نوال محمد عبد الهادي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
نوال محمد عبد الهادي ... مجاهدة في بيت مستشار

بقلم: مريم السيد هنداوي

مقدمة

تشعر الجماهير المسلمة التي تتابع العمل الإسلامي، ويهمها الوقوف على حقيقة نشاط الحركة الإسلامية، بحاجتها لمعرفة سيرة أناس عرفوا معاني الإسلام الصحيح وعاشوا له وبه وضحوا من أجله حتى لقوا الله وهم طامعين في نيل رضا الله.

هؤلاء أصحاب قلوب رقيقة وحس مرهف، قدموا دماءهم ليحموا دينهم وأوطانهم مستبشرين ببيعتهم الذين بايعوا عليها الله، لا يهمهم الجهال، لسموا نفوسهم وعلوا همتهم، تسبح أرواحهم في رحاب الله.

وكان المستشار المحتسب علي جريشة من هؤلاء ولقد انتقلت هذه الروح إلى زوجته المجاهدة الصابرة، والتي ظلمتها الحكومة يوم أن اختطفت زوجها وغيبته في غياهب السجون دون سبب.

من هى؟

هى فتاة نشأت في بيت تربى على الصلاح وحب الطاعة فقد كان الأب حريصا على تنشئة أبناءه تنشئة إسلامية خاصة وقد نال حظا من التعليم وحظا من التربية المستقيمة في بيت والده بديرب نجم بالشرقية فلم تكن المدنية قد نالت حظها منه فنشأ على الفطرة الصالحة وغرس هذه الروح في روع أبناءه، في هذا الجو نشأت هذه الفتاة.

ففي 14 من نوفمبر عام 1938م زف إلى الأستاذ محمد عبد الهادي بشرى ميلاد ابنته والتي سارع فسماها نوال ولم تكن الأولى له إلا أنها كانت المتممة لأخواتها البنات.

حرص الأب على تربية أبناءه على حب الالتزام والخلق الحسن ومطالعة القرآن والنيل من التعليم ما يساعدهم على مواجهة الحياة، ورزق الله محمد أفندي بخمسة من البنات ووالدان وهما محمد جلال وأحمد ونجاح وفايزه وماجدة وكريمة ثم نوال.

ألحقها والدها بمراحل التعليم المختلفة فلم يحجر عليهم حيث أنه كان واسع الأفق في الفهم فدرست التعليم الأساسي حتى تخرجت في كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1962م.

زواج ميمون

كبرت الفتاة وبدأ يطرق باب والدها الخطاب إلا أنه كان هناك شخص ينتظر الفرصة لينال الحظوة بالزواج منها، ألا وهو المستشار علي محمد جريشة « ولد في إحدى قرى ديرب نجم بالشرقية عام 1935م، تعرَّف على جوالة الإخوان المسلمين بعد أن بلغ العاشرة من عمره، بعدها انتقل إلى القاهرة ليدرس الثانوية العامة نظام الـ5 سنوات، ثم تخرَّج في كلية الحقوق وعيَّن وكيلاً للنائب العام في السويس، ثم عمل بمجلس الدولة لمدة 4 سنوات، وتزوج وهو في الثامنة والعشرين من عمره، اعتُقل في السجن الحربي عام 1965م لمدة 8 سنوات حتى أفرج عنه 1973م، سافر بعدها إلى السعودية وأخذ يجوب أكثر بلاد العالم، وعلى رأسها أمريكا التي ألقى فيها خطبةً باللغة الإنجليزية في أول جمعةٍ لشهر رمضان في مسجد الأمم المتحدة بنيويورك».

ولما لا يكون هو صاحب الحظوة وهو ابن خال العروس، والمعروف عندهم بحسن الخلق والتمسك بتعاليم الإسلام، وزفت إليه في عام 1963م وكان عمره ثمانية وعشرين عاما، في هذا الوقت كانت البلاد تعيش فترة من أهم فتراتها حيث تم انفصال الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م، والبلاد تعيش في أسوء حال، في هذا الوقت جاء مولودهم الأول محمد هشام والذي ولد عام 1964م دكتوراه في هندسة العمارة من ألمانيا ثم فاطمة عام 1965م والتي حصلت على ليسانس حقوق ،ثم دعاء والتي جاءت بعد خروجه من المعتقل في عام 1974م وحصلت على بكالريوس علوم ثم عبدالله عام 1976م وحاصل على بكالريوس طب من ألمانيا ثم هاني عام 1978م ثم شيماء 1980م.

