معالم منهج الإخوان من رسائل الإمام (3)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
معالم منهج الإخوان من رسائل الإمام (3)


بقلم: د. محيي حامد

مقومات البناء

إن أي جماعةٍ أو دعوةٍ لا بد لها من مقوِّماتٍ أساسيةٍ، تقوم عليها، وتنطلق منها، وبقدر قوة ومتانة هذه المقومات تكون قوة بنيان هذه الدعوة؛ ولذا فقد حَرَصَ الإمام البنا- رحمه الله- على بناء هذه الدعوة على أسسٍ قويةٍ ومتينةٍ مستمدةٍ من تعاليم الإسلام ومنهج الرسول- صلى الله عليه وسلم- في بناء الأمة الإسلامية.

ولقد تميَّزت دعوة الإخوان على مرِّ السنوات الطوال منذ نشأتها وحتى وقتنا هذا بالقوة والاستمرارية، والنموّ والتطور، إضافةً إلى زيادة انتشارها وقوة ارتباط الفروع بالجماعة الأم، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على سلامة وقوة منطلقاتها ومقوماتها؛ ولذا وجب على المنتسبين لهذه الدعوة والمحبِّين لها أن يتعرَّفوا على هذه المقوّمات، ويعملوا على تحقيقها في واقعهم وواقع الأمة كلها.

أولاً: البناء العقدي والإيماني

إن البناء العقدي والإيماني هو الأساس الذي ينطلق منه الدعاة والمصلحون على مَرِّ التاريخ، كلما ازداد هذا البناء رسوخًا ازدادت قوةُ الانطلاقة والثبات عليها، ويمكن إيجاز معالم هذا البناء في محاور أربعة:

(أ) سلامة الاعتقاد

ولقد تحدَّث الإمام الشهيد عن ذلك في (رسالة المؤتمر الخامس) تحت عنوان "إسلام الإخوان المسلمين"، فقال: "واسمحوا لي- أيها السادة- أن أستخدم هذا التعبير، ولست أعني به أن للإخوان المسلمين إسلامًا جديدًا غير الإسلام الذي جاء به سيدُنا محمد- صلى الله عليه وسلم- عن ربه، وإنما أعني أن كثيرًا من المسلمين في كثير من العصور خلعوا على الإسلام نعوتًا وأوصافًا وحدودًا ورسومًا من عند أنفسهم، فاختلفوا في معنى الإسلام اختلافًا عظيمًا، وانطبعت للإسلام في نفوس أبنائه صورٌ عدةٌ تقرب أو تبعد أو، تنطبق على الإسلام الأول الذي مثَّله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه خير تمثيل.

ولهذا أحببت أن أتحدث لحضراتكم في إيجاز عن معنى الإسلام وصوره الماثلة في نفوس المسلمين؛ حتى يكون الأساسَ الذي ندعو إليه ونعتزّ بالانتساب له والاستمداد منه واضحًا جليًّا.

1- نحن نعتقد أن أحكامَ الإسلام وتعاليمَه شاملةٌ، تنتظم شئون الناس في الدنيا وفي الآخرة؛ فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله.

وهكذا اتصل الإخوان بكتاب الله، واستلهموه واسترشدوه، فأيقنوا أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل، وأنه يجب أن يهيمن على كل شئون الحياة، وأن تصطبغ جميعًا به، وأن تنزل على حكمه، وأن تساير قواعده وتعاليمه، وتستمد منها ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمةً إسلامًا صحيحًا.

2- يعتقد الإخوان أن أساسَ التعاليم الإسلامية ومعينَها هو كتاب الله- تبارك وتعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدًا؛ ولهذا يجب أن تُستَقَى النظمُ الإسلاميةُ التي تُحمَل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، وأن نفهمَ الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية؛ حتى لا نقيِّدَ نفسنَا بغير ما يقيِّدنا الله به، ولا نُلزِمَ عصرنَا لونَ عصرٍ لا يتفق معه والإسلام دين البشرية جميعًا.

3- يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام- كدينٍ عامٍ- انتظم كل شئون الحياة في كل الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يَعرِض لجزئيات هذه الحياة، وخصوصًا في الأمور الدنيوية البحتة؛ فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشئون، ويرشد الناس إلى الطريق العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها.

