مع الإمام "البنا" في الإسماعيلية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.



مع الإمام "البنا" في الإسماعيلية


الظروف السائدة بمصر قبل نشأة جماعة الإخوان (6)

• واجه واقعًا معقَّدًا من المحتلين والأجانب والمصريين الذين تشبَّهوا بهم في الإباحية وشرب الخمر!

• أخرج "البنا" إلى النور ما في قلوب الجماهير من إيمان مخدَّر وتبنَّى دعوةً شاملةً لتربيتها.

تتناول هذه الحلقة الستة أشهر الأولى من حياة الإمام "البنا" في الإسماعيلية، التي بدأها برصد للواقع لمدة أربعين يومًا، بدأ بعدها الدعوة على المقاهي ثم في الزوايا- مع الاستمرار بالمقاهي- حتى جاءَه ستةٌ من الرجال الذين حفَروا لأنفسهم أحرُفًا من نور ومكانًا بارزًا في التاريخ مع الصادقين المخلصين من سلَف هذه الأمة، وكانت على أيديهم وأكتافهم نشأةُ دعوة (الإخوان المسلمين).


البداية من الصفر

الإمام حسن البنا

لقد نجح الإمام "حسن البنا"- يرحمه الله- في امتحان دبلوم دار العلوم في يونيو عام 1927 م، وكان أول دفعته؛ لذا توقع تعيينه بالقاهرة، إلا أنه عُيِّن مدرسًا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية- الموجودة حاليًا في شارع الثلاثيني، وأصبح اسمها مدرسة (طه حسين)- في الدرجة السادسة بمرتب 15 جنيهًا.

كانت العادة في هذا الوقت أن يكون مدرس المرحلة الابتدائية والمسئولون عنها من الحاصلين على الشهادات العُليا، وغضِب الإمام "البنا" لتعيينه بالإسماعيلية، إذ عزَّ عليه أن يودِّع إخوانه الذين ارتبط بهم في القاهرة، إلا أنه رضَخ للأمر الواقع، ورضي بقضاء الله وأمره.


حمل أمتعته وسافر متوجِّهًا لمدينة الإسماعيلية التي كانت المرة الأولى التي تطؤها قدماه، يوم الإنين 16سبتمبر عام 1927 م، وتسلم عمله بالمدرسة في 20 سبتمبر 1927 م، وهو يحسُّ في أعماق نفسه أنه لابد أن يكون له أثر طيب في هذا البلد.

كعادة أي غريب نزل في منزل خاص مع أحد أصدقائه؛ حيث سكن مع زميلٍ له في غرفة واحدة في منزل (بنسيون السيدة أم جيمي الإنجليزية)، ثم نزل في منزل (مدام بينيا الإيطالية)، ولم يحاول الشاب أن يختلط بأحد ولا أن يتعرف إلى غير بيئته الخاصة من زملائه في وقت العمل، وقضى أيامه الأولى- أربعين يومًا- بين المسجد والمدرسة والمنزل، وشغل وقت فراغه ما بين الرياضة والقراءة، وأعطى وقتًا كبيرًا لدراسة هذا الوطن الجديد من حيث أهله ومناظره وخصائصه، وطوال هذه الفترة لم تبارحه كلمة صديقه "محمد أفندي الشرنوبي" وهو يودعه في القاهرة قائلاً له: "إن الرجل الصالح يترك أثرًا صالحًا في كل مكان ينزل فيه، وإنا لنرجو أن يترك صديقُنا أثرًا صالحًا في هذا البلد الجديد عليه".


رصد واقع المدينة

خلال الأربعين يومًا الأولى كان شغل الإمام "البنا" الشاغل هو التعرف على المدينة وظروفها وطبقاتها، فقد عرف أن الإسماعيلية- في ذاك الوقت- تغلب عليها النزعة الأوروبية، فهي أشبه بمدينة أوروبية، فغالبية أهلها أجانب من جميع الجنسيات، والموظفون المحترمون بها أجانب، وحاكمها (الحكمدار) أجنبي، والجيش الرابض فيها إنجليزي، وكان سكان هذه المدينة ثلاث فئات:


الفئة الأولى وهي جيش الاحتلال البريطاني.

والفئة الثانية هي شركة قناة السويس- وهي خليط من الأجانب لكن أكثرهم من الفرنسيين والإنجليز والأمريكيين.

والفئة الثالثة هي خدم هاتين الفئتين وهم المصريون.


