مواجهة الاستبداد مسئولية الأمة كلها

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مواجهة الاستبداد مسئولية الأمة كلها

بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف

مقدمة

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..

فإنَّ آفةَ الاستبدادِ هي من أعظم الآفاتِ التي تُبتلى بها المجتمعات الإنسانية عمومًا، والشعوب العربية والإسلامية خصوصًا، وهي المسئولة عن تدهور هذه المجتمعات، بل إنَّ الكثيرَ من الأزماتِ والمشكلاتِ والكوارث، إنما تعود إلى سيطرة الرأي الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد، والتعامل بالمنطق الفرعوني السقيم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: من الآية 29).

إن الاستبدادَ قرينُ الفسادِ والقهرِ والاستغلال، وهو نِتاجُ التخلُّفِ البشري بكل مظاهرِهِ، وسببٌ مباشرٌ من أسباب هذا التخلف.. إنه يدمر طاقات الشعوب ويقتل مواهب العلم والفكر، ويخرب الاقتصاد والحضارة، ويعمق الإحباط واليأس في نفوس الناس، ويجعل الأمل في النهوض مستحيلاً، ومن هنا تنهار الحضارات، وتفقد الأمم ريادتها وتصبح الشعوب لقمةً سائغةً في أيدي أعدائها.

إن الحقائقَ التاريخيةَ تؤكد لنا بوضوحٍ لا يقبل الشك، أن المجتمعاتِ البشريةَ تتقدَّم بقدرِ اعتمادِها الحريةِ والشورى والديمقراطية سبيلاً للنهوض، وأساسًا للحركةِ والعمل، ورؤيةً واضحةً للمستقبل، وواهِمٌ مَن يتصوَّر أن الحياةَ الكريمةَ يمكن أن تنشأ في مجتمعٍ لا حريةَ فيه، وواهِمٌ أيضًا مَن يتصوَّر أن النهضةَ والتقدُّم والرقي يمكن أن تكون صفةً لمجتمعٍ يئنُّ تحت سطوةِ الاستبدادِ والقهرِ والطغيان، فلا تقدُّمَ بغيرِ حرية، ولا نهوضَ بغيرِ شورى ومشاركة، ولا مستقبلَ كريمًا بغير إطلاق الطاقات الكامنة لدى الشعوب واحترام الرأي الآخر.

الشورى حق المجتمع

والقرآن الكريم يؤكد لنا أنَّ الشورى حقٌّ من حقوقِ المجتمعِ البشري، ومَعْلَمٌ من معالمِ نظامه الحياتي عمومًا، والسياسي على وجه الخصوص، والله- عزَّ وجلَّ- يأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وهو القائد الأعلى للأمة ورسولها ومعلمها الذي يتلقَّى الوحي من ربِّه أن يتشاور معها، بقوله عز وجل: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، ويمتدح سبحانه موقف المؤمنين بقول ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من الآية 38).

والإمام الشهيد حسن البنا- مؤسس هذه الدعوة المباركة- يقرر أنَّ من حقِّ الأمةِ الإسلاميةِ أن تُراقب الحاكمَ أدقَّ مراقبة، وأن تُشير عليه بما ترى فيه الخير، وعليه أن يشاورها وأن يحترمَ إرادتها، وأن يأخذَ بالصالحِ من آرائها، ويقول: "إن النظامَ الإسلامي لا يعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحققت هذه القواعد الأساسية، التي لا يكون الحاكمُ صالحًا بدونها، ومتى طُبِّقت تطبيقًا يحفظ هذا التوازن بينها، فالحاكم مسئولٌ بين يدي الله وبين الناس، وهو أجيرٌ لهم وعامل لديهم".