ولضمان الحق والصواب في هذا التطبيق أو تحرِّيهما على الأقل، عُنِيَ الإسلام عنايةً تامَّةً بعلاج النفس البشرية التي صاغها هذا الإسلام من الكمال الإنساني؛ ولهذا كانت طبيعةُ الإسلام تساير العصور والأمم، وتتسع لكل الأغراض والمطالب؛ ولهذا أيضًا كان الإسلام لا يأبى أبدًا الاستفادةَ من كل نظامٍ صالحٍ لا يتعارض مع قواعده الكلية وأصوله العامة".

(ب) قوة الإيمان ويقظة الروح

ولقد تناول الإمام البنا- رحمه الله- هذا الجانب كأحد مكونات البناء العقدي والإيماني؛ فيقول في رسالة (دعوتنا في طور جديد): "وينظر الناس في الدعوات إلى مظاهرها العملية التي هي في الحقيقة مددُ الدعوات وغذاؤها، وعليها يتوقَّف انتصارُها ونماؤها؛ ولهذا أستطيع أن أقول إن أول ما نهتم له في دعوتنا، وأهم ما تقوم عليه في نمائها وظهورها وانتشارها، هذه اليقظة الروحية المرتجِّلة؛ فنحن نريد- أول ما نريد- يقظةَ الروح، حياةَ القلوب، صحوةً خفاقةً، مشاعرَ غيورةً ملتهبةً متأجِّجةً، أرواحًا طموحةً متطلعةً متوثِّبةً، تتخيل مُثُلاً عليا، وأهدافًا ساميةً؛ لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها، ولا بد من أن تُحدَّد هذه الأهداف والمُثُل، ولا بد من أن تُحصَر هذه العواطف والمشاعر، ولا بد أن تركز حتى تصبح عقيدةً لا تقبل جدلاً ولا تحتمل شكًّا ولا ريبًا.

إننا نتحرى بدعوتنا نهج الدعوة الأولى، ونحاول أن تكون هذه الدعوة الحديثة صدًى حقيقيًّا لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بطحاء مكة، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة!!.

ثانيًا: البناء الأخلاقي والسلوكي

إن من أسس بناء أي جماعة أو دعوة هو البناء الأخلاقي والسلوكي، والأمم تقوم على الأخلاق، والحضارات تشيَّد بالسلوك القويم، ولقد قال أمير الشعراء شوقي- رحمه الله-:

إِنَّمَا الأُمُمُ الأَخُلاَقُ مَا بَقِيَتْ

فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاَقُهُمْ ذَهَبُوا

ولقد حَرَصَ الإمام البنا- رحمه الله- على البناء الأخلاقي والسلوكي لأفراد هذه الدعوة المباركة، وحثَّهم على التحلي بكل فضيلة وسلوك قويم؛ فيقول- رحمه الله- في رسالة (نحو النور) تحت عنوان "الإسلام والخلق": "والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى الخلُق.. الخلق الفاضل القويّ المتين، والنفس الكبيرة العالية الطَّموح؛ إذ إنها ستواجِه من مطالب العصر الجديد ما لا تستطيع الوصولَ إليه إلا بالأخلاق القوية الصادقة النابعة من الإيمان العميق والثبات الراسخ، والتضحية الكبيرة والاحتمال البالغ، وإنما يصوغ هذه النفسَ الكاملةَ الإسلامُ وحده؛ فهو الذي جعل صلاح النفس وتزكيتها أساسَ الفلاح، فقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)﴾ (الشمس).

وجعل تغيير شئون الأمم وقفًا على تغيير أخلاقها وصلاح نفوسها؛ فقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)، وإنك لتسمع الآيات البالغة في مفردات الأخلاق الكريمة، فتراها القوة التي تغالب في إصلاح النفوس وإعدادها وتزكيتها وتصفيتها؛ مثل قوله تعالى في الوفاء: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ (الأحزاب)، وفي البذل والتضحية والصبر والاحتمال ومغالبة الشدائد: ﴿لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: من الآية 120)، وليس كالإسلام عاملٌ على إيقاظ الضمير وإحياء الشعور وإقامة رقيبٍ على النفس، وذلك خير الرقباء، وبغيره لا ينتظم قانون ما إلى أعماق السرائر وخفيات الأمور".

