ناحية واحدة لا تكفى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
مقالة-مراجعة.gif
ناحية واحدة لا تكفى

بقلم: الإمام حسن البنا

الأمة التى تجتاز دور انتقال خطير والتى تريد أن تركز حياتها المستقبلية على أساس متين من أسس الرقى والتقدم وتنتفع ببوادر النهوض واليقظة- كأمتنا- الآن لا يكفيها أن تعالج ناحية واحدة من نواحى الاصلاح بل لابد لها من أن تتناول كل النواحى بالتقويم والتجديد حتى يقوى بعضها بعضا فالناحية الاجتماعية و الناحية الاقتصادية و الناحية الخلقية و الناحية الأدبية و الفنية و الناحية الفكرية العلمية و الناحية السياسية و القانونية كلها فى حاجة إلى أن يشملها منهاج المصلح إذا شاءت الأمة أن تظفر بنهضة متناسقة لا اضطراب فيها ولا قصور.

وقد أثرت عوامل الانتقال فى كل هذه النواحى فى الأمم الشرقية فواجب المصلحين أن يعنوا بها جميعا وألا تشغلهم ناحية عن ناحية .

إن النظم الاجتماعية فى الشرق الآن مضطربة متذبذبة لا شرقية ولا غربية فنظام الأسرة ونظام المدرسة ونظام العادات والآداب العامة حتى المقابلة والمحادثة والتزاور والتحية وأكبر من ذلك وأصغر لا قاعدة لها ولا أساس تجرى عليه فيها فهناك المتدين المتشدد وهناك الاباحى المتهتك وهناك المبالغ فى المحافظة على العادات الموروثة والتقاليد وهناك الهازىء الساخر بها وليس فى البلد "عرف اجتماعى عام" يقف كل واحد عند حده ويحدو الناس إلى فكرة أساسية مشتركة تملى عليهم نظاما متحدا تصطبغ به الأمة وتمتاز.

وإن الناحية الاقتصادية عندنا علة العلل فالديون الأهلية تأخذ بخناق الأفراد والأسر الكبيرة ونظم البنوك ومواد القانون التجارى وإباحة الربا كلها شواظ من نار مسلط على التجار والزراع والملاك والوارثين يقضى على ما ورثوا وينقل ذلك كله إلى اليد الأجنبية ويثقل كاهل البلاد بعبء فادح وإن مما يدمى القلب أن تعلم أن الدّين الأهلى لو وزع على أرض مصر المنزرعة لخص الفدان الواحد منها ما يزيد على سبعين جنيها فى المتوسط ومعنى هذا أن أرض مصر المزروعة كلها دين لغير المصريين أو ملك لهم بعبارة أخرى.

والشركات الأجنبية والبضائع الأجنبية والكماليات الأجنبية والخمور الأجنبية والنساء الأجنبيات والسماسرة الأجانب عوامل مدمرة للثروة الوطنية وهى عقبة كئود فى سبيل النهوض الاقتصادى وسبب كبير فى كثرة العاطلين من الأيدى القادرة على العمل وفى استنزاف الصبابة التى تبقى بأيدى الوطنيين من المال أو العقار.

أما الناحية الخلقية فقد انهدمت أصولها فى النفوس وتحطمت قواعدها وقوانينها وضل الناس طريق الخلق الفاضل فى كل بيئة وكل مجتمع وكل مكان وأصبحت ترى مظاهر هذا الاضطراب الخلقى والفساد النفسانى فى كل مظهر من مظاهر حياة الأمة.

أنفة وكبرياء من الرؤساء والمسؤلين على الفقراء والمستضعفين حيث يحمد التواضع واللين وذلة وصغار من هؤلاء المتكبرين أمام المعتدين الجبارين حيث تمتدح العزة وتحمد الكرامة وتكون الشجاعة فى الحق أفضل ما تتحلى به انسانية انسان وتهتك وإباحة ومجون وخلاعة ولذائذ وشهوات ومتع وسهرات حيث يجر كل ذلك الوبال على رؤوس الوادعين الآمنين الفضلاء الذين تحجزهم فضيلة أنفسهم عن غشيان المنكر أو اقتراف المآثم وغش وخداع وكذب وجبن وخور وخلف وأثرة وأنانية واهمال وتضييع وقل غير ذلك كثير مما فشا بيننا وذاع فينا وقضى على فضائلنا الشرقية وأخلاقنا النبيلة لتى كانت كل عدتنا وسرعزتنا وأس قوتنا وجمال حياتنا وحصن منعتنا وإنما الأمم الاخلاق وإن أعداءنا قد نالوا منا بضعف أخلاقنا أضعاف ما نالوا بقوتهم وجبروتهم ونارهم وحديدهم وإنهم كذلك قد تمكنوا من أمرنا بقوة أخلاقهم أكثر مما مكنت لهم ديارنا قوتهم المادية تلك حقائق إن لم يرها بعض الناس اليوم فسيراها غدا يوم يكون تاريخ الاجتماع هو الحكم الفصل.