بين صفوف الإخوان

كانت دعوة الإخوان المسلمين قد مكانتها في قلوب المجتمع، وأصبح الإمام حسن البنا تهفوا إليه القلوب لتستنشق عبير الكلمات العذبة التي يربي عليها رجاله، ولم تترك الدعوة بيتا في مصر إلا وقد سمع عنها، كما كان نظام الجوالة الذي شكله الإمام البنا هو مصدر عزة وفخر لكل شعبة من شعب الإخوان حيث انتظام الصفوف وروعة الأداء وحسن الأخلاق فلفتت نظر كثير من الشباب المحب لدين الله ودعوته، كما أنها كانت أمل كل شاب وطني غيور يريد أن يحرر وطنه من المحتل الإنجليزي، وكان علي جريشة أحد هؤلاء الشباب الذين لفت نظرهم هذا المنظر الرائع، فانضم إليها منذ الصغر وبعدما انتقل إلى القاهرة لتكملة تعليمه تعرف أكثر علي دعوة الإخوان، وظل يعمل من أجلها حتى تزوج من ابنة عمته وجاءت المحنة، ويقول في ذلك: « بادئ معرفتي بهم كان عمري ما بين 10 و13، وكنت في بلدٍ ريفي تسمَّى السنبلاوين، وتأثرت بهم في موقفين بارزين في حياتي: الأول شباب الإخوان الذين كانوا يطوفون القرية فجرًا وكان الجو شتاءً وبردًا قارسًا، ويهتفون: "الصلاة يا مؤمنون الصلاة"، في وقت وجود الإنجليز، وكانت الشعائر بدأت تُهجر أيضًا؛ حيث كان كشَّافة الإخوان يخرجون بزيٍّ موحَّدٍ ذي رباط أصفر، ويسيرون في طوابير وقائد الطابور أمامه أخ يحمل العلم الأخضر وعليه سيفين ومصحف والشعار ولفظ "وأعدوا"، وكان يمشي بخطوة منتظمة، ويهتف الهتافات الخمسة: الله غايتنا، ويبدأ وينتهي بـ"الله أكبر ولله الحمد".

الموقف الثاني كان عمري 13 وقامت حرب فلسطين، واستطاع الأستاذ حسن البنا وجنود الإخوان أن يلفتوا نظر الناس إلى قضية فلسطين، ولأول مرة يسمعون عن فلسطين في الوقت الذي كانوا فيه يسألون رئيس وزراء مصر عن القضية، فقال: "أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين"، فطبعًا كانت الجولة الأولى إحياءً للقضية في مشاعر الناس في نفوسهم، ونجح فيها البنا إلى حدٍّ كبير، ثم الانتقال للقاهرة والتعرف عليهم وتأثرت بالأحداث التي حدثت لإعدام أناس أطهار كالقاضي عبد القادر عودة وغيره، وفي ذلك قال شعرا:

ما للظلام يسود دون نهار والأرض ضجَّت من دم الأبرار
وللسماء غدت كالأرض باكيةً وللمياه غدت في النيل من نار
أو ما رأيت الشعب يهتف كله الحكم حكم الله لا الأشرار

ثم وصف عبد الناصر بقوله:-

أبا جهلٍ، رويدك إن مصرًا تريد الحقَّ لا حكم الصغار
يا ذيلَ أمريكا وعبدَ يهودها ما أنت فالتٌ من يد الجبار
صنمٌ تمثَّل فيه كل خسيسةٍ فَقَدَ الشعورَ وكلَّ وجدان

في الزنزانة

ما كاد الزوجان يجتمعا حتى كشر النظام عن أنيابه وقلب لهم ظهر المجن، فما كاد عام 1965م يهل على الشعب حتى انطلقت صفارات عربات المباحث الجنائية العسكرية وعربات المباحث العامة تعلن أن عبد الناصر اكتشف تنظيم يهدف إلى قلب نظام الحكم من الإخوان المسلمين وأنه يعلن اعتقال كل من سبق اعتقاله، واعتقال أفراد تنظيم 1965م.