ثم يتطرَّق الإمام البنا إلى إعداد الرجال وما يلزم ذلك من بناء النفوس وتشييد الأخلاق؛ فيقول في رسالة (هل نحن قوم عمليون؟!) تحت عنوان "إعداد الرجال": "ولكن الأمم المجاهدة التي تواجه نهضةً جديدةً وتجتاز دورَ انتقالٍ خطيرٍ، وتريد أن تبنيَ حياتها المستقبلة على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهية والهناء، وتطالب بحقٍّ مسلوبٍ وعزٍّ مغصوبٍ، في حاجةٍ إلى بناء آخر غير هذه الأمنية، إنها في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة؛ حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات، ويتغلَّبوا على ما يعترضهم من مصاعب.

إن الرجل سرُّ حياة الأمم ومصدرُ نهضتها، وإن قوةَّ الأمم أو قوَّتها تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة، وإني أعتقد أن الرجل الواحد في وُسعه أن يبنيَ أمةً إن صحَّت رجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجَّهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء".

ثم يتحدث الإمام البنا عن أهمية بناء النفوس وتربيتها، فيقول: "وليس للأمة عُدَّةٌ في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة، والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء والتضحيات، والإقدام عند الملمَّات، وبغير ذلك تُغلَب على أمرها، ويكون الفشل حليفَها.. فاعلم أن الفرض الأول الذي ترمي إليه جمعيات الإخوان المسلمين التربية الصحيحة؛ تربية الأمة على النفس الفاضلة والخلق النبيل السامي، وإيقاظ ذلك الشعور الحي الذي يسوق الأمم إلى الذود عن كرامتها، والجدِّ في استرداد مجدها، وتحمُّل كل عنتٍ ومشقةٍ في سبيل الوصول إلى الغاية".

ثم يتطرَّق الإمام البنا بعد ذلك إلى تحديد الوسيلة واختيار المبدأ اللازم لذلك، فيقول: "إن الإخوان المسلمين رأَوْا أن أفضل الوسائل في إصلاح نفوس الأمم (الدين)، ورأَوْا إلى جانب هذا أن الدين الإسلامي جمع محاسن كل هذه الوسائل وبَعُدَ عن مساوئها، فاطمأنت إليه نفوسهم، وانشرحت به صدورهم، وكان أوَّلَ وسائلهم العملية في تطهير النفوس وتجديد الأرواح، وتحديد الوسيلة واختيار المبدأ".

وبقراءة هذه الكلمات التي عبَّر عنها الإمام البنا ندرك أهمية التربية وإصلاح النفوس وتطهير الأرواح والتحلي بالأخلاق الفاضلة التي يحرص الإسلام على غرسها في نفوس المؤمنين، وندرك أيضًا أهمية إعداد الرجال في بناء الأمم الناهضة، كل هذا يجعل من البناء الأخلاقي والسلوكي لهذه الدعوة أساسًا للانطلاقة الراشدة نحو أمة ناهضة.

ولذا نجد أن الإمام البنا عندما تحدَّث عن الفرد المسلم في ركن العمل حدَّد له مقومات البناء والتربية، فيقول: "إصلاح نفسه حتى يكون قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر"؛ فمتانة الخُلُق أساسٌ لصلاح النفس وتربيتها.

كما يحدِّد الإمام البنا- رحمه الله- في رسالة (التعاليم) أركانَ البيعة العشر وما تشمله من قيمٍ وصفاتٍ للرجولة الصادقة؛ فالتضحية والثبات، والتجرد والإخلاص، وغيرها من القيم الرفيعة والصفات النبيلة التي تساهم في بناء وإعداد الرجال الذين تقوم على أكتافهم الأمة الناهضة: "لنقف بين يدي الأستاذ الأول، وهو سيد المربِّين وفخر المرسلين الهادين؛ لنتلقَّى عنه دروس الإصلاح من جديد، وندرس خطوات الدعوة من جديد..

