الامر من يده والا يكون له في الامر شيء فاسرع يعقد الاجتماعات في داره ووضع لهذا الامر اعتباره ليتزعم هو الحركة.

وعقب ذلك تم اللقاء الاول بين طوسون وسعد زغلول لما له من مكانة بين الهيئة الحاكمة من ناحية وبين الشعب من ناحية اخرى، ويذكر سعد تفاصيل تلك المقابل فيقول:

"في المساء حضرت وليمة رشدي باشا وجلست بجانب مستر شيتهام وفندت له نظام مجالس المديريات ونظام سائر الهيئات النيابية المصرية، ثم قابلني البرنس عمر وقال لي اني افكر في ان يقوم من المصريين طائفة للمطالبة بحقوقها في مؤتمر الصلح، فقلت فكرة جميلة جالت في بعض الرؤوس من قبل وقد ان الان اوانها، فقال تامل فيها وانظر من يساعد عليها، ثم انصرف كل منا عن صاحبه
وزرت محمد سعيد في اليوم التالي فحادثني في هذه المسالة، ثم توجهت معه عند محمود صدقي فتلاقيت مع عدلي وتكلم معي في تلك المسالة، وراينا الاوفق توسيط قنصل امريكا، فاجتمع به رشدي ولطفي السيد واتفقوا على ذلك، وفاتح هذا القنصل فلم يجد عنده استعدادا لتاييد المساعي وقال ليس هنالك الا واحد من طريقين اما ان تطلب تركيا استقلال مصر بان تقول انها تركت اليها حقوقها واما الالتجاء الى الحكومة الانجليزية".

اتفق لطفي السيد وعبد العزيز فهمي محمد محمود وسعد زغلول على الاجتماع لمناقشة تلك المسالة ووضع حل لها وفي ضرورة عمل شيء خصوصا بعد ان رفض قنصل امريكا التابع لصاحب المبادئ الاربعة عشر التوسط او المساعدة لامة تريد تقرير مصيرها.

بدات اخبار الصلح تنشر في الصحف وبدا سعد يرتاب من اجتماعاته هذه للمطالبة بحقوق مصر اذ يقول:

"وفي اليوم التالي – 10 أكتوبر 1918 – ذهبت مع محمد محمود الى عزبة مسجد وصيف وتغيب لطفي بك السيد وتخلف عبد العزيز بك فهمي واقمت يومين وليلتين ثم عدنا وقرات في الجرائد اخبار الصلح ولم نهتد الى طريقة والاولى بنا السكوت وصرف النظر عن هذه المسالة".

من هذا يتضح ان سعدا لم يكن محركا للمسالة بل انه في كثير من الاحيان كان يصمم على ترك هذا الموضوع ويتحجج في ذلك بقوله: "انه لا يمكننا فعل شيء ما دامت الاحكام العرفية جارية التي ساد الخوف منها قلوبنا".

وفي اواخر أكتوبر 1918 قدم رشدي وعدلي لونجت مشروعا لتنظيم الحماية، وهو مشروع يعارضان فيه مشروع برونيات. وردت انجلترا على ذلك بمشروع آخر اذ يذكر سعد: "ان الحماية قدمت مشروعا يقضي باعطاء مصر استقلالا داخليا تاما في مقابل رضائها بالحماية وانه من المصلحة جدا كما اشار عبد العزيز بك بان تعم هذه القضية ويعتقدها الناس".

كان ونجت قد اثارت ريبته كل هذه التحركات فهو على علم بكل ما يدور فيها وبتحفز كل المصريين ضد انجلترا فاسرع بمحاولة احتواء واقام حفلة في الإسكندرية في 22 أكتوبر 1918 دعا اليها الامراء واكان من بين المدعويين حسين رشدي وعدلي يكن ومدحت يكن ومحمد سعيد والامير عمر طوسون وسعد زغلول. وبالرغم من ان ونجت قد بث عيونه وارهف سمعه لكل ما كان متوقعا ان يتبادله هؤلاء من احاديث سياسية فقد انتهزوا فرصة هذا اللقاء وتحدثوا في الوضع الراهن وفي ضرورة عرض قضية مصر على مؤتمر الصلح.

وفي لقاء آخر بين سعد والامير طوسون احس سعد انه يمكن الاستفادة من اموال الامير ويذكر فتح الله بان سعد قد منى نفسه بمساعدة البرنس له بالاموال، فاخبر اخوانه بانه يوجد من يساعدهم بالمال ولم يذكر اسمه. وبين سعد للامير ان المشروع يحتاج الى مائة الف جنيه وبانه يشك في ان المصريين يدفعون مبلغا جسيما مثل هذا وانه ممكن لعلي شعراوي ان يدفع عشرة آلاف جنيه ولكنه يشك في ذلك أيضا.

من هذا يتضح ان سعدا عندما راى ان هذا الموضوع اصبح جديا، والجميع يخوض غماره اراد ان يظهر على مسرح الاحداث ويكون هو بطل الرواية حتى اموال المشروع اراد ان يوجه ذكاءه للاستفادة من الامير بالحصول عليها من دون ذكر اسمه وذلك لقدرة سعد للسيطرة على الموقف، لكن الامير لم ينسق لذلك وراى الاكتفاء بكتابة عريضة بعد انعقاد مؤتمر الصلح بها مطالب مصر، يوقع عليها الاعيان وترسل الى القناصل وتشرح فيها المسالة المصرية.

عارض سعد وافهم طوسون ان مثل هذه العريضة لا تاتي بالفائدة المقصودة لاحتمال معارضتها بعريضة اخرى يمكن الحصول على توقيعات عليها يزيد عددها بكثير عن عدد التوقيعات الاولى، وان المفيد هو سفر البعض للخارج للمطالبة بحقوق مصر من الدول امام مؤتمر الصلح، وعرض له بان ذلك يحتاج الى المال وان كان المال لا يمكن تدبيره الا بطريق جمعه من الناس فهذا احتمال يستدعي اذاعة الخبر

وحينئذ ياخذ الممثلون الطريق على المصريين فيسدون باب السعي في وجوههم، وبعد ان شرح ذلك طويلا وافاض فيه كان جواب الامير استحسان تقديم العريضة، ففهم سعد من ذلك انه لا يريد ان يدفع المال، وتم الاتفاق بعد ذلك على عقد اجتماع مع محمد محمود، لطفي السيد، عبد العزيز فهمي وغيرهم، للبحث في المشروع واذا منع هذا الاجتماع يرسلون منشورا الى ممثلي الدول يخبرونهم فيه بالمنع وبمطالب مصر.

وقد اهتم لطفي السيد ومحمد محمود بضرورة ايجاد حل للمسالة وراوا ان اول طلب يطلبونه هو "الغاء الاحاكم العرفية وانه عند الكلام فيه يحصل الكلام في غيره بطريقة عرضية جسا للنبض، وقد علموا من رشدي انه يمكن السفر الى الخارج".

وفي 9 نوفمبر ذهب علوبة عضو الجمعية التشريعية الى منزل سعد والتقى به

"قلت له ان الحرب قد انتهت بظفر الانجليز وحلفائها، وان الهدنة ستعلن عما قليل، وقد اعلن ولسون مبادئه كما اعلن لويد جورج تاييد هذه المبادئ. وان علينا كاعضاء الجمعية التشريعية وكنواب عن الامة نحو هذه الامة، وانت الوكيل المنتخب عن الجمعية التشريعية اصبح واجبك اكبر من واجبنا. فما الذي نعمله؟ فسالني سعد وما الذي يقضي ان نعمله؟
فاجبته بان الفكرة فيما يجب ان يعمل – اي وسيلة – لم تتبلور في ذهني ولكن المحقق هو ان من الواجب علينا عمل شيء لمصلحة بلادنا بتكوين جمعية مثلا تسعى في تحقيق ما تصبو اليه البلاد اعتمادا على مبادئ ولسن ولا زلت اكرر لك يا باشا انك المسئول الاول امام الشعب، فاجابني بان بعض اصدقائهنا قد فكروا في هذا الامر وانه يتداول معهم فيما ينبغي ان يعمل. وعند اتفاقهما على الفكرة تخبري بالنتيجة حتى نكون معا لتحقيقها، كما انه سيخبرهم بمسعاي".

وفي الوقت الذي كانت فيه الاجتماعات تعقد في بيت سعد وغيره من اعضاء الجمعية التشريحيعة لايجاد حل للمسالة المصرية والمطالبة بحقوق مصر، قامت حركة من بعض الشبان المصريين، فقد حدث ان اجتمع فريق من اعضاء المدارس العليا وهو يضم نخبة من الشبان المثقفين – عملت انجلترا له حسابا واغلقته ومنعت اجتماعاته في اوائل الحرب – قد تذكروا في حقوق بلادهم وضرورة المطالبة بها.

وكان هذا الفريق يضم مصطفى النحاس وهو قاضيا بمحكمة طنطا، وعلي ماهر مدير ادارة المجالس الحسبية بوزارة الحقانية، وامير الرافعي الصحفي، وقد كانت افكار هؤلاء الثلاثة اميل الى مبادئ الحزب الوطني، وفي سبتمبر 1918 عقد اجتماع في سان استفانو بالإسكندرية بين مصطفى النحاس وعلي ماهر ودار الحديث عن مبادئ ولسون وقرب الهدنة، وكان النحاس على صلة بسعد من عدة نواحي لذا اتجهت نيتهم الى سعد واخوانه من اعضاء الجمعية التشريعية للقيام بعمل لصالح مصر

وعلى الفور قصد كل من النحاس وعلي ماهر سعد زغلول وعرضا عليه ما فكرا فيه "وكلمته في الموضوع فقال لي كويس، ولكن فيه سوابق غير مطمئنة في ذلك وفي الهند قامت مثل هذه الفكرة وكب فعلا تقرير بذلك وارسل الى ولسون فكانت النتيجة ان هذا التقرير وصل الى نائب الملك في الهند فقبض على الذين قدموه".

اخفى سعد عليهم ما يقوم به هو وزملاؤه لانه كان في اعتقاده ان الاوان لم يكن قد ان لاظهاره الا ان النحاس وعلي ماهر لم يقتنعا، يقول النحاس:

"وفكرنا في الطريقة فاما ان الشبيبة تقوم بالامر بما عندها من الحماس او يكون الامر للشيوخ، فراينا ان الامر اذا اوكل للشبيبة يقضى عليه، اذن فالاحكم ان نبتدئ بدور الشيوخ بحيث انهم يجب عليهم اين يقومون بحركة الاشعار الاولى، وافترضنا انه في ذلك الوقت سيقابل بالقمع وهنا ياتي دور الشبيبة وطرح امامنا هذا السؤال.... من نخارته من الشيوخ؟ لم يتجه فكرنا الا الى سعد باعتباره الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية فاتفقنا نحن الشبيبة على الذهاب الى عبد العزيز فهمي ليتوسط لدى سعود ليقود الحركة وكان عبد العزيز فهمي ساكنا في مصر الجديدة وكان علي ماهر ايضا ساكنا في مصر الجديدة".

تقابل علي ماهر مع عبد العزيز فرفض الفكرة ولكن النحاس لم يكتف وراى تكرار المقابلة فذهب مع علي ماهر اليه وعرض عليه الفكرة من جديد فوجدوه يمتنع ايضا وكانت حججه ان هذا كله غير منتج فرد عليه النحاس: "هذا هو تفكيرنا، وهذا التفكير يجب ان يظهر الى حيز الوجود، فاذا لم تفعلوا يا شيوخ سنبدا بدورنا نحن الشبيبة".

فلما اقتنع عبد العزيز فهمي بان حركة هؤلاء الشباب جدية كشف له عن مساعي سعد وزملائه، وافصح عن تلك الاجتماعات السرية المتوالية التي تتم في بيت سعد لهذا الغرض، وانهم فعلا قائمون بدور التنفيذ لاجل السفر للخارج وقال لهما "نحن سائرون في طريقنا" وطلب منهما ان يكون متصلين به اتصالا مستمرا حتى ياتي دورهم، مع سرية الامر بينهم.

هكذا اصبح سعد متزعما لهذا الحركة، وقد نجح في مسعاه فمنذ بادئ الامر استطاع ان يقود هذه المسالة متسندا لما له من شعبية، فكان حريصا على ان تكون الاجتماعات اما في بيته – الذي عرف باسم بيت الامة - واما في عزبته بمسجد وصيف.. لقد استطاع ان يجمع اكبر عدد من الشخصيات البارزة في ذلك الوقت امثال علي شعراوي وعبد العزيز فهمي ومحمد محمود واحمد لطفي السيد وعلوبة وعبد اللطيف المكباتي.

وقد توالت اجتماعاتهم وكانت سرية الى ان بلغ علي ماهر من الاستاذ سامي قصيري مندوب جريدة المقطم ان دار المندوب السامي لديها علم باجتماعات سرية تعقد في منزل سعد وانهم يترقبونها ويتبعون خطاها، فقال النحاس لعلي ماهر "يجب ان نذهب لعبد العزيز فهمي ونخبره، فاجابه اذن وجب الظهور". ولما علم سعد ان انباء اجتماعاته قد تسربت الى السلطة القائمة على تنفيذ الاحكام العرفية اسرع باعلان تاليف الوفد وبضرورة مواجهة الانجليز بالمطالب المصرية.

هذا في الوقت الذي كان فيه اهالي مصر على دراية ومعرفه بهذه الاجتماعات، فما ان جاء شهر نوفمبر 1918 حتى كانت مجالس القاهرة تتحدث عن اجتماعات سعد باخوانه من اعضاء الجمعية التشريعية، ورغبتهم في تاليف وفد يسافر الى باريس للمطالبة باستقلال البلاد لدى مؤتمر الصلح وكان الجميع يودون الوقوف على ما كان يجري وراء هذه الحجب الكثيفة لدرجة انهم علموا بالميعاد الذي حدده ونجت لمقابلة سعد واخوانه، وكانت احاديثهم تدور همسا في المجالس الخاصة لان الاحكام العرفية معلنة والصحف مراقبة.

اذن كان المصريون يشعرون بضرورة جني مصر ثمار النصر بعد تلك المساعدات التي قدمتها للحلفاء ولانجلترا بالذات، وبان الوقت قد حان لتقحيق الوعود التي قطعت لها. وبان ترفع عنها الحماية التي فرضتها عليها كاجراء حربي مؤقت لذا سعدوا لاجتماعات سعد واخوانه اذ اعتبروهم المنادون بحقوقهم وحينما قبضت السلطات على الزعماء كان ذلك ايذانا لثورة 1919.

وجاء دور السلطان فؤاد، فقد كان على علم تام بتلك الاجتماعات وبذلك الذي ينظره المصريون جميعا بعد انتهاء الحرب، فسعى هو الاخر الى محاولة لايجاد حل للمسالة المصرية فاجتمع مع بونجت في 3 نوفمبر 1918 وتكلم معه في رغبته بجعل مصر ملكية دستورية لها مجلس وطني وهذه المطالب هي مطالب شخصية لا اكثر ولا اقل، طلب ان يكون صاحب جلالة، ولكن طلبه هذا لم يجب عليه لانه كان من عادة ونجت دائما السكوت حتى يعرف راي لندن.

وهنا راى فؤاد ضرورة الاتجاه بتاييد الحركة الوطنية للمطالبة بحقوق مصر. فهذه فرصة لمناوأة انجلترا التي طالما عملت على الحد من سلطته واوقفته عند حده، وقد ابان لرشدي وعدلي انه موافق على المطالبة بمصر بشيء من انجلترا، وبدا يشجع على تاليف وفد لنفس الغرض، ويذكر عبد العزيز فهمي ان السلطان كان مؤيدا لهذه الحركة – تاليف وفد والسفر – " لأننا نحن – رشدي والسلطان فؤاد – متفقون على السفر لاوروبا للمطالبة بحقوق مصر. ومن المصلحة أن يكون الى جانبنا فريق من الامة يدافع عن حقوقها تعتمد عليه لاخذ شيء من انجلترا".

وعقب اعلان الهدنة راى فؤاد ضرورة بعث برقية الى ولسون يهنئه فيها بالانتصار الذي احرزه الحلفاء ويشيد بالدور الفعال الذي قامت به الولايات المتحدة الامريكية في كسب الحرب ورجا في ختام برقيته ان تكون المطالب المصرية موضع عناية الرئيس الامريكي وعطفه. وقد راى ونجت ان هذه البرقية هي نتاج ذهن اذكى بكثير من ذهن السلطان اذ يقول: "وانا ميال للاعتقاد بانها قد تكون من اعداد رشدي بالاشتراك مع محامي ايطالي قدير صديق للسلطان، كما اني ميال الى الاعتقاد بان لحزب سعد زغلول المتطرف اصبعا فيها".

وفي 11 نوفمبر 1918 حدث ان اجتمع لدى سعد زغلول بمنزله الامير عمر طوسون وابراهيم باشا سعيد ومحمد محمود باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز بك فهمي وابدى عمر طوسون رغبته في عقد اجتماع للمذاكرة في حالة مصر وما يجب ان يقدم لها من الخدمة، على ان يكون هذا الاجتماع من اعضاء الجمعية التشريعية ومجالس المديريات والعيان

يقول سعد: " فوافقت على ذلك وكتبت اسماء كثيريون من الذين ينبغي دعوتهم وكان هو يعارض في البعض ويملي البعض. واشتدت معارضته للهلباوي فاقنعنا بوجوب دعوته، فاقتنع بعد عناء، وبعد ان تم تحديد الاسماء التي يجب دعوتها كتبت صيغة الدعوة واخذها الامير لارسالها. وحصل الاتفاق على تحديد اليوم اما يوم الثلاثاء – 19 نوفمبر – القادم او يوم الاربعاء، ومكان الاجتماع قصر الامير بشبرا".

واختلفوا على صيغة الدعوة لهذا الاجتماع فكان راي الامير انها تكون "للمطالبة بحقوق مصر، ورأى آخرون ان تكون "للمطالبة باستقلال مصر". ووافق سعد الامير ليكون ذلك مدعاة لتسهيل السفر للخارج وهناك تحصل المطالبة بالاستقلال التام. وكتب لطفي السيد مسودة الدعوة، وعند الانصراف دعا سعد الامير لتناول الغداء عنده يوم الاجتماع، فقبل الدعوة وقال: "انه سيحضر معه امين يحيى، وهو معروف بموالاته التامة للسلطان فاكد ذلك الظن بان عظمته مرتاح الى هذا المشروع، ثم انصرف الامير ليوزع باقي اوراق الدعوة". واحتاطوا لتدخل السلطة البريطانية.

وفي 11 نوفمبر 1918 اعلنت الهدنة فتزاور وزراء مصر ورجال الحماية مهنئين بعضهم بعضا. وارسل ملك انجلترا الى السلطان فؤاد يشكره فيها على مساعدة مصر وبان مصر سينولها نصيب كامل فيما سيعم على الامبراطورية البريطانية من الرخاء.

وفي نفس اليوم اتفق سعد مع عبد العزيز فهمي وعلى شعراوي زميليه في الجمعية التشريعية وهذا لكي تتوفر الصفة التمثيلية – وذلك هو السبب في استبعاد لطفي السيد واحلال شعراوي محله – بان يطلبوا من دار الحماية تحديد موعد يقابلون فيه السير ونجت للتحدث معه في طلب الترخيص بالسفر الى لندن لعرض مطالب مصر على الحكومة الانجليزية بناء على نصيحة رشدي وبفضل وساطته.

وتررد ونجت ماذا يفعل؟ هل يمهلهم حتى يستاذن لندن؟ واخيرا بدا له انه من المفيد ان يلتقي بهم وان كان قد خشى ان يعتبر هذا اللقاء "اعتراف رسمي بريطاني" بان هؤلاء الزعماء يمثلون الشعب المصري، ولكنه تغلب على مخاوفه هذه بتحديد موعد للقائهم، لا لانه يريد ان يعرف راي سعد زغلول وجماعته فحسب، بل لانه كان يعلم ايضا انهم لم يطلبوا مقابلته بدون موافقة السلطان والوزراء، وبان هذه المقابلة لن تكون الا مناوشة اولية لابد ان يتبعها طلبات رسمية من السلطان ووزرائه.

وتحدد يوم 13 نوفمبر ولم يخبر سعد عمر طوسون بامر هذه المقابلة وهذا دليل على ان سعد احس بضرورة انفراده بهذا العمل وفي حقيقة الامر فقد ساعده على النجاح في ذلك شخصيته البارزة في الجمعية التشرعية وتزعمه المعارضة فيها. من هذا نرى ان المسالة المصرية قد درست تماما اثناء المرحلة الاخيرة للحرب والدليل على انه بعد يومين فقط من اعلان الهدنة اتصل على الفور المندوبون المصريون بالسلطات الانجليزية.

وقد تحولت الفكرة من السفر الى مؤتمر الصلح الى السفر للندن والاتفاق مع الحكومة الانجليزية وواضح ان سبب الاخذ بهذه الفكرة هو ان البلاد وقتئذ تقع تحت الاحكام العرفية، وكان الترخيص بالسفر تتولاه السلطة العسكرية. هذا بالاضافة الى ان سعدا وزملاءه من مدرسة تفضل التفاهم المباشر مع انجلترا، ومن ناحية اخرى فقد كان عمر طوسون هو صاحب الفكرة في ارسال وفد الى المؤتمر. لذا تمكن سعد – لكي يبعده – ان يغير الخطة ويجعل السفر للندن.

ويذكر محمد فريد

"ان القصد الاصلي كان الاقتصار على السفر الى بلاد الانجليز للاتفاق مع الحكومة الانجليزية على منح مصر بعض الامتيازات الداخلية".

وقرر سعد وزملاءه من اعضاء حزب الامة ورشدي وعدلي بعد عدة اجتماعات للبحث والمشاورة تاليف وفدين احدهما رسمي يمثل الحكومة قوامه رشدي وعدلي، والثاني اهلي يمثل الامة برئاسة سعد للسفر لانجلترا لحل القضية المصرية مباشرة مع الحكومة الانجليزية فاذا رفض مطلبه يطالب وفد الحكومة احتياطيا بالحصول على اكبر قسط ممكن من الحرية لمصر. وابان الوزيران ان مؤتمر الصلح سيوافق رسميا على الحماية وعليه لا يمكن ترك ماهيتها وكنهها بلا تعريف وتحديد، فقد كان لمصر تحت السيادة العثمانية حقوق معلومة وهما يريدان ان يعلما ما هي حقوقها على بريطانيا تحت رايتها.

فالوفد اذن ليس مؤمنا كل الايمان بان الحلفاء في باريس سوف ينصرون قضيته، وعد اعدة العدة لذلك بالتفاهم مع لندن ودعا هذا الامر لكل من رشدي وعدلي لتنظيم العلاقة بين مصر وانجلترا في حدود الاعتراف باستقلال ذاتي يهيئ لمصر التمتع في شئونها الداخلية بالنظام الدستورية.

ويؤيد علوبة ايضا ذلك بقوله:

"رايت هذه الجماعة – جماعة الوفد – ان تجعل فاتحة برنامجها ان تتجه الى الشعب البريطاني قبل كل شيء لنيل عطفه على مصر والمصريين، ولتبين الراي العام هناك ان النقطة التي تلتقي فيها منافع بريطانيا العظمى واستقلال مصر ليست نقطة معدومة بل ايجادها في حيز الامكان".

ويبدو من موافقة الحكومة على تاليف وفدين امر غير مالوف نظرا لان العرف قد جرى على ان تتولى الحكومات مهمة تسوية علاقاتها مع الدول الاخرى دون الحاجة الى وفود اهلية تصحبها، ولكنها تعلم – الحكومة – انها لم تكن لتستطيع ان تدعي تمثيل الشعب المصري لانها لم تتولى الحكم على اساس نيابي، كذلك فانها تدين بالتبعية للدولة صاحبة السيادة على مصر ، لهذا فان تاليف وفد يمثل الامة في حد ذاته يعزز مركز الحكومة المصرية اثناء عرض مطالبها.

ووضعت الخطة لابعاد عمر طوسون، اذ ان سعدا كان يعتقد ان الامير وصديقه محمد سعيد يبغيان المحافظة على السيادة العثمانية وهو يكره هذه السيادة بل ويقبل ان يتعاون مع الانجليز على ان يتعاون معها، كذلك خاف سعد من تزعم الامير طوسون المشروع ورغبته – كعادته دائما – ان يكون هو الزعيم. وهو المسيطر على الموقف، وتردد في ذلك الوقت من اعضاء الوفد بانهم يريدون هذه الحركة "حركة شعب لا امارة" وحركة استقلال لا خلاف".

وفي الوقت نفسه تدخل السلطان فؤاد وذلك لان الامير من الاسرة السلطنية. والسلطان لا يود تعكير العلاقات بينه وبين انجلترا عن طريق امير من اسرة محمد علي يقف امامها ويطالب بحقوقه، فهو غير مرتاح لظهوره كصاحب فكرة على راس هذه الحركة ودخول اعضاء البيت المالك في مازق سياسي من المفروض ان يكون في معزل عنه. أما من ناحية نفسية الملك فؤاد فكان يرتاب من زعامة الامير، ومن تنحيته عن العرش وتولي مكانه. كذلك لعب رشدي دورا مهما في ابعاد طوسون وذلك ايضا لمصلحته الشخصية فمحمد سعيد منافس رشدي حبيب لعمر طوسون، لذا خاف ان يقبض الامير على زمام الحركة ثم على زمام الحكم فيغير رئيس الوزراء ويعين محمد سعيد.

وتشكلت هيئة مكونة من سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي واحمد لطفي السيد وعلي علوبة ومحمد محمود من اجل المطالبة بحقوق مصر، وتم للثلاثة الأول ذلك اللقاء التاريخي مع ممثل الحماية البريطانية في 13 نوفمبر 1918، وتصدر سعد الحديث وطلب الغاء الاحكام العرفية والرقابة على المطبوعات، ثم اشترك الثلاثة في طلب الاستقلال التام وتحديد العلاقة مع انجلترا بصداقة الحر للحر لا صداقة العبد للسيد وعند الاقتضاء وجوب السفر لانجلترا لعرض مطالب مصر. وانه من حقها الاشراف على الدين العام واعطائها التسهيلات في قناة السويس، كما اوضحوا ان مصر بلد لها حضارتها التي ترتفع عن بلاد دونها حصلت على استقلالها.

وكانت تلك مواجهة صريحة وحازمة في وقت مبسوطة فيها الحماية معلنة فيه الاحكام العرفية، وانتقلت اخبار المقابلة الى المصريين في جميع البلاد. فكان اثر ها في النفوس التي تهفو الى الحرية والاستقلال اذ رات في عمل سعد وزميليه ما يروي ظمآها.

اما عن دور الحزب الوطني فانه في اليوم التالي لاعلان الهدنة اجتمعت اللجنة الادارية وقررت ان تستبدل بالمادة الاولى من مبائدها ما يأتي: "يطلب الحزب الوطني الاستقلال التام لمصر مع سودانها وملحقاتها استقلالا غير مشوب باي احتلال او حماية او شبه سيادة اجنبية او قيد يقيد هذا الاستقلال". وذلك رغم ان قيادة الحزب الوطني كانت بخارج مصر منذ هجرة فريد واضطهاد كتشنر لاعضائه ومغادرة الكثير من اتباعه مع بدء الحرب معتقدين انه يمكن لهم خدمة وطنهم وهم بالخارج بعيدا عن اعين انجلترا كما ان البعض منهم حاربته انجلترا ونفته خارج مصر ابان الحرب لكن رغم ذلك فان بقايا هذا الحزب قد ايقن اخيرا انه لا فائدة من الدولة العثمانية عقب انهزامها حتى محمد فريد نفسه فقد تغير من ناحيتها بعد ان ايقن نيتها.

الاعتراف الدولي بالحماية

منذ ان اعلنت انجلترا حمايتها على مصر، وهي تسعى بكل الطرق لجعل هذه الحماية شرعية. وذلك باعتراف اكبر عدد من الدول بها، لانها تعلم ان هذه الحماية التي فرضتها على مصر لم تكن قانونية.

كانت اولى الدول التي سعت انجلترا لضرورة موافقتها على هذا الاجراء فرنسا، ونحن على علم بالتنافس الذي كان بينهما والي انتهى بالاتفاق الودي 1904 وهو يقر عدم تغيير حالة مصر الراهنة في ذلك الوقت، ولكن انجلترا بدورها حللت ذلك واعتبرت ان الحماية لا تغير من السياسة ولا من الوضع شيئا، وفي اوائل الحرب لم تكن الساعة تسمح بالمناقشات الدبلوماسية بين الحلفاء

وكان طبيعيا بعد ان رفضت فرنسا فكرة ضم مصر الى الامبراطورية البريطانية ان تعلن موافقتها على الحماية اذ اعتبرتها اخف وطاة على الراي العام هذا من جهة ومن جهة اخرى ففرنسا كانت حليفة لانجلترا ضد المانيا، وكانت تعلم ان وضع مصر الدولي والقانوني يسندها الى تبعية الاتراك وبالتالي فتركيا حليفة المانيا اذن فاعلان الحماية على مصر وانهاء السيادة العثمانية يجعلها ضد الالمان وهذا في الحد ذاته مصلحة لفرنسا.

اذن كان من المنتظر ان تعترف فورا في مثل هذه الظروف بالحماية البريطانية على مصر وذلك في صبيحة اعلانها في 19 ديسمبر 1914 في نظير موافقة بريطانيا على المعاهدة الفرنسية المراكشية الموقعة في 30 مارس 1912 وفي مقابل ايضا اعطاء فرنسا وعد بسوريا، وتم ذلك فعلا عن طريق معاهدة سرية بينهما اشتركت فيها روسيا وقد صرحت الصحف الفرنسية بان فرنسا كانت على اتفاق مع الحكومة البريطانية منذ عام 1904 بشان بسط الحماية الانجليزية على مصر.

وعقب امضاء معاهدة الصلح في فرساي اراد بلفور وزير خارجية انجلترا احباط مساعي سعد وزملاءه فعادت فرنسا تكرر موافقتها على الحماية اذ كانت تخشى ما يحدثه استقلال مصر بين جيرانها في تونس والجزائر ومراكش، بالاضافة الى اهتمامها بارضاء انجلترا، والحفاظ على الوفاق الثلاثي.

كانت الدولة الثانية التي سعت انجلترا لضمها اليها باعترافها بالحماية على مصر هي روسيا. وقد ترددت في بادئ الامر ولكنها اعترفها بها بعد ان تم الاتفاق مع انجلترا وفرنسا وبعد ان اخذت وعدا من الحلفاء بالسيطرة على القسطنطينية والمضايق بل وامتلاكها مع ضمان مراعاة المصالح الروسية في مصر وتم ذلك عن طريق معاهدة سرية عقدت لاجل هذا الغرض. ولكن بقيام الثورة في روسيا حلت نفسها من كل هذه المعاهدات التي عقدتها مع الحلفاء.

اما ايطاليا فقد شرطت اعترافها بالحماية بان تبقى مصالحها في مصر مصانة كما كنت في عهد الامتيازات. ولم يحدث باعلانها دهشة في روما فهي من الامور المنتظرة، ونشرت صحفها في 24 ديسمبر 1914 بانها مستعدة للاعتراف بها وقالت الجورنال دي ايطاليا، "ان انجلترا كانت تعد نفسها منذ بضعة اشهر لهذا الحادث الذي هو نتيجة الحالة الفعلية، فان الضرورة قضت بذلك فتم". وان عمل انجلترا هذا ليس فيه الا تثبيت الحالة التي كانت موجودة منذ عام 1883.

وايقنت ايطاليا انه لابد من فوائد جزيلة لها في طرابلس، ورغم ذلك فقد تلكأت في الاعتراف بها وتجنبت الموافقة رسميا حتى لا يكون هذا بمثابة عمل عدائي لالمانيا والنمسا والدولة العثمانية. لكنها في نفس الوقت ابلغت انجلترا انها لا تعترض على ادخالها في شروط الصلح ومن هنا اعلنت "البال مال جازيت" عن نظام الحماية " وقد قابلته كل من فرنسا وايطاليا بالارتياح لان موافقتهما العظيمة تحملانها على توطيد النظام والامان في القطر المصري".

لكن هذا الموقف المائع كان يقلق انجلترا اشد القلق. وفي تقرير اللنبي الذي ارسله للندن اثناء ثورة 1919 طلب فيه ضرورة اعتراف ايطاليا رسميا بالحماية البريطانية حتى تصبح الحماية شرعية. ورغم توقيع ايطاليا على معاهدة فرساي – التي اقرت الحماية على مصر – فان انجلترا لم تكتف بذلك وارادت تصريحا مثل تصريح كل من فرنسا والولايات المتحدة ، واصبح ذلك مصدر قلق لرجال لندن من ناحية ولرجال الوكالة البريطانية من ناحية اخرى خصوصا بعد ان ظهر في مصر بعض الايطاليين الذين شجعوا الثورة.

فاجتماع لورد هاردنج السفير الايطالي في لندن للاستفسار عن سر موقف ايطاليا من مصر وتاخيرها في الاعتراف بالحماية وهدفها من ذلك، وعرض عليه تعويض ايطاليا في سبيل ذلك الاعتراف الرسمي باعطائها منطقتي "جوبلاند وكسمايو" من الممتلكات البريطانية في أفريقيا. وابان السفير بان التعويض لايطاليا في افريقيا ملزما لها نظرا لدخولها الحرب في صف الحلفاء فيجب ان تنال تعويضا لذلك ، واخيرا تم الاعتراف.

وبالنسبة لليونان فتلقت خبر الحماية بارتياح، فكان الظاهر من تلغرافات اثينا ان الصحف اليونانية قابلت اعلان الحماية بالاستحسان، واملت ان يؤدي الى تحسين الحالة التجارية، لان من مصلحة الجالية اليونانية نجاح التجارة فاليونانيون لهم يد وصوت في سوق التجارة المصرية. واستحسنت بقية الدول المحايدة الحماية. والدول الصغيرة امثال رومانيا ودول اسكندينافيا وسائر الممالك الصغيرة. فهي الاخرى موافقة على الحماية بحكم القوة والمصلحة.

اما عن مواقف الولايات المتحدة، تلك الدولة التي غيرت مجرى الحرب وجعلته في صالح الحلفاء فالبرغم من انها لم تدخل الحرب الا في اخرها لكنها كانت موافقة على الحماية منذ البداية. وفي يوم اعلان الحماية اعطى سفير انجلترا في واشنطن لحكومة الولايات المتحدة مذكرة رسمية على الاجراءات التي اتخذت في مصر وتشير الى ان انجلترا ستراعي المصالح الاجنبية فيها.

وفي 19 ابريل 1919 اعترفت رسميا بالحماية نظرا لقوة انجلترا في مؤتمر الصلح ولتحول الكثير عن ولسون الذين خشى من اغضابها وكان في حاجة اليها لتحقيق احلامه في انشاء عصبة الامم. وحرصت انجلترا على اعتراف صاحب المبادئ الاربعة عشر حتى تقضي على الثورة المصرية. بهذا ضرب بحق تقرير المصير عرض الحائط. فاعترفت الدول بالحماية البريطانية على مصر وستكتمل الدائرة باقرار معاهدات الصلح لها.

هكذا عندما احست مصر بان السلام سيسود ويضع حدا لظلم انجلترا الذي اقامته على مصر، وبان الوقت قد حان لانهاء الحماية المذلة وتلبية مطالبها، بعد ما نفذ صبرها واثارتها احداث الحرب، ومتطلبات الانجليز منها. وما عانته في سبيل الفوز النهائي يكون في النهاية نصيبها الرفض البات اذا طلبت ان يسمع صوتها كسائر الشعوب.

بهذا حرمت مصر من عرف القانون الدولي... من الانصاف... من ان تمثل لا لسبب يجيز للحجاز والهند وقبرص ويحرم مصر سوى انضمام الاولين لانجلترا وطلب الاخيرة الخلاص منها.

وكان طبيعيا ان مؤتمر فرساي لم يكن مستعدا لسماع صوت مصر او لتحقيق مطالبها القومية. لقد اجتمع ليحدد مصير الدول المنتصرة مع علاقاتها بالدول الخاضعة لها، وانجلترا فصلت مصر عن الدولة العثمانية منذ اعلان الحماية عليها، فاذا وافق المؤتمر لسماع اقوال مصر ومطالبها، اذن فواجب عليه ان يسمع مطالب سائر الشعوب الداخلة في نطاق الامبراطورية البريطانية والشعوب الخاضعة لاسبانيا والشعوب التي تحت نفوذ ايطاليا.

وفي شهر مايو 1919 اعلنت شروط الصلح التي قررها الحلفاء وسلمت الى الوفد الالماني في مؤتمر فرساي في يوم 7 مايو 1919، فجاءت النصوص الخاصة بمصر من المادة 147 إلى المادة 154 مؤيدة للحماية التي فرضتها انجلترا عليها في 18 ديسمبر 1914 وقد قبلتها المانيا ضمن ما قبلته من شروط الصلح، وصارت جزءا من معاهدة فرساي التي امضيت يوم 28 يونية 1919.

واعترفت النمسا بالحماية على مصر في معاهدة سان جرمان في 10 سبتمبر 1919 وتبعتها بلغاريا فاعترفت بها في معاهدة نيوى في 27 نوفمبر 1919 ثم المجر في معاهدة تريانون في 4 يونيو 1920. واخيرا جاء الدور على تركيا لتعترف بها هي الاخرى فاقرتها في معاهدة سيفر في 10 أغسطس 1920. تلك التي رفضها الكماليون وابدلت بمعاهدة لوزان التي وقعت في 24 يوليو 1920 وفيها تنازلت تركيا عن جميع حقوقها في مصر ابتداء من 5 نوفمبر 1914. وبذلك اعترف دوليا بتلك الحماية التي فرضتها انجلترا على مصر عقب قيام الحرب العالمية الأولى.  

الفصل الثاني: الحماية الاقتصادية

الوضع المالي

انتشرت البنوك الاجنبية في انحاء مصر، فتهافت عليها اغنياء مصر فاودعوا فيها اموالهم بسخاء وبثقة وبامانة، وكانت هذه الودائع بدون فوائد، وهذه البنوك ترسل الاموال لبلادها وهناك يستثمرونها في خصوصياتهم ومصر عمياء لا ترى صماء لا تسمع. واذا عادت هذه النقود الى مصر فانها انما تعود ليقترض منها المصريون بفوائد عالية، حتى الحكومة فانها اعطت اموالها للبنك الاهلي بفائد 1، 1.5% مع علمها بان هذا البنك يرسل اموالها الى الخارج، وكانت انجلترا اكثر الدول استئثارا بهذه الكنوز حيث كان البنك الاهلي تابعا لها.

كان لنشوب الحرب العالمية الأولى عاملا بارزا في تغيير مجرى الحياة الاقتصادية والمالية في مصر فمنذ ان اعلنت الحرب قام الافراد بسحب ودائعهم من البنوك واقبلوا على الاسواق لشراء ما بها احتياطيا لما تخبئه الايام. وقد نتج عن ذلك ان البنوك لم تقو كلها على استمرار دفع الامانات الى اصحابها فاغلقت في وجوههم ابوابها، واذا سئل احدهم يسمع رد مدير البنك قائلا "نحن لا نقدر ان نعطيك اموالك الآن اذهب، ولا يؤاخذنا المصريون في ان نقول لهم العوض على الله".

وتبع ذلك ان كفت البنوك عن التسليف على المحصولات فتقول صحيفة الوطن: "قد باتت الحالة المالية والاقتصادية في مركز سيئ ، والجمهور لا يفتأ يتزاحم على البنوك لسحب امواله منها وتحويل ما لديه من السندات والاوراق المالية الى ذهب وفضة والغالبية في البيوت المالية منعت معاملتها، واقفلت ابواب التسليف على الاقطان ومختلف الحاصلات".

احست الحكومة بتلك الازمة فاصدرت امرها في 4 أغسطس 1914 باعلان الموراتوريوم – التأجيل الجبري – اي عدم دفع الودائع والامانات والديون لاربابها الى اول نوفمبر 1914 وتبع ذلك ان اجلت المواعيد التي يجب ان تعمل فيها البروتستات وجميع الاجراءات الخاصة بالمطالبة وذلك فيما يتعلق بجميع الاوراق الجائز التداول بها وانه لا يجوز مطالبة الممولين وغيرهم من المتلزمين بالسداد اثناء مدة هذا التاجيل، أما الفوائد فتكون واجبة من تاريخ الاستحقاق الى تاريخ الوفاء.

وهذا الاجراء لم يعد بالنفع على الامة اذ ان التجار من اولى الزمم الواسعة لعبوا بالامر ورفضوا تسليم البضائع الواجب تسليمها الا اذا قبل النصارى ان يزيدهم في الثمن معتدمين في ذلك على الامر السابق بشان التاجيل الجبري. وتوالت اجتماعات مجلس الوزراء وكان يحضرها شيتهام للبحث فيما يختص بالازمة المالية.

وفي 26 أكتوبر 1914 صدر امر بانتهاء التاجيل الجبري فساءت الحالة المالية. حتى انه بلغت البروتستات التي اقيمت على التجار في النصف الاخير من نوفمبر 1914 حوالي 2500 في دائرة محكمة مصر المختلطة، 1500 في دائرة محكمة الإسكندرية المختلطة، 550 في دائرة محكمة المنصورة المختلطة.

وامتنعت الاموال عن التجارة وهذا ادى الى اضطراب في السوق المصرية وكان ذلك بالاضافة الى امتناع كثير من الناس عن شراء كل ما لم يكن ضروريا جدا من الاسباب التي دعت كثيرا من المحلات التجارية الكبرى الى تقليل مصاريفها قدر الامكان ولو برفت مستخدميها. وبناء على ذلك ايضا اجلت الحكومة كل المشروعات التي كانت قد بدات في تنفيذها.

وكان هذا وامتناع البنوك عن فتح حسابات جارية داعيا لزيادة الربكة المالية، وبعد ان وقفت حركات البنوك الخاصة بالتسليف على الغلال اصبحت مخزونة في شون البنوك كرأس مال ميت غير قابل للتداول ولا للاستفادة منه. هذا عن المعاملات الداخلية اما الخارجة فقد وقفت وقوفا تاما حتى انه لم يتمكن الناس من دفع ما عليهم الى الخارج او تحصيل ما لهم هناك بينما قلت الاموال المتداولة بين الناس في القطر وقلت بالتالي الثروة التي يملكونها. والنتيجة ان اقبل الناس على بيع حليهم ليدفع بعضهم ديونه التي حلت آجالها وليقتات البعض الاخر باثمانها، وكان من اثر ذلك ان انخفضت اثمانها بزيادة عرضها.

اعتمدت مصر في نظامها النقدي على الذهب لكن ليس معنى هذا انه لم يكن لديها قبل الحرب اوراق نقدية. فقد خول للبنك الاهلي منذ انشائه حق اصدار هذه النقود الورقية لكنها لم تكن الزامية بالرغم من انها كانت قابلة للصرف بالذهب. فان المصريين لم يطمئنوا الى هذه العملة واقتصر استخدامها على فئات قليلة من اهل المدن وعلى الاجانب "لذا ظل تداولها محدودا بحيث لم يزد الموجود منها قبل نشوب الحرب العالمية الأولى عن 3.200.000 ج وقد نص قانون البنك الاهلي على ان يكون غطاء اوراق النقد على اساس النصف من الذهب والنصف الاخر من اوراق مالية تحددها الحكومة المصرية".

وكانت اوراق البنكنوت هذه بمثابة نقود اختيارية وذات اهمية ثانوية. اما نقود الودائع فلم يكن لها اهمية تذكر ويرجع قلة اقبال الشعب على استعمال البنكنوت او نقود الودائع الى وفرة النقود الذهبية. ثم الى قلة خبرة الافراد بالشئون النقدية، وكانت شئون النقد اولى المسائل التي اولتها السلطات اهميتها. فقد كان الذهب النقد القانوني للمدفوعات الت يتزيد عن جنيهين.

وكانت الحاجة في بداية الحرب ماسة الى هذا العون اولا لحلول موسم القطن – كانت مصر تستورد النقود الذهبية من انجلترا في الشتاء وتحتفظ بها لتمويل محصول القطن حتى نهاية الموسم ثم تعيد تصدير اغلبها في الصيف. والواقع أن جزءا كبيرا من هذه النقود الذهبية المستوردة لم يكن ثمنا للصادرات وانما بمثابة قروض تمنحها لتمويل محصول القطن – ودفع ثمن المحصول، ثانيا لضرورة وجود مزيد من الذهب بدلا عن البنكنوت خشية الاندفاع على البنوك.

واصبح من الضروري، ومن اللازم النظر في طريقة توفير النقود والتي تتداولها الايدي سواء كان لتمكين البنوك من دفع قيمة ما هو مودع في خزانتها للذين تزاحموا على ابواب البنوك او لتقديم النقود الصغيرة للاهالي. علاوة على ما هو مطروح للتبادل بينهم حتى تسد هذه النقود حاجة البلاد اثناء بيع القطن.

وتحل محل الذهب الذي كان يرد لنفس هذا الغرض. والذي اصبح من الصعب استيراد الكميات المطلوبة منه تلك التي كانت تصل اليها كل عام في المواسم التجارية. وكان لابد من مد السوق بالنقد لمواجهة الطوارئ. واتخذت الاوراق التي يصدرها البنك الاهلي اساسا لهذا النقد بشرط عدم تقديم كميات كبيرة منها للصرف حتى لا يستنفد الرصيد الذهبي. وفي 2 أغسطس صدر قرار بجعل اوراق البنكنوت الصادرة من البنك الاهلي لها نفس القيمة الفعلية للنقود الذهبية.

وصرح البنك الاهلي باصدار البنكنوت دون مراعاة ان يكون له الغطاء الذي نص عليه القانون والغى حق حاملها في استبدالها ذهبا، وقد كانت هذه الاوراق النقدية مغطاة الى 50% بالذهب والنصف الاخر بسندات على الخزانة المصرية لغاية 2.350.000 ج.م. أصدرت خصيصا لهذا الغرض وذلك لمعالجة ندرة النقود وقلة الائتمان اللذين نشأ بسبب الحرب.

واصبح الافراد ملزمين بقبول البنكنوت في التعامل باي مقدار دون قيد او شرط. واعفى البنك الاهلي من التزامه بدفع مقابل النقد ذهبا، وصار النقد المصري نقدا الزاميا يسيطر عليه البنك.

تبع ذلك ان اعتمدت الحكومة لتمويل محصول القطن على البنكنوت بعد انقطاع قدوم الجنيهات الذهبية اللازمة لتمويله. ولما كان فرق السعر القانوني لاوراق البنكنوت لم يكن كافيا، وللافراد الحق في مطالبة بنك الاصدار بصرف قيمة اوراق البنكنوت بالذهب، لاجل هذا وذاك فرض السعر الالزامي لاوراق البنكنوت المصرية، وكانت النتيجة هو الانتقال من مرحلة النقود الاختيارية الى المرحلة الالزامية.

زاد النقد المتداول – البنكنوت – في مصر زيادة كبيرة. وقد كان لوجود الجيوش التابعة للامبراطورية البريطانية في مصر عاملا كبيرا في الاقبال على اموال البلاد اقبالات غير معتاد فتقول صحيفة السفير "ان وجود عدد كبير من الجنود البريطانيين في البلاد عاد بالنفقات الكثيرة على مصر ولم تقتصر الفائدة على المدن والجهات التي حشد فيها الجند، بل ان طلبات الجيش العديدة التي تبادلت العمال والعلف والمؤن والنقليات والمهمات على اختلاف انواعها اوجدت حركة رائجة في مصر".

كذلك كان لارتفاع اسعار القطن من 14 ريال سنة 1913 الى 38 ريال في 1916 الى 90 ريال في 1919 عاملا آخر في زيادة البنكنوت، وفي الامكان تقدير الزيادة في الموارد المالية فمثلا كانت تؤخذ ارقام ميزان التجارة من صادر ووارد – وقد زادت الصادرات على الواردات وكان الميزان التجاري في صالح مصر – يضاف اليها المبالغ التي وردت البلاد للحاجات العسكرية فتبين الزيادة الملحوظة في البنكنوت، ايضا زادت المبالغ المودعة في البنوك وفيها استخدم لوفاء الديون ثم في الزيادة في رؤوس الاموال المشغلة في الخارج، وعلى سبيل المثال فقد زادت رؤوس الاموال المصرية بعد اعلان الحرب بسنتين ونصف زيادة تبلغ نحو 30 مليون جنيه. وفي هذا المبلغ زيادة عشرة ملايين في السندات المحفوظة مقابل اصدار اوراق البنكنوت.

من هذا نرى بداية انخفاض قيمة النقد الورقي وازدياد الطلب على العملة المصرية لشراء القطن ثم لارتفاع اسعاره ولتغطية احتياجات القوات البريطانية ثم ازدياد الصادرات على الواردات سبب ذلك كله – وطبقا لقانون جريشام – ان اختفى الذهب من التداول لانه اضحى عملة جيدة واصبح البنكنوت وهو النقود الرديئة الاداة الرئيسية للتعامل.

ولما زاد النقد المتداول ولم يقابله الرصيد الذهبي بل لم تستطع مصر صرف رصيد في الحصول على السلع الاجنبية فاوجد هذا الوضع حالة من التضخم المالي وهو مرض نقدي عبارة عن الزيادة غير الاعتيادية في كمية النقود المتداولة ومن نتيجته ان يعتري الوحدة النقدية انخفاضا في وقتها الشرائية، واصبح البنك الاهلي لا يحول البنكنوت بالذهب، والعملة المصرية غير قابلة بان تستبدل بالذهب، وصار الفلاحون – والمصريون عامة – ملزمين بقبول البنكنوت في التعامل وبدون قيد او شرط وحل الجنيه الانجليزي محل العملات المصرية والاجنبية في التداول.

وقد قاسى الشعب من تداول هذه الاوراق فلم يكن معتادا عليه ان يستبدل العملة التي كان يستعملها هو وآباؤه واجداده بعملة اخرى وكثرت الحوادث التي دلت على جهل المصريين لاستعمال هذه العملة فلم يكن المصري يتصور كيف اختفى الجنيه الذهب من جيبه وحل مكانه قطعة من الورق فاعتبر ان الدنيا قلت خيراتها باختفاء الذهب من يده وبغلاء الاسعار، فالمصريون جميعا لا يودون التعامل بالورق حتى المتمدنين لا يثق الا بالذهب والفضة فما بال الفلاح القروي الذي لم ير في مدة حياته هذا الورق، واذا قيل له ان "الفلوس ابدلت بالورق سخر من قائله وضحك ولا يمكن ان يصدقه" وراحت الحكومة تسن قوانين العقوبات لمن لا يقبل التعامل بهذا الورق.

وتعددت الحوادث وامتلأت بها صحافة الفترة قد حدث ان ثلاثة اشخاص قطعوا ورقة بنكنوت ذات عشرة جنيها الى ثلاثة قطع متساوية لكل واحد منهم قطعة تقول الشعب: "ان اوراق البنكنوت كثرت ويرى الجمهور مصاعب في صرفها ومهم من دفع عشرة قروش عن ورقة ذات خمسة جنيهات".

وتذكر الاهرام:

"ان الحمار اكل رغيف صاحبه وكان في الرغيف ورقة بعشرة جنيها، وقالوا ان رجلا وضع الورقة ثمن قطنه الى جانبه فاخذتها امرأته واحرقتها تحت ابريق الشاي، وحدث ان وجدت امرأة تحت وسادة زوجها ورقة نقدية فاعتقدت ان احدا يسحر لها ليبعد عنها زوجها فاخذتها وحرقتها ورمتها في الترعة".

واشتد الاقبال على الفضة مما ادى الى ندرة هذه العملة الصغيرة، فتقول الاهرام:

"اما الازمة الفضية فيشكو من اشتدادها الخاص والعام في هذه الايام وكثير من التجار يحرمون من اشياء كثيرة لعدم وجود نقود فضية عندهم لاكمال ما يدفع لهم من الاوراق، فاذا اشترى المشتري بضاعة بثلاثين قرشا واعطى التاجر ورقة بقيمة خمسين قرشا لا يجد التاجر في خزاته عشرين قرشا فضية لتسوية الحساب فيضطر الى استرداد المبيع".

ونتيجة لازيداد الطلب ارتفع مقدار ما ضرب من هذه العملة من 2 مليون جنيه عام 1914 الى 7 مليون جنيه في فبراير سنة 1918. وهذا بالرغم من ان العملة الفضية عملة خصوصية وكان من المفروض الا تصيبها الازمة. وقد ارجع السبب في الازمة الفضية هذه الى وجود القوات الانجليزية في مصر، فازداد الطلب عليها، هذا بالاضافة الى اجر العمال الذين استخدمتهم السلطة العسكرية. واخيرا اضطرت الحكومة الى ادخال كميات من الروبيات الهندية.

وطلب بنك انجلترا من البنك الاهلي الموافقة على احلال السندات البريطانية محل الذهب كرصيد لاصدار البنكنوت، وتبع ذلك ان اخذ نظام العملة المصرية ينتمي الى نظام الاسترليني وتحول عن قاعدة الصرف بالذهب.

وهكذا اجازت الحكومة المصرية للبنك الاهلي حق اصدار اوراق البنكنوت من غير ان يكون ملزما بالاحتفاظ في خزائنه بما يعادل نصف قيمتها من الذهب – وبمقتضى هذا تمكن انجلترا من الحصول على النقد المصري اللازم لها لشراء محصول القطن وغيره من الغلات المصرية ثم لسداد نفقات جيوشها بالقطر المصري دون ان تصبح بها حاجة الى التنازل عن جزء من الذهب الذي في حوزتها.

ولا ريب ان مثل هذا الوضع جعل في يدها قوة شرائية لا حد لها – وثبت سعر صرف الجنيه المصري الاسترليني رسميا. فالبنك الاهلي اصبح مستعدا للقيام بالتحويلات دون تقاضي تكاليف تزيد عن اجر البرقية والمصاريف الفعلية هذا بالاضافة الى اطلاق حرية تحويل احد النقدين الى الاخر بسعر التعادل 97.5 قرش دون قيد او شرط.

كذلك قرر وزير المالية ان "الونيتو" يقبل في المعاملات على ان يكون تداوله اختياريا بسعر 77.15 قرش وان تقبله الخزانة المصرية دون قيد او شرط. وبهذا اصبح هناك فرق بين الجنيه المصري وبين الونيتو اذ اصبح الجنيه الانجليزي له سعر قانوني بينما الونيتو له سعر اختياري، كذلك تقرر تداول الجنيه الانجليزي بقانون بينما الونيتو بقرار وزاري.

وبهذا اصبح اصدار البنكنوت في مصر يتم مقابل تسلم البنك الاهلي اذونات الخزانة البريطانية او ايداع جنيهات استرلينية لحساب البنك في لندن وبذلك انقضت الرقابة على البنكنود المصدر وارتبط بالجنيه المصري بالاسترليني.

وتعرض الاقتصاد المصري لاي اضطرابات نقدية في انجلترا فمثلا عندما تدهورت قيمة الجنيه الاسترليني بالنسبة للذهب في نهاية الحرب العالمية الأولى تدهورت بالتالي قيمة الجنيه المصري وحينما صدرت انجلترا مقادير كبيرة من الذهب لسداد ديونها انخفضت الى ابعد مدى قيمة وحدة عملتها. ومن المساوئ ايضا ان بيع القطن كان بسبب هذه القروض مرتبطا مقدما والى حد كبير بالسوق البريطاني، كما ان مصر لم تكن في نهاية اجل هذه القروض تجد غير صادراتها – القطنية في الغالب – لتسدد بها ما عليها.

وهكذا قضى على سوق مصر المالية وتحول عماد التعامل من الوحدة المعدنية الذهبية الى الوحدة الورقية الالزامية، واصبح اساس الثقة والاعتمادات ووثائق الائتمان معتمدا على الوحدة النقدية الاسترلينية بدلا من الذهب ، وبذلك غدت مصر جزءا من الكتلة الاسترلينية وسيطرت انجلترا على المعاملات في داخل مصر وخارجها اذ اصبحت مصر لا تستطيع ان تستورد ما يلزمها الا من منطقة الاسترليني.

وكنتيجة للاجراء النقدي السابق ازداد التضخم المالي، فقد ترتب على تثبيت سعر الصرف بين انجلترا ومصر ان ارتبط الجنيه المصري بالانجليزي وبالتالي اصبح البنك الاهلي يشتري الكمبيالات المسحوبة على لندن بسعر التعادل ثم يصدر مقابلها اوراقا نقدية في مصر ويودع ما يعادلها من اذونات الخزانة البريطانية. وقد نجم عن هذا التضخم ارتفاع نفقات المعيشة اذ زادت من 100 سنة 1913 الى 212 سنة 1918.

وقد ارجع كل هذا الى عدم وجود نظام مصرفي مصري مستقل ينظم علاقة المصارف كلها ويجعلها تحت اشراف بنك مركزي.فكان من نتيجة ذلك عدم استقرار سياسة الائتمان كذلك كانت البنوك في مصر متخصصة في تمويل التجارة الخارجية وفي اعمال الرهونات فحرمت الزراعة والصناعة من الحصول على الاموال اللازمة لها باسعار فائدة معقولة.

ظل تفضيل الجمهور للنقود المعدنية ظاهرا باستمرار الطلب عليها – بالذات الفضة والنيكل – وقد لاقت الحكومة مصاعب كبيرة دون الحصول على اللازم من النقود الجديدة لسد الطلبات، فرغم استيرادها للروبيات الهندية ظلت الحاجة لذا ضربت نقود جديدة، ففي أكتوبر 1916 وجه السلطان حسين خطابا الى نائب الملك طالبا التصريح للحكومة المصرية بضرب نقود جديدة ورغم ان كل دولة – من المفروض – ان تكون حرة في اصدار عملتها بالشكل الذي تراه وبالرسم الذي تفضله الا ان انجلترا – ككل اجراء لها – لم تدع لمصر الحرية في ذلك وانما قيدتها في صك هذه العملة وفي رسمها ووزنها وسعر تداولها.

من هذا نرى الى اي حد ساءت حالة السوق المالية. وانتشر مبدا الفرض انتشارا عظيما وقد ارجع ذلك الى ان الاموال التي بالسوق المالي بمصر اجنبية والذين يديرون دفتها اجانب، فليس بين البنوك العديدة في مصر بنك يعتبر وطنيا. فكلها ملك للمساهمين الاجانب او فروع لبنوك اوروبية، فاي ازمة خارجية يكون لها اصداءها القوية في مصر.

هذا بالاضافة الى طريقة التقييد الخاصة باصدار الاوراق المصرفية – البنكنوت – ذلك ان الاصدار قاصر على مصرف واحد وهو البنك الاهلي، وبما ان مقدار النقود يتغير في فصول السنة تبعا لحركة الاسواق المالية الاجنبية فكان حقا ان تتبع في اصدار الاوراق المصرفية هذه طريقة وسط بين الاباحية والتقييد حتى يمكن التمكن من زيادة هذه الاوراق او انقاصها حسب ما تقتضي الحالة.

مع بداية الحرب ظهرت دعوة جديدة تهاجم الوضع المالي للبلاد وتطلب الاستقلال المالي والاقتصاد فتقول الجريدة:

"الواقع ان علاقتنا المالية بالدول المحاربة علاقة تابع ومتبوع، فاننا في سوقنا المالية لسنا الا غرباء، ان حالتنا المالية في السوق المصرية حالة منفعلة غير فاعلة وتابعة غير متبوعة لانه ليس لنا فيها راي مسموع ولا فعل ما. فالذعر لحقه ثقة الناس بالبنوك الاجنبية التي هي البنوك الوحيدة في مصر".

وتسطر الشعب:

"لو كانت تلك المصارف مصرية لما اقفلت ولما تاخر بعضها عن دفع الاموال الت يهي حق شرعي من حقوق الوطنيين ولو كانت حقيقة مصرية لاستمرت الاعمال في سيرها ولما توقف تيار الحركة كهذه الايام السيئة. لو كان لنا بنك وطني يدير عملة في بناء البلد لكان الآن في بحبوحة من العيش ترفع باسم ذلك المصرف الوطني وتقترض منه في تلك الازمة حتى تنتهي الحرب".

وتبعتها بقية الصحف في ضرورة انشاء بنك وطني لحماية الحياة الاقتصادية والمالية في مصر وقد اخذ طلعت حرب منذ بداية الحرب يدعو وينادي لانشاء بنك وطني وكان قبل الحرب قد اسس شركة التعاون المالي. فلما انعقدت الجمعية العمومية لهذه الشركة في شهر مايو 1915 وقف فيها خطيبا واخذ يتكلم عن شئون البلاد الاقتصادية وما اصابها بسبب اعتمادها على الغير في كل معاملاتها وعدم اعتمادها على نفسها بانشاء المصارف والبيوت المالية واظهر مساوئ البنوك الاجنبية وبين ضرورة مساهمة الرأسمالية المصرية في تاسيس بنك مصري.

اما عن دور السلطة العسكرية بالنسبة للبنوك اثناء الحرب فانها لم تخفف يدها وسلطت سلطتها عليها وتدخلت في امورها. ومن مظاهر هذا التدخل حظرها على هذه البنوك دفع مبالغ مباشرة للاشخاص المعتقلين بمصر الا بتوقيع قومندان المعسكر الذي يكون صاحب (الشيك) معتقلا فيه. وقد حظرت هذه السلطة ايضا على تلك البنوك معاملة الموجودين في بلاد اعدائها بمقتضى منشور اصدرته في 25 يناير 1915.

وقد حددت السلطة بمقتضى اعلان عرفي صادر في 13 يونيه 1916 شكل الاقرار الذي يجب على كل شخص مكلف بدفع الارباح الخاصة بالسندات التي لحاملها او يدفع قيمة السندات المستهلكة ان يطلب تقديمه من المنتفع. وبالنسبة لمالية الدولة، فقد تاثرت الحكومة بقيام الحرب تاثيرا كبيرا، فالدولة تعتمد على اعتمادا كليا على القطن في اقتصادها، ومنذ ان بدات الحرب هبطت اساعره ونقص محصوله وهو اهم صادرات مصر.

وكان من نتيجة ذلك وقوف الحركة التجارية، ومن هنا ضعفت ايرادات الخزانة، وظهر العجز جليا، وابواب هذا العجز كانت متعددة فالرسوم الجمركية هبط دخلها هبوطا كبيرا وكادت تقفل ابوابها بسبب وقوف حركة التجارة والنقل وقطع العلاقات مع اعداء انجلترا. ورسوم الموانئ والمنائر مسها الضرر وذلك لتنقاص عدد السفن التجارية التي تطرق ثغور مصر البحرية.

والرسوم القضائية والقيدية التي كان نقصها لقلة المعاملات التي تدعو الى التقاضي وقلة عقود نقل الملكية. هذا بالاضافة الى صدور الامر العالي بتاجيل القضايا وتوقيف الاحكام بالبيع الجبري، واخذت ايضا ابواب ايرادات السكك الحديد تنقص من خمسة عشر الف جنيه الى خمسة آلاف. اذ تاثرت من عجز محصول القطن وجمود حركة المبادلات التجارية.

فمنذ الثالث من أغسطس 1914 قررت مصلحة السكك الحديدي ان تنقص عدد قاطرات الركاب والبضائع وقللت سرعتها خشية ان يطول زمن الحرب وينفذ الفحم الذي في مخازنها مع عدم استطاعتها جلب فحم من اوروبا اما لتعذر نقله او لغلاء ثمنه، كذلك اوقفت المصلحة الاعمال الهندسية فيها وذهبت الى ابعد من ذلك اذ اغلقت بعض محطاتها، واقتصدت في المواد والادوات التي تصنع منها المركبات لارتفاع اثمانها. ونقصت ايضا ايرادات البريد والتلغراف التي اثر فيها وقوف دولاب الاشغال بوجه عام، ومس النقص ايجار الاملاك الاميرية ومتحصلاتها التي تاثرت من جراء هبوط اسعار القطن.

وارسلت وزارة المالية لجميع المصالح تطلب الاقتصاد الكلي في المصروفات العمومية، واوقفت ايرادات الاعتمادات لكل وزارة وكل مصلحة، وبالتالي بدات الوزارات في الاقتصاد في نفقاتها، فقررة وزارة الاوقاف توقيف جميع أعمال المباني والاكتفاء بعمل الترميمات الجزئية التي تستلزم نفقات كثيرة.

وتبعتها بقية الوزارات فاوفقت وزارة الاشغال معظم اعمالها الخاصة بالري، واقفت كل العقود الخاصة بالمصارف والسدود وبالذات في منطقة الوجه البحري وذلك بسبب نقص الايرادات، وذهبت الوزارة الى ابعد من ذلك فوفرت العدد الكثير من المستخدمين وتتصور الحالة التي يصيرون اليها وهم وعائلاتهم في الحال الحاضرة من الضيق والعوز فتدعل عن هذا القرار". وعلى الفور كونت لجان خصصية لدرس احتياجات كل وزارة في هذه الظروف الصعبة.

وفي اول مشروع ميزانية عام 1915 نقصت الايرادات عن العام الذي قبله مبلغ 2.923.000 جنيه، أما المصروفات فقد وفرت المالية 12.000 جنيه من بند الماهيات والاجور والمرتبات بسبب الغاء بعض الوظائف ومنع الترقيات والعلاوات وانخفض معدل اصدار الصحف وعدل عن انشاء المدارس واوقفت البعثات التعليمية والغيت اعانات الطلبة واقفلت المعامل الخاصة بالمصل واقتصد من اغذية المسجونين.

اما عن الزيادة فقد كانت الحربية لها النصيب في ذلك بسبب دخول مصر الحرب وايضا زيد البوليس ومجلس الوزراء والجمعية التشريعية والدواوين. وهذه الزيادات لم تكن من مصلحة المصريين الذين طردوا من اعمالهم واصبحوا لا متوى لهم.

وفي عام 1916 زات ايرادات الدولة من السكك الحديدية والجمارك والدومين والبريد والارباح الناجمة عن مبيع القطن واصدار البنكنوت وسك نقود فضية، اما المصروفات فقد نقصت حتى انها تركت مجالا لاجراء اقتصاد كلي شمل جميع المصالح الاميرية. فالغيت كثير من الوظائف وكثير من الاعمال اصبحت مربوطة لحساب السلطة العسكرية كمصلحة المساحة والمطبعة الاميرية. وبالرغم من هذا الاقتصاد الا ان وزير المالية كان كثيرا ما يرسل للمصالح والوزارات يطلب المزيد والمزيد.

اما ميزانية عام 1917 فارتفع فيها رصيد الدولة، وأصبح دخل مصر الصافي الذي قدر ب35 ملون جنيه يستغل في قروض حرب الحلفاء. ووضعت السياسة الادارية تحت صرف السلطة التي "ساعدت الانجليز بينما اهملت العناية بالاشغال العامة التي تخص البلاد" وازدادت بعض الايرادات في هذه الميزانية بسبب ارتفاع الاسعار وانصبت على الجمارك والسكك الحديدية والاملاك الاميرية. وبالنسبة للمصروفات فقد ازدادت بفتح اعتمادات اضافية وارتفاع الاجور ومصاريف الاشغال العسكرية للجيش وانشاء فرق جديدة وثكنات.

وفي ميزانية 1918 ارتفعت المصروفات فيها بسبب اعمال الحرب وتصاعد الاسعار، كما توقفت معظم الاعمال للاقتصاد هذا من ناحية، ومن اخرى فان طلبات السلطة العسكرية للعمال جعلت كثيرا من الاعمال توصد ابوابها، واصبح الفرق واضحا بين سنوات الحرب وسنوات ما قبل الحرب. فايرادات مصر ومصروفاتها ارتفعت في عام 1917/1918 الى 23.166.074 جنيها، و22.296.948 جنيها بينما كانت في عام 1913/1914 هي 17.703.898 جنيها، 17.656.961 جنيها كذلك الاحتياطي فقد وصل في ابريل 1918 ما يبلغ 6.770.179 جنيها بينما كان في ابريل 1914 هو 5.103.549 جنيها.

الزراعة

أ. القطن

اعتمدت مصر في اقتصادياتها – منذ وقت طويل – على القطن، حيث يعتبر اهم الحاصلات الزراعية بها، وهو يساهم في ثروتها مساهمة فعالة، وتتاثر ماليتها به، فاذا كان محصول القطن جيدا ووزع في الاسواق العالمية عاد هذا على مصر بالذهب وغطى ايراداتها ومصروفاتها.

وفي حقيقة الامر فانه منذ ان احتلت انجلترا مصر وهي دائمة على العمل للنهوض بزراعة القطن حيث كان من اهم مبادئها جعل مصر مزرعة لها وموردا هاما يمد مصانعها في لانكشير بالقطن المصري اذ كان دائما وابدا في حاجة ماسة اليه واعتمادها الكلي منصب عليه، وقد ساعدها على ذلك سيطرتها على مصر وتصرف مستشاريها فيها كما لو كانت مصر من ضمن ممتلكات التاج البريطاني ومن هنا اصبحت انجلترا لها اليد العليا في توجيه سياسة مصر الزراعية.

قامت الحرب العالمية الأولى ، وخضعت اقتصاديات مصر – ومنها القطن – لظروف خارجية وداخلية اثرت عليها تاثيرا واضحا، فباعلان الحماية البريطانية على مصر اصبحت انجلترا المتصرفة الوحيدة في شئون مصر وسيطرت سيطرة تامة على الحكومة التي وضعتها لتمثل خيال المآتة في جميع شئون مصر ومصالحها، فياترى كيف كانت السياسة القطنية للحكومة المصرية؟ او بمعنى أصح سياسة مستشاريها الانجليز خلال سنوات الحرب؟

هل كانت مستوحاة من مصالح مصر الحقيقية؟ أو كانت تطبيقا معتدلا للمبادئ الاقتصادية التي بفضلها حلت الازمات الكثيرة والخطيرة التي سببتها الحرب في كثير من البلاد المتحاربة والمحايدة؟ واذا لم تكن هذه السياسة قومية بحتة. فهل كانت على الاقل عادلة فيها مراعاة لمصالح المصريين ومصالح الانجليز على السواء؟ أو انها ضحت باستمرار بمصالح مصر في سبيل مصالح انجلترا؟.

سنجد الجواب على هذه السائلة ونحن نعدد الاحداث الرئيسية الخاصة بالقطن والتي جرت بمصر اثناء هذه الحرب، والحلول التي كانت غالبا غريبة واحيانا متعارضة، وطبقت على مختلف المشاكل القطنية ونتجت من سياق هذه الاحداث ، كهبوط اسعار القطن، وغل السلطات يدها عن العمل، ثم تدخلها وتحديد المساحة المزروعة قطنا والرقابة عليه

وفرض الاحتكار على الصادرات وشح وسائل النقل وشراء جميع حاصل بذور القطن وما يتبعه من شراء جميع الحاصل القطني نفسه، والغاء السعر الادنى في اثناء الهبوط الذي حددته لجنة البورصة، وفرض ضريبة على القطن عندما ارتفع سعره، واغلاق بورصة البضائع. ومن خلال هذه الوقائع سيمكن الحكم على السياسة القطنية التي اتبعت اثناء الحرب العالمية الأولى بمصر في مجموعها.

كان من الطبيعي ان ينعكس الاضطراب الاقتصادي العالمي الناشئ عن شهر الحرب في اوروبا تاثيره في سوق القطن المصرية، وقد كان هذا التاثير من البلاغة بحيث ابتدأت الحرب في اول أغسطس 1914 غداة جني القطن، ولما كانت الدول المتحاربة في اوروبا هي التي تستنفد القسم الاوفر منه. ومن النتائج الطبيعية ان يكون لها في هذا المحصول تاثر شديد الوقع، فاول نتيجة ترتبت على افتتاح الاعمال الحربية هي حدوث النقص العظيم في طلب القطن

وحينئذ ظهر للعيان امران احدهما ان محصول القطن يزيد عن الطلب زيادة كبيرة اذ بلغ المحصول ثمانية ملايين قنطار في حين ان المطلوب منه خمسة ملايين قنطار، اما النتيجة الثانية فهي ان فريقا كبيرا من المزارعين لم يكن في وسعه اطلاقا تصريف محصوله اذ قل الاقبال على القطن المصري تبعا للقيود المفروضة بسبب الحرب وصعوبات النقل البحري بعد اصبحت الطرق التجارية معطلة اذ انها تعتمد على الطريق البحري وبذلك اوقف دولاب التجارة.

تبع ذلك ان تدهورت الاسعار في البورصة تدهورا عظيما وذلك بسبب خوف مستوردي الاقطان المصرية في البلدان الاجنبية من خلق الاسواق التي يبيعون فيها منتجاتهم، ومن هنا اصبحت البلاد عن بكرة ابيها في اشد حالات الضنك والقلق، فقد انخفض سعر القنطار من نوع "الفولي جودفيربرون العفيفي" انخفاضا مطردا، فمن 18.5 ريال لسعر القنطار الى 10.32 ريال، وامتنعت البنوك في اثناء ذلك عن التسليف واستحوذ الخوف على البنوك العقارية وسائر محال الرهونات والمفرضات فبادر الجميع الى الحصول على ديونهم، فصار الفلاح في اقل من اسابيع في غاية الحيرة وقارب الاشراف على الخراب

وتبعا لذلك اقفلت بورصة مينا البصل مدة شهر أغسطس ووقف البيع فيها وهي بورصة البيع والشراء للبضاعة وتسيطر على ثورة البلاد الزراعية فمعنى اقفالها تعطيل جميع الاعمال التجارية. ثم اعيد فتحها في شهر سبتمبر بعد ان ظلت معطلة خمسة واربعون يوما ولكن رغم فتحها الا انه لم يتم فيها بيع او شراء يذكر وكل ما جرى هو بعض اعمال للبيع على الكونترات من القطن الصيفي بسعر 14 ريال ومن الجود فير بسعر 13.5 ريال ومن الفولي جود نوباري بسعر 14 ريال، وبيع بعض القطن العادي الوارد من الوجه القبلي بسعر 11 ريال.

وقد كانت الاعمال قليلة جدا حتى لم تحد لجنة البورصة موجبا لاعلان الاسعار الرسمية وتصور صحيفة المحروسة الحالة بقولها: ويؤخذ من الاقاليم ان بعض صغار الفلاحين الذين استحكمت لديهم حلقات الضيق المالي عرضوا ان يبيعوا قطنهم ب10 ريالات على ان يسلفهم الشاري عشرين جنيها الى ما بعد جني القطن فابى الشاري هذه السلفة".

وكان لابد من اتخاذ اجراءات سريعة لتفادي آثار هذا الاضطراب الشامل بقدر الامكان وتجنب الفلاح الاضطرار الى بيع قطنه باقل من قيمته الحقيقية وادرجت لجنة بورصة البضائع بالإسكندرية هذا الامر، فقررت منذ يوم 6 أغسطس 1914 تصفية كونترتات القطن بسعر 3/8 15 ريال، ولكنها فعلت ذلك دون اخذ راي المستشار المالي – ادوار سيسل – الذي كان وقتئذ خارج مصر والذي ما ان عاد حتى اسرع بالغاء هذا القرار.

وفي 3 سبتمبر 1914 عطلت بورصة البضائع بالإسكندرية تعطيلا وقتيا بسبب الاحوال الطارئة واقفال بورصة ليفربول ونيويورك وذلك لتحفظ لكل من البائع والمشتري حريته في اثناء العطلة وتدخلت الحكومة في الامر اجابة للطب الراي العام باسره اذ لم تكن لتجهل ان القطن يكاد يكون الثورة الوحيدة في البلد، فكل هبوط مفرط في سعره يكون كارثة قومية.

ورات المالية بعد بحث طويل انه من الضروري الاتفاق مع الماليين في اوروبا ومفاوضة الغزالين في مقدار المقطوعية من القطن المصري ولاسيما انجلترا حيث كما هو معهود هي الدولة التي تستولي على قطن مصر، فتقرر انتداب ثلاثة من كبار الماليين الاجانب للاتفاق مع اصحاب المعامل والماليين في لندن وليفربول ومنشستر لحل مسالة القطن.

وكان الهدف الرئيسي لهذه البعثة تمويل محصول القطن الجديد، والبحث عما اذا كان هناك طلب ما للقطن المصري، ويؤخذ مما ابدته اللجنة انه من المرجح ان الصناعة القطنية في العالم قد يتيسر للقائمين بها شراء خمسة ملايين من القناطير على الا تاخذ هذا المقدار دفعة واحدة بل بطريق التدريج على فترات متفاوتة في بحر سنة.

اصبح الشاغل الاول للحكومة والامة تصريف القط، فجمعت الحكومة مجلسها الاستشاري في وزارة الزراعة. ودعت الغرفة التجارية اعيان البلاد وكبار ملاكها وفاوضتهم في الامر، فانتخبوا من بينهم لجنة تدافع عن مصالحهم، وفوض اليها المفاوضة مع الحكومة والسعي لديها من جعل القيمة التي تسلف على كل قنطار لا تقل عن جنيهين وفي ان يكون التسليف لمدة كافية بعد نهاية الحرب تسمح لاصحاب القطن بتصريف اقطانهم باثمان مناسبة، ويفوض اليها المفاوضة مع اصحاب الشان والسعي لديهم في تاجيل جانب من الديون التي تستحق في ذلك العام وتقسيطها لمدد مناسبة وبفوائد معتدلة.

ودعت الحكومة رجال البنوك وكبار المزارعين وتجار الاقطان وآل الخبرة من كل مشتغل بالقطن الى اجتماع كبير عقدته في الداخلية، وكان الغرض من الاجتماع النظر في مسالة محصول القطن، وقد ابان المجتمعون ان المقدار الذي بيع من القطن لهذا العام ضئيل جدا، وجرى البحث في تدبير طريقة لاعطاء صغار الزراع النفقة التي تلزم لجني القطن

ونقله وشراء الاكياس على ان تؤخذ ثمن اقطانهم بعد بيعها، والعمل على بيع القطن بثمن موافق او خزنه واعطاء المزارع مبلغا معينا من المال على كل قنطار منه، وتقرر ان يعطي لكل قنطار اوراق مالية بقيمة جنيهين في الوجه البحري وجنيه ونصف في الوجه القبلي، وهذه الاوراق مضمونة بموسم القطن وان يودع القطن في شون البنك الاهلي ومخازن الاسواق العمومية والحلقات الى ان تنفرج الازمة.

واخيرا وافق مجلس الوزراء على مبدا شراء المليونين من القناطير ولكن المستشار المالي عارض بما كان له من حق المنع، وقال ان هذا الاجراء لا يروق لانكشير. وبصدور امر جعل تداول ورق البنك الاهلي اجباريا فطفق البنك يزيد كميات ورقه النقدي ويحول الى لندن كل الذهب الذي كان بالبنك مضطرا الى الاحتفاظ به في خزائنه ضمانا قانونيا ل50% من قيمة الورق المتداول

فكان من نتيجة ذلك ان استطاع اصحاب مصانع الغزل في انجلترا الحصول على كل ما شاءوا وما يكفيهم من القطن المصري وبسعر منخفض جدا دون الحاجة الى نقل ما يوزاي قيمة الثمن ذهبا كما كانوا يفعلون قبل الحرب، فاحرزا بذلك ارباحا طائلة، اما في مصر فكان الامر على طرفي نقيض، فقد اضطر الفلاح الى التنازل عن قطنه ب8 ريالات او 9 ريالات اي بسعر يقل عن ثمن التكلفة، ودفع الضريبة التي الحت الحكومة بطلبها الى بيع ماشيته بل وحلي امراته باثمان بخسة، واجتمع مجلس الوزراء وقرر في 10 سبتمبر 1914 تعيين موظفين رسميين متمنين في العاصمة والاقاليم لتثمين الحلي والمصوغات لدفع الضرائب بقيمتها وذلك بعد ان ثبت انتهاز التجار فرصة بيع الذهب والاستيلاء عليه دون تثمينه.

لكن هذا لم يحل الازمة، فلم تتوان البنوك العقارية في تحصيل قيمة الاقساط السنوية وتوالت الحجوزات ونزع الملكيات وبلغت مبلغا لم يسبق له مثيل في التاريخ القضائي في مصر، وفتح الباب على مصراعيه للمرابين، ومصدري الاقطان، وكل هؤلاء من الاجانب فتحكموا في السوق، وفي الانتاج وفي تحديد الاسعار وراح الفلاح ضحيتهم.

وتعالت الصيحات تطالب الحكومة ان تتدخل وتؤجل الديون التي حل ميعادها في سنة 1914 ولو الى مدة عام واحد فلم تابه لذلك، هذا في الوقت الذي اجلت فيه دفع الديون التجارية والاوراق المالية في حين ان ديون المزارعين كانت أولى بالتأجيل من الديون التجارية.

وراحت الحكومة تتصرف دون رحمة في تحصيلها للضرائب، فتقول الاهرام:

"ان الفلاحين في سبيل دفع الضرائب اضطروا الى الاقتراض بفوائد فادحة او بيع محاصليهم بأثمان بخسة"، اما الشعب فتقول: "قامت الحكومة تطالب بالاموال الاميرية من غير تساهل فعظم الضيق والزراع ليس لديهم نقود يجنون بها اقطانهم فكيف يتسنى لهم ان يدفعوا الاموال الاميرية
وما خفي ذلك على الحكومة بل انها تعلم جيدا حتى انها استعدت لتشتري مصاغ نساء الزراع، وهذه الامور راها الناس في زمن حكومة اسماعيل باشا الذي اشتعر بجمع الاموال بطرق القسوة"، وقد ارتفع عدد الحجوزات من 16.707 سنة 1913 إلى 41.996 في سنة 1914/1915 ورغم هذه الظروف الصعبة رفضت الحكومة جباية الضريبة عينا حتى لقد بالغ ما جمعته الحكومة في سنة 1914/1915 ما يقرب من 4.896.130 ج.م.

وبذلك اشترك الفلاح في الحرب اشتراكا مالاي بعد ان كان مرتاح البال، هادئ التفكير، زرع القطن وظن ان المحصول يصبح احسن حالا مما كان عليه في العام السابق للحرب وعلقت آماله بذلك فرصف عليه اكثر مما كان يصرف حتى نجاه من الآفات والندرات الأولى، واطمأن لما راى قطنه حاملا من اللوز ما يجعله يقدر محصوله ضعف ما كان عليه في الاعوام السابقة، ولكنه فوجئ بانتشار دودة اللوز انتشارا فادحا

ثم اشتعال نار الحرب وما تبعها من غلق البورصة ابوابها، فانتشر الفلاحون في انحاء البلاد يبحثون عن مشترين لقطنهم ويتساءلون بعضهم عمن يعلمه بمكان لتاجر قطن، فتراهم يدخلون بيت التاجر افواجا افواجا يتسابقون لعرض بضاعتهم وذلك التاجر البسيط يشتريه بثمن بخس، ورفعت العرائض الى الحكومة ومجالس المديريات تشرح ما وصلت اليه الحالة مثال ذلك العريضة التي رفعها محمد بك شريف عضو مجلس مديرية الدقهلية الى رئيس مجلس المديرية

فمن اقوالها: "كان من اقرب نتائج الحرب الحاضرة منذ ابتدائها وقوف حركة الاعمال في البلاد وتعطيل الاخذ والعطاء وتضعضع الثقة المالية في المعاملات والسبب لوقوف حركة الاعمال الان هو عدم تصريف محصول القطن على قلته ورداءته، وذلك لعدم تحديد اسعار له حتى ان الفلاح اصبح في حيرة بين ان يبيع وهو لا يعرف الثمن، فيذهب محصول قطنه بابخس الاثمان وبين ان يضن به وهو محتاج الى ثمنه ليسد به مال الحكومة اولا وعوزه ثانيا... وان الحالة العمومية في البلاد وبالنسبة لمحصول القطن وعدم تصريفه سيئة جدا".

تفاقمت الازمة والقطن مدس، وخشيت الحكومة ان تختل ميزانيتها، فاضطرت الى اتخاذ قرارها لضمان تمويل محصول القطن عن طريق اصدار اوراق مالية اضافية من اجل تيسير عمليات شراء القطن عن طريق البنوك وتقديم سلفيات الى المنتجين، وقرر مجلس الوزراء اصدار سندات على الخزانة في لندن واصدار سندات اخرى في مصر الى خمسة ملايين جنيه في كل منهما بحيث لا يتجاوز المبلغ كله في البلدين ثمانية ملايين جنيه منها خمسة ملايين بضمان الحكومة الانجليزية وسندات واسهم احتياطي مصري.

قوبل ذلك القرار بارتياح ظنا منهم انه يكفل سلامة مصر لكن سرعان ما خاب الامل فان الحكومة لم تشتر القطن من صغار الفلاحين الملهوفين الا وفاء للضرائب المستحقة باسعار في حدود 12 جنيها.

رفض اكثر الفلاحين البيع لكونهم راوا ان اسعار القطن بدات تسير الى الامام ولم يبيع القطن رخيصا الا صغار الفلاحين الذين لم يكن في استطاعتهم الصبر على الضنك والضيق، ولم تات هذه الطريقة بالغرض المقصود الذي يدفع الخطر دفعا تاما لان الحكومة لا تستطيع مشتري اكثر مما يحتاجه الفلاح لسداد الاموال الا القليل وهذا القليل لا يجعل لليسر محلا وعندما راى البنك الاهلي ان يسلف على الاقطان اشترط ان يبلغ قيمة التسليف على القنطار 240 جنيها اذا كان من النوع الجيد وان تكون مدة السلفية سنة.

وقد بلغ ما خسرته مصر في هذا الموسم بالنسبة لمحصور القطن 16 مليون جنيه، وهذا وقد ساعدت الظروف الطبيعية ايضا على هذه الخسارة، فعدم اكتمال الفيضان وقلة مياه الري فلم يتجاوز 6.878.000 قنطار مقابل 7.664.000 عام 1913 و7.449.000 عام 1912 في مساحة تكاد تكون واحدة وقد ارجع ذلك الى الري بالآلات الرافعة

واكثر هذه الالات تدار بالفحم الذي زاد سعره وتضاعف وبهذا كلف الفلاح اكثر من ارباح الزراعة نفسها هذا بالاضافة الى النزاع الذي قام بين الملاك والمستاجرين بسبب قلة ما يلزم من النقود للبدء بالجني وعدم وجود اكياس فارغة لجنيه، والاضطرار الى جني الاقطان دفعة واحدة بدلا من ثلاث دفعات كما جرى في كثير من الزراعات غير القطن، كما هجمته الدودة القرنفلية ودودة اللوز وفتكت بالمحصول.

اما عن تجارة محصول قطن 1914 فقد صدر منه مليونا، 8.373.438 قنطارا مقابل 3 ملايين، 259.748 قنطار في موسم 1913، والنقص كان يصدر الى المانيا التي استوردت عام 1913 من القطن المصري 2.566.733 قنطارا والنمسا استوردت في نفس السنة 16.094 ، هولندا 12.55، بلجيكا 92.333، رومانيا 244، ولهذه الدول لم يصدر قنطار واحد من محصول 1914 حيث قطعت الصلة معها.

اما بالنسبة لبذرة القطن فقد نزلت اسعارها – تبعا لنزول اسعار القطن – حتى اقفلت السوق بسعر حوالي 61 جنيها وارجع ذلك الى رداءة نوع المحصول في هذه السنة وارتفاع اجرة النقل بسبب قلة البواخر التي تنقل الصادرات، وعدم وجود طلبات عليها من اوربا ثم عدم وجود مضاربين على الصعود وعلى سبيل المثال فقد صدر منها عام 1914 = 79.475 اردبا مقابل 179.009 في سنة 1913.

واخيرا قررت الحكومة في 22 سبتمبر 1914 انقاص المساحة التي تزرع القطن لانها رات لو اصبح الفلاح مطلق التصرف في زراعة القطن، فان محصول سنة 1915 مثلا لن يقل عن سبعة ملايين قنطار وبفضله محصول 1914 لكان هناك عشرة ملايين ونصف قنطار من الاقطان.

غير ان قرار الحكومة هذا بزرع رعب الارض قطنا كان يعني زيادة مساحة زراعة الحبوب ومتى ازداد محصول القمح والذرة والشعير نقص ثمنه، ازاء ذلك امتعض الملاك والمزارعون من هذا القرار لما فيه من تقليل دخلهم ونقص ايرادتهم، فاخذ المستاجرون يطلبون من الملاك نقص الايجارات بواسطة السلطة القضائية. واخذ الملاك يتذمرون لان الديون التي عليهم والاقساط التي يقومون بسدادها في كل عام لا تسمح لهم بان يسامحوا في القيمة المقدرة لايجارات اطيانهم من قبل، لذلك رات الحكومة ان قرارها هذا سيؤدي الى منازعات ومخاصمات لا تنقطع، فاصدرت قرارا باستبدال زراعة الربع بزراعة الثلث.

وقد وافق على هذا القرار الجميع لان كثيرين من الملاك كانوا يشترطون على المستاجرين الا يزرعوا اكثر من الثلث قطنا حتى تبقى اراضيهم محافظة لقوتها وخصوبتها، ولكن الحكومة حرمت على اصحاب الاراضي الواقعة في الحياض زراعة القطن، على الاطلاق، وهؤلاء محرومون من الري الذي يسمح لهم بزراعة اراضيهم عدة مرات في العام، ويعانون من مشقات كثيرة ونفقات كبيرة لري اراضيهم التي لا تسقى الا مرة واحدة في العام وان اطيانهم لا تزال بكرة حافظة لقوتها وعناصرها الحية. وكان عقاب الذي يزرع اكثر من الثلث الا تعطيه وزارة الاشغال ماء لتوفر الماء لزراعة الحبوب، وان يعاقب فوق ذلك بالغرامة والحبس وتقليع زرعه.

وزاد الميل الى انقاص القطن الاسمر – ميت عفيفي – في خلال سنة 1915، وبرز القطن السكلاريدس لزيادة الطب عليه خصوصا لصنع غلاف عجلات السيارات، وبلغت اسعاره مبلغا يزيد كثيرا على اسعار باقي انواع الاقطان المصرية العادية حتى ان 57.5% من المساحة المعدة لزرع القطن في الوجه البحري قد زرعت من هذا النوع مقابل 27% من نوع ميت عفيفي، اما الوجه القبلي فقد احتكر زراعة القطن الاشموني ذي الوشيحة (التيلة)، الخشنة والقصيرة وذلك لان الاشموني في تلك الناحية يجئ بمعدل في المحصول يزيد بكثير عن معدل محصول اي نوع اخر.

وبدات اسعار القطن ترتفع خلال عام 1915 نظرا لاحتياجات الحرب فزاد الطلب عليه، فبلغ الوارد للاسكندرية حتى 21 أغسطس 1915 – 6.490.000 قنطار ومن الثابت ان كثيرين خزنوا اقطانهم نظرا لهبوط اسعار القطن في اسواقه، ولما فتحت اسواق المحصول الجديد باسعار عالية بدات تتوارد اليها كميات كبيرة من محصول 1914. وجاء هذا الامر مع نقص محصول القطن عام 1915 بسبب المساحة المنزرعة قطنا داعيا لزيادة الاسعار اذ وصل سعر القنطار الى 22 ريال.

ولما راى تجار الصادرات هذا الارتفاع باعوا كميات كبيرة من القطن، ونتج عن كثرة البيع سقوط في الاسعار فانخفض سعر القطن حوالي عشرة بنوط، لكن السوق برهنت على نشاط كبير فوجدت المضاربة في البورصة، وهذا دفع الاسعار الى النزول مستندة الى حالة الاقطان المصرية في ليفربول وما هي عليه من ضعف، كما قرر قومسيون كونتراتات القطن في بورصة الإسكندرية في اخر ديسمبر 1915 اجراء تصفية غير اعتيادية في الكونترتات لبلوغ الفرق في اسعارها بعد اخر تصفية فيها.

وتعرض محصول هذا العام لوطأة اللوزة القرنفلية، ولاقى انفاذ المشاريع المنوبة لابادة الدودة مصاعب جمة بسبب الحرب، وشرعت وزارة الزراعة في درس مشروع جديد لتعديل طريقة الابادة المستعملة. هذا بالاضافة الى ان البذورة التي زرع منها القطن غير جيدة والكثير منها مصاب بالاضافة الى ان البذورة كانت مشرنقة في اغلب البذورة وبالتالي ظهرت الدودة القارضة في جميع المزارع، وقد اضرت رطوبة الجو نمو الشجيرات، وانتشر الجراد في كل البلاد وانتشرت افات اخرى مثل بويضات الفراش والندوة العسلية حتى لد قدر العجز بحوالي مليون قنطار.

وقدر عجز مليون اخر من الجنيهات لصعود ثم الاكياس صعودا فاحشا وهذا حمل المزارعين على استصراخ الحكومة لتعينهم وتساعدهم لان ثمن الكيس الواحد بلغ ثمانية جنيهات او اكثر ان الثمن تضاعف، وبتضاعف هذا الثمن تكون الخسارة نحو مليون جنيه.

وبلغ النقص عن ما قبل الحرب مليونا، و350 الف جنيه انجليزي. واصدرت السلطة البريكانية تعليمات بمنع تصدير القطن المحلوج وغير المحلوج من القطر المصري الى جميع مواني اوروبا وفي البحر المتوسط والاسود الا موانئ بريطانيا وايرلندا وفرنسا وروسيا (ماعدا الموانئ البلطيقية) واسبانيا والبرتغال والسبب في منع تصدير القطن المصري الى ايطاليا وسويسرا ان القطن يرسل منهما الى المانيا والنمسا عند وصوله من الإسكندرية والسلطة حرمت العلاقة مع هاتين الدولتين ومن يتبعهما.