وإن الناحية التعليمية الفكرية فيها هذا الاضطراب نفسه فنحن بين محافظ شديد المحافظة لا يبغى بالقديم بديلا وبين متحلل إلى أقصى حدود التحلل يريد التجديد فى كل شىء وبين متوسط يحاول التوفيق ولا يجد سبيله, ولابد من ميزان يزن كل شىء ويأخذ من كل شىء أحسنه ويحمل الأمة على سياسة معينة توصلها إلى هذا الحسن الجميل.

وقد أغنتنا الصحف السيارة عن الافاضة فى شأن الناحية السياسية وكلنا بأمرها جد عليم. هذا تصوير مختصر مصغر لأثر طور الانتقال فى مظاهر حياة أمتنا.

وإنك لتعجب حين ترى اهتمام المصلحين والرؤساء وجهود القواد والزعماء ومن ورائهم تيار الأمة العامة قد اتجه كل ذلك إلى ناحية واحدة لا يفكر فى غيرها إلا لماماً ولا يعرض لسواها إلا اضطرارا تلك هى الناحية "السياسية" فالناس جميعا لا يعنون بغير شئون السياسة ولا يتحركون إلا باسم السياسة ولا يفكرون إلا بالاصلاح السياسى وكلما حدثت انسانا فى بقية شئون الأمة كان جوابه : إن البلاء السياسى أصل هذا الفساد فمن الواجب أولا أن نقضى على هذا الوباء السياسى ثم بمجرد انتهاء قضيتنا انصرفنا إلى بقية الاصلاحات ثم يدلى لك بحججه وبراهينه.

هذا كلام وجيه فى جملته وله حظه من النظر والفكر وحقيقة إن أصل البلاء هذا الوباء السياسى الذى بلينا به ولكن هذا القائل نسى أن خصم الأمة السياسى لم يتمكن من سياستها هذه السياسة إلا بعد أن أضعف أخلاقها وكبلها بالقيود الاقتصادية الثقيلة وذبذب أفكارأبنائها وعقائدهم وتركهم فوضى لا يعرفون جهة يوجهون إليها آمالهم ولا مطمحا تسمو نحوه نفوسهم ونحن إذا أردنا أن نعمل للخلاص دون علاج هذه الحال طال بنا الأمد وكنا فى كل مرة خاسرين وكان هو الرابح والتجارب تؤيد ذلك.

فمن خدمة القضية السياسية والعمل لها بل أكاد أقول: إن هذا هو الطريق الوحيد المنتج أن نعالج نواحى الاصلاح الأخرى ونضع لها دواء ناجعا حاسما فى الوقت الذى يعمل فيه السياسيون للناحية السياسية الصرفة فنتقدم خطوات فى كل ميدان.

ومن الغريب أن هذه الخطة – خطة تربية المناعة الخلقية, وفك القيود الاجتماعية والاقتصادية عن عنق الأمة- كانت السياسة التى اتجهت إليها نية زعيم كبير من زعماء الشرق الذين لهم فى نفوس أبنائه أكبر الأثر فى أخريات أيامه وقد عرف عنه أنه جمع معاونيه الرسميين وغير الرسميين وأدلى إليهم بهذه الخطة الحازمة الحكيمة ولولا أن القضاء عاجله لمس الناس آثارها واضحة جلية فى كل مناهجه.

خلاصة هذه الكلمة أن انصراف الأمة جميعا إلى ناحية واحدة هى الناحية السياسية واهمال بقية النواحى ليس من الحكمة فى شىء ولسنا نقول بذلك: أهملوا قضيتنا السياسية –وهى مطمحنا ولا دعوا الغاصبين يعبثون بحقوق البلاد المقدسة. كلا فما إلى ذلك قصدنا ولكنا نقول: ضعوا للنهضة منهاجا شاملا يصلح الأخلاق والاجتماع والفكر والاقتصاد ويحقق آمال الوطن ويسير بالأمة إلى الكمال.

ولعلنا إن فتشنا عن هذا المنهج لم نجده فى غير القرآن الكريم وفى غير مبادىء الاسلام القويم فإلى " منهج القرآن " أيها الزعماء والمصلحون.