إن النبي- صلى الله عليه وسلم- قذف في قلوب صحابته بهذه المشاعر الثلاثة، فأشرقت بها وانطبعت عليها:

(أ) قذف في قلوبهم أنَّ ما جاء به هو الحق وما عداه الباطل، وأن رسالته خير الرسالات، ونهجَه أفضلُ المناهج، وشريعتَه أكملُ النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد هذا المعنى ثباتًا في النفس وتمسُّكًا في القلب: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الزخرف: من الآية 43).

(ب) وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا أهل الحق وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم يتخبَّط في الظلام، وما دام بين يديهم هديُ السماء لإرشاد الأرض، فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذةَ الناس، وأن يقصدوا من غيرهم مقصدَ الأستاذ من تلميذه.. يحنو عليه ويرشده، ويقوِّمه ويسدِّده، ويقوده إلى الخير ويهديه إلى الصراط المستقيم ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).

(ج) وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه، فإن الله معهم، يعينهم ويرشدهم، وينصرهم ويؤيدهم، ويمدّهم إذا تخلَّى عنهم الناس ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 128)، وبهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظةً في صدورهم، باديةً في أخلاقهم وأعمالهم فدانت لهم الأرض".

القوة النفسية العظيمة

ويحدِّد الإمام البنا في رسالته (إلى أي شيء ندعو الناس؟!) القوة النفسية العظيمة أحد مكونات البناء الإيماني والعقائدي، الضرورية واللازمة لنهضة الأمة فيقول: "إن تكوين الأمم وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة التي تحاول هذا، أو من الفئة التي تدعوا إليه- على الأقل- إلى قوةٍ نفسيةٍ عظيمةٍ تتمثل في عدة أمور:

  • إرادة قوية لا يتطرَّق إليها ضعف.
  • وفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.
  • تضحية عزيزة لا يحُول دونها طمع ولا بخل.
  • معرفة بالمبدأ والإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه، والانحراف والمساومة عليه، والخديعة بغيره.

على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تُبنَى المبادئ وتُربَّى الأمم الناهضة، وتتكوَّن الشعوب الفتية وتتجدَّد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنًا طويلاً، وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة، أو على الأقل فقدها قوادُه ودعاةُ الإصلاح فيه، لَهُوَ شعبٌ عابثٌ مسكينٌ، لا يصل إلى خير ولا يحقِّق أملاً".

ولقد تعرَّضت دعوة الإخوان المسلمين لكثيرٍ من المحن والابتلاءات الشديدة، فكان من فضل الله أولاً على هذه الدعوة ثم بهذه القوة النفسية العظيمة التي امتلأت بها القلوب والأرواح، والتي جعلت هذا الرعيل من الإخوان المسلمين- رغم كل ما تعرضوا له- يتحمَّلون عبء هذه الدعوة ويتحركون بها ويعملون من أجلها في ربوع العالم أجمع، فأصبح كل رجل منهم بأمة؛ لأنه يمتلك تلك القوة النفسية العظيمة بأركانها الأربعة: إرادة قوية، ووفاء، وتضحية، وإيمان بالمبدأ.

الأمل والثقة في نصر الله

إن من مقوِّمات البناء والنهوض، والتي تحتاج إليه الأمم والدعوات هو الأمل الواسع الفسيح، والثقة بالنجاح الذي يغمر القلب ويملأ النفس، ولقد أدرك الإمام البنا حقيقة هذا الأمر، فكان حريصًا على تربية رجال هذه الدعوة على هذا المقوم الأساسي في بناء النفوس، فيقول- رحمه الله- في رسالة (إلى أي شيء ندعو الناس؟!) تحت عنوان "أعظم مصادر القوة":

"وفي النسبة إلى الحق- تبارك وتعالى- معنى آخر يدركه من التحق بهذه النسبة، ذلك هو الفيض الأعم من الإيمان، والثقة بالنجاح الذي يغمر قلبك ويملأ نفسك، فلا تخشى الناس جميعًا ولا ترهب العالم كله إن وقف أمامك يحاول أن ينال من عقيدتك أو ينتقص من مبدئك ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾ (آل عمران)".

ثم يسوق الإمام البنا الشواهد القرآنية الدالة على ذلك؛ فيقول في رسالة (نحو النور): "تحتاج الأمة الناهضة إلى الأمل الواسع الفسيح، وقد أمدَّ القرآن أممه بهذا الشعور بأسلوبٍ يُخرج من الأمة الميتة أمةً كلها حياةٌ وهمةٌ، وأملٌ وعزمٌ، وإن أضعف الأمم إذا سمعت قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ (القصص)، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران).. إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التبشير كله وقرأت ما أشارت إليه من قصص تطبيقية واقعية، لا بد أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيمانًا وأرواحًا، ولا بد أن ترى في هذا الأمل ما يدفعها إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدت، ومقارعة الحوادث مهما عَظُمَت؛ حتى تظفر بما تصبوا إليه من كمال".

وبهذه المكونات الأربعة: سلامة الاعتقاد، وقوة الإيمان، والنفسية العظيمة، والأمل والثقة في نصر الله، والتي تشكِّل أساس البناء العقدي والإيماني كأحد مقومات بناء الجماعة.

ثالثًا: البناء التنظيمي

لا يمكن لأي بناء أن يستقيم عودُه ويزاد قوةً وصلابةً إلا بقوة تماسكه وترابط أجزائه وتلاحم ذراته، ولقد فقه الإمام البنا حقيقة الدعوات والجماعات، فأدرك أهمية البناء التنظيمي لها، والتي تعمل وحدة أعضائه وزيادة روابطهم فيما بينهم، وأيضًا زيادة التفاهم حول قيادتهم ومنهجهم، ولقد حدَّد الإمام البنا- رحمه الله- أركانًا ثلاثة تدور عليها فكرة الإخوان:

أولها المنهج الصحيح: وقد وجده الإخوان في كتاب الله وسنة رسوله وأحكام الإسلام؛ حيث يفهمها المسلمون على وجهها غضةً نقيَّةً بعيدةً عن الدخائل والمفتريات.

وثانيها العاملون المؤمنون: وبهذا أخذ الإخوان أنفسهم بتطبيق ما فهموه من دين الله تطبيقًا لا هوادةَ فيه ولا لين، وهم- بحمد الله- بفكرتهم مطمئنون، إلى غايتهم واثقون، بتأييد الله إياهم ما داموا له يعملون، وعلى هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسيرون.

وثالثها القيادة الحاذقة الموثوق بها: وقد وجدها الإخوان المسلمون كذلك؛ فهم لها مطيعون، وتحت لوائها يعملون.

ولقد حَرَصَ الإمام البنا على تأسيس هذا البناء التنظيمي بصورةٍ متفردةٍ عن غيرها، فنجده- رحمه الله- في رسالة (التعاليم) يوجِّه حديثه إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين فيقول: "أيها الإخوان الصادقون.. أركان بيعتنا عشرةٌ، فاحفظوها:

الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والأخوة، والثقة. وهذه الأركان العشر منها ما يتعلق:

أولاً: بالمنهج، ويشمل أركان (الفهم والعمل).

ثانيًا: بالعاملين المؤمنين، ويشمل أركان (التجرد، الجهاد، التضحية، الثبات، والإخلاص).

ثالثًا: بالقيادة الحازمة، ويشمل أركان (الأخوَّة، الثقة، والطاعة).

بالنسبة للأركان المرتبطة بالمنهج (الفهم والعمل)، فهي تشكَِّل البناء الفكري للجماعة، والأركان المرتبطة بالعاملين في هذه الدعوة (الإخلاص، الجهاد، التضحية، والتجرد)؛ فهي تشكِّل البناء التربوي لها، أما الأركان المرتبطة بالقيادة (الأخوَّة، الثقة، الطاعة) تشكِّل البناء التنظيمي والروابط التنظيمية التي تقوم عليها الجماعة:

(أ) الأخوَّة

وهي تشكِّل الرابطة التي تجمع هذه اللبنات الصالحة في بناءٍ واحدٍ متماسكٍ، وكما يطلق عليها هي "المونة" التي تتخلَّل هذه اللبنات فتجمعها في ترابطٍ وتراصٍّ قويٍّ، ويقول الإمام البنا في ركن الأخوَّة: "وأريد بالأخوَّة أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدةُ أوثق الروابط وأغلاها، والأخوَّةُ أخوَّة الإيمان، والتفرُّق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، لا وحدةَ بغير حب، وأقلُّ الحب سلامةُ الصدر، وأغلاها مرتبةُ الإيثار، والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض".