وتحكم تجار الصادرات وهم مضاربون في الوقت نفسه في مينا البصل حيث تتم العقود الخاصة بالقطن وكان معظمهم من الاجانب، ولم يكن في طاقة البلاد مقاومة سلطان المشترين الاجانب الذين ليس عليهم ادنى رقابة.

اما بالنسبة لبذرة القطن هذا العام، فقد نقصت تبعا لنقصان محصول القطن، وزاد النقص بان جانبا كبيرا منها فتكت به الدودة فلم يعد يصلح للعصر او الزرع، ولم يزد الصادر على مليوني اردب بعد ان كان يصدر نحو اربعة ملايين، هذا بالاضافة الى ان التصدير منع لالمانيا التي كانت تستورد نحو 40% من البذرة الصالحة، ونتيجة لوضع البذرة هذا ارتفع سعرها فزاد ثمن الاردب 100 جنيه وبلغ في بعض الاصناف 107 جنيه لارتفاع شحنها.

اما بالنسبة لمحصول القطن عام 1916 فنبت قويا وساعده الحر على النمو السريع، وكانت مياه الري وافرة حتى اعتقد المقدرون انه يزيد على سبعة ملايين قنطار ، لكنه لما ابتدا لوزه يظهر اتضح ان فروعه السفلى قليلة جدا أو مفقودة ثم ظهر ان زمام الاطيان المزروعة قطنا اقل مما كانت قبل ذلك، هذا بالاضافة الى انتشار دودة اللوز ودودة البذرة القرنفلية وهذه الاخيرة قضت على ربع المحصول او على اكثر من ربعه، ففي تقرير المستشار المالي يقول: "يقدر محصول القطن سنة 1916 ب6.020.000 قنطار بمعدل 3.64 قنطار من الفدان الواحد اي بنقص 10.40 في القنطار عن محصول 1915، وبنقص .50 عن متوسط محصول السنوات العشر السابقة، ومجموع هذا النقس ينسب الى دودة اللوز القرنفلية.

لهذا فقد قل الصادر منه عن محصول عام 1915 وبالتالي انخفض المخزون وبناء على ذلك ارتفعت اسعاره حتى بلغ سعر الكونترتات 30 ريالا واصبح القطن العفيفي يباع قنطاره في الارياف بستة جنيهات وسبعة والسكلاريدس بسبعة جنيها وبثمانية وهي اسعار لم ترها مصر الا زمن الحرب الاهلية الامريكية.

وفي اوائل سبتمبر 1916 اصدرت لجنة بورصة الإسكندرية قرارا بالا يزيد ثمن القطن في الكونترتات عن ثلاثة وعشرين لايالا الى غاية 20 سبتمبر ويقول سعد زغلول ازاء هذا الاجراء: "تكدر الناس وخصوصا المزارعين من هذا القرار واحتج اغلبهم عليه في الصحف واخذت الحكومة تنظر في الامر، وبعد مضي يوم قررت ان تشتري هي مقدار سبعة وثمانين الف قنطار قطنا بسعر ازيد من السعر الامريكاني بمبلغ تسعة وثمانين الف قنطار وكان الفرق بين سعر النوعين سبعة فقط، وان ما تدفعه الحكومة من الفرق يتحمله السماسرة، وعادت الاعمال في البورصة الى مجاريها، ولم يستفد غير الاجانب من جراء هذا القرار".

وازاء هذا الوضع ونظرا لارتفاع اسعار القطن صاح ملاك الاراضي وطالبوا بالغاء التحديد الذي اصدرته الحكومة بزراعة ثلث الارض قطنا وتم لهم ذلك عام 1916. حيث الغت الحكومة قرارها الخاص بزرع القطن واباحته كما كان قبل الحرب، لكن فرصتهم – ملاك الاراضي – من الاستفادة من ارتفاع الاثمان لم تمتد، ففي يونية 1917 قررت الحكومة بتوجيه من المستشار المالي تحديد سعر القطن بثلاثة وعشرين ريالا وهو سعل يقل عن سعره الحقيقي، هذا في الوقت الذي اتجهت فيه الاسعار الى التحسن.

وبلغ محصول القطن عام 1917 نحو 6.300.00 قنطار وبيع باسعار عالية مكنت المزارعين من وفاء ما عليهم للبنوك العقارية. وقد زادت المساحة المزروعة قطنا ما بين عام 1914 و1917 من 28% ‘لى 40% من مساحة الاراضي المزروعة التي تروى ريا دائما وجنى ملاك الاراضي عموما فوائد من ارتفاع ايجارات الاراضي الزراعية الناشئ عن ارتفاع ثمن القطن، وكان اصحاب الاراضي الكبيرة اول من استفادوا من هذا لان نسبة كبيرة من الفلاحين كانت تملك عددا قليلا من الاراضي وكانوا يحاولون – مثل هؤلاء الذين لا يملكون الاراضي – ان يستاجروا اكبر قدر من الاراضي من جيرانهم من اصحاب الاراضي الكبيرة ، وهؤلاء كانوا يفرضون ايجارات عالية لاراضيهم.

وعادت مرة اخرى فهبطت الاسعار، وهناك عوامل اثرت في سوق الإسكندرية منها تقيد سوق القطن في ليفربول، وعدم انجلترا على تعطيل مقطوعية القطن الذي يقدم للمصانع ثم "المضاربين على المكشوف" اذ منعتهم الحكومة من الاستمرار في عملهم، والمضاربة روح التجارة وسبب ارتفاع الاسعار، واخيرا قرار السلطة الخاص بتصفية حسابات البذرة وتحديد سعر لها.

هذا وقد تعرض محصول هذا العام للدودة التي اشتدت وفتكت باوراق القطن ودخلت في ازهاره، بالاضافة الى استيلاء السلطة على الانفار فحرمت الارض من خدمتهم فزادت اجورهم وقلت اعدادهم.

ولعبت لجنة الصادرات بالإسكندرية دورا مهما في بخس اثمان الاقطان اذ يقول سعد زغلول في مذكراته: "ان لجنة الصادرات في الإسكندرية وهي مؤلفة من تجار اجانب لا مندوب للحكومة فيها لها امتيازات من الحكومة تسئ استعمالها ضد المزارعين، فهي التي تعين رتبة القطن وثمنه، فاذا كان المطلوب الصعيدي خفض ثمنه، واذا كان المطلوب غيره فعلت به كذلك وادنت رتبته".

اما بالنسبة لتصدير قطن هذا العام، فقد نقصت صادراته ونتج هذا عن قلة وسائل الشحن وبلغ الصادر منه حتى 30 ابريل 1917 – 3.900.695 قنطارا. ووضعت العقبات في طريق التصدير ليس فقط الى البلاد العادية ولكن ايضا في طريق التصدير الى البلاد الحليفة اذ رات انجلترا ان تؤلف لجنة انجليزية لمراقبة تصدير القطن باسعار مخفضة الى انجلترا وحصر عمليات التصدير في يد فئة قليلة من البيوت الاجنبية.

وتبع ذلك ان الغيت كل التراخيص الصادرة للافراد والبنوك وجعلها قاصرة فقط على عدد قليل من شركات التصدير التي حققت من وراء هذا الاحتكار الذي لا مبرر له ارباحا تصل الى ملايين الجنيهات، وقد كان هذا الاحتكار ايضا وسيلة للتحكم في اسعار ما تشتريه من المحصول. كذلك قامت الحكومة البريطانية بشراء بذرة القطن لعام 1917 بثمن اقل كثير عن قيمتها الحقيقية اذ اشترتها بحوالي 1.100.000 جنيه استرليني.

واخيرا وفي 8 سبتمبر 1917 وتحت تاثير الخوف من تعرض موارد الطعام الاساسية في البلاد لتهديد خطير، وللالتزامات التي فرضت على مصر لتموين الجيوش البريطانية صدر مرسوم يقضي بتحريم زراعة القطن في مصر العليا وتقييد زراعته بثلث الاراضي القابلة للزراعة في الاجزاء الاخرى من القطر.

وبالتالي فقد نقصت المساحة المزروعة قطنا، وبلغت في الوجه البحري 1.023.888 فدانا وفي والوجه القبلي 291.679 فدانا، ومع اواخر 1917 وقفت حركة السوق القطنية فتكدست فيها الاقطان ولم يقبل عليها المشترون اذ تحزب التجار الاجانب الذين يعملون تحت ستار على نزول الاسعار. هذا وقلة وسائل الشحن وبطئها وكثرة العروض في مينا البصل والاسواق المحلية الاخرى، واصبحت الاسعار اسمية فقط ولا يشترى ولا يباع، وتنحى البنوك عن مد التجار بالتسهيلات المعتادة، وبالاموال الكافية التي يستعينون بها على شراء ما تنتجه البلاد مما نشا عنه قلة الاموال لسد حاجة التجارة من جانب الطلب.

وقد اثرت على هذه الحالة اي حركة وقوف سوق القطن في مينا البصل تاثيرا ظهر اثره في الريف. وفي موسم قطن 1918 اصيبت مصر بخسارة اقتصادية فادحة ذلك ان الحكومة الانجليزية احتكرت محصول القطن جميعه في ذلك العام 0 بلغ المحصول 5.250.000 قنطار – وما كان مخزونا من محصول 1917 للاحتفاظ للامبراطورية البريطانية وحلفائها بالموارد اللازمة لهم، وحددت ثمن شرائه ب42 ريالا للقنطار من رتبة فلي جودفير.

ووقف وزراء مصر ورجالها من هذا التصرف موقف المتفرج على قوة عليا تسيطر على الامور وتوجهها كما تريد، وكان في امكان حسين رشدي رئيس الوزراء الاعتراض على هذا التصرف الذي نجم عنه انهيار في النظام الاقتصادي، فكيف يكون سعر القنطار 42 ريالا وهو يباع في ليفربول ب75 ريالا وفي امريكان 80 ريالا.

ويصف سعد زغلول موقف الوزراء فيقول:

"حضر عندي اول امس يوسف بك النحاس بعد هجرة طويلة افهمت منه انه اراد ان ياخذ على نفقته تخزين قطن الحكومة وشحنه في الوابورات وان يقدم على ذلك ما يشاء من بنك الانجليز، وقد حكى لي عدلي امس حكاية القطن قال اجتمعنا ذات يوم عند رشدي باشا فالمستشار المالي برونيات قال ان الحكومة الانجليزية تنتظر في هذه الاوقات مساعدة الحكومة المصرية لها
وتعتمد كل الاعتماد عليها وانها ارسلت مندوبين من طرفها للاتفاق على مسالة القطن وبعد قليل من الايام، يوم او اثنين تكلم المستشار المذكور فيما اذا كان عين تحديد ثمن القنطار بمبلغ 42 ريالا، فقال رشدي اني ارى هذا الثمن موافق وقال عدلي ان المسالة محتاجة بان تبحث، وانصرف الكل على نية البحث"، الى ان قال "فانظر كيف نساس وكيف ندار وكيف رجالنا يرضون لوطنهم بالضرر ولكرامتهم بالامتهان".

ومن المؤسف ان انيط هذا الامر الى لجنة اجنبية، وعندما سال سعد زغلول ونجت وبحث عن سر عدم ضم اي مصري لهذه اللجنة اجاب: "ان هذه اللجنة في مخابرة مستمرة مع السلطة العسكرية وتموين الجيوش والمسائل الحربية المهمة التي لا يمكن ان يطلع على مخابرتها اجنبي" فرد عليه سعد: "عظيم هذا السبب اني ما كنت اعلم ذلك من قبل ومع هذا فان هؤلاء الاعضاء الاجانب اخذوا في استطلاع آراء الناس وافكارهم ولكن المسالة التي هي في غاية الاخمية وعليها مدار ثروة القدر قررتها الحكومة من غير ان يسال احد من ارباب الشان فيها" فقال: "ان ما فعلته الحكومة هو خير للمصريين ولكنهم لا توسط عندهم فهم يبالغون في الاشياء ويذهبو من طرف الى طرف، وانا كثت فيهم ثلاثين سنة لكنك تعرفهم احسن مني، فهم من الصعب ارضاؤهم".

وهاجم سعد اللجنة اذ قال لونجت:

"ان الخواجات الذين حضروا البحث في مسالة القطن مع كونهم مكثوا عدة اسابيع لم يجتمعوا باحد من المصريين لاستطلاع رايهم قال انهم لم يمكثوا الا قليلا وقد اجتمعوا بالوزراء وهم مصريون ويمثلون مصر قلت يمكن ان يقال هذا في غير هذا القطر الذي له نظام شبه الدستوري وله نواب منتخبون من ابناءه".

وادت الرقابة على القطن الى خسارة كبيرة لاصحاب الاراضي وبالتحديد السعر بالقدر الانف الذكر، حتى انه انخفضت اسعار العقود في الإسكندرية الى اقل من 42 ريال هذا بالاضافة الى ان معظم المنتجين المصريين لم يكونوا بعد حتى 12 مارس 1918 قد باعوا كل محصولهم لسنة 1917.

وبلغ ما خسرته مصر من جراء هذا التحدي 32 مليون جنيه، وقد اعترف ملنر في تقريره بما كان لهذا الاحتكار من الاثر في تفجير ثورة 1919، يقول: "هناك ما يدل على ان التحكم في اسعار القطن زاد استياء الناس لان هذا الحكم يحرم المزارع مزية المزاحمة في الاسواق الاجنبية مع كون ايجار اطيانه في ازدياد".

ولو ان انجلترا لم تقدم على احكتار محصول قطن 1918 ، لكانت مصر كسبت اموالا عوضت عليها ما كانت خسرته في سنوات الحرب، وقد نتج عن هذا الوضع لمحصول قطن 1918 ان توقفت عمليات الوساطة والمضاربة على الاقطان، واصبح المستخدمون في هذا المجال والسماسرة يرثى لحالهم.

وكان من نتائج هذا الاحتكار قفل بورصة الإسكندرية بتاريخ اول أغسطس 1918 وحرمان عائلات عديدة تعتمد في دخلها المباشر عليها وذلك في وقت زادت فيه تكاليف المعيشة. وخلق هذا هزات جديدة خطيرة في الحياة الاقتصادية، ولقد كان من المعقول في زمن الحرب ان توضع البورصة تحت نظام محكم لمنع الوثبات الفجائية، لهاذ كان واضحا ان اغلاق البورصة في حد ذاته اجحاف بمصالح البلد هذا من ناحية ومن ناحية اخرى كان سعر 42 ريال المقرر للفولي جود فير سكلاريدس غير عادل لانه لم يتماشى مع التخفيض في المساحة الكلية المزروعة.

وكذلك الاضرار التي تحملها القطن نتيجة للافات الموجودة في البلد وقلة الماشية التي تخدم الزراعة ثم الارتفاع الكبير في ايجارات الاراضي واسعار الوقود والايدي العاملة والماكينات الزراعية، والغلاء. هذا ولم يراع ايضا اطراد الطلب وتزايده من جانب المغازل والسعر الذي كان يباع به القطن الكلاريدس في ليفربول.

ولم يكن للفلاح اي مرجع يشتكي اليه لان اللجنة التي تستانف اليها القرارات كانت مشكلة من نفس مصدري القطن – اعضاء لجنة التحكيم هذه هم انفسهم تجار القطن – ومن حقها الذي اكثر استعماله خفض السعر المعروض، ومن هنا كان الفلاح يتجنب الاستئناف والشكوى مخافة زيادة الضرر عليه.

من هذا يتبين ان المشتري هو الذي يقرر السعر على ما يهوى ويتسلم البضاعة من اللجنة بسعر اقل من السعر الذي قدره هو لنفسه، ورغم ذلك فقد رفع الفلاح شكواه ولكن كان عدد هذه الدعاوة القليلة التي حكم فياه بتحسين تقدير الرتبة هي الدعاوى التي فيها التقدير الاول دون المعقول بحيث لم يكن من الممكن الدفاع عنه. هذه هي الاوضاع الغريبة التي اساءت الى مصلحة البلاد واغضبت المصريين ايما اغضاب، ربحت الحكومة الانجليزية والحكومة المصرية مليونين من الجنيهات.

وهذا القدر يقل عشر مرات عما ربحته بيوت الاصدار. وكل ذلك على حساب الفلاح ، وكان من السهل ان تحصل الحكومة المصرية على نصبيها من هذه الارباع برفع رسوم اصدار القطن او بفرض ضريبة وقتية عليه كان يقبلها المصريون بنفس راضية بشرط بقاء السوق حرة، على انه يجب ان يستبعد من المليون الذي عاد على الخزانة المصرية من هذه العملية مقدار الضريبة التي كانت تؤخذ على عمليات الشراء والبيع في البورصة وطائفة من الايرادات الاخرى التي لا يستهان بها كالمواصلات التليفونية والتلغرافية والبريدية والسكك الحديدية مما كانت حركة البورصة تجلبه واودى بها اقفالها.

ويتضح مما سبق ان السياسة القطنية في بحر هذه السنوات كانت تتميز بانعدام المنطق دلت في مجموعها على تذبذبها وتخبطها واجحافها الشائن بمصالح مصر على حساب مصالح انجلترا، وقد اثبتت هذه السياسة وابانت عن خلو البلاد من تلك الهيئات التي تعمل على حل معضلات المسائل الناشئة عن الحوادث الطارئة مثل النقابات الزراعية والتعاونية ونقابات التسليف والبنوك الاهلية الحقيقية، لقد ابانت الحرب شدة الغبن على البلاد وعدم مسئولية القائمن بالامر اذ سلموا امور مصر الى الانجليز الذين تحكموا فيها.

ب. المحاصيل الزراعية الاخرى:

الزراعة في مصر هي اهم مصدر للثروة فيها ، ومنذ ان احتلت انجلترا مصر نمت هذه الحرفة وجعلتها من مستلزمات اقتصاديات مصر، ورغم ذلك فقد اعتمدت مصر في تموينها على استيراد الحاصلات الزراعية، ففي سنة 1913 بلغت الواردات منها 4.241.987 ج.م. من مجموع واردات مصر البالغة 27.865.195 ج.م.، وجاءت الحرب وخلقت ظروفا اقتصادية جديدة، فقد انقطع اكثر الوارد على مصر واقفلت اكثر الدول التي كانت تصدر القمح الى مصر ابوابها.

هذا عن الطروف الخارجية، أما الداخلية فتوقفت اعمال الري لعدة عوامل منها خفض المصروفات، وقلة الفحم وغلو ثمنه عرض الزراعة لارتباك كبير، وفي فترة الحرب لم تتغير المساحة المنزرعة ومساحة المحصول ولكن كل الذي حدث هو تغيير نسب المحاصيل المختلفة تبعا لمتطلبات الظروف التي تحكمت فيها انجلترا سواء لمصلحتها الخاصة كما حدث في اتباع سياستها القطنية او لمصلحة جنود امبراطوريتها التي وقع عليها عبء تموينهم او لانقطاع الوارد وتوقف عمليات الشحن في البواخر وغلاء الاسعار مما ادى الى ازدياد الطلب على تلك الحاصلات.

ومنذ بداية الحرب وعندما احست الحكومة بتلك الازمة القاسية التي ستعاني منها مصر من جراء نقص المواد الغذائية اصدرت قرارها في اوائل أغسطس 1914 تحرم فيها تصديرها، وخسرت مصر في الاراضي خسارة كبيرة بلغت من 25 الى 30% من قيمتها، وهبطت اجورها فالفدان الذي كان يؤجر باثنى عشر جنيها لم يعد صاحبه يجد من يستاجره بثماني جنيها، هذا فضلا عن قلة عدد المستاجرين.

كان من نتيجة تخفيض مساحة القطن المزروعة زيادة في المحاصيل نظرا لاحتياجات السكان والروا د اليها، اصبح القمح على قمة المزروعات فحاجة القطر اليه في ازدياد، وكان لتخفيض زراعة القطن وفرة في المياه، فاستفاد الارز ذلك ان مصلحة الري استطاعت ان تخزن كمية كبيرة من المياه، فنتج عن ذلك محصولا لا مثيل له، وجاء معدل المحصول من القمح دون سواه اقل لسبب ملاءمة الاحوال لانتشار الصدى لكن ما لبث ان زاد هذا المحصول واصبح 280 الف فدان.

كما حدث زيادة كبيرة في محصول السكر، وقدر مجموعة المساحة المزروعة قصبا ب52.118 فدان تغل 38 مليون قنطار من القصب. لكن لم يلبث االمر حتى اصيبت مصر بكارثة الجراد، فقد هاجمت مصر اسراب من الجراد اتت على جانب كبير من المحصولات الزراعية، وكان اشد وطاة على بني سويف والفيوم وقدر ما كان يتلفه يوميا من 500 جنيه الى الف جنيه.

وخدمة لمصالح انجلترا رات ان تعقد قرضا مع الحكومة المصرية بمبلغ 32.000.000 ج.م. لينفق على انجاز اعمال الري، وعهدت الى البنك الاهلي لدرس هذا المشروع، وتم الاتفاق بين مكماهون ووزير الاشغال والبنك الاهلي على ان هذا القرض يؤخذ على ستة عشرة قسطا في ستة عشرة سنة، وعرضت وزارة الزراعة على الحكومة الانجليزية جدول الاعمال التي تريد اتمامها بهذه الاموال من اعمال صرف في البحيرة والغربية، وتحويل طرق الري في الاراضي الواقعة بين قنا وديروط واعمال اخرى للصرف في الوجه البحري عامة، أما الضمانة التي تقدم عن هذا العرض فهي زيادة الضرائب وتنجم على اصلاح الاراضي.

ويعلق سعد زغلول على هذا المشروع بقوله:

"هذا المشروع ليس من المشروعات المستعجلة حتى تتوجه الهمم لتنفيذه في هذه الايام العصيبة التي اشتد الخناق على الناس فيها. واصبحوا لا يدرون من امر مستقبلهم شيئا. فالحرب لا تزال قائمة ونيرانها تستعر بين اكثر امم الارض، ومن لم يدخل فيها مشغول بتوقع الاسباب الواقية من شررها وما عند الناس من المال اصبح غير كاف لحاجاتهم الوقتية فكيف يتاني لهم وهم يرزحون تحت الاعمال الثقيلة ان يفكروا في مثل هذا المشروع ولكن السلطان ووزراءه يبذلون منتهى وسعهم في تمهيد الافكار لهم بما يتحدثون في مجالسهم الخصوصية ويوصون بنشره في الجرائد".

وفي حقيقة الامر فقد قاست مصر من قلة المياه وقلة مشروعات الري في اثناء فترة الحرب وكان لذلك اثره الكبير على الانتاج الزراعي، فمنذ بداية الحرب جاء فيضان 1915 متاخرا عن ميعاده ولم يبلغ اعلى منسوبه في اسوان الا في 28 سبتمبر مع ان متوسط التاريخ الذي يبلغ فيه الفيضان اعلى المنسوب في سنوات عديدة لم يتجاوز 5 سبتمبر، واعلى منسوب وصل اليه النيل 1915 كان 18 سم او 91 م وكان نتيجة ذلك ان ظل خمسون الف فدان بدون مياه.

ترتب على هذا نقص محصول القمح، هذا بالاضافة الى انقطاع الوارد والى ازدياد الهجرة لمصر - سواء من اليهود او الارمن – وتموين القوات المحاربة، ، ومما اساء الموقف سماح الحكومة بتصدير القمح. ففي عام 1915، صدر 400 ألف أردب قمح. ومن هنا راح التجار يصدرونه كما يتراءى لهم ويتركون الشعب يموت جوعا، فقد حدثت حوادث دلت على ان كثيرا من الناس كانوا يقدمون على الموقت لقلة الخبز، فالقمح هم اهم مادة يعتمد عليها شعب مصر في غذائه لدرجة ان مقياس "الشبع" عندهم بعدد الارغفة التي يتناولونها، وقد ارتفعت اسعار الماكولات والمحصولات الغذائية ارتفاعا متواليا.

وهنا رات الغرفة التجارية ان ترفع الى الحكومة طلبها بمنع تصدير القمح الى الخارج لارتفاع ثمنه، ولانه كان يخشى من قلة المحصول في سنة 1916 بعدما اباحت الحكومة زرع القطن قطنا كالعادة. وكانت الغرفة التجارية تخشى نفاذ المخزون وقلة المحصول فيكون من وراء ذلك المزيد من ارتفاع الاسعار.

استعيض عن قلة القمح بزيادة المساحة المزروعة ذرة، لكن الازمة لم تنفرج في بداية 1915 اصاب الكساد سوق الانتاج الزراعي، فكما اصيب القطن كان نصيب الارز حتى اصبح يباع ب3 جنيهات الضريبة لان الفلاح محتاج الى المال، والسمسم نقص ثمنه عن عان 1914 جنيها في الاردب، لكن ما لبث الامر ان راجت السوق لمحاصيل الدريس والشعير والتين حيث ان السلطة العسكرية ساعدت على ذلك

ووصل ثمن الحمل من الدريس الى 70 قرشا بعد ان كان ب40 قرشا، وكذلك وصل حمل التين الى 30 قرشا واردب الشعير الى 1000 قرش، ونقص محصول قمح 1915/1916 مقدار 228.000 اردب ورغم هذا فقد اباحت الحكومة تصديره، فنجد انه صدر منه في اول يناير 1915 الى اخر أغسطس لنفس العام 195.924 اردبا اذا اضفنا الى العجز في المحصول صار هذا العجز حتى نهاية أكتوبر سنة 1915 – 423.924 أدربا.

وشابه الذرة القمح فيما طرا عليه منذ بداية الحرب، فالذرة هو طعام الفلاح وكان محصوله قد زاد مقداره مليونا، 791 ألف اردب وهي كمية كبيرة كان يجب ان تجعل ثمن الذرة معتدلا مع ان متوسط ثم الاردب في شهر سبتمبر 1914 نحو 94 قرشا وبلغ المتوسط سنة 1915 – 104 قرشا والسبب راجع الى كثرة الصادر الذي بلغ 256.405 اردبا هذا بالاضافة الى زيادة المقطوعية المحلية لوجود القوات البريطانية. وهذه الزيادة لم تحسب لها لجنة التموين حسابا في الاحصاء ولا مصلحة الزراعة بتقدير متوسط ما تستهلكه البلاد في كل سنة من كل صنف.

ومنذ اوائل 1915 اعيدت زراعة الدخان وكان ذلك للظروف التي فرضتها الحرب اذ حرم على مصر الاستيراد من البلاد المحاربة. وبعض هذه البلاد هي التي تورد الدخان الى مصر مثل تركيا، فلما انقطعت العلاقات كان على مصر ان تبذل جهدها لتعويض هذا النقص لذا شرعت في اعادة زراعة الدخان.

كذلك زيدت المساحة التي تزرع قصب السكر فبينما كانت في 1914/1915 = 52.181 فدانا أصحبت في 1915/1916 = 59.224 فدانا لنفس الظروف السابقة. واسهمت لجنة الزراعة والتجارة في مشروع اعدته لانتاج المحصولات الزراعية في الارض المصرية لتحل محل المنتجات الزراعية التي كانت مصر تستوردها من الخارج والتي وقفت الحرب حائلا دون استيرادها.

ومنذ 1916 بدا التناقص ملحوظا في مساحة الاراضي التي تزرع ارزا فقل سنة 1916 = 171.000 فدان عن مثلها سنة 1915. وبدات مصر تنتج البطاطس على نطاق واسع حيث كان من اهم السلع الغذائية التي احتاج اليها الجيش وتمون بها. وراحت السلطات المسئولة تبذل كل جهدها منذ بداية الحرب ثم على وجه التحديد بعد ان اصبحت الإسكندرية قاعدة البحر المتوسط ومركزا لحملة غاليبول لتشجيع توسيع زراعة الحبوب، فعلى سبيل المثال كانت مهمة جناب المستر مكلوب كبير مفتشي وزارة الزراعة في طوافه بالاقاليم داعيا لتشجيع المزارعين للاكثار من زراعة الحبوب بدلا من القطن وكان الجنرال مري قائد القوات البريطانية في مصر قد اصدر تصريحا بهذا المعنى لسد حاجات الجيوش البريطانية.

واتخذت الاجراءات لتنفيذ ذلك بمختلف الطرق، وعلى سبيل المثال فقد وافق مجلس الوزراء على فتح اعتماد اضافي بمبلغ 3100 جنيه لمصلحة الاملاك الاميرية لاجل زرعة نحو 2100 فدان ذرة فوق الزراعات المعتادة.

وجاءت الزيادة في هذه المحصولات كالتالي:

المحصول 1916 1917 الذرة الشامية 238.725 266.991 البرسيم 1.187.013 1.346.785 الشعير 422.765 428.507 الارز 144.807 256.695 العدس 62.286 91.816 الحلبة 57.378 92.414

وكان هذا على حساب القطن.

واستمرت هذه الحال حتى نهاية الحرب حتى انه صدرت الاوامر بمنع بعض الزراعات قطعيا واحلال الحاصلات الغذائية محلها مثل ذلك القرار الي صدر في 14 أكتوبر سنة 1918 لتحريم زراعة الخشخاش في الاراضي المصرية والاستعاضة عنه بزراعة الحبوب وفرضت غرامة على من يخالف هذا الامر. وساعد على هذا ان فيضان النيل سنة 1918 رغم تاخره – الا انه جاء طبيعيا ولم يحدث ري في بعض مساحات صغيرة في الوجه القبلي حيث انه حدث نقص طفيف اثر فيها.

من هذاه نرى ان وزارة الزراعة اهتمت اهتماما بالغ بحبوب مصر وحاصلاتها الغذائية، وقد سعت لجنة التجارة والزراعة بالنهوض بها واختلاق الطرق الصالحة لزيادتها فالفت "لجنة تجارة المحاصيل" التي قامت بدراسة شاملة لمحاصيل مصر الزراعية وقدم كل من اعضائها تقريره، فكان التقرير الاول عن زراعة الارز وتوسيعه قدمه شكور باشا وبين فيه الانواع التي تزرع في مصر كلها والمناطق التي تنتجه في انحاء مصر، كذلك قدم دودجيون ، تقريره عن زراعة النيلة في مصر. وامكانيات زراعة القنب الهندي. ومن هذا نرى انه لم يعد الاهتمام فقط بالحاصلات الموجودة في مصر بل تعدى الاهتمام الى ضرورة خلق محصولات جديدة والرقي بالمستوى الزراعي.

وكان للحرب العالمية الاولى اعظم الاثر في انتشار زراعة الخضروات في مصر بعد ان امتنع ورودها من الخارج في وقت كانت في اشد الحاجة اليها لتموين اهلها وجيوش الامبراطورية. هذا بالاضافة الى ان زراعتها في ذلك الحين كانت مربحة لدرجة كبيرة جعلت اصحاب الاراضي يهتمون بها ويبالغون في انتاجها الى حد زاد على حاجة الاستهلاك الداخلي، ولم يكن هناك مجال لتصديرها والحرب قائمة فغمرت الاسواق وكانت النتيجة هبوط اسعاره. الانتاج الحيواني

وكما تعرضت البلاد لازمات الاناج الزراعي تعرضت ايضا لازمات الانتاج الحيواني فمرص ليست بالبلاد الغنية، فحيواناتها ليس لها طابع التخصص، فهي تربى لكل غاية لاجل اللبن واللحم والحراثة، ومن هنا كانت سمتها هزيلة. اذن فلابد من الاستيراد. وبقيام الحرب انقطعا لوارد واعتمدت مصر على انتاجها لتغطي به احتياجات سكانها وتلك الاعداد العائلة الت يوفدت عليها سواء من المهاجرين او من جنود الامبراطورية.

ومنذ بداية الحرب قل عدد المواشي المذبوحة، فعلى سبيل المثال بلغ ما ذبح في فبراير 1914 = 73.065 رأسا بينما ذبح في فبراير 1915 = 22.336 راسا وكان اكثر النقص في الاغنام والماعز واشتدت الازمة لقلة الانتاج الحيواني وللشدة المالية التي استحكمت حلقاتها "فالخرفان صارت تعرض بنصف الثمن ولا تجد مشتريها.

وبالنسبة للثيرا نفقد زاد استهلاكها لتغطية متطلبات السلطة واثر هذا في ارتفاع الاسعار. حتى ان الثور الذي كان يباع قبل الحرب ما بين عشرة جنيهات وعشرين اصبح يباع باربعين جنيها وبخمسين ايضا. وقل عدد الجمال وارجع ذلك الى استغلالها في المعارك الحربية التي دارت على ارض مصر ففي عام 1914 كان هناك 118.414 راسا فوصلو عام 1917 الى 96.790 راسا ونقصت الاغنام من 816.184 راسا عام 1914 الى 796.757 راسا عام 1917 كذلك المعاز من 331.016 راسا عام 1915 الى 302.006 راسا عام 1917.

واصيبت الفصيلة البقرية بالطاعون فانتشر في انحاء البلاد وارتكز في الوجه القبلي وقد حاولت وزارة الزراعة ان تقاوم ذلك الوباء، فوافق مجلس الوزراء على منح وزارة الزراعة اعتماد بمبلغ 11.400 ج.م. للقيام بالنفقات اللازمة لمقاومة هذا الطاعون، واسست الوزارة "المجلس الاستشاري في الامور الزراعية" في 20 ديسمبر 1917 فقرر باكثرية الاراء ان يمنع ذبح اناث البقر والجاموس مدة سنتين مهما كان سنها الا اذا اثبت لوزارة الزراعة ان احدى هذه المواشي كبرت وهزلت او مرضت ولم تعد صالحة للعمل او الانتاج، وكذ اناث الجمال التي لا يزيد سنها على ثلاث سنوات مدة سنتين ايضا وذكور البقر التي لا تتجاوز سنها ثلاث سنوات مدة سنة واحدة.

الصناعة

عندما نشبت الحرب العالمية الأولى كان النشاط الاقتصادي مرتكزا في ايدي العناصر الاجنبية تموله وتشرف عليه وتنهض بشئونه. ذلك ان العشرين سنة التي سبقت الحرب رات تفوقا لرؤوس الاموال الاجنبية اذ بلغ راس المال الاجنبي عام 1914 ما يعادل 91% من مجموع الاموال التي تستغل في الشركات المساهمة دون ان يشمل ذلك قناة السويس.

والواقع ان الراسمالية المصرية كانت قد اخذت – قبيل نشوب الحرب – تحس بالضيق لطغيان النفوذ الاقتصادي الاجنبي، واجتاح هذا التيار مصر وندد بتغلغل الاجانب، وكان اول صوت عبر عن ذلك الضيق هو صوت طلعت حرب الذي راى ان السبيل الى تحرير مصر الاقتصادي هو انشاء بنك مصري برؤوس اموال مصرية.

ولا ريب ان الوضع الاقتصادي لمصر في ذلك الوقت هو الذي دفع الى التفكير في ذلك، فالارض الزراعية محدودة، والسكان تتزايد، وانجلترا هي صاحبة السيطرة على اسعار المحاصيل من جهة وارتفاع اسعار الارض وانخفاض الانتاج من جهة اخرى، هذا عجل بضرورة انقاذ مصر.

وبذلك يمكن القول بان الراسمالية المصرية عندما نشبت الحرب كانت على قدر من الوعي يدفعها الى الاستفادة من هذه الفرصة التي تهيات لها. وتمثل هذا الوعي في ارتفاع رؤوس الاموال المصرية في البنوك ارتفاعا سريعا خاصة ةفي البنك الاهلي والبنك الانجليزي المصري اذ زاد رصيدهما عام 1920 الى 35.5 مليون جنيه بعد ان كان 6.5 مليون جنيه عام 1914.

وفوق ذلك فقد دخلت الراسمالية المصرية ميدان الصناعة بعد ان انخفضت ارباح الزراعة نتيجة لهبوط اسعار القطن اذ انه بنشوب الحرب انقطع سبيل رؤوس الاموال الاجنبية عند التدفق الى البلاد وتعذر ايضا استيراد معظم السلع المصنوعة في الخارج وصفى اعمال الراسماليين الاجانب من رعايا المانيا وحلفائها، ففي عامي 1915 و1916 اوقفت حوالي 17 شركة ، 62 بيتا من البيوت الالمانية والنمساوية، واقفل ايضا البنك الشرقي الالماني وهو احد البنوك التجارية المهمة في مصر، واخيرا اشتداد الحاجة الى صناعات تسد حاجة الجيش والشعب. كل هذا اتاح للراسمالية المصرية فرصة النزول الى السوق في ظل حماية الزامية جاءت بها ظروف الحرب، وتبعا لذلك انشئت الشركات المحلية التي عادت على مصر بالفوائد الكثيرة اثناء الحرب وبعدها.

من هذا نرى ان الحرب خلقت المناخ الذي هيا للراسمالية المصرية النمو، فاصبحت تتطلع خلال الحرب الى الصناعة اذ علمتها مقدار الارباح التي يمكن لها ان تجنيها من هذا الباب، وانه بزيادة نفوذها الاقتصادي يجعلها تتطلع الى مزيد من السلطان السياسي.

وتحول لفيف من البورجوازيين الى الاعمال المالية في ظل الحرب الفادت مصر اقتصاديا وكان من نتيجتها انه على اثر انتهاء الحرب انشئ بنك مصر سنة 1920 لتمويل الصناعات المصرية، ولهؤلاء كان طلعت حرب يوجه نداءاته لاستمثار الاموال في الصناعة، ونجح في ذلك.

وامتلأت الصحافة بالصيحات الداعية لاستثمار رؤوس الاموال المصرية في مجال الصناعة وانشئت صحيفة لهذا الغرض عام 1916 تحت اسم L’Indisponsable journal de peopagande de l’industrie تحث على تشجيع المصريين لاستثمار اموالهم في الصناعة وبضرورة احلالها محل الراسمال الاجنبي في جميع المجالات. فتقول الحرية "تألفت الشركات في مصر لغير المصريين، وعملت عملا متواصلا واستثمرت، فاذا نظرت الى السوق المالية المصرية فلا تجدها الا اسما على غير مسمى اذ ان الاموال الموجودة فيها ليستم لنا، فلا يمكنا ان نحرك يدا ونخطو خطوة.. اما السوق الصناعية فاذا نظرا اليها فلا نجد الا فقرا وجدبا".

وراحت صحيفة الاصلاح تنادي البورجوازيين باستثمار رؤوس الاموال المصرية في المجالات الصناعية، واخذ سيد درويش يتساءل:

ثروتنا فين الاقتصادية وفين كبارنا وفين الوفاتهم

حاطينها في ايدين افرنجية... واهم يافرحتنا بكثرتهم

المصري اولى بقرش المصري يفضل في بلده ميتبزعقش

هم بمالهم واحنا بروحنا دي ايد لوحدهاه متصفقش

بقيام الحرب اوقفت حركة الواردات وانصرفت الامم الى شئون الحرب ونتج عن ذلك ان فقدت مصر بعض اسواق تصريف محاصيلها، كما انقطع ورود بعض الاصناف المصنوعة فارتفع ثمنها ارتفاعا كبيرا فكان لك سببا شديدا وباعثا قويا الى ايقاظ المصريين وحكومتهم وحملهم على التفكير في سد النقص الذي شعروا به، اذ رأوا أنهم عالة على غيرهم من الامم الصناعية، وانه ليس لهم كيان اقتصادي مستقل خصوصا بعد ان ادركوا ان عوامل ومقومات الصناعة متوفرة في مصر.

وقد وجدت الصناعة جوا ملائما في ذلك الوقت، فالشعب محتاج للغذاء والكساء وجيوش الامبراطورية البريطانية في حاجة الى المصنوعات من ذخيرة وصيانة اسلحة وصناعات معدنية مختلفة هذا بالاضافة الى تضخم البطالة التي انتشرت في اوائل الحرب – نظرا لتوقف معظم الاعمال – واستعداد العمال لقبول العمل باجور منخفضة نسبيا رغم الارتفاع المطرد في تكاليف المعيشة، مع كفاءتهم في جميع الميادين من برادة ونجارة ونقش وسبك معادن. وساعدت انجلترا ايضا على قيام الصناعة في مصر، فنحن نعلم نه منذ احتلالها عملت على القضاء على الصناعة المحلية ويتبين ذلك في تقارير لورد كرومر ولكن نظرا لضرورة تموين جيوشها راحت تخفف من قبضتها على مصر من هذه الناحية.

ونشطت الحرب كل الافكار الصناعية التي لم يكن لها صدى قبل ذلك، تجلى هذا في الصحافة فظهرت الدعوة فيها للصناعة في كافة منتجاتها فنادت الاهرام داعية الى انشاء مصانع للقطن ونسيجه، فتقول: "ان مصر لا مصانع لها لنسج القطن، فحياتها المالية مستمدة من اوربا التي يجيئها منها الذهب ثمنا لمحصولاتها وقد وقفت سوقها في الازمة هذه، وتعطلت مصالحها، لذا وجب العمل لانقاذ الموقف وذلك بخلق الصناعت التي يحتاج الها القطر".

وامتلأت العناوين في الصحف والمجلات تحت اسم "الصناعة في القطر المصري"، فراحت الاكسبريس تقول "ألا يكفينا خجلا ما نشعر به الان في ازمة الاسواق المصرية، فلو عندنا مغازل ما بعنا القطن ب8 ريالات، ولست ادري لو انقطع عنا وارد الابرة، فكيف نخيط اثوابنا، ان الجريدة تطالب بتوجيه اموال مصر الى الصناعة، وباستخدام العمال المصريين اهل النشاط في هذا المجال".

وتبع ظهور الدعوة لاقامة الصناعة الوطنية ترقية التعليم الصناعي وحث الناس على تشجيع الصناعة المصرية، فصدرت التعليمات لمجالس المديريات بتوسيع المدارس الصناعية فيها والعمل بجد على زيادة نشاطها لمواجهة ظروف الحرب. وشجعت الورش الصناعية وعمل على توسيعها حتى بلغت في أغسطس 1915 عشرين الف ورشة صناعية انفق عليها 400 الف جنيه.

وسرعان ما انفتح امام مصر ميدان الانتاج الصناعي، اذ اظهرت الحرب خطر الاهمال والتواطؤ، كما ادركت الحكومة خطر الاتكال على المصنوعات الاوربية، ومن هنا وجهت هي الاخرى نشاطها للرقي بالصناعات الموجودة وبخلق صناعات جديدة تسد متطلبات الامة بعد ان سلمت بان الزراعة وحدها لا تكفي بالسير بمصر في طريق التقدم، وفي 8 مارس 1916 قرر مجلس الوزراء تالف لجنة للتجارة والصناعة من كبار الراسماليين المصريين وذلك لدراسة الاسس التي تشاد عليها الصناعة والنهوض بها وتوسيع نطاقها وترويج اسواقها خاصة وان عوامل قيام الصناعة متوفرة في مصر حيث توجد الموارد الاولة والقوى المحركة وانخفاض اجور الايدي العاملة وكثرتها والاسواق.

عقدت هذه اللجنة ثماني وثلاثين جلسة كان اولها في 13 مارس 1916، وزار اعضاؤها الورش والمصانع الموجودة بالقاهرة والإسكندرية وبقية مدن مصر للوقوف على الحالة الصناعية للبلاد وزاروا ايضا مدارس المهندسخانة والفنون والصناعات والتجارة العالية والمتوسطة، واجروا محادثات شتى مع التجار وكبار الصناع وكان يعرض نتائج المناقشات هذه في اجتماعات اللجنة المتوالية.

وتالف لجان فرعية من اعضاء اللجنة واضيف اليهم اخرون من ادارة التعليم الفني والصناعي والتجاري للقيام بابحاث خاصة. وهذا ادى الى تمام الالمام بحالة الصناعات في مصر، وقدمت اللجنة تقارير عن تاثير الحرب على التجارة والصناعة في مصر.

وكان اول اعمال اللجنة استبدال الاصناف التي انقطع ورودها باصناف من مصنوعات البلاد وايجاد الاسواق المصرية لها، وتخير الوسائل الكافية بتمهيد الصعوبات التي يلقاها التجار وارباب الحاصلات من اختلال نظام التعامل مع الامم بسبب الحرب ثم النظر في التدابير التي تضمن لتجارة مصر وصناعتها – بعد ان تنتهي الحرب – نهضة تعتمد عليها مصر للاستغناء عن الاسواق الاجنبية مع القيام بتوثيق رابطة التعامل لسد ما الحقته الحرب من تغيير في النظام الاقتصادي للبلاد.

وقدمت اللجنة اقتراحها وهي تتلخص في تعديل نظام الجمارك واعفاء الصناعات من الضرائب الداخلية وفتح باب المدارس الصناعية والتجارية على مصراعيه، والتوسع في خفض اجور النقل بالسكك الحديدية ومنح التسهيلات الخاصة بنقل المصنوعات المعدة للاصدار والاستهلاك المحلي في بعض الاحوال والمناسبات، ومنح الافضلية في المناقصات الحكومية للحاصلات المصرية والمصنوعات الوطنية

ومنح اعانات مؤقتة وامتيازات بشروط خاصة لبعض المشروعات الصناعية او الخاصة باستخراج المعادن، وتقديم القروض بقصد تمكن الافراد من الحصول على المال الكافي لانشاء بعض الصناعات او ترقيتها وتحسينها، والتوسع في منح المساعدات المالية للمشروعات ذات المنفعة العامة، وانشاء معهد للابحاث الصناعية يتكفل بالنفقات والاعمال التمهيدية اللازمة لشرح الاساليب الجديدة وغيرها مما يعجز عنه الافراد والجماعات والشركات الصناعية والفنية

وكذلك انشاء معمل فني لتحليل واجراء التجارب وعمل الابحاث العلمية، واقامة المتاحف والمعارض التجارية والصناعية مما يكفل تنشيط الرقي الصناعي بفضل ما يمنح فيها من الجوائز. والمساعدة على انشاء النقابات والتعاون وتعيين طائفة من الاخصائيين بصفة مفتشين ومعلمين متجولين للمساعدة على ترقية الصناعات الصغيرة بالارشاد ووسائل النصح والايضاح ونشر المعلومات العامة المتعلقة بالمسائل الصناعية والتجارية، ايضا نادت بانشاء بنك صناعي للمساعدة في النهضة الصناعية حتى لا تكون المشروعات في حاجة الى الاستعانة بالمصادر الاجنبية لذا فوجود هذا البنك ضروري للتسهيلات المصرفية لمساعدة الصناعات القائمة.

وعهدت اللجنة الى طلعت حرب وضع نظام لانشائ شركات تعاون في المدن والقرى لتحسين تلك الصناعات ولتنظيم وسائل الحصول على الخدمات وتصريفها. واحالت اللجنة علي قطاوي باشا درس المواد المتعلقة بصناعة البناء. وشرعت في فحص تقرير كبير عن صناعة الفخار والخزف وبينت اللجنة ان سبب اضمحلال الصناعة راجع الى تخصص مصر في الزراعة دون غيرها. ونظام الضرائب وحمله على الصناع والمنافسة الاجنبية ما تدره من ضرر على البلاد وافتقار مصر الى الراسمالية واخيرا نظام البنوك وفشله في تمويل الصناعات الاهلية، وتعلقت الآمال بهذه اللجنة في احياء الصناعة الموجودة وايجاد المعلومة والبحث عن الاسواق التي تروج فيها المتاجر والمصنوعات الوطنية.

تنقسم الصناعات الى صغيرة واخرى كبيرة، اما عن الاولى فهي تقتصر على ورش صغيرة يشتغل بها عدد يسير من العمال، وهناك ايضا من يزاولون عملهم في حوانيت ضيقة يساعدهم صبيان، وهذه الطائفة صاحبة المقام الاول في الصناعة لانها تضم الشطر الاعظم من الصناع وهي منتشرة في جميع انحاء مصر وتتمثل في صناعة البناء، النساجة وملحقاتها، الصباغة، الحدادة، اشغال المعادن، النجارة وملحقاتها، الدباغة، الاحذية، صناعة الدقيقة، الصناعات الكيماوية (الزيوت، الصابون، الشمع)، ثم صناعات الزخارف من صياغة، نجارة دقيقة، حفر معادن.

وتخصصت مدن مصر في هذه الصناعات، فالقاهرة على راس الحركة الصناعات الفنية، والمحلة الكبرى تخصصت في نساجة الاقمشة القطنية، ودمياط نسج الحرير والاحذية والنجارة الدقيقة، وقليوب واخميم لنساجة الاقمشة القطنية، واسيوط للنساجة والتطعيم وعمل الشيلان، وقنا للفخار، ونقادة للنساجة القطنية والحريرية.

وساعد النشاط الذي احدثته الحرب في معظم الصناعات على زيادة عدد المشتغلين بالحرف الصغيرة، ويعمل هؤلاء الصناع في اماكن ردئية، فاذا كان الصناع من اهالي القرى اشتغل في كوخه بين الاقذار وان كان من اهل المدن مارس مهنته في ورش منزوية في بعض مهاجر المدينة وخرائبها فهمهم ايجاد مكان رخيص الاجرة ولا يهمهم الحالة الصحية رغم ما يستفيدون من مكاسب وارباحا منذ نشوب الحرب ، هذا بالاضافة الى اتباع الاساليب القديمة في العمل وهذا في حد ذاته يسرف في في الخامات ويعطل الانتاج ويؤدي الى رفع الاسعار، وقد تقدمت صناعات الصابون والدباغة والاحذية والقمصان تقدما كبيرا بعد الحرب مباشرة.

اما الصناعات الكبيرة فهي تلك التي تتناول كميات وفيرة من الخامات وتباشر في مصانع كبيرة تدار بالقوة الآلية مع استخدام عدد عظيم من العمال فيها.

الصناعات المعدنية: صناعة الحديد، وهي صناعة واسعة النطاق، نشطت ابان الحرب، وتشمل المنشآت المعدنية بكافة مظاهرها المتنوعة واشكالها المتعددة كتشييد الورش والمباني العمومية والجسور والخزانات والالات والاجهزة وسكك الحديد والمحركات والمراجل والمضخات والات الري.

ويوجد في مصر كثير من المصانع والورش الكبيرة خاصة بانشاء المصنوعات الحديدية، وتصليح المصنوعات القديمة ويشتغل بها عدد كبير من الصناع وبعضهم متخصص في "تصليح الاوتومبيلات والموتسكلات من شكمانات ورفارف وقزازه وسلندرات".

وأهم هذه الورش: عنابر السكك الحديدية وهي تعمل لتصليح القطارات والعربات ومرزها بولاق ولها ورش فرعية في الإسكندرية وطنطا وبولاق الدكرور والواسطة والدلتا وسوهاج والاقصر والسيدة زينب ويبلغ مجموع العمال بها حوالي 5000 عامل، وهناك ايضا ورش الترسانة وتشتغل بتصليح السفن الاميرية وباعمال هامة لمصلحة الري، وورش السجون ومركزها طرة والقناطر وورش القلعة وتقوم بتصليحات وعمل مصنوعات جديدة للجيش وهناك ورش تابعة لمصلحة الطب والمساحة ومخازن البوليس ومصلحة خفر السواحل والموانئ والمنائر، كذلك وجدت ورش صغيرة تعمل بصنع المسامير والصواميل والسلاسل واحذية الخيل والنوارج وحديد المراكب.

صناعة الذهب والفضة: صياغة المعادن صناعة دقيقة، وما من مدينة في مصر الا وبها سوق للصاغة، وقلما نجد قرية من القرى الكبيرة الا وبها واحدا او اكثر من الصياغ، ويبلغ عدد الحرفيين لهذه الصناعة 2332 صائغا طبقا لاحصاء مارس 1917 ، كانت القاهرة عدد صياغها 609 وتلتها الإسكندرية اذ بلغ غددهم 278، واختلف المبلغ المتداول في تجارة المصوغات من سنة لاخرى اذ هو يتعلق بحالة موسم القطن والظروف المالية للبلد.

صناعة الاسرة: بالرغم من انقطاع الواردات – فان مصنع الاسرة الذي انشئ 1913 تمتع برخاء ويسر بسبب الاقبال على منتجاته بعد ان اتقن عماله اعمالهم اذا اصبحت لا تقل اتقانا وتهذيبا عما يناظرها من البضائع الاوربية.

صناعة الساعات: انقطع الوارد وبدات مصر في تصنيع الساعات وتذكر جريدة الوطن: "عندما رات مصلحة السكك الحديد والتلغراف تعذر مجئ الساعات الكبيرة من اوربا فطلبت من يعقوب افندي صانع الساعات ان يصنع لها ساعة كبيرة وبعد ستة اشهر تمكن من صنع الساعة، ولقد اشاد الخبراء بصنعها".

الصناعات الكيماوية: صناعة الورق: من بداية الحرب بلغت ازمة الورق اشدها. فهددت الحياة الادبية في البلاد، وعانت منها الصحافة والتجارة ودوائر الحكومة والكتاب والمؤلفون واصحاب المطابع وعمالها وتلامذة المدارس وكل فرد من افراد الامة. وظهر ذلك جليا في صغر حجم الصحف وارتفاع اسعارها وقلة طبع الكتب العلمية حتى ان حركة المطابع وقفت واستغنت عن كثير من عمالها، وتبعا لهذه الحال كان من الضروري التفكير مليا، بل والعمل المتواصل على انشاء مصناع للورق خصوصا وان مواردها الاولية متوفرة في مصر وشنت الصحافة حملة واسعة على ضرورة اقامة هذه المصناع، وقد استطاع خليل عفيفي بك احد اعيان الزقازيق انشا ء مصنع للورق، تمكن في ظرف عام واحد انتاج من 3.5 الى 4 مليون كيلو من مختلف الاوراق.

كما وجد مصنع آخر لورق اللف الخشن انشئ في 1901 ولكنه كان فاشلا وبنشوب الحرب امتنعت مزاحمة النمسا، فاخذ المصنع ينتج ويستهلك انتاجه فربح ارباحا عالية حتى بلغ انتاجه عام 1916 = 100 طن من ورق اللف، 20 طن من الورق الابيض، ووجهت الحكومة اهتماما لتلك الصناعة فغطت السوق باحتياجاتها.

صناعة الصابون: صنع في مصر كميات كبيرة وذلك لسد طلبات المصريين واستخدمت ايضا لخدمة الجيوش الموجودة في مصر، وبالرغم من الارتفاع الفاحش في اثمان التلك وزيت الكبرين اللازمين لعمل الصابون الا انه قد اصبح في طاقة المعامل ان تصنع الصابون بالزيت الابيض المكرر الا انه قد اصبح عظيما وحلا محل الصابون الذي كان يرد من فلسطين وسوريا واليونان بعد ان انقطع وروده. فظهر الصابون البلدي في الاسواق، وهذا دفع احصاب الاموال الى تاسيس مصابن كبيرة وكثيرة، فزاد عددها اثناء الحرب كذلك زاد انتاج شركة الملح والصودا من كميات الصابون.

صناعة الكحول: مع بداية الحرب ادخلت عليها تحسينات كبيرة، حتى انه انتج في عام 1915 = 11.000.000 كيلو من الكحول، ولكن قلة الخامات خفضت الانتاج عام 1916 اذ اصبح الانتاج حوالي 9.000.000 كيلو وكانت له ايضا اسواقا رائجة في البلاد الاجنبية اثناء الحرب.

تكرير الكونياك: منذ نشوب الحرب اتسعت صناعة تكرير الكنياك والروم، ونشطت هذه التجارة مع انجلترا على اثر امتناع فرنسا عن التصدير وزدات المقطوعية المحلية له.

صناعة الكاوتشوك: انشئ مصنع الكاوتشوك لسد الطلبات بعد وقف الاستيراد، واصبح به عددا كبيرا من الصناع المهرة استطاعوا الوفاء باحتياجات مصر.

الصناعات الغذائية: السكر: انتعشت صناعة السكر وارتفعت ارباحها

950 54.067 صافي ارباح السنة المنتهية في 13/8/1914

971 171.929 صافي ارباح السنة المنتهية في 31/8/1915

937 302.149 صافي ارباح السنة المنتهية في 31/8/1916

ولكن الشركة عاملت الاهالية والتجار بقسوة بالغة، فقد استطاعت اقناع الحكومة باحتكار عصير القصب في معاملها، فتحكمت في الاسعار لانه عند بداية الحرب وحدوث ازمة القطن 1914 هب الاهالي يكثرون في زراعة القصب وتهافتوا على شركة السكر، فارادت ان تعاقبهم على عدم زراعة القصب قبل الحرب، وكانت تعلم ان الفرصة قد اتيحت لها اذ منعت الحرب المزاحمة من الخارج

فاصبحت الشركة هي الحاكم بامرها، فوصل انتاجها من السكر في العام اثناء الحرب حوالي 100.000 طن وهذا القدر يزيد على مقطوعية الاسواق المصرية بنسبة 30% وبفصل انقطاع التجارة النمساوية من البحر المتوسط اصبح في استطاعة الشركة ان تصدر الى الخارج اكثر من 20.000 طن باسعار رابحة، وكثر عدد العمال المشتغلين بها حتى وصلوا الى 17.000 عامل، وراجت منتجات السكر رواجا كبيرا

وكثر الطلب عليها سواء في الاسواق الداخلية او الخارجية مما ادى الى توسيع ورش الاشغال المعدنية فيها. فاصبحت فيما يختص بمعدات الصناعة وآلاتها مستقلة بعض الاستقلال عن المصانع الاجنبية، وهي من هذا الوجه تؤدي الى القطر خدمة جليلة بتكوين صناع وطنيين مهرة في جميع الحرف والصناعات.

صناعة الزيت: بلغ ما حولته المعاصر في 1914/1915 من بذرة القطن الى زيوت واقراص = 1.320.000 أردب، وهو يعادل ربع محصول البذرة. وتخرج ما ينيف عن 10.000 طن من الكسب، وهذا يعادل عصر حوالي 140.000 برميل من الزيت، واهم المعاصر موجودة في كفر الزيات.

وفي الوجه القبلي يقتصر الزيت على الخس والسمسم والدخن، اما في الوجه البحري فينحصر في بذور الكتان والقطن، وكثرت المصانع الصغيرة لاستخراج الزيوت من السمسم البلدي المصري، واستخراج السيرج والطحينة من السمسم السوداني وعمل الحلوى بسائر انواعها، واستثمرت الاموال في ذلك فاقيمت المصانع مثال مصنع الخضري – الذي راجت بضاعته من الزيوت – على شاطئ المحمودية.

كذلك قدمت شركة الملح والصودا انتاجها من الزيت

"ولولا زيت هذه الشركة الآن لتعذر حصول القطر على هذا الصنف بعد ان امتنع وروده من اليونان وغيره من البلاد الاوربية".

صناعة البيرة: من بين الصناعات المصرية العديدة التي كانت الحرب سببا في اتساع نطاق اعمالها صناعة البيرة. وكانت النمسا تصدر البيرة الى مصر، وقضت الحرب على المزاحمة الخارجية حتى ان مصانع البيرة راجت رواجا عظيما وزادت ارباحها، ومثلت زيادة مقطوعية البيرة في مصر دليلا على ان معامل البيرة الوطنية قامت مقام المعامل الاجنبية بل وسبقتها. ويشمل مصنع بيرة انتاج بالقاهرة على معدات وآلات متقنة، وارتفع الانتاج من 30.000 هكتولتر الى 90.000 هكتولتر في العام منذ نشوب الحرب. كذلك سدت صناعة البيرة متطلبات الجيوش الانجليزية.

العلف المسكر: وهو خليط من السعل الغير نظيف والتبن وانشئ له مصنع بوشر العمل فيه منذ منتصف عام 1915 ، وبلغ مجموع انتاجه في مدة عام 23.500 طن، وقد اوقف على تموين الجيوش البريطانية، اذ استغلته السلطة لاطعام خيولها وبغالها.

السمن الصناعي: زاد انتاج السمن الصناعي لاحتياجات السلطة العسكرية.

صناعة النشا: ظهرت هذه الصناعة عقب بدء الحرب اذ توفر لها الخامات، فالنشا يستخرج من الحاصلات الزراعية وخاصة القمح والذرة والارز.

صناعة الكازوزة: راجت هذه الصناعة رواجا واضحا، وكانت متقنة الصنع فعلى لسان شاهد عيان "وقد سررت عندما شاهدت الاستعدادات العظيمة والنتائج الحسنة، وقد تناولنا شيئا من اصناف الكازوزة، وتفقدنا الات المصنع فكان شيئا من الاذهال" ، كذلك ازداد ونشطت مطاحن الغلال.

المصنوعات الحيوانية: صناعة الجلود: لما كانت الزراعة صاحبة المنزلة الاولى في مصر وكانت تربية المواشي عاملا من اهم عوامل الزراعة، توفر في كل عام كمية عظيمة من الجلود الخام، والعادة في تصريف هذه الجلود ان جانبا كبيرا من جلود الضأن والجاموس، ينظف ثم يجفف ويملح لوقايته من التفن وبعد ذلك يصدر البعض منه الى اوروبا للدباغة، والبعض يعالج بالصناعة داخل البلاد، فجلود الضأن تحول الى فراء وسجاجيد وجلود الماعز يصنع منها القرب، وكثير من الجلود يقدم للدباغة ويوجد في القاهرة والإسكندرية حوالي اربعون مدبغة، وثرت الحرب على هذه المدابغ، فكثير الاقبال عليها، فارتفع ثمنها، واسرعوا في تحضيرها فردأت انواعها.

صناعة الاحذية: تقدمت تقدما عظيما في فترة الحرب. فقد انشئت مصانع عديدة لعمل الاحذية اما بصفة مصانع ملحقة بعض المحال الكبيرة المشتغلة بتجارة الاحذية، وكان ذلك بالقاهرة والإسكندرية وسائر المراكز التجارية الكبرى او بصفة مصانع مستقلة تقدم ما تصنعه من الاحذية الى اصحاب المحال التجارية الصغيرة وتنحصر معظم الاشغال التي تقوم بها المصانع المستقلة في عمل الاحذية الرخيصة، واشتهرت دمياط بنوع خاص في صناعة هذا النوع من الاحذية.

اما عن الالبان، ومنتجاتها فابنقطاع الوارد انشئت مصانع لانتاج الزبد والجبن والكريمة على طراز مصانع البان اوربا وانتشرت في انحاء مصر.

تنقية الصوف: لم يصنع الصوف في مصر ولذا اثرت الحرب فيه فوصل سعر القنطار الى اربعة جنيهات وخمسة بعد ان كان لا يتجاوز الجنيهان. واقتصرت حرفة الصوف في مصر على تنقيته، فكثرت الورش لهذا الغرض، وبعد تنقيته كان يفرز كل لون منه على حدة، وبعد ذلك تكدس هذه الاصواف وتعبا في اكياس وتشحن الى ليفربول وغيرها من بلدان اوربا.

الصناعات المعمارية: صناعة البناء: نشطت واصبح اكثر بدائع اشغال الزخرفة والتصوير بالجبس بايد مصرية، وخصصت في المدارس الصناعية اقسام للمباني.

صناعة الطوب: انشئ مصنع كبير بالعباسية تدار اجهزته بالتين بخاريتين احداهما بقوة 225 حصان والاخرى بقوة 75 حصان وجميع عماله مصريون.

صناعة مربعات الاسمنت: يوجد في مصر خمسين معملا، واهمها المصنع الذي يشغل مساحة قدرها 16.000 م2 ويشتمل على 9 مكابس مائية قوية. وعلى عدة مطاحن ومساحق الية وخلاطات كلها تدار بالة تجارية قوتها 275 حصان وصل انتاجه اليومي اثناء الحرب 1.000 م2 من انواع المربعات على اختلاف اصنافها فهو يخرج مربعات للاصطبلات ولتغطية الجدران والحمامات ولتبليط الاسطح.

صناعة الفخار: انتعشت هذه الصناعة بنشوب الحرب لوقوف الوارد اذ اصبح في طاقة المصنع ان يعني بمطالب مصر، وقد توسع اذ بلغ اربع افران عاملة، واثنى عشر دولابا ومضربا للطوب.

شركة الاسمنت: اصبح انتاجها في اثناء الحرب يضارع الاسمنت الاوربي، وعمال المصنع كلهم مصريون، واصبح انتاجه له سوق رائجة لدى عدد كبير من مصالح الحكومة ومعظم المقاولين الخصويين فالحرب جعلت المصنع يبيع انتاجه بسهولة تامة.

ونشطت ايضا اقسام مصنع سورناجه التي تضم الطوب المصنع بالالات على اختلاف انواعها والانابيب وملحقاتها المصنوعة من الفخار والادوات الصحية، والادوات المصنوعة من الفخار الذي يقاوم النار والجير المائي والاسمنت والجبس الرمادي والابيض، واسس عام 1916 قسم جديد هو قسم الفخار والصيني المزخرف وادوات المعامل والعوازل الكهربائية، وبنى ايضا اول فرن لاعداد عمل الصيني والقشاني عام 1917.

صناعة الاخشاب: وجدت في مصر مصانع كبيرة للاخشاب في القاهرة والإسكندرية ودمياط وطنطا والمنصورة. وقد اهتمت مصر بصناعة الاخشاب، فخصص في المدارس الصناعية عدد كبير من تلاميذها للاشتغال بهذه الصناعة. واشتهرت صناعتهم بالجودة والاتقان، كذلك شجعت هذه الصناعة في الورش الصناعية بكل من بولاق والمنصورة واسيوط، وتوجد ايضا للحكومة مصانع تصنع بها عربات النقل والمركبات وعربات السكك الحديدية. كذلك يقوم العمال المصريون بتصليح المحطات والمكاتب والاكشاك وغيرها. وهذه الورش نشطت وغدت فيها حركة عظيمة منذ نشوب الحرب، وذلك لكثرة ما لديها من اشغال السلطة التي تتضمن العربات والمركبات وكباري الخشب وارجل الحمير والصناديق، وثبت ان مصنوعات هذه الورش لا تقل عما يناظرها من المصنوعات الاوربية.

واحدثت الحرب تاثيرا واضحا في صناعة الاثاث لقلة الواردات من المصنوعات الخشبية، فقد هبطت قيمتها من 118.000 في 1913 الى 20.000 جنيه في 1915، و14.762 جنيه في 1917 وهذا دفع التجار الذين يستوردون الاثاث من الخارج الى انشاء ورش جديدة وتوسيع ورشهم القديمة وادخلت الالات الميكانيكية الحديثة لنشر الاخشاب وخرطها واعطائها الاشكال المناسبة المطلوبة.

صناعة الغزل والنسيج: شركة الغزل الاهلية: وهي شركة كبيرة لديها 20 ألف مغزل، 650 نولا تديرهما الة بخارية قوتها 1.000 حصان. وألة احتياطية قوتها 650 حصانا ويقوم العمل فيها 800 عامل معظمهم وطنيون. وبنشوب الحرب سافر رؤساء العمال الاوربيون فكانت فرصة للعمال المصريين حيث احلوا مكان هؤلاء الرؤساء، فاثبتوا اقتدارهم في مزاولة ما عهد اليهم من الاشغال، واستطاعت الشركة ان تنتج بعد قيام الحرب من الغزل 3500 رطل انجليزي، ومن النسيج ما يتراوح بين 8 و9 ملايين ياردة، وبذلك زاد انتاجها عما كان عليه قبل الحرب بما يتراوح بين 15 و20% ، وكانت الشركة قبل الحرب تصدر منتجاتها بالذات لتركيا، ولكن بانقطاع العلاقات بين تركيا ومصر رات الشركة حتمية تصريف منتجاتها داخل مصر، فسعت بكل الطرق لاكتساب ميل الجمهور الى منتجاتها ونجحت في ذلك.

المغزل الاهلي بالإسكندرية: نشطت اعماله حتى انه في عام 1916 استنفذ 50.000 قنطار من القطن وصنع من الخيوط ما قدره 3.500.000 رطل انجليزي، ومن المنسوجات ما يتراوح بين 8 و9 ملايين من الياردات وقد كان للحرب العالمية اثر عظيم في الاعتماد على الخيوط الاهلية بعد الخيوط الرفيعة التي كانت ترد من انجلترا وايطاليا والصين.

كذلك بدات مصر تهتم بصناعة الحرير، فربت دودة القز لهذا الغرض، وازدهرت صناعة الملابس فانشئت المصانع الجديدة منها ذلك المصنع الذي كان الهدف منه تموين الجيش البريطاني من جهة وسد احتياجات الشعب وتوريد الملابس الى المصالح الاميرية والى الشركات الخاصة، من جهة ثانية خصوصا بعد وقوف الواردات الالمانية، والنمساوية من الملابس الجاهزة التي كانت باسطة نفوذها على الاسواق المحلية، ووصل معدل انتاجه الى 300 بدلة في اليوم، وذلك لكثرة المشتغلين به من العمال، وبفضل الاته ومعداته التي تدار بالقوة الكهربائية.

واستحدثت اثناء الحرب صناعة الملبوسات الكتتانية، فانشئ لها مصنع بالقاهرة عام 1916 وجهز بمعدات والات حديثة الطراز، وتعددت منتجاته من القمشة وقمصان صوف قصيرة وسراويل قصيرة وفانلات وصداريات صوف واطقم داخلية وجوارب رجالي وحريمي وعنريات وكوفيات وطرح وشيلان وفانلات للالعاب الرياضية وبدل للاطفال.

وارتبطت بصناعة الملابس تاسيس معامل الحياكة لشغل جميع اصناف البياضات، والفانلات والملابس الداخلية والقمصان واصناف اخرى بلغت في حدود الخمسين صنفا التي تحاكي واردات اوربا بجودتها الفائقة ومتانتها واتقانها. كذلك انشئ مصنع للملابس الجاهزة والحياكة في الترعة البولاقية في يولية 1916 وحوى على مختلف الانواع من الجوارب للسيدات والرجال والاولاد سواء من الحرير او القطن ومعاطف للسيدات وصداري للرجال واحزمة واثواب مختلفة وكلها ذات الوان جميلة ثابتة تدل على حسن الذوق فضلا عن اتقان الصنعة.

اما من ناحية الصناعات النسائية، فتقدمت بشكل ملحوظ ابان الحرب، ففي عام 1916 انشئ مصنع الاشغال النسوية ، ظهر فيه فن المراة المصرية في التطريز والليسيه فنقلت رسوماتها من الفن المصري في العصر اليوناني والروماني والقبطي ثم العربي. وبلغ الكثير من الاشغال التي اخرجتها المراة المصرية حدا رائعا من الجودة، فلقيت اقبالا في شرائها، وفي عام 1917 زاد عدد العاملات بالمصنع فطرزن الملابس النسوية الداخلية الرقيقة حتى بلغت قيمة الاشغال التي صنعتها هؤلاء العاملات في احد الاسواق التي اقيمت 4.000 جنيه كذلك انشئ مصنع للاشغال النسوية بالإسكندرية كان مثلا فائقا في انتاج الدانتيل والفلترية على الاقمشة الحريرية.

وبدات المراة تغزل الخيوط العادية والمستعملة في التطريز ونسج الاقمشة والتريكو، وتقوم ايضا بصنع الناموسيات وشباك الصيد ومناديل الرجال وطواقي الصبيان والعصبات واشغال السنارة والابرة من كروشيه وتريكو وعمل الشيلان والتلافيح، وذلك اشتغلت في صناعة الاكلمة وفرز الفحم الحيواني المستعمل في تكرير السكر وايضا في صناعة الشيكولاتة وبقية انواع الحلوى.

صناعة الطرابيش: كانت الطرابيش ترد من النمسا، وبعد انقطاع العلاقات الذي كان من نتيجته ان قام اسماعيل عاصم باشا بانشاء مصنع للطرابيش في قها يضم 180 عاملا وعاملة والته قوتها 24 حصان بخاري. واصبح ما يخرجه يوميا 800 طربوش، فاقبل الناس على شرائها متهافتين عليها، وهذا في حد ذاته شجع اصحاب المصانع على توسيع اعمالهم، فتضاعفت مقطوعية صناعة الطرابيش بسبب ازدياد القوى الشرائية، ولقيت منتجاته نجاحا في الاسواق الخارجية لما لها من اتقان لا يقل عن الطرابيش المستوردة.

حتى صناعة القبعات ازدهرت وانتشرت في السوق المصرية، كما صنعت القبعات الحربية لسد احتياجات الجيوش البريطانية فافتتح مصنع بشبرا للقبعات عام 1916 لسد الطلبات المتزايدة.

صناعة السجاجيد: على اثر قيام الحرب زيد من نشاط المدارس الصناعية باسيوط ونجع حمادي وبني سويف في صناعة السجاد، فتقدمت مصر في عمل السجاجيد من الصوف ذي اللون الطبيعي وحالف هذه الصناعة الكثير من النجاح.

عمل الحصر والقش (السمار): نشطت اثناء الحرب وتركزت في المنوفية والغربية وكفر الحصر ودمياط واقبل الاهالي على استعمال السلال المزخرفة المصرية فراجت رواجا عظيما. وازدهرت صناعة الزكايب والاكياس التي كانت قبل الحرب تكون مشكلة كبيرة بالنسبة لتصدير القطن، ولكن بقيام الحرب وكاغلبية ما صنع صنعت هذه الاكياس.

صناعة السجاير: لقد شجع ما اصاب البلاد الاخرى التي تصنع السجاير من العطل في سني الحرب هذه الصناعة في مصرن فابيحت زراعة الدخان، واصبحت المقطوعية تكفي مصر وتصدر لبريطانيا واستراليا وفرنسا وايطاليا، وزادت القيمة المصدرة في كل سنة من سنوات الحرب عن الاخرى.

وقد تمكن ارباب الصناعات بفضل مجهوداتهم من سد حاجة مصر الى الكثير من الاصناف التي انقطعت، وبفضل هذه المجهودات امكن التقليل من الغلاء الفاحش، فبأي اسعار مدهشة كنا نضطر الى ابتياع ما نحتاج اليه من السكر والزيوت والاسمنت والكحول والطرابيش وانواع الاثاث اذا كانت الصناعة المنتجة لهذه الاصناف غير موجودة في مصر.

وكان من اهم نتائج قيام لجنة التجارة والصناعة اقامة المعرض الصناعي بحديقة انطونيادس بالإسكندرية حيث عرض فيه ستة وعشرين نوعا من الصناعات قاموا بها صناع مصريون لاول مرة منذ نشوب الحرب، وكثر زواره وكان ذلك في حد ذاته تشجيعا للصناعة المصرية.

بهاذ نرى ان الحرب كانت بمثابة حماية للصناعات الوطنية فادت الى تحسن وضع الصناعات القائمة، والتي كان بعضها مهددا بالافلاس، اذ استطاعت ان تثبت مركزها وتجني ارباحا وفيرة بسبب احتكارها للسوق المحلية، واتاحت الحرب افرصة للمنتجين لانشاء المصانع ولكن رغبتهم في عرض السلع في السوق في اقصر وقت جعلتهم يغفلون الاخذ باساليب الانتاج الحديثة وذلك لتعذر استيراد الآلات الكبيرة ذات الكفاية الانتاجية، هذا بالاضافة الى نقص التعليم الصناعي الحديث، لهذه الاسباب كان معظم المشاريع التي ظهرت لمواجهة ظروف الحرب من النوع الذي يتبع نظم الانتاج الفني الضيق، ولكنه رغم من صغر حجكم المشروعات الصناعية هذه، ورغبتها في تحقيق ربح عاجل فانها كانت بمثابة الحجر الاساسي للنهضة التي تمت في الفترة التالية للحرب. التجارة الداخلية

قامت الحرب فكان لها تاثير كبير وواضح على التجارة الداخلية فمصر منذ الاحتلال البريطاني وهي تعتمد كل الاعتماد على الواردات الأجنبية وذلك لتغطية احتياجاتها المحلية من دقيق وبترول وماشية وفواكه ومصنوعات، فلما قامت الحرب انقطعت هذه الواردات، وبالتالي اصبح على مصر ان تكفي نفسها وان تغطي احتياجات جيوش الامبراطورية المرابطة على ارضها من تموين وخلافه، وهذا في حد ذاته موقفا عصيبا مرت به مصر اثناء هذه الفترة كانت اولى نتائجها ذلك الارتفاع الهائل في الاسعار اذ ارتفعت عما كانت عليه قبل الحرب بمعدل 237%.

وتعددت الساباب التي ادت الى هذا الارتفاع وكما ذكر، فقلة الموارد من البضائع والمحاصيل المجلوبة من اوربا بسبب انقطاع معظم المصانع الى صنع الذخيرة والاسلحة ومهمات الجيوش وانفصام العلاقات مع المانيا وحلفائها حرمت مصر مما يصدر اليها. وكان ممكنا للدول المحايدة ان تستمر في علاقاتها التجارية مع مصر. ولكن هناك عقبات امام ذلك، فقد قطعت طرق المواصلات بين مصر والدولةالغربية هذا من ناحية

ومن ناحية اخرى حرب الغواصات التي شنتها المانيا على السفن قلل من البضائع الواردة، اذ اغرقت الباخرة "نيس" في البحر المتوسط وكانت محملة ببضائع قيمتها 200 الف جنيه لصالح التجارة المصريين. ولم يعد من السفن التجارية في ميناء الإسكندرية الا سفن الامم المحايدة وهي قليلة جدا، هذا بالاضافة الى الارتفاع الكبير لقيمة الشحن للبضائع الوارد، وعلو السوكرتاه على كل ما يرد من الخارج.

وهذا انعك على داخلية البلاد، فباعلان الحرب ارتفعت الاسعار، وبسرعة فائقة اقبل الناس على شراء تلك المواد وخزنها خوفا من نفاذها واصبح الرث العتيق يباع في الاسواق باثمان باهظة حتى البضائع الموجودة في المخازن منذ عشرات السنوات واكثر والتي كان اصحابها يتمنون بيعها واكل الدهر عليها وشرب اصبحت باغالى الاثمان ذات قيمة وكثر الطلب عليها.

ومما زاد رفع اثمان البضائع احتياجات الجيوش البريطانية الى جانب كبير منها واقبالها على شرائها من غير تدقيق ولا حساب، فربح التجار وتحمل الشعب عبء خسارة ثقيلة لان التجار اضطروه للشراء بالاثمان التي يشتري بها الجيش، وكان من نتيجة ذلك ايضا نشاة فئة ربحت واستفادت من هذه الظروف، وضحى البعض بوظائفهم، وتركوا اعمالهم وأنشأوا "الكانتينات" لتموين الجيش البريطاني.

كذلك غنم اصحاب الحوانيت من جراء ذلك مبالغ طائلة وربح تجار الماشية والالبان والخضروات واصحاب القهاوي والحانات وتجار الكحول والدخان والسجاير والمطاعم وانفقت الجيوش البريطانية في مصر ما يقرب من 85 مليون جنيه مصري وهذا الذي دفع الحكومة الى اصدار اوراق البنكنوت واحلاله محل النقد الذهبي، وكان من نتيجته التضخم المالي الكبير اذ كثيرت النقود بين ايدي الناس ورخصت وبالتالي غلى ما يشترى بها.

فوق ذلك فقد دخل الميدان التجاري الوسطاء، فغزت المضاربة التجارية السوق، فارتاده اناس ليسو بتجار ولا بباعة بل هم مضاربون يشترون البضائع ويرغبون غيرهم في ابتياعها منهم بثمن غال فيزداد الثمن اضعافا حينما يصل الى يد من يضطر الى شرائها، وبهذه الطريقة يربح الوسيط في ظرف بضعة شهور ثلاثة واربعة آلاف جنيه.

ولعب التجار دورا مهما في المساعدة على ارتفاع الاسعار وغلو الاشياء، ففشا داء الاتكار والتلاعب بالاثمان، فبمجرد ان اعلنت الحرب خزنوا القمح في مخازنهم والبعض اخفاه عن الاعين في اماكن مجهولة ورفعوا اثمان حاجاتهم وطمعوا وازدادات رغبتهم في الثراء فمثلا صنف معين يكون في ساعة معينة بعشرة قروش اذا به باثنى عشر فبخمسة عشرة فبعشرين وهذا كله بعد ساعات معدودة من نفس اليوم وتلاعبوا بالاسعار فمثلا طن الفحم بيع في صباح ب180 قرشا وفجاة ارتفع الى 200 قرش وفي نفس اليوم وصل الى 300 قرش.

وكان اغلب هؤلاء تجار اجانب، فعندما احسوا بالازمة اكثروا من شراء البضائع باثمان بخسة وكفوا عن البيع حتى واتتهم الفرصة فانتهزوها، اما المصريون من التجار فاكتفوا بالشتغال بالتجارة البسيطة ولم يستفادو مثل الاجانب الذين اصبحت التجارة كلها بايديهم، وحاولت الحكومة ، الضغط عليهم عن طريق الاجتماع بقناصلهم ومطالبتهم بالكف عن استغلال الشعب، ولكن بدون فائدة واستمرت الاسعار تعلو فرات الحكومة انه يجب عليها ان تظهر بمظهر المحافظة على مصلحة مصر وحماية شعبها من اثر الحرب باتباع سياسة انقاذ ما يمكن انقاذه، ولكن ككل اجراء سياسي حدث لمصر اثناء الحرب كانت الاجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة، فهي لا تصدر اي امر الا بعد موافقة انجلترا وان يكون وفقا لمصالحها وتماشيا مع اقتصادها وتموين جيوشها على ارض مصر.

كانت اولى الاجراءات التي رات الحكومة المصرية ان تتخذها، منع تصدير المواد الغذائية والحاصلات المصرية للخارج وفرضت عقوبة على كل من يجرؤ على التصدير واناطت المراقبة بخفر السواحل وبمصلحة الجمارك ولصقت الاعلانات تحذر على من يضبط باي بضاعة مصدرة بانها ستوقع عليه عقوبة الاعدام.

لكن الحكومة رجعت واباحت التصدير الى الخارج، فارتفعت الاثمان لمجرد سماع شكوى بعض التجار فصدر الارز والفول السوداني والسمسم والزيوت والخضروات والسكر والدقيق والبيض والبصل. وهذا الموقف المذبذب من الحكومة ازاء منع اباحته ثم تقيده شجع القائمين على التجارة باحتكارها وبرفع اسعارها.

ثم رات الحكومة ان تعمل على فك الازمة من ناحية اخرى ففاضوت جماعة من التجار المشهورين لكي تشتري منهم كميات وافرة من الارز والسكر والبن وسائر المواد الغذائية ثم تخزنها هي وبالتالي تبيعها للشعب باثمانها ولكن هذه الطريقة لم تؤت ثمارها، وازاء ذلك الوضع علا صياح الجمهور يستنجد بالحكومة لوضع حد للازمة، وفي الوقت نفسه طالبت الصحافة بوضع تسعيرة للمواد الغذائية حتى لا يغالي التجار ، ولبيت الدعوة وكانت الإسكندرية هي اولى المحافظات التي حددت تسعيرة المواد.

ففي الثامن من أغسطس 1914 رات بلدية الإسكندرية تحديد اسعار المواد الغذائية ، واعلنت انه كل عشرة ايام ستلصق التعريفة المقررة على الجدران وتنشر في الصحف، وخول ايضا للمجلس البلدي حق الشراء بالجملة من الاسواق المحلية او الخارجية من الحبوب والمواد ذات الضرورة الاولى ثم بيعها بالسعر الاصلي للجمهور .. وان تنشئ المامورية مخابز بلدية ومطابخ اقتصادية وخصصت لهاذ الامر 50.000 جنيه.

وفي 20 أغسطس 1914 تبعت القاهرة والمحافظات الإسكندرية في تحديد الاسعار وذلك عن طريق لجنة مختصة تتالف من المحافظ او المدير بصفته رئيسا ومن اعضاء يعينهم وزير الداخلية لكل محافظة او مديرية، وتقرر ان تحدد اللجنة في كل اسبوع اقصى الدرجات للاسعار، ورات هذه اللجان ان يعاقب كل من امتنع عن البيع بالتسعيرة بغرامة لا تتجاوز 200 قرش وغلق محله على الاقل اسبوع.

واجتماع هارفي باشا قائد بوليس القاهرة باموري الاقسام لضرورة العمل على تنفيذ التسعيرة والرقابة على التجار وفرض العقوبة عليهم وكثرت قضايا التسعيرة في انحاء مصر حكم فيها على التجار ولم تمض على تشكيل اللجان عام حتى ساءت الامور.

وفي حقيقة الامر فان لجان التسعيرة لم تحل الازمة اطلاقا بل عملت على ازديادها، فكانت مضرة اكثر منها نافعة فساعدت التجار على اخفاء ما لديها من بضائع لدرجة انهم ربحوا اكثر من مقبل تسعير المواد، هذا بالاضافة الى عدم ادخال كل المواد في التسعيرة مما ساعد على عدم التحكم في السوق اذ اخرج من التسعيرة الدقيق والخبز والفحم بانواعه، كذلك زيدت التسعيرة على الملح وذلك على اثر استجابة طلبات التجار الذين رفعوا اصواتهم منادين برفع الثمن المقرر في التسعيرة وخاصة القمح والدقيق.

وضرب الناس بتلك التسعيرة عرض الحائط لا سيما بعد ان اصبحت تمتد اليها يد التعديل والتغيير كلما اعترض بدال او احتج بائع او صاح تاجر سواء اكانت دعواه صحيحة ام كاذبة. فكلما شكا احدهم اصغت له اللجنة وصدقت اقواله واجابته الى طلبه برفع الصنف الذي يقول انه لا يقدر ان يبيعه بالسعر المحدد في التسعيرة، هذا وقد اوجدت ارتباكا شديدا في المعاملات، لان التسعيرة قابلة للتغيير كل اسبوع

وهذه القابلية تجعل املا عند المزارع مثلا في ان الاسعار تتحسن يوما فيوما فيمسك يده عن البيع، ون ذلك ان اسعار بعض الحاصلات جعلت في محل الانتاج اكثر من سعرها الرسمي في محل التصريف. وفي الواقع فان كثيرين من اعضاء اللجنة كانوا يفضلون الراحة على التعب فكم من مرة وضعوا اسعار لاصناف كانت تباع باقل من الاسعار التي عينوها وامروا باتباعها والخضوع لها. ويقول محمود بيرم التونسي ساخرا من قرارات لجنة التسعيرة:

تعريفة محكة التقدير من لجنة التعسير لا التسعير

اجتمعت في اسعد الاوقات وحددت سعر الغذا كالاتي

القمح كل حبة بدرهم ومثله الارز وحب السمسم

والتبن لم يوجد بالمثقال في الخصب فالمثال الريال

من اشترى صاغا من النخالة فهذا يعد من ذوي النبالة

ثم رات الحكومة في 24 أغسطس 1914 تاليف لجنة للتموين مكونة من ثمانية اعضاء تحت رئاسة سعيد ذو الفقار باشا مهمتها بحث حالة مصر من حيث التموين بالمواد الغذائية وغيرها من اصناف الحاجيات الاولية، والسعي وراء الحصول على ما يمكن لسد كل نقص في موارد البلاد الاقتصادية، ولكنها تداخلت مع لجان التسعيرة اذ اصبح عليها ان تقدم لها من ان لاخر كشفا ببيان الاصناف التي يجب عدم تعرض هذه اللجان لاثمانها، وكان من شان هذا التداخل ان تغالت اللجنة فيه، فاخرجت من المواد القابلة للتسعير مادة الخبز وهي القوت الوحيد للفقير والمسكين، وبهاذ نرى ان هذه اللجنة ايضا لم تعمل على تخفيف الازمة بل زادت من حدتها.

كذلك انشا مجلس الوزراء "لجنة الزراعة والتجارة" في 8 ابريل 1916 لتنظيم التسويق للحاصلات الزراعية بعد انقطاع العلاقات التجارية مع المانيا وحلفائها. لكن هذه اللجنة ايضا لم تعمل على حل الازمة ومن هذا نرى ان الحكومة بدلا من ان تخفف من وطاة الوضع عملت على ازدياده، وتسبب ايضا في ارتفاع الاثمان غلو النقل داخل البلاد وذلك ان السلطة العسكرية امرت بجمع المرابك التجارية على النيل وخصصتها للاعمال الحربية، ولهذا السبب اصبح النقل بطريق النيل صعبا ونادرا، والنقل بالسكك الحديدية غاليا ومحدودا.

وساعد على ازدياد الموقف حرجا احتياجات الجيوش البريطانية الى التموين. لذا عملت الحكومة على انقاص المساحة التي تزرع قطنا وتعويض ذلك بزراعة الحبوب لصالح السلطة التي زاد طلب جنودها على الحاصلات فانتزعت من افواه الشعب لصالح الجيوش ولتمون بها، ففي اواخر 1915 انشئت لجنة للنظر في تموين الجيوش البريطانية.

وفي 26 سبتمبر 1917 صدر مرسوم سلطاني بانشاء مصلحة للتموين مهمتها حصر جميع المسائل الخاصة بتموين البلاد ودرس الاسعار المحلية وتتبع ما يحدث من التقلبات في الاسواق، وعرض جميع الاقتراحات التي ترى فائدتها لاجل وضع القواعد لتحديد الاسعار ووضع نظام تويزع الماكولات والحاجيات الولية، ثم كان عليها القيام بحاجة الجيش البريطاني، توزيع هذا العبء على مختلف الجهات وقد اصبحت هذه المصلحة وثيقة الصلة بالسلطة العسكرية.

وهذا الاجراء ادى الى نشوء حالة اخرى من الظلم لان حاجات الجيش بطبيعة الحال هي التي اوليت النصيب الاكبر من العنياية دون حاجة الشعب، ومرة اخرى وقع عبء تقديم المؤن الغذائية على صغار اصحاب الاراضي دون كبارهم وعلى فقراء الشعب دون اغنيائهم وترتب على ذلك تلك الزيادة الهائلة في الاسعار وهذا الغلاء الفاحش الذي قاست منه مصر حتى انه لم يعد في مقدرة الطبقات سواء الفقيرة او المتوسطة القدرة على شراء الطعام.

اما عن المواد الغذائة التي اصابها الغلاء، فكان اهمها الحبوب، فعلى سبيل المثال اذا نظرنا الى القمح والارز ورمزنا لاسعاره قبل عام 1914 برقم 100 فتكون الزيادة:

السنة 1914 1915 1916 1917 1918 النسبة للقمح 98 112 123 199 243 النسبة للأرز 93 89 98 153 168

وارتفع سعر الذرة وهو الغذاء الاساسي للفلاح الى 30 قرش للاردب رغم ان سعره كان محددا ب110 قرش وسعر العدس الى 235 قرش للاردب بعد ان كان يباع ب120 قرش وساءة الحالة وتحير الناس في العمل ووصلت حالتهم الى درجة من الهياج خصوصا ازاء ارتفاع اثمان الغلال، ويصف مندوب الاهرام فيقول: "مررت باحدى الاسواق فرايت ارملا تحمل مقطفا وحملها اولادها، عائدة من السوق وهي تدعي على اصحابه بالموت فسالتها عن السبب فقالت ان اولادي سيموتون جوعا، ولم استطع ان اشتري حبوب لان التجار قد اوصلوا كيلة القمح الى 27.5 قرشا".

وكسدت الاسواق وحتى الفلاحين لم يعودوا يرغبون في البيع بالاسواق بل يبيعون في قراهم لان التجار يقصدونهم في منازلهم حتى لا يدعو فرصة الشراء لغيرهم طمعا في الارباح وجمع الثروة، وتجمع الناس وارسلوا المندبيون لمديري المديريات لعرض شكواهم من ارتفاع الاسعار ولكن بدون جدوى.

حدث ذلك كله داخل البلاد فوجدت الغرفة التجارية المصرية ان من اهم اختصاصاتها البحث في ايجاد التعاون والتوازن الاقتصادي والسعر لاصلاح الامور وتحسينها، فوالى مجلس ادارتها اجتماعاته منذ الثاني من أغسطس 1914 وانتخب بين اعضائه لجنة على راسها طلعت حرب للنظر في الاثمان، وفي 8 أغسطس اجتمع مجلس ادارة الغرفة التجارية تحت رئاسة عبد الخالق مذكور وبقية الاعضاء واحضروا لهذا الاجتماع حوالي سبعين تاجرا من تجار الغلال والدقيق واصحاب المخابز بالقاهرة.

ولم تثمر تلك المجهودات واستمرت الاسعار في الارتفاع، وعندما اشكتى الناس من ذلك اسرع التجار – للعمل على زيادة الازمة – بتحويل غلالهم من الاسواق الى مخازن بعيدة عن انظار البوليس لدرجة ان منهم من خزنها في المدافن. ورغم ان تقليل المساحة التي زرعت قطنا عام 1915 قد سبب زيادة المساحة التي تزرع قمحا، ولكن طلبات الجيوش من ناحية واصابة المحصول من ناحية ثانية، واباحة التصدير من ناحية ثالثة، واخيرا انقطع الوارد من الدقيق، كل هذا ساعد على تازم الموقف ثم ازداد بانقاص المساحة المزروعة حبوبا باعادة زراعة القطن كما كانت عليه، ولم تكتف الحكومة باباحة التصدير، بل زادت التسعيرة الى ان اخرجت كل من القمح والدقيق والخبز منها.

ولعب الوسطاء والمضاربون – وغالبيتهم من الجانب – دورا في الازمة، وهذا بالاضافة الى ان كبار المزراعين وارباب الاراضي الواسعة التي امتلأت ايديهم بالثروة بسبب ارتفاع اسعار القطن عامي 1916 و1917 ، أصبحوا في غير حاجة لبيع حبوبهم فيحفظوا حاصلاتهم الزراعية ازمانا ولا يفرطون فيها الا باثمان يفرضونها، ولم يكتفوا بهذا بل انهم ياخذون غلال مزارعيهم ويشترونها منهم بالاسعار المقررة ويخزنونها.

من هذا يتبين انه ليس تجار الغلال وحدهم انما معهم هؤلاء، جميعهم يتحكمون ويحبسون المحصول عن الشعب، زد على ذلك فان بعض الشركات تستعين بالبوليس على خذ كميات كبيرة من الغلال الداخلة في التسعيرة بمجرد وردوها الى ساحل روض الفرج واثر النبي وهذا يحرم الجمهور من الحصول على شئ منها.