ولما كانت الطبقة البشرية تدفع بالأدنى إلى تقليد الأعلى فقد كان هؤلاء الخدم- وهم الأهالي- قد فقدوا مقومات التشبه بساداتهم في عيشة الرفاهية والبذخ؛ لأنهم فقراء فلم يبقَ أمامهم إلا التشبُّه بهم في شرب الخمر والإباحية على طريقتهم الخاصة، ولم يكن للحكومة المصرية ولا للقوانين المصرية وجود في الإسماعيلية، وإنما كان الجيش البريطاني سندًا لحكومة مستقلة ذات سيادة هي شركة قناة السويس.


نزل الإمام الشهيد الإسماعيلية وهو في سن الحادية والعشرين فوجد المدينة مقسمةً إلى حيَّين رئيسين، حي السادة وهم الأجانب، وحي الخدم وهم المصريون العمال في الشركة وعند الأجانب، ثم تعرف الشاب على الفئات الاجتماعية المصرية بالمدينة، وهي:


أولاً: العمال

وهم الأغلبية الساحقة، ويعملون لدى الأجانب في شركة قناة السويس، وكانوا يقضون وقت فراغهم على المقاهي وهم طبقة جاهلة أميون لا يعرفون شيئًا عن دينهم سوى شعورهم الإسلامي العام.


ثانيًا: الموظفون

الذين يعملون في الدواوين وهم قلة، ويعملون تحت رئاسة الأجانب، ويقضون أوقاتهم كذلك في المقاهي.


ثالثًا: العلماء

وكانوا قلةً من الأزهريين من المشايخ والخطباء والمولعين بالجدل من المشايخ والخطباء، وقد سلك الإمام الشهيد معهم مسلك الصداقة والتوقير والإجلال الكامل، وتقديم الهدايا لهم.


رابعًا: شيوخ الطرق الصوفية

وهم داخل المسجد، وكانوا كثرةً كثيرةً، إلا أنَّ الإمام "البنا"- برغم صوفيته المتينة- لم يلحق بأي طريقة حتى لا يدخل في خصومةٍ مع الطرق الأخرى، كما أنه كان يريد الدعوة الشاملة التي قوامها العلم والجهاد والتربية، وكانت علاقة الإمام "البنا" بهم طيبة.


خامسًا: الأعيان

وهم يمثلون فريقين على أثر الخلاف الديني الذي أوجده الخلاف حول الآراء، وقد أحسن الإمام "البنا" علاقته بالطرفين.


سادسًا: الأندية

كان بالإسماعيلية نادٍ واحد هو نادي العمال الذي أنشأته جمعية التعاون، وكان فيه نخبةٌ من الشباب المثقَّف الذي يريد أن يستمع ويتعلم، وكان هناك كذلك فرع لجمعية (منع المسكرات) التي تُلقى فيها بعض المحاضرات، وقد اتصل الإمام "البنا" بها، وألقى فيها بعض المحاضرات الدينية والاجتماعية والتاريخية.


ومن خلال ارتياد المساجد تعرَّف الإمام "البنا" على هذا البلد الجديد فعرف كثيرًا من أبناء الإسماعيلية، وعرف أنه برغم الحياة الأوروبية في المدينة إلا أن الشعور الإسلامي بها قوي، وهناك التفاف حول العلماء وتقدير لما يقولون، كما وجد خلافًا دينيًا بين المسلمين خاصةً في المساجد؛ مما أدَّى إلى انقسام بين الناس، وكان السبب أن مدرسًا سبقه إلى هذا البلد حاول الإصلاح وطلع على أهل البلد بنظرات في الفكرة الإسلامية بدت غريبةً عليهم أو على معظمهم، فنشط بعض العلماء لمقاومته؛ مما تسبب في الخلاف والشقاق بين مؤيدٍ ومعارضٍ.


لذلك قبل أن يقوم الإمام "البنا" بدعوته قام بعملية رصد واقع دقيق للمكان ومعرفة عوامل التأثير في هذا المكان الجديد.


بداية الدعوة على المقاهي

حاول الإمام "البنا" أن يبدأ بدعوته من المسجد، فهو مكان طبيعي لمثله إلا أنه وجد تناطحًا بين رجال الصوفية، ثم بين الصوفية وغيرهم، وقد انقسم أهل المدينة إلى قسمين: أحدهما أنصار الشيخ "موسى"، والآخر أنصار الشيخ "عبدالسميع"، وكان التمزق حادًا بينهما حول بعض القضايا الفرعية التي تصرف الناس عن الاحتلال الأجنبي والقضايا الجوهرية، ومن ذلك مسائل التوسل، والصلاة والسلام على النبي بعد الأذان، وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة بالمسجد.. إلخ.