ونخلص من ذلك بالنقاط الآتية:

  • ارتباط القلوب والأرواح برباط العقيدة.
  • الإخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر.
  • أول القوة هي قوة الوحدة.
  • لا وحدةَ بغير حب.
  • أقل الحب سلامة الصدر، وأغلاها مرتبة الإيثار.
  • الأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه.
  • والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا.

(ب) الثقة

وهي ركنٌ من أركان البيعة التي حَرَصَ الإمام البنا على تربية الأفراد عليها، وعنها يقول- رحمه الله-: "وأريد بالثقة اطمئنانَ الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانًا عميقًا ينتج الحب والتقدير، والاحترام والطاعة.

والقائد جزءٌ من الدعوة، ولا دعوةَ بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة، والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يفرضها من عقبات وصعاب، وللقيادة في دعوة الإخوان حقُّ الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعانيَ جميعًا، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات".

ومن هذا التعريف الدقيق والواضح نخلص إلى عدة نقاط، هي:

  • الثقة في القيادة ينتج عنها الحب والتقدير، والاحترام والطاعة.
  • على قدر الثقة المتبادلة بين القيادة والأفراد تكون قوة نظام الجماعة ونجاحها.
  • مكانةُ القيادة في دعوة الإخوان روحيةٌ واجتماعيةٌ، وعلميةٌ وتنظيميةٌ.
  • أن أساس نجاح الدعوات هو الثقة بالقيادة.

ولذا فإن الثقة تعتبر سياجًا واقيًا للجماعة، فإذا ضعفت ضعفت الجماعة، ولقد حَرَصَ الإخوان على مرِّ السنوات الطوال والمحن والابتلاءات ألا تهتز الثقة بينهم، فكانت لهم حافظًا.

(ج) الطاعة

والطاعة ثمرةٌ ونتاجٌ طبيعي للحب والأخوة تحققِّ الثقة بين القيادة والأفراد، وبين الأفراد بعضهم البعض، ولقد عرَّفها الإمام البنا بقوله: "وأريد بالطاعة امتثال الأمر وإنفاذه توًّا في العسر واليسر، والمنشط والمكره".

ومن خلال هذا التعريف نخلص إلى:

  • الطاعة نتاجٌ للأخوَّة والثقة.
  • الطاعة امتثالُ وإنفاذُ الأمر في جميع الأحوال التي تمرُّ بها الدعوة أو الفرد.
  • الطاعة المبصرة ملزمةٌ؛ لأنها مبنيةٌ على النزول لرأي الشورى.
  • الطاعة تبدأ باحترام النظم والمبادئ العامة للجماعة، وتنتهي بكمال الطاعة (أمر وطاعة من غير تردد ولا مراجعة، ولا شك ولا حرج).

ومن هنا كانت الطاعة تمثِّل سياجًا واقيًا للجماعة، مانعًا للتفتت والتفرق، وكم من الأمور لو تُركَت لهوى النفس وتقدير الأفراد ما تم إنجازها!!، ولكنها في إطار الحب والثقة والطاعة المبصرة يتم إنفاذها ويكون لها عظيم الأثر.

إن المواقف العملية والتربوية المعبِّرة والموضحة لأركان الأخوة والثقة والطاعة كثيرةٌ، ولكن خلاصة الأمر أن هذه الأركان الثلاثة تمثِّل الروابط التنظيمية والبناء التنظيمي لجامعة الإخوان المسلمين، فإذا انتقص منها شيئًا انهارت وضعفت، وبفضل من الله- عز وجل- كانت على مدار التاريخ سياجًا واقيًا من كل فتنةٍ أو تفرُّقٍ أو تشرذمٍ، وكلما ازدادت قوةً ازداد البناء التنظيمي قوةً وتماسكًا.


المصدر