وفرضت لجنة مراقبة التموين – التي انشئت لسد حاجات الجيش البريطاني – نفوذها وسلطتها على سوق الغلال بكافة الطرق فشددت على مسالة القمح، بل بايقاع العقوبة على من يثبت ان لديه اي مقدار مخزون من الغلال وعلى اثر ذلك انتشر التفتيش بالاراضي والمنازل واعلنت عن جوائز مالية لكل من يرشد عن كميات من القمح مخباة، وانشئ بالإسكندرية بمينا البصل مكتب لتوزيع الحبوب تحت ادارة لجنة التموين المحلية لمراقبة جميع القمح ودقيقه الذي يصل الى الإسكندرية.

وتبعا لارتفاع سعر الغلال ارتفعت اسعار الدقيق ففي يوم واحد نراه من 160 قرشا الى 240 قرشا واجتمع التجار وكلهم من الاجانب اليونانيين وتداولوا في الامر وصمموا على رفع الاسعار بدرجةكبيرة لم يسمع بها من قبل لعلمهم ان الطلب كثير والعرض قليل والمصري محتاج الى ذلك، والواجب عليهم حسب شروط الاجتماع ان يتحكموا في المصريين وان يمتصوا دماءهم.

وانتهز التجار فرصة غلاء الدقق في اليونان فصدروا اليها كميات كبيرة تزيد على 50.000 كيس ، ولم يعد يحتاجون الى طلب الترخيص، فكلما لاحت لهم الفرصة، وكلما راوا من مصلحتهم تصدير الدقيق صدروه، واخذ تجار وابورات الطحين يضاربون بسعره في اليوم ثلاث مرات فيبيعون الاقة تارة بثلاثة ونصف ومرة بثلاثة وعشرة ومرة بثلاثة، والازدحام شديد امام وداخل وابورات الطحين ولا يمر يوم دون المضاربة والملاكمة، والنساء في ثورة لاحتياجهن لشراء الدقيق ليقتاتوا به هن واولادهن، وقد راينا امرأة اخذت طشتا كبيرا وركبت الكهرباء ونزلت في السوق لبيعه حتى تستطيع ان تجد الثمن الذي تدفعه لشراء الدقيق.

وعندما سعرت الحكومة الدقيق كانت تسعيرتها حبرا على ورق وينقل لنا شاهد عيان مظاهرة نسائية من اجل الحصول على الدقيق امام باب مخزن فكان الصياح "لمين نشتكي ولمين نبكي ما دام القاضي بربري والنائب تركي". تبع ذلك ارتفاع اسعار الخبز حوالي 45% ، وكانت الإسكندرية كالعادة اكثر غلاء من باقي مدن مصر اذ وصل ثمن الرغيف 3 قروش ونقص وزنه وصغر حجمه. وعندما حددت الاسعار قامت المخابز بحركة تعطيل مضربة عن العمل.

واذا انتقلنا الى الفحكم نجد ان تاثر تاثرا واضحا وبالغا بقيام الحرب، فارتفع سعره بالغا وصل الى:

السنة 1914 1915 1916 1917 1918 النسبة 135 202 246 868 1107

وارجع ذلك الى قلة الوارد منه وارتفاع الشحن والنقل هذا وقد اسهم التجار في الزيادة فتعطلت اكثر الالات البخارية المستعملة لري الاراضي وتوقفت اعمال وزارة الاشغال من مشروعات الري وخلافه. واخذ البعض من كبار ملاك الاراضي يتركون الارض بدون زراعة، فيقول مندوب المقطم: "علمت ان احد كبار المزارعين شرق الجيزة قد فضل ترك 200 فدان بورا على ان يشتري طن الفحم ب4 جنيهات عدا مصاريفه". وبالتالي ساءت حالة الفلاحين واصبحوا في حيرة شديدة.

وجرت الحالة على البترول وتعرض لنفس الظروف السابقة، فصدرت اوامر الحكومة بتوزيعه في الاقسام بالبطاقات وعين المراقبون على التوزيع، ورغم ذلك فلم يستفد الجمهور اذ استطاع الوسطاء ان يحولوا بينهم وبين الاسعار المحددة ، وتالفت لجنة بالإسكندرية "لجنة غاز البترول"، لتموين البلاد ، لكنها لم تنجح في مهمتها للدرجة ان بيرم التونسي ردد قائلا:

وهم لما قد حازه من الشرف يوضع في بذور اصحاب الترف

وبما عدوه في الجهاز كيما يقال دخلت بالجاز

اما عن السكر فقد قفز ثمنه واستمر حتى بعد دخوله التسعيرة ولعبت شركة السكر دورا في الازمة فتحكمت في السوق وفي اختيار العملاء وفي تقدير الكميات وذلك بعد ان خلا الجول لها ومنعت الحرب المزاحمة الاجنبية في الاسواق بل واعطتها الفرصة لتصدير السكر للخارج وكانت انتيجة المزيد من الارباح.

واصاب الغلاء الزيت حين كفت المعامل عن صنعه لعدم وجود البذرة عندما احتكرتها السلطة، والزيت هو المادة الدهنية الوحيدة التي يتغذى بها الفقير بعد ان وصلت اسعار السمن الى اقصاها.

وبادخال الحكومة الزيت في التسعيرة جعل شركة الملح والصودا تمتنع عن تشغيل وابوراتها في اخراج الزيت من البذرة وبينت بانه باتباع التسعيرة ستخسر الشركة لان السعر المقرر له لا يقوم بنفقات عصره، والذي تسبب في هذه الازمة هو ان بعض الشركات المعاكسة لشركة الملح والصودا واصحاب المعاصر الصغيرة اردوا منافستها فاعلنوا استعدادهم لبيع الزيت الفرنساوي وغيره بسعر اقل مما تبيع به شركة الملح والصودا، فلما اوقفت معاملها عجز هؤلاء عن عمل الزيت الفرنساوي بنوع خاص، فانعدم كلية من السوق.

واذا تناولنا الانتاج الحيواني وما قاته مصر منه نجد ان الحرب قد اثرت تاثيرا واضحا عليه، وككل شيء في مصر قد مسه الغلاء ايضا وحرم منه الفقير ابدا، حتى الغني لم يصبح هو الاخر قادرا على شرائه بعد ان انقطع الوارد من الخارج، وازدادت طلبات السلطات العسكرية عليه.

وعندما سعرت اللحوم امتنع القصابون عن الذبح واعتصبوا مطالبين بزيادة الاسعار، ولم تستطع الحكومة ان تحزم الامر اللهم الا باصدار الفتاوى للتقليل من ذبح الضحية والسماح بنحر الخيول، وتبع ذلك ارتفاع منتجات الالبان.

اما عن الدواجن فمرت بظروف الحرب القاسية اذ اثر عليها ارتفاع سعر الذرة كما انت الترخيص بتصدير البيض قلل من الانتاج ورفع الاسعار من 115 قرشا لكل الف بيضة الى 300 قرش في ظرف اربعة وعشرين ساعة، هذا بالاضافة الى احتكار الانتاج لصالح السلطة.

والصابون اصبح مغشوشا لقلة الزيت ولارتفاع اثمان الكربونات ومواد العطارة ارتفعت الى اربعة اثمانها وتعذر الحصول على معظمها، والادوية والعقاقير والزجاج والورق دارت في نفس الفلك والمحصولات الزراعية من الدرنيات فالبطاطا اصبح لا يستطيع اكلها الى الاغنياء والبطاطس وصلت الاقة منه الى 6 قروش بعد ان كان سعرها قرشا واحدا، وارتفعت اسعار الطماطم 84% عن سعرها قبل الحرب وعلت اثمان الثوم والبصل والزيتون والعنب.

وتعرض الاقمشة الى الارتفاع الاسعار، فالاصواف انقطعت وارداتها، والاقمشة الشعبية كالبفتة والشيت اصبح على الفقير ومتوسطي الحال عدم القدرة على شرائها كذلك الحرير.

اما الاحذية فكاد الناس ان تستغني عنها والطرابيش رغم انها مصنوعة على ارض مصر الا ان اسعارها ارتفعت الى درجة كبيرة واضحى السبرتو "كالريحة"، والملح زاد 100% وهو من اهم الحاجيات وقوام الطعام فاحتكروه التجار وتلاعبوا به، واصبحت علبة الكبريت نادرة وزادت اثمان الثروة السمكية حتى الماء اصبح له سعر مرتفع فاذا سئل السقا عن سبب رفع الثمن قال "ان جلد القرب غال وان الماء غال وان نفقاتي صارت كثيرة بسبب الغلاء".

كان ذلك اهم ما اصاب السوق التجارية المصرية اثناء فترة الحرب بعد ان اقحمت انجلترا مصر في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل وقد اثر هذا الوضع على المجتمع المصري مما سيكون له نتائجه.

التجارة الخارجية

يقصد بها المعاملات التجارية والمالية التي تحدث بين افراد وحكومات وحدات سياسية مختلفة، او بعبارة اخرى انتقال السلع والاموال عبر الحدود السياسية، فالفرق اذن بين التجارة الداخلية والتجارة الخارجية هو "مبدا اجتياز الحدود السياسية" لدولة ما فيمكنها حظر التجارة مع دولة اخرى معادية او فرض الرسوم الجمركية مراعاة لمصالح الاقتصاد العربي.

والتجارة الخارجية من اهمل العوامل التي يمكن بواسطتها تقدير حركة الاقتصاد باي بلد، ومن ثم فان الاحصاء الجمركي يعتبر بمثابة مرآة تنعكس فيها الصورة العامة لهذه الحركة، ومصر – منذ الاحتلال الانجليزي لها – اعتمدت في اقتصادها على الاستيراد من الخارج لمعظم المصنوعات اللازمة لها، ومقابل ذلك فهي تصدر للبلاد الاجنبية حاصلاتها الزراعية بما يفي باثمان هذه الواردات وبتكاليفها.

ويتاثر المزارعون في مصر من التغير في مقادير محصولاتهم وقيمتها تبعا لقانون العرض والطلب الخاضعان لعوامل متقلبة شتى، هذا فضلا عن ان التجارة في مصر شاناه في سائر البلاد الزراعية البحتة معرضة لتقلبات كثيرة ناشئة عن دورة الزراعة والتباين في مقادير الحاصلات واثمانها، وكذلك تتعرض التجارة لما ينشا عن العوامل السالفة الذكر مع الاختلاف في المقدرة على الشراء لدى الاشخاص المرتزقين من الزراعة، وامكانيات مصر الاقتصادية ترتكز على محصول زراعي واحد هو القطن، وهذا المحصول معرض من حيث قيمتها وكميته لتقلبات اشد واعظم مما يصيب سائر المعصولات المعادلة في الاهمية وينشا عن ذلك عيبان اولا عدم التوازن بين العرض والطب ثانيا الاختلاف العظيم في ايراد الافراد مما يؤدي الى اختلال الميزانيات.

قامت الحرب العالمية الأولى فادت الى حرمان مصر من العديد من السلع، كما انها حالت دون تصريفها لاهم منتجاتها، واصبحت سياسة التخصص الاقتصادي غير ملائمة لانه يشترط لنجاحها ركنان اساسيان، حرية التجارة وانتظام وسائل النقل، وذلك لا يتوفر اثناء الحرب.

واختل الوضع الاقتصادي اذ رات الحكومة من الثاني من أغسطس 1914 منع تصدير المواد الغذائية، وجاء قرار الخامس من أغسطس ليزج بمصر في تلك الحرب فاعلنت ولاءها لانجلترا التي املت عليها شروطها فيما يختص باعدائها فمنعتها من التعامل معهم وكانت نتيجة ذلك ان اقفلت البيوتات التجارية وكان معظمها المانيا ونمساويا، كذلك اوقفت اعمال المحال التجارية التي يديرها الاوربيون لسفر اصحابها للالتحاق بجيوشهم.

وقطعت واردات كانت ترد لمصر من المانيا والنمسا وحلفائها، تلك التي اصبح من المتعذر احضارها من مكان آخر فالقاطرات والمواد المعدنية والادوية والسجاير والادوات الكتابية والمنسوجات والمصابيح والمطاط والسكر والنيلة والكحول، وكان التاجر الالماني او النمساوي ياتي بالزخارف وما يتفق والذوق المصري، فالطربوش هو شعار المصري والشال تفضله المصرية والادوات المنزلية والملابس وادوات المائدة والاعطار وانواع الصابون التي كانت تباع باثمان زهيدة كانت تستورد من محلات المانية.

وعلى سبيل المثال فان قيمة ما صدر لمصر من القاطرات والعربات في عام 1913 بلغ 1.450.000 فرنك كان نصيب المانيا منها 1.300.000 فرنك، اما صادرات مصر لالمانيا والنمسا فكانت تفوق صادرات مصر الى دول اخرى وارتكزت على الجلود والمنسوجات والقطن اذ تبلغ ما ثمنه نحو 5.700.000 جنيه وسائر البلاد تشتري بنحو 28.000.000 جنيه.

وفرضت الحكومة على تجار الصادرات ان يودعوا تأمينا في خزينة الجمرك لا يقل عن 50% من الاقطان التي يصدرونها للخارج، ولا يرد اليهم هذا التامين الا بعد ثلاثة شهور اذا ثبت ان هذه الاقطان لم تصل الى المانيا والنمسا وكانت الحكومة لم يكفها ما لحق الفلاح من كساد وضياع تعبه فجاءت اليوم تعرقل مساعيه بهذا القرار الذي كان ضرب قاضية على تجار الصادرات وعلى الفلاح ، ان الفلاح يجد بوارا في قطنه فضلا عن بخس ثمنه.

وفرضت الرقابة على السواحل، واوقفت الحركة التجارية بميناء الإسكندرية بالنسبة للسواحل الغربية وذلك حتى لا يتسرب اي شي للسنوسيين اعداء انجلترا. وفي 20 مارس 1916 الصقت السلطة العسكرية في شوارع الإسكندرية اعلانا تهدد فيه باعدام من يهرب بضائع الى تلك الجهة.

كذلك انقطعت العلاقات الاقتصادية مع تركيا عقب دخولها الحرب في صف المانيا وحلفائها، وكان من اثر ذلك انقطاع ما كن يرد من تركيا من الجبن والحيوانات الحية والفواكه الجافة والطازجة والطباق.

وكانت السلطة العسكرية هي المهيمنة على مصالح مصر منذ اعلان الحرب فاصدرت الاوامر تلو الاوامر وحبست الذهب وامرت بعدم تحويله في المعاملات المالية الى بلاد الاعداء، وائتمر الجمهور بهذا الامر فبطلت كل معاملة مالية بين مصر والمانيا والنمسا وبلغاريا وتركيا.

وبدخول ايطاليا الحرب ضيق دائرة التجارة في مصر وحال دون ورود تلك البضائع والسلع المصدرة منها الى مصر وزادت مقاديرها في الفترة الاولى التي كانت ايطاليا فيها على الحياد، وكانت مصر تستورد منها الثياب والكبريت وزجاجات المصابيح والفحم.

ومنذ اوائل 1915 فرضت الحكومة رسوما جمركية جديدة على الواردات فجعلت الرسوم على المشروبات الروحية 10% من قيمتها وخشب البناء 8% والدخان والسجاير بين 32 و42 قرشا على كل كيلو جرام، كذلك زيدت الرسوم 2% على السكر المكرر.

اما بالنسبة للرسوم الجمركية المقررة على الصادرات، فقد كانت على جميع الاصناف بوجه عام 1% من قيمتها، ويحصل الجمرك فضلا عن ذلك عوائد رصيف قدرها 2 في الالف لحساب مصلحة الموانئ والمنائر وعوائد تبليط قدرها .5 في الالف لحساب بلدية الإسكندرية، وزيدت عوائد الرصيف هذه ستة اضعاف منذ ديسمبر 1915 فارتفعت بذلك من 2 في الالف الى 12 في الالف فاصبح مجموع العوائد والرسوم المفروضة على الصادرات 2.5% من قيمتها ، وقد جاءت هذه الزيادة التي حصلت على غير انتظار في الضرائب غير المقررة مخالفة في روحها وتطبيقها لمقتضى العرف ان لم تكن مناقضة لنصوص الاتفاقات والارجح ان الباعث عليها ما احدثته الحرب من الشدة المالية.

وفي الواقعن فقد بلغ العجز في الوارد من 55 إلى 60% في الستة اشهر الاولى من الحرب بالنسبة لمتوسط السنين السابقة للحرب، وذلك بسبب ايقاف التجارة بين مصر والبلاد المجاورة والى نقصها بين مصر والبلاد الحلفاء، هذا بالاضافة الى عدم توفر الاموال لجلب البضائع من الخارج لما اصاب مصر من الخسائر في محصولها ووقوف المعاملات التأجيلية بين مصر واوربا.

وضاقت دائرة الدول المصدرة لمصر واصبحت تستورد اكثر من حاجاتها وما يلزمها من انجلترا ولكن بعد مرور فترة من الحرب كان من الصعب عليها ان تورد لمصر لانه في النصف الاول من عام 1915 اعلنت المانيا الحصار على السواحل الانجليزية والايرلندية بواسطة الغواصات والالغام التي بنتها في البحار فدمرت البواخر التي اصطدمت بها وانذرت بواخر الدول المحايدة وتوعدتها حتى لا تدنو من الموانئ الانجليزية.

وعندما عادت الحكومة وسمحت للتجار بالتصدير اصيبت مصر بالازمة الاقتصاية وطبق ذلك على الحبوب والدقيق، فرغم حاجة مصر الملحة لهما الا انه سمح بتصديرهما بدون قيد او شرط.

وكانت حجة الحكومة في السماح بتصدير الحبوب كالقمح والفول والعدس والذرة بانوعها ان في البلاد كميات تفي باحتيجاتها وانه بسبب منع تصديرها قد نقصت اسعارها الى درجة اضربت بمجهود المزارعين، وهنا رات ان تترك امر بيع هذه الاصناف طبقا لقانون العرض والطلب، فاتخذت اجراءين اعتقدت انها بهما ستوفق بين مصالح الجمهور، فاولا حزفت اصناف الحبوب المذكورة هذه من جداول المواد الجاري تسعيرها، ثم اباحت تصديرها الى الخارج على امل انه مع ضمان بيعها بين الجمهور بسعر معتدل يمكن ان يستفيد فريق المزارعين في تصريف محصولهم باثمان طبيعية تعوض عليهم ما اصابهم بسبب الضائقة المالية.

اثر هذا تاثيرا سلبيا على البلاد، فقد اخذ التجار يصدرون الصنف، وكان من نتيجة ذلك ان ارتفعت الاسعار وهنا رات الحكومة في 12 سبتمبر 1916 منع تصدير القمح والذرة الشامية والعدس والارز والفول والمحصولات الغذائية وتقاوي الخضروات.

وفي حقيقة الامر، فقد كانت لاحتياجات الجنود التابعة لانجلترا بمصر المقام الاول فعلى مصر ان تمون هذه الاعداد الوفيرة دون النظر لمصلحتها الاقتصادية اذ انه يجب عليها اولا ان تقدم كلما يمكن تقديمه لمساعدة بريطانيا وان لم يتم ذلك بخاطرها فسيتم بيد عليا قوية مسيطرة هي السلطة العسكرية لذا تم تموين القوات وسد احتياجاتهم.

ومهما يكن من قول فان الصادرات منذ قيام الحرب كان النقص فيها بمعدل 14% عما قبل الحرب، لكنها زادت على الواردات، فكان من نتيجة ذلك ان اصبح الميزان التجاري في صالح مصر، ففي عام 1915 كانت اهم الاصناف التي زادت صادراتها الذهب والفضة والاشياء الثمينة وتقدر زيادتها ب482.000 ج.م والسكر وزيادته 472.000 ج.م والقمح 40.000 ج.م، والذرة 261.000 ج.م والفول واللوبيا 234.000 ج.م

وقد قدرت الصادرات في هذا العام من اول يناير الى اخر أكتوبر ب19 مليون، 780 ج.م يقابلها في مثل هذه المدة من سنة 1914 = 18 مليون، 769 ألف ج.م ومثلها سنة 1913= 22 مليون، 636 ألف ج.م، ومثلها سنة 1912 22 مليون ، 612 ألف ج.م، وخلاصة القول ان الصادرات الزراعية زادت زيادة كبيرة في اثناء ذلك العام ما عدا القطن وذلك لانقطاع ما كان يصدر منه الى المانيا والنمسا وروسيا.

وفي عام 1916 ازدادت قيمة الواردات على الصادرات، فكان الوارد 30.887.000 مقابل 19.952.534 جنيه للصادر، وشملت الزيادة في الوارد من السمك والجلود والمسكرات والشوكولاتة والكاكاو والبيرة والمشروبات الروحية والمنسوجات والبرانيط والغنم والشمع والشعير والزيوت المعدنية، واصبح معلوما بان هذه الزيادة تعلل بزيادة المقطوعية لوجود الجيش البريطاني واقبال التجار على طلب البضائع والمنسوجات طمعا في الربح.

اما بالنسبة للصادرات فقد زادت عن السنوات السابقة، فبلغت 27.458.000 جنيه مقابل 25.797.000 جنيه عام 1913 احتوت على الحبوب، وشمل القطن منها مبلغ 29.813.681 جنيه.

هذا وقد انشئت في 8 ابريل 1916 لجنة للزراعة والتجارة راسها انجليزي ووكيل وزارة الزراعة، ومهمتها تسويق بعض الحاصلات الزراعية، فعلى سبيل المثال كانت مصر تصدر الارز لتركيا، وبانقطاع العلاقات اصبح على هذه اللجنة ان تنظم تسويق هذا المحصول بما يتفق مع النظام الاقتصادي الذي وضع لمصر ابان هذه الفترة.

اما عن تجارة مصر الخارجية سنة 1917 فهي لم تبلغ في سنة من السنين ما بلغته في هذه السنة من صادر ووارد، فان قيمة الصادرات بلغت حسب تقدير الجمارك 41.049.612 جنيه وقيمة الواردت بلغت 31.838.998 جنيه، صدرت بضائع ثمنها اكثر من 41 مليون جنيه، وجلبت بضائع ثمنها اقل من 32 مليون جنيه، فزاد حسابها اكثر من 9 مليون جنيه وفي منها دين الحكومة.

وقد وصلت هذه القيمة من الصادرات بفضل ارتفاع الاسعار القطن اذ بلغ 41.579.411 جنيه، ويمثل المبلغ الخاص بالواردات ارتفاعا في الاسعار اكثر مما يمثل زيادة في المقادير، فاذا قابلنا معدل الاسعار التي استوردت بها الاصناف بمعدل اسعارها عام 1914 تكون الزيادة 559% على سعر خشب البناء، 512% على الفحم، 271% للاسمنت، 100% للمنسوجات، 294% للحديد، ولوجود الجيوش البريطانية اصبح وارد القمح والذرة 694.117 جنيه ، فارتفع معدله عن السنوات السابقة.

وجاء عام 1918 فكثرت الواردات والصادرات عن بقية سنوات الحرب، فالاولى بلغت 48.285.226 جني بينما الثانية بلغة 49.109.952 جنيه وعلل سبب ذلك انه كان لا يزال في الإسكندرية حتى اول سبتمبر 1918 مقدار 1.106.000 قنطار من القطن المخزون قيمتها حوالي 7.500.000 جنيه ثم ان في الواردات احتياجات بملايين الجنيهات لحساب الجيش البريطاني، ومن هنا كان الميزان التجاري في صالح مصر.

واصبح واضحا ان اعتماد مصر ارتبط ارتباطا وثيقا على الصادرات والواردات من انجلترا، اذ اعطت لنفسها حق احتكار صادرات مصر وخاصة القطن الذي ساهم بمبلغ 3.875.000 جنيه من صادرات هذا العام.

وخلاصة القول ان فترة الحرب مرت على مصر واثرت في حياتها الاقتصادية تاثيرا كبيرا، فقد كان الميزان التجاري في صالحها بمعدل 129.433.000 جنيه، وكان من نتيجة هذا رواج استثمار الاموال عند نهاية الحرب اذ بلغت حوالي 150 مليون جنيه وجهت الى ميدان جديد في اقتصاد مصر هو الميدان الصناعي، وفي حقيقة الامر فقد ارجع السبب في ان ميزان المدفوعات كان في صالح مصر ان اسعار القطن ارتفعت كما زادت الكميات المصدرة منه، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى، ما انفقته القوات العسكرية في مصر اذ ترواح ما بين 80 و85 مليون جنيه. ومن خلال هذه السطور امكن التعرف على اوضاع مصر الاقتصادية التي خلقتها ظروف الحرب القاسية.

الفصل الثالث: الاوضاع الاجتماعية والمظاهر الثقافية

الأجانب

اثرت عناصر مختلفة في تشكيل المجتمع المصري وتركيبه، فلم يكن ابدا مجتمعا خاصا بالمصريين، بل ضم بين ذراعيه عناصر اجنبية استطاعت ان تلعب دورا هاما في تركيبه من ناحية وفي اقتصادياته من ناحية اخرى.

بتبعية مصر للدولة العثمانية وبكونها ولاية من ولاياتها تكونت في مصر طبقة الاتراك واصبحت صابة المصالح الحقيقية فيها، وبمجئ محمد علي تاصلت هذه الطبقة واصبحت الطبقة الارستقراطية الحاكمة لها امتيازاتها الكثيرة: فاغنياؤها يعيشون عيشة الترف والبذخ، ويحتلون المناصب الكبرى في الحكومة والجيش، وكثيرا ما تمثلت هذه الطبقة بالاوروبيين وبعدت كل البعد عن مصر وعاداتها وتقاليدها، وكانت ترسل اولادها يتلقون التعليم في اوربا ويربون على النمط الاوربي.

وتلى طبقة الاتراك الاوربيون المغامرون الذين جاءو مصر يغترفون من اموالها، وكفل لهم نظام الامتيازات حرياتهم فجمعوا الثروات الضخمة على حساب الشعب وشيدوا القصور وعاشوا عيشة الامراء واصبحوا من اصحاب المصالح الكبرى في الدولة ونالوا ثقة الحكومة اذ لم تقم هي بايقاف هذا التيار ذلك لان الضرائب العقارية قليلة او معدومة ، والانتاج الزراعي الذي ينظمه الاجنبي يدر اينع الثمرات

ولم تعمل الحكومة على القيام بتحويل وجهتهم الى بيع اراضيهم للمصريين بل ان الرهونات العقارية كثيرا ما دعت الاجانب الى الاستزادة من املاكهم عن هذا الطريق، وراح الالمانيون يتسللون الى بعض الوظائف العلمية ورضي الانجليز بذلك ليزلفوا الى المانيا عقب احتلالهم لمصر. واخذ الفرنسيون ينشرون ثقافتهم في المحاكم ودور التعليم والشركات، واقتفى اثرهم في ذلك الايطاليون واليونانيون حيث تمادوا في الاستغلال حتى في اصغر الوظائف والصناعات، تركز النشاط الاقتصادي في مصر في ايدي الجانب فسيطروا عليه.

واستولى الانجليز على اهم المراكز والمناصب في مصر، اذ قامت السياسة الانجليزي في اوائل عهد الاحتلال عل استخدام عدد محدود من الموظفين ليستشاروا ويساعدوا خصوصا في دوائر المالية والري، وتدريجيا اضيف اليهم مستشار قضائي ، واخر للمعارف وبعدها للداخلية، ثم عين مفتشون للاقاليم، ثم ما لبث الامر ان اتسع نطاق الوظائف لهم في الحكومة وازداد عدد الموظفين الانجليز زيادة مضطردة، واصبح الموظف المصري اله في يد الانجليز عليه حق الاصغاء والتسليم، وبقي الانجليز منفردين بتصريف شئون الدولة وبتوجيه سياستها، والانجليزي المشورة منه نافذة وان جاءت في قالب النصيحة، وكانت الحكومة المصرية كما مهملا فالمستشار البريطاني يحضر جلسات مجلس الوزراء وهو صاحب الراي المسموع.

اخذ الاستياء ينمو ويزيد وراى المصريون الذين اتصفوا بالكفاءة انه قد قضي على ترقيتهم الى اسمى المناصب في حكومتهم بعد النظام القضائي بان المنصب الذاتي يتقلده غير المصري اذ خلا بل يتقلده على الدوام.

وفي حقيقة الامر فقد خضعت المناصب الدنيا للمصريين، وقصرت المناصب العليا على غير المصريين بصفة عامة. ففي اثناء وجود لجنة ملنر في مصر طلبت من كل وزارة بيانا لتوزيع الوظائف فيها بنسبة بعضها الى بعض في سنوات 1905، 1910، 1914، 1920، فوجدت ان المصريين يشغلون من الوظائف الصغيرة نحو ثلثي ما كان راتبه عنها يختلف من 240 جني الى 499 جنيه وينحط نصيبهم من الثلث قليلا في الوظائف التي يختلف فيها لا يبالغ 500 الى 799 جنيه

اما الوظائف الكبيرة فان نصيب المصريين فيها لا يبالغ الربع، وفي الوزارات المالية والمعارف والاشغال العمومية والزراعة والمواصلات كان نصيب المصريين من المناصب الكبيرة فيها 31 مقابل 168 يتقلدها البريطانيون وواضح ان الاحتلال البريطاني كان يعمل عامدا على ابقاء المصريين في حالة من القصور والعجز والاعتماد على الانجليز في القيام بشئون الوظائف الهامة، ومن ثم سيطروا تماما على شئون البلاد.

وكون الارمن جالية خاصة بهم ومارسوا العمل الاقتصادي وازداد عددهم بقيام الحرب حيث قاسوا من الاضطهادات في تركيا والشام مما اضطرهم الى الهجرة لمصر فهي البلد الوحيد الذي كان يفتح ذراعيه لكل غريب يطأ ارضه حتى انه وصل في يوم واحد اربعة الاف ارمني لاجئ.

وعن الجالية الشامية فجاءت مصر منذ عهد اسماعيل باشا من ظلم الحكم التركي في الشام وخنقه للحريات وتضيقه على انتاج المطابع والفكر. فكونوا جالية في مصر على درجة كبيرة من النفوذ خصوص المسيحيين منهم. وهذه الجالية لم تكن تستمد اهميتها من اعضائها بل من المراكز التي كان يشغلها افرادها، فكان معظمهم من الطبقة العليا وكبار رجال الدولة.

واحتضن الاحتلال السوريين، اذ راى انه ليس باستطاعته الاعتماد على المصريين من المسلمين بحجة انهم لا فائدة منهم في ذلك لوقت، وراوا ان الاقباط لا يفضلون المسلمين الا في القليل، ومن ثم فلم يبق امامهم سوى السوريين، فهم موظفون اكفاء يتقنون لغتهم ويقبلون ان يتعاونوا معهم فسدوا الفراغ لهم لذلك وصفهم اللورد كرومر في مذكراته بانهم "منحة من السماء" وأنهم "خميرة البلاد" ووصلوا الى اعلى المراكز الادارية، وكان منهم المحاسبون والصحفيون والتراجمة والجباة والمرابون.

وازداد اعداد السوريون في اثناء فترة الحرب فهاجروا الى مصر هربا من اضطهادات جمال باشا، ففي اقل من شهر وصل الى الإسكندرية ثمانية الاف منهم.

وتقول صحيفة الاكسبريس معبرة عن هذه الطبقة ومدى استفادتها من ظروف الحرب

"ولقد نجحوا في التجارة والزراعة والصنعة. ففي الاسواق التجارية نجد ان السوريين في المقام الاول فهذا سمعان الشهير وسليم، وفي بورصة ميناء البصل وبورصة الاوراق في الإسكندرية يوجد التجار المشهورين من السوريين الذين نجحوا في تجارة الحبوب والاقطان واسسوا لهم المراكز المالية الخطيرة، وفي الاشغال المالية البحتة نبغ السوريون وخصوصا في ادارة المصارف والشركات
وكذلك في الزراعة الفوا الشركات الزراعية حتى اشتغلوا بمهنة الخياطة وصناعة الاحذية والحلاقة والبقالة، وبالفنون الادبية كاصحاب المطابع والمجلات والجرائد وارباب المكاتب العمومية، وفي تجارة الخشب فقد نجح فيها عائلة كرم بسبب ارتفاع اسعار الخشب، وكلك اسعد باسيلي تاجر الخشب الذي ربح الكثير، وكذلك الخواجة شكر الله الذي اشتغل في تجارة الحديد فربح في هذه الايام بسبب ارتفاع اثمان الفحم والحديد وغيرهم وبارباحهم اشتروا العقار والاطيان، وذلك بعكس الوطني الذي اذا صادفه شيء من الربح يبعثره في الحانات ومنازل الدعارة واقتناء المركبات".

اما عن اليهود، فقد لعبوا دورا مهما في المجتمع المصري تمتعوا فيه بامتيازات عديدة وحينما اندلعت الحرب تعرضوا هم الاخرون في الشام لعنف جمال باشا ففروا الى مصر لاجئين اليها، فوصل الى الإسكندرية عقب قيام الحرب 11.227 مهاجرا وصفهم احد كتابهم "وصلوا الى مصر وهم يطوون احشائهم على الطرق ويتقلبون على حجر الفضا، فرفلوا في بحبوحة النعيم والسؤدد مدى اربعة سنوات متتالية

وبمجرد ان تدفق هذا السيل من المهاجرين تشكلت لجنة من كبار الراسماليين من ابناء الطائفة اليهودية وقابلوا السلطان حسين كامل الذي ابدى من جانبه عطفا شديدا على اللاجئيين، وبادرت الحكومة المصرية بارسال احد مفتشي وزارة الداخلية لدراسة احوال اللاجئيين واحتياجاتهم واقتراح مدى امكانية مساعدتهم. ففتحت لهم مناطق القاري والبلدية في الشاطبي ومبنى الحجر الصحي ووضع تحت تصرفهم محطة الورديات ودار المحافظة في راس التين وغيرها من الاماكن الحكومية.

وتولت الخزانة المصرية نفقاتم حتى لقد انشات لهم المخابز الخاصة هذا في الوقت الذي كانت تعاني فيه من شدة الازمة. وعلى لسان احد كتابهم يقول: "وقد ارتاح لهم المصريون ان يعيشوا في امان، وان يقيموا شعائرهم بحرية، فقد بنى لهم معبدا ومستشفى فضلا عن ان المكان نفسه صحي وملائم للمعيشة وبه حدائق خضراء وطرقات مرصوفة ونافورات مياه" ونعم اليهود في اثناء هذه الفترة ، فتمتعوا بكافة حقوق المواطنين وبامتيازات اخرى لم يكونوا يحلمون بها. وراحت معظم الصحف تنشر المقالات تنوه فيها بالعذاب الذي قاساه اليهود. ومن معسكرات اللاجئيين خرجت الفكرة التي تدور حول مساعدة الانجليز ضد الاتراك والمحاربة في صفهم، فتكونت منهم فرقة من اجل هذا الغرض.

واستفاد اليهود من ظروف الحرب وذلك لدرايتهم وكفاءتهم في الشئون الاقتصادية وعلى سبيل المثال فمنذ بداية الحرب تقول الشعب: "اخذ اليهود يطوفون في الاسواق بمصر والاقاليم لالتقاط الجنيهات الذهبية التي يجدونها بين يدي الجمهور او لدى التجار ويدفعون عن كل جنيه اربعة او خمسة جنيهات زيادة على سعر الرسمي (975 مليما) ولا جرم ان هؤلاء اليهود لا يدفعون هذه الزيادة الا مقابل الحصول على اكثر منها. فاذا استمرت العملة الذهبية تتوارى عن العيون وهؤلاء الصيارفة يجدون في اثرها فلا يبعد ان تصل قيمة الجنيه الانجليزي في مصر الى 100 قرش او اكثر".

ومارس اليهود نشاطهم في حرية تامة واستطاع بعضهم ان يصبح من ذوي الاملاك والبعض الاخر احتكر بعض الصناعات مثل "صناعة السينما" فقد اسس "جوزيف موصيري " في عام 1915 شركة للسينما سماها "جوزي فيلم" ادارت دور سينما في القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد، واقام "شيكوريل" 1915 مؤسسة خاصة بتصدير القطن وتسويقه الداخلي ثم اصبح عضوا في بورصة البضائع وبورصة مينا البصل وعضو مجلس ادارة جمعية المصدرين، و"ألفريد كوهين" اسس عام 1914 "شركة التسليفات التجارية" التي انتشرت انتشارا واسعا واصبحت لها وكالات في لندن وغيرها من المراكز التجارية الرئيسية في العالم.

كبار ملاك الاراضي

اما عن طبقة كبار ملاك الاراضي – واعني بهم ممن يملكون اكثر من خمسين فدانا، وكان عددهم على حسب احصاء 1914 = 12.480 وكانت مساحة الاراضي التي يمتلكونها تبلغ 2.396.940 فدانا بمعدل 43.5% من مساحة مصر الزراعية – ارتمى اغلبيتها في احضان الانجليز ، وبنى كرومر سياسته وخطته لحكم مصر على اساس دعم هذه الطبقة والاستعانة بها، واصبحوا بذلك اصحاب المصالح الحقيقية في البلاد، وكانت مبادؤهم السياسية تنحصر في المطالبة بالحياة النيابية والحكم الذاتي في ظل الاحتلال البريطاني.

وبقيام الحرب اتعبت انجلترا سياسة قطنية خسر على اثرها طبقة كبار الملاك، فمنذ البداية اخذ سعر القطن ينزل تدريجيا بسبب خوف مستوردي الاقطان المصرية في البلدان الاجنبية من خلق الاسواق التي يبيعون فيها منتجاتهم، وكان قد انخفض متوسط ثمن الاقطان الى 12 ريالا بعد ان كان ثمنه في السنة التي سبقت الحرب 19 ريالا وقد تسبب ذلك في خسارة جسيمة لاصحاب الاراضي، ولكن هذه الحالة لم تستمر طويلا، اذ ازداد طلب الدول الاجنبية على الاقطان المصرية واخذت اسعارها تصعد من اول موسم 1915/1916 وتوقع ملاك الاراضي ان يعوضهم هذا الصعود بعض ما خسروه.

ولكن الحكومة كانت قد حددت المساحة المنزرعة قنا بثلث الزمام مما جعل كبار الملاك يصيحون في طلب الغاء هذا التحديد وتم لهم ذلك في 1916 ولكن في يونيو 1917 حدد سعر القطن ب23 ريالا ثم حرمت زراعته في مصر العليا وقيدت زراعته بثلث الاراضي القابلة للزراعة في باقي مصر، ولم يلبث ان اصيب كبار الملاك في موسم 1918 حين احتكرت الحكومة الانجليزية محصول القطن جميعه.

من هذا نرى انه بالرغم من الفائدة المحققة التي لا تنكر وجناها كبار الملاك بسبب ارتفاع اسعار القطن من جانب وارتفاع الايجارات الناشئ عن هذا الارتفاع في في الاراضي الزراعية من جانب ىخر الا انهم كانوا من اشد الفئات سخطا على الانجليز، ذلك لانهم تحكموا في اسعار القطن وفي احتكاره ولم يتركوا لهم فرصة التمتع باقصى ما يمكن تحقيقه من هذه الارباح التي اتت بها الحرب.

وسنحت الفرصة للراسمالية المصرية الى الظهور والنمو تحت حماية الزامية اقتضتها ظروف الحرب، فانخفض ارباح الزراعة وانقطاع سيل رؤوس الاموال الاجنبية وتصفية اعمال الراسماليين الاجانب من رعايا المانيا وحلفائها، واغلاق بعض البنوك ابوابها واشتدت الحاجة الى صناعات مختلفة تسد حاجة الشعب والجيش المرابط على ارض مصر.

كل هذا اتاح للراسمالية المصرية الفرصة للنزول الى الاسواق فارتفعت رؤوس الاموال المصرية في البنوك ارتفاعا سريعا وخاصة في البنك الاهلي والبنك الانجليزي المصري، فازداد الرصيد عام 1920 الى 35.5 مليون جنيه بينما كان عام 1915 قد وصل الى 6.5 مليون جنيه.

المثقفون

المثقفون طبقة جديدة على المجتمع المصري، اخذت في النمو والازدهار في مطلع القرن التاسع عشر كنتيجة للاحتكاك الفكري والحضاري بين المجتمع الاقطاعي المتخلف في مصر والحضارة الراسمالية الغربية، ولحركة النقل من الفكر الغربي في صورة مختلفة، فهي تمثل اذن الثقافة الاكثر تطورا، وحرمت هذه الطبقة من وظائف الدولة التي كانت حكرا على الاجانب.

وزرع المثقفون بين اصحاب المهن الحرة كالمحاماة والموظفين والدارسين وقد حلت هذه الطبقة محل مشايخ الأزهر وورثتها في دورها الوطني القيادي للحركة الوطنية في مصر، وتوزعت بين الحزب الوطني وحزب الامة وكانت غريبة في ديارها محرومة من شغل المراكز اللائقة بها، ففي الوقت الذي كانت الوظائف تغلق الباب امامهم كان الانجليز يشغلون الوظائف ويسدون عليهم الطريق.

يقول ويفل عنهم :

"كانوا ينطرون الى اي وظيفة يشغلها موظف بريطاني على انها يجب ان تكون من نصيبهم وخصوصا انه اثناء الحرب انحط مستوى الموظفين البريطانيين رغم ن عددهم زاد خلال سنوات الحرب ومن راي هؤلاء ان المساعدة البريطانية للمصريين قلت رغم ان تدخل الانجليز في شئونهم زاد، فلما خابت امالهم اتجهوا الى السياسة والصحافة".

وبذلك تسربت الى اجهزة الدولة اسوا العناصر البريطانية واقلها كفاءة واكثرها فسادا. ووصل الامر بتهاون الحكومة المصرية في حق المصريين ان وزير الاوقاف لبى طلب انجلترا في تعيين احد الانجليز في وزارته – كانت قاصرة على المسلمين – فعين مستر جربنوود رئيسا عموميا للهندسة المياهية بتفاتيش الاوقاف مدعيا عدم وجود اهل لهذا المنصب بين مواطنيه المسلمين الاكفاء.

هذا بالاضافة الى ان الحكومة منحت الموظفين الذين استخدموا في الحرب مرتباتهم وقدمت المساعدات لعائلاتهم في الوقت الذي نحت المصريين عن اعمالهم بسبب الاقتصاد.

وفي اواخر ايام الحرب ازدادت متاعب هذه الطبقة، ففي المدة بين 16 أغسطس 1918 واول ديسمبر 1918 اي في ظرف يقل عن شهر واحد، تقد للقومسيون الطبي في لند 133 شابا انجليزيا من راغبي التوظف في مصر، ونجح هؤلاء جميعا في الكشف الطبي، فما كان على الحكومة المصرية الا ان تدفع 300 جنيه رسم هذا الكشف، ووفد هذا العدد الكبير على مصر حتى اضطرت الحكمة الى ايجاد اقسام جديدة في مصالحها لاستيفاءه.

من هذا نرى كيف ضاقت سبل العيش في وجوه المثقفين بالاضافة الى ظروف الحرب القاسية التي كانت في حد ذاتها صورة ساخطة لما صاحبها من غلاء للاسعار وارتفاع في مستوى المعيشة وعدم دفع المرتبات والاستغناء عن الموظفين وما صاحب ذلك من تقيد للحريات بوجود الاحكام العرفية، وكثرت الشكوى ورفعت الالتماسات الى السلطان من حملة الشهادات يطالبون فيها بالحاقهم بالوظائف بعد ان امتلأت جدران المصالح بالاعلانات عن عدوم وجود وظائف خالية وفيها يشرحون حالهم وما وصلوا اليه من بؤس وضنك.

وارتفعت اصوات المفصولين من وظائفهم بسبب الغاء تلك الوظائف اثناء فترة الحرب فنظرا لتوقف مشروعات الري والصرف فصلت الحكومة 500 موظف من وزارة الاشغال فتقول السفير: " كان امام الحكومة طريق اخر كالغاء العلاوات والترقيات التي تمنحها باليمين والشمال، وكان عليها ان تبحث في دوسيهات المستخدمين عن الذين ترقوا بسرعة البرق بفضل المحسوبية، ان الذين فصلوا من الوطنيين فقط".

وضت بقية الوزارات والمصالح على نفس المنهج هذا في الوقت الذي زيدت فيه رواتب الكثير، فعلى سبيل المثال زيد راتب "يوسف قطاوي" 200 جنيه فاصبح ما ياخذه في السنة الواحدة 10.000 جنيه كذلك زيد مرتب المستر دارجون المستشار الزراعي والدكتور ورنوك زيادة كبيرة رغم ان رواتبهم عالية

وتقول الاكسبريس:

" واصبحنا نقرا في اعداد مرتبات الموظفين العشرات والمئات بدل الآحاد، والفضل في هذا اليسر يرجع الى الذين نظموا الميزانية، والفضل يرجع في ذلك الى هؤلاء المستعمرين، هذا اليسر الذي بات الموظفون يتنعمون فيه وهذا المال الذي زاد عن كفايتهم، فاخذوا يشترون العقار والاطيان ورغم هذا يمدون يدهم للرشوة وظلم الناس ولا يهمهم اذا خربت الدنيا او تلف المحصول او عم الغلاء".

وساءت حالة الموظفين لدرجة ان وزارة المعارف شهدت عريفا من عرفاء كتاتيبها كان قد اعلن الاستغناء عنه فما كان منه الا ان دخل على المفتشين في غرفتهم لا ليطلب ان يعاد الى وظيفته وبيده شهادته ولكن ليطلب حتى ان يعين في وظيفة فراش كتاب لان وراءه ثمانية اولاد يبكون جوعا.

ثم رات الحكومة ان تستقطع من الموظف الذي يزيد مرتبه عن 15 جنيها ربع المرتب والذي يزيد عن 50 جنيه ثلث مرتبه، ثم قرر قومسيون بلدية الإسكندرية توفير المستخدمين الذين لا يزيد مرتبهم عن 14 جنيه في الشهر بحجة التدابير الاقتصادية، وذلك رغم ان بلدية الإسكندرية اكثر موظفيها يتراوح مرتب الواحد منهم من 40 جنيها الى 100 جنيه في الشهر، هذا في الوقت الذي اعطت فيه بلدية الإسكندرية عائلة نورسا بك منحة مالية لا مسوغ لمنحها قدرها 1200 جنيه.

وساءت حالة الموظفين، فعلى لسان احدهم:

"اننا لم نذق طعم اللحم منذ مدة سنتين وقد بعنا جميع ما نمتلكه حتى قضت اننا نلبس بدلة الحكومة على الجسد دون لباس او قميص".

وشارك الطلبة الموظفين في بؤسهم، وكان الوضع الاجتماعي لهم يدفعهم للثورة والعمل السياسي، وفيما يختص باولاد الاغنياء الذين تلقوا تعليمهم في الخارج، فهؤلاء عند عودتهم الى بلادهم سرعان ما يرون انفسهم محصورين في نطاق ضيق بالنسبة لما يمكن ان يقدموه لانفسهم ولبلادهم، اما الذين يتعلمون في داخل بلادهم

فقد كان معظمهم من الطبقة الوسطى، وبعضهم من عائلات فقيرة جدا تعاني صعوبات بالغة في سبيل اكمال دراستهم، وحتى بعد اكمال دراستهم فلم يكن ثمة ضامن بانهم سوف يلتحقون بعمل ملائم، وذلك بسبب مزاحمة الاجانب لهم، وحتى اذا توظفوا فهناك حائل بينهم وبين الترقي في المناصب العليا، وهذا الوضع الاجتماعي لم يكن ينطبق فقط على طلبة المدارس العليا كالطب والحقوق والهندسة وغيرهم انما ينطبقا ايضا على تلاميذ الثانوي.

وبدات اول محاولة لتنظيم صفوف الطلبة بانشاء نادي المدارس العليا عام 1905 وكان هذا الطقاع الشعبي يمثل لمصطفى كامل مثلا صالحا وتربة خصبة، ولما قامت الحرب وفرضت الاحكام العرفية اقفل نادي المدارس العليا، وكممت الصحافة، وتاجل انعقاد الجمعية التشريعية، ثم اعلنت الحماية البريطانية على مصر، فنتج عن هذا الكبت الشديد ان تحولت المدارس والجامعات الى ميادين للمناقشات السياسية يتحدث فيها كبار الطلبة امام صغارهم من خيانة حكامهم لمصر. وظهر اثر ذلك عندما اراد السلطان حسين زيارة مدرسة الحقوق فقد اتفق معظم طلبتها على الامتناع عن الحضور في اليوم المحدد – 18 فبراير 1915 – فكان هذا الاضراب شبه مظاهرة ضد الحماية.

وهكذا اهتم الطالب المصري بالسياسة، واصبح من النادر ان يوجد المثقاف الذي يتناول اي موضوع دون ان يعرج الى الحديث عن العبودية السياسية لبلاده وامتلأت القهاوي بالطلاب ورددوا فيها شعارات واثروا تاثيرا قويا على السامعين الاقل حظا من الثقافة والتعليم، وكانت محاولتا قتل السلطان حسين تلقي تاييدا وموافقة من طلاب المدارس العيا الذين كانوا يتحدثون فيما بينهم عن القائمين بها بوصفهم ابطالا وطنيين. ولهذا فانه عندما انتهت الحرب كان المثقفون اول من فجر الشرارة الاولى لثورة 1919.

التجار

سيطرت العناصر الاجنبية على النشاط التجاري ولم تترك للوطنيين سوى الاعمال البسيطة وحتى البيع بالقطاعي استولت عليه، فالبقالة كانت حكرا يونانيا، والمنسوجات الصوفية والقطنية والبياضات والفحم احتكارا انجليزيا والسجائر اختص بها الارمن والمشروبات الروحية اشتهر بها اليونانيون والايطاليون. اما تجارة الغلال فقد كانت في ايد مختلفة، ومع انه توجد مئات من الحوانيت الصغرى التي يمتلكها المصريون الا ان تجارتها غير رائجة لان اصحابها لم يكونوا يقدرون الاساليب العلمية الحديثة.

ومع قرب اجل الحرب احس التجار الاجانب بها فاكثروا من شراء البضائع باثمان بخسة وكفوا عن البيع بعد ان اودعوها لوقت الحاجة ليكسبوا المبالغ الطائلة.

فعلى سبيل المثال:

"بعد انقطاع ورود الدقيق من روسيا وفرنسا عن بورسعيد اجتماع تجار الدقيق وكلهم ولا شك من الاجانب اليونانيين وتداولوا في الامر خفية وقر قرارهم على ارتفاع الاثمان ارتفاعا باهظا لم يسمع به من قبل لعلمهم ان الطلب كثير والعرض قليل والمصري محتاج الى ذلك فيجب عليهم حسب شروط الاجتماع ان يتحكموا في المصريين وان يمتصوا دماءهم. كل ذلك لان التجار بايديهم والمصري بعيد عن الاشتغال بها، كل ذلك لان رؤوس الاموال التي بمصر هي اجنبية، كل ذلك لان المصري لا يشتغل الا بالتجارة البسيطة"ز

وتمضي الصحافة لتعطينا صورة واضحة عن تحكم التجار الاجانب واحتكارهم التجارة ابان فترة الحرب حتى ان محافظ القنال جمع قناصل الدول التي ينتمي اليها هؤلاء التجار للحد من جشعهم وجبروتهم وللتقليل من هذا الغلاء الفاحش.

وارجع السبب في ان التجارة الوطنية في يد المصريين تختلف عنها في يد الاجانب ذلك لان التجار الوطنيين لا جامعة لهم ولا اتفاق ولا تضامن بينهم، وبان هذا ادى الى خسارتهم وفوز الاجنبي عليهم، لدرجة ان الامر كان يصل الى ان الواحد منهم كان يسعى لدس الدسائس لزميله عن المصارف حتى يعرقل اعماله ويوقف حركة اشغاله.

وقد اقرت لجنة التجارة والصناعة في تقريرها بان التجارة الوطنية تفتقير كثيرا الى وجوه التقييم والاصلاح. وضغطت الحكومة منذ بداية الحرب على طبقة التجار المصريين، فكثيرا ما نزعت ملكياتهم، فعند اعلان الحرب اصدرت الحكومة "الموراتوريوم" – تأجيل الدفع – فكان ذلك لمصلحة البنوك ولمصلحة الماليين الاجانب

واخذت هذه البنوك وهؤلاء الماليون يدفعون الامانات على اقساط وباجال حتى انتهوا من خطر الافلاس ولما سلمت البنوك وسلم الماليون مما تهددهم رفعت الحكومة الموراتوريوم وصرخ التجار واعضاء الغرفة التجارية فلم تسمع ولم تجب، ولما جاء دور التجار وحلت الكمبيالات والاقساط التجارية التي كانت حسابها معمولا على وقت غير هذا الوقت ارتبكت السوق التجارية التي اخذت في طريقها عدة محلات واعلنت بسببه عشرات التفاليس.

وبالرغم من ذلك فان الثلاث سنوات الاخيرة من الحرب افادت التجار، فاحتياجات تموين القوات البريطانية وانتعاش تجارة السوق المحلية زادت من نشاطهم فسدت ديونهم وخلصت رهوناتهم، وارتفعت رؤوس الاموال المصرية في البنوك واستثمرت في اقامة المشروعات التجارية.

ودعت لجنة التجارة والصناعة بضرورة العمل على نهضة التجارة ا لوطنية وتحسين حالة التجار، هذا وقد سرت روح النقابات بينهم، ولعبت الغرفة التجارية دورا مهما في الحث على انشائها، فدعت تجار الغلال في 8 يونيو 1917 الى تاليف نقابة تضم شملهم وتوحد كلمتهم، وفعلا اتم تجار الغلال في الإسكندرية وسائر القطر تشكيل نقاباتهم الرئيسية وفروعها في الاقاليم، وانتخبو لهم الرئيس العام وهو مراقب التموين ورؤساء الفروع، وهم من تجار الحبوب، وكذلك اعضاء النقابة العامة واعضاء النقابات الفرعية وجميعهم من تجار الغلال المصريين اصحاب الدراية والخبرة في تجارتهم.

واتمت النقابة الرئيسية بالاشتراك مع نقابات الاقاليم وضع قانون النقابة العامة وشمل تعيين وظيفة هذه النقابات واختصاصاتها ووظيفة النقابة الرئيسية واختصاصاتها. واوضح هذا القانون كيفية تشكيل النقابات ولجان التحكيم وابان اختصاص هذه اللجان وعين الابواب التي تحصل منها النقابات على نفقاتها وفرض على كل نقابة وضع ميزانيتها السنوية وخصصت لها 80% من الايرادات، و20% تعطى للنقابة الرئيسية، وعين القانون اختصاص لجنة التحكيم التي تنظر في الخلاف الذي يقع بين التجار وبعضهم وطريقة الحكم في هذا الخلاف، ورات النقابة ضرورة انشاء مجلة خاصة بها تنشر كل ما يهم تجار الغلال.

وتبع ذلك ان شعر اصحاب المطاحن بان نقابة تجار الغلال ستكون لها السلطة عليهم وسمتنح الاشراف على اعمالهم والترخيص بالعمل لكل صاحب مطحن او وابور فاسرعوا في المباحثة والمداولة لاجل انشاء نقابة لهم تحميهم من هذه المراقبة. وامام هذه الحركة النظامية شعر الخبازون انه يستحيل عليهم البقاء بغير نقابة رسمية لطائفتهم مع تشكيل نقابتي تجار الغلال وارباب المطاحن، فاجتمعوا واتفقوا على تاسيس نقابة لهم تدافع عن مصالحهم وتعترف لجنة التموين بها رسمياً.

هذا وقد خلقت ظروف الحرب طائفة من اغنياء الحرب من التجار، وفي الواقع فانه عندما قررت انجلترا اتخاذ الإسكندرية قاعدة حربية لحملة غاليبولي في اواخر عام 1915 دب فيها النشاط الاقتصادي وادركت الرواج واليسر بصفة اجمالية بعد ان طفق الجنود يتواردون عليها ودارت في اسواقها ومنازلها حركة التوريدات والاشغال المختلفة للغرض العسكري وانعكس ذلك على بعض من التجار فتكون ما يمكن ان نطلق عليه، اغنياء الحرب، فتقول صحيفة الاخبار: "من نتائج الحرب ان كثيرين قد ربحوا مالا كثيرا بواسطة متاجرتهم مع الجيوش المتحاربة، وقد كان معظم هذه الارباح ليس بالقليل فاثرى بعض الناس وربح بعضهم ربحا ما كان يحلم به ولا يخطر له ببال".

واغتنى تجار الحديد وربحوا ارباحا طائلة، فعلى سبيل المثال ان احد تجار الحديد كان يملك قبل الحرب حديد الكمر "لتسقيف المنازل وحديد مطروق" ما يقرب من 4.000 طونلاطة، وكان ثمن الحديد قبل الحرب يتراوح بين ستة وسبعة جنيهات على كل طونلاطة، وبانقطاع الوارد واحتياج الجيوش البريطانية باع الطونلاطة ب18 جنيه وربح من البضائع الموجودة لديه 40.00 الف جنيه.

وراجت حركة الاخذ والعطاء، ولم يبق محل تجاري لم يتعهد للجيش بتوريد الملبوسات او الادوية او الماكولات او علف الماشية، وباع اصحاب شوادر الخشب اكثر ما عندهم باضعاف اثمانه لان السلطة اخذت كميات وافرة منه بعضها استعملته في عمل زرابي واكشاك للخيول والجنود،وبعضها ارسلت الى الدردنيل لهذا الغرض، ولهذا قل وجود صنف الخشب وارتفعت اثمانه الى ثلاثة اضعاف، والذين ربحوا اكثر من الجميع متعهدوا توريد علف المواشي وخصوصا صنف الشعير، فان هؤلاء المتعهدين باعوا للسلطة كميات عظيمة من هذا الصنف باثمان عالية فربحوا من هذه التجارة مبالغ وافرة.

وكان تجار الغلال والدقيق ايضا اكثر الناس ربحا بسبب امتناع وارد الدقيق والحبوب من الخارج وزيادة الطب على المحصول سواء من المصريين او من الجيش، وكان من بين الرابحين ايضا تجار الماشية والخضار والالبان واصحاب المقاهي والحانات وتجار الكحول ومعامل الدخان والسجاير المصرية.

وارتفعت الارباح نتيجة لذلك وبالتالي ارتفع مستوى الاثمان ونفقات المعيشة واصبح التضخم النقدي من الخصائص الواضحة والمسيطرة على الاقتصاد المصري مما اثقل كاهل الطبقات الفقيرة وذوي الدخول المحدودة التي لم تستفد من ظروف الحرب هذا في الوقت الذي اصبح اغنياء الحرب في عداد الامراء بما جمعوا من ثروة هيات لهم الجاه والرفاهية والقصور الفخمة والمركبات، ولم يشعروا بالازمة بل استفادوا منها فهي التي اوصلتهم الى هذه الدرجة من الغنى واليسر.

واصبح لا حديث للمجالس الا حكايات اغنياء الحرب التي رفعتهم من حضيض الذل والهوان الى اوج العزة والسعادة، فبعد ان كان احدهم يسكن في منزل حقير ببضعة ريالات في الشهر اصبح يساوم ارباب العقار في مشترى عقاراتهم بالوف الجنيهات. حتى نساء التجار الذين ربحوا في الحرب اصبحن يركبن المركبات الخاصة غارقات في الحرير بعد ان استبدلن الخلاخيل الفضة بالذهب.

وراح محمود بيرم التونسي يقول تحت عنوان "اينه نابنا بعد الحرب":

بعد الحرب اللي هدت قلبنا الموجوع طلع منابنا شوية خردوات وبتوع

وكان جباردين مشمع نصهم مخروع وجنبهم ربعميت مليون جنيه مطبوع

وكان حمار حرب اصبح بالغنى ممروع وجيش بنات اسمه ارتيستات يقوده الجوع

ورغم هذا فان الفائدة الكبرى من نفقات الجيش البريطاني عادت على الاجانب، اذ ان الارباح الوطنيين لا توازي ربع ارباح الاجانب، فالاشغال التجارية المهمة في يد الاجانب وحدهم، فهم الذين افادوا افادة كبيرة سواء من ارتفاع الاسعار او من التعهدات الكثيرة التي قاموا بها للدوائر والمصالح فحملات "ديفس براين"، لندن هاوس، شالون، هانو، صيدناوي، اخذت تشتغل للجيش ليل ونهار، ونفذت جميع الادوية من مخازن العطارة، وباعت محلات عطارة دلمار، وغناجة وجاليتي بالوف الجنيهات وباثمان مضاعفة لان السلطة العسكرية كان يهمها الحصول بسرعة تامة على العقاقير المطلوبة للمستشفيات.

العمال

شهدت مصر في الخمسة عشر عاما السابقة للحرب حركة عمالية على درجة طيبة من الوعي، ساعدت على قيامها الظروف السيئة التي كانت تعمل فيها الطبقة العمالية، بالاضافة الى وجود عدد كير من العمال الاجانب بين العمال المصريين ، فمنذ اوائل القرن العشرين اخذت المشروعات الخاصة والحكومية تنتشر في مصر وترتب على ذلك ازدياد عدد العمال المشتغلين فيها

وكانت ظروف عملهم صعبة حيث ان الاجور ضئيلة وساعات العمل طويلة، وليس هناك ما يؤمنهم ضد الشيخوخة واصابات العمل اذ لم يكن هناك تشريع صناعي لتنظيم امورهم، ولهذا شعروا بوجوب تضامنهم والمدافعة عن حقوقهم وكون العمال الاجنب مع الصريين نقابات خاصة بهم وبالتالي اصبح هناك وعي نقابي بين صفوف العمال.

وباعلان الحرب تمخض امران هامان فيما يختص بالطبقة العاملة، اولا زيادة افرادها نتيجة للنشاط الصناعي الذي نهض ابان الحرب، وللعمل في السلطة العسكرية ولسفر العمال الاجانب، ففي احصاء سنة 1907 كان عدد المشتغلين بالصناعة يبلغ 356.420 وذلك الى جانب 101.026 يعملون في النقل. وقد ارتفع هذا الرقم عام 1917 الى 489.296 بخلاف عمال النقل الذين بلغ عددهم 150.633 عامل فيكون المجموع 639.929 عامل. ثانيا انتكاس الحركة النقابية بدلا من نموها بنمو الطبقة العمالية.

وذلك نظرا للاجراءات التي اتخذتها انجلترا منذ وقوع الحرب، كقانون التجمهر واعلان الاحكام العرفية وتقييد الحريات وتعطيل الجمعية التشريعية واعلان الحماية وما صاحب ذلك من تشديد الرقابة على المصريين، كل هذه الاجراءات شلت العمال وجردتهم من اسلحة العمل الجماعي وترتب على ذلك اغلاق دور النقابات بناء على امر الحاكم العسكري البريطاني فتوقفت الحركة العمالية توقفا تاما خلال الحرب.

وتعرض العمال في هذه الفترة للظلم والاستغلال حتى اصبحت ساعات العمل تصل الى اثنى عشر ساعة على وجه العموم، هذا بالاضافة الى ان التضخم ضرب العمال ضربة قاسية. وضمت انجلترا تنفذ سياستها تجاه هذه الطبقة، وكان كثير منها من اتباع الحزب الوطني، فقامت حملة اعتقالات واسعة ضد رجال هذا الحزب كما هاجمت مقراته وانديته العمالية ومدارس الشعب التي انشاها العمال وضبطت اوراقها ودفاترها وسجلاتها

وكان من ابرز رجال الحزب الذين اعتقلوا او نفوا او حددت اقامتهم عدد من العناصر الوثيقة الصلة بالطبقة العاملة والعاملين في الحقل النقابي وخاصة في نقابة الصنائع اليدوية وفروعها ونقابة عمال الترام امثال: احد لطفي بك عضو شرف جمعية عمال ترام القاهرة، واحمد افندي رمضان زيان رئيس نقابة المصانع اليدوية بالإسكندرية ومحمد عوض جبريل سكرتير نقابة المصانع اليدوية بالإسكندرية.

ومع بداية الحرب، وتلك الظروف الاقتصادية التي قابلتها مصر خلقت مشكلة كبيرة عانى منها العمال المصريين وذاقوا الامرين وهي "البطالة"، فمنذ اللحظة الاولى للحرب راى اصحاب الاعمال توفير العمال، فقد وقفت الحركة التجارية ورحل رعايا الدول الاعداء وصفيت اعمالهم ورات الحكومة الاقتصاد فاعطت الاوامر للوزارات بالاستغناء عن العمال.

ومنذ السادس من أغسطس توقفت اعمال الشحن والتفريغ، فبعد ان فرغ الحمالون مشحون الاربع بواخر التجارية الانجليزية والنمساوية والفرنسية، اصبحوا الان من غير عمل اما الشحن فقد منع تنفيذا لقرار الحكومة بمنع تصدير المواد الغذائية الى الخارج، فبذلك وجد الف عامل في الحال بدون عمل.

ولم تكن وقوف حركة العمال هذه قاصرة على عمال الميناء والجمارك والمخازن والسكك الحديدية وشركات الفحم والنقل ولا على الذين يرتزقون من حركة السفن التي بطلت من جراء الحرب، فهذه الاعداد من العمال لا تذكر بالنسبة لباقي جيوش العمال الذين يشتغلون في المدن وضواحيها كعمال البناء والورش والمصانع والمعامل والانوال والمغازل والمحاجر. فقد كسدت الحركة في جميع هذه الاعمال واصبح عمالها الذين يعدون بالالوف لا يجدون لهم مصدرا للرزق ولا مجالا للكسب والتعيش هم وعائلاتهم.

ويصف الحال مراسل المؤيد فيقول:

"ذهبت اليوم الى صديق لي يشتغل في سواقي المياه والطنابير التي يحتاجها الفلاحون لزراعة وري اطيانهم، فوجدت ابوابها موصدة وعمالها جالسين على بابها وعلى وجوههم علامات الحزن والكدر، وررت بجملة ورش ومصانع تشتغل بسك الحديد وصنعها وعمل الالات الزراعية وادوات الحرث والفلاحة فوجدتها موصدة الابواب ايضا والبؤوس مخيم على روبعها
في عدة شوارع في المدينة وضواحيها واقسامها. ان العمارات التي كان يشتغل اصحابها باتمامها قد ابطل العمل فيها وجف ما حولها من مونة ومررت بشواطئ البحر فرايت اكثر قوارب الصيد بلا عمل والصيادون يشكون من كساد الحال وقلة اقبال الناس على شراء السم وانصرافهم لكل موارد الغذاء الرخيصة
ورايت في مواقف عربات الركوب مئات من المركبات لا تخرج المركبة من الموقف الا كل بضع ساعات مرة ولا يجد سائقوها اقبالا كما كانوا يجدون من قبل، فاين تذهب كل هذه الجيوش من هؤلاء العمال البائسين الذين كانوا يشتغلنون في تلك الاعمال المتنوعة ايموتون جوعا ام يسعون لطلب الرزق وسد رمقهم ورمق اولادهم من باب يتيسر لهم حلال كان ام حراما؟"

ولم يكد يمضي اسبوع على قيام الحرب حتى كان هناك اربعة آلاف من العمال طردوا من معامل السجاير وشون البنوك ومخازن التجار، وكانوا في حالة يرثى لها، " وقد يجدهم الانسان على القهاوي وفي منعطفات الطرق يشكون ويبكون ولا يعرفون كيف يتصرفون".

وارتفع عددهم فجاة فوصل في 12 أغسطس 1914 الى عشرين الفا من العمال العاطلين وهم عمال مخازن الاخشاب والفحم وعمال شركات المكابس، وجميع عمال مينا البص والعربجية وعمال شركات البناء من بنائين وفعله، ووفرت شركة الترام الاعداد الكبيرة هي الاخرى، وفي الإسكندرية اصبحت جهات باب سدرة وكوم الشقافة والقباري وكفر عشري وكرموز راغب مزدحمة بهؤلاء العمال العاطلين.

حتى اصحاب عربات الركوب استغنوا عن اعمالهم ، وبعض المصانع كمصانع السجاير والمحلات التجارية انقصت مقادير الاعمال الموزعة على عمالها الى النصف ثم الى الربع حتى اصبح العامل لا يكسب في شهره ما يكفيه مؤنة اسبوع. وقد قلل هذا من حركة الدفع فالعامل لم يعد في وسعه ان يفي دينه للبدال او الخباز وغيرهما ولا حتى ان يدفع اجرة منزله.

وكثرت فئة المتعطلين بسبب وقف حال المعمار لدرجة انهم اصبحوا متسولين في الازقة والطرقات حتى بلغ الامر ان اعتدى شخص منهم على سيدة اجنبية اثناء سيرها في الطريق بان اختطف من يدها كيس نقودها فقبض عليه وسيق الى القسم وظهر من التحقيق انه من الصناع المرفوتين.

ويقول مراسل صحيفة الوطن:

"حدثني صديق لي عاد من الثغر – الإسكندرية – قال: كنت جالسا بغرفة البوليس في احد الاقسام، واذا بالشرطي ات برجلين احدهما من اصحاب الحرف والثاني صاحب مخبز، فادعى المخبز على خصمه بان طلب منه خبزا فارسله اليه مع تابعه الى المنزل فاخذه منه عنوة ولم يدفع له الثمن وبين له انه الان بلا عمل وليس معه ما يدفعه.
وعندئذ بدا المتهم يقص على معاون البوليس مبلغ الشقاء الذي حاق به فقال: من يوم ان استغنى عني وانا ابيع اثاث منزلي قطعة قطعة لاسد بالثمن رمق اطفال صغار وزوجة ، ولما لم اجد ما ابيعه وسمعت صراخ من حولي من الم الجوع، دفعني الضيق الى التحايل على صاحب المخبز بمثل ما فعلت، ثم خنقته العبارات واخذ في البكاء، وقال انه يطلب عملا يرتزق منه لانه ليس من الكسالى، فدفع المعاون ثمن الخبز من جيبه، وعاون الرجل بشئ من المال".

ولم تستطع اي نقابة من نقابات العمال ان تساعد في حل الازمة، فهي معطلة واكتفت باسلوب الالتماس واستثارة العطف بعد ان كان اسلوبها قبل الحرب هو الاعتصام والاضراب، فهذه صيحة من سكرتير نقابة طنطا "الجاشنجي" الى الاغنياء والجمعيات الخيرية

والحكومة تقول:

"في مدينة طنطا وحدها ما يزيد عن الالف عام وهم عاطلون من الاشغال ولا غلو في ذلك فجلهم من طائفة المعمار وقد اوقفت الاعمال المعمارية كلها. ولقد وفرت سكة حديد الدلتا ايضا فوق الخمسين عاملا، والصقت اعلانا من اول هذا الشهر بادارتها تعلن عمالها جميعها بانها خصمت من اجرتهم نصف شهر فيشتغل العامل نصف يوم فقط، وفق ذلك ايضا خصمت من اجرتهم نصف شهر فيشتغل العامل نصف يوم فقط
وفوق ذلك ايضا عمال سكة حديد الحكومة، والاشاعات التي تنهال عليهم من وفر العمال، ناهيم بعمال السجاير عندنا وعمال المحال التجارية الجاري التوفير فيهم، وان فوق المائتي حانوت من حوانيت الصناع الصغرى على وشك الغلق لقلة الاعمالن ولذلك انهال الصناع على دار الصناعة يئنون ويشكون سوء الحال، والنقابة طالبة اعانتهم".

ورفصت نقابة عمال الصنائع اليدوية في الإسكندرية الى حسين رشدي العريضة التالية

"نحن اعضاء مجلس ادارة نقابة عمال الصنائع اليدوية بالإسكندرية جئنا بهذا لنشرح الحالة السيئة التي وصل اليها العمال في الظروف الحاضرة، فقد وصلت الى النقابة عرائض من الاف الصناع العاطلين يشكون فيها من الضنك والفاقة ويطلبون الاعانة منها ومساعدتهم بتقديم ما يقتاتون به هم وعائلاتهم، وبما ان النقابة نظرا لحداثة عهدها ليس في مقدورها اعانة هذا الجيش الجرار الذي يقدر بعشرات الآلاف وتطلب تاليف لجان عامة تجمع التبرعات من القادرين لكي يعطي كل عامل ما يكفيه لسد بعض مطالبه الضرورية او صرف جزء من اموال الاوقاف الخيرية ووضعها تحت تصرف هذه اللجان".

وعمال السجاير في القاهرة الذين طالما استخدموا سلاح الاضراب قبل اعلان الحرب تراهم امام هذه الظروف يكتفون بالاستعطاف الى الصحف، فقد ارسل بعضهم رسالة من الاهرام تقول: "نحن لفافي السجاير اجتمعنا اليوم وعددنا نحو الثلاثة الاف وانتخبنا منا وفدا قابل سعادة محافظ القاهرة وعرض على سعادته سوء مصيرنا، فاجاب سعادته للوفد انه لا يتسنى له عمل اي شيء الان ونحن نلجا الى الاهرام خادم الانسانية".

ومس الضرر المقاولين، فالبنوك قطعت عنهم تلك المبالغ التي اعتادت ان تمدهم بها في مقاولاتهم، ثم توقفت وزارة الاشغال العمومية معن اعمال الحفر، وسائر الاعمال العمومية وبذلك اصبح لديهم اربعون الف عامل متعطل.

وهاجرت اعداد كبيرة من هؤلاء العمال العاطلين من الإسكندرية وبورسعيد والاقاليم الى الوجه القبلي لعلها تستطيع ان تجد ما تسد به رمقها. وقامت الحكومة بتسفير حوالي ثلاثة الاف من هؤلاء العمال الصعايدة العاطلين عن العمل العاملين حمالين في الميناء الى بلادهم محاولة لتخفيف الازمة وخوفا منها على الامن العام. كذلك رحل من دمنهور حوالي 1.900 الى الصعيد، وبهذا بلغ عدد الصعايدة الذين عادوا الى قراهم حوالي سبعة آلاف.

ورغم هذا فلم تحل الازمة ووصل الامر بهؤلاء العمال انه في يوم 26 أغسطس 1914 بالإسكندرية، وفي شارع مسجد الحضري وامام خباز بدا فريق منهم يساوم هذا الخباز، فما كان من الاخرين بعد ان رأوا الخبز قريبا منهم، وهم يطلبونه لانفسهم واولادهم فلا يجدون الدرهم الذي يشترونه به، فاندفعوا مرة واحدة على المخبز "فقلبو عاليه سافلا واخذوا من عيشه كل ما يجدون".

وراح عمال الإسكندرية يهددون المحافظ بانه اذا استمر الوضع هكذا فسيكونون خطرا على الامن العام "سعادة محافظ الإسكندرية .. تعرض على مسامع سعادتهم ان الازمة المالية اضطرت اصحاب المعامل الى اغلاق ابوابها، ولذلك اصبحنا نحن طائفة البرشامجية وعائلاتنا في حالة ضنك شديد، وحيث اننا لم يكن لنا سوى هذه الحرفة بتنا حيارى لا ندري ما نصنع، فنرجوا ان تشملنا الحكومة بانظارها قبل استفحال الخطر، وحدوث ما لاتحمد عقباه".

وفعلا حدث ما لاتحمد عقباه، ففي 31 أغسطس 1914 تجمع في الإسكندرية عدد كبير من العمال العاطلين قدروا ب1500 وطافوا في شوارع المدينة متجمهرين امام المحافظة وساعة المنشية فازدهم بهم شارع نوبار وميدان سانت كاترين وشارع العطارين حتى تعذر مرور المركبات والدخول الى ديوان المحافظة، "وكل منهم يصيح باعلى صوته نريد خبزا .. نريد عملا نرتزق منه". ولكنهم لم يكتفوا بذلك، وفي اليوم التالي تكررت المظاهرة من هؤلاء العمال، "وقاموا بحركات في الطرقات ادت الى اغلاق الحوانيت، وسمعنا ان بعضهم خرج عن حدود القانون وانتهك حرمة تلك الحوانيت" وهنا تدخل رجال البوليس محاولين المحافظة على النظام.

فورا سرت العدوى الى القاهرة، فقام العمال العاطلون الذي غشيتهم الفاقة بثورة لاجياع وقصدوا المحافظة بباب الخلق يدوون باعلى صوتهم يطلبون الخبز والعمل، ولما لم يسمع لهم هجموا على المخابز والبقالين والقهاوي والخمارات وجميعها ملكا ليونانيين واروام وهشموها بعد ان ضربوا اصحابها. وكاد نطاق الثورة يتسع بعد ان خرج اولاد الحسينية مسلحين بعصيهم لولا تدخل البوليس الفوري الذي امسك بهم "وقد زاد عدد الذين قبض عليهم زيادة عظيمة ووزعتهم المحافظة كلا على القسم التابع له" وتكرر نفس الشي في اكثر من مكان بالقاهرة.

ومضت المحافظة تقبض على عطلة العمال الذين كانوا في هذا التجمهر بارشاد الموجودين في سجونها، فيذهب الشرطي ومعه نفر من المحجوزين – من المتظاهرين – الى منزل الفار ويقبض عليه، وقد بلغ عدد المقبوض عليهم في نفس يوم المظاهرة 170 شخصا فكتبت ضدهم المحاضر اللازمة واعتبرتهم النيابة مشاغبين واسمتهم ببيانها الرعاع، وطاف الفرسان من الجيش المصري في الشوارع يستطلعون الاخبار ويقبضون على من يشتبهون فيه ويحيدونه على المحاكمة.

واحيل المتهمون الى النيابة العمومية واستدعت الحقانية على الفور وكلاء النيابة من اجازتهم لهذه الحالة وقسمت النيابة المتهمين الى ثلاثة اقسام، المتظاهرون في الدرب الاحمر والخليفة، والمتظاهرون في باب الشعرية والجمالية، والمتظاهرون في بولاق.

ووصفوا بانهم عصبة بالقوة الاجبارية وحكم على بعضهم بالسجن والاخر بالجلد، وكانت هذه اولى القضايا التي طبق فيها قانون التجمهر. واقلقت بال الحكومة كما اقلقت السلطة ومن هنا رات الحكومة ضرورة حل هذه المشكلة التي اصبحت تشكل خطرا قويا في مثل هذه الظروف، فقرر مجلس الوزراء تاليف لجنة للنظر في امر العمال العاطلين وللتباحث في الوسائل المؤدية الى تخفيف كربتهم في هذه الاحوال.

اما في الإسكندرية فكان اول عمل اتخذته انها رحلت اعدادا كبيرة من العمال الى قراهم لتخفيف الضغط عليها، ثم ارسلت حوالي الف عامل الى شركة الملح والصودا ببورسعيد لتشغيلهم هناك بنقل الملح باجرة قدرها 8 قروش وتعهدت الحكومة بتسفيرهم مجانا فازداد العدد المرسل حتى وصل الفين من العمال.

ووجدت بلدية الإسكندرية في منطقة الشاطبي مجالا لعمل هؤلاء العمال العاطلين من رجال ونساء، فوضعت شروطا لعملهم تلخصت في ان هذا العمل عبارة عن اشغال اثرية بجهت الشاطبي، ومواعيد العمل من الساعة السابعة صباحا الى الواحدة ظهرا والاجرة ثلاثة قروش في اليوم للرجال وقرشان للنءا. ودفع الاجور يكون يوميا بعد انتهاء مواعيد العمل ، والادوات اللازمة للعمل تقدمها البلدية.

وان يراقب العمل ملاحظون يكونون تحت ادارة مفتش، فاذا لم يكن العمل قد اجري بكيفية مرضية فان الاجر ينقص او يقطع بالمرة، وكل عامل يرتكب عملا من اعمال سوء السلوك واو يخل بالنظام او يتعمد عدم اطاعة الاوامر يفصل، ويكون العمل ستة ايام في الاسبوع، والعطلة يوم الجمعة، وان تعد البلدية في محلات الاشغال الماء اللازم للشرب والمعدات الصحيحة وان يبتدا العمل من يوم الثلاثاء اول سبتمبر 1914.

وفعلا انقض العمال على العمل في تسوية الاراضي بالشاطبي فتفرقوا حول الهضاب التي بين البحر وخط الترام ليهدموا وينقلوا ترابها الى الحفائر التي في تلك الجهة ، واشترك النساء في هذا لعمل المضني الشاق، ومرة اخرى تظاهر العمال وتجمهروا غير راضين ولا قانعين بهذا العمل، فثاروا واخذوا يرمون الحجارة على قاطرات الترام المارة بالشاطبي الى الرمل فكسروا زجاجها واصاب الركاب من جراء ذلك وعلت اصواتهم فاحدثوا ضجة كبيرة، وفي الحال استدعى البوليس تلفونيا فهرع الحكمدار اللواء هوبكنسون باشا الى الشاطبي بصحبة مستر غوردون انجرام مامور الضبط وعدد من رجال الشرطة لا يقل عن 50 رجلا ووصلوا الى محل التجمهر وفرقوا المتجمهرين.

وهنا صدر الامر الى الملاحظين على العمال في الشاطبي بالمحافظة على النظام باستعمال القسوة وبحرية التصرف في هؤلاء العمال، فارسل لكل امباشي بلوك خفر مجلده لمعاقبة العمال الذين يحدثون اضطرابا في اثناء العمل فكانوا يضربون العمال بلا رحمة وكثيرا ما كانوا يحدثون لهم عاهات مستديمة.

ويقول مندوب الاهرام:

" وقد علمنا من الاحصاء الرسمي الذي في دفاتر موظفي البلدية بالشاطبي ان الشغالين يبلغ عددهم بهذا النهار 3.000 منهم 2300 رجلا و400 ولد والباقي من النساء. اما الواقفون خارج الحواجز على جانب الطريق فلم يكن يقل عددهم اليوم عن الفين، وبينما كان هؤلاء يتذمرون باصوات منخفضة من قلة العمل وشدة الفاقة كان اولئك ينقلون التراب ويحفرون في الارض بسكون وهدوء بخلاف عادة العمال كما لا يخفى، وقد وقف نفر من رجال الشرطة الماشية والبوليس السواري بين الطالبين وكشك البلدية ليمنعوا كل خلل في النظام ويسكتوا كل من اراد الاحتجاج ويحرسوا مدخل الورشة وسائقها واقف بجانبها على اتم استعداد لسوقها بمن يؤدي بهم سوء الحظ الى ركوبها الى السجن".

ولم يمض شهر ابريل 1915 حتى انتهى العمل بمنطقة الشاطبي وعادت الازمة من جديد وتالفت في الإسكندرية لجنة لاعانة العمال والعاطلين برئاسة وكيل المحافظ لجمع التبرعات وفي القاهرة تكونت لجنة اخرى رات انشاء مخابز عمومية ومطاعم لمساعدة العمال ودعوة الاعيان للاكتتاب بما يجودون به لهذا الغرض.

وقررت الحكومة تشغيل العمال في استخراج السباخ من بعض التلال الواقعة في ضواحي لقاهرة وبدا العمل في منطقة العباسية لنقل الاتربة، وقاسى العمال الامرين من الملاحظين وقسوتهم مع قلة الاجور اذ كان المقرر لكل عامل ثلاثة قروش يومياً.

وبعد قليل قرر ديوان المالية ابطال العمل في منطقة العباسية وتوقف العمال عن العمل فجاء تقرير وزارة الزراعة بان تلال السباخ الواقعة في ضواحي القاهرة لا تحتوي على مقادير النتروجين الكافية التي توجد عادة في السباخ الذين يحسن استعماله للاطيان وعليه لا يمكن بيع ما يستخرج منها كسباخ نافع وبالتالي يمنع تشغيل العمال العاطلين في ذلك وان كل عمل يعمل من هذا القبيل يكون باطلا وبلا فائدة.

ولم تحل مشكلة العمال العاطلين، وفي 22 يوليو 1915، ومرة اخرى راحوا يتظاهرون امام المحافظة يشكون الالم والجوع، ويصفهم مندوب وادي النيل يقول:

"وكانت التعاسة بادية على وجوههم والفقر والجوع ظاهرا على اجسامهم التي برح فيها الشقاء بحيث ان مجرد النظر اليهم يؤثر في قلوب الناظرين وقد قذفت بهم الحادثات بعد الغاء تلك الاشغال الى اخر درجة من درجات الشقاء، وكانوا يسترون عوراتهم باسمال بالية وهم يقولون نحن لا نسال احسانا ولكننا نطلب عملا، ومالبث رجال الشرطة ان شتتوا شملهم بلا رفق ولا رحمة وابعدوهم بعنف فتفرقوا بين الجموع صامتين لا يبدون اعتراضا".

وراح البوليس يقبض على العمال في الطريق الذي يتوجس خيفة منهم بتهمة مزاحمتهم له، وذلك خوفا على حدوث ما يقلق الامن الداخل. ومن الطريف انه في الوقت الذي اشتدت وتازمت فيه مشكلة البطالة لم تقلل الحكومة من الاعداد التي استمرت تنحيها عن اعمالها رغم ما احست به من خطورة العمال العاطلين في مثل هذه الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة.

وبدات الشكاوى تنهال على المسئولين تطالب بالعدالة، وجرت عملية واسعة من الجهر بالالام والمطالبة بالحقوق وعلت الاصوات تريد حلا وتعجب من تخيير الاجنبي على المصري "نصرخ باعلى اصواتنا من هذه المصلحة التي لم تجب الا شكوى الاجانب الذين لا تقل مرتباتهم عن الخمسة جنيهات بمنحهم علاوات".

هكذا ساءت حالة العمال وسدت في وجوههم الابواب واصبح من المناظر المالوفة في شوارع مصر في الصباح والمساء ان يشاهدوا ومعهم اولادهم يدفعونهم الى الغادين والرائحين يسالون الاحسان ويستمدون المعونة، وان غل المسئول يده الى عنقه تقدموا خاضعين باكين مظهرين حقيقة امرهم، وقد حدث ان عاملا يعول عائلة كبيرة متكونة من زوجة واربعة اولاد واخ عاجز مريض شرع في الانتحار لانه سعى كثيرا لايجاد عمل وخاب في السعي.

وتقدمت الصحافة بالمقترحات من اجل انقاذ مصر واعانة العمال، واظهر بعض الافراد اهتماما عاطفيا فعملوا على تالف لجان من اجل تقديم المعونات للمحتاجين البائسين. لكنها لم تستم رهذا في الوقت الذي تعددت فيه الحفلات الخيرية لمعاونة البلجيكيين والفرنسيين من منكوبي الحرب وخرجت اموال الاغنياء للصليب الاحمر ولجمعية القديس يوحنا.

ونجحت انجلترا في القضاء على اي نشاط نقابي مع بداية الحرب وتعرض العمال للذل والهوان وكان لابد من العمل على لم شملهم وتوحيد افكارهم لمواجهة تلك الظروف الصعبة، وبالرغم من علمهم بان اية حركة سيقومون بها سوف يقضى عليها في الحال، وستقابل بالعنف من جانب السلطة العسكرية التي كانت بحكم الاحكام العرفية مسيطرة على جميع قوى مصر وباسطة يدها على المرافق التي يعمل بها العمال الا ان المطالب العمالية ارتفعت صيحاتها، فكمسارية السكة الحديد يتقدمون للسلطان ولونجت بمطالبهم: عدم رفت الكمساري وهو في سن صغير، وضرورة صرف المكافاة بعد انتهاء الخدمة، ومكافات العمل، وبدل للسفر، والتعويض في حالات الاصابة في العمل، وزيادة المرتبات وتقليل ساعات العمل.

وراحت اضرابات العمال تتوالى، وكان عمال السجاير والدخان في الباكورة ذلك ان ظروف الحرب كانت اشد تاثيرا عليهم، فقد انتهز اصحاب معامل السجاير فرصة اعلان الحرب للتخلص من الاتفاقيات القديمة التي اجبروا على قبولها قبل الحرب، وقاموا بتوفير عدد كبير من العمال بحجة نقص الدخان العام، وزاد من صعوبات حياتهم ذلك الارتفاع المطرد في تكاليف المعيشة، فلما لاحت تباشير السلام

وانتقل مسرح العمليات الحربية من منطقة القتال وسيناء الى فلسطين، وخفت يد السلطة العسكرية نسبيا عن الشئون اليومية للحياة، بدأ عمال السجاير يعودون رويدا رويدا الى ممارسة اساليب العمل الجماعي للدفاع عن مصالحهم ولرفعض بعض ما حل بهم من ضيق اصحاب العمال، ففي بداية أغسطس 1917 اعلن نحو مائة من لفافي السجاير في محلات كوتاريللي في الإسكندرية الاضراب عن العمل مطالبين برفع فئات اجورهم – كانت تترواح بين 20 و22 قرشا للف الف سيجارة – ومساواتها باجور القطعة السائدة لنحو خمسين عاملا من العمال القدامى في المعمل – وهي تترواح بين 24 و26 قرشا لكل الف سيجارة – لكن هذه الحركة لم تسفر عن نتائج ايجابية، واضطر العمال للعودة الى العمل دون استجابة مطالبهم.

تلى ذلك الاضراب اضراب عمال محل سجاير كندرك بيكيان في نهاية أكتوبر 1917، واشترك في هذا الاضراب نحو 127 عاملا طالبوا بزيادة اجورهم قرشا على الفئة المحددة للف الالف سيجارة، كما طالبوا بتحسين معاملتهم اثناء العمل من جانب رؤساء العمل، وعقدوا عدة اجتماعات باحدى المقاهي العامة للبحث في امورهم، وشكلوا لجنة لعرض مطالبهم، وقابل صاحب المعمل وكيل محافظة الإسكندرية وصرح بانه لا يريد ولا يرضى ان يزيد اجورهم ويوقع شروطهم وزعم ان الرجل منهم يربح في معمهل 10 جنيهات في الشهر.

فلما قابل وفدهم وكيل المحافظة واخبرهم بهذا الخبر ونصح لهم بالعودة الى العمل ، كذبوا الخواجة كفورك وقالوا ان الذين يربحون 10 جنيهات لا يزيدون عن اربع انفس والباقين لا يتجاوز ربح الواحد منهم في الشهر 4 جنيهات وصمموا على اضرابهم وكان مصير هذا الاضراب لا يختلف عما قبله فانفض دون نتيجة.

وفي وائل فبراير 1918 عاد الكرة عمال السجاير مرة اخرى فطالبوا بزيادة الاجور لغلاء المعيشة وارسلوا للصحف يستغيثون بها، ووجد هذه المطالب من الصحف اذانا صاغية، فكتبت الاهرام: " ان مطالب العمال حق ومن الواجب تعضيدهم لان العامل لم يعد يستطيع ان يوفق بين معدل كسبه اليومي وبين نفقاته سواء كان فردا او عائلا، والعمال الذين يتطلبون زيادة الاجور يزيد عددهم عن الف عامل بالإسكندرية، وقد كتب كل فريق منهم الى رؤساء محله بهذا الشان ولم تظهر نتيجة الالتماس حتى الان".

وحدد عمال ملكونيان – قدروا بنحو 700 عامل – بانهم سيستمرون في اضرابهم حتى تتحقق لهم هذه المطالب:

1- رفع فئة الاجر المقرر للف الالف سيجارة من ثلاثة عشر قرشا وثلاثون فضة الى ستة عشر قرشا وثلاثون فضة، وانتاج العامل 3.000 سيجارة في اليوم. 2- وقف اجبار العمال على شراء الاطعمة والملابس من المطعم الذي اقامه المصنع واطلاق حرية العمال في شراء الاطعمة من الخارج. 3- وقف اجبار العامل على التبرع ب2% من اجورهم للجمعية الخيرية الارمنية، وكان هذا الخصم يطبق على العمال الارمن وغير الارمن.

ورفقضت ادارة المصنع هذه المطالب، وراح مدير المعمل يراسل الصحافة محاولا ايهام الجمهور بان العمال لا حق لهم في الشكوى وبانهم سعداء. وذلك حتى لا تناهض العمال، لكن امتداد امد الاضراب لم يلبث – في مثل هذه الظروف الصعبة – ان فت في عضدهم واخذت جماعات منهم تقبل العودة على اساس قبول زيادة قرشان على الفئة القديمة للف الالف سيجارة، وفي يوم 21 فبراير 1918 اعلن مدير المعمل ان العمال عادوا الى اعمالهم الا نفرا قليلا.

ويبدو ان عودة جانب من العمال المضربين الى العمل لم ينه الاضراب تماما. فقد ظل العمال الذين استمروا في الاضراب يتجمعون حول المعمل ويواصلون شكواهم لدى المسئولين طوال شهري مارس وابريل 1918 دون جدوى وحاولت ادارة المعمل تحطيم مقاومتهم بقبول عودة جماعات محددة منهم يوما بعد يوم مع الاصرار على استبعاد العناصر البسيطة التي قادت الاضراب.

وفي 20 ابريل 1918 تضامن بعض العمال المشتغلين مع من بقى من العمال المضربين واعلنوا تجديد الاضراب، ثم هاجموا المعمل واشتبكوا مع العمال الموالين للخواجة ملكونيان في قتال مرير تحطم خلاله الكثير من معدات العمل ونوافذه وتدخل البوليس والقى القبض على عدد كبير من العمال واحيل 66 منهم الى المحاكمة وانتهى الاضراب على هذه الصورة.

اما عن اضراب العمال في الإسكندرية فقد كان اكثر تنظيما واكثر فاعلية ذلك انهم تضامنوا بفضل احياء وتنشيط نقاباتهم واستعانتهم باحد المحامين. والتزموا جانب الهدوء وتلافوا اعمال العنف خوفا من تدخل البوليس كما حدث في القاهرة، وقابل المستشار القانوني لهم محافظ الإسكندرية لتسوية مطالبهم من زيادة الاجور، وجمع اصحاب المصانع واقترح عليهم زيادة الاجور بنسبة 20% ولكنهم راوا ان تكون الزيادة 13% فقط

ولهذا قرر العمال الاضراب ابتداء من 9 فبراير 1918 ، ولكنه كان اضرابا منظما بعد عن تصرفات عمال ملكونيان، وكانت الغالبية العظمى من العمال المضربين وقادتهم "يصرفون اكثر ساعات النهار في مقهى فرنسا تجاه المينا الشرقي حيث يجلسون بكل سكون ويتداولون في امرهم العام ومصلحتهم المشتركة".