حاول الإمام "البنا" أن يعتزل بفرقة من الناس إلى جانب من جوانب المسجد، لكن العظات من شاب في بداية العشرينيات من عمره أثارت عليه الشيوخ الكبار، فاتفقت كلمة المتخاصمين على طرده من المسجد، كما أنه كان قد قرر ترك المسجد وأهله، فكل متكلم في الإسلام داخل المسجد يواجه كل فريق بفكرته، لكن الإمام الشهيد يريد أن يخاطب الجميع ويلمَّ شتات الكلِّ، فاتجه إلى جمهور القهوة، كما كان يفعل في القاهرة، فالمقاهي في ذلك الوقت كان بها جموع أهل المدينة من العمال والموظفين، الذين ليس لهم في الخلافات المذهبية، وإنما أغلبهم مسلمون لا يعلمون كيف يخدمون الإسلام، كما أن جمهور المقاهي كان مستهدفًا من قبل المشككين في الإسلام والداعين إلى النصرانية.


ومن ذلك أن أحدهم- ويُدعى "رستم"- وقف بمقهى بشارع (فؤاد) في تلك المدينة يخطب في المارة، ويسب الإسلام وقواعده دون مبالاة، وصمت الجمهور وحملق في الرجل بعد أن عقد ذراعيه على صدره ومرت دقائق، وإذا بشاب يناهز العشرين يتخطَّى الجميع ويقف في مواجهة المبشِّر، ويصيح بنبرة كلها عنفوان الشباب وملؤها الإيمان والثقة في وجه المبشر:


أما تستحي، وبُهت الذي كفر، وتحركت قلوب القوم، وانطلق الشاب في طلاقة خلاَّبة يُسمِع المسلمين الإسلام من جديد، استمر قريبًا من الساعة حين تساءلت الجماهير: مَنْ الرجل؟! مَنْ الرجل؟!.. وجاء الجواب تحمله الآذان بإعجاب "حسن البنا" المدرس بالمدرسة الابتدائية" (نقلاً عن مجلة (الكشكول الجديد)- السنة الثانية- العدد 54 في 9 ذي الحجة 1367هـ= 12 أكتوبر 1948 م، صـ8).


ذهب الإمام "البنا" إلى أحد المقاهي الكبرى بالإسماعيلية المكتظة بالرواد، وأراد أن يلفت إليه الأنظار، وعلى حين فجأة تناول جذوة "بصَّة" من إحدى النراجيل (الشيشة)، وألقى بها وهي ملتهبة من أعلى فنزلت على إحدى المناضد وسط الجالسين وتناثرت، فارتفع الحاضرون وغادروا المكان مذعورين، وتلفَّتوا يبحثون عن مصدرها فرأَوا شابًّا وسيمًا واقفًا على كرسي يقول لهم: "إذا كانت هذه الجذوة الصغيرة قد بعثت فيكم الذعر إلى هذا الحدِّ، فكيف تفعلون إذا أحاطت النار بكم من كل جانب ومن فوقكم ومن تحت أرجلكم وحاصرتكم فلا تستطيعون ردَّها؟ وأنتم اليوم استطعتم الهرب من الجذوة الصغيرة فماذا أنتم فاعلون في نار جهنم ولا مهرب منها؟!


وهكذا استمر في موعظته يقرع بها أسماعًا مرهفة وقلوبًا متفتحة وأحاسيس في أشد حالات اليقظة على إثر المفاجأة، فكان لها أعمق الأثر في نفوس الحاضرين، واتجهوا إليه يسألونه عن نفسه وعمله ومقرِّه، وبدأوا يلتفُّون حوله ويعزمون بالاستماع إليه، وقد حببهم فيه أنه شاب ومتطوع لا يتقاضى على موعظته أجرًا، ولا يبغي لنفسه منها نفعًا.