إن المتأملَ فيما يجري على الساحةِ العالميةِ من أحداث، يُدرك أن الاستبدادَ السياسي هو الذي يدفع العالمَ الآن إلى حافةِ الهاوية، ويجر البشريةَ بأسرها إلى أتون الصراعاتِ والأزمات، ولا شكَّ في أن الحروبَ التي شنَّتها الولاياتُ المتحدة- ولا تزال- ضد شعوبٍ وأممٍ مسالمة، إنما هي صورةٌ واقعيةٌ مؤلمةٌ لسلطانِ الاستبدادِ والقهرِ والطغيانِ الذي تُمارسه الإدارةُ الأمريكية، ولو كانت هناك حرياتٌ وديمقراطيةٌ حقيقيةٌ واحترامٌ لإرادةِ الشعوب لتوقَّفت هذه الحروبُ المدمرة، التي تزهق أرواحَ الأبرياء يوميًّا وتُدمِّر الحياةَ الإنسانيةَ وتغرس الحقدَ والغلَّ والخوفَ في المجتمعِ البشري عامة، فالشعوب قامت بمظاهراتٍ في كلِّ مكانٍ من أجلِ التصدي لقرارِ الحربِ على العراق وعلى أفغانستان، وطالبت بوقفِ الحربِ دون أن تجدَ لدى الإدارةِ الأمريكيةِ وحلفائها أي استجابةٍ، وهذا هو الاستبدادُ الحقيقي.

الاستبداد عانى منه الجميع..

ولا شك أننا عانينا في بلادنا الكثيرَ والكثيرَ من جرَّاء الاستبدادِ والقهرِ والطغيان، الذي طال علماء وفقهاء ومفكرين ودعاةً ومثقفين وكُتَّابًا وأصحابَ رأي وقادةً من مختلف المهنِ والتخصصات، وعانى منه الجميع، الذين وجدوا أنفسَهُم يواجهون استبدادًا تُمارسه السلطةُ، مستخدمةً كلَّ إمكاناتِ الدولةِ في قهرِ المجتمع، ويكفي أن نُشير إلى أن سجون مصر امتلأت عن آخرها بما يقرب من ثلاثين ألفًا من الإخوان المسلمين في ليلةٍ واحدةٍ في ستينيات القرن الماضي، أمر الحاكمُ الفردُ المستبدُّ بالقبضِ عليهم والزجِّ بهم في المعتقلات، وهم مَن هم علمًا وخلقًا ودينًا وتفانيًا في خدمةِ الوطنِ والأمة، ولو كانت لدينا في ذلك الوقت مؤسساتٌ حقيقيةٌ تمارس الديمقراطية، لما سكتت على هذا العدوان على الحرياتِ الأساسية، وانتهاك حقوقِ المواطنين المسالمين، ولو كانت لدينا مؤسساتٌ ديمقراطيةٌ حقيقيةٌ، لما سكتت الآن عن إحالةِ المدنيين إلى المحاكم العسكرية لأسبابٍ سياسيةٍ بحتة، ولمارست الضغوط على الحاكمِ من أجلِ احترامِ القانونِ والدستور، واحترام حريةِ المواطنين الذين لم يرتكبوا أيَّ جريمةٍ!

إننا على يقينٍ من أنَّ أحوالنا لن تتحسن، ولن تقوى أمتنا على النهوض، وسيفُ الاستبدادِ السياسي فيها يصد كلَّ موجاتِ التقدُّم والرقي، ويزرع اليأسَ والخرابَ في النفوس، وينشر الإحباطَ واللامبالاة في العقول والقلوب.. يجب أن يشعر المواطن بأنَّ له قيمةً حقيقيةً، وأنَّ له رأيًا مسموعًا في قضايا وطنه ومشكلات أمته.. يجب أن يشعر المواطن بدوره في مستقبل بلده، ومسئوليته عن تقدُّمه وازدهاره، واحترام اختياراته واجتهاداته.

إن الاستبدادَ يقوى عندما تتخلَّى الشعوبُ عن حقِّها في الحريةِ والديمقراطية، وعندما تُقصِّر في الدفاعِ عن كرامتها وإرادتها، وعندما تستسلم لتزويرِ ثوابتها واختياراتها الحرة، وعندما تشيع في حركتها مواكب النفاق والاسترزاق، وعندما يتقدَّم أهلُ الثقةِ على أهلِ الخبرةِ والكفاءة، وعندما ينتشر الفسادُ والإفساد، هنا يجد المستبدُ فرصتَه في ممارسةِ القهرِ والطغيان، فتذوق الشعوبُ المرارةَ والمذلةَ والهوان.

مسئولية الأمة كلها..

ومحاربة الاستبداد والتصدي له هو مسئوليةُ الأمةِ كلِّها، وفي الطليعة منها أصحاب الفكر والعقل، وأصحاب الرأي والسياسة، وأصحاب الهدف والرسالة، ولكلٍّ دوره ومسئوليته، ولكلٍّ جهده وجهاده، وخصوصًا مؤسسات المجتمع المدني، من نقاباتٍ وجمعياتٍ ومراكزَ ومؤسساتٍ وهيئاتٍ، وهي مطالبة ببذل الجهدِ الحقيقي لمواجهةِ الاستبدادِ السياسي والضغطِ من أجلِ الإصلاحِ الشامل، والعمل من أجلِ نشرِ ثقافةِ الحريةِ والشورى والديمقراطية، فهذا دورُها الأصيل، وواجبها الذي لا يمكن التقليل من أهميته.

إن الإخفاقَ في مواجهةِ الاستبدادِ، لا يبرر القعودَ عن التصدي له، ولا يسوغ الركون إلى الانهزام والضعف، بل علينا أن نصمد ونصبر ونقاوم بالكلمة واللسان والفصاحة والبيان والحركة الراشدة، في المجتمع وإعلاء ثقافة الحرية ونهج الشورى وسلوك الديمقراطية في كلِّ مناحي الحياة، أملاً في مستقبلٍ مشرقٍ بإذن الله.

تحيةً لأولئك الرجالِ الصامدين في وجهِ الاستبدادِ والتسلط والطغيان، المقاومين للعدوان على حقِّ الشعوبِ في حياةٍ حرةٍ كريمة، المتحملين للأذى والاضطهاد في سبيلِ مستقبلِ وطنهم وأمتهم، وتحيةً لأولئك الذين يدفعون ثمنَ حريةِ أوطانهم من دمائهم وعرقهم وحريتهم، وتحيةً لأولئك المجاهدين الصامدين خلف الأسوار؛ دفاعًا عن كرامةِ أوطانهم، وحرية شعوبهم ومستقبل أمتهم، فلهم الأجر من الله، والاحترام والتقدير من الأمة بأسرها.

مستقبل مشرق..

إننا نتطلع إلى مستقبلٍ مشرق، يشارك في صنعه كل أبناءِ الوطن، لا يُستبَّعد منه أحد، ولا يُقصَّى عنه فريق، ولا ينفرد به تيارٌ أو سلطة، ولا تقدَّم بغير حرية، ولا ازدهارَ بغير ديمقراطية، ولا إبداعَ بغير شورى، ولا صمودَ في وجه التحدياتِ بغير إحساسٍ بالانتماء.

وسوف نواصل طريقنا، ونسير في دربنا الذي اخترناه، درب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والاستفادة من كلِّ وسائلِ العمل السياسي السلمي لمواجهة الاستبدادِ السياسي، ومناهضة الديكتاتوريةِ والتسلط، ورفض الإقصاءِ والتهميش لكلِّ قوى الوطن الفاعلة، فالمستقبل ملكٌ للجميع، ورسمه مسئوليةُ الجميع أيضًا، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).

والحمدُ لله أولاً وأخيرًا.. وصلِّ اللهم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة

في: 10 من شعبان 1428هـ الموافق 23 من أغسطس 2007م