وفي ليلة من ليالي شهر أغسطس وعلى الأخص 25 أغسطس 1965م سمعت الزوجة ضربات عنيفة على الباب فلم تكن تتصور أن زوجها أحد أعضاء الإخوان المسلمين فلم تكتشف ذلك إلا في هذه الليلة التي هجم أوغاد المباحث العسكرية على حصنها واختطفوا من بين أحضانها وأحضان طفليها الزوج الكريم، وتعرض للتعذيب الشديد الذي لا يتحمله الرجال لولا فضل الله وقدم للمحاكمة وحكمت عليه بـ 12 سنة أشغالاً، وفي المعتقل كان كثير المشاغبة للحكومة بالقانون، بغية الحصول على امتيازات وانفراجات في المعاملة في السجن لإخوانه، فاعتبرته الحكومة مشاغباً، وقامت بنفيه وتغريبه إلى سجن قنا، بعد سجن الليمان، مما سببت مشقة على أسرته غير أن الزوجة كانت مثال المرأة الصابرة المتمسكة بقضاء ربها المحتسبة لربها فلم تجزع ولم تهرول تطالبه الانفصال بل كانت نعم السند في محنته، مما كانت لها أثرا عظيما على قلبه وثباته.

وفي يناير 1970م أرسل الزوجة تهنئة لزوجته بالعيد فقال لها: «من محراب الحق الذي نقف فيه نعلن كلمة الله ونرجو من الله أن نكون ممن"يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" نبعث لأهل الحق – وأنت منهم- تهنئة الحب والوفاء وعهد الإخلاص والثبات.

وقال في موضع أخر: شريكة الجهاد .. ما بيننا بفضل الله أقوى من أن ينال منه جفاف أو جفاء او يغيره بعد مكان أو طول زمان فوق الرباط المقدس.... ما بيننا فوق عقد الزواج».

وحول هذا المعنى تقول: «عندما ألقى القبض على زوجي في صيف 1965م ساورني شعور ممض بالألم –ليس لما أصاب زوجي وأصاب أسرتي .. وهو أليم، لكن لما أصاب البلاد من انحطاط بلغ فيه الأمر حد اعتداء السلطة التنفيذية على السلطة القضائية!

لقد انتهكت حرمة المؤمن وكرامة القاضي وفتش البيت بغير أذن تفتيش وقبض عليه بغير أمر قبض وأدع في السجن الحربي ومورست معه عمليات تعذيب رهيبة كنت أسمع بها كالأساطير وكان تصوري أنه مهما كانت المبررات فلن ترقى إلى تبرير ذلك التعذيب الوحشي الذي لم يعرف إلا في عهود الهمجية وفي ظل الديكتاتورية الهوجاء.

ولقد أحجمت الأسرة عن مجرد السؤال عن المكان الذي أودع فيه لأن السؤال كان يعرض صاحبه لنفس عملية الاختطاف والاختفاء.

وفوجئت بعد ستة شهور من اعتقاله بعناوين في الصفحات الأولى من الصحافة المخنوقة بأنه متهم بقلب نظام الحكم وأنه كان سيقود قوة عسكرية لتحرير القاهرة.

عجبت لهذا الاتهام... زوجي الهادئ الوديع يقود قوة عسكرية! صاحب القلم .. صار صاحب سيف! الرجل المثالي في عمله الذي يؤدي عمله في مجلس الدولة ويعمل إلى جواره مدير للتحقيقات في مؤسسة ورئيسا للجنة محاضر القطاع العام في وزارة التموين ومؤلفا في موسوعة الفقه الإسلامي ودارسا بمعهد الدراسات الفرنسية ومحضرا لرسالة دكتوراه في الشريعة والقانون!!! أيبقى له بعد ذلك وقت للراحة..بله.. أن يعد لانقلاب؟ لكنها الديكتاتورية الطاغية ..لاتعقل ولا تسمع..عقلها في سوطها.

وظللنا سنوات غير مسموح لنا بالزيارة ولم يكن يبل شوقنا غير هذه الرسائل التي كانت تنفذ من القلاع والحصون وكانت هذه الرسائل هي الدليل الوحيد على حياته، فلقد ظللت سنوات أمسك على قلبي..أن يصلني ما وصل أسرا كثيرة من هروب رجلها السجين، وهذا يعني أن روحه الطاهرة قد صعدت إلى السماء وأن جسده الطاهر قد ورى التراب.

وكنت أمسك الرسائل بيد مرتجفة ليس خوفا على نفسي أن يضبطني بها المتجسسون لكن خوفا عليه....».