ولقيت هذه الحركة تاييدا من البعض والدليل على ذلك انهم تبرعوا بمبلغ 85 جنيه وراحت تنظم الحفلات لصالحهم والتي خصصت لمساعدتهم. وفي 20 فبراير 1918 عقد اجتماع بمكتب المحافظ ودار بين الفريقين – المحافظ والمحامي – حديث طويل اختص بزيادة الاجور وباقي مطالب العمال وارجاعهم الى اعمالهم.

واخيرا تم الاتفاق على رفع الاجور ، ولكن حدث ما ليس في الحسبان اذ بينما العمال نالوا مطالبهم من الوجهة المادية اذ بالعمل قد اجحف بهم من الوجهة الاجتماعية بان سمح بعودتهم على ان يرفت فريقا منهم بحجة انه استخدم غيرهم اثناء الاعتصام، "ولكن روح التضامن السارية بين العمال ابت قبول الراي، وخرجت مسالة الاعتصام من المطالبة بحقوق مادية الى المطالبة بحقوق الاخاء والتضامن بالعمل ، فلقد فضل العمال ان يكونوا كلهم عاطلين من ان يرضخوا اليه تاركين وراءهم فريقا من اخوانهم".

واستؤنف الاضراب من جديد، وكان ان يفقد طابعه الهادئ اذ ترددت الانباء عن تجمهر العمال المضربين امام محلات دوراس وكوتاريللي وكاسيموس ولوران ومحاولتهم الاعتداء على بعض العمال الخارجين على الاضراب، وقد اصيب احد رجال البوليس في هذا التجمهر، واستمر الاضراب الى 20 مارس 1918 فسوى على اساس زيادة الاجور 13%.

وامتدت حركة اضراب عمال السجاير الى اغتصاب مصنع الغزل بالإسكندرية والقاهرة وذلك بسبب عدم اجابة طلباتهم، هذا وشجعت الصحافة هذا التيار رغم الرقابة الصارمة عليها فراحت تبين ان المطالب لا تنال الا بالتضامن واتفاق الكلمة وان النقابات هي المتحدثة بلسان العمال وطالبت بان تكون رئاستها من العمال انفسهم.

هكذا جددت حركة العمال الجماعي طالبة تحسين شروط العمل، وفي الوقت نفسه عملت على احياء النظام النقابي، فقد نبهت الحرب العمال الى امر مستقبلهم بعد ان اشتدت بهم الفاقة وارتفعت الاسعار ارتفاعا عجزوا معه عن الحياة، لان اجورهم القليلة التي كانت لا تكفيهم حتى قبل الحرب للمعيشة اصبحت اثناء الحرب لا تفي باي التزامات.

الفلاحون

رفع عبء الازمة الاقتصادية على الفلاحين بسبب انخفاض اسعار القطن، وعلو ايجارات الاطيان، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتشدد البنوك في تحصيل الديون العقارية، ووقف التسليف على القطن، ثم اكراه الفلاحين على انفاق ما لديهم من مدخرات عينية او مالية وبيع ما لديهم من ماشية ودواجن للوفاء بالديون والالتجاء الى الاقتراض بالربا الفاحش.

هبط سعر القطن هبوطا فاحشا في موسم 1914 عقب اعلان الحرب، والقطن هو عماد الثروة الاقتصادية في مصر واعتماد الفلاح الكلي يكاد يكون منصبا عليه، وجرت العادة ان الفلاح يذهب سنويا الى المصارف والمرابين يقترض على قطنه وقبل جني ثروته يكون قد باع محصوله واخذ العربون ليستعمله في الجني.

وفي هذه الظروف وبعد منع التصدير ماذا يفعل الفلاح الذي قضى العام يشتغل بزراعته وريه وجنيه منتظرا ليدبر حاجاته المعتادة انه لا يجد الا قطنا مخزونا ومن هنا فلم يعد ياكل ولا يشرب ولا يلبس. ان عليه ان يدفع قسط الضريبة، ويسدد القسط العقاري، ويدفع الديون الغير اعتيادية، ثم يفكر في مصير قطن هذا العام.

وزاد الامر ان اصحاب الاراضي يطالبون الايجارات، وكان صغار الفلاحين قد استاجروا الاطيان من كبار الملاك باجور مرتفعة ، واجتهدوا في زراعتها وانفقوا النفقات الكثيرة واذ هم يفاجأون بنزول الثمن .. وليس فقط هذا، بل تعذر التصدير فكيف اذن يدفع الفلاح الايجار؟ ولقد امتنعت البنوك عن تسليف الفلاحين الاموال لجني قطنهم وشحنه وترك القطن، ثم اخذت الجنية الاولى والثانية والثالثة معا فخرج القطن لذلك دونا في كميته وصفته، وحدث في بعض الحالات ان الفلاح المستاجر رفض جني قطنه علما انه يجمعه للمؤجر.

ووصفت صحيفة الافكار حالة الفلاح في ذلك الوقت بقولها: "بات الفلاح يخشى الا يجد طريقة لجمع القطن من شجيراته فيبير مكان وتعظم عصائبه ويشتد بلاؤه المزارع الان يعاني من المصائب ما لم ير في حياته ولكن اجلها مصيبة القطن تلك هي كبرى المصائب التي شملت القطر باسره، فضرائبه لا مفر من دفعها ويلتفت حوله فلا يجد شيئا غير ذلك القطن الذي يتساقط شيئا فشيئا على الارض، ثم هو عاجز عن جمعه عن جميع لوازمه، وقد كانت الحكومة قد قررت دفع جنيهين عن كل قنطار ولكن مرت فترة حلت اثناءها مواعيد جمع القطن ولم يتقرر شيئ بشان دفع شئ للمزارعين يتمكنون به من جمعه وحفظه.

لقد وجد الفلاح ابواب الاقتراض مغلقة نصب عينه، فلم يجد من يقرضه قرشا او يعطيه لاجل حاجايات عمله مما اعتاد ان يتناولها على الحساب، فاصبح بذلك عليه ديون قديمة برهونات ذات ميعاد محدد لدفع الاقساط وديون جديدة بشروط. فبات لا يملك اجرة جني قطنه ولا ثمن الاكياس التي ينقل فيها القطن الى بيته وكان عليه ان يجهز ارضه للزراعة الشتوية فاذا هو ليس لديه ثمن التقاوي والسماد ولا حتى اجرة تقليع حطب القطن، ومع هذا تشدد الحكومة في جباية الضرائب منه.

واخذت البنوك العقارية تطالب باقساطها، ولم تساعد الحكومة على تخفيف الازمة على الفلاح بل انها زادتها من تلك القسوة التي اتبعتها، فاصدرت تعليماتها الى الحكام الاداريين والصيارفة باستعمال الشدة في تحصيل الاموال ومطلوبات البنك الزراعي مما اضطر الكثيرون من الفلاحين الى بيع اقطانهم بادنى من الحد الذي هبطت اليه الاسعار حتى بيع القنطار عام 1914 في كثير من القرى والبنادر بمائة وعشرين قرشا، وفي كثير غيرها بستين قرشا.

وفي حقيقة الامر انه لم تظهر اسعار محددة للقطن في ذلك العام، فرمى الفلاح محصول قطنه بابخس الاثمان وفضل ذلك عن ان يحتفظ به وهو محتاج لسد مال الحكومة. فانتشر الفلاحون في انحاء البلاد يبحثون عن مشترين لقطنهم ويتساءلون عمن يعلمه بمكان تاجر قطن، فتراهم يدخلون في بيت التاجر افواجا يتسابقون لعرض بضاعتهم، وذلك التجار البسيط يشتريه بثمن بخس، ومن لم يقبل يرفض الشراء منه فيرجعون على اعقابهم خاسرين".

ويصف مندوب الاهرام قسوة الحكومة وعنفها في جمع الضرائب فيقول:

"كنت مسافرا الى احدى المديريات الاكثر خصبا فالتقيت في القطار بالمعاون المامور بتنفيذ البيع الجبري لمواشي الفلاحين تحصيلا للمال وسمعته يقول ما لا ينطق على السمعة المنوه عنها وعلمت من اقواله ان اضطرار الفلاح للتخلي عن جاموسته بابخس الاثمان لتادية المال ولعدم وجود مشترين لقلة النقود عند الاهالي كانه عند اشهار مزاد جاموسته لا يقبل على شرائها الا مشتر واحد ويعرض لها الثمن البخس".

اما ذلك اضطر الفلاحون الى بيع مصوغات زوجاتهم بالثمن البخس للمرابين، الذين كانوا يشترونها منهم ويبيعونها الى بعض البنوك التي ترسلها الى لندن اما لتسك عملة او لتحفظ سبائك في بنك انجلترا.

ولما كثر عرض المصوغات في السوق هبط سعرها ولعب التجار باثمانها، وهنا رات الحكومة ان تعمل شيئا، فتدخلت في الامر واعطت للبعض سلفيات على اقطانهم ثم عينت مثمنين لتقدير الاثمان الحقيقية للحلي وقبلته بدل النقود في سداد الضرائب، واصدرت قراراها بذلك.

وفي هذا القرار حصرت الحكومة مشتراها للذهب بمقابل الاموال الاميرية وعوائد الاملاك وحذرت الناس من بيع المصوغات باقل من قيمتها، فهل كان جميع الناس اصحاب اطيان واملاك تستحق علهيم الاموال الاميرية وعوائد تلك الاملاك حتى يتمكنوا من بيع مصوغاتهم للحكومة بقيمتها الحقيقية واخذ الزائد عن حق الحكومة نقدا؟ ان الكثيرين الذين يبيعون مصوغاتهم لا يملكون دارا ولا عقارا فهؤلاء لا يجدي تحذيرهم من بيع مصوغاتهم باقل من قيمتها، ان هؤلاء لا يجدون امامهم سوى المرابين او من يبتاعون منهم اشياءهم باقل الاثمان.

هكذا اصيب الفلاح من جراء الحرب بالعسر المالي والضنك الشديد، بوقوف حركة اعمالهم وارتفاع اثمان حاجياته واخيرا بمرض ماشيته، فقد اصيب الجاموس بمرض الخناق وفتك به، واصاب الطاعون كل الفصيلة البقرية.

وامام ذلك رات الحكومة ان تعلن الموراتوريوم – تاجيل الدفع – فوافقت مرغمة على تاجيل سداد الضريبة العقارية المستحقة في شهر نوفمبر 1914 الى شهر ديسمبر ويناير التاليين، واصدرت وزارة الحقانية منشورا ابلغته للقضاة نصحت لهم فيه بالتسامح والامهال وبمنح الاجال البعيدة لمن يكون غير قادر على سد دينه. لكن ما لبث ان مرت بضعة شهور حتى اعلنت الحكومة انتهاء التاجيل الجبري للديون ذلك لان المستشار المالي بين ان كثيرا من الاهالي لديهم من الاموال ما يكفي في اجابة طلبه وله حق طلب بيع هذه الاملاك لا ينازعه فيه منازع.

ان التاجيل الجبري لم يكن ذا فائدة للفلاح بل هو لصالح معظم التجار، ذلك لان يدون المزارعين لا تحل اجالها الا في شهري نوفمبر وديسمر، فاذا انقضى اجل المواراتوريوم في شهر نوفمبر او ديسمبر اصبحت الطامة الكبرى على الفلاحين لانهم يقفون بين نارين عجز محصول القطن الى درجة اكثر من النصف عند بعضهم ون 30% عن الاكثرين الامر الذي حال بينهم وبين سداد ديونهم لان المال الذي يحصلون عليه لا يكفي لسداد الاقساط الباقية من اموال الحكومة.

وثارت ثائرة المستاجرين لقرار الحكومة بتحديد منطقة المساحات التي تزرع قطنا فوجد المستاجر نفسه مغبونا بعد تحديد تلك المساحة وطالب المالك بتخفيض الايجار وفقا لقلة الايراد. فالفلاح الذي يملك خمسة افدنة ويزرع نصفها قطنا ينتج منه اكثر من سبعة قناطير، فاذا بيع القنطار ب270 قرشا كان الثمن 19 جنيها وهذا اقل من المبلغ الذي كان يحفظه لسداد الاموار والنفقة الضرورية

فيصبح محتاجا لبقية النفقة في حين ان الدائن يطالبه بمبالغه وهنا امرت الحكومة الا يزرع اكثر من ربع اطيانه قطنا فيضطر الى زراعة فدان وربع ينتج منها اربعة قناطير او خمسة يقدر ثمنها ب15 جنيها بيد انه محتاج الى المال الضروري الذي لا يقل عن 20 جنيها فيرتبك في احواله ويطالبه الدائن في امواله وفوائدها فلا يدري من اين يحصل على نفقته الضرورية.

وفي 2 مارس 1915 اجتمع مجلس الوزراء واقر مشروع قانون بفرض رسوم وقتية على زمام الاطيان لمدة ثلاثة اشهر اعتبارا من اول يناير 1915 بنسبة 6% من قيمة ضرائبها وتحصيلها على الاقساط الاميرية وبنسبتها، وهذا مما زاد ازمة الفلاح ووصلت حالته الى درجة من السوء.

وزاد الم الفلاح وهمه فقد هجم الجراد على المزروعات وترك الارض جرداء ثم انخفض ثمن الحاصلات وهبطت اسعار البصل هبوطا جعل التاجر والزارع يؤثران تركه في ارضه لم يشاء حمله، وتشدد البنك الزراعي في طلب ماله قبل الفلاح وتزلت الاراضي حتى اصبح الفدان الذي كان يضن به صاحبه على ان يبيعه ب200 جنيه لا يجد من يشتريه ب60 جنيه.

ونتيجة لانخفاض اثمان الحاصلات ازدادت حالة الفلاح سواء فعلى سبيل المثال كان الفلاح يؤجر الفدان بمركز ملوي ب25 جنيه ويدفع المستاجر علاوة عليها 10 جنيهات ثمن كيس سماد لتسميد الفدان وجنيهين ونصف اجرة انفار لري الفدان وجنيها ثمن تقاويه وجنيها اجرة حصاد ونصف جنيه مشال المحصول الى الاجران وجنيها اجرة درسه وتجهيزه ومجموع هذا لا يقل عن 42.5 جنيه ، غير تعب المستاجر ليله ونهاره.

ان احسن فدان يعطي 8 اردب من القمع واعلى ثمن يباع به الاردب في هذه الظروف 3 جنيهات فيكون مجموع هذا 24 جنيها يضاف اليه 2.5 جنيه ثمن التبن الناعم والخشن فيكون المجموع 26.5 جنيه ومن هنا يخسر الفلاح 16 جنيه في كل فدان. وانتشر المرابون واتسع نشاطهم فازداد دين الفلاح، وفي بعض الاحيان انتهى الامر بان المرابي كان ينزع ملكية الارض، ان المرابين عمدوا الى شراء الارض ومحصولاتها ومواشيها ووصل به الطمع الى الاستيلاء على امراة الفلاح. وكثرت الشكوى وتتابعت العراض ورفعت الالتماسات لتخليص الفلاحين من براثن المرابين والبنكيرات وشركات التسليف الصغيرة "فهمهم ينحصر في نزع الملكيات والحجز على المنقولات والمزروعات".

واخيرا وافق المستشار المالي على دخول الحكومة مشترية لمقدار معين من القطن بسعر جنيهين للقنطار وذلك ليتمكن الفلاحون من تسديد الاموال الاميرية وترتب على هذا ان خسرت البلاد حوالي عشرين مليونا من الجنيهات في تجارة القطن عام 1915 وفي عام 1916 ارتفع ثمن القطن مبلغ 12 جنيها للقنطار ولكن كبار التجار ومعظمهم من الاجانب تلاعبوا في الاسعار وبقى الفلاح غارقا في ديونه وزاد سعر ري الفدان من الارض التي كانت تروى بالالات الرافعة لارتفاع سعر الوقود وارتفع سعر السماد واسعار الاكياس اللازمة لتعبئة القطن واجور النقل حتى العمال الزراعيين الذين كانوا يستاجرون ب3 قروش في النهار اصبحوا لا يرضون الا ب6 قروش.

وراح البنك العقاري ينزع مساحات واسعة من الاراضي ما مالكيها حتى اوشكت الاراضي الزراعية كلها ان تنتقل الى ملكية البنك العقاري والمرابين الاجانب، وكانت قضايا الحجز على الاطيان تجرى بمعدل 1200 قضية في الشهر، وقد حدث ان اطيانا قيمتها تزيد على اربعين الف جنيه رهنت بخمسة الاف ثم طرحت في المزاد العلني بثلاثة الاف فلم يتقدم لشرائها احد فاعيد طرحها بالف وخمسمائة جنيها فزادها على البنك الداين.

بهذه الطريقة ذهبت الاراضي للبنوك التي احتفظت بها حتى تتاجر فيها عندما تنتهي الازمة وان مجرد القاء النظر على جداول قضايا نزع الملكية ثم مقارنة عددها في عامي 1915 و1916 والاعوام التي قبلها يدل على سوء الحالة الاقتصادية، اذ هدد الفلاح الافلاس فطرح اراضيه في المزاد العلني وباعها بابخس الاثمان.

هذا بالاضافة الى متطلبات السلطة الجبرية تلك التي اعطت لنفسها الاولوية المطلقة باستيلائها على المحصولات والمواشي والدواب، فوقع عبء تقديم المؤن الغذائية لها على صغار اصحاب الاراضي دون كبارهم، وعاش الفلاحون في ذعر وفزع من السلطة وهجماتها عليهم، وكان مجرد اعلان اي خبر خاص بذلك حتى ولو كان صدى لتصرفاتها يدخل الرعب في قلوبهم، فتذكر لنا صحافة الفترة العديدة من الاحداث التي تشير الى ذلك

فتقول الاهرام:

"حدث في مديرية المنفوية اول امس حادث ذو نتائج سيئة، فقد روى مراسلنا في تلا ان مدينا خاف ان يحجز دائنه على مواشيه فاخذ بتهريبها فساله احدهم عن السبب فاجاب ان العساكر الانجليزية تصادر المواشي لتذبحها فشاع الخبر في البلاد كلها وتراكض الاهالي الى الغيطان ليرجعوا مواشيهم الى المساكن واضطر مامور مركز تلا ان يرسل البوليس ومعاوني الادارة الى القرى وان يكلم العمدة بالتليفون ليسكنوا روع الاهالي
وفي يوم 9 مارس 1915 كان يوم سوق جنزور فراجت في تلك السوق اشاعة فحواها ان حكومة بريطانيا العظمى امرت بجمع المواشي واخذها للذبح فعلا صراح النساء وعويل الاطفال واسرع الاهالي الى الغيطان لياتوا منها بمواشيهم الى البيوت فاكتظت الطرقات بالمواشي والجميع يتسابقون ليصلوا الى منازلهم ويخبئوا مواشيهم".

وان دل هذا على شيء فانما يدل على مدى الشعور بالكراهية ضد الانجليز، ومتطلباتهم بل وضد الحكومة التي كانت راضخة لطلبات السلطة. ولم تقتصر طلبات السلطة على ماديات الفلاح فقط، اذ استطاعت ان تنتزع منه ابنه واخاه بل هو نفسه من اجل العمل في الميدان الحربي عن طريق التجنيد الاجباري، فذهب الفلاحون ومنهم من لم يعد الى ارضه ومات شهيدا من اجل الحلفاء.

وقد اعترف لويد نفسه بان الفلاحين ظلموا من وضعهم الذي خلفه الحرب اذ يقول: "وهكذا كانت مسالة الشغب اخذة في التحول ببطء الى حالة من الهياج الشديد وفقد الفلاحون احتمالهم الصبور للظلم".

وامام هذه الحالة المؤلمة التي وصل اليها الفلاحون، كان التفكير في مسالة التعاون، فنشر صادق حنين كتابه عن التعاون وحدده، وراح احمد بك لطفي المحامي يحرك ويدعو الى هذه الحركة التعاونية طوال فترة الحرب، ومضت الدعوة تاخذ طريقها وتزدهر من اجل مساعدة الفلاحين بانشاء شركات الاستهلاك التعاونية للقضاء على الوسطاء، وبنوك تعاونية للتخليص من المرابين وتاسيس النقابات الزراعية.

كانت النقابات الزراعية من اهم ما شغل بال الفلاحين، والهدف منها تسهيل الحصول على البذور والاسمدة والالات الزراعية والماشية وتشييد المخازن والشون والمعامل الكيميائية ومعامل الحلج وحقول التجارب وتسليف الفلاح.

وخلقت الحرب الكثير من النقابات الزراعية، فافتتح في 16 أغسطس 1914 نقابة ميت سلسيل الزراعية بمركز دكرنس الدقهلية، وكان راسمالها 674 جنيها منقسما الى 2686 سهما كل سهم قيمته 35 قرشا تحصل من 198 عضوا. وانتخب رئيسا لها الشيخ يوسف حسن عاشور، وكذلك افتتحت في اول سبتمبر 1914 نقابة كشميش الزراعية مركز تلا المنوفية، وبلغ راسمالها 177 جنيها، 750 مليما مقسمة الى 711 سهما قيمة السهم ايضا 25 قرش متحصلا من 108 عضوا وانتخب رئيسا لها مقلد افندي من اعيان كشميش.

وفي 26 سبتمبر 1917 انشئت نقابة زراعية في جهة سنبو مركز ميت غمر دقهلية، وعرف اهالي هذه الجهة فائدة التعاون وما وصلت اليه النقابات الاخرى، وبلغ مجموع راس المال في هذه النقابة 135 جنيها وكان ثمن السهم 25 قرشا.

وفي 6 يونيو 1918 اسست نقابة زراعية في مديرية المنوفية ببلدة زاوية بمم وانشئت هذه النقابة معامل النسيج ومخازن اعدت لصيانة الحبوب ومعمل صابون وكتب عليه "صابون نقابة زاوية بمم الزراعية" وقامت النقابة الاخيرة هذه بمجهود وافر فانشات ناديا للالعاب الرياضية وعملت على ترقية "جمعية المساعي المشكورة"

ومدها بما يستطاع من مال مجلس المديرية تنشيطا لها وتثبينا لمركزها لتقوم بما عهد اليها من تربية ابناء المنوفية وتعليمهم ابتدائيا وثانويا، وكذلك عمل مدير المنوفية بايعاز ماموري المراكز بنشر هذه الفكرة التعاونية بين الاهالي وضرب الامثال لهم واظهر الفوائد التي تنجم عن ذلك في مصلحة الفلاح.

فكان اول من لبى نداءه عبد الرحمن بك حسن مامور مركز منوف، واخذ في تاسيس النقابات حيث تكون في دائرة مركزه اربع نقابات زراعية في اقل من شهر وكانت الاولى في الواط والثانية في الباجور والثالثة في الحامول وشبرا باوله وكفرها والرابعة في سرس الليان.

ومضت الصحافة تبين فوائد هذه النقابات واهميتها فتقول التجارة:

"ولو كانت النقابات الزراعية عامة في انحاء القطر لما وجدنا اسعار الحيوانات الداجنة والمواشي قد بلغت هذا الحد الفادح، انه يصعب علينا ان نرى في تقارير مصلحة الجمارك ان مصر مستوردة من الخارج حبوبا وارزا ومواد اخرى لا يتعذر علينا زراعتها في تربتنا الخصبة اذا انتشرت هذه النقابات". وبذلك سيطرت الروح التعاونية على الريف المصري

امراض المجتمع المصري في هذه الفترة

الفقر

كان الفقر من اهم المظاهر الاجتماعية التي عانى منها المجتمع المصري ابان هذه الفترة وقد جاء نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة التي فرضتها الحرب على اهل مصر.

فباعلان الحرب ارتفعت اسعار حاجيات المعيشة الضرورية الى درجة عالية، ووقع عبء هذا الارتفاع على كاهل الطبقات الفقيرة التي لم يكن باستطاعتها ولا بقدرتها دفع الاثمان العالية للوازم الحياة وزاد من الغلاء متطلبات السلطة العسكرية فما كان من الحكومة الا انها اصدرت اوراق البنكنوت تفاديا للازمة. ونتيجة لاغرق السوق المصرية بكمية كبيرة من العملة هي رواتب ضباط وجنود الاحتلال والقوات البريطانية المحاربة، انخفضت القيمة الشرائية، وتضرر الناس من وقوف حركة الاشغال ومن غلاء مواد المعيشة وكثرت العرائض المقدمة من الاهالي للحكومة من الشكوى مما وصلوا اليه من بؤس وسوء حالة والتماس النظر اليهم.

وتبعا لذلك زادت الوفيات من 300.000 قبل الحرب الى 375.000 عام 1916 وفي 1918 وصل عددها الى 510.000 او اكثر من عدد المواليد في تلك السنة، هذا بالاضافة الى ضحايا الحرب والجرحى والمشوهين.

وقفت الحكومة ازاء هذا الغلاء موقف المتفرج في بادئ الامر فوعدت ان تنظر في امر اسعار الحاجيات، واكتفت بان نصحت بعض التجار وسالتهم ان يرأفوا بالاهالي، وبان يتقاضوا اسعارا عادلة، ولكن التجار لم يابهوا بكلام الحكومة لهم، وهنا رات ان تصدر امرا بتسعير المواد الغذائية ، ولكن ضرب بهذه التسعيرة عرض الحائط وعانى الفقراء الامرين، وحلت الفاقة بالناس "شنق شخص نفسه بحبل يدعى الشيخ احمد حسن من كفر علي اغا بطنطا لضيق ذات يده" .

وتعددت الحوادث وامتلات بها اعمدة الصحف لتصور الذل الذي عانى منه المصريون حتى لقد بلغ الامر ان احد الفقراء "اخذ من بنت من بناته الى بلد اخرى غير بلدته وغرض بيعها على رجل وساومه فيها فابتاعها منه بثمن بخس بدراهم معدودة".

وكثرت الجثث التي عثر عليها وتبين ان اصحابها قد ماتوا بسبب الجوع. وحتى المعونات التي قررت الحكومة ان تعطيها للبعض ما لبثت ان قطعتها، فعلى سبيل المثال "جعلت محافظة القاهرة للمدعوة فاطمة زهرة واولادها اعانة يومية فلم ينقض الى وقت قصير بمنحها اياها حتى قطعتها".

وراحت الشركات ذات المرافق العامة تضغط على الشعب، فقطعت شركة المياه عن الاهالي المياه. وطرد اصحاب المساكن منها فافترشوا الارصفة وقد كان للمهاجرين الى مصر سبب في استمرار الازمات التي عانى منها المجتمع المصري كما وقف المسئولون موقفا عمل على زيادة الحدة، فالمجلس البلدي بالإسكندرية وضع نصب عينه استنزاف الاهالي بتلك الضرائب التي فرضتها حتى ان بيرم التونسي قال:

قد اوقع القلب في الاشجان والكمد

هوى حبيب يسمى المجلس البلدي

ما شرد النوم من جفني القريح سوى

طيف الخيال ، خيال المجلس البلدي

اذا الرغيف أتى فالنصف آكله

النصف الثاني للمجلس البلدي

ذلك انه عقب قيام الحرب كثرت مشاريع المدير العام لبلدية الإسكندرية – وهو الانجليزي – حتى سميت غرفته (بمطبخ الضرائب) ومن هذا المطبخ ظهر في بداية عام 1915 ألعن ضريبة وابغضها للنفس على كل فرد وهي ضريبة الدخولية (المكوس) فانها ضريبة تحصل على قوت الانسان في وقت الشدة والعسر وهي لا معنى لها اخترعها المدير العام لسد نقص الميزانية – كما يدعي – واستطاع على الفور بقرار القومسيون التصديق عليها من وزارة المالية. هذا في الوقت الذي رفعت فيه مرتبات ومكافآت واعانات الاجانب العاملين في البلدية.

وترتب على ظاهرة الفقر التي عانى منها المجتمع عدة امراض اجتماعية اخرى تمثلت في كثرة الجرائم بانواعها من سرقة واختلاس وقتل وغش وربا وتزوير وتسول واحتيال وفوضى وفساد وهتك اعراض ودعارة وانتشار الامراض، وخضع المجتمع المصري لظروف جديدة طرات عليه خلقتها الظروف الاقتصادية، ثم كان لوجود تلك الاعداد الوفيرة من الجنود التابعين لانجلترا اثر في طبع سمة جديدة على المجتمع في هذه الفترة، فاخلت بذلك القيم الانسانية والاجتماعية والشاهد على ذلك ما ورد في اخبار تلك الفترة.

الجرائم

اما عن الجرائم فقد ازداد عددها فتقول المحروسة:

"توالت اخبار الجرائم في انحاء القطر لدرجة لم يعهد الناس لها مثيلا، فقد عددنا امس في احدى جرائد العاصمة اثنى عشر حادثة وقعت في الارياف والمدن متباينة النوع ما بين قتل وسطووجرح، واشتد الرعب في بعض القرى خصوصا في مديرية الشرقية ومدينة الزقازيق نفسها ، فقام الاهالي يضعون قضبان الحديد وراء ابوابهم غير مكتفين بالاقفال".
وكثر القتل وسفك الدماء والحوادث الجنائية وانتشرت سلطة الاشقياء وبناء على كثرة الجرائم انشئت دائرة بمحكمة الاستئناف لنظر تلك القضايا اثناء العطلة للفصل فيها على وجه السرعة، وتحقيقا لهذا الغرض اقترحت وزارة الحقانية تعديل المادة 123 من لائحة الاجراءات، ووافقت محكمة الاستئناف على هذا التعديل.

وعلى سبيل المثال كانت الجرائم التي ارتكبت في الثلاث سنوات الاخيرة من الحرب كما يلي:

السنة دقهلية اسيوط جرجا جنايات جنح عوارض جنايات جنح عوارض جنايات جنح عوارض 1916 61 253 135 66 412 102 70 110 228 1917 40 225 147 57 411 98 49 113 203 1918 61 146 147 57 448 78 54 310 136

وكثرت عصابات السرقة حتى بلغ الامر بالعصابات انهم كانوا يسرقون الحبوب من مخازنها فوق الاسطح ويسرقوا المصاغ والنقود وانضم اليهم بعض الخفراء. وقد وصل االمر ببعض العمال العاطلين البؤساء ان يقفوا موقف قطاع الطرق والمتشردين في اطراف مدينة الإسكندرية وبعض جهاتها

"فقد حدث امام شونة الخواجة طارجيش بقرية كفر عشري على شاطئ المحمودية ان اوقف بعض العمال العاطلين خادم الخواجة زونبوس البقال المعروف وحالوا نهب البضائع لولا ان صرخ مستغيثا وائته النجدة من بعض رجال الامن والاهالي، وفي نفس المكان فاجأ بعضهم عربجي "الخواجة جرجس عماد" تاجر الصابون الذي كان يحمل على مركبة بعض جوالات الصابون وحاولوا اخذها عنوة واقتدارا

لولا ان ادركهم بعض الاهالي الذين كانوا سائرين على الشاطئ الثاني من ترعة المحمودية وجاءوا لانقاذه على اثر صراخه واستغاثته وحدث ان قابل شخصان احد ابناء الاعيان بين الشاطبي ومحرم بك وقت الغروب وطلب منه احدهما ان يشعل له سيجارة ففعل وفي اثناء ذلك هجم عليه الثاني من الخلف واوثق يديه وتمكن الاخر من سلب ساعته وسلسلته الذهبية ومحفظة نقوده"

وارجع السبب في انتشار جرائم السرقات الى انه فيما قبل الحرب كان الناس "يجدون ابواب الرزق مفتوحة امامهم في عمليات المقاولين من ردم وهدم وبناء ولكن الان لا يجدون هذه السبل لوقوف حركة العمل بسبب الازمة التي اضطرت الناس الى تاجيل ما يرغبون عمله من هذا القبيل يبقى هذا العدد عاطلا عن العمل وهو اذا عاش في بلده كان عبئا ثقيلا على كاهلها لا يجعل شغله الوحيد الا السلب والنهب وتقليع المزروعات وارتكاب الجرائم ، واذا خرج من بلده وقصد العاصمة ليبحث عن عمل يحمله الفقر والضيق الى ارتكاب الجرائم فيتفق مع نفر من بني جلدته لتاليف عصابة خطف وسلب الخزائن والاموال".

ولما كثرت الجنايات في داخلية البلاد وتعددت حوادث السطو اضطرت وزارة الداخلية الى نشر بلاغ رسمي وامرت فيه المشايخ والعمد ان يقدموا الى ماموري المراكز تقارير وافية كاملة يذكرون فيها اسماء الرجال المشتبه فيهم في دائرة محيطهم وفي نفس الوقت يلاحظون عن قرب جميع التحركات لكن بعض السرقات كانت تجري وراء ستار العمد والمشايخ. وقد راجعت مديرية اسيوط اعماله، فاتضح لها تداخل بعضهم في السرقات بل واشتراك بعضهم مع العصابات، فحاكمت 28 عمدة ورفتت 38 عمدة.

ولعب النساء والاطفال بل والشيوخ دورا في السرقة لقلة ذات اليوم فتقول وادي النيل: "فيا ويحنا يوم نرى الشيوخ ينغمسون في الجرائم بايد عاشت عمرها نقية ثم ابى الدهر الا ان يلوث نقاءها بالاجرام في اخر أيامها ولا وسيلة للجائع الضعيف الا ان يخالس الناس ليسرق ويخاتل القوم لينهب".

وسرت عدوى السرقة الى الموظفين انفسهم لضيق ذات يدهم وللحالة التي وصلوا اليها فشدة الغلاء جعل بعض الموظفين ينقادون الى ذلك اذ ان الضيق ساقهم الى التماس الكسب بالطرق المحرمة وصرح بذلك المستشار القضائي في تقريره حيث قال: "ان حوادث الضيق الذي اصاب فريقا من الناس كان سببا في زيادة السرقات في القطر".

وتبع السرقات كثرة الاختلاسات وخاصة في مصالح الحكومة فقد اختلس احد الموظفين مبلغ 1500 جنيه واختلس اخر من مصلحة الري بالإسكندرية مبلغ 400 جنيه، ولم يقتصر الامر على اختلاس النقود وانما تعداه الى جميع ما كان تحت الايدي، فاختلس احد الموظفين بالسكة الحديد اربعين صفيحة بترول. وانتشرت موجة التزييف سواء في المصوغات او النقود، فاصبح من الذهب ما هو نحاسا مطليا بالذهب وزورت اوراق المائة جنيه وضبطت الات التزييف وحتى الماكولات فقد مسها الغش في جميع اصنافها.

وظهر مرض الربا الذي انتشر انتشارا واسعا في مصر اثناء هذه الفترة، فرضت الظروف الاقتصادية التي عانت منها مصر، وانتشر المرابون في القرى والدساكر والعواصم والبنادر، فكبلوا المزارعين بالديون ووصل الامر الى ضياع الممتلكات، فقد اراد تاجر ان يقترض 500 جنيه الى سنة فطلب منه 50%، واقترض صاحب محل 150 جنيه الى سنة بفائدة قدرها 45% وقد اصبحت قيمة الجنيه المصري في شرع المرابين 480 قرشاً.

وظهرت محلات اقتراض النقود "الرهونات" فجاة في انحاء مصر، فقامت باعمالها واقرضت المحتاجين نقودا زهيدة مقابل رهن بعض المصوغات او الاواني النحاسية او الملابس وغيرها بفائدة باهظة لان صاحب الحاجة اعمى "اما الفقرات والمحتاجون والذين عضهم الجوع بنابه فانهم يذهبون بالمتاع القليل الذي ابقت عليه يد الدهر فيرهنونه على دريهمات معدودة وربما كانت قيمة ذلك الشيئ المرهون توازي عشرة اضعاف وكثيرا ما كان يترك اصحاب الرهونات رهوناتهم لعجزهم عن السداد".

وطغى المرابون واخذوا يعملون كل ما يمكن ارتكابه من انواع القسوة مع مدينيهم الضعفاء المحتاجين لطرق ابواب الاقتراض لحاجتهم فارغموهم على شروط لا مبرر لها فالقانون المصري يعطي سعر للفوائد المشروعة 9% ولكن لم يطبق هذا، فقد مد المرابون يدهم للمحتاجين ولكن بضعف الارباح المشروع اذ كيف يتسنى لها ان تقرض بضعف الارباح القانونية في هذه الازمة الشديدة، وكانت تعرض باربعة امثال الفائدة المشروعة.

وكثر عدد المتسولين، فكان العامل المتعطل يحمل اطفاله ويصحب زوجته ويطوف في الشوارع يطلب الاحسان "وسري في المدينة طولا وعرضا من العباسية الى ضواحي القلعة نجد المتسولين وراءك وامامك وحولك، اذا دخلت حانوتا لا يفارقوك الا عند بابه ليستقبلوك ساعة خروجك منه".

اما عن الاحتيال، فمنذ بداية الحرب ظهر بعض المشعوذين يدعون معرفة علم الكيمياء، وانه بامكانهم تحويل النحاس الى ذهب، واخرون استغلوا البعض وهددوهم بانهم يعملون بالسياسة لعلمهم مدى عقوبة ذلك واستنفذوا اموالهم، كما ان البعض منهم اوهم الناس انهم رسل السلطة العسكرية واستحوذوا على ما لديهم ومنهم من كون عصابات احتيال لاخراج الشبان من الجندية".

واتسع مجال التدجيل والشعودذة وامتهان التنجيم والكذب والتجني على الاهالي، وسيطرت افة السكر واصبحت الشغال الكبير لكثير من طبقات المجتمع فتهددت الامة بالضعف وارجع ذلك الى وجود القوات العسكرية وتشجيعا لهذا الامر، انتشرت معامل الخمور في كل مكان.

وتبعا لانتشار السكر انتشرت المواد المخدرة، فقد تفشى الكوكايين بين بعض من المصريين حتى تسرب الى الفتيات والشابات واستعمل كباقي المكيفات وكان الصيادلة يبيعونه بدون تذكرة طبية طمعا في الربح، ودخل كثير من هؤلاء النساء الى المستشفيات يعانون من هذا المرض، ورغم ذلك فان التجار كانوا يوصلون لهم الكوكايين والمورافين بطرقهم الخاصة.

وكثر تناول الحشيش فهرب لداخل البلاد، ورغم يقظة رجال خفر السواحل فكانوا يضبطون كميات كبيرة من الحشيش ، ففي 19 ابريل 1915 قبض على نسافة حرب قديمة وعليها احد عشر رجلا وكانت مليئة بالحشيش وقبضوا على سفينة اخرى تحمل 16.000 كجم حشيش وعليها يونانيون اشتغلوا بهذا الصنف وضبط الكثير بميناء الإسكندرية يحاولون تهريب الحشيش. ورغم هذا فقد انتشر موزعو الحشيش وتعاطاه الناس بجميع انواعه وبمختلف طرقه اعتقادا انه ينسيهم همومهم.

وتبع ذلك انتشار القمار في مدن مصر كلها بحالة مريعة، واصبح في كل مقهى مجتمع للمقامرة يؤمه الافراد وكثيرا ما اصبح الموظف المؤتمن على مال او وكيل تاجر او مزارع يتصرف في غير ماله. وانكب الكثير على القمار لدرجة ان احدهم فقد في ليلة واحدة وفي جلسة واحدة بملعب قمار مبلغ 600 جنيه. ودخل القمار المنازل فكثرت السهرات للصباح على لعب الورق حتى الغلمان قامروا في الازقة والحارات. وعلية القوم وسراتها قامروا في النوادي والاماكن العامة، وسمحت وزارة الداخلية بتداول القمار وشارك الناس في الامر فرحن يقامرن في النوادي العامة.

وعمت حوادث هتك العرض والشذوذ الجنسي على جميع المستويات وامتلأت بها الصحف. فكان ذلك سببا في تصدع المجتمع ابان هذه الفترة.واصيب المجتمع بداء الرشوة فانتشرت في المصالح الحكومية وبين الافراد العاديين ولعب بعض رجال الشرطة دورا كبيرا في المساهمة فيها، اذ خلقت ظروف الحرب العوامل التي ساعدت على تفاقهما من ذلك قضايا مخالفة التسعيرة وغش المأكولات وتجاوز مواعيد سهر الحانات مهربوا المواد المخدرة وبيوت الدعارة. فرجال الشرطة كانوا يتغاضون عن ذلك كله مقابل الرشوة.

وسرت الرشوة بين العمد ومشايخ البلد بالنسبة لطلبات السلطة العسكرية اذ لم يكن عليهم رقيب في اختيار من يقدمونه للسلطة، فكان من يغدق عليهم الاموال يعفى من الخدمة ومصادرة محصولاته. ومن هنا كان حشد العمال والجمالة بل والحاصلات قد اعطى الفرصة بدون شك لانتشار المحسوبية والفساد والرشوة. فقد حكمت محكمة الجنايات – نظرا لارتشاء العمد – على عمدة بولاق الدكرور بالحبس سنة مع الشغل لانه ثبت انه اخذ رشوة.

والقت نيابة الزقازيق القبض على احد العمد لانه متهم بالرشوة وامتدي ايدي العمد الى النذر القليل ولو حتى من مرتبات الخفراء، وتستر العمد على اللصوص نظير الرشوة ايضا. وبديوان المعية صور للمظالم التي قدمها الاهالي يشكون فيها العمد لنهبهم الاهالي وحبسهم واخذ الرشاوي منهم، وكثيرا ما كانت الرشوة تؤخذ باسم الخفير لصالح المهندس وسجل المستشار القضائي في تقريره عن جرائم الرشوة "ان قلة ما يبلغ ولاة الامور منها لا يمكن ان يؤخذ دليلا قاطعا على قلة ما يقع منها".

وضبطت الرشوة في بيوت بعض الموظفين، وتعاطاها المحضرون لكيلا ينفذوا الاحكام الصادرة او ليؤخروها ومست الرشوة مامور ضبط القاهرة "فليبدس" الذي كان رئيسا للمكتب السياسي ومنه الحق الاذي بالمصريين اثناء الحرب. وتعددت القضايا التي اتهم فيها، وصدر الحكم عليه وعلى زوجته، واهتم الناس لهذه القضية اهتماما كبيرا، وقابلوا الحكم بارتياح لانهم كانوا شاعرين بفساد سيرة ذلك الرجل وقبح ادارته.

وتعددت المجالس التاديبية لمحاكمة المرتشين من المسئولين وخاصة رجال الامن، ومضت السخرية من هذا الوضع على لسان المصريين في كل مكان. وسيطرت القسوة ومورست وسائل التعذيب على يد القائمين بالامر من تجويع وضرب وسجن وقد ارسلت الشكاوى للمسئولين في الحكومة والمعية وهي تفيض بالظلم الواقع على الاهالي بسبب وبدون.

وعانى المجتمع المصري ابان هذه الفترة من الدعارة وتجارة الرقيق الابيض، وكانت هذه التجارة معروفة قبل الحرب. فمصر دائما ملجأ يفد اليها المهاجرون من كل مكان وبذلك فتح باب هذه التجارة على مصراعيه، ففي سنة 1908 كان عدد الفتيات والفتيان الذين عملوا في هذا المجال بالإسكندرية 759 ثم ارتفع هذا العدد الى 1293 سنة 1919 ثم الى 2263 سنة 1910.

وحينما اعلنت الحرب استقبلت الاف المهاجرين من اليهود والارمن فاشتغل عدد كبير منهم بالدعارة، وكانت الضائقة الاقتصادية التي عانت منها مصر سبب ان ترك الكثير بيوتهم وامتهن هذه المهنة خصوصا بعد وجود هذه الاعداد الوافرة من الجنود التابعين للامبراطورية البريطانية واغداقهم على هذه الوجوه.

"وانتشرت البيوت السرية في القاهرة والإسكندرية وحواضر المديريات وتعدى الفساد الى النيل فاذا بشاطئ النيل من جهة العاصمة والجزيرة رست عليها الذهبيات اعدت للفحش والتجارة بالاعراض، وكذلك كثرت في منطقة الازبكية وشارع وجه البركة بما وفد عليها من البغايا والمتهتكات فكثرت باراتها وبيوتها، ولم تخل طرقاتها من اسرابهم تغدو وتروح تشاغل المارة وتعاكس الجالسين".

وتفننت المتجرات بالعفات والاعراض في الوسائل التي تسترهن عن اعين الشرطة فلم يكن منهم الا ان استاجرن منازل وعلقن عليها لوحات كتب عليها بنسيون، وذلك ستار وضعته على ابواب الدور وكثرت هذه في القاهرة والإسكندرية، وخلقت ظروف مصر تغيرا في بعض اخلاق الفتيات لدرجة انه وصل لبعضهم "التزين بافخر الازياء وخروج الفتاة من بيتها حيث شاء لها الهوى تغازل من يعجبها فاذا ما كانت الاشارة او الابتسامة كان السلام فالكلام فالموعد فاللقاء".

وفي حقيقة الامر فان ظروف مصر في ذلك الوقت هي التي اجبرت البعض على الاقدام على ذلك بعد ان فتك الجوع بهن فقصدن الجمعيات الخيرية فاذا بها مغلقة الابواب موصدة المنافذ وحركة العمل عاطلة. اذن فليس امامهم الا هذا الطريق ولم يكن هذا برضاء منهم اذ ان حوادث الانتحار بينهم لدليل قوي على ان الكثيرات منهم طرقن هذا الباب مرغمات لاسباب قوية.

وبالرغم من وضع السلطة العراقيل امام جنود الامبراطورية لارتياد هذه الاماكن الا انهم عاثوا فيها فسادا سواء في الإسكندرية او القاهرة. وكان لذلك اثره اذ تفشت الامراض السرية وتعذر على الفقراتء علاجها لارتفاع اسعار الادوية. اما عن باقي الامراض فقد انتشرت وعانى منها المصريون ، ففي عام 1915 اجتاحت مصر الدفتريا على اثر انتشار الحمى التيفودية التي فتكت بالكثير. هذا بالاضافة الى انتشار العدوى من مرضى الجنود الانجليز. وانتقلت الكوليرا على ايدي الهنود، وارتفع عدد المصابون بالطاعون، وعانت الاحياء الوطنية من الجدري، وارتفع عدد المصابون بالحمى القرمزية، واصيب اغلبية المصريين بالامراض الرمدية، وعمت الملاريا وساد انتشارها.

وتبعا لذلك تكونت لجنة صحية للبحث عن اسباب انتشار الامراض. فاقرت رفع المستوى الصحي عن طريق انشاء وزارة الصحة، وانشاء مستشفيات بها اقسام متعددة لجميع انواع الامراض.

سلوك جنود الامبراطورية

اما عن سلوك جنود الامبراطورية البريطانية في مصر فاساء الى المجتمع وحطم معنوياته في هذه الفترة، وكان هذا السلوك من اهم ما احنق المصريون على الانجليز واعمالهم. ومما كان له الاثر الكبير في تفجير ثورة 1919 ، فقد نشرت احد المتطوعات – كانت تقوم بخدمة الجنود في الميادين وقد امضت بمصر من نوفمبر 19195 الى ابريل 1916 – في صحيفة Daily news ، في 2 ابريل 1919 تعرض فيه اسباب ثورة المصريين في مارس 1919

قالت: "ان الاضطرابات الحالية ملومة كل اللوم في ارسال جنود من جنود مستعمراتها الى مصر دون ان يبينوا لهم الطرق التي يجب ان يعاملوا بها الاهالي، فان الكثير من هؤلاء كان جاهلا جهلا فاضحا لدرجة انهم كانوا يتصورون ان مصر بلد انجليزي، وان المصريين قوم دخلاء ويعجبون كيف سمح لهؤلاء العبيد ان ياتوا الى هذه الديار. ولقد سمعت غير واحد م الاستراليين يقول: (لو كان الامر بيدي لما ابقيت على واحد من المصريين في هذه البلاد).

وعاملوا الاهالي بقسوة واحتقار، فلقد رايت في الكنتين الذي كنت اشتغل فيه خادما مصريا من خير الخدم انهال عليه جندي بالضرب بقدمه لشئ تافه وهو انه لم يفهم امرا اصدره اليه، وضرب احد الجنود رجلا متعلما مهذبا من المصريين وسلب منه عصاه الغالية الثمن بلا ادنى سبب، وصرح لي الكثير من الجالية البريطانية انه يجب ان تمر سنوات عدة لتستطيع محو الاثر السيئ لما اقترفه الجيش من الرذائل في هذه البلاد. وروى لي ان بعض الجنود السكارى نزعوا البراقع عن وجوه بعض النساء المسلمات، فلا غرو اذن اذا كان المصريون يخافوننا ويحقدون علينا".

ويقول محمد بهي الدين بركات في مذكراته:

"حضر جيش هندي الى مصر، ولقد سمعت ان فريقا منهم اغتال بائعة بلح، وانهم اغتصبوها من كل ناحية وتكاثروا عليها حتى ماتت، وقد رأها بعض الثقاة ميتة اما احدى خيامهم في هليوبوليس، ولقد رايت بعض هؤلاء الجنود في هليوبوليس وهم ياخذون بعض الحوذية قهرا ليحملوا لهم بضائعهم".

ومحاضر البوليس المصري في فترة الحرب، وهذه المحاضر تكاد تكون ممثلة بتهم موجهة ضد العساكر الانجليزية والاسترالية والنيوزيلاندية ضد الاهالي تدل على الفظائع التي ارتكبوها مع المصريين، وسوق نتناول بعض هذه الحوادث لعلها تبرهن كيف سيطر الجنود على الشعب المصري، وكيف ضغطوا على الفقراء، وكيف أثاروا المصريين بتصرفاتهم.

ففي 10 ديسمبر 1914 استطاع جنديان انجليز ان يستوليا على بضاعة من احد المتجولين بشارع وجه البركة ، ولم يدفعا ثمنها وفرا هاربين فما كان من هذا البائع الفقير الا ان ابلغ بوليس باب الحديد. كذلك كان هؤلاء الجنود يركبون العربات دون ان يدفعوا الثمن، فكير من محاضر البوليس مكتوبة من سائقي عربات يوضحون فيها انهم لم يقبضوا اجورهم واذا طالبوهم بها اعتدوا عليهم.

ومضوا يرتكبون الاشياء المشينة في احياء القاهرة، فقد حدث ان اتفق جماعة منهم على الدخول الى بيت من بيوت الدعارة بشارع وجه البركة اثناء النهار، ولم يلبث المارة والجالسون الى المشارب في ذلك الشارع الكثير الحركة ان راوا النساء يلقين من نوافذ اعلى طابق من ذلك البيت الى الشارع وبعد وقت قليل رأوا هؤلاء الجنود يصبون البترول على جدران الدار ثم يشعلون النار فيه

كل هذا والناس ينظرون هم ورجال الشرطة الى هذا النظر الذي يمثل القسوة والوحشية ولا يقربون على الدنو من هؤلاء النساء لاسعافهن او اطفاء ما اوقد هؤلاء الجنود من لهب، واخيرا حضر رجال المطافئ والحكمدار ورجال الاسعاف فقام كل منهم بما فرض عليه، "فقبض على نحو خمسين عسكريا سيحاكمون امام المجلس العسكري".

واتخذت السلطة الاحتياطات لعدم تكرار ذلك فعلقت لوحات على كثير من شوارع الدعارة تحرم فيه مرور الجنود البريطانيين من هذه الشوارع، وصدرت الاوامر للمقاهي – بالذات الموجودة في وجه البرة – بان تغلق في الساعة التاسعة منعا لحدوث اي مشاغبات، لكن هذا لم يمنع تفاقهم هذه المشاغبات وازدياد الاضطرابات ضد الاهالي.

فحدث ان احد الجنود يدعى جورج راسن، وبدون ادنى سبب تشاجر مع احد الاهالي ويدعى احمد حسن وسبب له اصابات بالغة في وجهه ولم يخلصه من تحت يده الا احد رجال الشرطة لكن قليلا ما كان البوليس يتدخل في هذه الاضطرابات، وتصف صحيفة المؤيد بعض هذه الاعمال وموقف البوليس منها فتقول:

"يختلف حوذي او مكاري مع احد الجنود حيث يطالب الاول باجرته ويشتد في الطلب كما يشتد مع كل راكب ويريد الثاني في ان لا يدفع، وتكاد تقوم قيامة الشارع من وراء هذا الخلاف، فيقف البوليس كما يقف احد المارين مكتوف الايدي، ويدخل جندي منزلا من منازل الضواحي فيستغيث السكان بالخفير لكن بدون جدوى لانه يتوارى ان كان حاضرا ويختفي كل الاختفاء ان كان متواريا، وهكذا تتعدد الحوادث وترتفع الشكوى كما يفسد الامن ويختل النظام ورجال البوليس يرون الشر كل الشر من وراء تعرض الجنود الانجليز للاهالي فيقفون على الحياد تماما".

وقد كانت صحيف المؤيد صاحبة صوت المعارضة والهجوم على تصرفات الجنود هذه، وكثيرا ما كانت توجه الخطابات لمكسويل تستنكر فيه هذه الافعال مطالبة بوضع حد لها.

ومن هذا نرى ان البوليس كثيرا ما يقف موقف المتفرج، فقد كان يعلم جيدا انه لو اقدم سوف تصدمه الاوامر بادانة من يتدخل، فاحتمال ان يصاب في معركة من هذه المعارك يفقد فيها شيئا ولا يعاقب مصابوه، حتى البوليس يخشى هؤلاء الجنود ويوميا تكثر المشاغبات بينهم وبين الحمارة والعربجية والباعة الطوافين وكمسارية الترام، وكثيرا بل وغالبا ما كان هؤلاء الجنود في حالة سكر تام تائهين يعربدون ويضربون ويصيحون في كل مكان، يدخلون البارات يشربون ويمذون ولا يدفعون بل يقومون بضرب وصابة صاحب الحانة اذا طالبهم بالمقابل.

وحدث في 27 أغسطس 1915 ان طلب جندي انجليزي من احد الاهالي المارين بشارع العباسية اعطاءه نقودا فلما رفض اذ لم يكن معه فعلا انهال عليه الاول ضربا واصابه اصابات بالغة. وفي 11 نوفمبر 1915 احدثت جماعة من العساكر الاستراليين - وهم سكارى – الشغب والاضطراب في شارع بولاق فكسروا الزجاج لبعض المحلات واصيب البعض من جراء ذلك، وطرق جنديان حديقة احد الاهالي كانت مملوءة بالفاكهة بالعباسية وعاثوا فيها واخذوا ما لذ وطاب لهم، وعندما طالبهم بالتعويض باي مبلغ ضربوه حتى افقدوه وعيه.

ودخل جنديان استراليان بارا بالازبكية للشرب ثم انقضا على الخزانة واستوليا على كل ما بها من نقود وهربوا فقبض على واحد منهم والثاني عثر عليه متخفيا في حديقة الازبكية. وهجم ثمان جنود استراليين سكارى على احد قهاوي الاهالي بالمطرية واداروا الضرب في الموجودين محطمين كل ما اوجدوه امامهم من محتوياتها. كما انقضوا على درب المللات وبعثروا محتويات حوانيته.

وبالإسكندرية دخل جماعة من الجنود على قهوة فرنسا وهجموا على الخزينة وسرقوا ما فيها من نقود، وامتدت اعمال العنف والشغب الى كل مكان، فعلى سبيل المثال ابلغ احد رجال البوليس في 15 يناير 1916 ان احد العساكر الانجليز اطلق عيارا ناريا بجبة السبتية، وكان هذا العسكري معينا على باب العنابر فترك النقطة وذهب ليبحث عن مشروب له فوجد المحال مغلقة وتصادف ان راى غنما كثيرا في الشارع فاطلق عليها النار، واطلق آخر عيار ناري على خمسة اشخاص من الاهالي ولسؤاله عن سبب اطلاق النار فرد ان هؤلاء الخمسة كانوا واقفين على الكوبري وواضعين ايديهم على درابزينه ولما كلفهم بالسير لم يمتثلوا ويظهر انهم لم يفهموه فاطلق عليهم النار.

وحدث ان تشاجر عسكري استرالي مع بائع فاكهة مصري في بار فاستولى الاسترالي على زجاجةويسكي وضرب بها البائع. وبلغ الامر ببعض الجنود انهم كانوا يعتدون على نساء المصريين وكانوا يذهبوا للعاهرات ولا يدفعون الثمن. وكثيرا ما كان رئيس الشرطة الانجليزي يكبح هجماتهم باطلاق النار.

وازاء حوادثهم هذه اصدر القائد العام للجيوش البريطانية في مثر قرارا بعزل كل جندي لا يحترم نفسه ولا يحافظ على كرامته وبدا تنفيذ هذا القرار. فتقول صحيفة العالم الاسلامي: "ان عساكر استراليا في مصر قد بارحوها فسر لذلك المصريون الذين كانوا قد سئموا كذلك تلك العساكر وملوا من سكرهم وتعدياتهم". وهكذا اصيب المجتمع المصري في هذه الفترة بتلك الافات، وعان من القسوة والشدة والظروف الصعبة ما هيا له جو الثورة عقب نهاية الحرب مباشرة.  

الفصل الرابع:التعليم والثقافة

جاهدت انجلترا لجعل الجهل سائدا في مصر حتى يسهل لها قيادة هذا الشعب الساذج. ومنذ البداية عملت على احلال اللغة الانجليزية محل اللغة العربية في المدارس المصرية وجعلتها لغة التدريس في المرحلتين الابتدائية والثانوية، ثم رات ان تجعل التعليم في المرحلتين بمصروفات لا يحتمل دفعها الا الموسرون القادرون وساعد ذلك على تكوين طبقتين متميزتين في النظام والميول والاتجاهات لا تكاد احداهما تؤمن بالاخرى او تقوم بالتفاهم الجدي معها. هذا الى جانب تشجيعها للمدارس الاجنبية على خلق طبقة تتسم بالارستقراطية في ثقافتها الاجنبية عن البلاد، وبذلك تحاول التفرقة بين ابناء الشعب وخلق الطبقية فيه.

ولقد اهمل الانجليز التعليم بمصر بحجة انه لم يات وقت ذلك بعد. وان هناك مجالا للاصلاحات في الري والقضاء وغير ذلك، وقال كرومر: "انه من الصعب ان نناقش طراز السجادة اذا كان المنزل المصنوعة فيه يحترق". كذلك صرح ان التعليم العالي ليس ضرورة بالبلاد وان الافضل انشاء كتاتيب تكفي لتعليم القراءة والكتابة، وان الغرض من المدارس هو تخريج موظفين كافيين للعمل في الوزارات والمصالح. ويكفي للدلالة على اتجاه سياسة الاحتلال الى عرقلة التعليم ان الانجليز عندما احتلوا مصر كانت نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة 8.5% وبعد خمسة واربعين عاما من احتلالهم وطبقا لاحصاء عام 1927 كانت نسبة المتعلمين 8.43% وهذا دليل واضح وقاطع على شدة حرض انجلترا على عرقة يقظة الامة.

كانت اولى مراحل التعليم في مصر، الكتاتيب تلك التي يتناول فيها الطفال المبادئ الاولى لتعليمهم وخير وصف على ما سجلته صحيفة الاكسبريس على صفحاتها تحت عنوان "قبور الاحياء" فتقول: "اذا مررت يوما في طريقك الى حي المرغني من حارة الصواري رايت جبا مظلما وبه اصوات كالنمل، انها غرفة ارضية بها نافذة ضيقة وصبية صغار جاليون بين هذه الجدران في الظلام حيث لا هواء ولا ضياء، يستنشقون رطوبة تنبعث من جوانب المكان وهي سم قتال يفتك بهم، انهم يتلقون الكتابة والقراءة على يد ذلك الشيخ المسمى الفقيه أو العريف اجسامهم نحيلة اذابها الفقر واضناها الاهمال، ووجوه شاحبة كساها الجوع صفرة كصفرة الموت وعيون حائرة تكاد لا ترى وخاصة في ذلك الظلام".

وفي هذه الكتاتيب كان التعليم ينحصر في مبادئ القراءة والكتابة تمهيدا لحفظ القرآن ومواد الدراسة تمثلت في الدين والتهذيب واللغة العربية والخط العربي والحساب. ولم يبذل الانجليز اي جهود جديدة لا في اصلاح المناهج ولا في حسن تطبيقها.

وهكذا استمر الحال حتى قامت الحرب العالمية الأولى، واحتاج الانجليز الى استرضاء المصريين حتى لا تقوم اي انتفاضة ضدهم اثناء هذه الفترة الحرجة. هذا في وقت هي في اشد الحاجة الى تعاون المصريين معهها. وكانت على يقين من ضيق الشعب بسياستها التعليمية، فهمت ببعض الاصلاحات في التعليم الشعبي في عامي 1916 – 1917 فحولت الكتاتيب الى مدارس اولية ذات اربع فرق، ولقبت الفقيه برئيس والعريف بمعلم، وحرمت على الرؤساء والمعلمين جباية النقود او غير ذلك من التلاميذ.

وفي مقابل ذلك رفعت مرتباتهم الى خمسة جنيهات للرئيس وثلاثة للمعلم، وكان الراتب في سنة 1908 جنيهين للفقيه وثلاثة للمعلم، وفي الوقت نفسه قررت على التلاميذ والتلميذات بتلك المدارس مصروفات تجبى لوزارة المالية مع منح المجانية لنسبة معسنة منهم ترتفع تدريجيا في الاحياء الفقيرة.

وعانت مناهج الدراسة بما يطابق الوضع الجديد فدرس الدين واللغة العربية وعلم الاخلاق، والخط والجغرافيا والتاريخ المصري والرسم والحساب المنزلي والتربية العلمية والتربية العملية وقانون الصحة والتدبير المنزلي من اشغال ابرة وطباخة وغسيل وكي وادارة المنزل. وحذت مجالس المديريات حذو وزارة المعارفة في تحويلها الكتاتيب الى مدار اولية. وزادت من عددها.

وفي عام 1916 بدأت الوزارة في انشاء مدارس مكملة للمدارس الاولية اطلقت عليها اسم (المدارس الاولية الراقية) كان اخص اغراضها ان تمهد لتلاميد المدارس الاولية (الكتاتيب) الذين يتحتم عليهم اتمام حياتهم الدراسية سبيلا لتعليمهم تعليما اوفى مما يتلقونه من الكتاتيب وان يكون هذا التعليم عمليا وملائما لاحوالهم الاجتماعية اكثر مما يحصلون عليه في المدارس الابتدائية.

ورات الوزارة ان التلاميذ الذين يتخرجون من المدارس الاولية للبنين ليس لديهم من الدراية بالحياة ما يمهد لهم طريق الكسب، فانشات بالقاهرة مدرسة اولية راقية للبنين مدة الدراسة بها اربع سنوات ووضعت لها منهجا ارقى من المدارس الاولة. فالتعليم فيها باللغة العربية وتدرس ايضا اللغات الثلاث والترجمة والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم والرسم. كذلك تضمن المنهج مبادئ بعض الفنون كاشغال التجارة والمعادن. وايضا اقتدت مجالس المديريات بالوزارة في ذلك. لكن لم تنجح تلك المدارس في الاقاليم نظرا لقلة الاقبال عليها فاعادتها المجالس الى ما كانت عليه.

كذلك انشئت في نفس العام اول مدرسة راقية للبنات، وكان الغرض منها تزويد خريجات المدارس الاولية الراغبات في الاستمرار في الدراسة بقسط كافي من العلوم والثقافة النسوية التي تزيد من كفائتهن في الحياة المنزلية. لذلك احتل التدبير المنزلي بجميع فروعه المقام الاول في خطة الدراسة وكانت مدة الدراسة بها ثلاث سنوات.

وعند تقرير عدد نسب التلامي الذين يقبلون مجانا بالمدارس الاولية الراقية جعلت المصروفات الدراسية ثلاثون جرشا في الشهر بدون طعام وستون قرشا بطعام. غير انه بعد تاسيس المدارس الاولية الراقية بعام ثبت ان هذه المصروفات ما زالت فوق مقدور التلاميذ الذين يرغبون في الالتحاق بها. ولهذا رفعت مذكرة من وزارة المعارف الى مجلس الوزراء بشان تخفيض المصروفات "لاجل توسيع نطاق التعليم، ونظرا لمراعاة غلاء المعيشة فذلك دعى لتخفيض المصروفات المدرسية للمدارس الراقية للبنين والبنات وجعلها خمسة عشر قرشا في الشهر بدون طعام وخمسة واربعون قرشا بالطعام"ز

ووضع عدلي يكن وزير المعارف في 21 مايو 1917 تقريرا وافيا عن توسيع نطاق التعليم الاولي للقضاء على الامية المنتشرة في البلاد، وكانت الوزارة قد شكلت لجنة في 30 مايو 1917 لدراسة احسن الطرق المؤدية الى تعميم التعليم الاولي بين طبقات الامة. وقد اجتمعت هذه اللجنة في اواهر يونيو 1917، واوصت باستعمال اللغة العربية. وفي اخر جلساتها اقرت المجانية في جميع البلاد بالنسبة للتعليم الاولي.

وخرج اطار مشروعها الى الوجود الذي طالب ان ينشا في كل مدينة وقرية في مدة لا تتجاوز عشرين سنة مدارس اولية يكون فيها نصيب البنين 80% والبنات 50% وان تقدم الوزارة اعانات لمسالة البناء والمرتبات. لكن تنفيذ المشروع لم يتم وربما كان الغرض من خروج شكل المشروع ارضاء المصريين في هذه الظروف الحرجة.

وصدق مجلس المعارف الاعلى في اواخر فبراير 1917 على ميزانية وزارة المعارف 1917/1918 واظهر الرغبة في اعداد مشروعات مفيدة استشارية فيها الوزارة لاصلاح التعليم وتكميله. وادرجت في مشروع ميزانيتها ما يلزم للاستمرار في توسيع نطاقه على حسب ما يناسب قلة مواردها وصعوبة الظروف ، فقررت ان توسع نطاق مدارس المعلمين للاسراع في اعداد المدرسين الذين تستدعيهم حاجة البلاد.

وانشئت في الإسكندرية في سنة 1916 مدرستان اوليتان احداهما للمعلمات والاخرى للمعلمين وادرجت في ميزانية 1917/1918 ما يلزم لانشاء فصلين جديدين بالاولى وفصل جديد بالثانية. وقررت ايضا ان تدخل في اثنى عشر مدرسة النظام المتبع منذ سنة 1915 في مدرستين فقط من مدارس البنات الاولية وهي ان تدفع الحكومة مرتبات المعلمين، وزادت الوزارة الاعانات المخصصة للمدارس الاولية الاهلية التابعة لتفتيشها من 3.000 جنيه الى 4.000 جنيه مكافاة لها وتشجيعا لاربابها.

وزيدت ميزانية المعارف 1917/1918 عن ميزانية السنة التي سبقتها بمقدار 42.550 جنيه وبعض هذه الزيادة يقابلها زيادة في الايراد ناشئة عن تقرير المصروفات الدراسية بمدرسة المعلمين السلطانية وزيادة مصروفات بعض مدارس اخرى عالية وثانوية متخصصة. وكثرة عدد الطلبة، وزادت المصروفات ايضا على نسبة زيادة عدد الطلبة وارتفاع اسعار الادوات المدرسية والمواد الغذائية.

اما بالنسبة للتعليم الابتدائي، فقد كان غرض انجلترا هو اعداد الفئة للوظائف الصغيرة العامة، ونجلزة هذا النوع من التعليم بعرض نشر الثقافة الانجليزية على حساب العربية وخصص لابناء الطبقة التي هي اكثر يسارا من طبقة تلاميذ الكتاب. وطريقة التعليم هي التلقين المجرد من اي صفة علمية او بقول علوبة: "كان الضرب من وسائل التاديب في المدرس فيخلع حذا التلميذ ويضرب بالعصا على قدميه ويعقد المدرسون اللغة العربية حتى اصبحت اصعب العلوم واثقلها على التلاميذ".

ولم تراع الوزارة باي حال من الاحوال مستوى التلاميذ فصعبت الامتحانات، فحدث ان اللجنة التي وضعت اسئلة الحساب لامتحان الشهادة الابتدائية لم تتبع برنامج الدراسة فخرجت في الاسئلة التي وضعتها عن الحد المعقول، فلما اطلع عليها رئيس اللجنة وكان فرنسيا اجلس الاساتذة امامها واملى عليهم الاسئلة وطلب اليهم الاجابة عنها فعجزوا عن الجواب عليها.

واخيرا رات الوزارة الغاء شهادة الدراسة الابتدائية والاستعاضة عنها بامتحان قبول في المدارس التي كانت تشترط وجوب الحصول على هذه الشهادة للدخول فيها.

وصرح عدلي يكن بان الغاء الشهادة الابتدائية امر ضروري اذ ان المقصود من هذه الشهادة لم يكن الا الحصول على موظفين للوظائف الصغرى فلما توفر عدد الذين بيدهم شهادة الدراسة الثانوية بقسميها الاول والثاني لم يعد من حاجة الى بقائها ما دام التعليم الاولي لا يعتبر الا مؤهلا لمواصلة الدراسة في الثانوي. هذا بالاضافة الى كثرة حاملي الابتدائية العاطلين وخوفها من اندماجهم في سلك السياسة، مما اضطرها الى تغيير نظام التعليم الابتدائي والغاء الابتدائية وادخال التعليم العملي في هذه المدارس.

ومنذ بداية العام الدراسي لعام 1916 رات وزارة المعارف ان تزيد اجر التعليم في مدارسها واقر مجلس الوزراء هذه الزيادة، والغيت جميع الاستثناءات لقبول اي تلميذ بالمجانية. وتوسعت الوزارة في التعليم الابتدائي فقررت زيادة اربع فصول في مدارس البنين الابتدائية بحيث اصبحت تقبل 6580 تلميذا بدلا من 6174 تلميذ. وفي اول يناير 1916 ارسلت وزارة الداخلية الى مجالس المديريات بصب الاهتمام على التعليم الاولي وجعل الدراسة الابتدائية واسطة لما فوقها.

اما عن المدارس الثانوية، فكانت تدرس بها نفس العلوم الابتائية ولكن بدرجة اقوى وارقى ما عدا الدين فيدرس مكانه الكيمياء والطبيعة وكانت العلوم تدرس بالانجليزية ما عدا اللغة العربية ولكن في منتصف عام 1915 قررت الوزارة ان تدرس العلوم بالعربية.

وكانت مدة الدراسة فيها خمس سنوات وامتحان البكالوريا يتناول مناهج الخمس سنوات والالمام بها امرا مرهقا، وهي تعد طبقة الموظفين في الحكومة على النمط الذي يريده السادة الانجليز. والمدرسون فيها اجانب من انجليز وفرنسيين وسويسريين. والتاريخ يدرس فيها بغير لغة البلاد، واهم جز فيه ينحصر في تاريخ البلاد الاجنبية وعظمة الدول الغربية وعظماء الرجال الغربيين ولم تغط تاريخ مصر او عظماء الاسلام الا نتفقا صغيرة.

وفي بداية الحرب لم يكن الاقبال على التعليم الثانوي كثيرا حيث ان المتخرجين من المتعلمين يقاسون من قلة العمل اولا ثم من ضعف المرتب ثانيا. ففي عام 1914 تخرج من احدى المدارس بالقاهرة سبعة واربعون طالبا لم تاخذ المعارف احدا منهم.

وكان لوزارة المعارفة حتى عام 1917 ست مدارس ثانوية للبنين منها ثلاث بالقاهرة واثنان بالإسكندرية وواحدة بطنطا يتلقى العلم فيها 2442 من الطلاب. ورات الوزارة منذ ذلك الحين ان هذا العدد من المدارس لا يكفي فشرعت في زيادته وانشات مدرسة كبيرة في اسيوط سنة 1918، كذلك قررت الوزارة ميزانية التعليم لعام 1918 فيما يختص بالتعليم الثانوي وعزمت عل انشاء مدرسة ثانوية بالزقازيق، وزدات الوزارة الاعانات المخصصة بالمدارس الثانوية من ستة الاف الى سبعة الاف. وكانت صعوبة الامتحانات فيها من اهم مميزاتها فكثيرا ما كانت نتيجة شهادة الكفاءة 18% واقل من ذلك في البكالوريا، وتتابع رسوب الطلبة سنة وسنتين في مثل هذه الظروف الصعبة والعسر المالي الشديد.

اما عن المدارس الصناعية، فكانت سياسة انجلترا من حيث مناهج هذه المدارس هي الا تدخل بها صناعات مختلفة بل كانت ترمي الى وجود صنعة واحدة او اثنتان من نوع واحد. وهدف انجلترا ان تعد بعض الصناع او الفنيين بحيث يزودوا بتعليم فني بسيط يؤهلهم لخدمة الاعمال اليدوية. وفي اخر ديسمبر 1915 بلغ عدد المدارس التي تديرها ادارة التعليم الفني والصناعي والتجاري اثنتين وثلاثين مدرسة تضم بين جدرانها 4381 تلميذا ووسع نطاق مناهج التعليم بمدرسة الهندسة ومدرسة الفنون والصنائع وبني ايضا ثلاث عشرة مدرسة صناعية.

وفي سنة 1917 كان هناك بمصر سبعة عشر ورشة ومدرسة صناعية ثلاثة بالقاهرة واثنتان بكل مديريات اسيوط وقنا والغربية وواحدة بالإسكندرية والسبع الباقية على سبع مديريات في كل مديرية واحدة.

وتوسعت مدرسة الهندسة سواء من حيث زيادة عدد التلاميذ الذين يمكن قبولهم فيها او من حيث اصلاح نظامها وتوسيع فهم التعليم بها وتخريج طلبة في فنون الهندسة الآلية أو الكهربائية أو المعمارية يكون في طاقتهم ان يشتغلوا باعمال خارج دوار الحكومة وذات اتصال بالمشروعات الصناعية. وضمت هذه المدرسة قسما للعمارة بجانب قسم الري والهندسة المدنية ثم استحدث في عام 1916 ثلاثة اقسام جدد واحد للهندسة الالية والاخر للهندسة البلدية والثالث للهندسة الكهربائية.

وفي حقيقة الامر فنه منذ بداية الحرب احتاجت السلطة العسكرية لمنتجات المدارس الصناعية وهنا راحت تعمل بجد وتبذل المجهودات ،وعلى سبيل المثال فقد ووفق على فتح اعتماد اضافي بمبلغ 800 جنيه لمصلحة التعليم الفني والصناعي والتجاري على ذمة ثمن الفحم بالورش الصناعية نظرا لعدم كفاية المال المقرر لهذا الغرض بالميزانية بسبب غلاء هذا الصنف وازدياد الاعمال التي عهد بها الى هذه الورش لحساب السلطة العسكرية.

ونشطت هذه المدارس، ويصف مراسل صحيفة الاكسبريس زيارته لمدرسة الصنائع في اسيوط فيقول: "تفقدت ورشة المدرسة فوجدت الطلبة منكبين فيها على تعلم الصناعة من برادة ونجارة وحدادة وسبك معادن. ونقش وورشة لصناع السجاد". وبلغ عدد المدارس الصناعية المتخصصة في تعليم صناعة الخشب ثلاث عشرة مدرسة تابلعة لمجالس المديريات وعدد تلاميذها ستمائة تلميذ في قسم التجارة فقط.

وازدهر التعليم الزراعي على يد مجلس المديريات، وانشئت المدارس التابعة له التي هدفت الى مكافحة الامية الزراعية ونشر الوعي بين الفلاحين. ودرست لجنة الزراعة والتجارة جميع الطرق المؤدية لرقي هذا التعليم، كما اهتمت وزارة الزراعة به ، وراحت الصحافة توالي نداءاتها من اجل ذلك.

اما التعليم التجاري فكان مهملا، فالاجانب في مصر مستأثرين بالعمال المالية والتجارية والشركات والمصارف والبيوتات المالية والتجارية الكبيرة كان لا يؤسسها ولا يديرها ولا يعمل بها سوى الاجانب، لذا كانت مدارس التجارة المتوسطة قليلة في مصر وعدد تلاميذها لم يتعدوا الالف. وقد رات لجنة التجارة والصناعة ادخال التعليم التجاري الاولي في المدارس الاولية، وبوشر هذا التعليم في مدرستين نهاريتين وثلاث مدارس ليلية.

اما بالنسبة للمدارس الاهلية فهي تنقسم الى قسمين الابتدائية والثانوية "وهذه المدارس هي ملاجئ بؤس لا نرى فيها غير اكواخ مظلمة في احياء غير صحية ولا تعثر داخلها غير بعض المقاعد الخشبية ومنضدة اكل عليها الدهر وشرب، ولا نلاحظ من نظامها شيئا من العناية الصحية. اما معلموها فانهم يتناولون مرتبات تتراوح بين جنيه وجنيهين ولذلك تجدهم على قدر مرتباتهم فهم ياخذون من اولئك التعساء الذين قضوا وقتا مفيدا بالأزهر او ببعض المدارس الاخرى ومن ذلك يتبين مقدار التعليم في المدارس الاهلية.

واصبحت هذه المدارس هدفا للحصول على طرق للمعيشة لاصحابها واقرب الى التجارة منها الى دور التعليم حتى ان القائمين بادارة شئونها لا يعرفون من المواد التي تدرس فيها غير اسمها فقط. والكتب المقررة على كل فرقة. ولما كان الغرض من فتح المدرسة هو التجارة فقط فانهم يقبلون في اي من سني الدراسة من يدفع مصروفاتها المقررة. واصبح متعذرا على افراد الطبقة الوسطى والعامة من الالتحاق بهذه المدارس اذ انها ضربت حولها نطاقا من النطاقات والقوانين فالمنتفع بها افراد قلائل من الطلبة ابناء الاعيان لا يزيدون عن 10% من الطلبة المصريين.

ويدخل تحت التعليم الاهلي مدارس الجمعية الخيرية القبطة وجمعية التوفيق ثم الجمعيات الخيرية الاسلامية والاوقاف. ومنذ بداية الحرب قطعت وزارة المعارف تلك الاعانات التي كانت تقررها للمدارس بسبب الاحوال المالة، وبناء على هذا اغلقت بعض المدارس ابوابها.

اما عن المدارس الاجنبية ، فتفوق الفرنسيون واسسوا مدارسهم في مصر على النظام الفرنسي "الجيزويت" والقلب المقدس، أم الإله، الراعي الصالح، الراهبات، كذلك اسست الارساليات المدارس الامريكية والانجليزية والالمانية واليونانية والروسية.

ويصف علوبة هذه المدارس فيقول:

"ان المدارس الاجنبية في مصر تعمد الى تغيير التلاميذ والتلميذات من اللغة العربية وترغيبهم في اللغة الاجنبية، حتى اصبح المصريون فيها اقوى في اللغة الاجنبية منهم في اللغة العربية.. ومما يوجب الحسرة ان المدارس الاجنبية تلزم المصريين ما يسمونه بالتاريخ المقدس وهو تاريخ الانبياء من سيدنا ابراهيم الى عيسى و لايذكر فيه النبي محمد ... والذين يتربون في هذه المدارس يضعف احساسهم القومي ويبعدهم عن دينهم .. ان هؤلاء برعوا في الرقص ولعب الميسر".

اما عن التعليم العالي – المدارس العليا – فهو يختلف عن التعليم في مراحله السابقة حيث ان الطلبة في هذه المدارس واقعون تحت نظم المواظبة والعقوبات بالطرد اياما او نهائيا.

وكان الغرض من انشائها اعداد الموظفين الحكوميين، وهذا يقتضي ان يتعلم الطلبة الطاعة والخضوع التام، وكانت تشمل مدرسة الهندسة، والطب، والحقوق،والمعلمين العليا، والزراعة العليا، والتجارة العليا. وعن مدرسة الهندسة فهي اقل هذه المدارس عيبا في نظاما وبرامجها ويرجع ذلك الى قدم عهدها، والطلاب يتمرنون في العطلة المدرسية. والخريجون تاخذهم الحكومة، وقد اتسع نطاق التعليم فيها، وتقرر ان يزاد عدد الطلبة الذين يرسلون الى اوربا.

وفيما يتعلق بمدرسة الطب فلها عيوب كثيرة وخريجوها لا يسعون للحكومة ولا يقبل الناس عليهم لعدم ثقة الناس بالمتخرج الجديد، ومدرسة الحقوق كان العاطلون فيها كثيرون وهي خارجة عن وزارة المعارف، والسلطة الانجليزية – وعلى حسب المبادئ الدنلوبية – تفرر الكتب التي تتلاءم مع اغراضها فكان كتاب قانون الامتيازات الاجنبية في مصر من اهم الكتب التي تدرس في مدرسة الحقوق.

وبخصوص مدرسة المعلمين فلم يهتم فيها الا بالتربية العملية، ومدرسة الزراعة خارج عن سلطة وزارة المعارف، وكانت هذه المدرسة قبل ذلك مدرسة خاصة يدخل اليها حاملوا الابتدائية وسهلت الحكومة شروط الالتحاق بها وادخلتها ضمن المدارس العليا، وقررت ان يكون اساتذتها انجليز.

وكان للحرب اثرها غير المقصود في اسناد بعض وظائف التدريس في المدارس العليا للمدرسين المصريين ودائما تطعن انجلترا في كفاءة المصريين. وتعمل على عدم تعيينهم في الوظائف الكبرى وفمنعوا من الاشتراك في التدريس في مدرسة الطب غير انه نتيجة للحرب وتغيب اساتذة مدرسة الطب الانجليز ابان الحرب اسند الى بعض المصريين عبء القيام بكثير من الاعمال، وبدئ في تعيين اساتذة منهم في القسم الاكلينيكي وقسم امراض النساء والتوليد.

وعقب اعلان الحرب بسنة الغيت المجانية من مدرسة المعلمين السلطانية، والزم كل تلميذ بدفع مبلغ خمسة عشر جنيها. ولكن عدلي يكن اصدر قرار في 29 يوليو 1916 خاص بانشاء محال مجانية بالمدارس العليا الاميرية. وزيد عدد الطلبة فيها. ايضا قرر مجلس الوزرارء في 22 أغسطس 1918 المجانية في مدرسة الحقوق السلطانية. وكان من نتائج الحرب كذلك ان زادت مصاعب الجامعة المصرية الاهلية المالية وما وافت عام 1917 حتى فكرت الحكومة في انشاء جامعة اميرية تدخل في دائرتها المدارس العاليا.

وقد وافق مجلس الوزراء على المشروع. وتم تشكيل لجنة لاعداد مشروع الجامعة الحكومية. وامام ذلك رات الجامعة الاهلية العمل على اصلاح نفسها، فانشات بعض الاقسام واعادت تدريس بعض المواد وتخفيض الرسوم المفروضة وتعميم المحاضرات العامة.

وامتازت فترة الحرب بنشأة ما اطلق عليه جامعة الشعب التي تأسست في مارس 1917 وفتحت ابوابها للجمهور وصادفت اقبالا ونجاحا دعا القائمين بالامر فيها الى تنظيم الموضوعات التي تلقى فيها المحاضرات، وهذه الجامعة تحتوي على قسمين قسم مصري عربي وقسم اجنبي فرنسي. وقام كلاهما بمهمته خير قيام، والقسم العربي تلقى فيه محاضرة في الاسبوع والغربي ثلاث محاضرات والمحاضرات تاريخية مصرية واجتماعية وادب عربي، وساعد هذا على تثقيف العامة وايجاد نهضة علمية.

اما بالنسبة لتعليم البنات فقد انشات الحكومة ومجالس المديريات والاهالي الكتاتيب والمدارس الابتدائية والثانوية في جميع انحاء مصر لتعليم البنات حتى بلغ عدد الطالبات حسب احصاء اواخر عام 1915 حوالي 80 الف طالبة.

وامكن لتعليم البنات ان يتغلب على التقاليد القديمة، كذلك قدر للمدارس الاجنبية ان تضم العدد الاكبر من البنات حيث ان الطبقة العليا في مصر كانت تلحق بناتها بها، وقاربت اعدادها اعداد البنين، ففي احصاء عام 1915 كان عدد التلاميذ 23.657 وعدد التلميذات يكاد يكون مساويا فهو 20.743 بينما في المدارس الوطنية وحسب نفس الاحصاء كان عدد التلاميذ 434.040 في حين ان عدد التلميذات لم يتجاوز 58.830.

وقامت الوزارة بمشروعين بالنسبة لتعليم البنات أولا: التوسيع في نطاق تعليمهن وذلك عن طريق تشجيع مدارس البنات الابتدائية التابعة لمجلس المديريات والجمعيات الخيرية وتحسين حالها بتفتيشها ومنحها الاعانات المالية، والمشروع الثاني وسيكون هذا المشروع اساسا لمشروع اخر لتعليم البنات تعليما ثانويا.

واهتمت الجمعيات الخيرية وخاصة جمعية التوفيق الخيرية المركزية بتعليم البنات، ففي تقريرها عن اعمالها عام 1915 دليل على التقدم في مشروعاتها العلمية. اذ اقامت قسما خاص بهذا التعليم في مدارس الجمعية. وتالف وفد مها وسعى لدى وزارة المعارف في عمل امتحانات للبنات المنتهيات وتسليمهن شهادات بعد ان ابطل امتحان شهادة الدراسة الابتدائية لما في ذلك من تشويق البنات على التعليم وترغيبهن في الدراسة والتحصيل.

كذلك ادارة جمعية العروة الوثقى اربع مدارس ابتدائية للبنات منها ثلاثة بالإسكندرية وواحدة بطنطا، وبلغ عدد التلميذات فيها الى 15 يناير 1917 = 345 تلميذة يتعلمن في 21 فصلا منهم 128 يتعلمن بالمجان والباقي بمصروفات.

وبدأت سيدات مصر في الاكتتاب لمشروع انشاء مدرسة الطب العالية للفتيات، وايقنت الوزارة ان مدارس البنات على انواعها في حاجة ماسة الى المعلمات، ومن هنا رات ضرورة البحث عن طريق للحصول على العدد المطلوب منن، ومدرسة البنات السنية في القاهرة هي التي يتخرج منها المعلمات للمدارس الابتدائية والراقية والمعلمات الاولية، لذا رات الوزارة ضرورة توسيع نطاق التعليم في هذه المدرسة.

وبناء على ذلك قررت الوزارة تخفيض المصروفات المدرسية السنوية بمدارس البنات الابتدائية وجعلها ستة جنيهات بدلا من اثنى عشر جنيها. وادرجت في ميزانيتها التوسع في انشاء مدرستين للمعلمات بالإسكندرية والقاهرة، فافتتحت مدرسة الإسكندرية بمحرم بك، وسار النظام فيها على نظام مدرسة السنية بالقاهرة.

وفي حقيقة الامر فانه بالنظر الى ميزانية وزارة المعارف اثناء فترة الحرب نجد انها ارتفعت اذ وصلت في عام 1918 الى 578.733 جنيها بينما كانت قبل احرب 73.178 جنيها، بالرغم من انقاص الوزارة من مصروفاتها تبعا لظروف الحرب اذ بلغ ما انقصته 60.000 جنيها بالعدول عن بعض المشروعات واكثار عدد الحصص وانقاص اجر العاملين والكتب وادوات التعليم.

لكن المسئولين تداركوا الامر بسرعة وارادوا ان يذروا رمادا في الاعين وان يبعدوا المصريين في مناواة السياسة الجديدة للدولة وان يظهروا لهم فوائد النظام السياسي الجديد الذي خضعت له البلاد فتعمدوا الاهتمام بالتعليم لعله ينهي المصريين عن الاشتغال بالامور الاخرى، ولكنهم لم ينجموا في ذلك فلم يلهي المصريين عن الاشتغال بالامور الاخرى، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك فلم يرض المصريون عن هذه الحركة التعليمية ومضوا يناوئون سياسة انجلترا. الصحافة

قامت الحرب العالمية الأولى، واعلنت انجلترا الاحكام العرفية على مصر. وغصت السجون بالوطنيين، وابطلت بعض الصحف بينما فرضت الرقابة على الاخرى. وكانت صحيفة الشعب وهي بديلة صحيفة العلم للحزب الوطني قد خضعت منذ البداية للرقابة الصارمة اذ كانت ذي شعبية بلغت ذروتها من حيث الانتشار والرواج والمكانة الصحفية، وكان المصريون يتلهفونها لادراكهم باتجاهاتها.

لذلك كثيرا ما تترد على ادارتها مندوبون من الداخلية ومآمير من الاقسام ورجال من الشرطة لتفتيشها حيث كان يصل الى الحكومة دائما اخبار وجود منشورات سرية في ادارتها. وبناء على ذلك اتفق كل من امين الرافعي رئيس تحريرها مع عبد الرحمن الرافعي وعبد الله طلعت على وجوب وقف صدورها احتجاجا على الرقابة الصحفية العنيفة.

شرعت ادارة المطبوعات تطلب الغاء الصحف والمجلات التي تتوجس خيفة منها، فابتدات باغلاق صحيفة الاجبشن تاخرختن الالمانية رسميا بحجة ان بعض الصحف اعتمدت عليها في نشر الاخبار. واظهرت ان هذه الاخبار بالطبع غير صادقة لانها في صف المانيا. وبدات تعدي الصحفيين الذين لمست فيهم الجراة ورات ان تغلق صحفهم ومجلاتهم فدعت سلامة موسى الى تعطيل المجلة التي كان يصدرها تحت اسم المستقبل، وهذه المجلة من ارقى مجلات العصر لما فيها من فكر ثقافي واع

فيقول بصدد ذلك:

"ففي ذات يوم وانا افكر في مشكلة الورق طلبتني ادارة المطبوعات فقصدت اليها غير عابئ بما يحدث، وكانت الاشاعات كثيرة بشان تعطيل الصحف والمجلات، وهناك قعدت امام احد الموظفين السوريين الذي حياني وطلب لي القهوة وجعل يلاطفني بكلمات عذبة، ويسالني عن المجلة وهي رائجة ام اني اخسر فيها، ثم بعث في طلب رجل انجليزي
وجاء هذا وقعد قبالتي يستمع دون ان يتكلم ثم شرح لي هذا الموظف حرج الموقف وضرورة وقف "اي تعطيل" بعض المجلات، ومع اني لم اكن ابالي بالتعطيل كما قلت فاني وجدت فتنه سيكولوجية في متابعة البحث والمناقشة خاصة امام هذا الانجليزي، فابديت اني قادر على اصدار المستقبل، مهما كانت الصعوبات
فتلاحظ الاثنان وانا مفتون بالموقف واصررت عل اني ساصدرها الى اخر الحرب واني سادعو فيها الى الاشتراكية وعاد الموظف السوري يخاطبني في ملاحظة مسرفة ويقول اني استاذ وعاقل واصررت انا على العناد، واخيرا صرح من غير ملاحظة بان ادارة المطبوعات تستطيع التعطيل وان المناوئين للحكم في الظروف الحاضرة الشاذة يمكن نفيهم او اعتقالهم، وكان هذا ما اردت ان اسمعه فنهضت وقلت اني ساعطل المجلة وخرجت".

وسلكت وزارة الداخلية منذ بداية الحرب، في خطة جديدة وهي الا تسمح باصدار صحف جديدة الا لمن تود ومتى تريد واصبح لها على الصحفيين بعد ذلك شروط وعهود، فحرمت التعرض للسياسة والكتابة في المسائل الدينية والتدخل في الشئون الادارية واباحت له فيما بعد ذلك الكتابة في التاريخ والفلسفة والعلوم والاداب والاصلاح والعمران والنقد والتقريظ والتربية والتعليم.

وامتلات الصحف بما يهواه الانجليز من الاشادة بانتصاراتهم، فلم يكن هناك اي خبر حربي صحيح انما زيف حتى تخرج الهزيمة التي كانت تقع بالحلفاء كانها انتصار رائع لهم ويقول سلامة موسى – كشاهد عيان – ازاء ذلك: "كنا نقرا الاخبار كما يحب الانجليز ان نفهمها ، لذلك كانت الرقابة صارمة شاملة فقد اشتركت في بعض المجلات الامريكية كي اصل عن طريقها الى الاخبار الصحيحة فكانت اما تمنع من الوصول واما تنقص اوراقها التي تحمل اخبارا غير ملائمة للانجليز".

هكذا فرضت الرقابة على الصحف، وضاعف من شدتها ان الرقيب لم يكن من صميم البلاد، بل كان هو الخصم الطبيعي، فكانت الرقابة تتبع مباشرة لسلطات القيادة البريدانية وهي سلطات لا يعنيها ان تتنفس صحف مصر او ان تختنق انفاسها، ان كل الذي يعنيها ان تكون الصحف مجرد نشرات لانباء الانتصارات الحقيقية او المزيفة للجيوش البريطانية او الجيوش الحليفة لها، ولم يكن الغرض من القيود المفروضة على الصحافة خلال الحرب مقتصرة على ان ان تجنب الصحف الخوض في مسائل الحرب او من شانه الاخلال بالامن العام بل الغرض اوسع واعم من ذلك بكثير حتى كان يتناول المسائل السياسية، فمن التعليمات مثلا ما ياتي: "لا يجوز نشر اي فصل او فقرة يراد بها الاشارة تصريحا او تلميحا الى عدم اعتراف بعض الدول بالحالة السياسية الحاضرة في القطر المصري".

وكانت السلطات البريطانية لا تعنى بان تظهر الصحافة المصرية بالمظهر اللائق باي صحافة في العالم. فهي دون سائر صحف الدول الحليفة تظهر ومساحات كبيرة من صفحاتها بيضاء بسبب المشاطبات التي يشطبها الرقيب ، وزاد من البياض المتخلف عن الحذف عقب اعلان الحماية البريطانية، والرقيب يقرأ مواد الصحيفة بعد الفراغ من اعدادها للطبع فلم يكن يسع الوقت للمحريين لاحلال مواد جديدة مكان ما حذفه الرقيب.