توالت كلماته في المقاهي، حيث ذهب إلى مقهى آخر وجلس يسمع إنسانًا يتحدث في قصة (الزير سالم) أو في قصة (عنترة بن شداد) ومعه ربابة غناء ونساء راقصات في المقهى.. شيء غريب! لكنه مهما يكن وجد له كرسيًا فجلس يتأمَّل الناس ويدرس طبائعهم، وفي نهاية دور المطرب استأذن المعلِّم في أن يحدث الناس، فحدثهم من واقع دراسته للأدب الجاهلي عن أبطال الجاهلية حديثًا لم يسمعوا مثله عن الأبطال، ثم ارتفع بالسامعين من هذا الحديث إلى كيف جعل الإسلام من هؤلاء الأبطال عمالقة؟ وكيف أوجد من هؤلاء الجاهليين أبطال الإسلام "خالد بن الوليد"، و"عمرو بن معد يكرب" وأمثالهم؟ هكذا استرسل يحدثهم عن بطولات الفتوح الإسلامية فسعد الناس بهذا الأمر، وبدأوا ينادون "الأفندي" ليجلس على المنصة التي يجلس عليها المعلم الكبير صاحب الربابة، ثم أُعدت له جلسة أخرى فصار له درسان في المقهى.


شرع الناس يجتمعون على هذا المقهى بكثرة كاثرة، فتنبَّه الفتى "حسن البنا" إلى شيء غريب: إن في قلوب الجماهير إيمانًا مخدرًا مستورًا يمكن أن يُبحث عنه، وبدأ يتكشف له لون من الأمل فظل يواظب على أحاديث هذا المقهى، واستشعر مقهى آخر أن زبائنه نقصوا وفروا إلى المقهى الذي فيه "حسن البنا"، فراحوا يعرضون على "البنا" أجْرًا ليقول قصةً كالتي يحكيها في المقهى الآخر، فقبِل الإمام "البنا" الدعوة دون أجر؛ ذلك لأنه يحب أن يرضيهم، وصار يحدث الناس في العقيدة والسيرة والأخلاق، مبتدئًا بتصحيح العقيدة وتقويتها وتثبيتها بالحديث عن الله ووجوده وصفاته، وعن الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعظيم ثباته وأخلاقه، متجنِّبًا النظريات الفلسفية، ويجلي لهم أخلاق الإسلام وتكاليفه، بعد أن صاروا يعشقون الدين ويوقنون بيوم الدين، وكان يحدثهم عن الصلاة غير مبتدئ بما يبتدئ به عامة الأزهريين مثل (المياه التي يجوز التطهر بها)، وإنما يحدثهم حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن ثواب الذين يتوضأون، وأجر الصلاة حتى كثر الذين يحبون كلامه، وضاق بهم المكان.


كانت مدة الدرس بالمقهى قصيرة لا تزيد عن خمس أو عشرة دقائق، وكانت بأسلوب سهل، بعيدًا عن التعقيد، يناسب العامة وغير المتعلمين، كما أنه يسكت عن الحديث قبل أن يملُّوا فيتركهم في شوق إلى سماعه، وكان كثيرًا ما يشتمل حديثُه على الترغيب والترهيب، ولا يعرض لتجريح أو تعريض لأحد مهما كان، ولا يتناول المنكرات والآثام التي يعكف عليها هؤلاء الجالسون بلَوم أو تعنيف، بل يمزج أسلوبه بالمحسِّنات والأمثال والحكايات والعامية، ويحاول أن يجعله مؤثرًا في كثير من الأحيان.


العودة بالناس إلى الزوايا

كان لهذه الدروس في المقاهي أثرها في جذب الناس إلى الإمام "البنا" فأقبلوا عليه يسألونه ما العمل للنجاة من العذاب والفوز بالنعيم؟، وكيف نصلي؟ وأين نصلي؟.. نريد أن نتعلم طاعة الله.. فما الطريق؟


ابتدأ وهو يجيبهم إجابات غير قاطعة جذبًا لانتباههم واسترعاءً لقلوبهم وانتظارًا للفرصة السانحة وتهيئة للنفوس الجامحة، ولم يشف الجوابُ المقتضب غليلَ هذه النفوس فألحُّوا في معرفة الطريق ليكونوا مسلمين حقًا، فأشار الإمام "البنا" باختيار مكان خاص يجتمعون فيه بعد دروس المقهى أو قبلها ليتدارسوا هذه الأحكام، ووقع اختيارهم على زاوية نائية في حاجة إلى شيء من الترميم والإصلاح لإقامة الشعائر، وفي ليلتين أتموا ترميمها، وانعقد بالزاوية أول اجتماع.


ولأن المجتمعين كانوا حديثي عهد بالتعبد فقد سلَكَ بهم الإمام "البنا" مسلكًا عمليًا بحتًا، علَّمهم الوضوء عمليًا وشرَح لهم فضائلَه الروحية والبدنية والدنيوية وشوَّقهم فيما وراءه من ثواب، ثم انتقل إلى تعليمهم الصلاة عمليًا، وفي أثناء ذلك يتطرق إلى العقيدة فينميها وشعاره: "ألا يهدم عقيدة فاسدة إلا بعد بناء عقيدة صالحة".