يقول المهندس محمد الصروي (عليه رحمة الله): «كان علي جريشة نائباً بمجلس الدولة.. فهو إذاً رجل قانون قدير، فكان كثير المشاغبة للحكومة بالقانون، بغية الحصول على امتيازات وانفراجات في المعاملة في السجن لنا، فاعتبرته الحكومة مشاغباً، وقامت بنفيه وتغريبه إلى سجن قنا.تم ترحيل علي جريشة بمفرده إلى سجن قنا نفياً وتغريباً (بلغة السجون) في أغسطس 1968م. تقدم أهالي الأخوين الكريمين علي محمد جريشة، وعبد الستار فتح الله سعيد، بطلب استكمال دراسة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، ووافقت الحكومة لهما على إحضار الكتب الدينية اللازمة، وكان هذا فتحاً علينا.. فلقد أحضروا عشرات المراجع، وكان لا يبخلان على أحد بأي كتاب.. الأول درس الدكتوراه في الشريعة وموضوعها (المشروعية العليا).. والثاني في (تفسير القرآن الكريم) وكلاهما حصل على الدكتوراه مع مرتبة الشرف، وعلا شأنهما علواً كبيراً في مجال الدعوة الإسلامية».

ومن المواقف المضحكة التي حدثت للمستشار علي جريشة «أنه سأله أحد الضباط "عن المرأة التي تخرج كاسية عارية، يرى الناس صدرها وشعرها ورجليها حتى فوق الركبة، ثم تضع روائح عطرية أخاذة ومثيرة يشمها الناس على مساحات بعيدة... فهل إذا خرجت المرأة بهذا المنظر وتلك العطور تكون زانية؟ فأجاب الضابطَ قائلاً: هذا حديث رسول الله : "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهى زانية" فقال الضابط: اسمع يا علىّ، أنا امرأتي تضع روائح عطرية نفاذة جدًّا، (وتخرج لابسة مينى جيب وميكرو جيب، وبلوزة صدرها مفتوح)، ما حكمها يا علىّ؟ فتشهد المستشار علي جريشة على نفسه وقال: (تبقى زانية يا فندم.. النبى  اللي قال كدة، مش أنا)، وانتظر الموت، ولكن المفاجأة أن الضابط ضحك ضحكة عالية بصورة هستيرية، ثم صرف المستشار علي جريشة من أمامه ولم يمسسه بسوء»(8).

صبرت على حبس الزوج لعشر سنوات وكانت تعيش على حد الكفاف في وقتها خاصة بعد انقطاع المرتب عنها، وظلت كذلك حتى عاد الطير المغيب إلى عشه فقد أفرج عن الزوج عام 1973م.

التحلق في الأفق لنشر الدعوة

كانت الزوجة قد أرسلت برقية لوزير العدل وإلى النائب العام ورئيس نادي القضاة جاء فيها: لفقت مراكز القوى السابقة عام 1965م قضية لزوجي المستشار لأنه رفض شهادة زور ضد نائب رئيس الوزراء وأجبرته على الاستقالة والشهود أحياء والتحقيقات ناطقة.....».

وبعد أن خرج الزوج من المحنة استطاع أن يستعيد بعض حقه بأن رفع قضية تعويض وحكمت له المحكمة،بعدها اصطحب الزوج زوجته الوفية الثابتة معه إلى السعودية،ثم انتقلت معه إلى ألمانيا ومكثا فيها خمس سنوات،وهى معه دائما في ترحال رغم هذا السن.

إن الحياة مريرة لا يخفف وطأتها لا اللجوء إلى الله وكانت الحاجة نوال عبد الهادي نموذجا كريما لهذا اللجوء الحق، وشاركها كثير من أخوات هذا العصر الذين فقدوا الأزواج والآباء والأبناء خلف السجون وتحملوا وعثاء السفر خلف ذويهم لا ليصدوهم عن فكرتهم أو ليبثوا في خلدهم الروع والجزع من المصير لكن ليبثوا في قلوبهم الطمأنينة بنصر الله، فخرجوا بقلوب صافية، تقية قوة في الحق فانتشرت في ربوع البلاد لينشروا هذا الصفاء.

المراجع

1-حوار أجراه الأستاذ عبده مصطفى دسوقي مع الأستاذ هاني علي جريشة نوفمبر 2007م

2-حوار مع المستشار على جريشة لموقع إخوان أون لاين الخميس 13/9/2007م.

3-علي جريشة: في الزنزانة، دار الشروق، الطبعة الأولى، يوليو 1975م، ص(72).

4-محمد الصروي: الإخــوان المسلمــون في سجون مصر(من عام 1942م-1975م)، دار التوزيع والنشر الإسلامية،ص (158).

5-محمد الصروى: الإخوان المسلمون ومحنة 1965 الزلزال والصحوة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1425ه- 2004م، ص(319).