ويصف امين الرافعي الرقابة في فترة الحرب فيقول: " يكفي ان يرى الرقيب – ورايه الاعلى – في جملة ما يتوهم انه "يحايل الافكار" فتجد قلمه الاحمر او الازرق معدل يهدم بناء المقالة من اولها او في وسطها او في اخرها او فيها كلها. ولا يهمه بعد ذلك ان يستقيم معنى ما تركه بغير خوف او لا يستقيم".

هذا التصرف الرقابي خلق في الجو الصحفي لمصر نوعا من التواكل، فلم تظهر على الصحافة المصرية خلال فترة الحرب اية بادرة لمحاولة الرقي بالفن او بالاسلوب الصحفي او سد الرغ الذي كان ينشا عن شطب الرقيب. فضلا عن الاخبار الخارجية ذاتها كانت تاتي للصحف على صورة بلاغات رسمية صادرة عن القيادة البريطانية

ويبدو ان الصحفيين كانوا في فترة الحرب يعيشون في حيرة فلا هم يقدرون على امتداح السلطات البريطانية التي تعتبر سلطات معتدية على البلاد ولا هم يستطيعون مهاجمتها بسبب وطاة الاحكام العرفية. هذا بالاضافة الى انهم لم يكونوا في جو وطني تبدو فيه مظاهر السياسة الوطنية اذ كانت الاحكام العرفية البريطانية قد شردت كل الوطنيين وبالتالي تستطيع ان تقول ان الصحافة المصرية كانت يومئذ في محنة.

وكانت صحيفة الوقائع المصرية وهي الصحيفة الرسمية لمصر تكاد تكون انجليزية. فتنشر الاوامر والاعلانات العرفية علاوة على انها اصبحت ميدانا لنشر اعلانات السلطة العسكرية وطلباتها التي تنتهي بجملة معتادة هي "God Save The King".

اما صحيفة الاهرام فقد مورس فوقها الضغط الشديد والرقابة الصارمة، فكثيرا ما وجدت مسافات واسعة بيضاء بفعل الرقابة لكنها – بالرغم من ذلك – كثيرا ما كانت تنشر بعض الانباء على مسئوليتها ودون رغبة الرقيب، فاذا تبين لها ان الخبر يحتاج لتكذيب او تصحيح عادت فنشرت من نفسها تكذيب الخبر او تصحيحه.

ويؤكد لنا ذلك خطاب من ادارة المطبوعات الى احد المسئولين الانجليز جاء فيه: "بمجرد وصول خطابك المؤرخ في 24 الجاري اتصلت بمدير الاهرام لاحدثة بشان الخبر الذي نشر في هذه الجريدة في 27 الجاري ولقد لفت نظري "تقلا بك" ان الاهرام قامت بنفسها بتكذيب الخبر المذكور في رسالة نشرتها يوم 17 الجاري". كذلك خضعت التلغرافات الخصوصية التي كانت ترد للاهرام للمراقبة من ادارة المطبوعات وحتى التعليق عليها ايضا كان يعرض على المراقبة.

كانت الاهرام تحاول ان تعبر عما يدور باذهان الناس فتلقي قلم الرقيب بالمرصاد، وكثيرا ما نشات المشادة بينها، وتعددت الشكاوى من سلطة المراقبة وانذرت الاهرام وزاد الخلاف حدة حين تبين للمطبوعات ان الاهرام تنشر انباء يشطبها الرقيب كنشرها لبعض الانباء مما اثار ضجة في دوائر الرقابة التي اعدت ذلك اعتداء على سلطتها. وبالرغم من ذلك الا ان الاهرام عاودت نشر الممنوع كالخبر الذي نشرته في 2 مارس 1916 تحت عنوان "تلامذة مدرسة الحقوق والعفو عنهم"، اذ ارسل رئيس قلم المطبوعات الى الصحيفة ليستفسر عن السر في النشر فكان الجواب هو حصولها على ترخيص شفوي من رئيس الوزراء بذلك.

وكثيرا ما كانت الرقابة على المطبوعات تشكو من الاهرام لتاخير عرض البروفات عليها، اذ كانت تجبر الرقيب على انتظارها حتى الرابعة صباحا، وذلك بعكس المقطم التي كانت تقدم بروفاتها في العاشرة مساء وحتى قبل ذلك.

وازدادت المنازعات بين الرقيب والمحريين اذ كان الرقيب يتعرض لكل ابواب التحرير حتى الاعلانات، وقلما كان شر الرقباء ينال الصحف الاخرى كالمقطم اذ انها تصدر طبقا لما تريده السلطة العسكرية، فمن قبل الحرب وهي على سياسة التفاهم مع الانجليز، وحينما ظهرت تباشير الحرب الاولى جندت هذه الصحيفة لخدمة اغراض انجلترا وللدعاية لها، ومن قبل اعلان الحماية نشرتها في مقالاتها وشجعتها، فكتبت تحت عنوان (اهل مصر والتغيير المنتظر) تتنبا فيه بفرض الحماية الانجليزية على مصر واعتبارها نعمة عظيمة عليها.

وعندما اعلنت الحماية تجرات المقطم واذاعت هذا النبا تحت مانشيت كبير بعنوان (بشرى للامة المصرية) في ملحق يوزع في الشوارع والطرقات، ولو كان الشعب المصري في ذلك اليوم منظما او له قيادة لخرجت الالوف الى جريدة المقطم تحرقها وتنسفها.

اما صحيفة الجريدة وهي لسان حزب الامة، فقد اخذت في بداية الحرب تؤيد الحلفاء، وكان لطفي السيد يعيب على الالمان بقوة غزوهم بلجيكا واعتدائهم على حيادها، واعتقد ان مباحثات تجرى بين رشدي والانجليز للتصريح بانهم متى انتصروا في الحرب جلت انجلترا عن مصر واعترفت باستقلالها التام. وعندما بدات المقطم تروج لفكرة انه اذا خيرت مصر بين من يحكمها من الدول فانها تختار انجلترا ، اخذت الجريدة تكتب كتابة مخففة في هذا المعنى.

فقد كانت تذكر ان مصر تريد الاستقلال ، فاذا لم يكن السبيل اليه ميسورا، ولابد من ان تحكمها امة اخرى فانجلترا خير امة ترضاها مصر، ومع ان لطفي السيد لم يكن هو الذي يكتب حول هذا المعنى الا انه مسئول عن الصحيفة وعن كل ما ينشر فيها.

وبالنسبة لصحيفة الاهالي، فقد كانت قبل الحرب العالمية الأولى تنتهج الاعتدال مع الانجليز، ولكن هذه السياسة تعرضت بعد اربع سنين لخطرين الخطر الاول قيام الحرب العالمية الأولى التي كانت عاملا هاما من عوامل تكذيب فكرة الاعتدال مع الانجليز لما ارتكبته السلطات البريطانية من وسائل العنف والاكراه مع المصريين في سوقهم الى ميادين القتال دون مبرر، وفي اغتصاب المواد التموينية واخذها من افواه المصريين لحساب القوات البريطانية المحاربة.

اما الخطر الثاني الذي تعرضت له هو اندلاع ثورة 1919 وهنا ليس مجالا لشرحه. ومرت فترة الحرب على الاهالي في حالة ركود اذ لم يبق لها مورد تعيش منه غير التعاقد على نشر الاعلانات القضائية من المحكمة المختصة، وقد عانت الاهالي علاوة على نقص مواردها من نقص الورق حتى صدرت في ورقة واحدة سنة 1917 في ورق خشن وضارب الى السمرة في حجم نصفي، واضطرت في احوال اخرى الى الاحتجاب عن الظهور من اواخر أكتوبر حتى 20 نوفمبر 1918.

وعن صحيفة وادي النيل وصاحبها "محمد الكلزة" فيكفي انه خدم السلطة العسكرية في اثناء الحرب حتى خفت عليه ونال بعد ذلك وساما انجليزيا عالي الشان. وبخصوص صحيفة مصر ، فكثيرا ما عطلت لكونها في بعض الاحيان تنشر مقالا لم يطلع عليه القريب او مثلا لنشرها سطورا كان الرقيب قد حذفها.

وتعرضت صحيفة البصير التي كانت تصدر في الإسكندرية لتهديدات الرقابة وانذاراتها المتعددة على نشرها حوادث ليست على درجة من الاهمية مثلما فعلت عندما نشرت في 11 يناير 1918 عن شخص ارتدى الزي العسكري – وهو ليس من العسكريين – فاعتبرت الرقابة انها بذلك النشر خالفت نص المادة السادسة عشر من التعليمات المرسلة في 31 أكتوبر 1917 والقاضية بعرض جميع الاخبار المتعلقة بالمجالس الحربية او العسكرية على رئيس مراقبة المطبوعات قبل نشرها.

وفي عام 1916 اصدرت السلطة العسكرية البريطانية صحيفة الكواكب وذلك لخدمة مصالحها في مصر ولبيان فضل انجلترا عليها، وجعلتها سياسية ادبية اسبوعية وقد راس تحريرها الشيخ محمد القلقيلي.

اما الصحف الاجنبية في مصر وبالذات الانجليزية فكانت بطبيعة الحال تعمل لصالح انجلترا فنرى The Eyptian Gasette منذ بداية الحرب استنكرت فكرة حيادة مصر، وطالبت باعلان الحماية عليها وذلك بعد نشوب الحرب بيومين فقط، وذلك – كما تقول – حتى لا يتاثر موقف مصر اذا ما دخلت تركيا الحرب الى جانب الماينا. واتت على رشدي لنبذ فكرة لاحيادة لان دولة الاحتلال تحارب، كما طالبت بفرض الرقابة على الصحف والرسائل لحماية مصالح الحلفاء.

وعندما اعلنت الحماية على الفور ابانت انها استقبلت بالرضاء والهدوء وارتاحت كثيرا لعزل عباس ورجحت حسين عليه. وظلت الجازيت تردد طيلة الحرب ان انجلترا صديقة للاسلام والمانيا عدوته. وتحث المصريين على الولاء لها. ونفت ما تردد من ان ثورة وطنية وشيكة الوقوع في مصر، وتفرغت الجازيت شانها شان جميع الصحف الاجنبية والوطنية لانباء الحرب وميادين القتال ونشرت المقالات المتصلة في تمجيد الحلفاء والثناء على بسالتهم، وكانت شئون مصر السياسية لا تحتل من اعمدة الجازيت مكانا هاما بل كان يقتصر اهتمامها على الشئون المالية وانباء التجارة واسعار القطن والاوراق المالية.

وتاتي صحيفة The Egyptian Mail لترحب بالحماية حتى قبل اعلانها وتصف تصرف عزل عباس بالحكمة والعقل، وتؤيد صحيفة The Egyptian Morning News الحلفاء وتنادي بوجوب فرض الاحكام العرفية على مصر في حالة دخول الدولة العثمانية الحرب، كما طالبت بنفي الوطنيين الذين اسمتهم المهيجين الى تركيا، وهاجت صحيفة الشعب وباركت عزل عباس واعلان الحماية.

وسارت الصحف الفرنسية في نفس الطريق تؤيد وتحبذ وتبارك اعمال انجلترا في مصر، ورغم التاييد المطلق لتلك الصحف من السلطة الانجليزية الا انها خضعت للرقابة فكثيرا ما ترى بين صفحاتها اماكن بيضاء الغيت بفعل الرقيب.

من هذا نرى ان انجلترا استطاعت فرض سيطرتها واحكمها العرفية في هذه الفترة وكممت افواه الصحفيين وشلت اقلامهم وابقت ما تراه هي على هواها وما هو متفق مع مصالحها معتقدة ومقتنعة انها بذلك تقضي على اي حركة يمكن لها ان تثير الشعب المصري لكن ما لبثت ان وضعت الحرب اوزارها حتى تغير الوضع في مصر ودخل في مرحلة جديدة. الفكر

تعددت الاتجاهات الفكرية في هذه المرحلة الصعبة التي مرت بها مصر فانصبت الاتجاه الاول على النزع الاشتراكية التي سادت وسيطرت على عقول بعض المفكرين، وظهر ذلك بوضوح فيما كانت تنشره صحافة ذلك الحين من مقالات متفرقة ان دلت على شئ فانما تدل على ان موضوعات جديدة دخلت كمادة دسمة في احاديث الناس يناقشونها ويجدون فيها بصيصا من الامل في السمتقبل وربما يكون مرد ذلك كله الى الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرت بها مصر هذا من ناحية، وظهور بعض المفكرين الاشتراكيين من ناحية اخرى.

اما الظروف الاقتصادية فقد لمسناها فيما سبق. وعن الاشتراكيين فكانوا كثيرين منهم شبلي شميل ونقولا حداد واسماعيل مظهر وفرج انطون وولي الدين يكن وسلامة موسى، ونشر الاخير في عام 1913 اول مؤلف عن الاشتراكية، رد فيه على الاتهامات التي توجه الى هذا المذهب.

والكتاب في حجمه اقرب الى مقال مما جعل تاثيره محدودا في تيار الفكر الاشتراكي. وكان سلامة موسى مؤمنا بالعلم الحديث، وما يقتضيه من ضرورة تطوير الادب والحياة باسرها مستهدفا من وراء ذلك كله ان يقيم بناءا جديدا على انقاض البناء القديم، ولم يال جهدا في كل ما كتب ليقاوم الاسلوب القديم في التفكير والكتابة.

وفي اوائل 1915 صدر كتاب "تاريخ المذاهب الاشتراكية" لمؤلف ظل مغمورا فترة طويلة من الزمن هو مصطفى المنصوري، ولم تتح له ظروف الشهرة وذيوع الصيت ولا الانضمام الى حزب من الاحزاب ولا حتى الحزب الاشتراكي المصري الذي تكون عام 1932 لسبب بسيط جدا وهو انه كان يعمل بالوظائف الحكومية بينما زملاءه يشتغلون بالصحافة متحررين من كل قيد، فضلا عن ان الاشتغال بالصحافة يتيح للكاتب الفرصة كي يتعرف جمهور كبير من القراء لآرائه وافكاره، لذا فان احدا من المثقفين لم يدر بالمنصوري ولم يعرف عنه شيئا اللهم الا المهتمون بدراسة تطور الفكر الاشتراكي المصري، وفي كتابه احاط بالتيارات الاشتراكية والفكرية والتنظيمية التي عرفتها اوروبا.

وايمان المنصري بالاشتراكية كحل ضروري لعلاج المشكلات، والامراض الاجتماعية يبدو واضحا من حديثه عما فعلته الاشتراكية لاصلاح المجتمع، وقدم المنصوري برنامجا اشتراكيا، تضمن العديد من الاصلاحات السياسية والاجتماعية والقضائية ما اسماه بالاصلاحات الديمقراطية.

وبذلك كان المنصوري على دراية واحساس بالامراض التي تنهش المجتمع المصري وتنخر في عظامه كالسوس، وهذه المطالب في معظمها تمثل حلم مثقف مدرك للافكار الاشتراكية التي سبق لها ان تحققت في بيئات اخرى، وتعبر في نفس الوقت عن اماني وتطلعات انسان درس مختلف المذاهب الاشتراكية وتعرف على اتجاهاتها واعلامها. ومن هذا نرى ان المنصوري كمفكر اشتراكي ورائد تمكن رغم الظروف القاسية التي احاطت بها من ان ينشر اراءه تلك ويطبع من كتابه ثلاثة الاف نسخة، وانه نادى في عهد لم يالف هذا النداء بعد باراء كانت تعد الى ذلك الحين خيالية يوتوبية لا سبيل الى تحقيقها ابدا.

والى جانب هذه المحاولات المجتمعة نجد مقالات متفرقة في صحف ومجلات هذه الفترة تدور حول ذلك ، فتقول مجلة البيان: "ان غرض الاشتراكية الاكبر هو عدم حرمان العمال من المصادر الطبيعية للحياة ومن التعليم... ان النظام الحالي يقضي الى تقسيم المجتمع الى طبقتين اصحاب ملايين يقف في وجوههم جمهور من الفقراء المعدمين... الان يجب ان تضع الارض وراس المال تحت حماية المجتمع وبحوزته".

وقال حسين كامل الشيشني داعيا للاشتراكية

".. . ان التعاون يرمي الى اقتصاد كبير من النفقات وهو الوسيلة الممهدة للاشتراكية وهو يرمي الى تعميم امتلاك رؤوس الاموال من بين افرادها".

وفي الهلال كتب نقولا حداد تحت عنوان "الاشتراكية ما تطلبه وما لا تطلبه" مقالا شرح فيه مفهومية الاشتراكية وانها مبنية على سنة اجتماعية اقتصادية منصفة، وان الوسيلة المشروعة الوحيدة لانتاج الثروة هي العمل فقط.

وراحت الاآنسة مي تنادي هي الاخرى بالاشتراكية وتبين فضل الاخاء والمساواة وبان الاخاء الدواء الشافي لآلام البشرية والمحرر الوحيد للعالم يساوي بين غنيهم وفقيرهم وقويهم وضعيفهم.

وكانت هناك عناصر من ابناء الطبقة الغنية تشارك في هذه الافكار مدافعة عن فكرة الحرية والديمقراطية، فكتب هيكل في السفور تحت عنوان "الاشتراكية تخطو الى الامام" مقالا يبين فيه ان الاشتراكية تمحو اصول الظلم تريد الحق والعدل والحرية وتطالب الناس باكبر حظ من السعادة". وحذى حذوه منصور فهمي في السفور بتمجيد الاشتراكية والامل في ان تعم بين الامم جميعا حتى المقطم طالبت الا تكون مصر بمعزل عن الاشتراكية.

وان من يتتبع ما نشر في البيان، الفجر، السفور، وادي النيل، سيجد ان الاشتراكية كانت حلما جميلا يراود مخيلات الكتاب فعبروا عنه منفردين وفي اوقات متفاوتة ونادوا بضرورة الاخذ بالنظام الاشتراكي، وكثيرا ما كانت المقالات تنشر دون توقيع من صاحبها.

وبذلك قويت هذه النزعة ولقيت صداها في الفكر المصري في ذلك الوقت فكانت مادة دسمة يتحدث بها الناس في مجالسهم يجدون فيها بصيصا من الامل في المستقبل وطرب بها المصريون وتمنوا انتشارها. فهي رمز النضال والكفاح والتمرد على الظلم ورفض حياة الخضوع والاستسلام.

وقامت الصحف بحملة ضد الانجليز ، فقال الاهرام:

"اما البلاد فمع حالتها الحاضرة يوجد بها اغنياء كثيرون يملكون اطيانا وعقارات جمة ويستطيع كل منهم ان يتبرع بجانب عظيم من امواله الوافرة تنفق على الفقراء وهذا لا يتم الا بان تأمر الحكومة بتاليف لجنة لكل مركز قوامها العدة والاعيان والتجار والعلماء وتعين هذه اللجنة لجان فرعية تؤلف لهذا الغرض وتفرض هذه اللجنة على كل مقتدر يدفعها نقودا او غلالا لاعانة الفقراء".

وحدث فعلا هذا ولكن بصورة اخرى، فقد علم محمد سعيد بك مامور مركز ملوي ان جماعة من اهل بندر ملوي لجاوا الى تكوين عصابة من اشقياء المركز لضرب ضريبة على الاغنياء لان شقاء الحياة والضائقة المالية اثرت عليهم تاثيرا شديدا، وجرى هذا بناء على تشبع الراي العام، وامتلات الصحف في تلك الفترة بالشعر والازجال التي تفيض بالمبادئ الاشتراكية بل وبالثورة على الوضع الاجتماعي والهجوم على الاغنياء

وتاصلت هذه النزعة لدى اغلبية الشعب المصري في هذه الفترة، فبعد ان اصبح العمال في الطرقات عاطلين تعددت الحوادث نظرا لضيق هذه الطبقة بهذا الوضع وتطلعها للنظام الاشتراكي: "بينما كان احد الموظفين لادارة سكة حديد القباري يمر بين شون الاقطان القريبة من ترعة المحمودية قاصدا كوم الشقافة بين الغروب والعشاء فاجاه احدهم وطلب منه ربع ريال فلما رفض ان يجيبه الى طلبه قال له: "كيف انك تحمل هذه الساعة الذهبية الثمينة وهذه السلسلة القيمة، وهذا الخاتم الغالي ونحن واولادنا نعاني الام الجوع ومر الفقر؟".

وقد وصل الامر الى انه حدث ان

"جماعة من طلاب المدارس في القاهرة اشتغلوا بنشر مطبوعات تحتوي على انتقادات جارحة على بعض اخوانهم من ذوي اليسار والجاه واوعزوا الى ماسح احذية بتوزيع هذه المنشورات امام مدرسة درب الجماميز وراح البوليس يقبض عليهم".

من هذا نرى ان التيارات الجديدة التي تعرض لها المجتمع المصري قد خلقت ايديولوجية معينة لم تسيطر فقط على المثقفين بل اصبحت نبراسا يهتدي به معظم المصريين.

وكان الاتجاه الثاني التحرر الفكري من القيود التي كانت مفروضة على المجتمع فيما يختص بالمراة حيث انه نتيجة لاعلان الحماية البريطانية على مصر والغاء السيادة العثمانية حدث تغيير جوهري هو تحرير القضاء الشرعي من التقيد بالمذهب الحنفي الذي كان معمولا به وفقا للتبعية العثمانية، فاصبح ماخوذا من المذاهب الاربعة وهي نفس الفكرة التي سعى اليها محمد عبده وكانت الدولة العثمانية عقبة امام التنفيذ

وبذلك انفصلت المحاكم الشرعية عن محاكم الاستانة وعين سلطان مصر قاضي مصر الاكبر وتالفت لجنة من علماء الأزهر ومدرسي مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة الحقوق برئاسة وزير الحقانية لوضع قانون الاحوال الشخصية لاحكام الزواج تستمد مواده من فقه المذاهب الاربعة، ونتيجة لذلك اصبح وضع المراة احسن حالا من ذي قبلن فاتسعت حقوقها، واصبح لها الكيان الذي اعطاه الاسلام لها.

وشغلت قضية السفور والحجاب مفكري هذه الفترة واحدثت صراعات عنيفا، فاصبح هناك فريقان من ايد الحجاب وانتصر له وعزا ما انتشر من فساد الى السفور، واخر دافع عن السفور وضرورة تحرير المراة، فكانت معارك قلمية عنيفة استمرت طوال الحرب وانضم لكل حزب انصاره، وظهرت صحيفة السفور وانحصرت في مجال الانتصار لحرية المراة والمناداة بوجوب سفورها، وعلى نفس الدرب سارت بعض الصحف الاخرى وخاصة تلك التي انصبت على الاهتمام بالمراة وخرجت منها الصيحات "ايها النساء اخلعن الحجاب وضعن مكانه الفضيلة" ومضى الشعراء ينادون بالسفور، فيقول طه السباعي عن الحجاب:

ان كان حسنا ترغبون حصانة فالعلم والاخلاق افضل برقع

او كان قبحا فاتركوه وشانه فالشوك ليس بحاجة لموشع

وكانت الكاتبة الآنسة مي على راس المنادين بتحرير المرأة ، ففي حديث لها مع موسى سلامة تقول: "يجب ان ترى المرأة المصرية على أن تفكر واننا نريد جمعيات تجتمع فيها النساء للمناقشة، وبذلك يضطرون الى التفكير بوعي وادراك". وانبرى الكثير في تجنيد المقالات واقامة الحجج والبينات على وجوب حرية المراة وبضرورة اختلاطها بالرجل في المجتمعات والغاء انتقالها من رق اهلها الى رق زوجها بدون حرية.

تبع ذلك المطالبة بالعدل والمساواة في الحقوق والواجبات بالنسبة للرجل والمرأة ، وماجت البلاد بتلك الحركة النسوية، فنرى اسماء منصور تتحمس الى تلك القضية وتخطب في الجمعيات العامة وتطالب بذلك وتنتقد سلطة الرجل المسيطرة المتحكمة بل وتدعو المرأة للخروج الى ميدان العمل. وارتفت صيحة وجوب تعليم المرأة ونبذ القديم من العادات والتقاليد حتى المسئولين نادوا بوجوب تعليم البنات وتولت لواء الزعامة في هذه المسالة لبيبة هاشم صاحبة مجلة فتاة الشرق.

وانتشرت الجمعيات النسائية وشاركت فيها المراة بكل طاقتها وقد ارجع ذلك الى مجهود الدعوة الصحفية والكتاب الذين نادوا بتأسيسها . وشاركت حرم اسماعيل بك عاصم في هذا الامر اذ اجتمعت اعدادا من النساء المصريات في منزلها والفن جمعية ادبية غايتها السعي الى ترقية المرأة والاهتمام بمستقبلها لتساوي المرأة الغربية في المدنية والارتقاء. وتبع ذلك عدد ليس بالقليل من الجمعيات وتعددت جلساتها، وكثر عدد العضوات فيها.

وكانت النتيجة ان خلع معظم النساء الحجاب وخرجت بالملابس الملونة وذهبن الى المجتمعات وشاركن في الاحاديث واصبح يسمع لرأيهن وكان ذلك اولى الخطوات التي مهدت للمرأة ان تلعب دورا بارزا في ثورة 1919. والفضل يرجع الى التحرر الفكري الذي انتشر في مصر ابان ذلك الوقت، لكن ذلك لم يمنع تمسك البعض بتفكيره الذي انصب على التمسك بالقديم.

المسرح

شهدت فترة الحرب العالمية الأولى في مصر نهضة كبيرة في المسرح المصري خلقتها تلك الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عانى منها المجتمع اذ كان لابد من وجود ما يخفف من الام الناس ويرفه ويعزيهم في وضعهم وليعبر عن كبتهم وضيقهم وتبرمهم من تلك الاوضاع التي عاشوها فوقع عبء ذلك على المسرح الذي لعب دورا مهما في هذه الفترة الحرجة من تاريخ مصر. فوجدت نهضة مسرحية جديدة على يد افراد يعدون من اعمدة المسرح الحديث.

واصبحت القاهرة في حركة دائمة اذ تقول الاكسبريس : "فاذا قضى الانسان يومه مشغولا بعمله ففي الليل يقضيه مع عدد كبير في المسارح التمثيلية والموسيقية ويمكن له ان يتنقل من مسرح بريطانيا الى الكورسال الى كازينو دي باري الى الاوبرا السلطانية، ومن نادي الالعاب الرياضية الى نادي الموسيقى الشرقية الى نادي الفنون الجميلة، ومن جوق عكاشة الى جورج ابيض الى عبد الرحمن رشدي الى جوق الريحاني الهزلية الى منيرة المهدية الى توحيدة المطربة".

وفي عام 1914 اتفق كل من جورج ابيض والشيخ سلامة حجازي على تاليف جوق "ابيض وحجازي" فمثل رواية "صلاح الدين الأيوبي" ، "عايدة"، لكن ما لبث جورج ابيض ان كون لنفسه فرقة خاصة في عام 1916 مثلت الادب الغربي مثل "روي بلاس" لهوجو وترجمها نقولا رزق ومسرحية قيصر وكليوباترة لبرنارد شو التي ترجمها ابراهيم رمزي.

وازداد الاقبال على المسارح بشكل لم يكن مالوفا قبل الحرب "ان المسارح في كل ليلة تذاكرها مستوفاة من قبل الميعاد اذ ان الاقبال عظيم جدا عليها في هذه الايام، وهذه الحال لم يالفها صاحبها قبل الحرب، ان هذه المسارح في مصر تبيع اوراق دخولها للطالبين قبل الموعد باربع وعشرين ساعة".

وفي اثناء الحرب فكر جماعة من الماليين في انشاء شركة ترقية التمثيل العربي لتقوم بتمثيل روايات من جميع الانواع غنائية وغير غنائية على ان تكون كل رواياتها مولفة ولها صبغة مصرية او شرقية. وكان من انجح التمثيليات التي قدمتها رواية "الراهب المتنكر" عرضت على مسرح الاوبرا ثلاث مرات في موسم 1916 وكتبها امين الخولي وكان وقتذاك طالبا بمدرسة القضاء الشرعي.

وانتعشت حركة التمثيل في مصر لدرجة لم تعهدها في اي وقت من الاوقات. وفي عام 1917 بلغت الجوقات مبلغا راقيا من الحركة الادبية والمادية ولاسيما الجوقات الجدية منها، اذ كانت الجوقات الهزلية محرزة من النجاح بينما الجوقات الجدية نائمة حتى ذلك العام ثم ما لبثت ان ظهرت في الافق مثبته قدرتها وعظمتها.

ودخل المثقفون ميدان المسرح، فمن بينهم كان المحامي والمهندس والاديب، فعلى سبيل المثال كان عبد الرحمن رشدي محاميا قبل اشتغاله بالتمثيل مع فرقة جورج ابيض وما لبث ان كون فرقة عام 1917 قدمت مسرحيات معربة وعربية. وميز فرقته ان اعضاءها كانوا من الشباب المتعلم ومن ابناء الاسر الكريمة، وكان محمد بك تيمور يكتب له رواياته الرائعة، فقدم رواية "العصفور في قفص" باكورة انتاجه، فقامت بتمثيلها الفرقة في اول مارس 1918.

وسرى حب الروايات غير العربية، وكان من اشهر الروايات التي قدمت كارمن للكاتب الفرنسي راسين بعد ان قام فرح انطون الكاتب الروائي بتعريبها، وهي من نوع الاوبريت ولحنها كامل الخلعي. وتولت منيرة المهدية وجوقها غنائها وتمثيلها.

وكان جورج ابيض زعيما للمسرح الدرامي، فلم يكن احد يجرؤ على محاكاته او عن اي محاولة لتقليده وقد تربع على هذا المسرح طوال فترة الحرب وما بعدها، وتهافت الناس على رواياته فكانت بنواراته مقاعده دائما مشغولة وبالحجز.

وارتقى التمثيل المسرحي على يد عكاشة وجوقه اذ اخذ على عاتقه تمثيل الروايات العربية كرواية "طارق بن زياد"، واستطاع سلامة حجازي ان يسهم بدوره في هذه الفترة فيصبح عميد التمثيل العربي، ولو ان وافته المنية اثناء الحرب الا انه ترك تراثا عظيما من بعده، وتمكن سيد درويش الذي عمل بفرقة جورج ابيض والريحاني وعلي الكسار ومنيرة المهدية وعكاشة، أن يكون لنفسه فرقة خاصة فهو فنان ملحن قبل ان يكون مغنيا حسن الصوت، فصاغ أدواره في قوالب ذات حبكة فنية. بذلك تعددت الفرق المشتغلة بالغناء المسرحي وبلغ نشاطها ذروته في سنوات لاحرب، وقامت بينها منافسة شديدة بكل ما تحله هذه الكلمة من معنى.

اما المسرح الفكاهي، فكان في طليعته نجيب الريحاني، الذي بدا عمله في عام 1916 – وكان موظفا في شركة السكر – براس مال قدره خمسة وعشرون جنيها فلم يكن لديه فرقة ولا روايات يمثلها ولكنه مع ذلك اخذ يمثل على مسرح الشانزلزيه بالفجالة، ثم كون فرقة على مسرح الاجبسيانة واصبح ملك الفكاهة وخلقتها شخصيته المستقلة البعيدة عن التقليد والغير معروفة قبل ذلك والتي تهافت الناس علهيا وكانت تحمل بين طياتها النقد اللاذع

وابتكر شخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص ونجح في رواياته الفرانكو أراب ثم تعرف على بديع خيري اخذا في تاليف الروايات، وكثر محبيه حتى انه اصبح من المستحيل وجود اي مكان خال في مسرحه، فهو غاص بالمشاهدين من كل طبقات الامة. وكون مصطفى امين فرقة افتتح بها كزينو دي باريس وضم اليها علي الكسار "البربري الابيض" الذي كان يضحك الجماد.

ولمع فن التمثيل الفودفيلي على يد عزيز عيد اذ كان له فضل استنباطه وقام بتمثيل عدة روايات نقلت اكثرها عن الفرنسية اشهرها "خلي بالك من أميلي"، "ياستي ما تمشيش عريانة"، "العمدة في باريس"، "مقدرش أقول"، ودل ظاهرها على الفكاهة وباطنها على نواحي اخلاقية. كما حدث ان نسب الممثلون في هذا الفن الى حكومة التقصير في اعمالها في ترانيم مضى الشعب ينشدها كقولهم "ياحكومة انت الملومة" وبذلك استطاعو ان ينفثون في روح الشعب احتقار الحكومة بمثل هذه الالفاظ ويمهدون للناس طريق الاستهانة بها. ومن هنا يتبين ان التمثيل نقد المجتمع فعرض الضار والفاسد والضغط والكبت واظهر ذلك على مرأى ومسمع من الجميع.

ومضت الفرق الفنية تتنافس فيما بينها، فعاد هذا على الفن بمزيد من النشاط والثروة والتقدم، وفي حقيقة الامر فانه منذ عام 1915 حاول البعض السعي المتواصل في التاليف بين الاجواق المشتغلة بالتمثيل، ولم تمض سنة 1917 حتى ظهرت دعوة قوية لتآلفها، وقد سمي هذا المشروع باسم "نقابة التمثيل العربي" للعمل على اعلاء شانهم وفنهم.

وكان لوجود القاعدة الحربية للحلفاء في الإسكندرية عاملا مهما لنهضة المسرح والاغاني في مدينة الإسكندرية، فوفد اليها جميع ارباب المغاني والاجواق، وانتشروا فيها "ومنهم داود حسني وشفيق وزكي مراد وجميل عزت وجوق سلامة حجازي ومنيرة المهدية وعكاشة".

واصبحت المراة من رواد المسرح، تقول الاكسبريس:

"رأيت فتيات وسيدات وطنيات يفضن بمسرح الكورسال وقد شغلن قسما كبيرا منه غير متحجبات يرتدين احسن زي ويبدين في ابهى منظر، وعلمت ان المراة المصرية تسبق الرجل الى المسرح".

وتشجيعا للمسرح والعمل على الرقي به اصدر الاديب محمد حسن مجلة شهرية اسمها "الادب والتمثيل"، وولعت القلوب بالتمثيل حتى الطلبة راحوا يمثلون الروايات الادبية التي كانوا درسوا هذا الفن في عدة كليات. اذ انهم امنوا بما حواه من المعاني والحكم والمواعظ وما تضمنه من اخلاق وعادات، هذا بالاضافة الى انه صورة منعكسة للمجتمع.

اما دور السلطة ازاء الفن، تلك التي استطاعت ان تكمم الافواه طوال فترة الحرب، وتقضي على كل معارضة ضد تصرفاتها تبين مما سبق انها لم تتمكن من ان تقضي على هذا المنفذ الجديد الذي طرا على المجتمع في ذلك الوقت. كانت تعلم مدى تاثير فن المسرح على الشعب ومدى اهتمامه به.. فلم تستطع ايقافه لخوفها من تذمر الاهالي، وكمثل الصحافة والبريد اخضعته بالتالي للرقابة فانصبت على الممثلين ورواياتهم والمطربين واغانيهم، فاستدعى سلامة حجازي للتحقيق لبيت في رواية قدمها عقب عزل عباس وتولية حسين اذ قال:

عم يخون وأم لا وفاء لها أم ولكن بلا قلب ولا كبد

ويقول محمد بهي الدين بركات انه عندما غنى الشيخ سلامة حجازي رواية شهداء الغرام:

زمن يعلمنا الفجور ملوكه فيه وآثام الخنا ملكاته

قامت ضجة عنيفة وهدد الشيخ في حريته واغلاق مسرحه وارغم على التعديل فصار:

زمن يعلمنا الفجور شيوخه فيه وآثام الخنا ساساته

ويذكر جورج طنوس الذي كان يعمل بالتمثيل مع سلامة حجازي هذه الواقعة: "في مساء الاحد 30 سبتمبر 1917 مثل في تياترو برنتانيا رواية شهداء الغرام ومثل اذ ذاك تمثيلا شيقا اعجب به كل الشاهدين، حتى جعل الكل يقفون هاتفين: "ليحيى الشيخ ." وفي صباح اليوم التالي قصدت واياه دار الحماية لامور تخص الجوق".

وعندما قدم علي الكسار وامين صدقي رواية "ليلة 14" لاجازتها تدخلت الرقابة، وجعلت اسم الرواية "القضية 14". كما رات السلطة العسكرية اغلاق قهوة "نزهة النفوس" التي كانت تشدو فيها منيرة المهدية.. وذلك بسبب تصرفات الجنود الاستراليين وخروجهم عن الحدود اللائقة.

ورغم ذلك فقد استطاع المسرح ان يؤدي دورا هاما وان يهيئ الاذهان ويعد النفسيات لاجتياز اهم مرحلة تاريخية للنضال المصري هي ثورة 1919 فكان للفن وبالذات المسرح دور كبير في المشاركة فيها بكل امكانياته.

الفصل الرابع: المجهود الحربي

الهدف العسكري لأعداء إنجلترا

بانضمام الدولة العثمانية الى ألمانيا واعلانها الحرب على الحلفاء كان لابد لضرب انجلترا في سيادتها وذلك بالاستيلاء على قناة السويس لشل تخطيطها العسكري ولن يتاتى هذا الى بحملة تركية تستولي على مصر فهي ترغم انجلترا على ابقاء قوات كبيرة في مصر فيخف الضغط على الدردنيل، هذا بالاضافة الى الرغبة في اثارة المصريين ضدها.

واعدت انجلترا للامر عدته، فعينت مكسويل قائدا عاما لقوات الجيوش البريطانية في سبتمبر 19194، وقسمت دفاعات قناة السويس الى اربعة: الاول الشط، الكوبري، جنيفة، والثاني الدفرسوار، وسيرابيوم، والثالث المدعية والفردان، والبلاح، والرابع القنطرة وملاحات بورسعيد. وكانت خطة الانجليز انهاك قوى الاتراك في الصحراء والتربص لهم على القناة. ومع البداية هزموا في طوسون في 2-3 فبراير 1915 وتلاها الطور في 12 فبراير 1915 فعاد الضباط الالمان الى الآستانة وتركوا الحملة لاعداد تخطيط جديد.

ورات ألمانيا والدولة العثمانية ضرورة تهديد انجلترا عن طريق حدود مصر الغربية ووثائق السواحل الغربية تفيض بهؤلاء الذين ضبطوا من الالمان والاتراك متخفون في ازياء الاوروبيين. ودارت المخابارت بين الطرفين ألمانيا والسنوسيين لتقسم انجلترا مجهودها بين الحدود الغربية والشرقية فيصعب عليها الدفاع عن القناة، وقد تمكن السنوسي بعد ان حصل على السلاح والاموال وعلى يد رجاله من مهاجمة معسكر الاستراليين والاغارة على الفيوم وقطع خطوط السكك الحديدية.

وحشدت انجلترا القوات عند مرسى مطروح في 7 ديسمبر 1915 وهجمت على القوات السنوسية وانتصرت في عدة مواقع انسحب على اثرها السنوسيون الذين بدأوا يهاجمون عن طريق الواحات واحتلوا "الواحة البحرية وسيوه والفرافرة والداخلة والخارجة" لكن ما لبث االمر ان دخلت القوات الانجليزية عدة معارك انتهت باسترداد المناطق التي استولوا عليها.

وفشلت ألمانيا والدولة العثمانية في تحقيق الهدف المشترك، وجاءت الحدود الجنوبية لمصر لتكون مثار قلق لانجلترا اذ رأت ألمانيا وحليفتها تركيا اثارة علي بن دينار سلطان دارفور ضد الانجليز في مصر عن طريق الهجوم على الحدود الجنوبية، ومضت رسائله التهديدية الى ونجت في السودان معلنا شق عصا الطاعة مهددا باعلان الجهاد وتبع ذلك ان بدأ يتقدم صوب الخرطوط لكن اعدت حملة انجليزية وتمكنت من هزيمته في 22 مايو 1916.

كانت انجلترا على يقين من عودة الاتراك والالمان الى قناة السويس مرة اخرى، فرأى كتشنر الهجوم على الدردنيل كوسيلة لمنع الخطر عن مصر لكن هذه الخطة فشلت وانسحب الانجليز من غليبولي، وهنا وقع الاتفاق بينها وبين الشريف حسين لضمان عدم ضربها من البحر الاحمر عند تقدمها لقتال اعدائها عبر قناة السويس.

وجاءت الحملة التركية الثانية هادفة قناة السويس، وفي البداية كانت النصرة لها ولكن وصول الامدادات لانجلترا حول الهزيمة الى نصر واعطى للحلفاء المزيد من التقدم فتتبعوا الاتراك واستولوا على العريش ثم رفح التي استغرقت بعضها من الوقت ومجهودا كبيرا ومقاومة عنيفة من الاتراك لكن انتهى الامر باستسلامها في 9 يناير 1917 واصبحت سيناء خالية، وواصل اللنبي سيره حتى دخل القدس في 7 ديسمبر 1917، واعقبها الاستيلاء على دمشق واعلان استسلام الاتراك.

مصر معسكرا للحلفاء

قامت الحرب العالمية الاملى وكان على مصر – وهي تحت نفوذ انجلترا – ان تكون طرفا في هذه الحرب، فقد اقحمها قرار الخامس من أغسطس 1914 بالانضمام للحلفاء. ومنذ اللحظة الاولى عملت انجلترا على جعل مصر معسكرا لقواتها وقوات حلفائها اذ ان موقع مصر الاستراتيجي ووجود قناة السويس وهي الشريان الحيوي للامبراطورية البريطانية حتم عليها وضع مصر في اطار حربي بجانبها.

وراحت توالي استعداداتها داخل مصر، فأمرت باقامة الخنادق، واهتمت بمدن الساحل فعززت مواقع جنودها في النقط الحربية والشواطئ وشددت المراقبة على السواحل وامرت باليقظة التامة بين جنودها حذروا من حديث ما ليس في الحسبان، واهتمت بمدينة الإسكندرية – التي اصبحت قاعدة لحملة البحرة المتوسط تجاه غاليبولي ومركزا لقيادة القوات – فانشئت الاستحكامات الحربية فيها فنصب مدفعا بقرب قصر راس التين موجهة فوهته الى المدينة

"فتضاعف الرعب والذعر بين أهل المدينة وضواحيها"، وعسكرت الجنود الانجليزية في ابي قير ورشيد، وخضعت المدن كلها لانجلترا فحولت منها الى معسكرات لجيوشها واصبحت مصر قاعدة كبيرة للعمليات الحربية في الشرق الاوسط، وادخلت مدينة بورسعيد والاسماعيلية والسويس في منطقة الحرب وبالتالي قيد فيها حركات الاهالي وخضعت لرقابة عسكرية صارمة.

وتبع ذلك اصدار التعليمات الواجب على المصريين اتخاذها اثناء الغارت، فكان عليهم اقفال المنازل والنوافذ من غرب الشمس حتى شروقها واظلام الاماكن العامة والخاصة.

وشهدت البلاد طوفانا من جنود الامبراطورية، من كل ملة ولون وجنس حتى يصح ان تسمي كل مدينة مدينة عسكرية اذ اصبح اهاليها وسكانها يرون الجنود والعساكر في كل جهة من جهاتها وفي كل شارع من شوارعها

ويصف لويد هذه الحالة فيقول:

"... عندما حل عام 1916 كنا قد حولنا دلتا النيل الى معسكر مسلح ولم يراع في ذلك اي اعتبار الا للمحاربين، فعندما وصلت قوات الاحتلال الى بورسعيد والسويس وجدت هاتين البلديتن تحت الحكم العسكري وكانت قناة السويس خط مواصلات الحلفاء، وقاعدة معسكراتها في الاسماعيلية والقنطرة تسكنها القوات الاسترالية والهندية البريطانية واسند الى المصريين فيها القيام باعمال مسح الخشب ونقل المياه، اما القاهرة والإسكندرية فكانتا المكانين الذين تخص فيهما القوات وقت اجازتهما، وكانت الحكومة المدنية تسهر على راحتها".

وتحملت مصر وحدها نفقات وتكاليف هذه المعسكرات، فقد قرر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 11 نوفمبر 1915 الموافقة على فتح اعتماد بمبلغ 8198 ج.م لوزارة الحربية لانشاء معسكرات وفرق هجانة "على ذمة شبه جزيرة سيناء" وكذلك قرر المجلس في 18 نوفمبر 1915 الموافقة على فتح اعتماد بمبلغ 3357 ج.م لوزارة الحربية، على ذمة نفقات المعسكرات وفوق الهجانة التي تقرر انشاؤها".

هكذا استغلت انجلترا موقف مصر، وما لبثت ان تعدت هذا الاستغلال بالسيطرة على المصريين انفسهم لخدمتها وخدمة حلفائها. وقد ساهمت مصر بمجهود حربي وافر في هذه الحرب لدرجة ان قواد انجلترا نفسها اشادوا بهذه المساعدة واعترفوا بانها هي التي رجحت كفة الحلفاء.

ومنذ الايام الاولى من الحرب اعلنت انجلترا بان مصر لن تتحمل شيئا من اعباء هذه الحرب لكنه رغم ذلك ضرب بهذا التصريح عرض الحائط واسغلت مصر بمن عليها لصالحها ولصالح حلفائها.

الجيش المصري ودوره في الحرب

كان استغلال الجيش المصري لصالح الانجليز من اهم مقدمات هذه المساعدة حتى انه حسبت قوة الجيش المصري من قوة الجيش البريطاني على القناة، فمنذ ان بدأت الحرب دعا ونجيت – حاكم عام السودان وسردار الجيش المصري – الجنود الاحتياطية المصرية للانضمام الى الجيش المصري العام، واعلن ضرورة تلبية الاوامر التي تصدرها وزارة الحربية، واعقب ذلك ان اجتمع بافراد الجيش المصري بالعباسية وحثهم على الشجاعة والطاعة في هذه الحرب. واخذ يوالي اجتماعاته بالجنود، طالبا منهم تنفيذ اوامره.

وبدات الاستعانة بالقوات المصرية من قبل نشوب الحرب مع الدولة العثمانية ، فمنذ شهر أغسطس 1914 صدرت الاوامر لسلاح الهجانة المصري باستطلاع الشواطئ على القناة والقيام باعمال الدوريات فيها.

وتعرض سلاح الهجانة المصري الى الخطر، ففي 20 نوفمبر 1914 بينما كان الملازم اول محمد انيس وهو من هجانة السواحل يجول مع فرقته بين بير النصف وقطية وجد عشرين رجلا راكبين هجنا يلوحون برايات بيضاء فصوبوا نيرانهم عليهم فردت عليها النيران المصرية وفي اثناء ذلك اصيب الملازم فاخذه احد هجانته واركبه خلفه على هجينه، ولكن النار اصابتهما، كذلك قتل اثنى عشر رجلا وجرح ثلاثة من هذه الفرقة.

وبعد بضعة ايام من اعلان انلجترا الاحكام العرفية كانت هناك فرقة من الجيش المصري في طريقها لقناة السويس لتاخذ نصيبها في هذه الحرب وليس كما يقول الجنود "لناخذ نصيبها في الدفاع عن مصر".

اما بالنسبة للمعارك مع الاتراك، فقد ساهم الجيش المصري بنصيب وافر في هزيمتهم على القناة، ففي ليلة 2-3 فبراير 1915 حاول الاتراك اجتياز القناة عند طوسون واستقرت على تلك المدينة البطارية المصرية الخامسة التي وضعت ضمن وحدات الجيش البريطاني للدفاع عن قناة السويس وصد هجوم الاتراك.

وكانت هذه البطارية برئاسة الملازمة احمد حلمي، وعندما بدا الاتراك يمدون الجسر فوق القناة الذي كان منصوبا على زوارق من الاومنيوم للعبور عليه، تركتهم البطارية المصرية بان ان تقرر ان يقوم احمد حلمي بتكتيكاته بعد اتمام الجسر، وتم تركيبه وبدأوا فعلا بالسير عليه هنا ادخل احمد حلمي عنصري المفاجاة والسرعة فانصب عليهمب بنيران المدفعية فهزمهم وردهم وقتل منهم واحبط محاولتهم هذه ولكنه ضحى بنفسه في هذه المعركة، كما قتل الملازم ثان فريد حلمي، وجرح عدد اخر من الضباط.

وشهد قائد الجيوش البريطانية بذلك التفوق للعسكريين المصريين وبتلك التضحية التي قدموها. واشاد ايضا بشجاعة المصريين على القناة الاسرى الاتراج حيث ابانوا انه اثناء هجومهم على القناة لاحظوا ان هناك عساكر وضباط مرتدين الطرابيش قد فتحوا نيرانهم وانقضوا عليهم، ومنح تلك انجلترا وسام VICTORIA CROSS للقائد علي زكي الذي تولى قيادة البطارية الخامسة وللملازم اول خليل جبور لدورهم في المعركة.

اعقب ذلك موقعة الطور وكان الفضل في الانتصار فيها للجنود المصريين فقد حدث في شهر يناير 1915 ان ابلغ قومندان الجنود التركية في نخل ان الطور ليس فيها قوة تحميها فاوفد اليها قوة مؤلفة من خمسين رجلا وضابطين من الالمان لاحتلالها، غير ان هذه القوة وجدت عند وصولها الى الطور ان هناك حامية تتالف من مائتي مقاتل وانه ليس من السهل الاستيلاء عليها.

فارسلت الى نخل تطلب نجدات جديدة فبلغت قوتها بالنجدة الجديدة مائتي مقاتل من الاتراك والعرب واحتلت قرية الطور على بعد خمسة اميال منها، فلما علم خبر وصولهم انزلت فصيلة من الجنود المصرية تبع اورطة البيادة الثانية المصرية وزحفت عليهم وسط الروابي والتلال من غير ان يشعروا وفاجاتهم بالقتال. وقد قاموا بواجبهم خير قيام، وهذه الفصيلة مؤلفة من بلوكين ومعهما اليوزباشي مصطفى حلمي وضباط آخرين مصريين وقوة قدرت بحوالي مائة وخمسون رجلا.

وحارب الفرسان المصريون على ارض سيناء، كما الف الضباط المصريون لجنة لجمع الاموال لمساعدة الارامل والايتام وضحايا الحرب من الانجليز. وعلى الحدود الجنوبية كانت القوات المصرية تحارب من اجل الحلفاء، فعندما انضم سلطان دارفور للاتراك واعلن الجهاد ضد الانجليز ، صدر امر ونجت في 27 فبراير 1916 بتحرك بطارية مكونة من اليوزباشي على اسلام نائب قومندان هذه البطارية والملازم اول حسن الزيدي قائد اجي صنف والملازم اول حسن حلمي قائد 2 جي صنف والملازم اول حسن قنديل قائد 3 جي صنف وقد اعدت لهذه البطارية قوة ست مدافع مكسيم وحمسة وخمسون صف ضابط وعسكري من ضمنهم ثلاثة أشرجية وبروجي وبيطار وباشجاويش وبلوك امين وثمانية وسبعون جملا.

وصلت هذه البطارية الابيض عاصمة كردفان ثم اجتهت بعد ذلك الى بلدة النهود وعسكرت فيها البطارية مع باقي القوة من طوبجية وبيادة راكبة وهجانة، ثم اتجهت الى جبل الحلة واحتلتها، وقامت بطارية – كانت تحت حكمدارية الملازم اول محفوظ ندى ومحمود زكي رشاد – بحماية بلدة اللجود للمحافظة على الآبار فيها وتقدمت القوات المصرية واحتلت بردش وام كدادة.

ثم اشتبكت مع قوات سلطان دارفور عند برنجية وهزمتها. ولم يمض الا القليل حتى تمكنت القوات المصرية من التقدم صوب الفاشر عاصمة دارفور هذا في الوقت الذي احتلت فهي كتيبة مصرية آبار الابيض بعد ان تقهقرت قوة دارفور نحو الفاشر. فتابعت القوات تقدمها الى ان احتلت الفاشر وقتل سلطان دارفور. وقد استشهد في هذه المعارك قواد مصريين امثال الملازم اول محمد يسري والملازم ثاني احمد زهران وخمسة آخرين هذا عدى الجرحى.

وبين ونجت ان الفضل في الانتصار على قوات سلطان دارفور يرجع للقوات المصرية التي تحملت الصعاب خاصة الظروف الطبيعية من جبال ورمال ومياه. وطلب منح وسام النيل ووسام محمد علي الى الضباط كمكافأة لهم على خدماتهم واعترافا بالمشاق والجهود الكبيرة التي بذلوها.

وتحملت المالية المصرية نفقات هذه الحملة، فوافق مجلس الوزراء على فتح اعتماد مبلغ 53815 جنيها بميزانية وزارة الحربية لسد النفقات اللازمة من اول يناير الى اخر مارس 1917 لاجل احتلال دارفور. ومضى الجيش المصري يحارب في ميدان آهر اذ ارسلت منه فصائل وعددا من الجنود الى شبه الجزيرة العربية لمساعدة حاكم الحجاز الذي اعلن الثورة والحرب على الدولة العثمانية.

ويذكر لورنس انه وجد في وادي الصفراء لدى فيصل معسكر الجيش المصري المنظم تحت قيادة الماجور "نافع بك" وكان ارسله حديثا السير ونجت من السودان وهو مؤلف من بطارية مدافع الجبال وبعض الرشاشات، ويذكر ايضا ان السبب في ارسال ذلك انه عند وصول القائد الانجليزي الكولونيل ولسون الى ينبع تقدم فيصل اليه وبين له ما يحتاج اليه فامر فورا بان تسلم اليه بطارية مدافع جبلية وبعض مدافع مكسيم وضباط ورجال فنيون من المستودعات المصرية في السودان، "واعتقد العرب عند وصول هذه النجدة بانهم قد اصبحوا يعادلون قوات الترك ويتمكنون من مقاومتهم".

وابلى الجنود المصريون شجاعة فائقة في مساعدة العرب ضد الاتراك لدرجة ان ونجت ابان في خطبة فضلهم: "... ولا ارى بدا من الاشارة الى ما قام به الجيش المصري الباسل وضباطه الشجعان من الخدمة الشريفة في الحجاز والاسم المجيد الذي اكتسبوه بين اخوانهم العرب...". وكذلك ساهم الجيش المصري في العمليات الحربية على حدود مصر الغربية ضد السنوسي.

كما ان هناك عددا من الضباط والجنود المصريين قد حاربوا في اكثر من جهة في الدردنيل وفي القناة وفي السلوم. ففي خطاب موجه من سردارد الجيش المصري الى سلطان مصر يطلب مكافات لهم على قدرتهم الفائقة وخدماتهم الجليلة التي ادوها في هذه الميادين وتذكر الوثيقة بعضا منهم: شحاتة كامل، البجباشي محمد شاهين، اليوزباشي محمود حلمي، مصطفى منصور، عارف لبيب، والملازم اول محمد صادق الاصفهاني".

ونشرت الجريدة الرسمية للحكومةم البريطانية اخبار مكافات حسن الخدمة في القتال للعسكريين المصريين، كما أنعم بالترقيات على الكثريين منهم. وعلاوة على ذلك، فقد وضع الجيش المصري بكل اريحية تحت صرف قوات البحر الابيض المتوسط والقطر المصري معدات للراحة ومهما حربية وتقديم 174.000 قنبلة لقوات البحر الابيض المتوسط. وتسليم القاطرات والفولاذ للدفاع عن القناة وصنع مقادير عظيمة من المهمات والملبوسات وتصليحها في ادارة المهمات.

ولم يقتصر ضغط انجلترا على مصر باستخدام جيشها في تلك الميادين المختلفة ولكنها ذهبت الى ابعد من ذلك رغم تعهداتها السابقة بانها ستاخذ على عاتقها كل اعباء الحرب دون ان تكلف المصريين شيئا، ولقد كانت هذه الوعود حبرا على ورق، مجرد تخدير لاعصاب المصريين الذين اقحمتهم في حرب ضروبس لا منفعة لهم فيها انما عليهم ان يقاسوا ويستغلوا ويموتوا من اجل انجلترا.

الرديف المصري

هذا وقد اتيح للسلطة العسكرية استعداء الدريف المصري في بداية عام 1916 – وكان عدده حوالي 13.000 وهو من الجيش المدرب على الاعمال العسكرية والذي قضى المدة المقررة تحت السلاح بمقتضى قانون السلطة العسكرية المصري وقدره خمس سنوات ويستمر تحت الطلب بصفة جيش احتياطي مدة خمسة سنوات اخرى – لاستخدامه في تنظيم التشهيلات اللازمة للدفاع عن القناة بعدما اصبحت قناة السويس عرضة للغزو التركي الالماني مرة ثانية

وعلى ذلك رفع اسماعيل سري وزير الاشغال بصفته وزير الحربية والبحرية في 20 يناير مذكرة الى حسين رشدي تتضمن مشروع قرار وزاري يطلب افراد الرديف في جميع الفرق للخدمة العسكرية ما عدا الموجودين منهم في خدمة الحكومة وذلك بناء على طلب قائد عموم القوة البريطانية في مصر، ولم يلبث يوم 20 يناير 1016 يمر حتى وافق مجلس الوزراء.

واضيفت التعيينات الخاصة بالرديف على عاتق مصر، وقد رات انجلترا في بداية الامر ان تستاجر افراد الرديف فابت الحكومة قائلة: "انى آنف ان يقال عني اني اؤجر رجالي للزود عن قنالي بمال غيري وليس بمالي".

وبذلك وافقت الحكومة وتحملت الاعباء بلا اجر او مساومة وقد كان من الممكن ان تطلب بعض المنح في مثل هذه الظروف التي عجزت فيها انجلترا وحلفائها عن متابعة القتال في الدردنيل وغاليبولي في اوائل يناير 1916 بعد ان فقدت الرجال والذخائر والاموال.

وبدئ في تنفيذ القرار ، فاخذت وزارة الحربية ترسل الى المحافظات والمديريات كشوفا باسماء رجال الرديف المطلوبين للخدمة حسب اقسامهم في السلك العسكري وتاريخ مدتهم وانفصالهم عن الجيش، وحينما تلقت المحافظات والمديريات هذه الكشوف بدأت ترسل الى كل قسم من اقسامها بجدول به اسماء المجندين المقيمين بذلك القسم وعهد الى المامور تنفيذ الامر فيستدعي كل من كان مدونا اسمه في الجدول ويرسله الى المحافظة.

وقسمت وزارة الحربية الرديف الى خمس حملات بحسب طبقاته المعروفة في السنوات الخمسة قبل ذلك التاريخ والتي اقتصر استعداؤه للخدمة عليها. وقسمت كل حملة من هذه الحملات الى خمسة اقسام وجعلت كل قسم مكون من 220 صف ضابط وعسكري عدا ما يتبعه من الجمال، واختارت ان تجعل القاهرة مركزا للرديف العام وان تظل قيادته العامة في يد اللواء هربرت باشا قومندان قسم المحروسة

واختارات لواءين من الضباط المصريين المتقاعدين للمعاونة في التفتيش وضمت الى كل منهم في حملته الضباط المصريين المستودعين والمتقاعدين احد عشر ضابطا متفاوتي الرتب اكبرهم من الحائزين على رتبة بكباشي او الصاغ وهو الذي يولي من بينهم منصب اركاب حرب. وبازدياد الاعال انهال الطلب على الاحتياطي، فطلب من اللواء هربرت اعدادا من الاحتياطيين للعمل في الفرق المساعدة.

ومنذ البداية لم يكن الرديف المصري راضيا عما اصابه. فكانت اولى انتفاضاتهم تلك التي حدثت في ميدان عابدين حيث تجمهروا فيه واعلنوا عصيانهم رغم شدة الرقابة وسلطة الاحكام العرفية، وتجردهم من السلاح توجهوا لاعلان شكواهم الى السلطان التي انحصرت في "التاخير في دفع المكافات المستحقة لهم، وعدم كفاية الاجور التي تقرر دفعها لهم، وعدم موافقة الغذاء"

فقابلهم حسين رشدي ووعدهم بالنظر في شكواهم ولكنهم جددوا المظاهرة واجتمعوا في اليوم التالي، وهنا كانت الاحتياطيات العسكرية قد اتخذت ووقع صدام بينهم وبين رجال البوليس جرح ثمانية من الرديف واصيب كذلك بعض المارة على اثر الاشتباكات بينهم. وعلى اثر ذلك رحلوا بعيدا عن العاصمة. واخذ البعض منهم يفر من بلدة الى اخرى عاش فيها عيشة مستترة حتى لا تراه الاعين.

ولما رؤي ان ذلك الفريق من المصريين قد نأوا بجانبهم عن معاونة الانجليز وتنفوا خدمتهم رغم تهديدهم اصدر السلطان الجديد فؤاد مرسوما خاصا بالتجنيد بتعديل الامر العالي الصادر في 4 فبراير 1903 وذلك لتشجيع الناس على التطوع منحهم الامتيازات فمن تطوع لخدمة الحلفاء لمدة عام اعفي من الخدمة العسكرية التي كان ملزما بها.

وكان هذا منافيا لقرار مجلس الوزراء الصادر في 3 أغسطس 1014 والذي يحرم على مصر الدخول في خدمة احدى الدول المتحاربة، ولعهد انجلترا الذي قطعته على نفسها بانها ستتولى الدفاع عن مصر دون طلب اي مساعدة منها.

ورغم الرقابة التي كانت مفروضة على الصحافة الا ان صحيفة الاهالي راحت تذكر انجلترا بوعودها فتقول: "نذكر ان جناب قائد القوات البريطانية في العام الماضي وهو يستعد لرد حملة جمال باشا قد نشر بلاغا اعلن فيه للمصريين بان انجلترا اخذت على نفسها حق الدفاع عن مصر بجنودها وانها بناء على ذلك لا تطلب من المصريين اي مساعدة او ان يدخلوا معها في القتال".

ويقول سعد معلقا على هذا المرسوم:

"نشرت الجرائد مرسوما سلطانيا بمعافاة من سيتطوع في الجيش الانجليزي سنة من الخدمة العسكرةي، وقد وقع هذا الامر اسوا وقع عند الناس وتشاءموا به من حكم عظمة السلطان لانهم عدوه اسوا فاتحة لاعماله".

وكانت سياسة الوفاق بين رئيس الوزراء والانجليز هي التي فرضت على المصريين نزف الدماء والمزيد من التضحية والعذاب فرشدي هو المتحكم في الامور وكان رهن ارادة الجيش البريطاني حيث انه يتصرف في معظم الامور بدون موافقة بقية مجلس الوزراء او حتى اخذ رايهم مع العلم بانه مهما كان اي وزير قد اعترض فسوف يعزل في الحال ويؤتى بآخر يكون رهن اشارة انجلترا

ويقول سعد زغلول في مذكراته عن استثار رشدي بكافة الامور: "فهمت من عدلي ان القوم كانوا يريدون تجنيد خمسة وعشرين الف جندي بصفة عمال في الجيش ولكن حصلت معارضة في ذلك خشية ما يحدث في نفوس الناس، ومن سوء الاثر وفهمت منه انه غير راض عن ضعف رشدي امام الانجليز ويشكون من طرف خفي من ان رشدي بيت في الامور بدون ان ياخذ بآرائهم".

فيلق العمال وفيلق الجمالة

رأت انجلترا أن هناك أعمالا غير قتالية ليس على الجندي التابع لانجلترا القيام بها، فيكفيه جدا ان يحمل السلاح وان يحارب وان تقع الواجبات الغير قتالية على غير، وليس هناك امهر من المصريين في عملهم، اذ ان هذه الاعمال تعتمد على العمل اليدوي والطاقة البدنية وتشمل تعبيد الطرق ومد السكك الحديدية وحفر الآبار والخنادق ومد انابيب المياه، واقامة الاستحكامات ونقل معدات التليفون والتلغراف والمهمات والذخائر والتموين. ولهذا بدا من الضروري جمع المصريين، على شكل صورة فيالق اضافية تكون تحت تصرف القيادة البريطانية تعمل لخدمة القوات المحاربة.

قررت انجلترا ان تؤلف فيليقين هما فيلق العمال للقيام بالاعمال اليدوية وراء القوات الانجليزية وفيلق الجمال لنقل المهمات وغيرها من نهاية السكك الحديدية الى الخطوط الامامية.ولم يكد يمر آخر أغسطس حتى امر الجمال المصريون بالذهاب الى قناة السويس وبعدم مبارحتهم اياها. كذلك بدأ فيلق العمال عمله منذ أغسطس 1914 حيث اقام التحصينات بقرب الشطوط المهمة وحول ضفتي قناة السويس وقد اقاموها بهمة فائقة ونشاط كبير.

وساعدت الظروف على تكوين فيلق العمال اذ ساءت الحالة منذ بداية الحرب وعانى العمال المصريون والفلاحون الامرين من وقف النشاط الاقتصادي ومن تلك البطالة التي تفشت بين الطبقات العاملة واخيرا الارتفاع في تكاليف المعيشة. فساعد هذا في اول المر على الانخراط في هذا الفيلق والاقبال عليه وبلغ الامر الى انه تقدم الى قومندان البوليس المصري اهالي تطلب الانخراط في فرق العمال بالدردنيل، وذلك للتخلص من تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي يحيوها.

شرعت السلطة العسكرية في تنظيم وترتيب فرقة العمال المصريين في شهر يوليو 1915 وعهد في ذلك الى عشر ضباط فجمعوا حواي الف وخمسمائة عامل وكان النظام فيها في بادئ الامر بالتطوع وبذلك تمكن الانجليز من اخلاء سبيل عدد كبير جدا من جنودهم لارسالهم الى مواقع اخرى حربية، واعطى اجرة العامل فيها يوميا خمسة قروش هذا بالاضافة الى الجراية اليومية.

وخلال الاستعدادات لمعركة غاليبولي رات القيادة البريطانية ضرورة الاستعانة بالعمال المصريين ففي أغسطس 1915 طلبت قيادة الحملة البريطانية للبحر المتوسط نحو خمسمائة عامل مصري من ابناء الصعيد للعمل بجزيرة مودروس فوفقوا في عملهم واتقنوه بحيث ان القيادة طلبت المزيد منهم حتى بلغ عددهم ثلاثة الاف عامل عند جلاء القوات البريطانية عن غاليبولي. ويعلق إلجود على هؤلاء العمال فيقول: "ان الصعيد ينتج رجالا ذوي بناء جسماني رائع، لا يضارعهم انسان اخر في قدرتهم على الاحتمال، انهم يؤدون كافة الاعمال اليدوية في يسر وسهولة ولكنهم يبلغون حد الاعجاز في اعمال الحفر، وهي الاعمال التي كانت الحملة تتطلبها حين ذاك".

وازدادت الاهمية للعمال حيث انه في الفترة بين خريف 1915 وربيع 1916 حشد من فيلق العمل المصري 8.500 فرد للعمل في خدمة الحملة الهندية في العراق و15.000 عامل للعمل وراء خطوط القتال في الجبهة الغربية. كذل انه ما ان اطلع ولاة الامور العسكريين على الاعمال النافعة التي تقوم بها هذه الفرق من العمال حتى اشتد الطلب عليها من كل جبهة ولاسيما قسم التعيينات والطبجية والمهندسين فلبت طلبات هذه الاقسام وسواها.

وكان استخدام العمال في اول الامر لقضاء الحاجة الحاضرة الماسة ثم تبين ان الضرورة تقضي بانشاء مصلحة دائمة وتعيين رؤساء لها وتاليف مكاتب دائمة للاستخدام، كذلك خرجت من فرقة العمال المصريين فرقة العمال المتعهدين وهو رجال يعملون في مقالع الحجارة ويشتغلون بانشاء الطرق بموجب عقود فردية.

لاجل هذا لم يتوان القائد العام للجيوش البريطانية عن الالحاح في اتخاذ الاجراءات الفعالة للحصول على العدد اللازم من العمال الذين اشتد الطلب عليهم. حتى لقد بلغ عددهم 1.200.000 مصري جندوا وليس صحيح ان عددهم كان بين 80 و90 الفا ، اذ يذكر هذا العدد البيان الصحفي لمستر لندس القائم باعمال السفارة البريطانية.

احتوت فرقة الجمالة على مائة الف رجل ذهب منهم ثلاثة وعشرون الفا استخدموا في فرنسا، وقدمت هذه الفرقة خدمات جليلة للحفاء، ويصف فرقة الجمالة هذه مراسل المانشستر جارديان الانجليزية فيقول:

"لا يمكن لقنبلة او لرصاصة ان تحرك وتثير الحيوان الابله وقواد الابل وهم من الفلاحين الذي جمعوا وسجلوا في القرى المصرية وكلهم عزل من السلاح وغير مدربين على الحرب يمكنهم ان يجروا عند الاشارة للهجوم وان معظمهم الان في الحقيقة في التصاق تام بحيواناتهم وهم يسرعون في تلبية نداء ضباطهم البريطانيين والرصاص يدوي ويتساقط حولهم وهو اذا طلبوا بالخروج بابلهم لتكون في مامن من الاذى اخذوا معهم سترهم التي توزع عليهم خشية ان تسرق اثناء غيابهم.
وبعضهم يسعى في الصعود الى التل تحت اطلاق النار لياتوا بنقودهم من خيامهم وكان قواد الابل انفسهم يعيرون الذين يلوذون بالفرار ويقولون عنهم (بنات) وانه لا يليق بهم ابدا ان يكونوا من الرجال. واصبحت اليوم بعض الفرق تقسم نفسها قسمين اولهما الثابتون في امكنتهم وثانيا الهاربون. وان الانتقال من قسم الى اخر اما جائزة واما عقاب".

ضحت مصر من اجل جمع هؤلاء العمال والفلاحين، فقد عرقل هذا اعمال الزراعة التي تتوقف عليها الحياة في مصر، وتعطلت مشروعات الري الجديدة وعندما برزت اهمية هؤلاء الرجال تحول التفكير من مجرد استخدام جماعة محدودة من العمال والفلاحين الى انشاء الفيالق الاضافية. ففي ديسمبر 1915 صدرت اوامر القيادة البريطانية لانشاء عشر مجموعات، كل مجموعة تحتوي على 2.020 جملا، 20 حصانا، 1.168 مصريا، 10 ضباط انجلي تحت رئاسة الكولونيل وايتينجرام

وفي سبتمبر 1916 وبعد موقعة رومانة واثناء التقدم عبر الصحراء كان هناك ثلاثة عشرة مجموعة في خدمة القوات المحاربة، وفي الستة شهور الاولى من عام 1915 استطاعت ان تجمع السلطة العسكرية بين الف والف وخمسمائة جمل وعدد يقرب من الف من الجمالة المصريين ولم يمض شهر ديسمبر 1915 – وبعد تكوين الحملة المصرية – حتى صدر امر من القيادة بضرورة تمهيد فيلقين الى خمسة مجموعات.

واثناء الفترة من ديسمبر 1915 – تاريخ تكوين الجمالة – الى عام 1919 كان هناك 170.000 جمال، 72.500 جمل في خدمة الفيلق، واستدعى لهم ضباط من الجيش المصري لصعوبة التفاهم اللغوي معهم، ووضعت فيالق الجمالة هذه لمعاونة الحملة المصرية، تلك الحملة التي وقع عليها عبء القتال في سيناء وفلسطين.

ومصادر تلك الفترة تبين ان التعاقد على هذا العمل كان اختياريا وبناء على عقود تكتب بين الطرفين لمدة ستة اشهر . وكان هذا في بداية الامر، واخذت الصحف تنشر المزايا التي تعود على من ينضم الى هذه الفرق وما يوزع على الفرد يوميا من ماكل ومشرب وملبس ومسكن وذلك لضم اكبر عدد للفرقة فكانت تغريهم بان الجراية اليومية هي 32 اوقية خبز بلدي، 24 اوقية بقسماط، 3 اوقية لحمة، 4 اوقية عدس، 2 اوقية أرز، 4 اوقية بصل، ثلثين اوقية سمن، وثلثين اوقية ملح.

هذا في وقت اشتدت فيه الازمة وانعدمت الاقوات، كذلك رفعت اجرة العامل في فرقة العمال الى خمسة قروش يوميا والجمال الى ستة قروش، واعلن انه عند انتهاء مدتهم يعادون الى اوطانهم على مصاريف السلطة.

وعندما قررت القيادة البريطانية تتبع الاتراك في سيناء وفلسطين والخروج من قناة السويس رؤي انشاء خط للسكك الحديدية من قطية الى فلسطين وهنا الحت الحاجة الى تضاعف افراد فيلق العمال وفيلق الجمالة، ورات السلطة ان اسلوب التعاقد الانجليزي هذا لن ينفع امام ذلك العمل المتزايد

وفي نفس الوقت سرعان ما ظهرت صعوبة جمع المصريين للالتحاق بقسم العمل في الجيش الانجليزي بالرغم مما كان يدفع لهم من اجور، ولاسيما بعدما علم هؤلاء بالمخاطر الجسيمة التي اصابت العمال في شبه جزيرة سيناء نتيجة للغزو التركي حيث تعرضوا لضرب القنابل وراح ضحايا منهم، هذا بالاضافة الى ما شيع عن سوء المعاملة التي يلقاها المتطوعون المصريون لاجل ذلك تردد الفلاحون في اجابة الدعوة، بل انهم فضلوا الموت عن الخدمة في تلك الفيالق المساعدة، هذا في الوقت الذي كانوا يعتقدون ان النصر سيكون حليفا لالمانيا وتركيا.

نقلت العمليات الحربية الى فلسطين للقيام بهجوم قوي على الاتراك، وعين اللنبي قائدا للقوات البريطانية في مصر في عام 1917 وتزايدت مطالب الجيش وان كان اللنبي قد ابقى قسما من هذه القوات في مصر لمساعدة الحامية البريطانية للمحافظة على النظام وتوفير الامدادات اللازمة للقوات المحاربة والقسمي العمل والنقل.

وحتى ذلك الوقت لم يحتج المصريون احتجاجا ظاهرا على ما كانت تطلبه السلطات العسكرية من العمال غير انهم بمجرد نقل الجيوش البريطانية الى فلسطين اصبحوا يحجمون عن تقديم مساعدتهم، اذ لم يجدوا اي فائدة من متابعة الحملة في بلاد بعيدة كفلسطين، غير ان السلطات الحربية اساءت تفسير روح القلق التي استولت على المصريين واتهمت هؤلاء بانهم معادون لانجلترا. ومن ثم اصبح الحكم العرفي اداة للقمع بصورة احس بها جميع المصريين.

ويحلل ويفل الموقف

"لقد ازدادت حاجات الجيش – كلما تقدمت حملاته – الى العمال والحيوانات والمواد الغذائية، ولم يعد التطوع وحده يكفي للوفاء بها، وبذلك لم يجد رجال الحرب وسيلة للحصول على حاجاتهم سوى الضغط على الحكومة المصرية، وادى هذا بدوره في النهاية الى اشنع صور الضغط في القرى، فراحوا يجندون الناس رغم ارادتهم في فرقة العمال...
وكما يحدث دائما في مثل تلك الاضطهادات وقع العبء الاكبر على اشد الناس فقرا واقلهم نصيرا من غير ان يدرك الجيش والموظفون من الانجليز كل تلك المظالم التي ترتكب باسمهم، ولكنهم بالطبع – مذنبون – في نظر الفلاحين.. واصبح الانجليز هم الظالمون اذن فليسقط الاجانب الملاعين".

ولسوء حظ انجترا فان الفلاحين لم يكن لديهم اية رغبة في الانخراط في فرق العمل، فالفلاح المصري كان عزوفا عن ترك قريته، ومسقط رأسه فكيف يترك ارضه ليلقى حتفه في الحرب، كذلك فلم يجذبه للعمل في الجيش اي شعور وطني لانه كان يفهم ان الحرب الدائرة على حدود بلاده لا تخصه هو انما تخص انجلترا وحدها، وعلى ذلك فعندما تقرر ان يتسع نطاق استخدام العمال المصريين، لم يكن مفرا امام السلطات العسكرية من اتخاذ اجراءات القسر للحصول عليهم.

رأت السلطة العسكرية للتغلب على هذه الصعوبات ان تحول عملية الاستخدام من اسلوب التعاقد الاختياري الى التجنيد الاجباري اذ اصبح لا مفر الا الالتجاء الى طريقة القوة اذ هي التي يحقق لها حشد الاعداد المطلوبة للفيالق الاضافية، وعندما اوعزت القيادة العامة – ارشيبا لدمري في 23 مايو 1917 – باتباع طريقة التجنيد بالاكراه عارضه ونجت على اعتبار ان ذلك يعد خرفا للتصريح الذي اصدره مكسويل يوم 7 نوفمبر 1914 واعلن فيه تكفل بلاده بكل اعباء الحرب دون ان تطلب من مصر اي مساعدة، كما انه يفقد المصريين الذين يعتبرهم الانجليز انهم يضمرون العداء لهم، فحيادهم وهدوءهم من الصواب، وان كان قد اشاد بايجاد اي وسيلة تضمن اشراك المصريين من تلقاء انفسهم في الحرب.

والفت لجنة في القاهرة للكشف عن كل الوسائل لزيادة العمال واشترك فيها السلطان حسين ووزراءه وعرض التشجيع في الصحف، غير انها لم تهتد الى حل، وعندئذ كتب ونجت يعلن موافقته على ما راته اللجنة من استحالة تنفيذ اقتراحات الحكومة الانجليزية

وذهب ابعد من ذلك فقال:

"اني لا استطيع ان اضمن ان عدد العمال المصريين الذين تستخدمهم الان حكومة جلالة الملك وهو مائة الف، يمكن المحافظة عليه في الظروف الحاضرة وان رشدي اكد لي انه سيبذل هو ووزارءه كل جهد لمساعدة السلطات التي تتولى التجنيد وتسهيل عملهم" ثم قال: "ان القسر يمكن اتباعه اذا ابطل التصريح – تصريح مكسويل – وسواء بطل على يدنا او على يد الوزراء من تلقاء انفسهم فانه سوف يكون من المستحيل ان نتجنب الكراهية الناجمة عن خيانة العهد، وهذه الكراهية سوف تعبر عن نفسها محليا في صورة اضطرابات داخلية وبعبارة اخرى ان القسر سوف يقتضي زيادة كبيرة في فرق الحامية الانجليزية في مصر، ولا يوجد ثم ريب من انه سوف يقلل المساعدة التي تعطيها مصر الان ان لم يوقعها تماما".

ويقول سعد زغلول في مذكراته:

"تدور على السنة الناس اشاعة بان الانجليز يريدون ان يجمعوا جندا من مصر بطريق الجبر. ويعللون ذلك بانه اذا لم تشترك مصر في الحرب معهم فلا تتقاسم معهم شعور الفرح والخير وبما انها تتنعم بحسن ادارتهم يلزمها ان تشاطرهم المتاعب التي يتحملونها في سبيل الحرب، ويرد قوله هذه الاشاعة بان رشدي والسلطان غير مبالين لهذا المشروع ومعارضون فيه حتى ذهب بعضهم الى انه ربما ادى هذا الخلاف الى سقوط الوزارة".

واستعملت السلطة الضغط على الحكومة، غير ان هذه رفضت ما يوعز من استعمال القسر وان كانت قد بدات بعرض وسائل الاغراء على التطوع للعمل ففي 20 أكتوبر 1917 اعلنت الحكومة قرارها:

"بما ان السلطة العسكرية البرطيانية ابلغت الحكومة المصرية بانها تلاقي صعوبات في ايجاد الرجال اللازمين لفرقة العمال بطريق التطوع الاختياري، وبما انه ولو ان الحكومة البريطانية قد اخذت على عاتقها الدفاع عن مصر الا ان البلاد لا تستطيع ان تقف وقفة المتفرج ازاء هذا الدفاع بل ان من واجبها الادبي ان تعاون السلطات العسكرية المشار اليها جهد الاستطاعة
وبما انه يتعين في هذه الحالة العمل على ايجاد وسيلة للتشجيع على التطوع الاختياري فقد قرر المجلس ان يقترح على السلطة العسكرية زيادة الاجر اليومي وان تتحمل هذه الزيادة الحكومة المصرية وان يعفى كل رجل يتطوع في هذه الفرقة لمدة سنة على الاقل، من الحدمة العسكرةي. وكذلك اعفاء كل رجل يتطوع في هذه الفرقة من اجور الخفر طول مدة تطوعه".

الا ان ذلك كان دون جدوى ومن هناك اصبح التجنيد الاجباري الوسيلة الوحيدة التي لابد من اتخاذها للحصول على العدد اللازم من العمال واقترح الانجليز استخدام جميع المقترعين للتجنيد ممن تثبت لياقتهم ولم يصبهم الدور، ولكن الحكومة المصرية رفضت قبول ذلك حتى لا تتهم بانها اشركت البلاد في جهود الحرب. كما رفضت رفضا قاطعا حل هذه المشكلة بالاجبار. ولم تكن على استعداد لان تتحمل مسئولية التجنيد الاجباري، وكانت واثقة من ان موظفي الادارة في الاقاليم وخاصة العمد يمكنهم بوسائل الضغط الحصول على ما يلزم من الرجال وبذلك ابدت استعدادها لتوفير العدد بتلك الوسائل الادارية سواء قبل المواطنون او لم يقبلوا.

وهكذا اتفقت كلمة السلطة وكلمة الحكومة على جمع الرجال، وظل التجنيد اختياريا في الظاهر وفي الحقيقة لم يكن بهذه الصورة اذ فرضت السخرة دون ان ينص عليها القانون، وعلى الفور طلبت الحكومة من المديرين في منشورات دورية ان يضاعفوا جهودهم لتشجيع التجنيد، وابلغ المديرون مأموري المراكز هذه الاوامر وابلغها هؤلاء بدورهم للعمد

وانذر الاخيرون باشد العقوبات اذا قصروا في العمل، وانه اذا لم يتطوع للجيش البريطاني عدد كاف من القرية او الناحية فان اللائمة تقع على المسئولين انفسهم لذا اتخذ المديرون والعمد التدابير التي اعتقدا انها ستحميهم من المصير الذي يهددهم اذا فشلوا في مهمتهم وبهذه الطريقة اصبح من اللازم على كل مدير ان يقدم شهريا من مديريته عددا معينا من الرجال لسد طلبات السطلة.

وقاسى المصريون سواء عن طريق جمعهم او من السخرة التي فرضت عليهم والتي ارجعتهم الى عهد اسماعيل، ولاهمية هذه المرحلة في حياة شعب مصر ستعرضها من خلال شهود العيان. بدأ تنفيذ السياسة التعسفية الجديدة لحشد العمال والفلاحين قسرا للعمل في السلطة فعين ستة وعشرون ضابطا بريطانيا بين الإسكندرية واسوان لاجل هذه العملية.

وكل ضابط يعاون مامور المركز في جمع الانفار وتبدا العملية باستعداء عمدة القرية وابلاغه بالعدد المطلوب من قريته وعندما يأوى الفلاحون الى دورهم يبدأ الخفراء ورجال البوليس بالهجوم عليهم لجمع العدد المفروض على القرية ان تجمعه، وبين صراخ الاطفال وولولة النساء يحشد الرجال الذين وقع عليهم الاختيار في مضيفة العمدة تحت حراسة قوة من بوليس المركز.

وفي الصباح يساق الجمع – وهم موثقون بالحبال – الى المركز حيث يتسلمهم الضابط البريطاني ليشحنهم بالسكة الحديد الى كمب التوزيع بالاسماعيلية ولا يجرى – خلال هذه العملية – اي قدر من التسجيل الدقيق. وانما يكتفي الضابط البريطاني باعداد قائمة باسماء الرجال واحيانا يقسمهم الى مجموعات (50 رجلا) يختار لكل مجموعة رئيسا من بينهم يتولى تنفيذ ما يصدر اليه من اواخر خلال الرحلة الحزينة الى الحرب.

وتناول سلامة موسى هذا الامر بقوله:

"رحلت الى الريف – قرية بالقرب من الزقازيق – ورايت كيف كان يسلط الانجليز علينا الموظفين المصريين من مامورين ومديرين وحكمدارين وشرطة لخطف محصولاتنا، وكانت الجمال والحمير بل الرجال يخطفون ايضا كما لو كانوا في قرية زنجية على خط الاستواء قد كبسها النخاسون لخطف سكانها وبيعهم في سوق الرقيق. وكان المنظر تئن منه النفس كما يفتت القلب فكان الرجل يربط بالحبل الغليظ من وسطه وخلفه امثاله، ويسيرون على هذه الحال صفا الى ان يبلغوا المركز فيحبسون في غرفة المتهمين ثم يرحلون الى فلسطين وكنت انجح احيانا بالرشوة في استخلاص بعض هؤلاء المساكين.
وذات مرة وانا بالمنزل سمعت صراخا ودخلت على نسوة في فزع ونحيب، وعرفت ان ثلاثة ممن يزرعون ارضنا القي القبض عليهم وهم يحرثون في الحقل فخرجت ووجدتهم مربوطين بالحبال الغليظة بحراسة احد الشرطة، اما سائر الشرطة فقد تركوهم كي يغزوا قرية اخرى، واستطعت بمساومات مع الشرطة ان احصل على الافراج عنهم ولكني لم انجح في كل مرة، ففي ذات يوم قصدت الى مامور الزقازيق اطلب منه اطلاق اثنين من الفلاحين فتأملني
ثم قال: انا عايز ارحلك انت لفلسطين فتركته اذا لم تكن الظروف وقتئذ تأذن بالتحدي وفي تلك السنوات السود اثري كثير من العمد ثراء فاحش فقد فرضوا ضرائب على جميع الشباب من سن العشرين الى الخمسين على مقدار ما يملك، فهذا يؤدي خمسة جنيهات وذك عشرة جنيهات حتى يعفيهم من الاعتقال وبعثهم الى فلسطين، وعرفت عمدة كان يملك ستة افدنة فقط جمع نحو خمسة الاف جنيه بهذه الطرق، وكان الفلاحون يجوعون كي يجمعوا هذه الغرامات ويؤدوها".

ولم يكن ذلك راي شهود العيان من المصريين فقط بل ايضا ايده الانجليز انفسهم فيذكر الجود وكان اميرالايا في الجيش الانجليزي

"ان كل مدير مديرية كان مطالبا بان يقدم من مديريته عددا معينا من الانفار. وفشله في ذلك كان يجر عليه لوما قاسيا من رؤساءه. اما كيف كان المديرون يحضرون الانفار، فقد كان ذلك متروكا لتصرفات الموظفين في كل مديرية وهؤلاء كانوا يفهمون بالاشارة. فشيوخ القرى اختاروا الضحايا الذين كانوا يرونهم مناسبين دون تدخل من احد، لقد حانت لهم الفرصة لتصفية ثارهم المبيت ضد اعدائهم.
واصبحت مصر الزراعية تمزقها الحزازات فوشت العائلات ببعضها البعض الاخر وتسمم الجو بالفساد، وكان الفلاحون الذين لا يستطيعون دفع المال من اجل اعفائهم اول من كانوا يؤخذون غالبا ثم يعقبهم الاعداء الشخصيون لحكام القرية، وكان اهل الريف الذين يرتادون الاسواق يخطفون عنوة ثم يرحلون الى اقرب معسكر عمل، واذا كان اغلبهم يستسلمون للمصير فان البعض منهم كان يقاتل من اجل حريته ويولي الادبار".

وسجلت مجلة نيشن هذه الحقيقة:

"ان تجنيد فرق العمال فكك عرى الاسرة بغياب عائلها ورجالها مما ادى الى زيادة الفقر وانحلال الاخلاق كما ادى سوء معاملة هؤلاء العمال الى تعرضهم للامراض وموتهم حتى اننا قد صنعنا ما عم من سخط عليها بين طبقات الفلاحين، فقد وعدنا مراعاة لشعور المسلمين الا نزج مصر في الحرب ولكننا نقضنا هذا الوعد بتجنيد فرق العمال وما كان تجنيدنا ايها على طريقة التجنيد الاجباري المنظم بل كان يجري على ايدي اعوان يتفرقون في القرى ويتصيدون العمال من هنا وهناك، وقد عاج الكرباج الذي طالما افتخر اللورد كرومر بالغائه".

ويصف الدكتور جست في 28 مارس 1919 ما رآه

"وضع نظام للتطوع ظهر عدم كفايته وصدرت الاوامر باخذ العمال من الحقول بالاكراه، والطريقة هي ان يدخل رجال الحكومة القرية وينتظرون رجوع الفلاحين الى منازلهم في الغروب فيحيطون بهم وينتقون خيرهم للخدمة. فاذا رفض احدهم هذا التطوع الاجباري جلد حتى الاقرار بالقبول وعلى هذا النحو ساقوا صبيانا من سن اربعة عشر عاما وشيوخا في السبعين
وكانت الجموع المريضة المنهكة تساق لتادية الاعمال الحربية والكرباج كفيل بتسخيرهم من غير حساب، اصبح الجلد من الاعمال اليومية، وكان المكلفون بالجلد هم اطباء انفسهم حتى ان المرضى كانوا يخافون ان يختلط الامر فينتقلون خطا من طابور المحتاجين للعلاج الى طابور المحكومة عليهم بالجلد".

ويقول سعد زغلول في مذكراته معلقا على ذلك الموقف:

"افتخر رجال الحكومة بانهم عارضوا في التجنيد الاجباري حتى منعوه، ولكن الحكام في سائر انحاء القطر اخذوا من بضعة ايام يتخطفون الناس من الاسواق ومن الطرقات ومن المساكن في القرى ويحملونهم على ان يكتبوا طلبا بالتطوع في الحملة، ومن يأبى من المخطوفين ان يختم ضرب حتى يختم، وفي بعض المراكز اقيم صانع اختام على باب المركز ليصنع ختما لكل من ليس له ختم وقد ابى الرجال في اطسا – بمديرية المنيا – فجاءتهم قوة من العساكر والخفر وساقتهم الى المركز مكبلين بالحديد
وهنا ضربوا حتى ختموا، وحدث ان بعض الاهالي في جهة فارسكور رفضوا السير مع العساكر، وحدثت مشاجرة ادت الى اطلاق النيران عليهم فقتل ثلاثة ، والسلطة تستعين في جمع الناس بكل طريقة من طرق الجبر بالاكراه، وهذا فضلا عن كونه اشد انواع مصادرة الامة في حريتها، فانه احتقار لها بانزالها منزلة الانعام السائرة".

هكذا كان الناس يساقون مكرهين الى ميادين الحروب ولنآت الآن على فكاهة ذكرها سعد في احدى خطبه فقد قال انه رأى جنديا يسوق مصريا مكبلا في الحديد فلما مثل اما رئيسه قال له من هذا؟ فرد عليه الجندي قائلا: هذا متطوع يا سيدي.

ويذكر احمد شفيق في حولياته حادثة ان دلت على شئ فانما تدل على الضيق الذي حصل بالمصريين من جراء هذا السخرة يقول:

"ان قطارا كان يقل جماعة من المتطوعين المحروسين بالجند شاهري اسلحتهم قاصدا القنطرة، فما ان ابتعد عن مدينة الزقازيق بضعة كيلو مترات حتى القى واحد منه بنفسه من القطار اثناء السير تخلصا من التطوع الذي لم يكن بالطبع بناء على رغبته فمات في ساعته".

من هذا نرى ان تموين الجيش البريطاني اصبح ضريبة اجبارية تزداد باتساع العمليات الحربية، وسارت مواكب العبيد المقيدة بالحديد والاغلال لتحارب معركة الحرية كما كان يسميها الحلفاء.

وكم من المخازي والفساد واكب هذه العملية الحربية، فكثير من العمد انتهزوا هذه الفرصة ليوقعوا باعدائهم وابناء الاسر المناوئة لهم فيخصونهم بالاختيار للعمل في السلطة، بينما يتسترون على معارفهم ويعفونهم منها وسويت حسابات قديمة على اثرها تمزقت مصر من الاحقاد والثار واتهمت الاسر بعضها البعض وسمم الفساد جو البلاد.

كما اتسعت الذمم بقبول الرشاوي وامتد خيطها من العمدة الى ماموري المراكز والضباط البريطانيين انفسهم. وبالرغم من صدور الاحكام التي تمنع قبول الهدايا الا ان الثراء انتاب الكثير من العمد بعد ان فرضوا الاتاوات ليعفوا من الذهاب الى الحرب، وساءت احوال الاسر ومضى النساء يبعن حليهن حتى يدفعن مقابل الافراج عن اولادهن وازواجهن من خدمة السلطة.

العمل الميداني

سيق المصريون الذين جمعتهم السلطة الى ميدان الحرب لا الى الميدان الشرقي فحسب بل الى الغربي ايضا، فأخذوا من الدار الى النار حرموا من وطنهم وآلهم، وذهبوا الى حيث يقومون بحفر الخنادق وتمهيد الطرق وانشاء السكك الحديدية ونقل الاغذية والذخائر وذلك لتقديمها للخط الامامي وتحت وابل قنابل الالمان وحلفائهم. وقد بلغ عددهم 100.002 عاملا حتى نوفمبر 1918.

منذ اواخر عام 1915 بدئ في استخدام العمال المصريين لمضاعفة الخط الحديدية المممتد من الزقازيق للاسماعيلية لتسهيل عملية نقل القوات والعتاد الحربي الى منطقة القناة، ثم ما لبث ان استخدم هؤلاء على نطاق واسع لبناء خطوط السكك الحديدية الخفيفة والطرق المرصوفة في الاراضي الصحراوية الممتدة على الجانب الشرقي من قناة السويس. وبذلك عبدوا الطرق ومدوا انابيب المياه وبنوا الخزانات والصهاريج واقاموا مخازن العتاد والتموين وخطوط البرق والتليفون وانشأوا التحصينات ومهدوا الاحجار والاشواك واعدوا المياه والادوات ومدوا الاسلاك فوق الرمال لتيسير قوات الامبراطورية.

فمن غير المصريين يقوم بهذا العمل؟ لقد فرض عليهم وما عليهم الا الطاعة، واصبحت القنطرة مركزا لتجمع عدد كبير من العمال، وبفضلهم غدت ملتقى هاما للخطوط الحديدية.

عقب تقهقر الاتراك عن القناة تتبع الانجليز خطواتهم في سيناء وكانت قاحلة لا ماء فيها ولا سبيل لسير الجيوش بمدافعها وعرباتها الضخمة. وهنا "ارسل الانجليز امامهم العمال المصريين والرديف المصري لتمهيد الطرق حتى اصبحت صالحة لسير السيارات ولجر المدافع الضخمة، ومدوا بجوارها الانابيب لنقل المياه الماخوذة من ترعة الاسماعيلية، وأنشأوا سككا حديدية لسير القطارات عليها، فاصبحت الصحراء هينة الاختراق بفضل العمال المصريين والرديف المصري، وصار زحف الجنود فيها مستطاعا بعد ان كان ضربا من المخاطرة".

ويؤكد كيرسي انه

"لعبور شبه جزيرة سيناء وحدها يلزم قطع مائة وعشرين ميلا على الاقل من القنطرة، وفي هذا السبيل كان من الضروري زيادة فرق العمال المصريين لانشاء الخطوط الحديدية كما كان من الضروري اعادة تنظيم حملة الخط الاول على استخدام الجمال والحمير لامكان تموين القوات في الصحراء من رأس السكة الحديدية، وهذه الاعمال كانت تتطلب وقتا لاتمامها، كما وان التقدم سيكون حتما بطيئا اذ ان سرعته ستتوقف على سرعة انشاء السكك الحديدية التي قدرت سرعة انشائها بحوالي عشرون ميلا في الشهر".

وتصف صحيفة وادي النيل المجهود الحربي للعمال "من القنطرة شرقا تجد الاستحكامات المنصوبة، وهذا الطريق البري مرصوف بالاحجار الصغيرة بواسطة الوابورات ، وحفرت الابار على الجانب المقابل للقنال حتى تتمنكن العربات الرائحة الجاية مدة عظيمة من النهار من اطفاء جيشان الاتربة بالرش، هذا هو الحال الذي عليه الطريق من الاسماعيلية الى القنطرة وللمصريين يد في تسوية الطرق واقامة الاستحكامات وهم الذين يشتغلون بالحفر لتسيير هذه الانابيب فيها".

وقد ارجع الكثير من مسجلي الحوادث الحربية ان السبب في نصر القائد "مري" في معاركه انما هو راجع الى المصريين "والفضل كله اليوم في النصر يعود الى فرقة المصريين الذين مدوا السكك الحديدية مسافة مائة ميل في الصحراء القحلة بل وتعدوا ذلك بان نقلوا الاحمال الثقيلة والغذاء والثياب والذخيرة وتلك الالات التي تتدفق الى خطوط القتال. ويعود الفضل ايضا الى القوافل القائمة بها فرقة العمال المصريين".

لقد تقدم العمال المصريون بكل همة ونشاط غير مبالين بالاخطار ، فحدث على سبيل المثال اثناء عملهم بالعريش ان استطاعت قنبلة ان تقتل وتجرح تسعة وثلاثين منهم، ورغم ذلك فلم يتوان البقية عن العمل.

وتصف صحيفة المقطم نشاط العمال المتزايد فتقول: "استخدمت انجلترا علاوة على العمال العاديين عددا كبيرا من الصناع البارعين من نجارين وحدادين وسمكرية وصناع خيام وعمال محاجر وبرادين وسائقي القطارات . وعمال هذه الفرقة يقولون ان اهم صناعة من صناعاتهم انشاء الاستحكامات. وقد أنشاوا برعاية الملاحظين البريطانيين حطا (للديكوفيل) على الشاطئ الغربي بمصر، وبنوا مخافر وعنابر، وشقوا الطرق، وانشاوا ارصفة الموانئ وبلغ من نشاطهم وهمتهم ان مائة وخمسين رجلا افرغوا تسعمائة طن من المهمات الحربية في احد الناقلات في يوم واحد وكوموها احسن تكويم.

وفي شرقي القنال فان فرق العمال انشات جانبا كبيرا من الاستحكامات الدائمة وشبكة سكك الحديد، ومدوا انابيب المياه، ويظن المرء ان مد الانابيب من الاعمال الهينة ولكنها في الحقيقة مهمة شاقة تقتضي نق لونصب الوف الاطنان من الانابيب وتمهيد الطرق.

وقامت فرق العمال باعمال كبيرة القيمة في شحن البواخر وتفريغها في الموانئ المصرية، وفي توزيع المهمات في مواضع شتى على شاطئ البحر في الشرق والغرب. ومع ان السواد الاعظم منهم لم يالف ركوب الزوارق والنقل بها ومع شدة المجاري البحرية في القسم الجنوبي الشرقي من البحر المتوسط، فقد تعلموا ان يعملوا في هذه الاحوال الشاقة ويذللوا المصاعب. وبعد ما استولى الجيش على العريش واحتلها انزل العمال المذكورين مقادير من المهمات لا تقع تحت حصر من البواخر الى البر في القسم الجنوبي من فلسطين". هذا وقد استخدم العمال المصريين في بناء المطارات أيضا.

وكان انتصار الانجليز على الاتراك في رومانه يعود الى تلك الاعمال الباهرة والخدمات الجليلة التي قامت بها فرقة العمال المصرية هذه. فقد مهدت الطرق لتقدم الجيوش البريطانية ومدت السكك الحديدية ودكت الحصو والاستحكامات ونظمت بمهارة انابيب المياه وطمرتها تحت الرمال واقامت لوازم التليفون والتلغراف ونصبتها في اماكن معينة، ونقلت ايضا المهمات والذخائر الى مساافت معينة شاسعة

وفي ارض يصعب السير فيها وبالاختصار فان فرقة العمال قامت بجميع الاعمال الهندسية الثانية فاطلق يد الجنود للقيام بواجباتهم الحربية الخصوصية، والحق ان هذه الفرقة العظيمة القيمة يحق لمصر ان تفتخر بالاعمال الباهرة التي قد قام بها ابناؤها فباعمالهم التي يستحقون من اجلها كل مديح وثناء. ثم ان البوليس المصري التابع لهذه الفرقة يستحق هو وقومندانه المصري وضباطه كل مديح وثناء، فان المحافظة على النظام بين الالوف من الفلاحين غير المدربين ليس من الهينات".

ودرات مناقشات في مجلس العموم البريطاني حول هؤلاء العمال، فكان الجميع يعترف بتلك الاعمال الفنية التي افادت الجيش البريطاني اثناء الحرب. كذلك اشاد المهندسون الانجليز في بورسعيد بمهارة العمال فهناك خطابات منهم الى المسئولين في القاهرة. اذ كانوا ياوصلون عملهم ليل نهار، وذلك لعدم امكان تزويد المدينة بعمال اكثر. وبذلك اخل العقول التي حددت مدة العمل بثلاثة اشهر في بادئ الامر ثم بستة اشهر فاصبح العامل او الجمال يدخل تحت خدمة السلطة ولا يعرف متى ستنتهي هذه الخدمة.

ويبين اللنبي فضل المساعدات المصرية في حملته على فلسطين وسوريا اذ يسجل:

"تبعت فرقة العمال المصرية منذ اليوم الاول من ايام القتال فكانت تسير وراءهم في زحفهم وتعمل بهمة ونشاط ونجاح في تحسين الطرق وقد كانت بعض فصائل هذه الفرقة تعمل في خطنا الاصلي وبهذا فان مصر مسئولة الى حد كبير عن نجاح الحلفاء في فلسطين".

واقر ملنر في تقريره بان الشعب المصري تحمل التكاليف والقيود التي اقتضتها تلك الحرب بالصبر والرضا والخدمة التي قام بها فيلق العمال المصري كانت خدمات لا تثمن ولا غنى عنها للحملة الفلسطينية".

هذا عدا البطولات التي قام بها العمال، فعلى سبيل المثال لا الحصر حدث انه في شهر مارس 1917 ان كان جندي انجليزي يسبح في مياه البحر قرب العريش فجذبه التيار وبعده عن البحر فاخذ يصيح طالبا العون. وفي الحال القى احد رجال الفرقة بنفسه واخذ معه خشبة تساعد الجندي على العوم ثم عاد الى الشاطئ وجاء بحبل طويل ثم سبح في البحر المتلاطم بالامواج حتى بلغ الجندي فاعطاه طرف الحبل وانتشله. وقد حدث ان طيارة من طيارات الالمان اغارت ليلا على احدى المستشفيات القائمة على خطوط المواصلات. وقذفت عليها القنابل، فخرجوا على الفور وساعدوا في نقل الجرحى من المستشفى الى مكان امين وعرضوا انفسهم للمخاطر.

ووصل مجهود مصر الحربي عبر البحر وليس على حدود مصر فقط. فخدم العمال المصريون في الميدان الغربي وبلغ عدد رجالهم 16.300 رجل في منتصف عام 1917. ذلك انه لما طارت اخبار نجاح العمال المصريين الى فرنسا. خاطب العسكريون فيها ولاة الامور في مصر، ومن هنا تم الاتفاق على ارسال بعذ هذه الفرق الى فرنسا لتحل محل الجنود البريطانيين ليرسلوا الى خطوط النار.

وفي مارس 1917 ارسلت بعثات العمال المصريين من مديرية جرجا للخدمة في فرنسا "فبات اهلهم على احر من الجمر منتظرين ورود الاخبار عنهم وقد زار حضرة مدير جرجا المعسكر منذ يومين فقابله جناب القائد فرأى ساعدته فرقة من العمال مستعدين للسفر الى فرنسا فخطب فيهم باذلا لهم النصح ومبينا الفوائد التي تعود عليهم من هذا السفر ماديا وادبيا ولاسيما في هذا الحين الذي اشتد فيه الغلاء طالبا لهم السلامة".

هذا ومضت الصحافة تنشر شروط الاغراء للحث والتشجيع على السفر، فكل عامل يرغب في السفر الى فرنسا يعطى بذلة، بالطو، حذاء، 3 بطانيات، 2 قميص، 2 جوارب، لباس، قميص من الفانلات هذا عدا الطعام الذي يحتوي على لحم، خضر، شاي ، لبن، سجائر، واجرة اليوم 8 قروش.

وتقول الاهرام : "نزلت في فرنسا حديثا الفرقة الاولى من قسم الاشغال المصري القادمة اليها من مصر للاشتغال باعمال مختلفة فيها اجور طيبة. وقد وصفها كاتب ممن حضروا حفلة استقبالهم في فرنسا فقال: "جاءتنا فرقة من العمال المصريين للعمل معنا هنا في اعمال مختلفة مؤلفة من رجال ممتلئين صحة وقوة ونشاطا وقد قوبلت هيئتها بلباس الحاكي على انها فرقة جد وعمل ولاحظنا على وجوه رجالها السرور بالمناظر الجديدة التي وقعت عليها ابصارهم في البلاد".

وبرهن هؤلاء الرجال على كفاءتهم فقد عملوا في جو يختلف كل الاختلاف عن البيئة التي عاشوا فيها. حضروا من اقصى صعيد مصر ليتحملوا اعباء المعيشة في فرنسا ورغم ذلك فقد اثبتوا جدارة فائقة، فقد حدث مرة في احدى موانئ فرنسا انهم فرغوا من شحن باخرة تحمل 3.000 طن من البضائع والمهمات المختلفة في اقل من ثلاثة ايام، وفرغوا مرة اخرى من احدى البواخر ستة الاف طن من الشوفان في يومين وجاء التقرير الرسمي عنهم ما نصه "وكل ما شاهدناه من اعمال هذه الفرق يشهد بالفضل للضباط وصف الضباط والرجال فيها. فانهم يؤدون اعمالهم برغبة ونشاط يبعثان على اشد الارتياح".

ولم يقتصر ارسال العمال الى فرنسا فاوفدوا الى اليونان والعراق فادوا خدمات جليلة هناك وعملوا تحت نيران القنابل والمدافع والبندقيات.

هذا بالاضافة الى الخدمة في الدردنيل، ففي شهر مايو 1915 جمعت اورطة من الاشغال مؤلفة من ستة بلوكات للخدمة في الدردنيل، وقامت هذه الاورطة مدة الاربعة الأشهر التي خدمتها في شبه الجزيرة بخدمات فائقة تحت وابل مستمر من القنابل. وذهبت طوائف من العمال الى طنوس ومدروس للقيام باعداد الطرق وتمهيدها للقوات المتحاربة، وفي سلانيك ارسل عدد كبير من العمال المصريين قدر في عام 1916 بستمائة عامل ثم ما لبث ان وصل الى سبعة الاف عامل في عام 1918 وكان عملهم هناك القيام بانشاء السكك الحديدية.

كذلك استخدمت فرق كبيرة من هؤء العمال في ميدان العراق الجنوبي، فوصولها في عام 1916 حوالي 8.280 عاملا، فخلفوا فيها اثارا من اعمالهم وصنعهم في البصرة الى بغداد. وهذا بالاضافة الى ان الانجليز في العراق رأوا ان يستعينوا بجانب من العمال المصريين على حفظ النظام والامن العام في مدينة بغداد فالفوا قوة البوليس اختاروا رجالها من العمال المصريين فقامت هذه القوة بعملها حق القيام. وبلغ العمال الذين عملوا فيها وراء البحار نحو ثلاثة وعشرون الف عامل.

لعبت فرقة الجمالة دورا مهما – لا يقل اهمية عن دور العمال – في الحرب مع انجلترا وحلفائها سواء على شرق مصر او غربها فانه حينما شرع الجيش البريطاني في تتبع الاتراك في سيناء كان الطعام والمياه والذخيرة تنقل في كل مكان على ظهور الجمال قبل ان تمد الطرق والسكك الحديدية. فان طبيعة الحرب تقضي على فصائل من الجنود ان يرابطوا في مواقع بعيدة عن الطرق المطروقة.

اذن فلابد من استخدام العدد الكبير من الجمال لايصال المهمات والمؤونة والماء اليهم. ولا يخفى ان الجمال يستهدف في بعض الاحيان لشئ من الخطر، فالماء والذخيرة من اشد الضروريات في اثناء المعارك ويغلب ان تكون الجبال الوسيلة الوحيدة لنقلها الى المواضع التي تبدو فيها الحاجة اليها. وقامت هذه الفرقة بنصيبها في كل معركة دارت في الميدان شرقي قناة السويس. وفي كل قتال حربي مع السنوسيين، ولعبت فرقة الجمالة دورا مهما في معاونة لورانس ضد الاتراك.

وفي مساعدة اللنبي في الاستلاء على العقبة، فحملوا المؤن والامدادات من العقبة للقوات العربية التي كانت تحت قيادة الامير فيصل في معان. كذلك ادى الجمالة خدمات جليلة في نقل الجرحى البريطانيين، فكانوا ينقلونهم باسرع ما يمكن وبدون خوف من القنابل والنيران التي كانت تحيط بهم.

وقد اطلع مندوب المقطم على بعض السجلات من اعمال البسالة والاقدام التي قام بها بعض الجمالة، فمن ذلك ان الامر صدر في بئر دويدار الى جانب منهم بان يصعدوا الجبال بالجمال الى تل طلبا وكان ذهابهم الى ذلك التلا ثلاث مرات من الاعمال المقرونة بالخطر، وكتب القائد يقول في ذلك ان الباش ريس عبد الله خيري سلك سلوك باهرا النهار بطوله، وقاد رجاله صاعدا الى التل في المرات الثلاث باتم نظام

وذكر القائد اسماء آخرين امتازوا في تلك المعركة التي دارت في يوم 23 ابريل 1916 – معركة رومانه – وبعد هذه المعركة وجه القوات الانظار الى ثبات الجمالة تحت قنابل المدافع وقالوا: "انهم لم يفارقوا جمالهم بل سلكوا مسلكا عظيما" وحدث مثل ذلك في رفح وبقية المدن، على ان افعال الفرقة ظهرت على اتمها في المعركتين اللتين دارتا في فلسطين حيث اثبت رجالها انهم اهل للاسم الحسن الذي احرزوه، فقد وجه قواد الفرق نظر القائد العام الى خدمات الفرقة الجليلة وشده لزومها.

وسالوا الجمالى اي مكافاة وعرض على قائد احدى الفرق اسماء سبعة وعشرين رجلا من الجمالة، وقال عنهم الضابط الذي عرض اسماءهم ان الوصف المعتاد لا يفيهم حقهم من اثناء على حسن منالهم، فقد فعلوا في كل مرة فوق الواجب المفروض عليهم، وفي مقدمة الممتازين الباش ريس عمر محمد عمر، ولكن الجمال حامد عبد الله معوض لا يقل عنه فقد ظل ستة عشرة ساعة متوالية واحدى يديه مجروحة جرحا بالغا بعد ما عضه احد الجمال.

وهناك شواهد اخرى من هذا القبيل وهي مقتبسة من تقارير القواد والضباط فقد خدم الباش ريس نور الدين سعيد خدمة عظيمة فانه رد الطمأنيننة الى نفوس الجمال وجعلهم ينطرحون على الارض بقرب جمالهم وساعد الجنود في نقل الذهيرة في الخنادق تحت نيران المدافع السريعة والبنادق والقنابل. كما عهد الى الباش ريسي عباس سعيد محمود والريس محمد عثمان في نقل جماعة من الجرحى فجاء بهم الى مكان آمن تحت نار القنابل وهما رابطا الجاش، وقد صوب الاتراك عددا كبيرا من القنابل اثناء معركة رومانه تلى نقالات الجرحى في الميدان.

فاستقر الراي على نقل كل شيء الى موضع امن ودعى الجمالة الى المساعدة وبينما هم ذاهبون بالجرحى سقطت بجانبهم تسع عشرة قنبلة وهم سائرون فلم يفر واحد منهم بل ظلوا يقودون جمالهم كانه لم يحدث حادث ما، وقد احتفل في 27 مايو 1916 بعرض بعض بلوكات الجمالة في فلسطين فوزعت عليهم المكافات والجوائز اعترافا ببسالتهم، وكان الجمالة لابسين الجلاليب الزرقاء وعلى رؤوسهم الطاقيات، وقد اجمع الذين عرفوا هؤلاء الجمالة على انهم استحقوا هذا التكريم اعظم استحقاق.

وتشجيعا للمزيد من التضحية والتفاني انعم السلطان بنوط الجدارة من الفضة والبرونز عليهم وخاصة الجرحى والذين استمروا في ممارسة عملهم تحت النيران. وهذا وقد اقر اللنبي بخدمات هذا الفيلق في برقية له لوزارة الخارجية البريطانية في 31 أكتوبر 1918 فقال: "ان فيلق الجمالة قدم خدمات قيمة ساعدت كثيرا في النصر للحملة".

وهكذا قدمت مصر اقصى ما يمكن تقديمه في هذه الحرب لصالح انجلترا. ووقع العبء الاكبر من هذه التضحيات على العمال والفلاحين الذين استخدمتهم السلطة، فقاسوا من طريقة جمعهم او بمعنى اصح خطفهم التي استمرت طيلة عامي 1917 – 1918 حتى بعد اعلان الهدنة فانتشر الرعب في نفوس الفلاحين واصاب الحزن كل منزل حيث فقد فردا من افراده واهله لا يعلمون هل سيعود ام لا، فلم تنقطع المآتم ولم يهدا الندب على تلك الالوف التي ذهبت، خطفهم الانجليز لكي يرمونهم في اتون النيران خارج بلادهم، وقد اجمع المؤرخون والمعاصرون لتلك الفترة على ان من اهم اسباب ثورة 1919 ذلك التجنيد الاجباري الذي وقع على القرى المصرية.

وبالرغم من تلك الخدمات الجليلة التي قدمها الفيلقان لانجلترا الا انهم قاسوا الامرين فقد عاشوا في ظروف غير طبيعية، وزاد الامر وبالا عليهم المعاملة القاسية التي كانوا يلقونها على يد قوات الانجليز الذين انتزعت من قلوبهم الشفقة والرحمة.

وتقول صحيفة رائد العمال الانجليزي في 3 ابريل 1919: "كان الكرباج هو الوسيلة الوحيدة لتسخيرهم، واصبح الجلد من الاعمال اليومية في معسكرات هؤلاء المجندين واي معسكرات.. لا خيام .. وسوء تغذية .. ورداءة كساء.. وقلة غطاء.. ثم امراض تفترسهم افتراسا لقد كانوا يموتون كالذباب في الصحراء، وكثيرا ما رفض السماح لهؤلاء المجندين بالعودة الى بلادهم حتى بعد انتهاء مدة خدمتهم".

هذا ويقر ملنر في تقريره عن اسباب ثورة 1919 ان المستشفيات التي كان يمرض فيها هؤلاء العمال لم تكن على ما يرام وانه كان من بين ضباطهم كثيرون يجهلون لغتهم ولا خبرة لهم بمعاملتهم. وتظلموا من اطالة مدة خدمتهم الى ما بعد التاريخ الذي تعاقدوا عليه وذلك بعد ما تولت السلطة العسكرية امر التجنيد، وقد صرح مستر تشرشل في مجلس العموم البريطاني بان الخدمة الطبية للفلاحين المصريين العاملين سواء في فرقة العمال او الجمالة كانت ناقصة وغير كافية.

وؤكد الدكتور جست في صحيفة دايلي نيوز انه

"لسوء تغذيتهم وملبسهم وعدم وجود مستشفيات كافية وراءة احوالها كانت نسبة الوفيات بينهم عالية جدا رغم عدم نشر احصاءات".

ويصفهم السير فالنتين تشيرول

"وبعد ان جند هؤلاء عاملناهم كما يعامل العمال الرخيصو الاجر عادة، فكانت اطعمتهم وملابسهم وخيامهم وفراشهم رديئة، وقال قس انجليزي ان الفلاحين في هذه الفرقة كانوا يتساقطون في سيناء وفلسطين والعراق تساقط الذباب".

وكان الرافعي شاهد عيان فيقول:

"كانوا يعاملون معاملة المعتقلين وما هم بالمذنبين يربطون بالحبال ويسافرون كالانعام ويقام عليهم الحراس وينقلون بالقاطرات في مركبات الحيوانات ويعاملون اسوا معاملة ولا يعتنى بصحتهم ولا بغذائهم وراحتهم وكانوا يوعدون بان يستخدموا لمدة محدودة ثم تمد على الرغم منهم ومات كثيرون منهم في ميادين القتال او في الصحراء في سيناء والعريش او في العراق وفرنسا واصيب كثير منهم بالامراض والعاهات التي جعلتهم عاجزين عن العمل".

وقد سئل بعض من قضى عليهم نكد الطالع بان يكونوا ضحية هذا التطوع فقالوا انهم ذاقوا الامرين وكانوا في اسوا حال، وزيد ايضا انه كان نصيب البعض منهم ان اسر في الجيش التركي شهورا او اصيب البعض بجراح اليمة.

ونشر الكاتب الامريكي مستر جورج كريل في مجلة لو جب في 27 سبتمبر 1919 عما قاساه هؤلاء العمال

"لقد سيق مليون ومائتا الفا من المصريين الى الخدمة في فرقة العمال والنقل وما يتهم به الوطنيون المصريون السلطة العسكرية ان معاملتها للعمال كانت اسوا من معاملتها لدواب النقل فقد كان طعامهم رديئا ومسكنهم فاسدا وكانت العناية الصحية بهم ضئيلة فمات هؤلاء المجندون التعساء كالذباب، وكلما قضى منهم نفر وخلا بموتهم مكان ساق الكرباج الالاف غيرهم ليحلوا محلهم. ودم هؤلاء الرجال هو الذي يجري بين مصر وانجلترا اليوم. وقد تعرض هؤلاء العمال للنار وهم يحفرون الخنادق وينقلون المؤن والذخائر على خطوط القتال".

ويصف الجود ظروف العمل يقول:

"الشهور الأولى من عام 1916 لم يكن لسائقي الجمال زي خاص بهم، وان كانت قد صرفت بطانية واحدة لكل منهم. وبهذه المعدات الوهمية تحمل الرجال مشاق الحملة في سيناء".

ثم اشار للظروف الجوية القاسية

"ان فلسطين في الشتاء ليست بالبلد الذي ييسر القيام بحملة مريحة في اراضيها. وعمليات النقل بالدوات في مثل هذا الجو الذي لا يرحم تتم في اقسى الظروف، فالوحدات المقاتلة يمكنها ان تتوقف حتى تتحسن الظروف الجوية ولكن قوافل التموين لا يمكن ان تتوقف لتاخذ قسطا من الراحة..
وكانت الامطار الغزيرة تضيع معالم المدقات وتجتاح مسافات طويلة من خطوط السكك الحديدية فتقتلعها، ولا يكون ثمة مفر من تعطيل كافة وسائل النقل الميكانيكية وهنا ياتي دور الجمال لتحمل عبئها ولقد تمكنت قوافل الفيلق من اداء مهتمها بفخر في هذه الظروف ، وكم من قوافل صارعت العواصف وهي تحمل التموين الى الخطوط الامامية وكثير من الرجال والدواب والجمال لقى حتفه دون رحمة على الطريق.. لقد كان هذا الفيلق بحق مخلوقا فريدا".

وهاجمت الحمى فرقة الجمالة التي كانت تعمل لمساعدة الامير فيصل، وكثر المصابون بالتيفوس والدوسنتاريا، ورغم ذلك فقد كانوا يقومون بمهامهم ، وانتشرت الكوليرا وكثرت الاعداد المصابة بها لدرجة انهم حينما عادوا الى مصر نقولها معهم، كما مات الكثير من جرائها من الرديف في الميدان.

وبناء على ذلك اصدرت الحكومة المصرية في 29 يونيو 1921 بلاغا رسميا يتبين منه ان العمال الذين لاقوا حتفهم وهم قائمون بخدمة الانجليز واصيبوا بجراح وعاهات مستديمة وبعجز تام او جزئي عن العمل ستصرف لهم مكافأت ومعاشات واعتبر ذلك هبة ممنوحة مع انها حقوق واجبة، هذا وقد كانت المبالغ التي قدمت بسيطة للغاية.

وفي ملفات اذونات المعاشات لعمال السلطة يتضح ان ما انيط اليهم من اعمال قد سببت لهم عاهات واصابات مستديمة وهم يطالبون بالتعويض، فعلى سبيل المثال لا الحصر فالجمال، منصور شحاتة، ارسل لقومندان قلم تعويضات حملة الجمال اللفتنت همفورز يطلب التعويض على عينه التي فقدت اثناء عمله كتربي

وكذلك طلب تعويضا من يدعى محمد ابراهيم العامل بالسلطة الذي اصيب باصابة مستديمة وطلب سعد كريم حسن الذي يقول في طلبه "افندن اني كنت شغال تبع الريس عبد القادر سالم رئيس طلبة نمرة 816 بالسلطة العسكرية بالقنطرة، ونظرا لاني مكثت شغالا بالاتربة حتى عجزت بصري في عيني الاثنين وذلك من عناء الاشغال بالسلطة، وهو الاخر يطلب تعويضا عن اصابته.

واصاب الموت الكثيرين على اثر اعمالهم الشاقة هذه، ففي شكوى من والد يطلب تعويضا عن ابنه – المدعى فريد عبد القادر – الذي مات اثناء قيامه بخدمة االجيش الانجليزي ، وانقطعت اخبار البعض من الذين وقعوا تحت يد السلطة.

وتروي المقطم عن الذي قاساه الجمالة على لسان احد الضباط الانجليز: "جرح جمال احمد يونس في راسه ولكنه ظل مع جماله ولم يذكر شيئا عن جرحه حتى حططنا الرحال في محلة اخرى على بعد ميل من محلتنا الاولى. وبعد سبع ساعات من جرحه، وقد كان هذا الجرح بالغا، كما تبين من الكشف الطبي واضطر الجراحون ان يستخجروا احدى عينيه ويعملوا له عملية جراحية كبيرة في الجمجمة". واما هذه الشدة في العمل وهذا الضغط المتزايد حاول بعض الجمالة الفرار وترك عملهم مما قاسوه، وشاركهم في ذلك بعض من العمال والرديف المصري وامتلأت الصحافة باعلانات الهروب.

وتعددت الاصابات حتى في فرنسا من جراء الظروف المناخية القاسية لتراكم الثلوج وعدم تحمل المصابين لها، كذلك ارتفعت نسبة الوفايات العاملين في طنوس ومدروس.

ومن الغريب فعلا ان اهل مصر من ذوي اليسر يقدمون خدماتهم للانجليز عن طريق دفع الاعانات للصليب الاحمر ويهملون من كان منهم فلم يساعدوا هذه الفرق الامر الذي جعل كاتبة انجليزية تقول: "لقد عرفنا من مزايا اهل مصر انهم اذا دعووا لمبرة عامة يظهرون بمظهر الكرم والاريحية ويكتتبون بسخاء للاعمال الخيرية النافعة مثل خدمة الصليب الاحمر والاعانات الخاصة ونحو ذلك، وكثيرا ما نرى منهم عطفا على المنكوبين والبؤساء ومن الغريب والحالة هذه انهم لم يهتموا الاهتمام الواجب باخوانهم رجال فرقة العمال المصرية المشتغلين بالاعمال العسكرية انهم يستحقون كل عطف ومساعدة".

وكانت رحلة العودة لمن كتبت له اصعب من الرحيل امتلات بالعذاب والمشقة واللهفة والحنين لارض الوطن بعد ذلك الحرمان الطويل والغربة القاسية والتي انعسكت فيما رددوه من كلمات فاضت بالشوق والحب لمصر.

جمع الدواب

وكما جمعت السلطة الرجال لم تبق على جمل او حمار او حصان الا واستولت عليه لصالحها. وطبقت نفس طريقة جمع العمال على الحيوانات. "وكان كل ذلك يجري بمساعدة رجال الحكومة بل بناء على اوامرهم وبضغطهم على الاهالي فكانوا يسارعون الى ارهاق الاهالي لخدمة السلطة العسكرية ويتفانون في اظهار الهمة في تلبية طلباتها كل فيما يخصه فالمدير يتلقى الامر من وزارة الداخلة بجمع عدد مخصوص من الدواب

والمامور بدوره يفرض على كل بلد او قرية ما يخصها من القدر المطلوب، فيقوم العمدة بجمع ما طلب منه من افراد الاهالي كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وكان هؤلاء الحكام من المدير الى العمدة الى الخفير يستعمل كل ما اوتي من حول وقوة وما منح من سلطان للحصول على ما فرض على مديريته او مركزه او قريته. بل لقد تعدى بعضهم حدود العدالة في تنفيذ تلك الاوامر حتى ان البعض استعمل هذه الظروف سبيلا لجمع الاموال من الناس واكلها بالباطل".

وكان على العمدة والمشايخ في كل البلاد ان يقدمون للسلطة كشفا وافيا يشتمل على عدد الجمال والحمير واسماء اصحابها، وخضع ذلك لرقابة صارمة وقبض على عدد كبير منهم لاخفائهم بعض الجمال والحمير، وعلى سبيل المثال، فقد تستر العمدة عبد الرحمن التميس عمدة اسيوط على اغنياء البلد ولم يذكر في تقريره من الجمال والحمير الا النذر اليسير خوفا من انه اذا قدم جمال غيره يضظهر هو الاخر الى ذكر جماله وحميره.

وفي حقيقة الامر فانه منذ ان بدات الحرب كان لابد من الاستيلاء على قطعان من الجمال حيث احتاجت اليها القوات البريطانية لنقل المهمات. وهنا بدات السلطة تجمع الجمال من المديريات وفي بادئ الامر جعلت اجرة الجمل الواحدة خمسة عشرة قرشا يوميا، ولم يمض شهر فبراير 1915 حتى كانت قد جمعت الفين ومائتي جملا.

هذا وقد اعترف لويد بانه

"مما اغضب المصريين الحاح السلطات البريطانية في طلب الجمال والحمير لاستخدامها في سلاح الهجانة اذ تعتبر الدابة بالنسبة للفلاح شيئا مقدسا وحتى شرعية الطلب لم تخفف من غضب الناس كما لم تقلل من متاعبهم".

ورغم الاعداد الكبيرة التي جمعتها السلطة الا انها دائما كانت تحتاج الى المزيد، فعانى الفلاحون كثيرا من فقدان دوابهم اللازمة لهم – وقد اسيئ الى الزراعة بجمع هذه الدواب – ففي عام 1917 اشتدت الحاجة الى استخدام الجمال في النقل الحربي، ووجدت اللجان المكلفة بالشراء من قبل الجيش صعوبة كبيرة في الحصول على العدد اللازم من الجمال، بل ان المنشورات السرية التي ارسلتها الحكومة الى المديرين لحثهم على بذل جهود قوية في هذا لسبيل لم تحدث نتيجة سوى نشر الظلم، فكبار اصحاب الاراضي وشيوخ القرى كانوا يتمتعون بميزة الاعفاء والفلاحون والفقراء هم الذين كان عليهم ان يقدموا جمالهم.

واظهرت الحكومة كرما في معاملة السلطة العسكرية حيث فتحت وزارة المالية في 25 أغسطس 1917 بعض الاعتمادات للمديريات لابتياع الحمير اللازمة للسلطة، وقالت الحكومة في بلاغها ان الغرض من ابتياع هذه الحمير "انها لازمة للخدمة اليومية" ثم صدرت الاوامر للمديريات بان ينتقي المفتشون البيطريون الحمير الصالحة للعمل، وان يقدروا اثمانها التي تدفع من خزانة المديرية من الاعتمادات المفتوحة.

وتبع ذلك ان نشرت السلطة العسكرية اعلانا في 26 نوفمبر 1917 امرت فيه جميع المصريين ان يقدموا دوابهم، واصبح غير مصرح لهم بالتصرف فيها او حتى نقلها. وفرضت العقوبة على من يخالف تلك الاوامر. وازدادت حركة المصادرة لاعز ما يملكه الفلاحون. واقر ملنر في تقريره ان ما تم في هذا الامر كان من اهم اسباب ثورة المصريين عام 1919.

ولعبت الحكومة دورا مهما في تقديم الدواب للسلطة العسكرية وفي الضغط على الناس كما كان دورها في جمع الرجال للسلطة. ووقف الوزراء اوقاتهم لجمع الدواب للسلطة العسكرية، وتحملت هي التكاليف ذلك ان السلطة استولت ايضا على ركائب المهندسين التي وجدتها صالحة للاستعمال. وهنا كان على الحكومة التعويض لهؤلاء، وعلى سبيل المثال فقد وافق مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 23 فبراير 1918 على اعطاء عبد المسيح فهمي وحسين كامل ماهر وكامل ميخائيل، المهندسين بري الفيوم مصاريف الركائب التي يتكبدونها بسبب استيلاء السلطة العسكرية على ركائبهم.

وفي بداية عام 1916 كان هناك 20000 جمل مستخدمة في الحملة المصرية، وفي اواسط 1917 ارتفع العدد الى 35.000 وقسموا الى مجموعات حوت كل مجموعة على 2.000 جمل، وهذه المجموعات عملت في خط النقل الاول تنقل الاحجار وتحضر الامدادات.

وجمعت الجمال من مختلف المديريات، فكان نصيب البحيرة 2.526، الغربية 4.218، الدقهلية 1.560، المنوفية 2.740، الشرقية 5.817، القليوبية 2.096، الجيزة 1.436، الفيوم 1.201، بني سويف 1.380، المنيا 2.106، اسيوط 3.543، جرجا 2.363، قنا 2.084، أسوان 353، القاهرة 203 ، الإسكندرية 86، الاسماعيلية 33، وبناء على ذلك قلت الجمال وارتفعت الاسعار بمعدل ثماني مرات عما كانت عليه قبل الرب. وبلغ من جبروت السلطة انها بعد الحرب ارادت ان تبيع ما تبقى من الجمال للمصريين باسعار قدرتها وفق مصالحها.

اما بالنسبة للحمير فكانت لها منفعة تامة، وقسمت الى اربع مجموعات كل منها تحتوي على 2.000 حمار عملوا بكل طاقتهم مع المصريين في خطوط القتال.

مصادرة الأقوات

جاء بعد ذلك دور مصادرة الحبوب والمنتجات المصرية بالقوة لصالح السلطة العسكرية وقد كانت هذه المصادرة من اسباب ثورة 1919.

استولت السلطة على كل ما يلزمها من منتجات زراعية بالسعر الذي ترتضيه هي ، وما بيد المصريين غير التسليم بالامر الواقع وتقديم فروض الطاعة والولاء، فان هناك سلطة اكبر تجبرهم على ذلك الا وهي سلطة الحكومة المصرية التي كانت طوع السلطة العسكرية، فيقول عبد الرحمن فهمي: "وضعت السلطة يدها على كل ما تنبته الارض من قطن وكتان وحبوب في مقابل اثمان تحددها السلطة بنفسها لنفسها وتلزم الناس بقبولها ، وياليتها كانت تاخذ ما تحتاج اليه هي وحدها بهذه الطريقة الجائرة .. انها كانت تاخذ هذه الاشياء باثمانها الضئيلة وتبيعها لدول الاخرى بالاثمان الغالية، فكانت بذلك شر وسيط وانهم تاجر".

وكان على كل فرد ان يقدم ما ملكت يده من غلال وحبوب والا عرض نفسه لخطر المصادرة والقبض والمحاكمة، "وهكذا اخذت غلال البلد ومحاصيلها وسلموا للسلطة العسكرية بابخس الاثمان، وكان لهذا العمل رد فعل ترك الاهلين في ضنك وعطل اعمالهم وعاد عليهم بكل الاضرار".

ويقول ملنر

"والاهال الذين لم يكن عندهم حبوب اضطروا الى ان يشتروا المطلوب منهم باسعار السوق العالية ويقدموه باسعار المصادرة الواطنة".

هذا منعت الحكومة في بداية الحرب تصدير المواد الغذائية حرصا منها على كفاية متطلبات السلطة لتموين جيوش الامبراطورية وليس حرصا منها على الشعب المصري الذي يعاني من الظروف التي خلقتها الحرب على اقتصادياته".

ومثلت الحكومة دورها في الضغط على الشعب فكان

"المدير يتلقى الامر من وزارة الداخلية بجمع عدد مخصوص او كمية محدودة من الحبوب، فيفرض هذا على كل مركز من مراكز مديريته كمية من القمح واخرى من الشعير او التبن او الدريس.. والمامور بدوره يفرض على كل بلد او قرية ما يخصها من القدر المطلوب منه، فيقوم العمدة بجمع كل ما طلب منه من افراد الاهالي كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم
وكان هؤلاء الحكام من المدير الى العمدة الى الخفير يستعمل كل ما اوتي من قوة وحول وما منح له من سلطان للحصول على ما فرض على مديريته او مركزه او قريته، بل تعدى بعضهم حدود العدالة في تنفيذ تلك الاوامر، والبعض استعمل هذه الظروف سبيلا لجمع الاموال من الناس واكلها بالباطل، كما ان بعض ذوي الامر كان يتخذ من هذه السلطة واسطة للانتقام من اعدائهم حتى فسدت نفوس بعض الحكام والمحكومين على السواء".

وكان موقف العمد من هذه المسالة كموقفهم من مسالة جمع انفار للسلطة فجعلوا الجمع ضريبة على المزارعين، فمنهم من فرض على اهل بلدته مثلا مائة اردب واضطرهم الى شرائها من الجهات الاخرى البعيدة، فنتج عن ذلك ان ارتفع ثمن الشعير الى 400 قرش للاردب كما حدث في بلدة اتليوم مركز ملوي.

وهكذا جعل الانتاج الزراعي في خدمة انجلترا وجيوشها. ومن اجل هذه الغاية زيدت مساحة الاراضي التي تزرع حبوبا وانقصت المساحة التي تزرع قطنا لتموين تلك الجيوش المتدفقة على مصر ويصف سعد الحالة فيقول: "وحددت ثمن الاقطان بابخس الاثمان، وكذلك بقية المحصولات واساءت في الزراعة بجمع الدواب والانفار للحملة وحجزت على الزارعين الا يتصرفوا في محصولاتهم حتى تستولي السلطة مطلوبها منها".

وبهذا اجبرت مصر على ان تمد الجيش البريطاني بالمؤن وبجميع متطلباته، وقد علق محرر صحيفة رائد العمال الانجليزي على ذلك بقوله: "فارتفعت اثمان الحاجيات بمصادرتنا للمحصولات الزراعية، فعم الغلاء، واصبح العيش متعسرا، واجور العمال كما هي، فساءت حالة الفقراء والعمال بدرجة عظيمة لم تتمالك الصحف رغم الرقابة الحربية من الاشارة اليها، فهل بعد هذا نستغرب اذا بلغ الكره لنا والحقد علينا مبلغها في قلوب المصريين".

احتكرت السلطة الدريس، ففي 11 نوفمبر 1915 اصدر القائد العام لجيوش الامبراطورية امرا لوزارة الزراعة المصرية لتوريد كافة الدريس الى الجيش البريطاني. وحسبنا بهذا العمل اعترافا من الحكومة بتقديمها كل ما استطاعت من المساعدات للجيش المحارب في مصر رغم ما اعلنه الانجليز انفسهم من انهم لن يلجأوا الى ذلك.

وتحججت الوزارة بان الزراع المصريين لم ينتفعوا حق الانتفاع ببيع الدريس للجيش البريطاني. بل اختص الوسطاء انفسهم بارباحه "لهذا ارتأت السلطة العسكرية رعاية لمصلحة الزراع المصريين ان تشتري منهم راسا الدريس المطلوب للجيش على يدها وانها ستعين من وقت لاخر الثمن الذي تشتري به الدريس وتعقله في الاسواق بين القرويين وتنيب شركة الاسواق عنها استلام الدريس وشحنه وتصديره".

وفي 16 أغسطس 1917 رات السلطة ضرورة ايجاد كل السبل لتسهيل زراعة الحبوب والزيادة منه لتموين جيشه، فاحتكرت السلطة ايضا محصول الذرة الخضراء لمعسكرات الجيش في القاهرة والإسكندرية وضواحيها، وحدد المقدار الشهري الذي على كل مدينة ان تقدمه، فالقاهرة كان عليها ان تقدم 2.500 طن انجليزي والإسكندرية 2.000 طن انجليزي.

واستمرارا لتلك السياسة اصدر القائد العام للقوات البريطانية في نوفمبر 1917 امره بالحصول على المؤن اللازمة للحملة بالاسعار الرسمية. وتحددت بابخس الاثمان، وانتشر رجال الحكومة ينقبون في منازل الفلاحين ليستولوا على مطالبهم وان صادف ودفعوا فالاسعار زهيدة.

وعندما اجتاحت السلطة للتبن رات الحكومة ادخاله في التسعيرة حتى تستولي عليه السلطة بثمن محدود فيقول سعد: "واحتاجت السلطة الى التبن بعد ان قرر مجلس الوزراء ادخاله في التعريفة .. ان الحكومة تدخل الصنف في التعريفة لا رحمة بالناس ولكن لكي تتمكن السلطة باخذه بالثمن المحدد في التعريفة المذكورة فويل لقوم امورهم بايدي غيرهم".

وفي اواخر عام 1917 بلغ التبن المطلوب للسلطة العسكرية من البلاد 530.000 حمل، فقسمت هذه الاحمال على الاقاليم، ويصول لنا سلامة موسى الامر: "كان معظم النقل في الحرب على الخيول الاسترالية، وكانت ضخمة يعلف الحصان منها بضعف ما يعلف به حصان من خيولنا ولذلك ان التبن والشعير يخطفان من الريف".

كذلك راى مجلس الوزرارء اعفاء رسم السكر المصنوع – المكرر – اللازم للسلطة العسكرية ، لكن سكر الاهالي وضعت عليه الرسوم. كما احتكرت السلطة كل انتاج البطاطس لتمون به جيوشها، فحرم شعب مصر من اكل البطاطس هذا في الوقت الذي امتنع فيه وروده من ايطاليا عقب دخولها الحرب.

وتبع ذلك احتكار السلطة لبذرة القطن في عام 1917-1918 ، وقد عينت لجنة عرفت باسم "لجنة مراقبة بذرة القطن" لكي تتولى شراء وتخزين وشحن بذرة القطن عن محصول 1917-1918 لحساب حكومة جلالة ملك بريطانيا.

كما انشئت لجنة اخرى لمراقبة القطن مؤلفة من الانجليز تعاونها لجنة استشارية تمثل مخازن التصدير ومزارعي القطن والبنوك وتتولى لجنة مراقبة القطن شراء القطن من محصول 1918 بسعر حدد ب42 ريالا للقنطار على "ألا يسمح الا بتصدير القطن الذي اشترته اللجنة وان تلغى الرخص التي اعطيت من قبل ما عدا رخص القطن المودع الموانئ"، وكان تحديد الاسعار خسارة كبيرة على المصريين، ومما زاد الامر صعوبة احتكار انجلترا لمحصول القطن عام 1918.

كذلك وضعت مادة زيت البترول تحت تصرف السلطة العسكرية ومنه اي شخص من اقتنائه الا بشروط قاسية ولمدة محدودة جدا وبكمية صغيرة.

وكثرت مصادرات الاهالي عندما تسعر انها في حاجة الى المزيد، ففي 4 مارس 1918 اصدر اللنبي بلاغا:

"حيث اننه قد حصل تاخير في استيراد الكميات اللازمة من الذرة الشامية والرفيعة (العويجة) للسلطة العسكرية ولضمان الحصول على المقادير المطلوبة من الجهات المختلفة بالقطر بطريقة عادلة نعلن: كل شخص يملك ذرة شامي او عويجة عليه ان يخطر مامور المركز التابع له بما في حيازته منها
وذلك في ظرف عشرة ايام من تاريخ هذا الاعلان، وهذا الاخطار يجب عمله بواسطة عمدة البلد، ويمكن للمالك ان يخطر المامور مباشرة بعد ابلاغ عمدته بذلك، وكل من يتاخر عن اخطار المركز بما لديه من الذرة يكون جميع ما يمتلكه منها عرضة للمصادرة، فضلا عن تعرضه للمحاكمة امام مجلس عسكري، والعمد مسئولون عن تنفيذ ما جاء بهذا الاعلان كل فيما يختص بالبلاد التابعة لعموديته وعن مراجعة البيانات التي تقدم بواسطتهم وعن صحة ما جاء بها بوجه عام".

وفي اول ابريل 1918 امرت السلطة العسكرية العمد بالمحافظة على الاجران بمنع المزارعين من التصرف في محصولاتهم وبان يخزنوها عند العمد حتى تاخذ السلطة حاجتها من الحبوب على اختلافها، وبذلك توسط العمد بين الفلاحين والسلطة، واطلق ايديهم للتحكم في الفلاحين باسم الجيش. وقلق الفلاحون لان العمد لا توجد لديهم مخازن تسع المحصولات ولانهم يجهلون مدة التخزين، وهم في اشد الحاجة الى اثمان حبوبهم، هذا في الوقت الذي جاء فيه موعد دفع الضرائب التي لم يدفعونها من ثمن المحصول فاضطروا الى بيع ما يمتلكون بابخس الاثمان بل واستدانوا بالربا الفاحش.

واستولت السلطة على الاشجار لتنتفع باخشابها وتغطي احتياجاتها منها، وامتدت يدها لتستحوذ على النشارة، فكثرت الطلبات عليها لحاجة الجيش لاستخدامها، واستغلت السلطة المصريين حتى في اعمال الرقابة على مراكب الصيد بالمياه المصرية، وفوق ذلك فانها استولت على معظم المراكب الشراعية التي رات انها في حاجة الى استعمالها.

الخدمات الصحية

قدم اطباء مصر خدماتهم للجيش الانجليزي فتواجدوا على الحدود وقاموا بكل ما انيط اليهم من اعمال، وازداد الطلب عليهم وعرضت لهم المشجعات، وكان التعاقد معهم مدته ستة اشهر لكي يخدموا في فرقة العمال المصريين، وتحملت الحكومة ايضا نفقاتهم، فاصدر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 27 فبراير 1917 موافقته على منح المستخدمين الخارجين عن هيئة العمال والملتحقين بجيوش الحلفاء نفس الامتيازات الممنوحة للموظفين الدائمين، وذلك بان تعطي لعائلاتهم اعانة توازي ثلث مرتباتهم، وان تحسب لهم المدة التي يقضونها في تلك الجيوش من المدد التي يستحقون عليها المكافأة.

كذلك ساعدت وتعاونت الحكومة على خلق المستشفيات لاستقبال جرحى القوات البريطانية ووضعت تحت تصرف السلطة مباني كثيرة لتكون مستشفيات للجنود، ففي جميع مدن مصر وجدت هذه المستشفيات وازدادت في منطقة القناة – الاسماعيلية، القنطرة، الكوبري، بورتوفيق، بورسعيد، رومانة، المحمدية – حيث الجبهة الحربية، وحولت السلطة في الزقازيق المدارس الى مستشفيات، وانتقلت المدارس الى اماكن اخرى، كذلك حولت مباني كثيرة في الإسكندرية كانت مدارس وفنادق الى مستشفيات لاستقبال جرحى غاليبولي.

وخصص كازينو سان استفانو كمستشفى عسكري لانزال المرضى والجرحى الهنود فيه، وعلى طول النيل حتى اسوان اصبحت الفنادق الفاخرة مستشفيات لخدمة الجيش البريطاني، هذا بالاضافة الى المستشفيات الاصلية فعلى سبيل المثال "اعطيت استبالية الجيش بالقاهرة بكامل معداتها الى فرقة النيوزيلانديين".

وذكر مراسل التايمز بالقاهرة بان "مصر تلقت آلافا عديدة من جرحى البريطانيين ومرضاهم الذين استفادوا من مناخها الصحي ، وان المستشفيات ودور النقاهة فتحت في جميع انحاء البلاد، وقد انفق المصريون على بعضها ولطالما تقدموا بالعطايا الجزيلة وقدموا الهدايا المسهلة للراحة، كما قدموا هبات من أثاث وغيره".

وقدم المصريون للجرحى ايضا المساعدات الكثيرة، على سبيل المثال، قدمت جمعية الهلال الأحمر المصرية للسلطة العسكرية قطارات مجهزة بكل ما يلزم لراحة الجرحى ، ومن اموالها كانت تساعد في اقامة المستشفيات ايضا. الأموال للصليب الأحمر

وكما حدث في جمع الرجال والدواب رؤي انه من المضروري استنزاف الشعب المصري بامتصاص الاموال منه، ومنذ بادئ الامر عملت الحكومة المصرية على تلبية رغبة السلطة العسكرية في ضرورة اسهام المصريين في جمعية الصليب الاحمر وفرسان القديس يوحنا البريطانية وحث الناس على ذلك وجندت الصحافة لدفع عجلة التبرعات

واهتمت السلطة الانجليزية بذلك الامر وراح مكماهون يخطب بين القاهرة والإسكندرية للاكتتاب للصليب الاحمر:

"انتم تعلمون ولا ازيدكم علما ان الاجتماع الذي اتشرف برئاسته اليوم قد عقد بقصد اعلام الجمهور بالدعوة العامة التي اصدرتها جمعية الصليب الاحمر البريطانية حاثة الجمهورة على الاكتتاب لاعانتها، كما نستطيع الاستمرار على القيام بالمبرة الجليلة التي اخذت على نفسها القيام بها في انحاء القطر.
وتذكرون انه عقد في الإسكندرية اجتماع من هذا القبيل واني توسعت في الكلام فيه على الجهود العظيمة والاعمال الجليلة التي تقوم بها جمعية الصليب الاحمر في كل مكان... ان جمعية الصليب الاحمر في احتياج الكثير من المال، ومهما تكن خزائنها فائضة بالمال فلابد من مال جديد تنفقه في سبيل مبراتها وخيراتها الى ان ينتهي اجل القتال".

ويقول سعد زغلول في مذكراته:

"شرع السير مكماهون نائب الملك في اكتتاب عام بالقطر المصري لجرحى الحرب البريطانية، عقد لذلك احتفالا بالإسكندرية واخر في القاهرة خطب في كل منهما خطبا طويلة في بيان مزايا الصليب الاحمر والخدمات التي يؤديها، وان الحاجة الى المال انما هي للامور الكمالية التي تسلي الجرحى لا للوازم الضرورية التي تقوم الحكومة بتوفيرها على غاية ما يرام. وما ان بلغت هذه الدعوة الاقاليم حتى قاموا يحثون الاهالي على الاكتتاب حتى بلغ المجموع مبلغا عظيما قدرناه بمائة الف جنيه على التقريب. ولكن الذي ساعد على ذلك الاقبال هو الرهبة من الاحكام العرفية وتنفيذها وان لم يهدد بالاحكام فعلا".

واقيمت الحفلات لصالح الصليب الاحمر والقديس يوحنا، وقد كان المصريون انفسهم في ذلك الوقت في حاجة ماسة الى المعونة، وليس من العدل ولا من الانسانية ان يحض الناس على التبرع لجرحى الانجليز في حين ان فقراء الامة من العمال المتعطلين وغيرهم كانوا على حالة كبيرة من الجوع والبؤس.

وتقول صحيفة مصر:

"تلقت الوزارة كثيرا من رسائل الاستفهام من اعيان مصر الذين يرغبون في الاعراب عن عطفهم على انجلترا وميلهم للتبرع للصليب الاحمر الانجليزي والبنك الاهلي يقبل التبرع لجمعية الصليب الاحمر، وفي الوقت نفسه تقول الوكالة البريطانية ان القطر المصري مني بتاثير من الحرب، وان الضيق المالي ترك كثيرين من الناس بلا عمل واوقع ضيقا وضنكا في جميع انحاء البلاد ويحتمل ان يدون ذلك. وترى الوكالة ان يوحد المصريون جميعهم مساعيهم لاسعاف اخوانهم ومواطنيهم بتنظيم الاعانات لتخفيف وطاة الضيق والضنط في القطر المصري".

واتبعت طريقة الاجبار وذلك لتدبير الاموال اللازمة التي لم يتيسر الحصول عليها بطريق التبرع. واستعملت وسائل الاكراه، ففرض على كل مدينة وكل قرية ان تدفع مبلغا معينا من المال، ومارس حكام الاقاليم الضغط بوسائلهم الخاصة والمعهودة على مرءوسيهم الذين ارغموا الشعب على دفع الاموال بتهديدهم بالويل والتبور على يد الحكومة اذا لم يجمعوا المقرر جمعه "وقد كان الجمع من صغار العمال والباعة والفقراء الوطنيين، اما الغنياء والتجار الاجانب الذين اثروا بسبب الحرب والذين استفادوا من الاشتغال مع السلطة كانت تبرعاتهم بسيطة".

وكانت الصحف تنشر يوميا قوائم طويلة باسماء المصريين المتبرعين للصليب الاحمر غير ان هذه القوائم لم تكن حقيقية كما يقول احد المعاصرين لتلك الاحداث. ويقول ملنر في تقريره: "اما تفويض جمع المال الى موظفين محليين من المصريين فكان من شانه فتح باب المذكرات والمساوئ المؤدية الى زيادة التشديد على الفقراء الذين كرهوا الحرب جدا لاسباب اخرى كثيرة". كما بين ان الاكتتاب للصليب الاحمر كان من اهم عوامل تفجير ثورة 1919.

وعبر الشاعر عبد الحفيظ الاسيوطي عن سخط الشعب لاغتصاب امواله باسم الصيب الاحمر فقال:

ولو اننا استطعنا بذلنا جهدنا بالاكتتاب وعنه لا نتاخر

العين تبصر والاكف قصيرة فاذا تاخرنا فانا نعذر

من لم يجد يا قوم قوت عيال اولى بعطف المنصفين واجدر

وبلغ ما دفعته مصر للصليب الاحمر 320.000 جنيه جمعوا قسرا ولم يكتف بذلك بل تعداه بحث الناس على الاكتتاب لانشاء تمجيد وتخليد لكتشنر اذ كتب وزير الداخلية للمديرين بشان ذلك وانتخب من كل مديرية عضو ليراس لجنة الاكتتاب.

المباني والأراضي

وامتدت ايدي السلطة الى اراض ومبان كثيرة في انحاء مصر وذلك لخدمة اغراضها العسكرية، فعندما احتاجت السلطة لمد الخط الحديدي بين الاسماعيلية والزقازيق اصدر القائد الاعلى لجيوش بريطانيا في مصر نزع ملكية الاراضي التي ستنشئ فيها السكك الحديدية.

واستولت السلطة على ممتلكات الافراد فانتزعها منهم، وصرحت في بادئ الامر انها ستعوضهم، فنشر قلم المطبوعات هذا البلاغ:

"طبقا للتعليمات الواردة من وزارة الحربية وبمشاركة جناب المرخص البريطاني قد عين جناب القائد العام للجيوش البريطانية في القطر المصري للاشخاص الاتية اسماؤهم اعضاء لمجلس التحكيم الذي سيناط به البحث في جميع المسائل والشئون المتعلقة بالايجارات والتعويضات المقتضى اعطاؤها عن المنازل والاملاك التي استولت عليها السلطة العسكرية" ولكن لم يتم اي تعويض.

وتنازلت الحكومة المصرية مجانا الى الحكومة البريطانية عن اراضي مساحتها 4203 م2 بجهة جاردن سيتي بالقاهرة قدر ثمنها بمبلغ 1209 ج.م لتكملة مباني دار الحماية.

وفي مارس 1917 قررت القوة الجوية الملكية البريطانية احتلال منطقة ابي قير وجعلها محطة جوية بريطانية. والامير عمر طوسون يملك فيها اماكن واسعة وكان ينتفع بها الى ما قبيل الحرب انتفاع المالك الحر بملكه الخاص، فلما نشبت الحرب رات السلطة العسكرية ان الاراض التي يمتلكها واقعة في مكان حربي فتوصلت الى ان تستولي على 479 فدانا من ملكه، ووضعت يدها عليه ثم تابعت الاستيلاء على حوالي 89 فدانا، بما عليها من اشجار ومباني اصبحت "في حيازة وزير حربية جلالة الملك وملكا له"، وعلى الفور عينت لجنة لتقدير الثمن، ومضت احتجاجات عمر طوسون.

هذا وقد قاست مصر الامرين من الحرب وتلقت الكثير من مبانيها وتعددت الضحايا وذلك بوصول الطائرات الالمانية والقاء قنابلها فوق القاهرة في الاحياء الماهولة بالسكان ومحال العمل، وعلى المدن الساحلية في الإسكندرية ورشيد ومدن القناة في السويس وبورتوفيق وبورسعيد فتقول الاهرام: "قامت الطائرات الالمانية بغارة على بورسعيد والقت القنابل على حي العرب وبعض المنازل الخاصة فسقطت احدى القنابل على مدرسة، والقت قنبلة على كلية الفرير، والقت ثالثة على الشارع الاكبر في اول حي العرب، فسقطت على قهوة تدعى قهوة البسفور، وقتلت وجرحت جميع الاهالي، وكان جميع القتلى من الوطنيين، وقد كان منظر الشارع حين حدوث الغارة مما يفتت الاكباد".

الزام المصالح والهيئات

جندت كل المصالح الحكومية وغير الحكومية لمتطلبات السلطة العسكرية حتى ان الجنرال ماكسويل قد اعرب في برقية له لوزارة الخارجية البريطانية عن ارتياحه التام لتلك المساعدات الثمينة التي قدمتها له جميع مصالح الحكومة المصرية.

وذكر مراسل التايمز بالقاهرة: "ان المصالح الاميرية المختلفة قد ساعدت السلطة العسكرية مساعدة كبرى، وان وزارة الاشغال العمومية ومصلحة السكة الحديدية قامت بدور عظيم في انشاء الاستحكامات الدفاعية على ضفة قناة السويس الشرقية، وكان مد الخطوط العسكرية واستخدامها تحت ادارة مصلحة السكك الحديدية المصرية، وكان جل المشتغلين فيها من العمال المصريين من اهم الامور التي ساعدت السلطة ، وفوق ذلك فقد قدمت مبالغ طائلة لتلك الاعمال".

واعترف اكبر القادة الضباط الانجليز والذين اشتركوا في الحرب كجنرالات على قناة السويس وسيناء وفلسطين بمدى اهمية تلك المساعدة وهذه الخدمات التي قدمتها مصلحة السكك الحديدية المصرية للسلطة

كما قدمت وزارة الاشغال العمومية المساعدات القيمة للسلطة لاعداد الطرق فكانت تمونها بالاشجار رغم احتياجاتها لها لبناء الحواجز ضد الفيضان، وتمدها بالسماد الذي تزايدت في الطلب عليه، وكلفت الورش الصناعية لخدمة السلطة، فوافق مجلس الوزراء على "منح مصلحة التعليم الفني والصناعي والتجاري اعتمادا اضافيا بمبلغ 2606 ج.م منها 235 ج.م للاجور، 3371 للمهمات وذلك بسبب ازدياد العمل الناشئ عن كثرة الطلبات التي توصى عليها السلطة العسكرية في الورش التابعة لهذه المصلحة".

ووقع العبء على العمال، فاكثر المصالح التي قدمت خدماتها للسلطة لم تكافئ العمال وبعضها عوضهم، فمثلا مصلحة السكك الحديدية والتلغرافات خصصت طائفة من مستخدميها بمكافات مالية مقابل الخدمات الكثيرة التي قدموها في الاعمال المتنوعة الخاصة بالسلطة العسكرية منذ بداية الحرب، ولكن بقية المصالح ظلمت العمال

ففي شكوى موقع عليها من عمال يعملون بورش الإسكندرية يقولون: "لقد مضى علينا الان اكثر من سنتين، اي منذ نشوب الحرب ونحن مشتغلين بالورشة اشتغالا تختص بالسلطة العسكرية زيادة على اعمالنا اليومية المعتادة الامر الذي يضطرنا الى الاشتغال ليلا لغاية الساعة الثامنة مساء واحيانا لاكثر من ذلك دون مقابل مع علمنا بان مصلحة الفنارات والسكك الحديدية والتلفونات تدفع لمستخدميها المشتغلين في تلك الاعمال مقابل سهرهم".

كذلك وافق مجلس الوزراء على فتح اعتماد اضافي لمصلحة السجون بمبلغ 8.000 ج علاوة على المقرر للتوريدات العمومية للقيام بمصروفات الاعمال التي تطلبها السلطة العسكرية والتي يترتب عليها زيادة في الايرادات. وبهذا نرى انه منذ نشوب الحرب انفقت الحكومة المصرية لحساب الحكومة البريطانية ولاغراضها العسكرية مبالغ طائلة في مختلفة المصالح، وقيدت هذه المبالغ في حساب العهد على الحكومة البريطانية.

ووضع السير وليام برونيات المستشار المالي بالنيابة كشفا في اوائل عام 1918 بالمبالغ التي انفقتها الحكومة منذ ان بدات الحرب الى نهاية ديسمبر 1917 فوصلت الى 2.500.000 ج.م مع تقدير مبلغ نصف مليون جنيه اخر كان منظورا صرفه حتى أخر تلك السنة المالية اي ان ما اقرضته الخزانة المصرية للحكومة البريطانية بلغ ثلاثة ملايين جنيه، فكان ذلك كرما بالغا وسخاءا زائدا.

لقد اعلن القائد العام للجيوش الانجليزية في مصر عند وضع البلاد تحت الاحكام العرفية بان الحكومة الانجليزية سوف تدافع عن مصر وسوف تتحمل اعباء الدفاع، لكن الوزراء وعلى راسهم رئيسهم رغبوا في ان تكون الحكومة رهن اشارة الجيش الانجليزي وتحت اوامره العسكرية فحملوا مصروفات هذا الجيش من اموال الشعب، وعبر المستشار المالي ازاء هذه المكافاة بقوله: "لا حاجة بي الى الاعراب عن شعوري الحاضر ازاء هذه التقدمة المبذولة من كرم".

وكان لهذا اثره على المصريين.

"ولما اطلع الناس على هذه المذكرة سخطوا سخطا شديدا على الوزراء، واستنزلوا عليهم اللعنات."

ويعلق سعد زغلول فيقول:

"لم يمر على مصر زمان كانت الامور فيها اكثر فوضى من هذا الزمان، ولم تكن الحكومة محاربة للامة في وقت اكثر من محاربتها لها الان لانها سلبت منها ثلاثة ملايين قدمتها للحكومة الانجليزية". وقال ملنر على اثر هذه المنحة: "ان حكومة السلطان ايدت رجال السلطة البريطانية باعظم تعاون حبي والدلائل على ذلك كثيرة منها تنازلها عن ثلاثة ملايين جنيه انجليزي من حساب الامانات والعهد التي كانت قد سلفتها، وكان يحق لها المطالبة بها". وهكذا تبرعت الحكومة المصرية بهذا المبلغ الكبير وتحملت هذه النفقات في الوقت الذي كان شعب مصر يعاني فيه الامرين بسبب تلك الظروف التي اقحمت الشعب المصري في هذه الحرب.

وبذلك ضحت مصر كثيرا وتحملت اعباء تلك الجيوش التي مضت تخرب وتعربد في البلاد باستهتار وبدون تحفظ. فكانت عربات الجيش الانجليزي تجري في الشوارع غير عابئة باداب المرور. وعلى اثر ذلك تكررت حوادث التصادم والاصابات للافراد المصريين.

بهذا افلحت القيادة البريطانية ان تجند مصر وامكانياتها من رجال واموال ومنتجات للمساهمة في المجهود الحربي، فقد كان دائما الشغل الشاغل لمرى قائد القوات البريطانية في مصر المزيد من التضحيات. فدائما على اتصال بونجت باحثا ومدققا معه الدور الذي يمكن ان تقوم به مصر لخدمة المجهود الحربي البريطاني.

لقد اعترف ونجت في خطاب له للسلطان فؤاد بانه يفضل تعاون مجهود كل طبقات الشعب المصري امكن لانجلترا الانتصار، ونشرت التايمز تفخر بمصر وباصالتها وتقول: "ان مصر حافظت على السكينة والهدوء، وقدمت مئات الالوف من ابنائها لمعاونة الحلفاء، وقدمت ايضا جزء كبير من محاصيلها لهم في الوقت الحاضر الذي تعاني هي من متاعب العيش وصنوف الغلاء"..

قدمت مصر كل ما تملك لانجلترا وحلفائها .. تحملت فوق طاقتها .. قدمت العمال والعلف والمؤن والنقليات وجميع المهمات على اختلال انواعها.. لعلها تحظى برد هذا الجميل وتلك المساعدة وهذا التفاني عقب الحرب وبعد اعلان حق تقرير المصير.

الفصل الخامس: الحركة الوطنية

اجراءات القمع الانجليزية

عندما اعلنت الحرب رات انجلترا ان تحكم الرقابة على المصريين حتى تامن جانبهم وبذلك تضمن الميدان الداخلي وتتفرغ للخارجي بعد ان تاكدت من نوايا الاتراك في اعداد حملتهم للاستيلاء على مصر وتعاونهم مع كل من السنوسي عى حدود مصر الغربية وعلي بن دينار على الحدود الجنوبية.

كانت اولى خطوات السلطة العسكرية هي احكام الرقابة الحربية على مصر وقد ساعدها على ذلك الجيوش البريطانية الموجودة فيها. هذا بالاضافة الى استدعائها فرقة "ايست لانكشير" من لندن واللواء التاسع الهندي من الهند بخلاف قوات كبيرة من استراليا ونيوزيلانده. وتلك القوات كانت في حاجة الى تدريب كبير قبل ان تكون اهلا للحرب، لذلك اوكل اليها مهمة المحافظة على الامن الداخلي في مصر، حتى تتفادى حدوث اي اضطرابات وتبعد الخطر على قدر الامكان، فاحتلت الجنود كل قرية وكل طريق بل كل قنطرة، وعزز ذلك بتالف قوى خصوصية من الخفراء وتوزيعها على القاهرة والإسكندرية والمحافظات والمديريات وسائر المدن التابعة لها.

كان الانجليز يعلمون جيدا ان قرار الخامس من أغسطس سيكون له تاثير كبير على الشعب ضد انجلترا، لذا اخذت للامر عدته فزادات من الاهتمام بالضغط والرقابة على المصريين، فاوقفت الاجازات لعلاج اي اضطراب يمكن له ان يحدث، واستغلت السلطة الشبابي اليوناني المقيم في مصر حتى تتمكن من ضبط الامن، كذلك اعطت البطارية المصرية بالجيش اجازة لمدة اسبوع ووزع افرادها على الاقاليم للمحافظة على النظام وللقضاء على اي حركة

وعلى الفور جمع اللواء هارفي حكمدار بوليس القاهرة – كان باجازة في بداية الحرب ولكن وكيل الداخلية ديمتري اسكندر استدعاه على الفور في 6 أغسطس 1914 لما له من سلطة قوية على احكام الامور في مثل تلك الظروف – ماموري الاقسام المختلفة والضباط والجنود وعاد من كان في اجازة منهم ليتسلم عمله وامرهم بمراقبة العاصمة وببذل الجهد في المحافظة على الامن العام، ثم انتقل الى الإسكندرية، واجتمع فيها بالسلطات المحلية لتنفيذ نفس التعليمات.

وتبع ذلك ان انتشرت قوات الامن في القاهرة لمواجهة ما قد يحدث من ثورات، ووزعت القوات الاجنبية على قصر النيل مركز الرئاسة وهليوبوليس والاوبرا والزيتون والعباسية والهرم وشارع عباس وشارع سليمان وبالقرب من البنك الاهلي، وعززت هذه القوات بقوتين مصريتين الاولى وضعت في عماد الدين والثانية لا تبعد عنها كثيرا.

ونشطت اجراءات رجال البوليس السري، فانتشروا في كل مكان سواء في العاصمة او المديريات وسهروا طوال الليالي لمراقبة حركات المصريين. واخذ الانجليز ينشرون الرعب في قلوبهم، فبدات القيادة البريطانية تستعرض جنود الاحتلال في الشوارع والطرقات المشاة منهم والفرسان بكامل اسلحتهم الثقيلة والخفيفة، وكان اكثر طوافهم بالاحياء الوطنية الاهلة بالسكان وذلك لاثنائهم عن القيام باي حركة ضد الانجليز، ووزعت الجنود الهندية – وقدرت بعشرة الاف – بين رمل الإسكندرية ومصر الجديدة وبلبيس وكانت كل قوة منها تسافر الى فرنسا تحل محلها اخرى، ونصبت المدافع في كل مكان، "فقد وضع مدفعا عند راس التين مصوب فوهته الى مدينة الإسكندرية" ، لنفس ذلك الغرض، ووصلت حركة الضبط والربط للدرجة القصوى.

ازاء تلك الاجراءات لم يستطيع الشعب ان يقف من قرار الخامس من أغسطس موقف احتجاج، فتقول صحيفة الاهالي على اثره: "قابله الناس بانقباض وسكون غريبين، قابلوه بالهدوء الذي يقابل به الانسان خبر وفاة عزيز له، ولولا ان الناس الان مشغولون بالغلاء وباخبار الحرب لكان لهذا القرار ضجة كبرى ومع ذلك فسياتي يوم ويظهر فيه الاثر الطبيعي لهذا القرار".

وقد تعمدت الاهالي وقالت ان الغلاء واخبار الحرب منعت المصريين من القيام باي احتجاج على هذا القرار ولم تذكر ان الرقابة الشديدة هي التي منعت المصريين من عمل اي شيء.

ويصور محمد بهي الدين بركات اثر القرار على المصرييين فيقول:

"ادخل النفوس الحزن والاسى فجعلنا نحس من جديد بذلك الجرح الذي لم يندمل بعد جرح الحكم الاجنبي واستعماره البلاد لصالحه واننا لا حول لنا ولا قوة في امس الاشياء بمصالحنا، وقد كتب علينا ان نرى الاقدار تقع علينا دون ان نتحرك".

كان المحتج الوحيد على هذا القرار احد اعضاء الجمعية التشريعية ويدعى حسين بك هلال رغم انه من الزعماء الحكوميين، الا انه عقب اعلان القرار اعد تقريرا وقدمه الى حسين رشدي يهاجم فيه خروج مصر عن الحياد ويرى انه كان من الضروري المحافظة عليه، وان مصر اصبحت مهددة بالغزو من جميع حدودها. وازدادت اعباؤها بتلك الجيوش الوافدة عليها هذا وان وضع مصر الدولية يمنعها من ذلك فهي تابعة للدولة العثمانية. كما استفهم عن الشئ المقابل لمصر ازاء هذا الموقف الجديد. وكان هذا الصوت هو الوحيد الذي خرج معلنا ومحتجا على دخول مصر الحرب بجانب انجلترا، اما بقية الاصوات فقد كممتها الرقابة الصارمة.

تبع ذلك ان وضعت خطوط التليفونات المصرية تحت مراقبة جيش الاحتلال ومورست الرقابة على الرسائل بنوعيها البرقية والبريدية، فكان القانون يفرض توقيع عقوبة الحبس او الغرامة حتى عشرين جنيها والعزل في الحالتين على كل من اخفى من موظفي الحكومة او البوستة او فتح خطابا من الخطابات المسلمة للبريد او سهل ذلك لغيره. ثم فرض توقيع العقوبتين معا على كل من اخفى من موظفي الحكومة او مصلحة التلغرافات تلغرافا من التلغرافات المسلمة الى المصلحة المذكورة او افشاه او سهل ذلك لغيره.

هكذا اعتبر القانون فتح الرسائل البريدية او افشاء ما تحتويه الرسائل البرقية او مجرد تسهيل ذلك جريمة يستحق عليها الموظف العزل فوق العقاب بحسب الاحوال. ولم يجز الاطلاع على تلك الرسائل الا في مواد الجنايات والجنح بشروط خاصة منها استئذان النيابة.

لكن انجلترا اعطت لنفسها حق فتح الخطابات ومراقبة البرقيات، ففي اول الامر روقبت البرقيات الواردة للوكلاء السياسيين الالمانيين والنمساويين. واحتج هؤلاء الوكلاء على هذا العمل، ثم ما لبث الامر ان سرى على كل المكاتبات الخارجية حتى لقد شكا سفير الولايات المتحدة من فتح خطاباته لما فيها من معلومات سرية، وبذلك سيطر الرقيب على كل ما كان يرد من الخارج وتعدى ذلك بان عمم الفتح والمراقبة على كل ما كان يناول في داخل مصر من رسائل او برقيات بل من داخل كل مدينة منه، فاذا فرطت من مصري كلمة تناقض اغراض السلطة اطلعوا عليها في تلك المكاتبات ومن ثم اوفدوا اليه الجواسيس تترقبه حتى لقد وصل بهم الامر الى الاعتقال والمحاكمة من اجل كلمة في خطاب.

هذا ولقد وردت الانباء البرقية الخارجية الخاصة بالناحيتين الحربية والسياسية مغيرة ومبدلة. وعلى لسان شاهد عيان:

"كانت ترد الينا مبتورة لا تكاد تفهم. فاذا اضفنا الى ذلك انها كلها واردة من لندن التي لها صالح ظاهر في نشر انتصارات حقة عن اسطولها وجيوش اصدقائها، عرفنا ما في تلك الانباء من الصدق. ولقد بلغ من تلك المراقبة اننا اردنا ان نرسل الى احد اقاربنا بالشام تلغرافا ليحضر حيث ان مصر صارت في حالة حرب قيل لنا انه تلغراف سياسي لا يصح ارساله لان فيه كلمة حرب".

ويؤيد هذا سلامة موسى اذ يقول:

"كنا نقرا الاخبار كما يحب الانجليز ان نفهمها، ولذلك كانت الرقابة صارمة شاملة، فقد اشتركت في بعض المجلات الامريكية كي اصل عن طريقها الى الاخبار الصحيحة، فكانت اما تمنع من الوصول الى ، واما تقص اوراقها التي تحمل اخبارا غير ملائمة للانجليز".

ولما كانت الصحافة اداة كبرى لوقوف الشعب منها على الحقائق، فلم يرد الانجليز اطلاق الحرية لها، بل لم يريدو ان يكتفوا بقيود قانون المطبوعات الذي هو على الصحف اشد قسوة من اية رقابة، فكتموا انفاسها، وكمموا افواهها ، فنرى الصحف اكثر اعمدتها بيضاء لحذف المقالات حتى السطر الواحد محذوف منه كلمات فيذهب بالكلام ومعناه ويشوه المقال، ونبه على الصحف بالا تنشر شيئا يشعر بان هناك ضيقا في النفوس او ان هناك ظلما واقعا على اهل مصر، وصدرت الاوامر تمنع توزيع اي من الصحف او النشرات الاخبارية بدون ترخيص.

كذلك منعت الصحف من نشر اي خبر له مساس بتحركات الانجليز من نزول في السفن او خروج منها او نقل اي خبر يتعلق بوصول السفن الحربية او النقالة او سفرها او مرورها وبان قلم المطبوعات سيقوم بابلاغ الصحف ما يلزم ابلاغه من ذلك في الظروف المناسبة، وفتشت ادارات بعض الصحف وذلك حتى لا يكون الشعب على دراية بالتحركات ويستغل ذلك ضد الانجليز.

واوقفت الداخلية بعض الصحف وعلى راسها الصحيفة الالمانية، ورغم ذلك فقد استطاع احد الضباط وهو نجل الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر ان ينقل للخديوي عباس بالاستانة اخبار مصر وتحركات الانجليز فيها ورسوما عن الاستحكامات التي شرعوا في اقامتها بجبهة القتال ومعلومات حربية أخرى.

وجاءت برقيات الصحف الخاصة بانباء الحرب متناقضة رغم انها من مصدر واحد انجليزي بالطبع وهو يختلف عن الحقيقة التي تمثلت في انتصارات المانيا المتتابعة.

وراحت انجلترا تقرب للاذهان – عن طريق الكثير من الصحف التي جندتها لمصلحتها – بان الميول الالمانية ليست متسلطة على المصريين، فصحيفة المؤيد تحتد على راي المقطم في ان تسعة اعشار المصريين مع الالمان، اما المحروسة فتندد بامبراطور المانيا وبحقه الالهي المقدس. وباعلان الاحكام العرفية في البلاد ازداد الضغط على الصحافة فلم يعد يسمح بنشر شيئ الا بعد عرضه واخذ الاذن بالموافقة على نشره، وبذلك اصبحت "كل الصحف شبه رسمية لا تنطق الا بما تاذن به الرقابة ولا تنشر الا ما تريد اعلانه واعداد النفوس لقبوله".

وتكملة لهذه الرقابة الصارمة على الشعب اصدر قانون التجمهر الذي يمنع تجمع الاشخاص وفرض العقوبة على ذلك، ورغم ان هذا القرار صدر في 18 أكتوبر الا ان الاجتماعات كانت قد حرمت عقب اعلان الحرب مباشرة وروقف المتحمسون من المصريين مراقبة شديدة، وفرق اي اجتماع سواء كان بقصد او غير قصد، "فقد حدث مساء امس الاول ان مجموعة من تلاميذ المدارس من سكان جهة الباب الجديد كانوا جالسين في محل بائع دخان يتجاذبون الحديث، فجاءهم احد رجال البوليس برتبة اونباشي وامرهم بالانصراف من هذا المحل والا ساقهم للبوليس".

لم تطمئن انجلترا الى موقف المصريين حيالها، فرات السلطات الانجليزية في مصر ضرورة ايقاف نشاط الجمعية التشريعية ومهتدت لهذا باصدار قانون التجمهر. وعلى الفور صدر الامر بتعطيل الجمعية التشريعية ، وكان المظهر الوحيد لوجودها هو تسلم اعضائها لمرتباتهم بانتظام، اذ خافت انجلترا من ان تخلق الجمعية المتاعب لها بان تحتج مثلا على اي اجراء تقوم به وكانت انتشرت الشائعات منذ اوائل الحرب بتعطيل الجمعية اذ يقول محمد بهي الدين بركات: "وقد سمعنا ان بعض الانجليز يصرح بان الجمعية التشريعية لن تعقد ابدا، ولست ادري ان كان هذا عن طريق التهدئة او ان منشاه ان الانجليز يريدون انتهاز هذه الفرصة للتخلص من المعارضة في الجمعية".

بهذا نرى ان انجلترا قد منحت نفسها الحرية لاطلاق يديها في كل شئ حتى في الجمعية التشريعية، وهي الهيئة النيابية الوحيدة في مصر عطلتها. وقوبل هذا الاجراء بهدوء من اعضاء الجمعية ما عدا العضو حسين بك هلال الذي تحرك بحرص وكتب تقريرا الى حسين رشدي التمس فيه ان يكون الخديوي بين رعيته في هذه الايام الصعبة حتى يشرف على اعمال حكومته ويبعد بذلك ما تلوكه الالسنة.

يريد بذلك ما يدور همسا في المجالس من ان الحكومة العثمانية تمنعه من الحضور لمصر وتريد ان تحجزه عندها رهينة حتى تامن به جانب مصر اذا تحركت هي حركة ما لمساعدة انجلترا او من ان الانجليز يريدون ان يبقى هو بعيدا عن مصر حتى لا يكون فيها رايا عاما ويجمع حوله حزبا قد يكون خطرا علهيم ومهدوا لهم في الظروف الحاضرة.

اما باقي الاعضاء فالكثير منهم اظهروا النفاق والرياء للانجليز، فاقاموا للمغادرين من رجالهم الحفلات واكتتبوا في الصليب الاحمر حتى سعد زغلول نفسه تغاضى عن الكثير على امل ان يتولى الوزارة. كل هذه الاجراءات التي اتخذت والبلاد لم تقع رسميا تحت الحكم العرفي، واخيرا رات انجلترا اعلانه في 2 نوفمبر 1914، وتاذت انظار المصريين من لصق اعلانه على الجدران في الطرقات في كل انحاء مصر.

ويحلل "الجود" ان سبب اعلان انجلترا الاحكام العرفية على مصر هو تخوفها من معاونة الشعب المصري لتركيا، نظرا للعلاقة الروحية التي تربطهما ولوجود عباس حلمي الحاكم الشرعي للبلاد في القسطنطينية، وهو على صواب، فان وجود الاحكام العرفية والسيطرة التامة على المصريين حال دون هدف تركيا من ثورة المصريين ضد انجلترا في وقت اجتياز حملتها ارض مصر ووقوعها ضايق وارهق وحد من نشاطهم ولولا هذا الضغط الشديد الذي مورس فوقهم لقامت ثورة 1919 في فترة الحرب. فقد ارسل ادوارد جراي الى شيتهام في 13 نوفمبر يقول له: "انني موافق على الترتيبات التي تمت، واشكرك واشكر ايضا القائد العام لسيطرتكما على الموقف بتميز ومهارة".

ووصفت صحيفة لا بورس إجيبشيان الموقف عقب اعلان الاحكام العرفية "وجد منذ فجر امس تغيير في شوارع القاهرة عقب اعلان الاحكام العرفية فالعربات آخذة طريقها العادي ولكن المقاهي والبارات تحدد ساعات العمل فيها والى الساعة الثامنة، وسلحت بعض الاماكن امثال شركة التلغرافات الشرقية والوكالة الانجليزية والفرنسية ، واضطف الجنود المسلحون في الشوارع والطرقات، يوقفون اي جماعة صغيرة منفذي تطبيق قانون التجمهر".

وتولى الناس الذعر والجزع في كل مكان، وحاول شيتهام خداع الشعب ان بين لهم ان الحكم العرفي مقصور امره على الوسائل الحربية اللازمة للدفاع عن مصر دون ان يتعدى ذلك التهجم على تشريع البلاد ونظامها الاساسي وقوانينها وقضائها، وكل سلطة فيها

فارسل لحسين رشدي في 6 نوفمبر 1914 يقول له:

" ياعطوفة الوزير اتشرف بان ارفع لعطوفتكم في هذا صورة المنشور الذي اصدره جناب قائد الجيوش البريطانية في 2 نوفمبر 0 معلنا به الاحكام العرفية – وترون عطوفتكم من هذا المنشور ان السلطة فيما يتعلق بالوسائل الحربية اللازمة للدفاع عن القطر المصري وبالتدابير التي يستند عليها هذا الدفاع اصبحت منحصرة في يد جناب القائد العام وان حضرات النظار لا يزالون كل واحد منهم حافظا للسلطة التي له في الامور الملكية الخاصة بنظارته".

وبذلك اصبحت الاحكام العرفية خطرا على الحرية العامة واحقوق الافراد ومجالا لبعض ذوي الاغراض للنكاية بخصومهم واحراج مراكزهم. وقسمت مصر الى عدة مناطق عسكرية يحكم كل منها قائد مسلح بقوة الحكم العرفي (قسم الإسكندرية – قسم الدلتا – القوة الغربية وتشمل مديريات القطر كلها)، وانشئت محافظة في الغرب سميت بمحافظة الغرب الوقتية والحقت بالسلطة العسكرية راسا ونفذت في منطقتها الاحكام العرفية وشملت مرسى مطروح وسيدي البراني والضبعة وواحة سيوة والواحات البحرية.

هكذا اعلن الحكم العرفي الانجليزي على مصر بجرة قلم من قائد جيش الاحتلال بناء على امر حكومته وسهل الامر موقف المسئولين. وفي 11 نوفمبر اصدر مكسويل منشورا – لحتمية الحكم العرفي – يهدد فيه المصريين اذا تشيعوا لاعداء انجلترا ووجدت معهم منشورات تعني ذلك بتعرضهم للحكم العسكري.

وانشئت تبعا لذلك المحاكم العسكرية تحت الحكم العرفي، فقامت على غير القانون المصري واخذت تقضي بعقوبات الاعدام والسجن والغرامة والجلد. وتولى القضاء فيها جماعة من ضباط الجيش الانجليزي يجهلون عادات البلاد وتقاليدها، وزيادة على ذلك فليس لهم المام بالقوانين يمكنهم من تحري الحقائق "فالاهالي بذلك خاضعين لا لقانون العقوبات العادي انما خاضعون لمارشال حضر من انجلترا ليست لديه اي خبرة عن عقول المصريين، ولم يكن يعلن انه في قانون العقوبات المصري لا توجد عقوبة بدنية كالجلد".

واعطيت لهذه المحاكم اختصاصات كثيرة، فكانت تقضي في جرائم القذف والسب في غير الانجليز، والمسائل الخاصة بالاداب والتزييف ، وتبعا لذلك اصبح كل شخص خاضعا للقانون الجنائي المصري يرتكب جريمة يحاكم امام المحاكم العسكرية اذا اعتبرت السلطة العسكرية جرمه هذا منافيا لمصلحتها.

ومن المعروف ان الحكم بالاعدام يستلزم اولا معرفة وزارة الداخلية بناء على طلب من النائب العمومي مبين فيه استيفاء اجراءات خاصة، ولكن هنا اهمل ذلك فاصبح في امكان تلك المحاكم العسكرية التصرف كيفما تشاء في المصريين بورقة مكتوبة يرسلها رئيس المحكمة العسكرية الى الحكمدارية لتنفيذ ما فيها خلافا لما تنص عليه القوانين المصرية دون نقض او ابرام.

ونشرت الشركة المركزية التلغرافية برقية دلت على نشاط هذه المحاكم في فترة الحرب فتقول: "ان الحركة الثورية في مصر تزداد يوما بعد يوم بين المصريين وان المحاكم العسكرية التي انشاها الانجليز في مصر تصدر الاحكام بالاعدام بلا انقطاع على العصاة والثائرين ضد سلطتها من المصريين".

وصرح احد اعضاء مجلس العموم البريطاني بان مصر قد بترت الحرية فيها بهذه الاجراءات. ووقع العبئ على المصريين ، فكثيرا ما صدر الحكم العسكري ظلما وعدوانا بينما كان هناك اناس اوقعوا الظلم وبرثو. وروي نجيب فؤاد المحامي في مقال له بصحية البلاغ ان قضيتين رفعتا على عمدة طهطا احداهما تستر على نفر محكوم عليه بعقوبة مقيدة للحرية وصدر فيها الحكم ابتدائيا على العمدة بحبسه ثلاثة شهور، ولما استؤنف الحكم توصل المحكوم عليه الى استصدار امر من السلطة العسكرية بالامتناع عن نظر الدعوى وفعلا صدر الامر ولم ينفذ الحكم.

اعقب ذلك ان اغلقت السلطة العسكرية نادي اعضاء المدارس العليا خوفا من حدوث اي شغب يضر بمصلحة انجلترا، وحلت النقابات العمالية، واعطت الاوامر لكل عمدة وشيخ بلد بان يمنع بالقوة المناقشة في المسائل السياسي "والا تعرضوا لاشد انواع العقاب.

وبلغ الامر الى انجلترا راحت تمنع اي احتفال ديني ممكن له ان يجمع الساخطين على الاوضاع فاجلت الموالد كمولد السيد البدوي بطنطا وابراهيم الدسوقي بدسوق وتحججت في ذلك بان الظروف المالية لا تسمح باقامة مثل هذه الموالد وبانها تجعل الفلاحين يتركون حقولهم ومصالحهم، ويذهبون الى هذه الموالد، لذا فان ابطالها يعود على البلاد بالفائدة. ولا ينكر احد ان هذا التاجيل يرجع الى ظروف سياسية.

وحتى في الموالد التي لم تستطع انجلترا ان تؤجرها امثال مولد الحسين فرضت رقابة صارمة عليها. ويقول سعد زغلول: "توجهت الى مكان المولد في السرادق، وكان الجو حاشدا حسب العادة حضر هنس – مستشار الداخلية – وتحادثنا معا فاخذ هنس يتكلم بالالمانية معي، وقال ما معناه انني اريد ان اقبض عليك وسارسلك الى راس التين قلت ان كانت الوطنية هي سبب سجن الناس فاني فخور بالسجن".

الى هذه الدرجة وصلت الاحوال بان يحضر مستشار الداخلية وقوات الشرطة الموالد حتى يسيطروا على الموقف ويمنعوا وقوع اي مظاهرة يقوم بها الموجودون، واصدرت السلطة الاوامر الى جميع ملاك ومديري الفنادق بان يقدموا لها كل يوم بيانا عن الاشخاص الذين ينزلون في فنادقهم ويبرحونها، وكان عليهم ان يرسلوا هذه البيانات للبوليس في كل صباح، وقد وقعت العقوبة على كل من يخالف هذا.

وراح مكسويل يحذر المصريين من المخابرة مع العدو باية وسيلة او تقديم المساعدة له او بالحصول على معلومات يمكن لها ان تعرقل الاجراءات العسكرية والترتيبات البحرية الجارية في ميدان القتال او داخل البلاد او من اذاعة اخبار تحدث قلقا او انزعاجا في البلاد او تشويشا على النظام او التعرض لسلامة الخطوط الحديدية والكباري والبواغيز او التعريف عن المواقع التي يشغلها الجيش والاسطول بحركاته وتدبيراته وخططه الحربية.

وبين ايضا ان السلطة العسكرية لها حق استخدام الافراد والممتلكات الخاصة وتكليف السكان باخلاء الاماكن التي تكون مجاورة للحصون او تقع على موانئ او المجاورة للمواقع الحربية وقد تلزم السلطة اي شخص بالاعتكاف في المكان الذي تعينه والحجر على اي انسان بملازمته بيته وعدم مبارحته داره بعد ساعة معينة تقررها السلطة.

وتبع ذلك ان فرضت المراقبة الشديدة على سواحل مصر سواء الغربية او الشرقية خوفا من تسرب اشخاص محرضين على الثورة لهذا اخضعت الطرق التجارية وخاصة الطرق الواقعة غرب مصر الى رقابة صارمة. فمنذ الاول من سبتمبر 1914 "كثرت الاجتماعات بالإسكندرية للاتفاق على الترتيبات التي ستتخذ لاجل احسن الطرق للرقابة على حركة الطرق التجارية".

وانتشرت الجواسيس في كل مكان تراقب التحركات "ففي 26 أغسطس 1914 ضبط ضابطان المانيان مرتديان زي اعرابي ومعهما من يدعى "سيدي عبد الرحمن"، و"سيدي احمد" و"سيدي محمد ادريس" قاصدين الحدود بالساحل الغربي، وكذلك ضبط السيد محمد شرف ومحمد عبد المطلب وعبده كيلاني متوجهين ايضا للغرب ومعهم سبعة ضباط اتراك لينضموا للسنونسي، وابلغ مدير ادارة الاقسام الغربية قومندان قسم الضبط انه في 27 أغسطس 1914 مرت مركبة ومعها 60 جملا تحمل مواد غذائية واعطيت الاوامر لتفتيش القطارات جيدا في محطة الحمام وحجز اي شخص سواء اكان من الالمان او الاتراك او المصريين مسافرا للغرب وتفتيشهم والاستيلاء على ما معهم من اوراق او مكاتبات.

وتقول الاهرام:

"اعتقلت السلطة العسكرية في دمياط منذ ايام خمسة عشر بحارا عثمانيا جاءوا دمياط بمركب شراعي للاتجار والنقل ثم اخلت سبيلهم وعادت فاعتقلتهم وارسلتهم للاسكندرية، واعتقلت القوات البريطانية المرابطة على قناة السويس سبعة من البدو وارسلتهم الى مصر".

هكذا اتخذت الاحتياطات اللازمة لمراقبة المارين من والى الساحل الغربي، وعين مراقبون للعمل ليلا ونهارا لهذا الغرض وجاءت الاخباريات تفيد بانه – على سبيل المثال لا الحصر – تبين ان المراكب المسماة "أبو العباس" وهي تحت رئاسة محمد الفتوري، كانت موجودة بالسلوم وفرغت البضائع التي استحضرتها من الإسكندرية ثم قامت من السلوم راسا للشام لاستحضار جوابات سرية وادوات حربية، ونوري باشا وامر مدير الاقسام الغربية بمراقبتها وحجزها عند الرجوع، ازاء ذلك صدرت احكام الاعدام على كل من يضبط حاملا لبضائع او خلافه للحدود الغربية.

من هذا نرى ان انلجترا كانت يقظة جدا تجاه هذا الامر، فاوقفت الكثير على هذا الطريق، وخافت من حدوث قلاقل داخل مصر فاصدرت التعليمات الى قومندان حرس الجمارك بالإسكندرية، بانه "في حالة حدوث هيجان ذي خطر بالبلدة يجب غلق جميع البوابات الموجودة بالإسكندرية وعلى الفور استدعاء جميع الانفار من الوردية. وان يتضاعفوا بكل بوابة. وكذلك اعداد خراطيم ومعدات الحريق لتصويبها فورا تجاه الرعاع عند اللزوم".