زاوية ثانية هي (زاوية الحاج مصطفى بالعراقية) بُنيَت، وأخذ الإمام الشهيد "حسن البنا" يجتمع فيها مع مريديه ما بين المغرب والعشاء لتدارس آيات الله، وبعدها كان يخرج إلى درس المقاهي، وبدأ درس الإمام "البنا" ينتشر ويذاع صيته، وأبَت روحُ الفتنة والعصبية إلا أن تطغى وتصل إلى هذا المكان حيث أحس بروح غريبة وروح تفرقة، ورأى الناس قد تميَّز بعضهم عن بعض حتى في الأماكن، ولم يكد يبدأ درسه حتى فُوجئ بسؤال: ما رأي الأستاذ في مسألة التوسل؟


يقول الإمام البنا: "قلت له: يا أخي أظنك لا تريد أن تسألني هذه المسألة وحدها، ولكنك تريد أن تسألني كذلك في الصلاة والسلام بعد الأذان، وفي قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، وفي لفظ السيادة للرسول- صلى الله عليه وسلم- في التشهُّد وفي أبوَي النبي- صلى الله عليه وسلم أين مقرُّهما، وفي قراءة القرآن، وهل يصل ثوابها إلى الميت أم لا يصل، وفي هذه الحلقات التي يقيمها أهل الصوفية، وهل هي معصية أو قربة إلى الله؟!


أخذ الشيخ "البنا" يسرد له مسائل الخلاف التي أصابت الحياة الإسلامية في ذلك الزمان والتي كانت مثار فتنة وخلاف شديد، ثم قال: "يا أخي إنني لستُ بعالم، ولكني رجل مدرس مدني، أحفظ بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وبعض الأحكام الدينية، وأتطوَّع بتدريسها للناس فإذا خرجتَ بي عن هذا النطاق فقد أحرجتني، ومن قال لا أدري فقد أفتى، فإذا أعجبك ما أقول ورأيت فيه خيرًا فاسمع مشكورًا، وإذا أردت التوسع في المعرفة فسَلْ غيري من العلماء الفضلاء المختصين؛ فهم يستطيعون إفتاءك فيما تريد، وأما أنا فهذا مبلغ علمي ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.


ارتاح الرجل لهذه الإجابة، وارتاح الحاضرون فالتفت إليهم الإمام "البنا" قائلاً: "إن هذه المسائل اختلف فيها المسلمون منذ مئات السنين ولا يزالون مختلفين، والله- تبارك وتعالى- يرضى منَّا الحبَّ والوحدة، ويكره منا الخلاف والفرقة، فأرجو أن تعاهدوا الله على أن تدعوا هذه الأمور وتجتهدوا في أن نتعلَّم جميعًا أصول الإسلام وقواعدَه، وأن نعمل بأخلاقه وفضائله العامة وإرشاداته المجمَعِ عليها، وأن نؤدي الفرائض والسنن، وأن ندع التكلف والتعمق؛ حتى تصفوَ النفوس، ويكون غرضنا جميعًا معرفة الحق لا مجرد الانتصار للرأي، وحينئذ نتدارس هذه الشئون كلها معًا في ظل الحب والثقة والوحدة والإخلاص، وأرجو أن تتقبلوا مني هذا الرأي ويكون عهدًا فيما بيننا على ذلك.


وكان عهدًا فلم يخرج واحد من درس هذه الليلة إلا وقد عاهد الله على أن تكون وجهته التعاون وخدمة الإسلام الحنيف، والعمل له يدًا واحدةً وأن يطرحوا أسباب الخلاف.


وفي إحدى المرات حاول أحد المشايخ الذين درسوا في الأزهر سنوات طويلة إحراجه بالجدل والنقاش، وتكرر منه ذلك حتى يهرب العامة والمستمعون من هذا الجدل العقيم.. يقول الإمام "البنا": فكرت في علاج الشيخ فدعوته إلى المنزل وأكرمته، وقدمت له كتابين في الفقه والتصوُّف هدية، وطمأنتُه على أنني مستعد لمهاداته بما شاء من كتب، فسُرَّ الرجل سرورًا عظيمًا، وواظب على حضور الدرس والإصغاء إليه تمامًا ودعوة الناس إليه في إلحاح، فقلت في نفسي: صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا".