مقال الأستاذ صالح عشماوي عن الهجرة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٤:٤٧، ١٨ فبراير ٢٠١٢ بواسطة Darsh10 (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مقال بقلم الأستاذ صالح عشماوي عن الهجرة


الأستاذ صالح عشماوي

لست أقصد التحدث في هذا المقال عن الهجرة ومقدمتها، وكيف كانت دعوة للحق والحرية والإخاء، يهتف بها بأصدق داع وأكرم رسول، نشيدًا قدسيًا ووحيًا من السماء، فيضيق الكفار ذرعا بالدعوة والداعية، ويبيتون له القتل ويقفون على بابه بالمرصاد..

ولست أنوي التعرض لتصوير هذا الحادث الجليل، وهل كان فرارًا بالعقيدة محافظة على الرسالة وطلبًا للأنصار، والتماسًا للتربة الخصبة ينمو فيها الإيمان وتزدهر العقيدة؟! أم كان عملاً إيجابيًا يعتبر بداية للتضحية والبذل والفداء، وانسحابًا عسكريًا يراد به اختيار الوقت المناسب للمعركة وتحديد المكان اللائق للقتال!.

ولن أتصدى لمواقف الهجرة ومراحلها، فأصف كيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وحيدًا مجرد من كل سلاح – سلاح الإيمان – على فتيان مكة والسيوف مجردة في أيديهم، والعيون تتقد شررًا، والقلوب تغلي حقدًا، فنثر التراب على رؤوسهم، وقد عميت منهم الأبصار والبصائر، وتابع سيره في أمن وسلام! ولن أحاول أن أرسم تلك اللوحة الرائعة لموقف "الغار" حيث وقفت الإنسانية ترجف وهي تشهد صراع الباطل في طغيانه والحق في سلطانه، فيأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

كذلك لست أعني الوقوف طويلاً أو قليلاً أمام حوادث الهجرة ووقائعها، وأسبابها ونتائجها، لاستخلاص العظة واستخراج العبرة، وكم في الهجرة من عظات وعبر ..

ولا أريد أن أنبه الأذهان أو ألفت النظر إلى واجبنا نحو الهجرة وكيف نحتفل بها؟ وهل يكون هذا الاحتفال شرابًا أو طعامًا أو خطبًا وكلامًا أم عملاً وبذلاً وتضحية وإحسانًا؟

ليس إلى شيء من هذا كله قصدت ولا إلى ناحية من هذه النواحي عمدت، وسيراها القارئ الكريم على صفحات هذا العدد مدبجة بيراع الكتاب والأدباء، مصورة بأروع أسلوب وأعذب عبارة وأوضح بيان.. ولكني سأتحدث عن هجرة أخرى وكم بين الهجرتين من شبه وصلة ونسب!

ها هي الأيام تطوي أربعة عشر قرنًا إلا قليلاً منذ هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة – وهي يومئذ موطن الشرك والأوثان وأرض التهتك والفجور، وبلد الميسر والخمر، ومنزل البغي والظلم والجور – إلى المدينة ليجاهد في سبيل الله لنشر عقيدة التوحيد، ويناضل في سبيل إسعاد البشر بأعدل تشريع، وأسمى مبادئ، وأكرم أخلاق، وأقوم نظام.. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة.. وها هو التاريخ يحدثنا كيف صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده فسادت العقيدة الصحيحة وانتشر الدين الجديد، وسعد الناس بحكم كتاب الله زمنا، وعاشوا في ظل مبادئ الإسلام الحنيف. سادة أعزة ..

ولكن ها هي الإنسانية تنتكس مرة أخرى وها نحن نعيش كما عاش الوثنيون في مكة – في مجتمع موبوء ينخر في عظامه الشرك والظلم والفساد والفجور..

لقد عبد الكفار في مكة الأصنام والأوثان وأصبح الناس في عصرنا هذا – عصر الحرية والنور – يعبدون المال ويعبدون الشهوات ويعبدون المناصب والجاه، فتعددت الآلهة أضعاف ما كانت عليه في الجاهلية وإن اختلفت الأسماء والأشكال ..

أما تبرج النساء في عصرنا، عصر الأصباغ والمساحيق، والشعر المقصوص والصدر المفتوح والساق المكشوفة، ويطول بي الشرح إن أردت الحصر والإحصاء، فهو بلا شك يزري بتبرج الجاهلية الأولى.

أما الخمر فلم تعد شرابًا واحدًا كما كان في الجاهلية بل تعددت أنواعه وتباينت أشكاله وفننت يد الإنسان المتمدن في تخميره وإسكاره..

وأما الميسر فلم يعد ذلك الضرب الساذج الذي كان موجودًا في الجاهلية بل أصبح ميادين للسباق تارة وأصبحت له موائد خضراء تارة أخرى تغري اللاعبين واللاعبات، ويلتف حولها أصحاب الثروات ليقطعوا الليل، لا في التسبيح والاستغفار ولا في التهجد والقيام، ولكن في المقامرة بالأموال والأعراض.

أما الظلم والبغي فقد تعددت ألوانهما فمن هضم حقوق الضعفاء إلى منع الزكاة وهي حق الفقراء .. إلى غير ذلك مما يقع تحت حصر ولا يحيط به بيان ..

ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أشبه المجتمع الذي نعيش فيه بذلك المجتمع الجاهلي قبل الإسلام ولكن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ القرآن الكريم (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ورسول الله صلوات الله عليه وسلامه أيضًا أخبرنا أن الله يرسل لهذه الأمة كل قرن من يجدد لها أمر دينها فلا يأس ولا قنوط، فاليأس كفر وضلال.

منذ ثلاثة عشر عامًا أو تزيد قام داعية متواضع إلا في إيمانه ومرشد كريم في إحسانه يدعو إلى الإسلام الكامل والنظام الشامل، إلى الاعتقاد السليم والخلق الكريم والتشريع الحكيم إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله فاتبعناه نحن الإخوان المسلمين وآمنا إيمانًا لا جدل فيه ولا شك معه أن الإسلام وحده هو الكفيل بإنقاذ الدنيا المعذبة وهداية الإنسانية الحائرة، ولكن أين نحن الآن وأين مجتمعنا الذي نعيش فيه من الإسلام عقيدة وخلقًا وتشريعًا ونظامًا؟ إننا نعيش في جو لا يستطيع أن يتنفس فيه مؤمن، امتزج فيه الحرام بالحلال، وشاعت فيه الفاحشة والضلال، فلابد إذن من هجرة أخرى هجرة نغادر معها هذا المجتمع الملوث وذلك الفساد المنتشر إلى جو أنقى ومجتمع أطهر! وقد كان .. فهاجرنا من هذا الجو وإن لم نبتعد عن مسقط الرأس أو نتعدى حدوده الجغرافية! وهجرنا الأهل والأصدقاء وإن كنا نراهم في كل صباح ومساء، وأصبحنا نحدثهم عن الإسلام ومجده، وعن الجهاد وأجره وعن التضحية ولذتها وعن الشهادة ودرجتها، فينظرون إلينا كما لو كنا نحدثهم بلغة أجنبية لا عهد لهم بها ولا علم لهم بألفاظها ومعانيها .. وأصبحنا نكلمهم عن الروح فيكلموننا عن المادة ونشير إلى المثل العليا فيتغامزون ويضحكون منا، أنكروا مظهرنا وسخروا من دعوتنا، فليضحكوا قليلا وليتمتعوا حينًا، أليس الغد بقريب؟

هاجرنا من هذا الجو المظلم إلى وطن العقيدة المضيء وتركنا أخوة الرحم إلى أخوة الفكرة والمبدأ، وعكفنا "في دار الهجرة" على نفوسنا نطهرها ونزكيها، وعلى صلتنا بالله نوثقها وننميها، وعلى دعوتنا نتفقه فيها ونتفهم مراميها وعلى الرابطة التي تجمعنا نغذيها ونقويها وعلى صفوفنا نعدها ونسويها..

وها نحن نودع عامًا ونستقبل آخر، وما زلنا في أرض الهجرة نصبر ونصابر، وننتظر ونرابط؟ وندعو الله أن يتقبل منا نفوسنا وأموالنا، وأن يجعل لنا بعد هذه الهجرة الطويلة "بدرًا" يكون لنا بعدها "فتح" (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين).

المصدر: مجلة الإخوان المسلمون – العدد (2) – 26 المحرم 1363هـ / 22 يناير 1944م

إقرأ أيضاً