تبعا لذلك كثرت جنود الانجليز على هذه السواحل ووزعت بين السلوم وبني سويف بالاضافة الى اعداد كبيرة من الجمالة وانتشر البوليس في الموانئ سواء منها الشرقية او الغربية. وذلك لتامن انجلترا عدم تسرب اي برنامج عمل من جهة الاتراك او السونسيين يكون له تاثير على نفوس المصريين خصوصا بعد ان تاكدت من استعداد السنوسيين للزحف على مصر.

واتخذت نفس الاجراءات بالنسبة للسواحل الشرقية خوفا من حدوث تسرب لافراد معهم منشورات او كتابات تقضي بتحريض المصريين على الثورة. وفي 29 سبتمبر 1915 وقبل الهجوم التركي الاول على قناة السويس اصدر مكسويل اومره التي تقضي:

اولا: لا يجوز للمسافرين في اي مركب كان النزول الى البر في منطقة قناة السويس ما لم يكونوا قاصدين الجهة التي نزلوا فيها او كان نزولهم بقصد انتقالهم من مركب الى اخر، ويستثنى من ذلك المسافرون من الرعايا البريطانيين او رعايا احدى دول الحلفاء الحاصلين على جوازات سفر قانونية.

ثانيا: تشمل منطقة قناة السويس وبورسعيد، بورتوفيق، جميع المراسي التي بنتها على جانبي القناة وتوقيع عقوبة صارمة على كل من يخالف ذلك."

عقب ذلك عين قومندان بوليس الإسكندرية قائدا للبوليس الحربي للمدينة، فاصبح من اهم اختصاصاته الرقابة بل والسيطرة على الميناء الذي صار منذ أغسطس 1916 ميناء حربي خاضعا للسلطة الحربية مطبقا عليه كل الاجراءات الحربية.

وهكذا كانت اجراءات انجلترا تجاه الحدود والرقابة عليها خوفا من تسرب الدعاية الالمانية والتركية داخل مصر وانتصارها، وفي هذه الحالة تفقد انجلترا السيطرة على الموقف في مصر التي اصبحت من اهم المراكز الحربية للحلفاء. وخاصة بعد ان تاكدت من شعور المصريين المعادي لها. ولهذا كانت فطنة للقضاء على كل حركة يمكن لها ان تتغلغل داخل مصر سواء كانت هذه الاخطار من داخل مصر او من خارجها.

وكان عليها ان تراقب ثلاثة الاف من رعايا اعدائها وتتبع خطواتهم وحركاتهم. ولم يمض عام 1915 حتى صفيت اعمالهم ورحلوا عن مصر. وفي تقرير مكسويل الى كتشنر في 16 أكتوبر 1914 يوضح فيه ما معناه بانهم جاهدون للقضاء على الدعاية الالمانية التي لها المقدرة على تحريض الثورة في مصر، وانه قد تم اعداد قائمة باسماء الذين يجب مغادرتهم لمصر من رعايا الاعداء وقص عليه مسألة "روبرت مورس" وهو ضابط الماني برتبة ملازم اول كان يعمل في بوليس الإسكندرية وسافر الى الاستانة في 4 سبتمبر 1914

وقابل فيها المسئولين الاتراك والالمان الذين افهموه بوجود رسل في مصر يعدون اذهان المصريين لثورة ضد الانجليز في نفس الوقت الذي تصل فيه الحملة التركية حتى يجبروهم على تقسم قواتهم بين الثورة والحملة. وبحث معه في مسائل حربية خاصة بسد قناة السويس وهدم الجدار الفاصل بينها وبين الترعة الحلوة. واعطى له ديناميتا لتسليمه الى مؤدي تركيا بمصر، ولكن قبضت عليه السلطة في 29 أكتوبر 1914 وحوكم.

وكتب القنصل الانجليزي في حلب يبين مجهودات الالمان تجاه مصر ضد الانجليز قال ان احد خياطي هذه البلدة اوصى بعمل عدة بدل وعمائم هندية على انواع مختلفة طبقا لرسومات وقياسات اعطاها له بعض الضباط الالمان الموجودين هناك، وذلك حتى يتيسر لهم الامر ويدخلوا مصر.

ورغم ذلك فقد ازداد النشاط الالماني في مصر، وكثر الاشخاص الالمان المحرضين على الثورة ضد الانجليز باثارة الشعور الوطني الديني واعلان خلاص مصر على يد الجيش العثماني المحتشد في سوريا، ولم تستطع السلطة ان تصل الى بعض الالمان الموجودين في مصر لمهارتهم في الهرب، مثال ذلك الضابط الالماني البارون أتوبيرج الذي اتعب السلطة ووزارة الداخلية وقد عرض مدير السواحل الغربية مكافاة كبيرة لمن يرشد عنه.

وخضع ايضا الاتراك النازلين لمصر والموجودين فيها الى مراقبة شديدة، وراح البوليس السري يبحث ورائهم، وقبض على كثيرين وهم جالسون في بعض المحال العمومية التي اعتادوا الجلوس فيها، واستدعت ادارة الضبط بعض الذين لهم صلة بهؤلاء الاتراك وحجزوا حتى ان صدر قرار نهائي بشانهم. وضبط ايضا "سليمان البروي" وهو تركي، يحث الناس على العصيان وقد عثر على خطاب حرره احد الضباط البحريين الاتراك في مصر، قال فيه انه اجتهد كل الاجتهاد في احداث اعتصاب الانشجية والمهندسين المسلمين المستخدمين في اربع بواخر متخصصة لنقل الجنود الانجليز وبانه يسعى في تفريق هذه البواخر بعد ركوب الجنود فيها.

ويؤكد محمد فريد هذه الخطط فيقول: "كنا قد ارسلنا عبد العزيز افندي عمران الى مصر ليراسلنا بطريقة مخصصة عن الاخبار الحقيقية او لارسال احد الاخوان المخلصين، وسافر في 19 فبراير 1915 ، وبعد ان صرح له الانجليز بالدخول لمصر بعد تفتيشه وتفتيش عفشه عاد اليه البوليس بعد اربعة ايام وفتشوا مسكنه ومسكن اخيه المقيم في مصر، وقبضوا عليه وسجنوه مدة اثنى عشر يوما ثم رحلوه الى الإسكندرية وامروه بالسفر حالا من القطر المصري".

وتمكن البعض من الاتراك الفرار من مصر بعد صدور المحاكمة بادانتهم، ففي الايام الاولى من الحرب وفد الى مصر احد ضباط الجيش العثماني لمهمة سياسية وكان اعتماده في قضائها على معونة شخص اخر يدعى مجد الدين افندي ناصف، ولكن لم يلبث امر ذلك الضابط ان انكشف فقبض عليه بتهمة التجسس وحكم عليه بالاعدام رميا بالرصاص ثم استبدل الحكم بالسجن المؤبد مع الاشغال الشاقة، وهناك في ليمان طره القى مجد الدين افندي شباكه لاقتناص هذا الضابط من السجن، وتم له ما اراد.

وهذا في الوقت الذي كان جمال باشا يوزع منشورات في سوريا تضمنت فتاوى اصدرها المفتي الاكبر في الاستانة يحرم فيها على مسلمي مصر الحرب ضد الاتراك ويعلن ان جزاء من يعمل ذلك نار جهنم. وكان السلطان قد وجه نداء للمصريين لاثارة القلاقل امام الانجليز ومساعدة الحملة التركية.

واتجهت المجهودات التركية في هذا الاطار الى الحدود الغربية لمصر لتشتت جهود انجلترا لكنها كانت يقظة لذلك، ففي تقرير من رويترز يبين ان المحكمة العسكرية في مصر عقدت جلستها في 30 ديسمبر 1916 لمحاكمة خمسة رجال ضبطوا وهم في طريقهم من البحرية المصرية يحملون معهم اسلحة وخطابات وهم "وهمان بن حيان" وهو عربي طرابلسي ويعمل لدى السنوسي استطاع دخول المنطقة التي تحتلها القوات البريطانية وهم مسلح بالمفرقعات والطبنجات ومكاتبات تحوي على اشعال الثورة في مصر والخروج على الانجليز، والثاني "موسى صالح" والثالث "موفتي ستيدا" والرابع "يوسف محمد" والاخير "علي محمد"، وكانوا محملين جمالهم بالديناميت والمفرقعات والطبنجات وخطابات من السنوسي تحث المصريين فيها على التمرد على الانجليز.

وكانت السلطة الانجليزية في مصر على دراية فائقة بهذه التحركات واحكمت الرقابة ووضعت الاجراءات للقضاء على اي حركة من هذه الحركات حتى ان مكسويل نفسه توقع تحالفا بين الاتراك وعلي بن دينار على الحدود الجنوبية لمصر ليقوم الاخير بنفس الغرض الذي قام من اجله السنوسي، فارسل الى كتشنر في 16 أكتوبر 1914 يقول له: "انني اعرف ان هذه سياسة وزارة الخارجية، ولكني اعتقد انه يجب ان نتقرب من عرب مكة واليمن لضمها لنا ضد الاتراك".

وعن هذا الطريق قامت الثورة العربية ضد الدولة العثمانية، وامن الانجليز خطر اي هجوم مضاد من هذه الناحية وتفرغوا لصد تركيا وحليفتها المانيا، وانتهى الامر بانتصاره.

انعكاسات الاوضاع على المصريين

كان بمصر فريقان، فريق يؤمن بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وفريق يرى ان ترتبط مصر بمعاهدة مع انجلترا ولكنه لا يعترف بالاسلوب الثوري لتحقيق ذلك، وتمثل في مدرسة حزب الأمة الذي يرى التفاهم المباشر مع الانجليز، وتشيع هؤلاء لانجلترا وحلفائها، وضم ايضا رجال الحكومة القائمة وهم الطبقة العليا ومنهم بعض الشخصيات القوية التي لعبت فيما بعد دورا كبيرا في التاريخ المصري امثال سعد زغلول، وعدلي يكن، وعبد الخالق ثروت، واسماعيل صدقي وانصارهم، كما كان من بينه كثير من المصريين الذين تلقوا تعليمهم بالخارج.

وثق هؤلاء بوعود انجلترا التي قطعتها على نفسها لرجال الحكم في مصر حتى خرجت منتصرة من القتال، ومنهم من كان يرى ان الظروف تحتم على الامة ان تنتظر حتى يحين الوقت للمطالبة بحقوقها، وكان اغلب هذا الفريق من الطبقة الاكثر ثروة الذين يعتمدون على بيع قطنهم للانجليز لهذا تقربوا وتحببوا لهم.

اما الفريق الاخر فهو يؤمن بالاستقلال التام عن الانجليز مع بقاء الارتباط الروحي الاسلامي بالدولة العثمانية ويرى انه بالتعاون مع الاتراك يمكن التخلص من الانجليز، وكان اكثر هذا الفريق يضم الطبقة الوسطى والمثقفين الذين اطلق عليهم "طبقة الافندية"، وهم من اتباع الحزب الوطني، آمنوا بالانحياز الى جانب المانيا، وساعدتهم انتصاراتها على ذلك حتى ان احد رفقاء الخديوي عباس كتب الى عدلي محاولا ضمه الى صفهم وكان مما قال له: "ان بعد موقعة البحيرات الماساوية لن تقوم لروسيا قائمة وان النصر اصبح محققا للالمان".

ولا شك في ان تاثير الزحف الالماني المظفر عبر بلجيكا وعدم صمود الجيش الانجليزي وارتداده ، وما انطلق من الشائعات حول الهزائم الانجليزية كان له تاثير على مصر، اذ غمرت مصر روايات هذا الارتداد، ومن هنا فان "موجة من الشعور العدائي للانجليز والموالي للالمان قد سادت حينذاك في بعض الدوائر في مصر".

وراحت صحيفة الشعب وهي لسان الحزب الوطني تشكك القراء في انباء القتال المنشورة في الصحف ودللوا على انتصار الالمان وسخروا من المغلوبين من البلجيك والفرنسيين والانجليز، ذلك "فان شعورا باطنيا كان يخالج الكثيرين بان انتصار الالمان والاتراك معناه الخلاص من الانجليز والسلطة العسكرية والاحكام العرفية".

لهذا فقد اصبح الشعب من اتباع الحزب الوطني تواقا للالمان وعقوله مهياة للثورة، وانتشر الشعور المعادي للانجليز واصبح قويا جدا وكاد ان ينتصر لولا اجراءات مكسويل التي حالت على قدر الامكان دون نفاذ نشاطه وساعدت سيطرة الاحكام العرفية على ذلك.

ورغم هذا لم يكترث المصريون بالعقاب، ففي 26 يناير 1915 – قبل الهجوم العثماني بحوال اسبوع – جمع احد ابناء اعيان الوجه البحري عددا من الفلاحين وبين لهم قرب دخول العثمانيين مصر وتحريرها من الانجليز على يدهم، فابلغ امره للسلطة فالقت القبض عليه.

وفي كل مساء كان الناس يجتمعون بالقهاوي ويتكلمون باصوات مرتفعة عن النصر المؤكد الذي سيحرزه العثمانيون ويرسمون خطط القتال على افاريز المقاهي وقارعات الطريق وذهبوا الى انهم حددوا الساعة التي سيدخل فيها الجيش العثماني مدينة القاهرة. وذهب فريق الى الاشاعة بان الاتراك وصلوا الدلتا واحتلوا البلاد، فهؤلاء الرجال – اتباع الحزب الوطني المنحاز لتركيا – اعلنوا ان الاتراك وصلوا الى بنها واكد الحاضرون ذلك، بل ان البعض حكى انه شاهد الاتراك المنتصرون وهم يجتازون القناة بعد ان قضوا على استحكامات الانجليز الدفاعية هناك، وصدق الاهالي ذلك في طول البلاد وعرضها.

وهذه الحالة دعت ستورس وهو السكرتير الشرقي لدار الحماية الى ان يكتب في احد تقاريره للندن: "ظهرت في بداية الحرب في اواسط معينة موجة معادية للانجليز، وشعور مشايع للالمان لدرجة ادهشت بعض الاوروبين وحيرت حتى المراقبين المصريين، فعلى الرغم من انقياد المسلمين كانوا معادين صراحة للاتراك فانهم كانوا يهزون رؤوسهم قائلين نرجوا للاتراك كل نجاح".

وفي 16 أكتوبر 1914 كتب مكسويل الى لندن يقول: "لقد ازداد عدد المتهيجين في مصر – ولكن كل شئ هاديء – وهذا ناتج من الدعاية الالمانية اذ ان الثورة في مصر على وشك الحدوث وان العملاء منتشرون في كل مكان يرجون ضد الانجليز".

وراح المتشيعون للالمان ودولة الخلافة يذيعون ان الجيش المقبل عرم ولن يستطيع الانجليزصده واعتقدوا ان الاتراك سيصلون للقناة في اخر يناير 1915 وان الخديوي اتفق معهم على استقلال مصر استقلالا تاما وسافر الى فيينا للعمل على مافيه مصالح مصر مع الحكومة الالمانية والنمساوية.

وبذلك ترددت الاخبار في مصر عن اعلان استقلالها والاعراف بسيادتها في الاستانة نفسها وبان الخديوي عباس قادم وبصحبته لفيف من المصريين على راس جيش لطرد الانجليز وخلاص مصر وانه بانتصار المانيا وتركيا سوف تحرر ارض مصر. وردد الناس : "الله حي عباس جاي .. قولوا لعين الشمس متحماشي، لاحسن غزال البر صابح ماشي.. يا أمة الاسلام ليش حزينه ان كان على عباس بكرة يجينا". لقد اعتبر المصريون لعنات الانجليز على عباس ورفض عودته الى مصر شهادة بوطنيته ودليلا على تمسكه باهداف مصر في الحرية والاستقلال.

وقد جهرت هذه العناصر بعدائها لانجلترا وحلفائها، وكانت تدعو الله علنا ان ينصر الاتراك وحلفائهم الالمان. وتطوع من مكنته الظروف في جيش السنوسيين وفي الجيش التركي اذ راوا ان الفرصة قد سنحت لمصر للكسب وللتخلص من الحكم البريطاني. ومضت الدعاية لالمانيا فوصفت بانها الدولة الكبرى الوحيدة التي صادقت الاسلام دون ان تحتل شبرا من الاراضي الاسلامية وبان الامبراطور الالماني اصبح مسلما واطلق عليه "الحاج حامي الاسلام"، ويبين ستورس ان هذا من اثر الدعاية الالمانية التي كان يقوم بها البارون اوبنهايم السكرتير الشرقي للقنصلية الالمانية منذ اواخر عهد كرومر، وعلى اثر ذلك اتسع مجال الميل للالمان في مصر، وانتشر بين الشعب وخاصة طلبة المدارس الذين اصبحوا معادين للانجليز على طول الخط.

وبالرغم من اجراءات الانجليز بصدد بتر ذلك الشعور الا انه ازداد، وعلى سبيل المثال "في احدى الليالي قام شخص من الاهالي واخذ يصيح بصوت عالي في الشوارع .. الحرب الحرب، ويقصد بذلك اثارة الشعب بالحرب ضد الانجليز فقبض عليه في الحال. ونفذت ايضا عقوبة الجلد على ابراهيم الجزمجي لانه اخذ يطوف في المقاهي ويردد انتصارات الالمان، وفي احد المقاهي صاح يقول: "فلتحيا المانيا.. فلتسقط انجلترا". فجلد سبعين جلدة وكانت هذه اول مرة ينفذ فيها عقوبة الجلد ، وبهذا نفذت المحاكم العسكرية هذه العقوبة وفرضتها على الشعب المصري رغم خلو القوانين المصرية منها.

وعندما بدات المناوشات بين الاتراك وحرس خفر السواحل في الجهة الواقعة بين الصف وقطية شرقي القنطرة، ودارت بينها معركة صغيرة انتهت بوقوع قوة خفر السواحل في الاسر بعد ان قتل منها عدد من الجنود بينهم بعض الانجليز، كان لهذا اكبر الاثر على سمع المصريين. فاظهروا الشماتة والفرح.

وارتفعت الاصوات بالدعاية للخلافة العثمانية بالنصر، وامتلات المقاهي في المساء بالافندية، واصبح الكل على يقين من نصرة الالمان وهزيمة الانجليز، وقد ارجع مسي هذا الى طبقة الافندية اذ يقول: "ان هبهبتهم كانت حادة وفعالة اكثر من عضهم". وذهب بهم الامر الى انهم "راحوا يدورون في الاندية والماكن العامة وفي قطارات السكك الحديدية بيدهم خرائط الحرب مؤشرا عليها بمواقع القتال وبما كسب الالمان واندحر الحلفاء".

وانتشرت الشائعات التي تدل على اماني المصريين تردد قرب وصول الاتراك ومن هناك حدثت اضطرابات في بعض احياء القاهرة اخدمتها السلطة، وعلى الفور اصدر مكسويل في 17 نوفمبر 1914 تحدثيرا يقول فيه: "انه على اثر وقوع عدة حوادث في الايام الاخيرة ببعض احياء القاهرة نشات من الاخبار الكاذبة التي اذاعها بعض الاشخاص بدون ان يقبض عليهم في الحال رات السلطة العسكرية اخذ تحوطات شديدة، فارسلت الى رجال السلطة الملكيين والعسكريين تامرهم بالقبض على كل شخص يذيع اخبارا كاذبة ينشا عنها وقوع رعب او خوف في نفوس السكان، والموظف الذي يقصر في واجبه من هذا القبيل ينزل به عقاب صارم".

من هذا يتبين ان الشعب يعطف على المانيا ويتمنى ان تنتصر في الحرب على الانجليز لا لانه ينتظر خيرا منها بل لانه كان يرى في هزيمة الانجليز هزيمة لاعدائه الذين احتلوا البلاد وسلبوا الحريات وامتصوا الدماء. لكن هذا العطف لم يرتفع الى مستوى الثورة بغير قيادة وبغير تنظيم وبغير وجود قائد ملهم يحرك الملايين للانقضاض على اعدائهم، اذ حرصت انجلترا منذ ان بدات الحرب على القضاء على الحزب الوطني الذي كان يكمن فيه الخطر، فشلت السلطة عمله واقفلت نواديه، وضبطت اوراقه، وبددت شمل اعضائه

واعتقلت الكثيرين منهم ورمتهم في السجون، وكان منهم علي كامل واحمد لطفي وكيله ثم عبد اللطيف الصوفاني وعبد الله طلعت ومصطفى الشوربجي وعبد الرحمن الرافعي، واسماعيل حافظ (صهر محمد فريد) وحمد زكي علي واحمد وفيق وعبد المقصود متولي وهم من اعضاء اللجنة الادارية وامين الرافعي ومحمد فؤاد حمدي وابراهيم رياض والدكتور محمد عبد الحليم متولي، والدكتور عبد اللطيف يوسف واحمد رمضان زيان واليوزباشي حافظ قبودان واليوزباشي احمد حمود وفؤاد عثمان ومحمد الشافعي ومصطفى حمدي ويعقوب صبري واحمد قبودان واسماعيل حسين وابراهيم مروني وعبد الوهاب البرعي والاخير من اهم العناصر العاملة في الحزب الوطني ووكيل جريدة الشعب بالشرقية.

اما عن نفي الى مالطة من اعضاء الحزب الوطني هم الدكتور عبد الغفار متولي، وعلي فهمي خليل والامير العطار وعوض جبريل ومحمد عوض محمد ومحمود ابراهيم الدسوقي وحسن نور الدين وسلامة الخولي. وكان بعض هؤلاء على صلة بالحركة النقابية ، فاحمد لطفي كان عضو شرف جمعية عمال الترام بالقاهرة واحمد رمضان زيان كان رئيسا لنقابة الصنائع اليدوية بالإسكندرية، ومحمد عوض جبريل سكرتيرها.

هذا بالاضافة الى ان اعدادا كبيرة من الاعضاء العاملين في الحزب الوطني كانوا قد خرجوا من مصر هاربين من ضغط انجلترا وقد كان لهروبهم ضرر للحركة الوطنية. فكيف يخرج في تلك الساعة الحاسمة من مصر اعضاء اللجنة الادارية للحزب الوطني وهي المفروض ان تتولى القيادة الثورية. لقد برروا موقفهم بان الانجليز سينكلون بهم وربما يكون دورهم خارج مصر انفع لها من وجودهم على ارضها.

ولكن مما لا شك فيه ان خروجهم رجح كفة الفشل على كفة النجاح واحدث فراغا ثوريا اثناء الحرب، ولكنهم كانوا على يقين من نجاح مقاصدهم، فيقول محمد فريد:

"في يوم الاربعاء 16 سبتمبر 1914 وصل الى هنا – الاستانة – من مصر الاخوان عبد الحميد سعيد وعبد الملك حمزة ومحمد علي محمد واحمد ظاهر واسماعيل كامل ومحمد عوض البحراوي وكلهم من اعضاء اللجنة الادارية بالحزب الوطني واكبر العاملين به، وقالوا انهم هربوا خوفا من بطش الحكومة بهم لانها مشددة الرقابة عليهم وتنوي الايقاع بهم وبغيرهم من الاعضاء العاملين اذا حصل اقل حادث بمصر او هاجم الاتراك مصر مساعدة لهم على خروج الانجليز منها
ومما قالوه ايضا ان الامة كلها متحفزة للوثوب على المحتلين بمجرد تحرك الجيش العثماني وان الحماس بلغ غايته، وان الانجليز يخشون النتيجة ويبذلون الجهد في غاية التقرب من الاهالي فيسافر المفتشون ومستشار الداخلية الى عواصم المديريات ويخطبون في العمد والاعيان الذين يجمعهم المديرون لهذه الغاية ولكن كل هذه المساعي لم تات بنتيجة وبالاختصار فالحالة في مصر تشجعنا فيما نحن ساعون اليه هنا وهو ارسال جيش عثماني لمحاربة الانجليز".

وحقيقة فان جراهام مستشار الداخلية كان يقوم بدوريات في مصر يتنقل من الوجه القبلي الى الوجه البحري من اسوان الى دمنهور والمنصورة وطنطا وهذه المدن كان واضح فيها الشعور الالماني فما كان عليهم الا ان يجتمع بالفلاحين فيها ويشرح لهم عمل الحكومة لمساعدتهم محاولا بذلك ضمهم اليها. وقد كانت مدينة طنطا مركزا لتجمع الوطنيين المعادين للانجليز وكان مراسل صحيفة إيجيبشين جازيت يمدهم بتحركاتهم واقوالهم.

ورغم انتشار رجال جيوش الامبراطورية في انحاء القطر لقمع اي تنظيم او قيادة لثورة، فالجماهير المغلوب على امرها، خرجت فجاة متجمهرة بالإسكندرية في 31 أغسطس 1914 تطلب القوت والعمل وكان عددهم حوالي 1500 شخص وسرت العدوى للقاهرة، ففي 3 سبتمبر 1914 اجتاحت القاهرة موجة عارمة من المظاهرات قام بها العمال العاطلين وساندهم جماهير الشعب يطالبون بالخبز ويهتفون بسقوط الحكومة "جعانين جعانين تسقط الحكومة ..يسقط الظلم.. يسقط الانجليز".

وهاجموا مجلس الوزراء ولكن هذه الحركة لم تكن منظمة ومدروسة او ذات قيادة، لهذا امكن سحقها بسرعة فتصدى البوليس لهم وقبض على 150 منهم واشترك رجال المطافئ بمساعدة رجال البوليس، واعطيت الاوامر للبطارية الخامسة من المشاة بمراقبة الامن والنظام في المدينة خوفا من حدوث ردود فعل لهذه الحركة.

ومما ساعد على سحقها ان مدرسة الحقوق التي هي دائما الطليعة الثورية في مصر وجميع المدارس كانت في الاجازة الصيفية، وقسمت النياب المتهمين الى ثلاث قضايا، قضية مظاهرة الدرب الاحمر والخليفة وقضية مظاهرة بولاق وقضية مظاهرة الجمالية وباب الشعرية، واطلقت الصحف على هذه المظاهرة اسم "مظاهرة الرعاع"، وقد حكم فيها بالاشغال الشاقة والجلد. وحشد الانجليز جيشا من العيون والجواسيس اكثرهم من حرافيش اليونان ونصارى الشرق وذلك للكشف على اي عمل يمكن ان يقوم به الشعب.

ومضت السياسة الانجليزية تتوسع في حركة اعتقال الافراد، وانقسم المعتقلون الى ثلاثة اقسام الاول يشمل اعتقال رعايا الالمان والنمساويين وابحارهم الى مالطة ثم اعتقال الاتراك المجودين في مصر وابحارهم ايضا للخارج ثم اعتقال المصريين المشتبه بهم، كذلك خضع للمراقبة اعداد كبيرة من الاتراك الذين لم يرحلوا.

لقد ظنت انجلترا ان هذا الاعتقال يخيف المصريين ويخمد نار وطنيتهم فعمدوا الى كل من آنسوا فيه اخلاصا لعباس او تركيا وقبضوا عليه واودعوه غيابات السجون، فكانوا يتتبعون الافراد وما اسهل عليهم من ان يسلطوا جواسيسهم يترسمون خطا الناس، فتم القبض على كل من تحدثه نفسه بالتكلم في السياسة، وكان قد انشئ عقب مقتل بطرس غالي ما يسمى بالمكتب السياسي، ورئيسه جورج فيلبدس، وهو مكتب لاستقاء اخبار الناس يقوم بالعمل له البوليس السري، ولعب هذا المتب دورا رئيسيا اثناء الحرب، فكانت له السلطة المطلقة واصبح له راي مسموع في مختلف المسائل السياسية.

وكانت الاعتقالات تجري وفقا لتقارير سرية وملئت السجون بالمعتقلين السياسيين وبمئات المشبوهين، سواء اكان ذلك بسبب او من غير سبب. وفي يوم اعلان الاحكام العرفية على مصر قبض على كثيرين من الجالسين في القهاوي - اسبلندر بار ، النيوبار – لوقوع الشبهة عليهم في ترويج السياسة الالمانية. وضبطت حكمدارية الإسكندرية طبيبا برتبة بكباشي، ففتش منزله في نصف الليل واخذت اوراق وجدت عنده، ثم اودع في السجن على ذمة التحقيق لاشتغاله بامور سياسية لم ترض رجال السلطة العسكرية، وقبض على اخر وحكم عليه بالاشغال الشاقة لمدة سنة لانه كان راكبا الترام ويتكلم فيه ضد الانجليز.

وراح البوليس يفتش المنازل، ففتش منزل يوسف سلامة ببلدة مجاورة في الزقازيق ووجد عنده اوراقا تدل على علاقته بعبد العزيز فهمي جاويش فاعتقل وارسل للسجن، وقبض ايضا على تلميذين احدهما من مديرية المنيا والثاني من الغربية.

وفي 4 نوفمبر 1914 قبضت السلطة بسبب اتهامات سياسية ايضا على كل من نور الدين باشا والقائمقام صفوت بك والبكباشي حسن بك والبكباشي نورك بك واليوزباشي احمد بك صبري واليوزباشي اصلان بك والبمباشي شعبان افندي والملازم فريد بك والملازم صلاح الدين بك وحافظ بك اسماعيل ومراك بك عبد الله ومحمد علي بك وكرم الدين ورحمي بك وبصري بك وكاظم بك وغالب الرسام واحسان ماركو وجميل بك وجعفر ابراهيم، وقبض من الشرقية على الشيخ هاشم بدران ومهدي محمد بدران وابو حميدة من العربان والشيخ مصطفى نوح.

وبين مكسويل ان الذين قبض عليهم فريقان الاول فريق يثبت عليه امور توجب القبض عليه والثاني فريق ثبت عليه انه يضمر مثل تلك الامور وفي امكانه تحقيقها، فقبض عليه لاتقاء شره.

ودعت السلطة بعض المصريين الذين اشتبهت فيهم الى محافظة العاصمة لمقابلة الحكمدار والبعض الى وزارة الحربية لمقابلة قومندان المخابرات، وحجزت المحافظة اغلب الذين ذهبوا اليها ومن بينهم حامد بك العلايلي التشريفاتي الخديوي ونبهت ادارة المخابرات على الذين ذهبوا اليها بالاستعداد للتوجه الى املاكهم في الارياف او ان يذهبوا الى ايطاليا او مالطة او قبرص

ويقول مندوب صحيفة الاهالي:

"علمت ان قومندان المخابرات في نظارة الحربية وهو ضابط انجليزي برتبة ميرالاي يستقبل الذين ينبه عليهم بالاستعداد للاستبعاد السياسي برقة ويقابلهم بلطف ويعطيهم مع الامر المكلف بتبليغه سيجارة وفنجان قهوة، وبلغ الذين اسعدوا للحجز ونبه بالاستعداد للاستبعاد نحو مائتين او يزيد عن ذلك وقد حجزوا في القلعة والمحافظة وطره". وبلغ الامر الى انه شوهد غلاما يمزق اعلانا ملصقا على جدار به نص الحكم العرفي فاقتاد على الفور الى مركز البوليس حيث بقى هناك معتقلا الى ان صدر عليه الحكم بالجلد.

وخول للموظفين الانجليز في الداخلية بامر من اللواء هيكنسن قائد البوليس المصري سلطة تكاد تكون مطلقة لقمع اي حركة تقوم داخل البلاد وايقاف كل الاشخاص المشكوك فيهم، وطلب رسميا من البرنس محمد علي شقيق الخديوي عباس واثنين آخرين في السارة الخديوية مغادرة القطر فرحلوا الى ايطاليا.

لقد ابعدت انجلترا كل من استشعرت فيه بالولاء للعهد السابق او من شكت في امره، او من تكلم مع مسئوليها بشان وضع مصر السياسي ومستقبلها وكان الشاعر احمد شوقي ممن وقع عليهم عقوبة النفي فهو معروف بعدائه للانجليز، فوضعت الاعين عليه خاصة بعد تلك القصائد التي نظمها وبين فيها ان الانسان اعجز من ان يتغلب على ما جرت به المقادير او يحول مجراها وتمنى ان يتحطم سيف البغي والعدوان وان ينصر الله الحق على الباطل، وانهى كلماته في احدى قصائده:

ومضت بنا منية الحوادث وانقضت الا نتائج بعدها وفصولا

وانفض ملعبها وشاهده على ان الرواية لم تتم فصولا

فعقب نش رههذ القصيدة في اوائل يناير 1915 دعته النيابة العامة للتحقيق معه لما اء في هذه القصيدة فقالت صحيفة الوطن في 11 يناير 1915 تحت عنوان "التحقيق مع احد كبار الشعراء"، ما ياتي: "الذي نقل الينا ولم تشر اليه الجرائد ان بعض السلطات تحقق في هذين اليومين مع واحد من كبار الشعراء لنشره قصيدة فيها بعض المغامر السياسية والاشارات الى بعض الحوادث التاريخية مما لا يصح نشره في الوقت الحاضر". وامر بنفيه فاختار اسبانيا مقاما له.

وعندما وكل قائد جيش الاحتلال مستشار الداخلية جراهام ادارة الاحكام العرفية في مصر اتسعت حركة الاعتقالات "فاعتقل الكثير من ابناء مصر بعد ان هجم على بيوتهم وادخل الرعب في قلوب اهليهم ونفي الكثير منهم". لدرجة ان صحيفة الاهالي علقت على هذا بانه رجوع الى عهد المظالم.

بالاضافة الى الضغط على الشعب والنفي والاعتقال والجلد راى الانجليز ضرورة تجنيد رجال الدين من العلماء للمناداة باتباع الهدوء والكف عن اظهار الشعور المعادي للانجليز لعلمهم ما للدين من قوة لدى النفوس المصرية، وان سبب تشيعهم للالمان وللاتارك هو ذلك الرباط الروحي الذي يربطهم بخليفة المسلمين. وفي حقيقة الامر فانه عقب اعلان الحرب ظهرت حركة بين العلماء ضد الانجليز وتفطن حسين رشدي لخطورة هذا الامر فاوفد رسولا الى الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر مبينا "ان الحركة لا تفيد لان المصريين لا يملكون سلاحا ولا ذخائر للمدافعة عن انفسهم، وعن بلادهم والافضل ان يكون الهدوء رائدهم".

وامام الضغوط بدا الموقف يتغير فاصدر كبار علماء الأزهر منشورا يطلبون فيه الالتزام بالهدوء والسكينة واجتناب المجالس التي يكثر فيها القيل والقال. وبذلك نجح الانجليز في الحد من تيار الأزهر الذي كانوا يخشونه حيث ان ميوله تجاه الدولة صاحبة الخلافة الاسلامية قوي هذا من ناحية، وله تاثير كبير على المصريين من ناحية اخرى.

وفي اول الامر طلبت تعطيل الدراسة فيه، لكن رجال الأزهر افهموا مستشار الداخلية ان الأزهر اكبر جامع تؤدى فيه الشعائر الدينية ولا يمكن باي حال من الاحوال اغلاقه. وفي 25 أغسطس 1914 جمع رشدي الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر والشيخ محمد حسين مخلوف والشيخ ابو الفضل الجيزاوي، ودار الحديث حول تاخير افتتاح الأزهر والمعاهد الدينية، خوفا من حصول هياج بين الطلبة خصوصا اذا اعلنت تركيا الحرب على انجلترا، وبعد المداولة تقرر افتتاح الدراسة على انه اذا حدثت اية مشاغبة تامر الحكومة بتاجيل الدراسة".

وقد فكر الانجليز في تقليل عدد طلبة الأزهر – وكان عددهم في ذلك الوقت حوالي 8222 طالب - بفصل من هو معروف بعدائه للانجليز من مصريين واتراك فتم فصل 2006 طالب فصلا تاما بحيث يصبحون لا صلة لهم به، بحجة عدم انتظامهم في الدراسة واشتغالهم بغير طلب العلم ثم استصدروا من مشيخة الأزهر منشورا الى الطلاب سواء في الأزهر او في المعاهد العلمية الدينية في القاهرة والاقاليم يفرض عليهم التفرغ للدراسة وعدم الخوض في المسائل السياسية وان يلزموا بيوتهم عقب الغروب والا يتكلموا في الاحوال السائدة.

بهذا احست انجلترا انها قضى على الخطر من جانب الأزهر الذي كانت متوجسة خيفة منه ثم سعد بعد ذلك لتجنيد بعض الصحف المصرية، فصدرت هذه الصحف تنادي بضرورة الالتزام بالهدوء والسكينة ومساعدة الانجليز ومد يد المعونة لهم.

وراح المسئولون في مصر ينادون بذلك ويدلون في تصريحاتهم ما يؤيد ضرورة التعاون مع الانجليز، فقد صرح رشدي الى مراسل الجورنال دي ايطاليا: "اشاعوا عن مصر انها على ابواب ثورة داخلية .. ان الشعب المصري يعلم ان مصلحته في خلوده الى الهدوء والسكينة، وان همه الوحيد في هذه الظروف يجب ان يكون موجها لجني قطنه والتفكير في امر تصريفه".

وحاول الانجليز ان يفروا المصريين من الالمان والاتراك ليحدوا من مشاعرهم فقامت الدعاية البريطانية على اساس اقناع الشعب بفضائل الانجليز ومناقبهم وعدلهم في الوقت الذي وصفوا فيه الالمان بالتوحش والهجمية والتعطش لسفك الدماء لدرجة انهم جعلوا طيارتهم ترمي احدى عشرة قنبلة على احياء القاهرة المدنية على انها طائرة المانية وذلك حتى يبعدوا الشعب عن الالمان

ويبين سعد في مذكراته تفاصيل ذلك ويعلق بقوله: "ويستدل الذين يقولون بان تلك الطيارة انجليزية بالادلة التالية: أولا انها اجتازت الحدود ووصلت الى عاصمة البلاد صباحا وحلقت من الساعة العاشرة، وقد وقعت الحداثة الساعة الحادية عشر والنصف ولم يطاردها مطارد ولا يدافعها مدافع، وثانيا انه كان في الامكان مقابلتها عند العودة واقتناصها في السويس او القنال، ثالثا انها لم تلق القنابل الا في الشوارع والخرائب، رابعا ان الالمان لا يستفيدون منها الا النفور منهم اما الانجليز فيسعون على اثبات كون هؤلاء من الهمج المتوحشين وانهم لا يعطفون على ضعيف ولكن الناس ايقنوا انها من غير الترك والالمان".

كذلك جندت بعض الشعراء لاجل الدعاية البريطانية وتوعية المصريين بالتزام الهدوء وترك نزعة الشباب ومهاجمة الالمان والاشادة باعمال الانجليز. وفهم المصريون الامر ولم تخدعهم تلك الدعايات ولم تقض على ابداء الشعور المعارض فعلت الاصوات بالدعاء بالنصر والتمنيات بالفوز لتركيا وحلفائها لدرجة ان تجار الإسكندرية اكتتبوا لاجل شراء طيارة واهدائها للجيش العثماني، وبلغ الاكتتاب 8000 جنيه، ولكن السلطة اوقفت هذا الامر.

ثم لجا الانجليز الى محاولة غريبة، لقد تصوروا انهم يستطيعون الاسعانة باغاهان الزعيم الاسلامي الاسماعيلي لحمل الناس على حبهم، فهو زعيم اسلامي فلذا اعتقدت انه سيكون له شعبية بين المسلمين في مصر هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى انه يمكن ان يهدئ من روح المصريين المتذمرة

فيقول في مذكراته:

"كان كتشنر متيقظا لكل طارئ في الشرق – وبالذات في مصر – فقد ارسل الى كتشنر لمهمة دبلوماسية او شبه دبلوماسية كانت الوزارة تؤيدها، وكان الملك جورج الخامس موافقا عليها ومهتما بها، وكانت تلك المهمة تتعلق بمصر حيث كان الوضع السياسي مضطربا ودقيقا" لكن محاولة انجلترا هذه لم تنجح، وبذلك فشلت الرحلة التي كانت تبني عليها امالا واسعة في تهدئة المصريين.

لقد عملت انجلترا كل احتياطياتها خوفا من الثورة ضدها فهي تعلم جيدا شعور المصريين تجاهها فاعدت الامر عدته بعد دراسة دقيقة، فلم يكن الامر سهلا، انه تغيير جوهري في حياة مصر السياسية، ويقول ستورس في مذكراته يصف القلق والوهم الذي سيطر على الانجليز:

"عندما مرت سيارة السلطان في حفل تنصيبه بالمنصة الكبرى للعمد والاعيان التي اقيمت في ميدان عابدين كان تصفيقهم فاترا لا حرارة فيه، وكان كل منهم ينظر الى جانبه ليرى ماذا يفعل جاره، وركبت مع شيتهام العربة لكي نقدم العرش للسلطان الجديد وكان السلطان في حالة عصبية بالغة متاثرا الى حد عميق باهمية المناسبة، وكانت سيارة شيتهام تسير خلفي سيارة السلطان، وكان الموكب في حراسة جنود الجيش البريطاني، وكان الجنود يصطفون على جوانب الشوارع، وعندما وصل السلطان حسين الى قصر عابدين استقبل مستر شيتهام واعترف انني تنفست الصعداء عندما انتهى التتويج
وكنا نقدر لانفسنا ان احتمال القاء قنبلة او اطلاق النار علينا خلال الموكب الى قصر عابدين يتراوح بين 20 و30 %، فقد اكتشفت في الليلة السابقة للتويج عصابة تضم خمسة من الاتراك احضرت مسدسات براونج في اوائل الاسبوع واخذت تتدرب على استخدامها منذ ذلك الحين بفكرة اطلاق النار على الحكام بصفة عامة، في طريق من قصر عابدين بعد الانتهاء من تتويج السلطان حسين حذرت خادمي المصري اسماعيل وقلت له ان اي محاولة منه او من زملائه لقطع رقبتي او حتى لقطع رقبة مستر شيتهام فان اجورهم سوف تخفض بمقادر النصف، وان فصلهم من الخدمة سيكون جزاء محاولة الاغتيال الثانية".

وقابل الشعب الموكب السلطاني بالوجوم وكان مرتسما على الوجوه فلم يسمع هتافا ولا تصفيقا:

"وان الاهالي لم يرفعوا العلم الجديد وحتى العلماء امتنعوا عن اعطاء فتوى بعزل الخديوي عباس، واصبح الاهالي ينتظرون قدوم الجيش العثماني".

لقد توقع الانجليز ان تقوم الثورة في 20 ديسمبر 1914، وكانت المخابرات الحربية التي تدور بين شيتهام وبين جراي انه يتوقع هذا الانفجار، وفي بداية عام 1919 اكد المعتمد البريطاني في برقياته السرية لوزارة الخارجية بان الانفجار لن يحدث وان الموقف اهدا كثيرا مما كان عليه في 20 ديسمبر 1914 لكن ماكسويل امكنه النجاح في السيطرة التامة على المصريين دون اي اعتبار للشعور الوطني.

وظهر ذلك في السلبية التي انتابت المصريين بناء على اجراءات انجلترا، ولسوء حظ مصر كانت الحركة الوطنية تعيش بدون تنظيم او ادارة، فخروج محمد فريد قبل الحرب ترك فراغا في القيادة وترك اعضاء الحزب الوطني لمصر ونفى الكثير وقفت حائلا دون قيام تنظيم واسع فاذا قبض على خلية حلت محلها على الفور اخرى.

وامتلات قلوب المصريين كرها وحقدا لمن قبل ان يحكم في ظل الحراب الانجليزية وكان حرسه من قوات الجيش البريطاني، فيقول سورس: "في مساجد القاهرة كان دعاء الامام لخليفة المسلمين يتكرر ثلاث مرات على التوالي، وفي كل مرة كان المصلون يرددون الدعاء بصوت عالي يشترك فيه الجميع. وعندما دعا الامام لسلطان مصر الجديد، جاء رد المصلين ضعيفا وغير مسموع وكثير منهم كانوا لا يؤمنون على الدعاء". وظهر طلبة الحقوق يرتدون جميعا اربطة عنق سوداء وبدا على وجوههم تعبيرات الحزن الشديد. وحتى طالبات المدارس الثانوية الحكومية للبنات علقن في صدورهم ازهارا سوداء.

لقد ساء الشعب ما حدث وقابله بالسخط والالم اذ راى في تنصيب حسين على عرش مصر بخطاب موجه من المعتمد البريطاني مظهرا لضياع استقلال مصر، وايقن ان انجلترا اصبحت الحاكمة الحقيقية وما هذا السلطان الا تابع جديد، واصبح واضحا ان من يحكم هو الذي اجلس السلطان على عرش مصر. ويبين سعد في مذكراته اثر ذلك على الشعب فيقول: "والناس جميعا انقبضت صدورهم وعم الخوف جميع الطبقات حتى ما كان من الناس اشد بغضا لدولة عباس وحكمه".

ولم يكن ذلك حبا في عباس الحاكم السابق والذي اذاق المصريين الامرين في عهده لكنه اعتبر رمزا لاضطهاد الانجليز ومن هنا كان العطف عليه اذ يقول محمد علي علوبة: "ورغم ان الخديوي عباس لم يكن محبوبا من المصريين، فانهم نظروا الى مسالة عزله نظرة وطنية اكثر منها شخصية، واعتبروا تنصيب اي رجل محله طعنة في حقوق مصر واجمعوا على عرقلة كل مسعى يقضي بتنصيب رجل اخر تحت الحماية البريطانية اذ الواجب في نظرهم ان ينصب حاكم مصر بفرمان عثماني من السلطان الذي هو خليفة المسلمين.

ومضى تيار التوتر الذي اجتاح مصر ضد الحماية الى ان قامت ثورة 1919، فقد كانت خطابات ونجت الى لورد هاردنج والي رونالد جراهام اثناء سنتي 1917 و1918 تدل على ذلك، ولكن المصريين اضطروا تحت الضغط والارهاب وهذه الظروف القاسية الى تضييق الطاق لنشاطهم وكبت الافصاح عما كان في قلوبهم من ثورة متاججة على هذه الاوضاع تلك الثورة التي لم تستطع ان تجد لها متنفسا الا بعد اعلان التهدئة.

الترجمة العملية

كان لفشل الدولة العثمانية وهزيمتها امام الانجليز في قناة السويس في 2/3 يناير 1915 اثر كبير في نفوس المصريين الذين كانت تتحرك بذور الثورة في نفوسهم والذين كانوا يتشيعون للخليفة وحليفته المانيا. والذين كانوا يرون في الانجليز مجرد مغتصبين لحقوق الخليفة، وفي السلطان حسين مغتصبا لحقوق ابن اخيه.

ولما ايقن الشعب انه لا خلاص له على يد جيش الاتراك راى ان يبذل نشاطه هو لعله يستطيع اثارة القلاقل والانتقام سواء من الانجليز او من الخونة الذين حكموا البلاد تحت حمايتهم. لم تكن فكرة الاغتيالات السياسية بجديدة على الشعب المصري ، فلها سابقة اذ قتل بطرس غالي عام 1910 بفضل مجهودات الحزب الوطني وبتاسيس الجمعية السرية التي كانت لها اليد الكبرى في حوادث محاولات الاغتيال التي وقعت اثناء الحرب.

كانت اولى هذه الحوادث هي محاولة قتل "مستر دنلوب" مستشار المعارف وذلك قبل اعلان الحماية على البلاد ، اذ قصد احد موظفي مدرسة طنطا الاميرية ويدعى "حسن خليفة" وزارة المعارف في 22 سبتمبر 1914 وطلب الاذن بالدخول لمستر دنلوب ، ولكنه منع فحاول الدخول بالقوة، فالقوا القبض عليه وفتشوه فوجدوا معه مسدسين، وبالتحقيق معه اتضح انه يريد قتل دنلوب، وثبت انه هدده قبل ذلك على مسمع من الموظفين.

وهذا في حد ذاته يعتبر نقمة على الانجليز ورجالهم في مصر. ووزعت مجهودات الشعب في هذه الفترة على عدة ميادين، فالبعض راى الانتقام من السلطان والوزراء الذين هم اصل البلاء. والبعض راح يثير الناس ويتفوه ويصيح ويؤلب المصريين على الحكم، والبعض اتجه الى مضايقة الانجليز بجملة افعال مثل حوادث سرقات الجيش الانجليزي وحوادث التخريب للسكك الحديدية. ومن هنا زادت حركة الاعتقالات اثناء هذه الفترة، ففي 20 ديسمبر 1914 القت السلطة القبض على كاتب المحكمة المختلطة ويدعى عبد الله كبش لانه تفوه بالفاظ فيها تهديد للسلطان الجديد وانه ارتدى هو وزملاؤه ملابس الحداد يوم اعلان الحماية وبتفتيشه وجد معه مسدس وفتش منزله ومنازل اقربائه.

احست السلطة ان الشعب غير راضي عن تعيين خلف لعباس لهذا استعدت لحسم اي موقف يمكن ان يخلق انتقاما من السلطان الجديد فاوقفت امام غرفة نوم السلطان حراسا من الانجليز بالمسدسات خشية ان يطلق عليه بعض خدم الخديوي الرصاص، ثم امرت بكرد جميع الطباخين من القصر خشية ان يدس له واحد منهم السم في الطعام، واحكمت الرقابة على السلطان ولازمته الحراسة في كل مكان، فكان اول جمعة صلاها السلطان الجديد بمسجد السيدة زينب مع انه كان ينوي الصلاة في مسجد الحسين، ولكن في اللحظة الاخيرة بلغه وجود مؤامرة ضده، فحول قصده للسيدة زينب، وبقى رجال البوليس في طريق الحسين حتى يتوهم الناس ان السلطان سيصلي بالحسين.

وحدث حينما توجه السلطان الى المسجد الحسيني لصلاة جمعة 15 يناير 1915 ان جاء رجل واخترق النطاق الموضوع من رجال الشرطة والحرس والحاشية وجلس في صف الوزراء خلف السلطان، فأبعدته الشرطة السرية وساقوه الى مقر الشرطة وحققوا معه. وبينما كان الركب السلطاني مخترقا شارع ابي الدرداء بالإسكندرية صاح شخص قائلا يا معين بصوت دوى في الفضاء، فقبض عليه في الحال وسيق الى التحقيق.

وانعقدت محكمة الجنح بالعطارين لمحاكمة الشيخ مصطفى الترمذي صاحب مطبعة وشريكه "محمد صلاح" المطبعجي وذلك لطبعهما منشورات ثورية ضد الانجليز وضد السلطان، وضبطت هذه المنشورات معهما في نهاية ديسمبر 1914 وعندما سالت المحكمة محمد صلاح عن التهمة فقال اننه طبع المنشورات هذه بناء على انه مامور من صاحب المطبعة، فهو يطبع كل ما يطلبه من الشيخ الترمذي.

وقد استدعت المحكمة مستر انجرام كشاهد اول فقال:

"في يوم 29 نوفمبر 1914 الساعة الحادية عشرة ونصف طلبني سعادة الحكمدار واخبرني ان في الإسكندرية جمعية سرية وهي تتبع جمعية تحرير مصر، قد نشرت منشورات ثورية ومن ضمن اعضائها شخص يدعى عبد الوهاب علي ومحمود حسني العرابي ومحمد فهمي رشيد واعطاني صورة المنشور وامرني ان افتش منازل الاشخاص الثلاثة المذكورين في الحال وفي وقت واحد، فعينت ضابطا لتفتيش مكتب عبد الوهاب علي ومنزله وسفرت مظفا الى المحلة الكبرى لتفتيش منزل محمود العرابي وذهبت بنفسي لمنزل محمد فهمي رشيد فلم نجد شيئا
وعلمت ان المبلغ في هذه المسالة الشيخ الترمذي فاحضرته وطلبت منه ان يوضح لي بلاغه فبلغني بانه على علم بان جمعية سرية اسمها جمعية تحرير مصر تصدر منشورات سرية ثورية وانه ضبط المنشور الذي كان اعطاه لي جناب الحكمدار من عبد الوهاب علي، فقلت له انني فتشت منزل ومكتب عبد الوهاب علي ولم اجد شيئا، فقال لي وهل فتشتم مكتب عبد الوهاب فقلت له فتشنا ولم نجد شيئا
فاستغرب من ذلك وقال لي: وهل بحثتهم فوق الدولاب فرجعنا وفتشنا فوجدنا ثلاثة عشر منشورا ملفوفة فوق الدولاب ثم قام الشك في نفسي من جهة الشيخ مصطفى، فامرت احد الضباط بقفل مطبعته، وفتشت المطبعة فوجدت بها بقايا المنشور محروقا، وقطع اخرى صغيرة من مسودة وهذا يعني ان الشيخ مصطفى هو الذي طبع المنشورات واتهم عبد الوهاب فيها، وقد اثبت التحقيق ان الكل مشترك في الجريمة".

عم السخط وازداد على الاوضاع عامة وعلى السلطان حسين خاصة، فقد كان حسين ضعيف الشخصية ومن هنا بدا يحابي الانجليز فهم الذين اجلسوه حاكما، اذن فلابد من استمرار الولاء، ووصل الامر الى ان ستورس يذكر ان السلطان حسين كان يقول للانجليز الذين يصافحهم "انني اصافحك مصافحة حقيقية مصافحة جنتلمان لا مصافحة ابن البلد".

اي ان السلطان يعتبر ان المصريين يصافحون مصافحة الغدر والخيانة، واما هو الذي ليس بابن مصر فهو جنتلمان يصافح الانجليز مصافحة الصدق والوفاء. وكانت شخصيته مهزوزة امام ذلك العرش الذي اجلس عليه. ويدل على ضعفه ان سعدا يقول في مذكراته: "كثيرا ما كان يحلف على مصحف ويخرجه من جيبه ويضعه على عينه، ولما تكرر ذلك منه استخف الناس بشانه وسخروا منه، واخذوا يهزأون بما يبدو منه".

احس شيتهام بهذا الضعف ولاحظ ان المصريين يكرهونه وبالذات المثقفين، لذا اقترح عليه ان يقوم بزيارة المدارس والمعاهد العليا حتى يتقرب منهم، وبذلك يمكن له ان يكسر الثلج بينه وبين الشباب المصري، فاعجب السلطان بالفكرة فورا وقرر ان يبدا زياراته بمدرسة الحقوق، وكان ذلك في 18 فبراير 1915.

بدا الموكب السلطاني الزيارة فاصطفت الجنود على الصفين من قصر عابدين الى مدرسة الحقوق وفرش فناء المدرسة بالرمل وغطيت طرقاتها بالسجاجيد الحمراء، ورفعت الاعلام وعلقت الزينات على جدران المدرسة ووقف على ابوابها الوزراء وكبار المسئولين مرتدين الردنجوت الاسود، ودخل السلطان واذا بمفاجاة تقع تذهل الجميع، ان اغلب الطلبة وبالذات طلبة الليسانس قد تغيبوا عن الحضور لمقابلة عظمة السلطان وتحرج الموقف وتعقد.

واحتار عدلي وزير المعارف ورشدي رئيس الوزراء وحاولوا التخفيف من وقع الصدمة على السلطان الذي احس بانهم يحتقرونه وهو سلطان البلاد ومليك كل شيء.. كان هذا خدشا لكرامته، وعلى الفور ظهر غضبه ورجع لقصره واتصل بمكماهون وابلغه ما حدث وطلب منه نفي جميع الطلبة الذين رفضوا مقابلته الى مالطة، وتدخل رشدي وعدلي واقترحا بالاكتفاء برفت التلاميذ من مدرسة الحقوق وحرمانهم من الامتحانات بل وممن دخول اي مدرسة عالية في مصر والبحث عما اذا كان زعماؤهم هم سبب هذه الحركة ومعاقبتهم بالقائهم في السجن، وقد حاولا اقناع السلطان بذلك فوافق".

كان هذا الاضراب شبه مظاهرة صامته ضد الحماية وضد السلطان، وحاول الطلبة تبرير موقفهم فاعتذروا وابانوا انهم اضطروا للغياب نظرا لتشييعهم جنازة احد زملائهم وتبين في التحقيق ان عنوان هذا الشخص المتوفى ما هو الا عنوان محل جروبي. واثبت انهم اصطنعوا هذا السبب عذرا حتى لا يقابلوا السلطان. فهو خائن في نظرهم فمن اقوالهم: "انه من المستحيل ان ندرس القانون في بلد كل القوانين فيها متهكم عليها".

وانتهى التحقيق الى فصل 54 طالبا منهم احمد مرسي بدر الذي اصبح فيما بعد وزيرا للمعارف ثم العدل، ومحمد صبري ابو علم الذي اصبح هو الاخر مزيرا للعدل، ويوسف احمد الجندي الذي اصبح زعيما للمعارضة في مجلس الشيوخ وكان عضوا في الجهاز السري لثورة 1919، وعبد العظيم محمد الهادي الذي اصبح نائبا في البرلمان، وحسن يس الذي لعب دورا مهما في الثورة وطالب بخلع السلطان فؤاد، والباقي محامون مشهورون.

كما تم حرمان 13 طالبا من الحضور للدراسة حتى اخر العام، 18 طالبا وقع عليهم عقاب عدم حضور امتحانات اخر العام وكان منهم محمود عزمي الذي اصبح نائبا عاما ومحمد عبد الله عنان الذي اصبح كاتبا ومؤرخا، ومحمد محمود الذي اصبح رئيس محكمة استئناف وسليمان نجيب الممثل واصبح الباقون محامين بارزين.

وبعد ان باشر المجلس التحقيق مع الطلبة رفع الى وزارة الحقانية تقريرا اثبت فيه ان ما وقع هو مظاهرة اتفقوا عليها فيما بينهم، وعلى الفور طلبت السلطة الاطلاع على التحقيق لان الحكم العرفي المبسوط على مصر يتطلب ذلك.

وانتشر خبر الحادث في انحاء البلاد وفرح الشعب بان تلاميذ مدرسة الحقوق صفعوا السلطان على وجهه واحسوا انهم بعملهم هذا تحدوا الحماية، وعندما علم الشعب برفت الطلبة تضايقوا لهذا القرار، وتلقت الحكومة تقارير من المدارس والأزهر بان هذا القرار قد يؤدي على احدوث اضطرابات في جميع المدارس. وانه ليس في مصلحة السلطان ولا الوزراء ان يصدر مثل هذا القرار فاقترح عدلي – وزير المعارف – ان يصدر القرار من مجلس ادارة مدرسة الحقوق حتى لا يعرف الناس انه صادر عن السلطان او عن وزراء الحماية وبذلك يمكن تهدئة الراي العام والحد من حدوث اي ضجة او قلاقل.

ويقول محمد فريد ازاء ذلك:

"كل هذه الامور تفيد ان الحكومة متوجسة خيفة من الامة مع انها للان لم تبدا اقل حركة عدوانية ضدها وان حسين كامل غير امن على مركزه".

احدث قرار الرفت هذا والحرمان من الامتحان اثر سيء على الطلبة ثم في الاهالي معنى هذا القضاء على مستقبلهم. ومن المعروف ان مدرسة الحقوق في ذلك الوقت كانت تخرج كبار رجال الدولة، وذهب الاهالي الى الوزراء يوسطونهم

فيذكر سعد:

"حضر عندي محمود ابو النصر عقب حادثة مدرسة الحقوق، ورجاني ان اسعى لدى ولاة الامور في الاستعطاف بهم فلم اعده بشء نظرا لما اعلمه من عجز ولاة امورنا في هذه الحالة، ولكن مع ذلك تكلمت مع رشدي باشا في شانهم وقلت انهم اخطاوا، ولكن الحكم جاء غاية في القسوة واللازم ان يكون التاديب مناسبا للذنب،
وان الامم تعامل التلاميذ في جميع الاحوال معاملة ابوية، وتغتفر لهم ما تعاقب عليهم سواهم، والحرمان من التعليم لا يصح ان يكون عقوبة لان فيه ضررا كبيرا بالامة، فرايت منه عطفا عليهم ووعدني بان سيبذل جهده في العفو عنهم الا بضعة عشر منهم فقلت ان العفو الشامل خير وابقى ، والذين يراد التشديد عليهم منهم هم اذكاهم واوسعهم كفاءة فوعدني خيرا، ولكني سمعت هذا الراي ، اي راي رشدي باشا من السلطان نفسه ففهمت ان هذا هو راي السلطة الانجليزية".

من هذا نرى ان المسئولين بداوا يفكرون في تخفيف العقوبة والحد من العدد الذي تقرر رفته حتى يامنوا جانب الناس فقد كانوا يتوجسون خيفة منهم ومن احتجاجاتهم ضد هذا الاجراء ولكن السلطان في الوقت نفسه كان متمسكا كل التمسك بضرورة الانتقام منهم والضرب على ايديهم اليس هم الذين صفعوه وقد افضى بذلك لسعد زغلول في مقابلة تمت بينهما في 4 مارس 1915 اذ يقول سعد: "ثم تاوه – السلطان – من الاحوال عموما، ومن احوال تلامذ الحقوق الخديوية وقال انه يئس من اصلاحهم، وانهم تجاوزوا كل حد في الوقاحة وقلة الادب، وان قلبه اصبح كسيرا من الامه وشدة جهالتهم وسوء اخلاقهم وانه عزم الا يهتم بامرهم وان يتركهم وشانهم تعبث الحوادث بهم".

اخيرا راى المسئولون انه لو تم الاجراء ضد الطلبة فان هذا سيكون الثقاب الذي سيشعل الثورة لذا استصدر من السلطان امر عفو عن هؤلاء الطلبة، ولكنه استثنى من المحكوم عليهم سبعة عشر تلميذا لم يعف عنهم قيل لانهم هم الذين حرضوا زملاءهم على ذلك الامتناع. "وهم اذكى المحكوم عليهم واوسعهم كفاءة واكملهم استعدادا. ان حرمان سبعة عشر من انبه التلاميذ واكفئهم خسارة كبيرة وقد يترتب عليه فساد عظيم الا اذا استدرك ذلك بالعفو عنهم ايضا".

وفكر عدد من الطلبة المفصولين في الاتصال بسعد زغلول، وقال لهم سعد انه سيحاول ان يشفع لهم لدى السلطان ولكنه لن يدافع عنهم لانه يعرف السلطان جيدا، فقال الطالب احمد مرسي بدر اننا نفضل ان نموت ولا نكتب اعتذارا، فقال له سعد انا لا اطلب منهم اعتذارا ولكني مضطر ان اعتذر بالنيابة عنكم حتى انال براءتكم وانتم طلبة حقوق، وتعرفون ان من حق المحامي ان يتخذ ما يراه من الوسائل لمصلحة موكله

ويقول سعد في مذكراته:

"وقد رجوت رشدي باشا عندما اخبرني بعزمه القبض بالا يفعل فلم يرد الاصغاء فرجوته بعد ذلك في واحد منهم وهو يدعى اسماعيل محمود حمدي اخو امراة مصطفى بك الباجوري الذي اوصى على اولاده، فوعدني خيرا بانه سيفرج عن جميعهم قرب افتتاح المدارس فقلت له اذا لم يكن عليهم شيء، فالاولى الافراج عنهم قبل ذلك التاريخ فقال سانظر في ذلك". وهكذا لعب سعد دورا في التشفع لدى الجهات المسئولة لطلبة الحقوق حتى انه اخيرا تقرر قبول السبعة عشر تلميذا المطرودين ما عدا اثنين.

واراد السلطان الا يرى وجه طلبة الحقوق فامر بنقلهم من جوار القصر حيث كانت مدرسة الحقوق تقع بين شارع عبد العزيز وحسن الاكبر الى الجيزة ونفذ هذا القرار من العام الدراسي 1915/1916.

وتكررت الحادثة ولكن بشكل مصغر عندما زار السلطان الأزهر، فقد صرخ فيه الطلبة قائلين "اخرج يا خائن" فبض على بعضهم ومن ثم وضع جميع الأزهريين تحت المراقبة الشديدة، وقرر قائد الجيوش الانجليزية ان تكون محاكمتهم على اقل امر يقع منهم امام السلطة العسكرية.

ومضت الرقابة تشتد على الطلبة، فقبض البوليس على عشرة طلاب من جامعة الأزهر ينتمون الى قسم الدراسات التركية، وذلك لكثرة ارسال تهديدات منهم الى شيخهم والى بعض المسئولين.

وامر السلطان بالقبض على طالبين من مدرسة الطب بسبب انهما لم يقابلاه في الطريق بالتعظيم اللائق، ولكن على الرغم من الضعف والارهاب فان اشتغال الطلبة بالشئون السياسية لم ينقطع، ففي 17 نوفمبر 1915 قررت وزارة المعارف فصل طالبين بمدرسة المعلمين العليا وهما محمد صبري منصور ومحمد عوض محمد وحرمانهما من دخول المدارس الاخرى والمصالح الاميرية والامتحانات العمومية، وجاء في قرار الفصل انهما يشتغلان بالمسائل السياسية بكيفية يخشى منها على الامن العام، وقد ارتكبا بذلك ذنبا خطيرا استوجب هذه العقوبة، ووزعت الوزارة نشرة بهذا القرار على جميع الوزارات والمصالح الحكومية والمدارسة العليا.

لم يكن الطلبة وحدهم الذين خافهم الانجليز واقلقوهم، فقد توجه مكسويل للفيوم وقابل هناك مشايخ العرب لمحاولة ضمهم اليه وذلك لتخوفه من انضمامهم للسنوسي تحت شعار الاسلام، وطلب منهم ان يحلفوا له يمين الطاعة والولاء، فلم يقبلوا ان يؤدوه الا للحكومة المصرية فتساء منهم وامر بحبسهم ولكنه ارجع عن ذلك عندما افهمه المسئولون ان لكل شيخ اتباع يتجاوزون بين المائة والمائتين، فاذا علموا بحبسهم حدث شغب فاضطر الى ان يامر باخلاء سبيلهم.

وحدث ان انضم كثير من المصريين الى الجيش التركي الزاحف، والتحقت قبائل علي بالسنوسي وايضا كتائب من الجنود المصرية. واعلنت الصحافة عن حدوث عدة مهاجرات بين الهجانة من رجال خفر السواحل المصرية، انضموا علنا باسلحتهم الى قوات السنوسي.

كره المصريون السلطان حسين، لدرجة انه عندما كان يزور بعض الاماكن كان الكثيرون يقاطعون هذه الزيارة فلا يجد من يستقبله غير الموظفين والاشخاص الرسميين وبذلك فقد احترام الناس له بارتدائه رداء الملك، وحدث ان اقام دعوة للمحامين وكان من بين المدعويين المحامي احمد عبد اللطيف وهو صديق لرشدي، فرفض الدعوة وقال انه لا يعترف بسلطانه، فغضب السلطان على الفور وكالعادة ابلغ الامر الى السلطة العسكرية اذ اعتبره اهانة لكرامته ورات السلطة ضرورة نفيه الى مالطة ففي ذلك لاوقت كان يكفي جدا اي اشارة على اي انسان وبدون تحقيق يصدر الامر بالنفسي لمالطة اذ اصبحت اثناء الحرب وبعدها ملجا للمضطهدين السياسيين.

وجسم الامر لدى السلطة محمد سعيد وشيعته حيث كان يطمع في تولي الوزارة بدلا من رشدي لانه اذا حدث ونفت السلطة احمد عبد اللطيف ثم يتشفع له رشدي ومن هنا لن ترضى عنه – رشدي – السلطة، ولكن غرض محمد سعيد لم يف اذ تدخل رشدي فعلا في المسالة واحتج وهدد بالاستقالة اذا تم هذا النفي "لان البك المذكور صديقه الوحيد في مصر ونفيه يسقط نفوذه في عين اهله، فعدل الانجليز عن ذلك".

وكان السلطان حسين كثير الشكوى فنراه يقول لسعد ازاء هذه الحادثة:

"ان الكبار سفهاء واجلابهم طائشة انظر كيف فعل احمد بك عبد اللطيف المحامي، فاني دعوته ضمن من عرفته من المحامين عندي فحضر قبل اليوم المعين الى هنا وقال لسعيد باشا ذو الفقار كبير الامناء انه الا يمكن اجابة هذه الدعوة لانه لا يعترف بسلطنة البرنس حسين ولا ينبغي له ان يعرفه كسلطان كما لا ينبغي ان يعترف بالحماية الانجليزية ولا ان يتردد عليها".

من هذا يتبين انه كان اعتلاء السلطان حسين للعرش ايذانا بتحول الافكار للانتقام منه، فقد حدث حريق في غرفة الاستقبال الكبرى في عابدين، احدثه احد الفراشين القدماء بقصد احراق السراي كلها. وفي داخل القصر الصقت اعلانات تهديدية للسلطان. وضبطت القصائد الهجومية المعادية للحكم، ولكن كل ذلك لم يؤثر ولم يهز السلطان ولا السلطة الى ان وقعت حادثة لصاحبها ان يخلد اسمه بين الوطنيين في تاريح مصر الحديث

الا وهي حادثة خرجت منها اول رصاصة في ذلك العهد احتجاجا على الحماية وعلى الذي قبل الحكم في ظلها، خرجت هذه الرصاصة مصوبة الى حسين كامل، وصاحب الفكرة الاساسية لمحاولة الاغتيال هذه هو محمد شكري الكرداوي طالب بكلية الطب الشاهانية ومن اتباع الحزب الوطني كان قد رجع الى بلدته المنصورة في صيف عام 1914 لتمضية الاجازة وبعدها يعود للاستانة لتكملة دراسته، ولكن وقوع الحرب حال بينه وبين العودة وبدات مصر تتعرض لاحداث سياسية كان لها رد فعل عليه

اذ يقول في مذكراته:

"اثا رهذا الحادث – الحماية وتولية حسين – في نفسي كل مقت وقابلته بعقد نيتي على ان اكون اول فداء في سبيل الاحتجاج الفعلي ضد الحماية الباطلة، واقدمت على تنفيذ النية، واحتاج الامر الى شراء مسدسات والتمرن على ضرب النار، فتجولت في الريف ابحث عن ضالتي وساعدني في ذلك ابن خالتي حضرة عبد الحميد افندي اسماعيل واشترى لي عددا من المسدسات لا باس بها ولكنها من الطراز القديم، وترددت على بلدة بيلا الغربية واطلقت كثيرا من الطلقات من المدساست والبندقيات".

وصمم على ضرب السلطان حسين بالرصاص، فسافر الى القاهرة قبل تتويجه حتى يستطيع ان يقتله في اليوم المناسب وهو يوم التتويج، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل وكان السبب في ذلك كما يذكر "واقمت بطرف احد الاخوان وتركت المسدسات بمنزله، فارسل الى اهلي خطابا ينبئهم فيه بالخبر، فحضر اخي على الفور ومعه بعض الاقارب واكثروا من التهديد باخطار البوليس اذا لم اعد معهم في الحال، فعدت مع اقاربي الى المنصورة، واجلت التنفيذ الى فرصة اخرى انتهزها على حين غرة منهم".

كان لشكري الكرداني ابن عم يدعى محمد خليل وكان من المؤمنين والمتشيعين للحزب الوطني ، وللكرداوي تاثير عليه اولا بحكم المعيشة الواحدة التي كانوا يحيونها، وثانيا لانه لم ينل قسطا وافرا من التعليم، لذا اعتبر الكرداوي معلما له، ومنه هنا تشبع بافكاره وميوله وبمقته وكراهيته لما حدث لمصر عقب اعلان الحرب، وكان لمحمد خليل هذا الاستعداد الكافي للتضحية من اجل مصر، ويصف الكرداوي غرفته – محمد خليل – يقول: "وكان الذي يزور غرفته الخاصة يرى على الحائط اطارا بديعا يجمع في زواياه الاربعة صور مصطفى كامل باشا وعلي فهمي بك ومحمد فريد بك وصورتي".

ومن هنا نعرف ميول محمد خليل السياسية، ودار الحديث بينهما وعلم محمد خليل بما كان الكرداوي ينويه، فايده في العمل بل وعرض نفسه للقيام به وبان يكون هو فداء لهذا الواجب. وفعلا بدا يتمرن على ضرب النار واستطاع الكردي الحصول على مسدسات من طراز بروننج من شخص يدعى عبد اللطيف لطفي تاجر حدايد بالمنصورة وقد تبرع بها هذا الاخير بعد ان علم بالغرض الذي طلبت من اجله.

بدا محمد خليل يتمرن على ضرب الرصاص بهذه المسدسات بعيدا عن المنصورة في الحقول والمقابر حتى حذق الرماية واتفقا على السفر للقاهرة، وتحجج الكرداوي بانه مريض وسيتردد على العلاج بالقاهرة، وسافر كل منهما عن طريق، محمد خليل عن طريق الزقازيق القاهرة والكرداوي عن طريق طنطا القاهرة، وعندما وصل الكرداوي اقام بمنزل ابن عم له واعلمه انه حضر للعلاج، اما محمد خليل فاقام بفندق بكلوت بك وبدا في الاستعداد لضرب السلطان والانتقام منه.

تحرك الموكب السلطاني من قصر عابدين في يوم 9 ابريل 1915 الساعة الثالثة والنصف قاصدا زيارة السيد عمر مكرم نقيب الاشراف والسيد عبد الحميد البكري شيخ الطرق الصوفية، وتقدم الموكب الفرسان فوق الخيول بملابسهم الموشاة بالذهب وهم يشهرون السيوف والسلطان جالس في عربته الفخمة يجرها الخيول.

وعند تقاطع شارع عابدين مع شارع حسن الاكبر لجهة باب الخلق تقدم شاب يحمل باقة من الورد الاحمر نحو عربة السلطان – كان بداخل الورد مسدس ولكنه لم يظهر اذ كان محوطا بالازهار والورد على شكل طاقة وكل ذلك تقليدا للحالة التي كان عليها مسدس برنزيب الصربي الذي قتل ولي عهد النمسا في سراجيفو – وهش السلطان وبش وضحك..

لقد بدا الشعب يقدره وها هو يستقبله بالزهور والورود، لكن سعيد ذو الفقار كبير الامناء الذي كان يجلس بجوار السلطان لاحظ في عيني الشاب الذي يحمل باقة الورد شيئا لا يدل على الحب والاعجاب والتقدير بالسلطان فاشار على الفور الى ضابط الحرس ابراهيم خيري بان يمنع الشاب من الاقتراب، وتقدم الضابط نحو الشاب وهو شاهر سيفه بيده وراح يلوح بالسيف في وجه الشاب حامل الورد الاحمر حتى مسف سيف الضابط راس الشاب فشطر طربوشه وجرحه في راسه

ولكن الاخير لم يتراجع بل اندفع نحو السلطان وبسرعة البرق خرجت من باقة الورود رصاصة اصابت الحديد الملتف حول طرف كبوت العربة، واسرع الضابط مرة اخرى ضرب الشاب الذي حاول ان يطلق رصاصة ثانية على السلطان ولكنه لم يستطع لاحاطة البوليس به، وهوى السلطان وهو يصيح امسكوه امسكوه لا تقتلوه، فلقد خاف السلطان من ان يطلق عليه الحراس الرصاص كما فعل الاتراك في محمود مظهر الذي اعتدى على حياة الخديوي عباس بالاستانة لقد اراد حسين ان يعرف شركاءه وعصابته التي هدفها الانتقام منه.

قبض الحراس على الاشب وسيق الى قسم عابدين وهو يهتف:

"يسقط الاحتلال.. يسقط السلطان الخائن.. يسقط الانجليز ويقول ستورس انه لو كان السلطان جالسا في وضع منتصب لكان قد قتل بكل تاكيد ولكن السلطان كان متعبا قليلا فاستند الى الوراء، ومن ثم مرت الرصاصة على مسافة 3 بوصات من جسمه. واكد ذلك الطبيب الشرعي فقال ان الرصاصة لو لم تنحرف سنتيمترا واحدا لقتلت السلطان
وذهل الانجليز لهذا الحادث، انها اول رصاصة تنطلق بعد اعلان الحماية وبعد تعيين السلطان الجديد ولذلك رغم ان السلطة جمعت كل السلاح الموجود في مصر، حتى العصى الغليظة ، ونبهت على تجار الاسلحة والالات القاطعة بالتوقف عن البيع مطلقا. وذلك كله خشية ان يضرب الوطنيون احد الانجليز او الوزراء او السلطان منتقما منهم ولكن رغم ذلك خرج هذا الشاب واطلق الرصاص على السلطان.

وعقب الحادث ذهب كل من الانجليز ووزراء واعضاء جمعية تشريعية الى تهنئة السلطان واظهر الاخير امتعاضه لسعد فقال: "لقد حفت الجنة بالمكاره ولا يسلم المكان الرفيع من اذي يلحقه ولابد من مقابلة عظام الحوادث بالجلد والصبر، وكلما علت منزلة المرء كثر حاسدوه والمؤمن مصابا وانى من يوم جلوسي على هذه الاريكة ما اتيت شرا، وما فعلت الا خيرا، واني اتاسف ان الامة لم تقدرني قدري حتى ان الاجانب قابلوني وانا عائد بالهتاف اما الوطنيون فبالانصراف".

هذا يثبت ان الشعب كان راضيا عن الاغتيال وفرح بالحادث ولكن ساءه عدم اتمامه واستكمل السلطان مشواره بعد وقوع الحادث وعند رجوعه كما تبين من مذكرات سعد لم يقابله الشعب ولم يهتف بنجاته انما الذي فعل ذلك هم الاجانب اصحاب المصلحة الحقيقية في البلاد، واوعزت الحكومة الى حكام ومديري الاقاليم بان يدعوا الناس للحضور الى تقديم التهاني للسلطان على نجاته وكلم رشدي سعدا للمخابرة مع مظلوم باشا رئيس الجمعية التشريعية بشان استدعاء اعضاء الجمعية لنفس الغرض.

وتولى مامور قسم عابدين محمد شكيب اخذ اقوال الجاني قبل وصول رئيس النيابة والنائب العام، وفتشه المامور فوجد معه اربع رصاصات من عيار اكبر من عيار المسدس الذي اطلقه ووجد معه قرصين اعترف انه اشتراهما ليقتل بهما نفسه بعد ارتكاب فعلته ولكنه عدل حتى لا يتهم بالجبن، اما الرصاصات الاربع فقال انه اشتراها من المنصورة وهو يظن انها توافق المسدس الذي معه، اما المسدس فقال انه وصل لديه هدية من حمادة بك احد اصدقائه في بيروت عند زيارته لهذه المدينة 1912، ووجد في جيبه اربعة جنيهات ومفتاحا عليه رقم 5 فسئل عن هذا المفتاح فقال انه مفتاح الغرفة التي نزل فيها بفندق المؤيد.

وارسل على الفور اليوزباشي كاريته رئيس البوليس السري الى الفندق لتفتيشه ، فوجد به حقيبة الجاني مقفلة ومحزمة بسيور جلدية، فلما فتحت وجد بها خطابان فيهما استنهاض للمسلمين والمصريين لقلب الحكومة الحالية وكتب ايضا "انا الان اعطي حياتي لامحو ذلك العار العظيم الذي سجله علينا التاريخ" وعبارات اخرى تقول احداها: "التمس اليكم وارجوكم ان تحافظوا على شرف اسلامكم". كذلك وجدت اوراق تتضمن طعنا في الانجليز ودعوة الى الثورة عليهم.

شاع اولا بين الناس ان الجاني قبطي، ثم انه تلميذ في مدرسة الحقوق حاول انت ينتقم من السلطان مرة اخرى، فطلبة الحقوق قبض على بعضهم بعد حادث الزيارة، ووضعوا في سجن طرة ثم اطلق سراحهم وحددت اقامة كل واحد مهم في بلده لكن التحقيق يكشف ان الشاب ليس قبطيا وليس طالبا بالحقوق ولا حتى طالبا باي مدرسة على الاطلاق، وليس من سكان القاهرة ايضا، بل هو تاجر خردوات بالمنصورة وعمره سبعة وعشرون سنة، وعلى خلق كريم ومعروف بالادب وقوة الاعصاب.

على اثر هذه الحادثة احست الحركة الوطنية انها استطاعت ان تفعل شيئا انتقاما من هذه الاجراءات التعسفية حتى ان محمد فريد قال: "لقد سررت جدا من هذا الحادث الذي اثبت للعالم ان الامة غير راضية عن الحماية الانجليزية، وانها مستعدة لمجاراة كل من يقبلها، ولكن ساءني عدم اصابة المرمى لان هذا الشاب سيعدم طبعا بدون ان يكون اتم ماموريته". وسارعت الحكومة في بلاغاتها السرمية تلوث سمعة محمد خليل وتصفه بانه سيء الاخلاق، واختلقت احاكاما صادرة عليه ولفقت له قصة ونشرت في الصحف.

وامتلا قسم عابدين بالوزراء حيث اسرع اليه كل من حسين رشدي وعبد الخالق ثروت وعدلي يكن واحمد عرابي وعلى ذو الفقار محافظ القاهرة وهارفي حكمدار القاهرة ورسل مساعد الحكمدار وفليبدس مامور الضبط ومحمود محمد وكيل الضبط وعلي توفيق رئيس نيابة مصر.

وفي الوقت نفسه القت الشرطة القبض على بعض اقرباء المتهم ومعارفه في المنصورة، وفتشت منازلهم كما قبض على الكثير من الطلبة وقبض ايضا على محرك محمد خليل وهو شكري الكردي الذي يقول في مذكراته: "وبعد ان سالت النيابة العمومية الدكتور حامد شاكر بك وتلقت منه ردا بانني كنت اتردد على عيادته بالعتبة الخضراء كل يوم للمعالجة لم تجد وجها لاستمرار حبسي".

انعقدت المحكمة العسكرية لمعاقبته في دار محكمة الاستئناف بباب الخلق وسط مظاهرة عسكرية انجليزية قصد بها ارهاب الشعب حتى لا يقوم باي مظاهرة او ما شابه ذلك، وخضعت الجلسات لمراقبة شديدة فكان هارفي باشا حكمدار القاهرة وجورج فليبدس مامور الضبط وبعض ضباط البوليس ورجاله يسهرون على النظام.

وكان رسل بك مساعد الحكمدار في داخل القاعة يفحص تذاكر الداخلين، ووقف ثلاثة من جنود رماة لانكشير على باب القاعة وثمانية داخلها ببنادقهم وفي افواهها الحراب، ورغم ان المتهم ملكي والمحاكمة المدنية المصرية لا تزال قائمة باعمالها فقد كان لها الحق في محاكمته فان اعلان منشور الاحكام العرفية والمنشور الذي لحقه في نفس اليوم يعطيا المحاكم المدنية الاستمرار في عملها الا ان السلطة اصرت على محاكمته عسكريا وذلك "أولا للسرعة في الحكم وثانيا للحكم بالاعدام الذي لا تحكم به المحاكم الاعتيادية في مثل هذه الجريمة ويجوز ان ينضم لهذين الغرضين غرض البعد عن ضجة المحاماة وعلانية الجلسات".

ومن المعروف ان السلطة كانت تتوجس خيفة اعلان الحكم خوفا من اثارة شعور الشعب ولكنها رات تضييق الاحكام العرفية على عنق الشعب، فجعلت الرقابة تكمم لسانه ملئت السجون بالابرياء ورهبت الناس بسيف السلطة حتى انه ما جرى اثناء المحاكمة حذفته السلطة البريطانية وخاصة اقوال محمد خليل التي لو نشرت في تلك الايام لالف الشعب الاغاني والازجال ونظم القصائد مثلما حدث مع الورداني .. لقد تاسف الشعب لعدم تمام الفعل.

انعقد المجلس العسكري الانجليزي وحضر حسين رشدي وطلعت بك والمستر هلتون رئيس محكمة مصر المختلطة والسير جراهام مستشار الداخلية والمسيو جيرو القاضي الفرنسي في المحاكم المختلطة، والمستر كرابيتس القاضي الامريكي فيها وشيتهام وستورس، وقد حاول عدد من الشباب المصريين دخول المحكمة فمنعوا وحتى الصحفيين فلم يسمح بالدخول الى لثلاثة تطمئن لهم السلطة.

نودي على الجاني من سجن الاستئناف، فاخرج من غرفة السجن بين جنديين انجليزيين شاهرين السلاح ويتقدم جندي ويتلو الجميع ضابط صف، فساروابه حتى قفص السجن فوقف في القفص جندي على يمينه واخر على يساره وثالث وراءه، وبذلك احكمت الرقابة عليه حتى لا يمكن له القيام باي عمل او اي انتقام، وكان في اثناء الاستراحة يطلب ان يؤتى له بطعام وكان يغني بصوت منخفض ويضحك وحتى اثناء الجلسات وامام اقوال المدعى العام والنيابة والدفاع كان يضحك ويحك جبهته، ولم يعترف انه مجرم او اسف لهذا العمل بل اسف لانه لم يتم كما اراد، ورفع صوته وابان ان حسين خان مصر لانه قبل العرش من الانجليز ووافق على اعلان الحماية وباع مصر لانجلترا، وردد انه سيعود الى ما اراده ويقتل السلطان.

وكان رشدي قد ذهب الى محمد خليل في سجنه ليغريه بالاعتراف على شركائه على ان يستصدر امر عفو عنه ويعينه وزيرا، فضحك محمد خليل من هذا العرض وقال وبعد ذلك ساضرب بالرصاص انني افضل ان اموت وانا وطني على ان اعيش وانا وزير خائن.

وحاول ايضا فليبدس اذ كان مشهورا بالذكاء والخبث ان يؤثر عليه بكل وسائل الاغراء والتعذيب ولكن محمد خليل صمد امام كل هذه الضغوط ولم يعترف بشئ يدل على انه له شركاء. وفي 26 ابريل 1915 نشر قلم المطبوعات المصري هذا البلاغ: "حكم المجلس العسكري بالاعدام شنقا على محمد خليل الذي حاول اغتيال عظمة السلطان وقد اقر على هذا الحكم اللفتنت الجنرال السير جون مكسويل قائد جيوش جلالة ملك بريطانيا العظمى في القطر المصري". ونفذ فيه الحكم بعد خمسة ايام، ولم يحدث في تاريخ مصر ان نفذ حكم الاعدام في محكوم عليه بعد صدور الحكم بهذه الايام القليلة.

وفي يوم تنفيذ الاعدام سال مامور السجن محمد خليل: ما هي طلباتك؟ فرد عليه بان طلباته لا يستطيع اجابتها: انني اطلب راس السلطان. وعندما جاء عشماوي ليعصب عينيه رفض ذلك، ووقف على منصة الاعدام وهتف قائلا: يسقط السلطان وتحيا مصر ثم ادار وجهه للحاضرين وتبسم ورفع يده الى جبهته وقال السلم عليكم ورحمة الله وبركاته. وتصور الانجليز والسلطان والوزراء انهم بعد اعدام محمد خليل السريع سيخيفون المصريين.

ونشطت حركة التجسس، فصدرت الاوامر بغلق جميع المقاهي والاماكن العامة في المنصورة، وروقب شبابها جميعا وتتابع تفتيش منزل الكرداوي ونبه عليه بعدم مغادرة المنصورة، ثم رات ان تعتقله وارسلته الى سجن الاستئناف بالقاهرة ثم الى سجن الحدرة بالإسكندرية ثم افرج عنه وبعد اسبوع قبض عليه وارسل الى سجن الاستنئاف ثم نقل الى معتقل درب الجماميز ثم الى معتقل طرة ثم معتقل الجيزة، وكان معه افراد كثيرون من المنصورة يجمعهم الاستياء ضد الانجليز والحماية والسلطان.

وقبض ايضا على احد مستخدمي المحكمة المختلطة لمجرد انه تكلم في السياسة ضد الحلفاء لاحد زملائه، فاعتبرت السلطة ذلك تدخلا في المسائل السياسية محرم على الاهالي وامتدت ايدي السلطة الى النساء فقبض على من تدعى نعمة هانم لانها تكلمت ضد الحلفاء وفي صالح تركيا والالمان، ولكن افرج عنها لتشفع رشدي لها، ثم اتهمت سيدة اخرى لنفس التهمة فنفتها السلطة العسكرية، ويقول سعد: "فاكبرت الامر ونددت به وقلت ان هذه سياسة خرقاء فلم نسمع من قبل هذا بان الحكومة تهتز اركانها لما يتحدثه النساء في مجالسهن خصوصا المسلمات منهن لانهن لا يجتمعن بالرجال ولا يمكن ان يحدث ما يبدو منهن اقل تاثير في الراي العام".

هكذا كان يخيف السلطة حتى اجتماعات النساء وحديثهن، فكان لسان سيدة مصرية يكفي لارهاب السلطة ولتخويف السلطان ولافزاع الوزراء فلا يرون حيلة لاسكاتها سوى مغادرة البلاد.

وقد عثرت السلطة بعد تفتيشها في خزانة ادارة صحيفة المؤيد بالإسكندرية – ميدان محمد علي – على كتب ثورية ومنشورات ضد الحماية وعلى الفور قبض على وكيلها للتحقيق معه، واقفلت الصحيفة في الحال واصبح من المالوف ان نجد الشوارع يسير فيها رجال البوليس مثنى وفي يد كل جندي عصا طويلة للقضاء على اي عصيان اذا اقتضى الحال، وبعد حادثة محمد خليل ايقن الانجليز ان الاهالي ما زالوا على شعورهم وولائهم لدولة الخلافة ولمبادئ الحزب الوطني

ومن هنا راوا ايضا التشديد والرقابة على اعضاء البطارية المصرية المشتركة في القنال وذلك لتوقع هجوم الاتراك مرة ثانية، وفعلا اكتشفت خطابات كان يحملها وكيل اوبماشي يدعى محمد سيد احمد العبد رقم 7260 من البطارية الخامسة المصرية بالاسماعيلية اذ كان ياتي يوميا من بورسعيد في قطر الخامسة صباحا ويقابل بعض الشبان (الافندية) بالقرب من محكمة سكك حديد القاهرة فيعطيهم خطابات وياخذ منهم خطابات.

واستاء الانجليز واصبحوا لا يامنون جانب الجنود المصرية، رغم ان تلك الجنود اشتركت معهم في الحرب ضد الاتراك والالمان وكانت صاحبة الفضل في الانتصار اثناء الهجوم الاول للاتراك على القناة، ولكن رغم ذلك فقد اخضعهم الانجليز لرقابة صارمة.

واضطربت نفسية الشعب وازداد كرهه للانجليز، وبالرغم من قيوم الاحكام العرفية عليه الا انه وقف امامهم كلما استطاع الى ذلك سبيلا، لقد ساءه انتشار جنود الامبراطورية في كل مكان يسيئون للاهالي وينقضون على الحرمات ومن هنا اراد الشعب الانتقام، وكانت الإسكندرية مقرا للحملة المصرية للبحر المتوسط منتشرا فيها هؤلاء الجنود، فقام احمد المغربي بطعن جندي انجليزي عدة طعنات في ظهره وزيادة في الانتقام جزر عنقه بالسكين فمات في الحال وحاول الجاني ان يهرب ويرمي السكين في البحر ولكنه ضبط وسيق الى المحافظة.

ويقول اقبال شاه الذي كان معاصرا لهذه الحوادث:

"حدث ان رايت جنديا استراليا في لباس المستشفى الازرق واقفا عند احد المنعطفات دون غرض، فاقتربت منه ثم اقترحت عليه وهو لا يحمل سلاحا وفي موقف لا يستطيع معه ان يحمي نفسه اذا ما هوجم بانه خيرا له لو لجا الى مكان اخر اقل خطر، فضحك في مرح ثم قال: ان معي زميلين خلف المنعطف يحملان عصايتين اما انا فاقف للاغراء". وكثيرا ما نجح المصريون في اقتناص هؤلاء الجنود والتنكيل بهم، وراح البعض ينتقم بالاستحواذ على ادوات الجيش البريطاني واحيانا كان يتم القبض عليهم وعلى الفور تشكل لهم محاكمات عسكرية.

ولم يفت ذلك في عضد المصريين بل مضوا يوسعون دعاياتهم ويوزعون حقدهم على الانجليز فيقول ستورس:

"لا تزال دوائر الطلبة والصحفيين تبدي فتورا بالغا حيالنا لا تزال تبدي عداء مليئا بالحقد انهم لن يقتنعوا ابدا.. ان نيتهم سيئة.. ان عقولهم مضللة، اذا اعلن البلاغ الحربي الرسمي بوقوع اسرى في ايدي الانجليز، قالوا اذن الانجليز خسروا من رجالهم اكثر من هذا العدد بكثير
ثم يتساءلون اين هؤلاء الاسرى؟ فاذا مشت في الشوارع المواكب الاسرى قالوا اذن فهم ليسوا الا هنودا متنكرين في صورة اسرى اتراك او اذا اظهروا ملابس الاسرى رثة واقدامهم عارية قال المصريون ان الانجليز هم الذين مزقوا ثيابهم وخلعوا نعالهم، واذا ذهبنا الى الإسكندرية لتمضية ثلاثة ايام قال المصريون اننا نفعل ذلك حتى نكون على مقربة من الميناء ومستعدين للهرب فورا بطريق البحر، لا تكاد تسقط اشاعة حتى تقوم اشاعة اخرى".

وصمم الانجليز على مواصلة التنكيل بالشعب بعد ان ايقنوا ان تصرفاتهم لم تؤثر عليه، ان اعدام محمد خليل لم يخفه، ولكن لقد استهان المصريون بالتهديد والارهاب والوعيد وعمليات النفي والاعتقال وصمموا على استمرار التكفاح، فكانت المحاولة الثانية لاغتيال الحاكم، ولم يكن قد مضى على الاولى الا وقت قصير.

وبالإسكندرية، في يوم 9 يوليو 1915 خرج موكب السلطان الفخم من قصر راس التين الى سيدي عبد الرحمن بن هرمز لتادية صلاة الجمعة وكان على يساره في مركبته ابراهيم فتحي وزير الاوقاف، وفجاة القيت من احد المنازل بشارع راس التين المطلة على موكبه قنبلة اثناء سير الموكب، ولكنها لم تصب عربة السلطان ولم تنفجر بل سقطت بين ارجل الخيول التي تجر العربة.

ولم يعرف السائق الذي يسوق العربة ولا الحراس انها قنبلة بل ظنوها كرة قذف بها سهوا احد الاولاد، ولم يعرف السلطان انها قنبلة القيت عليه، فقد وصل الى المسجد وادى الصلاة ثم عاد للقصر وتناول غذائه، ولكن عرف من بعض من كانوا معه ان هذه قنبلة وتوجهت انظارهم الى المنزل الذي سقطت منه فعرفوه، واخفوا عن السلطان الخبر حتى لا يزعجوه، ولكنه تلقى عقب رجوعه الى القصر من دار الحماية عبارات التهنيئة بسلامته بالتليفون فاستغرب وسال موظفي القصر عن جلية الخبر فقصوه عليه، وهنا كانت طامته وانزعج كثيرا عندما علم ان الذي اقلى عليه القنبلة فر وهرب وعجز البوليس عن القبض عليه.

سعد المصريون بهذا الحادث وكانوا يتمنون نجاحه، وامتنعوا عن التبليغ عنه، فيوم الحادث يوم جمعة والناس في بيوتهم والشوارع غاصة بالمارة، وهذه منطقة اهلة بالسكان، ومع ذلك فان الجاني قذف الى سطح منزل مجاور ونزل من اسلم بهدوء وخرج الى حارة واقعة خلف شارع راس التين فشاهدته بعض النسوة نازلا وكان ثابت الخطى وقد حياهن بادب جم واختفى.

وكانت السلطة واثقة من ان الجيران راوه وهو يلقي القنبلة وان المطلين من النوافذ شاهدوه وهو يقوم بالحادث ورغم ذلك لم يتقدم احد بالشهادة حتى تلك السيدة التي تقدمت وشهدت بانها رات الجاني ينزل من البيت المجاور اعطت معلومات كاذبة فوصفته بانه ابيض اللون رغم انه ظهر انه قمحي اللون، ولكنها ارادت تضليل البوليس حتى لا يعثر على الجاني.

يدا الانجليز يشعرون بان هناك مؤامرة واسعة لقلب نظام الحكم وقتل السلطان والوزراء وربما الانجليز ذلك ان ثمة تيار موجه ضد الحماية واحست ان الساعة قد حانت للانتقام من كل الاجراءات والضغوط التي مارستها انجلترا على مصر منذ ان بدات الحرب.

وفتش المنزل الذي القيت منه القنبلة فوجد البوليس قنبلتين من نفس النوع، وانزعج السلطان عندما علم ذلك، ففي المرة الاولى لاغتياله كانت رصاصة ثم في المرة الثانية قنبلة، اذن فهناك احتمال كبير في ان تكون المرة الثالثة قنبلتان ثم يهاجم السلطان بالمدافع لهذا ثارت ثائرته وطالب بالانتقام من المصريين جميعا

ووصف سعد شعوره بقوله:

"سافرت الى الإسكندرية للتهنئة بنجاة السلطان واستقبلني وحدي وجلست في حضرته مدة اربعين دقيقة ورايته متاثرا جدا، وكان يختنق احيانا بالبكاء وكنت الاطفه واسهل عليه وقع الحادث. وكان يؤلمه ان الشعب لا يحبه ويستخف به رغم ما يسديه من المبررات وما يبذله من جهد والذي يقلقه ان هذه الخيانة لا ترتكب الا باشتراك الكثيرين".

وانزعجت السلطة من وقوع الحادث ومن الطريقة التي دبر بها ثم من فرار الجاني والتستر والتكتم عليه، فقد ترك الاهالي الجاني يهرب دون ان يمسكوه او يطاردوه، واخذ رجال الشرطة يلقون القبض على الناس جزافا ويسوقونهم الى التحقيق وانتشر البوليس السري في جميع جهات مصر يبحث عن الجاني، وبلغ الذين قبض عليهم من سكان المنازل المجاورة للمنزل نحو عشرين شخصا على امل ان يكون لواحد منهم معرفة بالجاني.

وتم اعتقال اعداد من طلبة مدرسة الحقوق ومدرسة المعلمين السلطانية والمدارس الثانوية لتشككهم في ان الذي قام بالمحاولة من الطلبة الحاقدة على السلطان الذي قبل العرش في ظل الحماية، واعلنت السلطة العسكرية بانها ستدفع خمسمائة جنيه مكافاة لمن يدلي بمعلومات صحيحة تؤدي الى القبض على الشخص الذي استاجر المنزل رقم 37 شارع راس التين ملك التمساح يوم 22 يونيه 1915 ، وقد الصقت ادارة الضبط هذه النشرة على الجدران.

وفورا اصدر قائد قوات جلالته هذا المنشور:

"كل من يعلم بوجود مؤامرة ضد نظام الحكم ساء نتج عن هذه المؤامرة فعل او لا وعلى كل شخص يعلم ان فردا من الافراد يشتركون في مؤامرة او متهمون باية جريمة موجهة ضد نظام الحكم ان يبلغ بلا ادنى تاخير الى اقرب سلطة سواء ملكية او عسكرية كل المعلومات التي يكون حاصلا عليها، وكل من لم يقم بالتبليغ عن ذلك مع علمه به يعرض نفسه للمحاكمة بالطريقة العرفية، وكذلك من يتستر على اشخاص مشتركين في مؤامرة او جريمة او يساعدهم في الهرب من يد القضاء".

وانتشر الرعب والفزع بين الناس من جراء حركة الاعتقالات الواسعة والقبض على الكثيرين، وفتشت المنازل وفقدت السلطة العسكرية العصابها واسرعت تجيب السلطات الى طلباتها سواء كان بالنفي او الاعتقال، ولم يعد السلطان يشتبه في المشكوك فيهم فقط بل اصبح يشتبه في كل المصريين بعد ان شعر انه محدق بالخطر وان قوات الانجليز اصبحت عاجزة عن حمايته. وبدا يتصور ان الشعب سيهاجم قصره كما فعل الفرنسيون مع لويس الرابع عشر.

وثبت ان الجاني استاجر المنزل بواسطة حلاق وسمى نفسه في عقد الايجار محمود حلمي من التجارية بكفر الزيات وانه يحتاج لقضاء فصل الصيف فيه وسيرسل لاستحضار عائلته ودفع شهرين مقدما للايجار.

وظهر الخيط الذي يوصل الى قاذف القنبلة على السلطان، فقد ارشد تلميذ في مدرسة الجمعية الخيرية الاسلامية بالإسكندرية عن استاذ له يدعى محمد نجيب الهلباوي راه يوم الخميس السابق لليوم الذي القيت فيه القنبلة داخلا المنزل الذي القيت منه القنبلة، والقى الى ابيه بهذا الشهادة – ونظرا للمكافاة الكبيرة المعلن عنها – فاخبر على الفور البوليس بها.

وبناء على ذلك قبض على هذا الاستاذ وهو يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، ولما فتش منزله وجد فيه اوراق لمركز مغاغة فوجد فيه اوراق تدل على انه من الحزب الوطني. وفتش منزل والده في ابا الوقف مركز مغاغة فوجد بين اوراقه خطاب من ابنه اليه يقول له فيه ما حاصله انه انتهى من الامتحانات ويريد البقاء في الإسكندرية ترويجا للنفس من عناء العمل

وختم خطابه قائلا:

"اني ارى المستقبل مظلما ومليئا بالاخطار ولا ادري هل اكون من الاشقياء او من السعداء، ومن الاموات ام من الاحياء، اني ارسل بصورتي اليك فاحترس عليها اشد الاحتراس حتى اعود لانها البقية الباقية واني اجثو على ركبتي واطلب منك الدعوات الصالحة".

ولما راه الحلاق الذي كان واسطته في ايجار المنزل عرفه، وقال انه حضر اليه وساله عن المنزل المذكور فدل عليه، وكان معه مفتاحه، ووجد في المنزل المذكور عند تفتيشه عقب سيجارة عليها اسم تاجر تبين انه تاجر هذا الاستاذ وتبين من اقوال محمد نجيب الهلباوي والتاجر ان هذا يبيع الى ذاك مزيجا خاصا من الدخان لا يبيعه لغيره.

وفي بادئ الامر حاول الهلباوي ان ينفي التهمة عن نفسه فذكر انه بات ليلة 9 و10 يوليو عند من يدعى عبد الله حسن فكذبه هذا في ذلك. وبلغ الامر بالاهتمام بهذه الحادثة للوقوف على الشركاء فيها لانها كما ظاهر ان القاء قنبلة ليست الا نتيجة عمل ايد كثيرة وباشتراك اشخاص متعددين، وكان رشدي يحضر التحقيق مع عدلي رغم انهما ليس لهما سلطة التحقيق الا بواسطة الانتداب لا من تلقاء انفسهم. "

وفي ذلك اسقاط من هيبة الحكومة وابتذال لها، واصبح رشدي يتردد بين الإسكندرية والقاهرة باحثا ومنقبا مشتغلا مع البوليس للقبض على الافراد المشتركين مع الهلباوي".

اثناء لك تقدم للتحقيق شاب يدعى ابراهيم صالح مرشدا عن اناس يؤلفون جمعية تسمى جمعية الرابطة الاسلامية. فاستدعى ودخل قفص الاتهام كل من شفيق منصور المحامي، واحمد سابق وهو محام ايضا والدكتور عبد الفتاح يوسف ومحمد فريد موظف بالسكك الحديدية وعبد الله عوض وعي صادق ومحمد شمس الدين ومحمد نجيب الهلباوي ومحمود عنايت من طلبة الهندسة وكل من عبد الله حسن وعلي صادق وهما عملان، ووجهت اليهم تهمة محاكاة هذه المؤامرة، وقد تعرف الحلاق على احدهم وهو شاب من تلامذة مدرسة التجارة يدعى محمد شمس الدين وقال انه هو الذي استاجر ذلك المنزل وكتب العقد بخطه ووافقه على هذا التعرف كل من صبي الحلاق ومالك البيت وقد اثبت ان خط العقد خطه.

اما عن القنبلتين اللتين وجدتا في المنزل الذي تمت فيه الجريمة والمطابقتين للقنبلة التي القيت على السلطان بعد ان عرضا على خبير المفرقعات وجد انهما تحتويان على مواد شديدة الانفجار وقطرهما 5.5 بوصة وثقل الواحدة 3 ارطال. اما عدم انفجار القنبلة فناشئ عن ان قليلا من نشارة الخشب حالت بين الكبسولة والمواد المفرقعة فانطفات قبل ان يصل اللهب الى المواد المفرقعة وقرر الخبير ان القنبلة لو انفجرت لكان لها تاثير خطير في دائرة اتساعها عشرون ياردة وكانت هذه القنبلة تكفي لقتل خمسين شخصا وهدم اكثر من منزل من المنزل التي وقعت في جوارها لو انفجرت، وكانت التعليمات قد صدرت للهلباوي بان يشعل شريط القنبلة من نار فحم بلدي الا انه اشعلها بسيجارته التي اعتاد ان يشربها فلم تنفجر.

واخيرا اتضح الامر واثبت ان هناك جمعية منتظمة للانتقام من الخونة الذين باعوا الوطن للانجليز اذ يقول شفيق منصور في اعترافاته بقضية مقتل السيرلي ستاك:

"لما عدت من اوروبا عام 1914 وجدت بعض اعضاء الجمعية قد انفصل عنها بسبب تعيينهم في وظائف ولم اجد من اعضائها الا الدكتور محمد صالح الملاح والدكتور عبد الفتاح يوسف وانضممت اليهما وكونت جمعية انضم اليها الشخصين السابق ذكرهما وكل من محمد فريد واحمد سابق المحامي ومحمود عنايت وعبد الحليم البيلي وعبد الرحمن البيلي ومجد الدين حفني ناصف، وكان هناك في ذاك الوقت جمعية رئيسية من الحزب الوطني فيها الدكتور اسماعيل صدقي ومصطفى الشوربجي واحمد وجدي وعبد الرحمن الرافعي والدكتور عبد الغفار متولي واخوه عبد المقصود متولي المحامي ومحمد فؤاد حمدي المحامي..
ونظرا لاني كنت منتميا للحزب الوطني اتصلت بهذه الجمعية ايضا، وفاتني ان اذكر محمود اسماعيل بانه كان عضوا في الجمعية الاولى وكان متصلا بمحمود عنايت، ولما اتصلت بجمعية اعضاء الحزب الوطني كانت جمعيتنا تابعة لها، واعتبرت الجمعية المذكورة جمعية رئيسية وجمعيتنا فرع لها وفاتني ان اذكر ايضا محمد شمس الدين فقد كان عضوا في الجمعية الفرعية وكان موجودا بالإسكندرية جمعية اخرى وهي تعتبر ايضا فرع للجمعية الرئيسية التي كان يراسها في ذلك الوقت الدكتور اسماعيل صدقي وهذه الجمعية اي جمعية الإسكندرية موجودة من سنة 1910 وهي فرع من جمعية التضامن الاهلية
وكانت مكونة من يعقوب صبري وهو ضابط بالمدارس الاميرية والحاج احمد رمضان زيان التاجر ومحمد عوض جبريل المراسل بجريدة الاتحاد وسليمان حافظ المحامي واحمد حسني نور المحامي ومحمد حسين الفرارجي وعبد الله حسن عوض وعلي افندي صادق ومحمد نجيب الهلباوي وعبد الرازق الحبشي التاجر.. وهذه هي الجمعية التي قامت بالقاء القنبلة واستاجرنا شقة في الشارع نفسه على اليمين والذي استاجرها شخص اسمه عبد العزيز عمر
فقد طلبنا من جماعة الإسكندرية ارسال مندوب من قبلهم ليستاجر المنزل حتى لا تقع الشبهة على احد من جمعيتنا، والمبلغ دفع من اللجنة الرئيسية المكونة من بعض اعضاء الحزب الوطني وعبد العزيز المذكور هذا نزل في لوكاندة جوردون هاوس وكتب اسمه في اللوكاندة مستعارا وكان لابسا برنيطة ونظارة سوداء اي بزي خواجة وسمى نفسه باسم الخواجات في اللوكاندة ولا اعرف المدة التي اقامها في اللوكاندة لطولها و وعبد الرحمن البيلي يعرفه شخصيا
وهو ومجد الدين حفني ناصف وهو مهندس درس الهندسة في انجلترا واشترى شقة بمنطقة عابدين وبعد اتمام العقد اشترى شمس الدين بعض الموبيليا ووضعها في المنزل ولكن الجريمة لم ترتكب في مصر ولم اذكر السبب بالضبط وربما يكون لعدم ملاءمة المنزل لارتكاب الحادث فيه اولا لان السلطان سافر قبل الميعاد المحدد وخابرت جمعية الإسكندرية لارسال مندوب من طرفها للتكلم في موضوع هذا الحادث فارسلوا لا اذكر اما عبد الله حسن عوض او محب عوض جبريل لاني لا اتذكر من منهما حضر، واتفقا على القاء القنبلة على السلطان بالإسكندرية وارسلنا من قبلنا محمد شمس الدين
وحضر القنبلة محمود عنايت من صوابع ديناميت ووضع فيها مسامير وربطها بالجلد وعمل لها كبسولة بشريط"، ثم يتابع أقواله: "وقد تطوع شمس الدين افندي الى السفر الى الإسكندرية لتاجير المنزل وتقابل هناك مع محمد عوض جبريل الذي عرفه بالهلباوي وهناك استلم الهلباوي مفتاح المنزل وزاره واخذ عقد الايجار وذهب الى المنزل وقام بالحادث. اما شمس الدين فسافر الى مصر وقبض عليه بعد ذلك لما ذكرت صفاته من اعلان المكافاة".

ادخل الاشخاص المتهمون تحت الحكم العسكري كبقية القضايا نظرا لوقوع البلاد تحت الحكم العرفي، وفي 30 مايو 1916 صدر الحكم باعدام كل من الهلباوي ومحمد شمس الدين الا ان السلطان حسين بعث الى حسين رشدي في 2 يونيو 1916 يطلب منه التدخل لدى السلطات البريطانية لتخفيف الحكم.

ووافق القائد العام على هذا الطلب وعدل حكم الاعدام الى الاشغال الشاقة المؤبدة، وبقى بعض من الذي قبض عليهم وهم د. عبد الفتاح يوسف واحمد سابق المحامي ومحمود عنايت وشفيق منصور في سجن الحدرة ثم صدر امر بنفي كل من شفيق منصور ومحمد عوض جبريل واحمد سابق وعبد الله حسني وعلي صادق ويعقوب صبري وعبد الرحيم سرور ومصطفى حمدي وعبده البرقوقي ومحمد كمال الى مالطه.

وبذلك ضمنت السلطة انها اوقفت كل نشاط بالبلاد، واحكمت الحراسة على السلطان اثناء ذهابه وايابه، فقد حدث في يوم 25 أغسطس ان مر السلطان في وسط المدينة الى الرمل بالإسكندرية، فلما وصل الى ميدان محمد علي وقف احد الاشخاص على مسافة قصيرة من محل مروره ورفع يديه كمن يريد ان ياتي بحركة ولم يكد يفعل كذلك حتى القي القبض عليه في الحال وسيق الى قسم المنشية ومضى الموكب في طريقه.

على اثر ذلك اتسعت حركة الاعتقالات وامتلات السجون بمئات الافراد لمجرد الاتهام فقط ودون اثبات اي تهمة على من يعتقلونهم، وكان الكثيرون يهربون، لكن وزارة الداخلية كانت يقظة، فهي تعلن في النشرة الادارية للبحث عن الاشخاص عن مكافات لمن يبلغ عن اشخاص احست هي بخطورتهم مثل من يدعى محمد فهمي حسين ابو صير وهو يزباشي بمصلحة خفر السواحل بعد ان علمت ان لديه منشورات يوزعها، وفريد فهمي الذي يحرض على الثورة ضد الحكام وقد ضبط متخفيا في احد الاديرة القبطية.

لهذا الغرض انشئ بامن وزارة الداخلية مكتب خاص لمراقبة الاشخاص المشكوك والمشتبه فيهم واصبحت قرارات هذا المتب نافذة بعد تصديق مجلس الوزراء عليها. ومحاضر البوليس مملوءة باسماء الاشخاص الذين اعتقلوا وادخلوا السجون لبواعث سياسية ممن لم ترضى عنهم السلطة عقب حادثة السلطان الاخيرة. ومعظمهم من محامين ونظار مدارس وطلبة من الطب البيطري والمهندسخانة والحقوق والأزهر والمدرسة السعيدية، كما كان من بينهم بعض العمال.

ونفذت الاحكام العسكرية في الاقاليم، وكانت مديرية الفيوم اول المديريات التي شكل فيها مجلس عسكري برئاسة مدير الاقاليم للحكم على من يشتغلون بالسياسة، وضبطت اوراق تختص السياسة في منازل خمسة اشخاص وشكل لهم مجلس عسكري عرفي تحت رئاسة مدير المديرية وبعضوية مفتش الداخلية وقومندان خفر المديرية لمحاكمتهم وحكم عليهم وصدق على هذا الحكم قائد القوات البريطانية

وقد امر مديرها باجتماع العمد والاعيان ومشايخ البلد وعموم المراقبين والمشبوهين، ونصبت في وسط الدائرة الة لربط المحكوم عليهم وخطب فيهم بان المحكوم عليهم لم يطيعوا الاوامر واشتغلوا بالسياسة ووجدت عندهم اوراق تثبت عليهم الاشتغال بها فحكم عليهم المجلس العسكري، ثم استرسل في انذار الاشقياء وارهابهم ووعيدهم بالعقاب الصارم وبان السلطة العسكرية قد خولته الحكم بالضرب بالرصاص.

واما هذا الضغط والارهاب اهتزت القيادة البريطانية، واهتزت الحكومة واهتز السلطان، فان المخابرات البريطانية حصلت على معلومات بان هناك مؤامرة تدبر لاندلاع الثورة ضد الحماية وضد السلطان اعضاؤها بالمنصورة، انها ستعلن الثورة، ستحطم الكباري، ستقطع السكك الحديدية، ستسهل دخول الجيش العثماني في هجومه الثاني على مصر

فان المخابرات البريطانية دست اثنين من ضباطتها على المتامرين تظاهرا بانهما من الضباط الالمان وحضرا الاجتماعات، وبذلك استطاعا ان يعرفا تفاصيل المؤامرة اذن فلم تعد المسالة مسالة قتل السلطان الذي قبل الحماية انما اصبحت اكبر من هذا واخطر انها اصبحت تمس مستقبل الحرب ومستقبل الجيوش البريطانية في مصر لانه بنجاحها يدخل الجيش العثماني الالماني مصر ويقضي على الانجليز فيها وتسقط كفة الحلفاء.

ومذكرات سعد زغلول تعطي الاضواء على هذه الحادثة:

"قال لنا رشدي ان الحكومة دست ضابطين، انجليزي وروسي بين الاسرى الاتراك في مصر واوهم الضابطان الاسرى الاتراك بانهما المانيان، ولكن قصدهما ان يثبتا للحكومة انها روسيان حتى تحسن الحكومة معاملتهما وتخلي سبيلهما، وقال الضابطان للاسرى الاتراك انهما توصلا الى هذا الاثبات وان الحكومة اقتنعت بروسيتهما، وقال رشدي باشا ان الحكومة اتفقت هنا على ذلك، فهذان الضابطان زارا بعض اسرى الاتراك الذين هم من اصل مصري ولهم قارب ومعارف بالمنصورة واخذا يوصلان رسائل بين الفريقين.
ويتضح من هذه المراسلة ان جماعة من المنصورة عقدوا النية على ان يساعدوا الاتراك عند دخولهم مصر باحداث الشغب فيها بان يتوجه منهم جماعة الى كل مديرية ليبثوا الهياج فيها ويكسروا الكباري ويقطعوا طرق المواصلات، فانهم مستعدون للقيام بهذه الاعمال متى حضرت اليهم الاسلحة التي كانوا يعبرون عنها بانها كتب في رسائلهم وكانوا قد صمموا على ان يعقدوا اجتماعا هائلا الإسكندرية يضم اليهم كل المتامرين او اغلبهم ليقروا الخطة التي يجرون عليها في تنفيذ قصدهم
ولكن بوليس المنصورة الذي لم يكن له علم بصفة هذين الضابطين الرسميين ارتاب في حركتهما الظاهرية والقى القبض على احدهما وترتب على ذلك ان امتنع هذا الاجتماع وقد قال الضابطان انهما على علم من جماعة المنصورة ان ورائهم اناس من الاعيان الكبار وذكروا لهما اسم عبد اللطيف المكباتي بك وغيره من الاعيان.. وكان رشدي يلقي هذه العبارة وهو يبدي السرور من تعرف الحكومة عليهم ويعبج بنشاط بوليس الدقهلية لتسرعه في القبض على احد الضابطين وببوليس مصر لانه لم يخبر ادارة المنصورة بمهمة هؤلاء الجواسيس".

وازداد عضب المصريين من اتساع حركة الاعتقالات فيقول سعد:

"رايت الناس ساخطين على الحكومة ازاء خطة الازعاج والارهاب التي سلكتها اخيرا وقيل لي انها القت القبض على كثيرين، ويظهر لي ان كل واحد ظن انه ان لم يقبض عليه فعلا فلابد ان يقبض عليه بعد ذلك، وهكذا اضطربت القلوب وانكسرت النفوس ايما اضطراب وايما انكسار، وقد لمت رشدي على ما ابدى من الشدة في القبض على الناس، اذ كان يؤيد القبض على تلامذة الحقوق الذين سبق الحكم بالطرد عليهم من مدرسة الحقوق ورجال الحزب الوطني بقوله انه يلزم ابعادهم احتراسا من شرهم".

وكان من بين المقبوض عليهم عبد اللطيف المكباتي الذي حاول سعد ان يبرئه بحكم الزمالة في الجمعية التشريعية، فرجا سعد المستشار محمد صدقي ان يكلم رشدي في الاسراع باناهء مسالة عبد اللطيف المكباتي ومحرم ررستم المقبوض عليهما ان لم يكن هناك ما يوجب ادانتهما، ولكن رشدي اجاب ان المسالة اصبحت في يد النيابة ولا عمل له فيها، واحدث طلب سعد مضايقة السلطان.

وخرجت المحاولة الثالثة للاغتيال في فترة الحرب ولكنها لم تكن للسلطان هذه المرة بل كانت لاحد الوزراء الخائنين الذين قبلوا الوزارة في ظل الحماية هذا من ناحية، ولتملقهم الانجليز سواء في تصريحاتهم ام في مصاحبتهم لهم في غدواتهم وروحاتهم من ناحية اخرى. وكانت العين على ثلاثة وزراءة هما حسين رشدي رئيس وزراء الحماية الذي لعب دورا خطيرا في سياسة البلاد ابان هذه الفترة والذي صدق على اضطهاد الناس، وعبد الخالق ثروتوزير الحقانية ثم ابراهيم فتحي وزير الاوقاف اذ اعتبر كل من رشدي وثروت وفتحي اضورا بالبلد واوقعوها في التهلكة.

وفي يوم 4 سبتمبر 1915 امتلات محطة مصر بالبوليس العلني والبوليس السري لسفر الوزير ابراهيم فتحي في قطار الصعيد الى مديريات الوجه القبلي للتفيش على ماموريات الاوقاف وفي الساعة الرابعة والنصف جاء محطة مصر واجتازها الى رصيف الوجه القبلي على ان يبرحها باكسبريس الساعة الثامنة واتفق انه نظر بقرب الديوان المعدله خصيصا في ذلك الاكسبريس جماعة من معارفه الاولين في الجيش المصري ومن جملتهم الميرلاي محمد شفيق بك والصاغ جلال منير وغيرهما فسلم عليهم ووقف معهم يحادثهم

ولم يكن الا خمس دقائق ام ثمان حتى اقتحم شاب اسمر طويل القامة الحراسة الضخمة، وماسك بيده اليمنى جريدتي وادي النيل والافكار وفي طياتهما سكين ذات حدين طولها نحو 30 سم كتب على يدها (هذا جزاء الخائنين) وانقض في لمح البصر على الوزير وطعنه ثلاث طعنات الاولى في كتفه اليسرى والثانية في خده الايسر والثالثة في خده الايمن ،وعند الطعنة الاولى مد الوزير يده الى جيبه من الخلف واخرج مسدسا ورمى به الجاني برصاصة منه

فاخطاته ولم تصب احدا وسقط الوزير على الارض مضرجا في دمه، ثم جرى الشاب نحو قطار الإسكندرية ولكن الباشجاويش عبد العليم الملحق ببوليس محطة مصر سمع صياح الراكضين خلفه فامسكه واسرع الصول سليمان الملحق بالبوليس القضائي في قسم مصر فعاونه على ذلك وكانت السكين باقية في يمين الجاني، وقد مسح الدم على الصفحة الاخرى وكان يصيح ويقول لهم: "أتركوني ان القطار القادم من الإسكندرية عليه رئيس الوزراء ورئيس الحقانية واريد ان اقتلهما اولا ثم بعد ذلك امسكوني".

واخيرا اتضح الامر واثبت ان هناك جمعية منتظمة للانتقام من الخونة الذين باعوا الوطن للانجليز اذ يقول شفيق منصور في اعترافاته بقضية مقتل السيرلي ستاك:

"لما عدت من اوروبا عام 1914 وجدت بعض اعضاء الجمعية قد انفصل عنها بسبب تعيينهم في وظائف ولم اجد من اعضائها الا الدكتور محمد صالح الملاح والدكتور عبد الفتاح يوسف وانضممت اليهما وكونت جمعية انضم اليها الشخصين السابق ذكرهما وكل من محمد فريد واحمد سابق المحامي ومحمود عنايت وعبد الحليم البيلي وعبد الرحمن البيلي ومجد الدين حفني ناصف، وكان هناك في ذاك الوقت جمعية رئيسية من الحزب الوطني فيها الدكتور اسماعيل صدقي ومصطفى الشوربجي واحمد وجدي وعبد الرحمن الرافعي والدكتور عبد الغفار متولي واخوه عبد المقصود متولي المحامي ومحمد فؤاد حمدي المحامي.. ونظرا لاني كنت منتميا للحزب الوطني اتصلت بهذه الجمعية ايضا
وفاتني ان اذكر محمود اسماعيل بانه كان عضوا في الجمعية الاولى وكان متصلا بمحمود عنايت، ولما اتصلت بجمعية اعضاء الحزب الوطني كانت جمعيتنا تابعة لها، واعتبرت الجمعية المذكورة جمعية رئيسية وجمعيتنافرع لها وفاتني ان اذكر ايضا اسم محمد شمس الدين فقد كان عضوا في الجمعية الفرعية وكان موجودا بالإسكندرية جمعية اخرى وهي تعتبر ايضا فرع للجمعية الرئيسية التي كان يراسها في ذلك الوقت الدكتور اسماعيل صدقي وهذه الجميعة اي جمعية الإسكندرية موجودة من سنة 1910 وهي فرع من جمعية التضامن الاهلية
وكانت مكونة من يعقوب صبري وهو ضابط بالمدارس الاميرية والحاج احمد رمضان زيان التاجر ومحمد عوض جبريل المراسل بجريدة الاتحاد وسليمان حافظ المحامي واحمد حسني نور المحامي ومحمد حسين الفرارجي وعبد الله حسن عوض وعلي افندي صادق ومحمد نجيب الهلباوي وعبد الرازق الحبشي التاجر.. وهذه هي الجمعية الت يقامت بالقاء القنبلة على السلطان حسين ..
وكانت النية القاء القنبلة بمصر بشارع عابدين واستاجرنا شقة في الشارع نفسه على اليمين والذي استاجرها شخص اسمه عبد العزيز عمر، فقد طلبنا من جمعية الإسكندرية ارسال مندوب من اللجنة ليستاجر المنزل حتى لا تقع الشبهة على احد من جمعيتنا، والمبلغ دفع من اللجنة الرئيسية المكونة من بعض اعضاء الحزب الوطني وعبد العزيز المذكور هذا نزل في لوكاندة جوردون هاوس وكتب اسمه في اللوكاندة مستعارا وكان لابسا برنيطة ونظارة سوداء اي بزي خواجه وتسمى باسم الخواجات في اللوكاندة وفي عقد الشقة بعابدين

/ولا اعرف المدة التي اقامها في اللوكاندة لطولها وعبد الرحمن البيلي يعرفه شخصيا وهو ومجد الدين حفني ناصف وهو مهندس درس الهندسة في انجلترا وبعد اتمام العقد اشترى شمس الدين بعض الموبيليا ووضعها في المنزل ولكن الجريمة لم ترتكب في مصر ولم اذكر السبب بالضبط وربما يكون لعدم ملاءمة المنزل لارتكاب الحادث فيه اولا لان السلطان سافر قبل الميعاد المحدد وخابرت جمعية الإسكندرية لارسال مندوب من طرفها للتكلم في موضوع هذا الحادث فارسلوا لا اذكر اما عبد الله حسن عوض او محمد عوض جبريل لاني لا اذكر من منهما حضر.

واتفقنا على القاء القنبلة على السلطان بالإسكندرية وارسلنا من قبلنا محمد شمس الدين، وحضر القنبلة محمود عنايت من صوابع ديناميت ووضع فيها مسامير وربطها بالجلد وعمل لها كبسولة بشريط:، ثم يتابع اقواله: "وقد تطوع شمس الدين افندي الى السفر الى الإسكندرية لتاجير المنزل وتقابل هناك مع محمد عوض جبريل الذي عرفه بالهلباوي وهناك استلم الهلباوي مفتاح المنزل وزاره واخذ عقد الايجار وذهب الى المنزل وقام بالحادث، اما شمس الدين فسافر الى مصر وقبض عليه بعد ذلك لما ذكرت صفاته من اعلان المكافاة".

ادخل الاشخاص المتهمون تحت الحكم العسكري كبقية القضايا نظرا لوقوع البلاد تحت الحكم العرفي. وفي 20 مايو 1916 صدر الحكم باعدام كل من الهلباوي ومحمد شمس الدين الا ان السلطان حسين بعث الى حسين رشدي في 2 يونيو 1916 يطلب منه التدخل لدى السلطات البريطانية لتخفيف الحكم. ووافق القائد العام وعدل حكم الاعدام الى الاشغال الشاقة المؤبدة، وبقي بعض من الذين قبض عليهم وهم د. عبد الفتاح يوسف واحمد سابق المحامي ومحمود عنايت وشفيق منصور في سجن الحدرة ثم صدر امر بنفي كل من شفيق منصور ومحمد عوض جبريل واحمد ساق وعبد الله حسني وعلي صادق ويعقوب صبري وعبد الرحيم سرور ومصطفى حمدي وعبده البرقوقي ومحمد كمال الى مالطه.

وبذلك ضمنت السلطة انها اوقفت كل نشاط بالبلاد، واحكمت الحراسة على السلطان اثناء ذهابه وايابه، فقد حدث في يوم 25 أغسطس ان مر السلطان في وسط المدينة الى الرمل بالإسكندرية، فلما وصل الى ميدان محمد علي وقف احد الاشخاص على مسافة قصيرة من محل مروره ورفع يديه كمن يريد ان ياتي بحركة ولم يكد يفعل كذلك حتى القي القبض عليه في الحال وسيق الى قسم المنشية ومضى الموكب في طريقه.

على اثر ذلك اتسعت حركة الاعتقالات وامتلات السجون بمئات الافراد لمجرد الاتهام فقط ودون اثبات اي تهمة على من يعتقلونهم، وكان الكثيرون يهربون، لكن وزارة الداخلية كانت يقظة، فهي تعلن في النشرة الادارية للبحث عن الاشخاص عن مكافات لمن يبلغ عن اشخاص احست هي بخطورتهم مثل من يدعى محمد فهمي حسين ابو صير وهو يزباشي بمصلحة خفر السواحل بعد ان اعلمت ان لديه منشورات يوزعها، وفريد فهمي الذي يحرض على الثورة ضد الحكام وقد ضبط مختفيا في احد الاديرة القبطية.

لهذا الغرض انشئ بامن وزارة الداخلية مكتب خاص لمراقبة الاشخاص المشكوك والمشتبه فيهم واصبحت قرارات هذا المكتب نافذة بعد تصديق مجلس الوزراء عليها، ومحاضر البوليس مملوءة باسماء الاشخاص الذين اعتقلوا وادخلوا السجون لبواعث سياسية ممن لم ترض عنهم السلطة عقب حادثة السلطان الاخيرة، ومعظمهم من المحامين ونظار المدارس وطلبة من الطب البيطري والمهندسخانة، والحقوق والأزهر والمدرسة السعيدية، كما كان من بينهم بعض العمال.

ونفذت الاحكام العسكرية في الاقاليم، وكانت مديرية الفيوم اولى المديريات التي شكل فيها مجلس عسكري برئاسة مدير الاقاليم للحكم على من يشتغلون بالسياسة، وضبطت اوراق تختص السياسة في منازل خمسة اشخاص وشكل لهم مجلس عسكري عرفي تحت رئاسة مدير المديرية وبعضوية مفتش الداخلية وقومندان خفر المديرية لمحاكمتهم وحكم عليهم وصدق على هذا الحكم قائد القوات البريطانية

وقد امر مديرها باجتماع العمد والاعيان ومشايخ البلد وعموم المراقبين والمشبوهين، ونصبت في وسط الدائرة الة لربط المحكم عليهم وخطب فيهم بان المحكوم عليهم لم يطيعوا الاوامر واشتغلوا بالسياسة ووجدت عندهم اوراق تثبت عليهم الاشتغال فيها فحكم عليهم المجلس العسكري ، ثم استرسل في انذار الاشقياء وارهابهم ووعيدهم بالعقاب الصارم وبان السلطة العسكرية قد خولته الحكم بالضرب بالرصاص.

واما هذا الضغط والارهاب اهتزت القيادة البريطانية واهتزت الحكومة واهتز السلطان، فان المخابرات البريطانية الحربية حصلت على معلومات بان هناك مؤامرة تدبر لاندلاع الثورة ضد الحماية وضد السلطان اعضاؤها بالمنصورة، انها ستعلن الثورة ، ستحكم الكباري، ستقطع السكك الحديدية ، ستسهل دخول الجيش العثماني في هجومه الثاني على مصر، ان المخابرات البريطانية دست اثنين من ضباطها على المتامرين تظاهرا بانهما من الضباط الالمان وحضرا الاجتماعات

وبذلك استطاعا ان يعرفا تفاصيل المؤامرة اذن فلم تعد المسالة مسالة قتل السلطان الذي قبل الحماية انما اصبحت اكبر من هذا واخطر انها اصبحت تمس مستقبل الحرب ومستقبل الجيوش البريطانية في مصر لانها بنجاحها يدخل الجيش العثماني الالماني مصر ويقضي على الانجليز فيها وتسقط كفة الحلفاء.

ومذكرات سعد زغلول تعطي الاضواء على هذه الحادثة، قال لنا رشدي ان الحكومة دست ضابطين، انجليزي وروسي بين الاسرى الاتراك في مصر واوهم الضابطان الاسرى الاتراك بانهما المانيان ، ولكن قصدهما ان يثبتا للحكومة انهما روسيا حتى تحسن الحكومة معاملتهما وتخلي سبيلهما، وقال الضابطان للاسرى الاتراك انهما توصلا الى هذا الاثبات وان الحكومة اقتنعت بروسيتهما، وقال رشدي باشا ان الحكومة البريطانية اتفقت هنا على ذلك، فهذا الضابطان زارا بعض الاسرى الاتراك الذين هم من اصل مصري ولهم اقارب ومعارف بالمنصورة واخذا يوصلان رسائل بين الفريقين.

ويتضح من هذه المراسلة ان جماعة من المنوصرة عقدوا النية على ان يساعدوا الاتراك عند دخولهم مصر باحداث الشغب فيها بان يتوجه منهم جماعة الى كل مديرية ليبثوا الهياج فيها ويكسروا الكباري ويقطعوا طرق المواصلات، فانهم مستعدون للقيام بهذه الاعمال متى حضرت اليهم الاسلحة التي كانوا يعبرون عنها بانها كتب في رسائلهم وكانوا قد صمموا على ان يعقدوا اجتماعا هائلا في الإسكندرية يضم اليهم كل المتامرين او اغلبهم ليقروا الخطة التي يجرون عليها في تنفيذ قصدهم

ولكن بوليس المنصورة الذي لم يكن له علم بصفة هذين الضابطين الرسميين ارتاب في حركاتهما الظاهرية والقى القبض على احدهما وترتب على ذلك ان امتنع هذا الاجتماع وقد قال الضابطان انهما على علم من جماعة المنصورة ان وراءهم اناس من الاعيان الكبار وذكروا لهما اسم عبد اللطيف المكباتي بك وغيره من الاعيان.. وكان رشدي يلقي هذه العبارة وهو يبدي السرور من تعرف الحكومة عليهم ويعجب بنشاط البوليس بالدقهلية لتسرعه في القبض على احد الضابطين وببوليس مصر لانه لم يخبر ادارة المنصورة بمهمة هؤلاء الجواسيس".

وازداد غضب المصريين من اتساع حركة الاعتقالات فيقول سعد:

"رايت الناس ساخطين على الحكومة ازاء خطة الازعاج والارهاب التي سلكتها مؤخرا وقيل لي انها القت القبض على كثيرين، ويظهر لي ان كل واحد يظن انه ان لم يقبض عليه فعلا فلابد انه يقبض عليه بعد ذلك. وهكذا اضطربت القلوب وانكسرت النفوس اياما اضطراب وايما انكسار، وقد لمت رشدي على ما ابدى من الشدة في القبض على الناس، اذ كان يؤيد القبض على تلامذة الحقوق الذين سبق الحكم بالطرد عليهم من مدرسة الحقوق ورجال الحزب الوطني بقوله انه يلزم ابعادهم احتراسا من شرهم".

وكان من بين المقبوض عليهم عبد اللطيف المكباتي الذي حاول سعد ان يبرئه بحكم الزمالة في الجمعية التشريعية، فرجا سعد المستشار محمد صدقي ان يكلم رشدي في الاسراع بانهاء مسالة عبد اللطيف المكباتي ومحرم رستم المقبوض عليهما ان لم يكن هناك ما يوجب ادانتهما ولكن رشدي اجاب ان المسالة اصبحت في يد النيابة ولا عمل له فيها، واحدث طلب سعد مضايقة السلطان.

وخرجت المحاولة الثانية للاغتيال في فترة الحرب ولكنها لم تكن للسلطان هذه المرة بل كانت لاحد الوزراء الذين قبلوا الوزارة في ظل الحماية هذا من ناحية، ولتملقهم الانجليز سواء في تصريحاتهم ام في مصاحبتهم لهم في غدواتهم وروحاتهم من ناحية اخرى، وكانت العين على ثلاثة وزراء هما حسين رشدي رئيس وزراء الحماية الذي لعب دورا خطيرا في سياسة البلاد ابان هذه الفترة والذي صدق على اضطهاد الناس، وعبد الخالق ثروت وزير الحقانية ثم ابراهيم فتحي وزير الاوقاف اذ اعتبر كل من رشدي وثروت وفتحي اضروا بالبلد واوقعوها بالتهلكة.

وفي يوم 4 سبتمبر 1915 امتلات محطة مصر بالبوليس العلني والسري لسفر الوزير ابراهيم فتحي في قطار الصعيد الى مديريات الوجه القبلي للتفتيش على ماموريات الاوقاف وفي الساعة الرابعة والنصف جاء محطة مصر واجتازها الى رصيف الوجه القبلي على ان يبرحها الاكسبريس الساعة الثامنة واتفق انه نظر بقرب الديوان المعدلة خصيصا في ذلك الاكسبريس جماعة من معارفه الاولين في الجيش المصري وان جملتهم الاميرالي محمد شفيق بك والصاغ جلال منير وغيرهما فسلم عليهم ووقف معهم يحادثهم، ولم يكن الا خمس دقائق او ثمان حتى اقتحم شاب اسمر طويل القامة الحراسة الضخمة

وماسك بيده اليمنى جريدتي وادي النيل والافكار وفي طياتهما سكين ذات حدين طولها حواي 30 سم كتب على يدها (هذا جزاء الخائن) وانقض في لمح البصر على الوزير وطعنه ثلاث طعنات الاولى في كتفه اليسرى والثانية في خده الايسر والثالثة في خده الايمن، وعند الطعنة الاولى مد الوزير يده الى جيبه من الخلف واخرج مسدسا ورمى به الجاني برصاصة منه فاخطاته ولم تصب احدا وسقط الوزير مضرجا في دمه

ثم جرى الشاب نحو قطار الإسكندرية ولكن الباشجاويش عبد العليم علي الملحق في بوليس محطة مصر سمع صياح الراكضين خلفه فامسكه واسرع الصول سليمان الملحق بالبوليس القضائي في قسم مصر فعاونه على ذلك وكانت السكين باقية في يمين الجاني. وقد مسح الدم على الصفحة الاخرى وكان يصيح ويقول لهم: اتركوني ان القطار القادم من الإسكندرية عليه رئيس الوزراء ووزير الحقانية واريد ان اقتلهما اولا ثم بعد ذلك امسكوني.

نقل الجاني الى قسم الازبكية تحت حراسة مشددة من الجنود مكبلا بالحديد واعترف اثناء وجوده في مكتب الرئيس القضائي بالمحطة بارتكابه الحادث متعمدا قتل الوزير وانه كان مصمما على ان يتبعه ويقتله في الطريق اذا لم يتمكن من قتله بالمحطة، وانه ابتاع تذكرة في الدرجة الثالثة لهذا الغرض واعد مع السكين مسدسا من طراز بروننج به ست رصاصات ، ووجد هذا المسدس في جيبه محشوا بالرصاصات الست ووجدت معه ستة اخرى، وقال ان الرصاصات منها مخصصة للسلطان ورصاصة لرئيس الوزراء ورصاصة لنائب الملك وثلاث رصاصات للوزراء الخونة.

وفي قسم الازبكية قال الشاب بهدوء عجيب: اسمي صالح عبد اللطيف موظف بوزارة المالية وعمري خمسة وثلاثون سنة، اقطن في حارة جمعة الشيخ بشارع محمد علي.. نعم اردت قتل وزير الاوقاف .. ان البقية تاتي.. سيكون الموت مصير السلطان الخائن ورئيس الوزراء المجرم وجميع الوزراء الذين يحكون مصر في ظل الحماية البريطانية.

وتولى عبد الخالق ثروت وزير الحقانية التحقيق بنفسه وحضر التحقيق حسين رشدي ومحمود شكري رئيس الديوان السلطاني ورونالد جراهام المستشار الداخلي وعدلي يكن وزير المعارف وجعفر والي محافظ القاهرة وهارفي باشا وجورج فليبدس.

اصر الجاني على اقواله وزاد عليها بانه علم ان الوزير المجني عليه يحضر عادة من الإسكندرية في صباح السبت من كل اسبوع وانتظره في محطة مصر في ذلك الميعاد لينفذ فيه فكرته فلم يتيسر له ذلك طوال النهار مترقبا حركاته الى ان علم انه مسافر الى بني سويف باكسبريس المساء فتبعه الى محطة مصر وجرى له معه ما جرى، واثناء التحقيق قال المتهم لعبد الخالق ثروت انه لابد من قتلك، وانك لن تتم هذا التحقيق قبل ان تقتل، وقال له اننا نعلم انك ستقضى الليلة في مصر، ولم يرد ان يدلي على مصدر عليه، وللقبض على الناس واعانته السلطان حسين الخائن وقوله اننا سنضرب الامة في شبابها.

وفي 27 سبتمبر 1915 حولت اوراقه الى المجلس العسكري البريطاني، والفت المحكمة العسكرية من رئيس واربعة اعضاء ومستشار ومدع عمومي، وكان يدافع عن المتهم مستر باروت. وكان المتهم تحيط بها طائفة من الجند شاهري السلاح، وكان يحافظ على النظام بعض الجند من داخل القاعة بقيادة الضابط وتولى الحكمدار ومعه بعض مامري الاقسام ضبط النظام، واوقف بلوك من الخفر لمنع الزحام.

اتهمته المحكمة بتهمتين اولا تعمد قتل ابراهيم فتحي وزير الاوقاف ، ثانيا التصميم على قتل حسين رشدي وعبد الخالق ثروت، وقد سئل في المحضر عن الوقت الذي فكر فيه لقتل ابراهيم فتحي، فكان رده: من زمان وكل الناس تعرف مبادئي" ثم سئل ومتى فكرت في القتل؟ فقال: "بعد القبض على كثيرين من اعيان القطر وشبابه ومعرفتي بالمكيدة التي دبرها لهم اعدائهم".

فسئل ومتى عرفت ذلك؟"منذ خمسة وعشرين يوما فكرت في القتل ولكني صممت على قتل فتحي اولا" واخيرا سئل عن معرفته عن حركات الباشا وكان رده: "انا اعرف دائما انه يجئ يوم السبت بعد صلاة يوم الجمعة في الإسكندرية فذهبت الى المحطة ووقفت في ميدان باب الحديد فحضر بمركبته امامي وكان وحده ولكني تركته لاني لم اجد الفرصة المناسبة، ولو تمكنت من قتله في بني سويف لكنت بت فيها وسافرت الى الإسكندرية في اليوم التالي، وقد ذهبت الى المحطة ورايت حسين رشدي ولكن الفرصة لم تكن مناسبة".

ثم قال ايضا في المحضر ان من حسن حظ ثروت باشا انه قبض عليه، وفي كلامه امام المجلس العسكري يقول: "كنت ارمي الى ان اكون نافعا لبلادي، فقد وجدت حركة كبيرة في القبض على الناس والحجز على اخرين وسمعت الناس يهمسون ان فلانا باشا وفلانا بك قبض عليهم.

وسمعت ان كثيرين من الشبان الذين قبض عليهم بسبب الحادثة الاخيرة - قنبلة راس التين - فقراء وعائلاتهم في حاجة اليهم، ولما سالت عن الاسباب وجدت انها مكيدة دبرت بواسطة ابراهيم فتحي وشخص اخر لا اخلاق له - ابراهيم صالح - وهذا الشخص كان تلميذا في الاستانة ورفت لسوء اخلاقه، فلما كان سائرا في الازبكية عثر به ابراهيم فتحي باشا وكان قد عرفه في الاستانة فساله هل تعرف من المسلمين من يهتم بالحالة في مصر

ولما كان الولد طامعا في المكافة بشرط ان يؤمنه على حياته فاعطاه ساعة وكتينة من الذهب عربونا لذلك، والخلاصة ان فتحي كان ساعيا بضرر البلاد، وهو يشغل مركزا كبيرا يمكنه من ان يضر البلد"، واثناء ذلك كان ينظر الى رشدي ويقول له: "ان مكنش النهاردة فتاكد ان دورك جاي بكرة" كذلك قال "ان كل الوزراء خونه ويجب اعدامهم انني عندما طعنت ابراهيم فتحي جريت لاقتل رشدي باشا السافل وعبد الخالق ثروت الخائن واقتل ايضا مكماهون نائب الملك".

ويؤكد شفيق منصور في تقريره ان السبب في بداية اغتيال الوزراء بابراهيم فتحي "هو ان صالح ابراهيم الذي بلغ عنا كان له صلة به، وان فتحي باشا هو الذي شجعه على التبليغ ضدنا لذا اراد فرع من فروع الجميعة في ذلك الوقت ان يقوم بالانتقام من فتحي باشا لهذا العمل، فتطوع صالح افندي عبد اللطيف الذي كان صرفا في المالية بالقيام بذلك فاخذ سكينا وذهب الى محطة مصر ومعه ايضا مسدس ولكنه استعمل السكين ولم يتمكن من الوصول الى غرضه".

ويتبين من هذا ان صالح عبد اللطيف من اتباع الحزب الوطني اراد ان ينتقم ممن اوقعوا بالحركة الوطنية هذا بالاضافة الى ان ابراهيم فتحي كان متقربا من رجال الحماية اذ يقول سعد عقب رفض لندن سحب الوزارة منه "حدث في اثناء هذه المدة ان وصل جواب لوندرة عن التغيير الوزاري وخلاصة ما فهمت من عدلي ورشدي ان الحكومة الانجليزية لا ترى محلا للتغيير في الوزارة ولا في السياسة اثناء الحرب، وان فتحي حايز لثقة مكماهون وكتشنر".

قابل كل من رشدي وعدلي المتهم في السجن وكان الغرض من ذلك امكان اغرائه لمعرفة من يكون له من الشركان من الغير فربما يبوح بشئ فابى كل الاباء رغم ما بذلوه من الوعود الخلابة له.

واخيرا في 30 سبتمبر 1915 حكم المجلس العسكري البريطاني على صالح عبد اللطيف بالاعدام شنقا ونفذ الحكم في 3 أكتوبر 1915، وقد تملكه الذهول وقت انفاذ الحكم عليه فحيا المجتمعين حوله بصوت خافت قائلا: "السلام عليهم" ورجا هارفي باشا والحبل مشدود على عنقه ان يسلم صورته الى اخيه لتكون تذكرة، وبعد انفاذ الحكم شرحت جثته وسلمت الى اهله على ان يدفن بدون احتفال، لقد خافوا ان يودعه الناس بمظاهرة واحتجاج على اعدام وطني ضحى بنفسه في سبيل مصر.

والقانون المصري في هذه القضية لا يحكم على المتهم بالاعدام الذي يحكم به القانون الانجليزي ولكن هنا اعتبرت البلاد تحت الحكم العسكري فيجب ان تحاكم وفقا للقانون الانجليزي، وعلل رشدي اقدام هؤلاء الشباب على هذه الحركات لان عقولهم والبابهم خبلت بهوى الالمان والاتراك وابان ان الالمان اذا انتصروا فلن يسلموا مصر لابنائها، هكذا عللها رشدي.. انه لم يعللها بتصرفاته التي غالى فيها، ولا بتلك الاجراءات التي فرضها الانجليز على شعب مصر.

استمرارية سياسة العنف

على اثر هذه الحادثة مضى الانجليز والسلطان والوزراء في التمسك بسياسة التشدد والعنف والارهاب والتعسف بل لقد زادوا فيها لدرجة انهم مضوا يفتشون البيوت جميعها، ففتش بيت كامل البنداري المحامي وقبض عليه وزج به في السجن لانه تكلم في حق السلطان وهزأ من الانجليز في المحكمة التي حاكمت صالح عبد اللطيف، وساروا يقبضون على الابرياء ويطاردون الوطنيين متصورين ان الارهاب قادر على ان يقضي على حركة المقاومة بين المصريين

حتى لقد سلكت الحكومة مسلك المستخف كل الاستخفاف بامن الناس وبحريتهم الشخصية وسوء الظن فيهم، فالقت القبض على كثير منهم لاقل شبهة، وازعجت عائلاتهم ازعاجا شديدا، واغفال الكثير منهم عن تهمته الا بعد ان يمضي الكثير من الوقت في السجون وبعضهم لم يوجه المحقق لهم سؤالا بتهمة معينة، ثم اطالة السجن عليهم قبل سؤالهم، وقد منعت الصحف من نشر اخبار القبض عليهم والافراج عنهم

وتركت بذلك سبيلا واسعا للشائعات تدار على الالسنة، وتم القبض على السبعة عشر تلميذا الذين سبق الحكم عليهم بالكرد من مدرسة الحقوق، فقد كانوا معقدين من الطلبة ومن اتباع الحزب الوطني لذا انصب كل الاهتمام عليهم، فساء وقع ذلك عند الناس ، يقول سعد: "وقد رجوت من رشدي الا يفعل ذلك فلم يرد الاصغاء ثم رجوته بعد ذلك في واحد منهم وهون اسماعيل صبري اخو امراة مصطفى الباجوري فوعدني خيرا بانه سيفرج عن جميعهم عند قرب افتتاح المدارس فقلت له اذا لم يكن عليهم شيء فالاولى الافراج عنهم. ورجوته في شخص يدعى حسين افندي فهمي بهجت فقد كان من الذين سعوا في انتخابي لقسيم السيدة زينب فقال رشدي باشا ان هذا الشاب اتهم اولا بانه وشخص اخر عندهما منشورات محرضة على الثورة".

وكان من راي مكماهون ان يعتقل مع كل مشبوه المخالطين له من الاقارب والاصدقاء وبان هذه الطريقة نجحت في الهند نجاحا كبيرا، ولكن رشدي عده ظلما فهو راض عن اعتقال المشبوه فيهم فقط، فتلك هي العدالة، فراح يشدد على الطلبة ويلقي القبض عليهم بدون ادنى سبب، اذ يقول مدير مديرية المنوفية انه جاءه امر بتفتيش تلميذ والقبض عليهم مع العلم انه كان من اكرم التلامذة خلقا، فكان يفكي جدا ان يكون الاتهام لكون الشخص المقبوض عليه تلميذا.

وفي حقيقة الامر كان الطلبة ثائرين على الحكام الانجليز ومؤيدين لحركات الاعتقال، فقد عثر على خطاب من طالب ارسله عقب محاولات القتل يطعن فيه على الحكومة اقبح طعن ويرى انه لابد من اراقة الدماء وتوالي مثل هذه الحوادث.

وخرج الى التنفيذ مكماهون فكان يعتقل الاب وابناءه كلهم اذ يقول سعد:

"لقد حضرت حرم خليل شاهين باكية تستغيث بي لانهم اعتقلوا زوجها واولادها الاربعة، وانهم لا يعلمون سببا لسجنه وانهم لم يجدوا عند تفتيشه شيئا سوى صورة للخديوي السابق وكتاب لمصطفى كامل"، فعلى الفور اتهمت العائلة بانها من اتباع الحزب الوطني الذي اعتبروه المسئول عن حركة عدم الرضا والاغتيالات لتسميمه افكار الناس".

وكانت السراي التي يعيش فيها السلطان دائما وابدا معرضة للتفتيش والتغيير في الخدم، فهم ينفوا البعض ويعينوا البعض ثم تدور الدائرة لانهم خافوا ان ياتي الخدم بعمل ضد السلطان بان يوضع له السم في الاكل او يطلقون عليه الرصاص، او غير ذلك مما يهدد حياته بعد ان راوا تحفز الشعب واستعداده لانتهاز اية فرصة لينكل فيها بالحاكم، وازداد عدد المسجونين

لدرجة ان قائد البوليس المصري يرسل الى الداخلية يقول: "ان سجن طرة الخاص للمعتقلين السياسيين اصبح كامل العدد وسجن الإسكندرية ارسل اليوم مسجونين سياسيين كثيري العدد لاعتقالهم هنا، وانه لا يوجد مكان لهم وانا اطالب بتعليمات لبوليس الإسكندرية والقنال والمديريات بان يكفوا عن ارسال مثل هؤلاء المسكانين والا فاعملوا على بناء سجن اخر كسجن طرة".

وازاء هذا بدا التفتيش العام للسجون ببناء سجون جديدة في الميدريات وبداها في المنصورة لاجل هذا الغرض، وتوسعت حركة الاعتقالات، ففي 20 نوفمبر 1915 قبض على اعداد كبيرة من العمال لخوضهم في المسائل السياسية، وبلغ الامر ان دائرة البوليس في الإسكندرية ارتات ان تقسم البوليس الى قسيمن قسم لمراقبة الحوادث الجنائية وقسم لمراقبة الحوادث السياسية.

واستعمل التعذيب مع المتهمين الذين تكون الادانة توفرت ضدهم سواء عن اعترافهم او كتاباتهم او ضبط ما يشير لى ثوريتهم، وكانت الطريقة لحمل المتهمين على الاقرار بمن يكون اشترك في الجريمة معهم هي العمل على ما يضعف الارادة فيهم من الاكثار من سؤالهم والاطالة في التحقيق معهم ومضايقتهم بنقلهم من مكان الى مكان.

وكثرت شكوى المعتقلين بعد ان ثبت انهم ابرياء فمثلا لمجرد القبض على شخص وتفتيشه ولوجود بطاقة زيارة في جيبه باسم شخص اخر، فالبوليس على الفور يسقتصي على الاخير ويعتقله ويبقي في السجن الى مالا نهاية رغم ان المتهم الاول الذي كان يحمل البطاقة قد افرج عنه ورغم ان الاخير كان يكثر من شكواه ويرسل مظالمه الى السلطان ومن يهمهم الامر يبين فيها انه العائل الوحيد لاسرته، الا انه يبقى في السجن دون ان يسمع اليه احد.

وساءت حالة المعتقلين في السجون بانتشار الامراض بينهم واهمال معالجتهم، وعذبوا بوضعهم في خيام على البلاط ويقول سعد بصدد هذا: "امس حضرت عندي حرم باجور بك واخبرتني بان اخاها المسجون بمرض حمى الملاريا ابوا ان ينقلوه الى احدى المستشفيات او ان يمكنوا اخاه الحكيم الدكتور صالح من مداواته، وقد اخبرني احد الحكماء بان بين المسجونين من يدعى الشوربجي الافوكاتو بطنطا كان عنده مرض وكان يعالج منه ثم دخل السجن فاوقف العلاج".

هذا بالاضافة الى فرض الرقابة الصارمة على المعتقلين داخل السجون، فقد كتب محمود طاهر العربي بالمعتقل اثناء الحرب يصف الحالة:

"في ليلة الاربعاء 30 ابريل 1918 فتحت الاودة فجاة الساعة العاشرة مساء، واخذني ثلاثة من السجانين الاشداء والقوني في زنزانة في عنبر التاديب بغير فرش ولا غطاء وطوال الليلة وانا راقد على الاسفلت، وفي صباح اليوم التالي حضر الى السجن سعادة وكيل التفتيش ومعه كاتب خاص واستدعاني وفتح محضرا اتهمني باني وضابط تركي اسير وثالث من طلبة الأزهر نحرض المسجونين على بغض الانجليز
وان الأزهري يتنبا للمسجونين بان المانيا ستكون الغالبة وانه في ذلك تحريض على قلب نظام السجن وتسميم لعقول البسطاء من المجرمين الحشاشين الذين هم كالبارود لا ينقسه الا النار لينفجر، قلت لا حول ولا قوة الا بالله، واستمر العقاب خمسا وعشرين يوما في عنبر التاديب لم ار فيها وجه الشمس ولم احرك قدمي خارج الزنزانة". من هذا نرى ان الرقابة وصلت الى داخل السجن حتى لا يقوم السجناء بثورة ضد الظلم والاضطهاد وتتحول مثلا الى ضرب الحراس وتحطيم النوافذ والخروج والانتقام من الخونة.

وفقد الانجليز الثقة حتى من المقربين اليهم من المصريين امثال سعد زغلول الذي كان على صلة برجال الحماية وخاصة مكماهون والذي سعى لتولي الوزارة، وكان في الوقت نفسه على علاقة طيبة سواء بالسلطان حسين او فؤاد خاصة بعد ان وقعت العين عليه في بداية الحرب عندما ارسل اليه الخديوي عباس برقية بمناسبة وفاة حماه مصطفى باشا فهمي، فاثيرت ضجة حولها فاجرها يترجم ب"وانك لمحتاج في مثل هذه الاوقات العصيبة الى حفظ كل همتك لتخدم بها اميرك وبلادك زمنا طويلا".

ونشرت هذه البرقية في الصحف فكانت موضعا للتعليق فالعامة يذهبون على ان هذا اعتراف بفضل سعد ورضا عنه وتشجيع لخطته، اما الخاصة فيذهبون مذاهب ويختلفون في تعليقهم. ففي راي البعض دليل على ان الخديوي ممنوع من الحضور الى بلاده وانه في ضيق ولذلك يريد من سعد ان يستمر في خطته ضد الحكومة لينتقم بذلك لنفسه، وراى اخرون ان الخديوي اخذ تحت جناحه ضرب المعارضة التي كان سعد زعيمها في دور انعقاد الجمعية التشريعية، وتضايق شيتهام من هذه البرقية واعتبرها ليس فقط تشجيعا على معارضة السياسة الحالية ولكنها تحرض في حد ذاتها

وقد كانت كتشنر يتهم سعدا بان له ميولا المانية، ويستدل على ذلك بانه زار المانيا عدة مرات لدرجة انه احضر معه وصيفة المانية تدعى فريدا كابس وكانت كتشنر في ذكل الوقت الحاكم بامره في انجلترا، ولا يبت في مصر امرا الا برايه وباستئذانه، وهو يعتبر سعدا خطرا ويراه عدوا مستترا لبريطانيا ومتامرا ضد الاحتلال، وصدرت من كتشنر الاوامر بتعقب سعد في القاهرة ومسجد وصيف والإسكندرية وكلما اقترحت وكالة الحماية بالقاهرة تعيينه وزيرا ووافق نائب الملك والسلطان ولكن كتشنر يرفض .

كان سعد حريصا على طول فترة الحرب على حسن هذه العلاقة لخوفه من الاعتقال او النفي كما حدث مع اعيان البلاد، فاكثر من الزيارات لهم والاجتماعات بهم لينفي عن نفسه اي شبهة او تهمة او شك لكن هذا لم يمنع انه كان ساخطا على تصرفات السلطة والوزراء والاوضاع الموجودة في مصر، فقد عاش في مشكلة طلبة الحقوق وطلب التخفيف عنهم، وكان على صلة بامين الرافعي وطلب التخفيف عنه، وباعضاء الجمعية التشريعية امثال عبد اللطيف المكباتي الذي توسط له لدى رشدي وكذلك رجاه في علي فهمي وصالح صقر واسماعيل صبري وبعض طلبة المهندسخانة

وكان رشدي بدوره يبلغ السلطان طلبات سعد الذي كان يطلب مقابلته وقلما يقتنع باسباب الشفاعة. من هذا نرى ان سعدا استطاع ان يضرب عصفورين بحجر واحد فيظهر امام الوطنيين انه معهم ويتوسط للافراج عنهم في الوقت الذي يوطد علاقاته مع المسئولين لينال وظيفة وزير او حتى محافظ، اذ يقول: "ومن ضمن ما قلته لهنس - مستشار الداخلية - ان اتعين محافظا للاسكندرية واتعهد ان لا افعل شيئا سوى مباشرة امور زراعتي فقال ومن يضمن ان تفي بذلك العهد".

وحدث ان سمع سعد ان السلطان حسين يطلق عليه اسم "شيخ العصبة" فانزعج لهذه التسمية واحتج كيف يطلق عليه السلطان هذا اللقب وخشي ان يبلغ ذلك الانجليز اذ يقول: "عدت الان من زيارة السلطان في عابدين حيث جلست بحضرته من الساعة الثانية الى الساعة الثالثة والنصف وقد دار الكلام في موضوعات شتى اهمها انه اعتذر عن تسميتي بشيخ العصبة بان هذه التسمية مزح ومباسطة".

ورغم ذلك فقد كانت العين على سعد زغلول، وفجاة تلقى مدير الامن العام بلاغا بان سعد زغلول يدبر مؤامرة لقتل حسين رشدي يقول هو بصدد هذه التهمة:

"علمت من بعض الصحف ان رشدي حضر امس الى العاصمة فاردت الاستفهام منه عما فعل مع السلطان في خصوص ما وعد به من تلطيف خاطره، فتكلمت معه بالتليفون رغبة في مقابلته فقال انه سيحضر عندي ما بين الساعة الثالثة والرابعة وان انتظره في هذه الميدان، ثم قال انه كان يريد ان يتكلم معي لان بلاغا ورد اليه باني اتامر على قتله مع اخرين". وهذه التهمة لم تثبت عليه لكن لكونه وضع في اطار الاتهام وحامت حوله البلاغات والاتهامات اقلقه للغاية، وما كاد يسعى في النفي عن هذا البلاغ حتى يفاجا باتهام اخر.

وبدا السلطان يتوجس خيفة من سعد، هذا في الوقت الذي حضر للسلطان محمود ابو النصر نقيب المحامين وابلغه ان سعدا يسعى ليل نهار في تخليص رجال الحزب الوطني لحل محمد عبد العزيز جاويش ومحمد فريد وانه يتوسط في الافراج عنهم بعد ان اعتقلتهم الحكومة في حوادث الاعتداء الاخيرة، وان السبب في ذلك ان سعدا يمهد بهذه الوساطات لهؤلاء الشبان ليتولى زعامة الثورة ضد السلطان وضد الانجليز وانه ينشر بين الشبان روح السخط والانقضاض على الانجليز، وما كاد السلطان يعلم بهذه المعلومات حتى ابلغها الى رئيس الوزراء والى نائب الملك والى القائد العام للجيوش البريطانية واراد نفيه لمالطة.

ولما سمع سعد ذلك اراد ان يقابل السلطان ليزيل من ذهنه هذا الاتهام ويثبت تبرئة نفسه ويقول:

"توجهت الى الإسكندرية لمقابلة السلطان احباطا لعمل اولئك، فذهبت الى سراي راس التين وطلبت المقابلة فلم احظ بها وفهمت من جواب التشريفاتي ان في الامر شيئا فعدت الى مصر، وفي النفس اثر من هذا ورجوت محمود فخري الامين الاول ان يطلب تحديد جلسة ويعلنني بها عند التفضل بها، ولكنه الى اليوم - 16 ديسمبر 1915 - لم يعلمني بشئ وقد كان رشدي باشا قد حضر عندي يوم الخميس الماضي فحكيت له
فقال اني ساجتهد مع عدلي في ان يكون لك جلسة فلم اقل له شيئا بل سكت سكوت المرتاح لهذا المسعى ولكي يخفف عني قال دولته ان السلطان سريع الانفعال ولكنه طيب القلب ولكنه مشمئز، قلت وما علة الاشمئزاز؟ وما السبب في هذا الخفض بعد الرفع؟ على انه كان ذنبي لديه اني تكلمت معك في بعض المعتقلين فلست الا صديقي اناجيك كما اناجي نفسي، واذا نبهتك الى امر ولم تر فيه راي تركت الامر وعدلت.
وقد اخذت افكر في الامر طويلا وكنت بين السكوت التام عن كل سعي للاستعطاف والاسترضاء والسعي فيه بحسن الاول وانه يصعب على ان اعتذر من غير ذنب وان اهين النفس واذلها طمعا في رضاء لا اقدر على استدامته ولا استطيع التمتع بدوام نعمته لان ذلك يتطلب مني تجنب امور اجهلها ومباشرة امور لا اعلمها ولو علمتها ربما لا اتقنها ثم اني انست من نفسي ضعفا عن الجهاد والعراك وقناعة عن الجاه العريض والمنصب الرفيع
ويحسن الثاني اننا في زمن فتنة وحرب ويجب على العاقل فيه ان يتقي شره بكل وسيلة لا ضرر منها بالغير ومن جهة اخرى فان عظمة السلطان سريع الرضاء وغيظه كالبرق اللامع، قد يلومني لاثم باني لم اعدل عن الشفاعة في بعض المعتقلين بعد حادثة المكباتي مع انها كانت درسا عظيما ينبغي الاعتبار به والارتداع عن مثل السعي الذي اوجبه ولكن لا يمكنني ان اسكت عن نصرة الحق والاخذ بيد الضعيف ولو كان لي عدوا خصوصا اذا التجا الي في الدفاع عنه
واني ارى من نعمة الله علي ان يلتجئ الى الاعداء في الشدائد لانقذهم منها ويكون اكبر سروري ان ينجيهم الله على يدي كما وقع لي مع الكثيرين ولهذا لا يمكنني باي حال ان اوافق على ظلم يصدر من الحكومة خطا او عمدا مهما كان بين وبين رجالها من الصداقة والمودة، نعم اني لاقيت من جراء ذلك صعوبات جمة وحرمت كثيرا من المنافع ولكن نفسي لا يصفو لها عين مع الباطل ولا تخلص لها لذة في غير الحق.
فاذا كان السبب في غضب عظمة السلطان علي اني تشفعت في بعض من حبسوا لاعتقادي ببرائتهم او لان اهلهم استغاثوا بي فلا ينبغي لي ان اطمع في رضائه لاني فعلت ذلك وافعله ولا يمكنني الاقلاع عنه ما دام فعله ممكنا والنفع منه متوهما. وفضلا عما في طبيعتي من الفتور عن الباطل والتاذي من الظلم فاني قد عاهدت امتي ايام الانتخابات ان اكون مدافعا عنها ساعيا في رفعة شانها ما استطعت الى ذلك سبيلا وقلت في الجمعية التشريعية دائما انا رجل وضعت فكري وبياني تحت تصرف امتي، فلا يمكنني ان اخالف هذا العهد ابدا سواء رضيت الحكومة عني او غضبت
لقد عقدت النية على اعتزال السراي اذا لم يفد مسعى رشدي الذي وعدني به من تلقاء نفسه في القريب العاجل لا انتقاما من عظمته لانه اكبر من ان يتاثر بهذا وانا اضعف من ان احاوله ولكن لا اربا بنفسي عن الذلة والانكسار وارتفع بها عن ان تنال ارتفاعا بانخفاض صحيح ان في ذلك ما يشمت الاعداء ويؤذي بعض الاقارب في مصالحهم ولكن لا يصح ان اكيد الاعداء بخفض جناح الذل
وان انفع اقاربي بضعة النفس والحط من قدري ثم اني ارى في التقرب بعد ذلك الابعداد خفضا من شان الامة التي انا امثلها بصفة كوني وكيل الجمعية التشريعية وقد يكون من وراء هذا الاعتزال الاعتقال لانه اصبح سهلا لا يطلب له سبب الا ارادة ولي الامر، فاللهم ان السجن احب الي من الاستخفاف بامتي وعدم الاحتفاظ بكرامتي
وقد عرفت من عدلي ان سبب غضب السلطان مني لابد وان يكون امرا اخر غير الرجا في مسالة المكباتي قلت لا اعلم شيئا غيره قال انه سمع من احد اصدقائك في الجمعية التشريعية انه يريد انعقادها حتى يسال الحكومة عن سياستها فربما توهم انك تقاسم صاحب هذا الراي رايه فقلت ان هذه فكرة لم تدر بخلدي وليس في موضوع هذه المسالة من خصائص الجمعية، وعلى فرض ان يكون هذا الراي رايي فليس فيه ما يغضب السلطان".

ورغم التصريحات الثورية هذه، تلك التي تنم عن استعداد سعد لقيادته للحركة الوطنية الا انه عقب تصريحه بها ذهب والتقى بالسلطان واصلح الموقف ووضح له ان الامر ليس بهذه الدرجة من الاهمية وان الرواية التي تقول بسعيه للشبان ليخلف فريد وجاويش لا اساس لها من الصحة.

ونجا سعد في هذه المرة ايضا من تلك التهمة فلم يعتقل ولم ينف الى مالطة كما كان متوقعا بل روقب مراقبة شديدة الى نهاية الحرب الى ان خول اليه ان يتصدر الجبهة الثورية ويقود الحركة الوطنية ويصبح زعيم الشعب.

ومضى الشعب في طريق الانتقام باي شيء يمكن ان يضايق الانجليز ورجال الحكومة، فكثرت حوادث الاعتداء على السكك الحديدية وذلك بفك القضبان وازالة الفلنكات وبوضح احجار ضخمة على القضبان والهجوم على القطارات والاستحواذ على البضائع، فمثلا حدث عند مركز ابي قرقاص ان قطعت السكك الحديدية وكسرت القضبان لمسافة اربعة وعشرون مترا. وفي 4 مايو 1915 ضبط احد الاهالي ويدعى عبد الرحمن المنشاوي وجمع معه شركاء له ومعه مفاتيح السكك الحديد وهم يفكون القبضان.

كذلك قبض على رجلين كانا يفسدان الخط الحديدي بالدلتا، ومضى الناس يطلقون النيران على القطارات اثناء سيرها بين محطة واخرى وذلك رغم التحركات الشديدة للداخلية التي منذ ان بدات الحرب اصدرت الاوامر لكل العمد بمراقبة وحماية الطرق الحديدية والجسور والكباري وذلك حتى لا تمتد اليها يد الغضب، وقد عبرت هذه الاعمال عن سخط الاهالي على الانجليز ، اذ كانت القطارات تنقل الجنود بين انحاء مصر، وكان الشعب على غيظ كبير لذا اراد الانتقام باي طريقة تقلق الانجليز وتهدد امنهم في حيطة وحذر دائما.

وردد الناس الكلمات في الشوارع بعد ان فشل الرصاص والقنابل والخناجر، فاثرت في النفوس تاثيرا عميقا.. "ياونجت يا ونجت .. بلادنا خربت .. نهبتهم قحمنا.. نهبتم مواشينا .. نهبتهم جمالنا .. اخذتم اولادنا . لم تتركوا لنا الا اجسامنا.. اتركونا وشاننا".

كانت على كل لسان يتغنى بها التلاميذ والموظفون والفلاحون ، وبالرغ من انها لم تنشر في صحيفة، ولم تطبع على اسطوانة ومع ذلك فقد انتشرت من الإسكندرية الى اسوان، انها عبرت عن ماساة شعب يعيش في كبت وظلام مقيد بالسلاسل والاغلال حياته موحشة في ظل الاحكام العرفية وفي تلك الاجراءات والقرارات الظالمة المجحفة التي تتلخص في نهب كل شيء والاستيلاء بالقوة على كل ما تمتد اليه يد السلطة لصالح جيوش الحلفاء المحاربة على ارض مصر، والكاتب الانجلزي جورج يانج تكلم عنها وعن اصرها في الشعب المصري واعتبرها وثيقة تاريخية هامة في مرحلة النضال ضد الانجليز، وكان يونج ضابطا في المخابرات البريطانية في ذلك الوقت ومنتدبا للعمل في مصر.

وراح الشعور بالثورة يتاجج بين الصدور مع سطو الانجليز على الرجال والاموال والمحصولات والدواب وسوء الاوضاع الاقتصادية وانهيار الحالة الاجتماعية. وكان لموقف الحلفاء السيء امام الدردنيل عاجزين امام اعدائهم الذين والوا انتصاراتهم اثر من الضغط على مصر.

فان هذا الامر جعل الانجليز في حيرة شديدة وعلى درجة كبيرة من الخوف ليقينهم بنفسية وبشعور الشعب المصري اذا انتصر الالمان والاتراك، فنكلوا بالمصريين وازدادوا في القبض عليهم بسبب وبدون سبب رغم سوء حالة المعتقلين وتلك الشكايات المتعددة التي كان يرسلها اهاليهم والتي ضرب بها عرض الحائط. كما جرى اعتقال اعداد كبيرة من قبائل اولاد علي تخوفهم من الانضمام لاعداء انجلترا ورغم ظهور براءة البعض الا ان السلطة ابقت عليهم.

واعطيت الاوامر من قائد بوليس مصر بالقاهرة - هارفي باشا - لجميع اقسام البوليس في العاصمة بان يقبضوا على الاشخاص العاطلين، وذلك خوفا من ان تفرغهم يتيح لهم فرصة العمل ضد الحكومة والانجليز ولكنه رغم ذلك فقد تسلم اسماعيل سري وزير الاشغال العامة خطابا من مجهول يهدده فيه بالموت لقبوله العمل مع الانجليز.

وكان المعتقلون وطنيين جريئين فكثيرا ما كنوا يهتفون اثناء ترحيلهم بهتافات "فلتحي مصر حرة" يقولها احدهم ثم يرد عليه زملاءه ثلاث مرات باعلى صوتهم ثم يردد "فلتحي السلطنة العثمانية" فيرد زملاءه على ذلك ثلاث مرات وقد كثر الحراس البريطانيون حولهم واقفلت القطارات التي ترحلهم حتى لا يعطوهم فرصة الهرب من النوافذ او الابواب. لقد كان الاهالي بعواطفهم وصلواتهم وبكل ما يملكون من امكانيات مع تركيا المسلمة احساسا منهم بالرابطة الدينية من ناحية وبغضا لانجلترا التي تحتل ارضهم من ناحية اخرى.

واصدرت السلطة قانون منع حمل السلاح معتقدة انها بذلك تكسر شوكة الانتقام. وحذر حمله واحرازه بدون ترخيص، واستبيح حق تفتيش البيوت ومصادرته اذا وجد. وغير الحكم العرفي من القانون المصري بشان ذلك حيث اوجدت عقوبة الاعدام بدلا من الحبس ثلاثة اشهر. وعانى الفلاحون من هذا الامر، واصبحوا عرضة لتامر العمد لعلاقات شخصية، ومضت سياسة التعذيب والقسوة من اجل نزع السلاح.

وبذلك ارادت انجلترا تكميم الافواه وشل الحركة لكل من سولت له نفسه مقاومة النظام القائم. لكنها لم تستطع فاستمرت مناوءة الحكم، ففي 17 أكتوبر 1918 حدثت مظاهرة بالإسكندرية ثائرة على الوضع، اذ "اجتمع لفيف من العامة حاملين علما وساروا من جهة مسجد ابي العباس الى ميدان محمد علي وحولهم جماعة يصيحون، فشتتهم البوليس في ميدان محمد علي ولكنهم اجتمعوا ثانية وذهبوا الى الميدان وهو شارع تجاري مزدحم فهاج الشارع كله واشتبك البوليس معهم وقبض على زعماء الثائرين واودعوا بالسجن تحت قانون منع التجمهر".

واعلنت الهدنة وانتهت الحرب لتضع حدا للظروف الصعبة التي مرت بها البلاد، وبدا ابناء مصر يضعون النقط على الحروف. وبعد ان طفح بهم الكيل تتفجر ثورة 1919، ويسجل التاريخ ان المصريين شاركوا فيها بكل قواهم وامكانياتهم بعد الانين والعذاب الذي قاسوه طوال فترة الحرب. الحركة الوطنية خارج مصر

لقد استطاع محمد فريد ان يقوم بمجهوداته اذ كان على يقين من انه اذا تعاون كل من الاتراك والخديوي والطلبة المصريين المعتنقين لمبادئ الحزب الوطني والمصريون الذين كانوا على ثقة كبيرة من انتصارهم يمكن لمصر ان تجبر انجلترا بالتخلي عنها. لقد كان فريد عدوا لانجلترا ولهذا فهو يرحب بكل دولة تحاربها.

وفي 22 أغسطس 1914 راى انه اصبح لزاما علي ان يبدا برنامجه الكفاحي، فاراد ان يتقرب من الخديوي ويحسن العلاقة معه فكتب اليه لانتهاز فرصة قيام الحرب والعمل على تخليص مصر من ايدي الانجليز واعطائها الدستور وان ذلك لن يتاتى الا بمجهودات الحزب الوطني داخل مصر وخارجها، وبدا فريد يبرهن على انه مستعد للتحالف حتى مع الشيطان من اجل مصر وانتقل على الفور الى الاستانة مقر وجود عباس الذي راح يفكر هو الاخر في مدى الاستفادة التي ستعود عليه من انضمامه الى زعيم الحزب الوطني وخاصة بعد ان ساءت العلاقة بينه وبين رجال الدولة العثمانية.

وبدا الاعداد للحملة التركية على مصر التي كان هدفها دخول مصر في الوقت الذي تعلن فيه ثورتها على الانجليز، واشترك فيها عدد من الطلبة المصريين الذين حضروا خصيصا من لندن لهذا الغرض، واراد عباس ان يكون قائد الحملة ليعود بهذا الجيش الفاتح الى عرش مصر، واراد الاتراك ان يكون القائد جنرالا تركيا، واراد فريد ان يهزم الانجليز على ايدي هذه الحملة.

جاء الشق الثاني من الخطة وهو تشعيل الثورة في الوقت المحدد وتعددت الاجتماعات بين اعضاء الحزب الوطني وعباس ورجاله، ووضع المنشور الذي وقعه عباس ليوزع على المصريين وتقرر تعيين مصطفى ماهر باشا قامئقاما للخديوي لحين عودته وعزل حسين رشدي .

وشرع في تنظيم المخابرات مع مصر واشترك "اوبنهايم" الالماني فيها الذي راى انتخاب مندوبين في روما ونابولي واثينا لجمع المعلومات عن احوال مصر، وتشكيل قلمين للمخابرة في نابولي وبيروت وطرابلس للاتصالا بمصر وتثويرها في الوقت المحدد، وان يكون للاسكندرية والاستانة وفينا شفرة للمخابرات، واتفق اعضاء الحزب الوطني على ان يكون عبد اللطيف المكباتي مندوب الإسكندرية. وطرقت جميع الوسائل التي تنتهي بتوصيل الرسائل الى مصر، ولكن انتهى الامر بفشل المشروع حيث لم يكن عباس راضيا عنه فهو لم يامن جانب الاتراك ابدا، وانتهى به الامر بان غادر الاستانة الى فيينا في 15 ديسمبر 1915.

وراح اعضاء الحزب الوطني يعملون، فاكثروا من الاجتماعات مع رجال الدولة العثمانية ولكنهم ايقنوا ان الاتراك لم تكن نيتهم خالصة في جعل مصر للمصريين، كما تخوف فريد من اعمال جمال باشا في الشام اذ يقول: "كل هذه الاعمال تنفر المصريين من الاتراك وتجعلنا نخشى ان يكون نصيبنا الشنق لو دخل جمال باشا مصر".

وقرر فريد وحزبه كتابة انذار الى عباس يطالبونه بضرورة العودة الى الاستانة لاستكمال البرنامج الذي بدأوه والسعي لتخليص مصر مما هي عليه، ومما شجعهم على ذلك وصول الاخبار المتتالية من مصر والتي تفيد بامكانية تحقيق الامال التي تطلع اليها الحزب الوطني.

وسعى فريد لارسال الاسلحة والذخائر للمصريين، ولكن مخابرات الحلفاء كانت تعرف دقائق ما يفعله المصريون في الخارج، ومرة اخرى بعد فشل الحملة التركية الثانية حاول فريد مع الاتراك من اجل مصر ولكن بدون نتيجة. وضاع ما يتمناه فريد وحزبه من مساعدة الدولة العثمانية لهم او حتى عون الخديوي اذ اثبتت الاحداث ان كليهما يسعى لمصلحته الخاصة، وكانت امكانيات الحركة الوطنية خارج مصر ضيقة عاجزة عن القيام بمفردها بترجمة عملية لثوريتها.

وخارج الاستانة كان فريد يحضر المؤتمرات ويحاول ان يرفع اسم مصر فيها مثلما حدث في مؤتمر الاجناس بلوزان في يونيو 1915 حيث خطب فيه كما قدم علي الشماسي تقريرا مطولا بشان المسالة المصرية. وكانت جمعية الشبيبة المصرية بجنيف قد عقدت اجتماعا في 14 سبتمبر 1914 وهو ذكرى يوم دخول الانجليز القاهرة وارسلت برقية الى رئيس وزراء انجلترا تطالبه بتحقيق وعود الحكومة الانجليزية التي كررتها برد الحرية لمصر.

ونشر رجال الحزب الوطني الدعاية المعادية للانجليز في اوروبا، وخاطبوا انجلترا، فنرى محمد فهمي رئيس اللجنة الدائمة للشباب المصري في اوروبا يرسل خطابا مفتوحا الى رئيس وزرائها يطالب فيه باعطاء مصر حقها. وفي 11 ديسمبر 1915 اجتمع الطلبة المصريون في جنيف وحضر بعضهم من لوزان وبرن وتناقشوا في المسالة المصرية وقرروا انشاء صحيفة اسبوعية لتهيئة الراي العم الاوروبي واستمالته نحو مصر. وعلى ارض المانيا نظم الطلبة الذين يتلقون تعليمهم فيها لجنة وطنية اعلنت احتجاجها على تصرفات الانجليز على الارض المصرية.

وبذلك يمكن القول ان الحركة الوطنية لم تكن منحصرة داخل مصر واكتفت بتلك الجبهة القوية التي حاربت بكل قواها الانجليز، وانما خارج حدود مصر ارتفعت الاصوات وعلت الصيحات من اجل تحرير مصر.

ختام

وضح من كل ما تقدم ان مصر في الحرب العالمية الأولى تعرضت لظروف صبغتها بصبغة خاصة اثرت في تاريخها، فابعلان الحرب ودخول انجتلار فيها كان عليها ان توجه سياستها وفقا لمصالحها على الارض المصرية، فسيطرت عليها واصبحت كل الاجراءات التي اتخذتها مصر بناء على رغبة الدولة المحتلة، فادخلتها الحرب بجانبها بدون مقابل، واصبح قائد الجيوش البريطانية في مصر له السلطة المطلقة على مصر والمصريين، فاصدر قانون التجمهر واعلن الاحكام العرفية وفرض الرقابة على الصحافة.

ورات انجلترا ان الفرصة التي تنتهزها قد حانت بتغيير وضع مصر السياسي الذي اقرته معاهدة لندن وفرمانات السلطان العثماني، فانهت السيادة العثمانية نهائيا واعلنت حمايتها على مصر بدون ان يكون لذلك سند قانوني، وعزلت الخديوي عباس الذي كانت لا ترتاح اليه، وعينت الامير حسين كامل بدلا منه، فكان اول حاكم لمصر في ظل الحماية، وتبعه الامير احمد فؤاد في المنصب، وعانت مصر في عهدهما اشد المعاناة وتحكم المندوب السامي فيها خاصة بعد ان ظهرت اهميتها الحربية بالنسبة للحلفاء.

وانتهت الحرب ورددت الشعوب المغلوبة على امرها مبادئ ولسن الاربعة عشر في حق الامم لتقرير مصيرها، والتي ايدتها انجلترا وفرنسا في تصريحهما المشترك، واحست مصر ان الوقت قد حان لتنال ما تريد ولتكافا عما قدمته لانجلترا وحلفائها طوال فترة الحرب، وخرجت فكرة تاليف الوفد لعرض القضية المصرية على مؤتمر الصلح او على الاقل للتفاهم مع لندن في مستقبل مصر حيث جاء الوقت الذي يجب ان يعطى لها بعد كل ما ضحت به، ولكن جاء الاعتراف الدولي بالحماية البريطانية على مصر ليحطم الامل في الحصول على العدالة.

وغيرت الحرب مجرى الحياة الاقتصادية في مصر، فاستصدر النقد الورقي - بعد ان انخفضت قيمة الذهب وقل استيراده - وازدادت كميته تبعا للظروف التي مرت بها البلاد، فالجيوش البريطانية مرابطة، وسعر القطن غير ثابت، فانخفضت قيمته ونشا التضخم المالي، كما اصبح اصدار هذا النقد مضمونا باذونات الخزينة البريطانية ، وبذلك انتمت العملة المصرية الى الاسترليني، وظهر العجز في مجالات متعددة.

وامتنعت البنوك عن التسليف على القطن، واغلقت بورصة مينا البصل وتوالت الحجوزات على الاهالي وانتزعت ملكياتهم لتحصل ضرائب الحكومة التي خفضت المساحة المنزرعة قطنا واحلت الحبوب محلها لتموين الجيوش البريطانية، واحتكرت انجلترا محصول القطن وحددت سعره بنصف السعر المتداول، ونقص محصول الحبوب بالرغم من ذلك نظرا للحاجة الملحة اليه. وبالنسبة للانتاج الحيواني فتعرضت مصر لازمته لانقطاع الوارد ولتموين الجيوش البريطانية وللامراض التي هاجمته.

وفيما يختص بالصناعة فقد توقفت الواردات في حين ان مصر ومن عليها في احتياج الى الغذاء والكساء، فتهيات الظروف للرأسمالية المصرية والفت لجنة التجارة والصناعة ونهضت بعض الصناعات. اما التجارة، فالداخلية ارتفعت اسعارها لعدم الاستيراد من الخارج وضرورة سد احتياجات الجيوش البريطانية، ولعب التجار دورا في هذا المجال ومعظمهم اجانب، وبالرغم من التسعيرة التي وضعتها الحكومة الا انه لم يعمل بها، وكان لذلك انعكاساته على الشعب.

وعن التجارة الخارجية، فقد عاقت الحرب في بادئ الامر وورد السلع المستوردة، كما اوقفت الحكومة حركة التصدير وخاصة المواد الغذائية، ومنعت مصر من التعامل مع اعداء انجلترا، وكان لهذا اثره على اقتصادها، وما لبث الامر ان سمحت الحكومة بالتصدير فارتكبت السوق التجارية.

واثرت الاوضاع السياسية والاقتصادية على فئات الشعب، وتفاوت الأمر بين الطبقات، فناك من استفاد من الحرب وكانوا قلة معظمها من غير المصريين، اما السواد الاعظم من المصريين فقد قاسى الامرين وخاصة المثقفون والعمال والفلاحون، واتسم المجتمع المصري في هذه الفترة بامراض اجتماعية اثرت عليه كالبطالة والفقر والجرائم.

اما عن المظاهر الثقافية فشملت التعليم الذي كان لانجلترا موقفا تجاهه فعملت على التغيير من وضعه رغبة منها في شغل المصريين عن السياسة لكن ذلك لم يشفع لها عندهم. واقام الانجليز المذابح للصحافة وهي التي تصل الى القلب وتغذي الروح، فاوقفت الاقلام المناهضة لها، وتحكمت في كل كلمة تكتب فيها، وبالرغم من ذلك فهناك من تحايل وصمد اما التيار. وظهرت الاتجاهات الفكرية، فسادت النزعة الاشتراكية التي دعتها ظروف الحرب العصيبة، وبرزت قضية تحرير المراة وارتفعت اصوات دعاة السفور كذلك كان للمسرح دور فعال وايجابي في نقد المجتمع في هذه الفترة.

وكان على مصر بعد ان اصبحت طرفا في الحرب دخول ميدانها، فعلى ارضها عسكرت جيوش الحلفاء، واصبحت قاعدة اسياسية في الشرق الأوسط دارت عليها معظم العملية الحربية، وخرجت منها الحملات العسكرية، وكان للجيش المصري مجهوداته في رجحان كفة الحلفاء، وليس الجيش فقط وانما الرديف وتلك الفرق التي كونتها انجلترا من العمال والجمالة المصريين للخدمة في الشرق الاوسط وفرنسا والدردنيل. ولم تكف بذلك بل اجبرت مصر على تلك المساعدات الاقتصادية من جمع الاموال والدواب والحبوب والمحاصيل والاستيلاء على المباني والاراضي لاجل السلطة العسكرية.

وامام ذلك كله كان لابد للحركة الوطنية ان تقاوم، ومنذ اللحظة الاولى لقيام الحرب مارست انجلترا الرقابة الصارمة على المصريين الذين ساءهم دخول مصر الحرب وتلك الاجراءات التعسفية التي تبعت ذلك، وبذلك الانجليز مع المسئولين من المصريين الذين ساروا في ركابهم وعلى هديهم كل ما في وسعهم للقضاء على اي نشاط تقوم به الدولة العثمانية والمانيا، ومضت ايديهم تبطش بالمصريين وخاصة اتباع الحزب الوطني، وازدادت حركة الاعتقالات والنفي، وبالرغم من ذلك كثرت المنشورات الثورية، واضرب طلبة الحقوق عن حضور زيارة السلطان لهم اذ اعتبر خائنا لقبوله العمل تحت الحماية البريطانية.

وحدثت المحاولة الاولى لاغتياله ثم الثانية لكن ساعده الحظ فنجا من المحاولتين، كذلك جاءت محاولة اغتيال وزير الاوقاف الموالي للانجليز لكنها ايضا لم يصبها النجاح. وخرجت محاولات الانتقام من الانجليز اما بالاستيلاء على ادواتهم او بقطع طرق مواصلاتهم او بالاعتداء على عساكرهم. كان ذلك رغبة اكيد للتنفيس عما يجيش بصدروهم، ولم تقتصر الحركة الوطنية داخل مصر بل وجدت جبهة وطنية خارجها تزعمها محمد فريد ولكن لم يكتب لها التوفيق.

وبقيت مصر متحفزة ومستعدة تنتظر اللقاء الثوري الذي سرعان ما التهب وقامت ثورة 1919 والتي اقر جميع المعاصرين لها بل والمشاريكن فيها بانها ما تعرضت له مصر اثناء فترة الحرب هو الذي اشعلها.