هكذا علمتني دعوة الإخوان المسلمين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
هكذا علمتني الحياة.jpg

بقلم/ الأستاذ حمزة منصور


تقديم الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

لمعالي الأستاذ الدكتور أسحق أحمد فرحان

لقد أسعدني الأخ الشيخ حمزة منصور مرتين ، حين غرب إلي في تقديم هذا الكتاب المعنون « هكذا علمتني دعوة الإخوان المسلمين » :

الأولى ، سعادتي بقراءة هذه الدروس المنتقاة التي تضمنها الكتاب وما تخللها في تجارب أخي حمزة وخبراته الغنية في العمل الإسلامي العام ، وبخاصة في مجالات الدعوة والتربية والسياسة. والثانية ، إتاحة الفرصة لي لأقول كلمة حق فيما تضمنه الكتاب من مضمون وأسلوب من جهة ، وكيفية استفادة أجيال الإسلامية منه في مجالات عملهم المستقبلي ، من جهة أخرى

وما أحوج العاملين للإسلام في عصرنا الحاضر ، إلى أمثال هذه الرسائل الصادقة ، التي تتضمن التصور الفكري الواضح ، والخبرة الغنية ، والتحليل الواقعي للأحداث ، والسلوك الحضاري إزاءها ، والسير باتجاه تحقيق مقاصد الشريعة ، بالتدريج المطلوب في طريق الإصلاح المنشود. وصدق الله العظيم القائل : (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ) (هود: من الآية 88) والقائل : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ''''نص عريض')(يوسف: 108).

ومن فوائد هذه الرسالة وأمثالها ، أنها تستند إلى خبرة داعية مخلص واع عاش دعوته ، وخالط أخوانه ، وعانى من العمل الإسلامي العام والعمل السياسي ، آلام أمته ، فهي بذلك تعكس في مجملها ، بل وفي كل جملة مفيدة من عباراتها ، فائدة من الفوائد العملية ، التي لا يستغني عنها العاملون في الحقل الإسلامي. وهي كذلك ، إضافة نوعية إلى الرسائل الإسلامية في مجال العمل الإسلامي ، من حيث تراكم الخبرات ، والإسهام في جسر الفجوة بين الأجيال ، ليبدأ كل جيل من حيث انتهى الجيل السابق ، ليسهل تجنب تكرار الأخطاء ، وتعظيم الاستفادة من الخبرات الناجحة بمنهجية علمية ، توازن بين التأصيل الإسلامي من جهة والاستجابة لمتطلبات العصر ومستجداته من جهة أخرى.

وقد استعرض أبو عاصم حفظه الله ، وجزاه عن دعوته وأمته خير الجزاء ، في هذا الكتاب ، ثمانية عشر درساً ، طالعتها بشغف شديد ، وشوق وتجدد ، ولما انتهيت من قراءتها قلت يا ليته زاد ، فما قدمه كان من خير الزاد ، وكلي أمل ، ودعاء إلى الله تعالى أن يمد في عمره ، وأن يمكنه من أن يكتب المزيد في المستقبل.

وقد تضمن كل درس من الدروس الثمانية عشر ، مبدأ إسلامياً أو قيمة عليا ، أو خلقاً اجتماعياً ، أو أسلوباً دعويا ، أو سلوكاً حضاريا ، مما يعكس التصور الإسلامي الصافي ، للعمل الإسلامي في مجالات ، والتربية ، وعمل الخير ، والعمل السياسي. وقد حرص الكاتب على أن يستشهد في عملية التأصيل هذه ، بالآيات الكريمة ، والسنة المطهرة من حديث شريف ، وسيرة نبوية عطرة ، وأقوال الفقهاء والعلماء ، وما صلح من التراث الإسلامي عبر تاريخ الأمة الإسلامية الطويل. ثم اتبعه باستشهادات من أدبيات دعوة الإخوان المسلمين ، وبخاصة سيرة الأستاذ المرشد حسن البنا رحمه الله تعالى ، وجزاه عن هذه الأمة خير الجزاء ، وكيف أن دعوته امتداد للدعوة الإسلامية الأولى ، وصدى معبر عن شمول س لكل جوانب الحياة ، واتساع العمل الإسلامي ليتضمن جميع مجالات العمل الدعوي ، والتربوي ، والخيري ، والسياسي.

وقد أحسن الأخ أبو عاصم صنعاً ، حين اتبع ذلك كله ، وفي كل درس من تلك الدروس ، بتوثيق لكثير من جوانب العمل الإسلامي العام والعمل السياسي بخاصة ، التي كان هو شخصياً احد أطرافها ، أو القائمين عليها ، أو شاهد عيان على مجرياتها.

فكانت هذه اللقطات بمثابة لمسات فنية وأدبية ، أعطت لهذه الدروس معناها الحياتي الواقعي ، في إطار متكامل مع التصور الفكري والنظري ، وكانت كذلك بمثابة تاريخ لمذكرات داعية مارس العمل السياسي في فترة حساسة من تاريخ بلده وأمته. وأدعو بهذه المناسبة زملاءه وإخوانه أن يحذر حذوه ، لتتكامل الصورة ، وتعم الفائدة ، ويعلو بنيان الفقه السياسي الإسلامي ، المستند إلى الأصالة ، والمنبثق من أرض الواقع.

ولا أريد في هذه التقديم الموجز ، أن استعرض تفاصيل ما كتب الشيخ المربي أبو عاصم من دروس ، واحداً بعد الآخر ، ولا أريد أن أنوب عن القارئ في تلخيص أهمية كل درس من هذه الدروس ، ولكن لا بد من التنويه إلى الأسلوب الأدبي الممتع الرفيع ، الذي اتسمت به هذه الدروس التي تجعل القارئ منشدا إليها ، ومتفاعلا معها ، ومتأثرا بها.

وأخيراً ، فإنني أهنئ الأخ الحبيب ، والصديق العزيز ، الأستاذ حمزة منصور على ما وفقه الله تعالى إليه ، من كتابة هذه الدروس. الغنية بالخبرة والعبرة والفائدة للعاملين في الحقل الإسلامي العام ، والسياسي بخاصة ، ونتمنى عليه أن تكون هذه الرسالة حلقة من سلسلة قادمة في هذا المجال ، وأن يحذو حذوه بعض إخوانه الذين رافقوه في المسيرة ، لتتراكم الخبرات ويعلو البنيان ، ويتم وعد الله تعالى ، للمستضعفين في الأرض ، بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم ، ونصر المؤمنين العاملين ، فجزاك الله تعالى يا أخي أبا عاصم ، عن دعوتك ، وأمتك ، خير الجزاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أخوكم / أسحق أحمد فرحان
في 27 رجب 1419هـ
الموافق 16 /11 /1998م

المقدمة

لم أكن لدعوة الإخوان المسلمين ، فترة طفولتي وصباي ، محباً ولا راغباً ، ولعل ذلك عائد ، إلى البيئة الاجتماعية والثقافية التي أحاطت بي. وإلى حملة الدعوة في تلك المرحلة على الأقل حيث كنت أقيم ، وإلى الضجيج الإعلامي الرسمي ، الذي سيطر على الأفهام والعواطف حينها. وقاد الناس إلى نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة.

فلقد عشت فترة طفولتي وصباي بين مخيمي جنين والكرامة ، ما خلا سنوات قليلة عشتها في أربد والعروب. وأبناء المخيمات كانوا وما زالوا لا تتقدم لديهم قضية على قضية هجرتهم ولجوئهم. ولا ينظرون إلى الأشخاص والهيئات والحكومات إلا من خلال مواقفهم من هذه القضية. ولم يكن دور جماعة الإخوان المسلمين إزاء هذه القضية خلال تلك الفترة مفهوماً ولا واضحاً. فقليلون هم الذين اطلعوا على جهادهم في حرب فلسطين. ووعوا موقفهم من القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني.

فلقد ظلت بطولات الإخوان المسلمين المصريين والسوريين والأردنيين وغيرهم مجهولة ، لدى قطاعات عريضة من الشعب الفلسطيني ومن أبناء الأمة العربية والإسلامية. حتى جاءت هزيمة عام 67 التي هزت كثيراً من القناعات ، وبددت كثيراً من الأوهام ، وكشفت كثيراً من الحقائق ، التي حجبتها وسائل الإعلام وأساليب التضليل ، ولقد كانت الإذاعة يومها وإذاعة صوت العرب بشكل خاص ، أكثر وسائل التوجيه تأثيراً. فالجرائد قليلة ، وقراؤها نادرون ، وإذا ما قرأوها فلن تغير كثيراً من قناعات الناس ، بسبب الرقابة الصارمة. والتلفاز يومها لم يكن معروفاً ، ولا سيما في مثل البيئة التي احتضنتني خلال تلك الفترة. والمسجد الذي كانت علاقتي به حينذاك بين مد وجزر لم يكن مؤهلاً لإعطاء تصور سليم للعاملين للإسلام. فالحديث منصب في الغالب حول العبادات. فتفردت إذاعة صوت العرب في تشكيل قناعات الناس. حتى في الفترات التي كان يعتبر الاستماع إلى إذاعة صوت العرب أمراً غير مرغوب فيه من قبل الحكومة الأردنية ، وربما تعرض فاعله لمسألة لها ما بعدها ، كان بعضنا يلجأ إلى استخدام سماعة تبلغه غايته ، وتحجب الصوت عن مسترقي السمع. ومن سوء حظ الإخوان المسلمين في تلك الفترة ، بل من سوء حظي وأمثالي ، أن الإخوان المسلمين كانوا قد تعرضوا لأبشع حملة من حملات الإرهاب الرسمي ، الذي مارسته الحكومة المصرية ، حيث زج بعشرات الألوف في السجون ، بدعوى الثورة المضادة والتآمر على الزعيم الأوحد ، والتعاون مع أعداء الأمة. وقد تم إعدام بعض الرموز ، من خلال محاكمة صورية ، أبسط ما يقال فيها أنها مهزلة. وفر كثيرون خارج البلاد ، وأصبح الانتماء للجماعة جريمة يعاقب عليها بالإعدام أو المؤبد ، وهو شر من الإعدام. فالمنتسبون للجماعة من وجهة نظر صوت العرب الإذاعة العربية الأولى في تلك المرحلة خارجون على القانون ، بل خارجون على الدين ، ومتآمرون على رمز عزة الأمة العربية ، وباعث نهضتها الرئيس جمال عبد الناصر ، وحلفاء للصهيونية والاستعمار ، فلا غرابة والحالة هذه ، أن تخفت أصوات الدعاة لصعوبة مواجهة التيار الطاغي يومها. بل إن أسم الإخوان المسلمين كان مرتبطاً بالحقد والتعصب والتخلف ، ولا أنسى يوم كنا في معسكرات الحسين للجندية والبناء ، التي أنشئت عام 62 ، وكان معسكرنا في بلدة أم قيس في موقع تكثر فيه الحيات والعقارب ، كيف كنا نقول ، أو نسمع من يقول ، أن رأينا أفعى أو عقربا : هذه « حية إخوان مسلمين »! أو « عقرب إخوان مسلمين  »!

ولم يكن الكتاب الذي يعرض لفكر الإخوان المسلمين يومها ميسورا أو متداولاً ، فقد كان التوجه في معظمه نحو الكتب الأدبية ، والروايات التي تروج لها وسائل الإعلام ، كالنظرات والعبرات. فتركت هذه الكتب والروايات ، وربما أضيف إليها الأفلام السينمائية ، طابعها الخاص فيما نكتب أو نتحدث فكانت محاولاتنا الأدبية لا تخرج عن هذا الجو ، وكان المثل الأعلى للكثيرين من الشباب المغنون والممثلون ، ونسيت الأمة رموزها وصانعي مجدها ، وتعلقت ببعض نكبتها والمتسببين في هوانها. ولكن حين يشاء الله تبارك وتعالى إنفاذ مشيئته يهيئ لها الأسباب. فقد كان انتقالي إلى معهد المعلمين في حواره عام 674 بداية تحول كبير في حياتي ، حيث تعرفت إلى أخ كريم ، وسرعان ما ربطت بيننا صداقة ، وكان مما يميز عن أقرانه أنه وثيق الصلة بالمسجد ، وأنه امتلك القدرة والجرأة على إلقاء خطبة الجمعة ، فبعث لدي الحنين إلى المسجد الذي ضعفت صلتي به مؤخراً لصالح اهتمامات أخرى يسمونها أدبية ، وحفزني هذا الحنين على إرتياد مسجد المدرسة الإسلامية في أريد أيام الجمعة ، حيث يتناوب على أداء الخطبة فيه نفر من الدعاة ، عرفت فيما بعد أنهم من الإخوان مسلمين. وكانت تعجبني فيهم جرأتهم في إنكار المنكر ، والبعد عن التزلف ، والشمولية في الطرح ، والاهتمام بقضايا الأمة. وبانتهاء العام الدراسي افترقنا شأن سائر الطلبة عند انتهاء المرحلة التعليمية ، فجاءت المحطة الثانية ، حين اقتربت أكثر من قريبي الشيخ مصطفى الجندي ، وكان رحمه الله كثير الحديث عن الإخوان المسلمين ، وعن الإمام حسن البنا ، وعن الستة الذين اعدموا عام 54 ، وعن بطولات الإخوان في فلسطين ، وعن المؤامرة العالمية التي تنفذها أطراف عربية ضد الإسلام والمسلمين ، من خلال تصديهم لحملة الدعوة الإسلامية. وكان يعرض كل ذلك بأسلوب جذاب ، يفوق أسلوب كتاب الروايات ، ساعده في ذلك ، عمق انتمائه لدعوته ، وذاكرة واعية ، وأسلوب آسر يجمع بين الفضيحة والعامية ، وبين المزاح والجد ، وبين الماضي والحاضر. فأحسست أن خيطاً ما ، بدأ يربطني بهذه الجماعة ، وقلت في نفسي : « لم لم أطلع على هذه المعلومات من قبل في دراستي أو مطالعاتي ، أو من الأساتذة الذين درسوني ، أو من حملة الدعوة الإسلامية؟ وجاءت المحطة الثالثة ، حين عينت معلماً في معان ، على غير رغبة مني ، فقد اشعرني الكثيرون ممن علموا أنني سأعمل في معان ، أنتي ذاهب إلى منفى. وهذه صورة من صور الظلم ، الذي يصيب المدن والمحافظات والأقطار ، كما يصيب الأشخاص والجماعات.

وصلت معان ، وعينت في مدرسة فلسطين الابتدائية ، وسكنت على مقربة من المسجد الكبير ، وتعرفت إلى نفر كريم من أبناء المدينة ووجهائها. وكان في مقدمتهم الحاج عبد الله عبد الدايم ، المعروف بعبد الله « شل » ، حيث كانت له محطة للوقود ، وقد رأيت فيه سماحة عجيبة ، ورقة متناهية ، وأدباً جما ، كان يدخل إلى القلب بدون استئذان ، وكلما نظرت في وجهة تذكرت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، وبدأت أنس ببعض من عرفت ، وأخذت العلاقة تتوثق بيننا ، ولم أكن راغباً في إقامة مثل هذه العلاقة ، بسبب الصورة الظالمة التي رسخها في ذهني بعض من ظلموا هذه المدينة الحبيبة ، وقديماً قيل : « الذي لا يعرف الصقر يشويه » وبدأت استمع إلى خطب الجمعة ، التي يلقيها في الغالب الشيخ فهمي كريشان ، والتي ذكرتني بخطب المدرسة الإسلامية في أريد ، وإلى بعض الدروس التي كان يسهم فيها وبحماسية بالغة ، وأسلوب رصين المرحوم علي أبو هلالة ، وقد انعقدت بيني وبين مكتبة البلدية صداقة حميمة ، فقد كنت أقبل على الكتاب بنهم ، وكأنني أريد أن أعوض ما فاتني من قبل ، وكان الكتاب الإسلامي بغيتي ، وذات يوم أهداني مدير المدرسة جريدة الشهاب البيروتية ، التي كانت تصدرها الجماعة الإسلامية في لبنان ، وكان من أبرز كتابها فتحي يكن ، وإبراهيم المصري ، والشيخ فيصل مولوي ، ولقد شدتني إليها منذ اللحظة الأولى ، فأقبلت عليها بشغف ، أقرأها من ألفها إلى يائها. أحببت معان ، أحببت ناسها ومسجدها ومكتبتها وجريدة الشهاب ، وربطت كل ذلك بأحاديث العم أبي إبراهيم ، ويخطب حوارة ومسجد المدرسة الإسلامية.

وجاءت المحطة الرابعة ، حيث بدأت جريدة الشهاب تتابع محاكمة الأستاذ سيد قطب. ورحت أتابع أخبار المحاكمة ، وبدأت أتعرف إلى أسباب المحاكمة. لقد أدركت أن الرجل يحاكم بسبب فكره وقلمه ومؤلفاته ، وفي مقدمتها المعالم والظلال حصلت على نسخة من المعالم ، وسارعت إلى قراءة الكتاب ، وجدت الرجل عظيماً ، ورأيت الطرح كبيراً ، ورأيت المستقبل وأعدا ، ورأيت الفجر قادماً. ثم أقبلت على قراءة التفسير العظيم « في ظلال القرآن » وجدته ينفذ إلى القلب ، ويغني عن كثير من القراءات ، قلت في نفسي : « مجرم من يحاكم سيد قطب » وشعرت أن س هو الذي يحاكم ، وأن الأمة الإسلامية المستهدفة. وأن أعداء الأمة هم الرابحون بإعدامه ، وقررت يومها أن أكون مع صاحب المعالم والظلال ، أعني مع الجماعة التي ينتمي إليها صاحب المعالم والظلال. ورحت أعيد وأكرر قراءة كتاب «معالم في الطريق » حتى حفظت كثيراً من فقراته ، فالكلمة التي يخطها الإنسان بدمه كلمة آسرة ، تمتلك القلوب والعقول. والكلمة التي لا يدفع صاحبها ثمنها تولد ميته ، وأن أسبغ عليها أجمل الحلل اللفظية.

لقد أصبحت قريباً جداً من هذه الدعوة ، ومن مؤسسها ، ورموزها ، ومؤلفاتها ، وانتظرت أن يبادرني أحدهم بالدعوة للانضمام إليها. وحين طال انتظاري ، وعيل صبري ، بادرت بعضهم ذات ليلة بالقول : هل جماعة الإخوان المسلمين حكر على فريق معين؟ أم أنها أطار للراغبين في العمل الإسلامي وخدمة دين الله؟ ودون أن أدع لهم فرصة للإجابة ، وأصلت تساؤلاتي ، ألست جديرا بالانضمام لهذه الجماعة؟ أم أن هنالك أسباباً وعوائق تحول دون تحقيق هذا الشرف؟ فتهلك وجوههم بشراً لدى سماعهم هذا الكلام. وعلق أحدهم بأنك من الإخوان المسلمين ، وإن كنت لم تنضم إليهم بعد ، وكانت البداية ، بداية [العمل الإسلامي] المنظم من خلال جماعة الإخوان المسلمين.

أنني لست بصدد سرد قصتي معجماعة الإخوان المسلمين ، ولكنها مقدمة ، وجدتها ضرورية ، بين يدي حديث رغب إلى إخواني في أربد الحبيبة ، التي أحببتها حباً جما ، أن أحدثهم إياه ، تحت عنوان « علمتني دعوة الإخوان المسلمين » وقد خصصت بهذا ثلة من شباب الإخوان المسلمين ، الذين أملوا أن يجدوا بعض الدروس ، لعلها تسهم في تقديم بعض الزاد المعين لهم في طريق الدعوة إلى الله عز وجل.

والحديث عن الدروس التي تعلمتها من جماعة الإخوان المسلمين يستدعي الإشارة ، ولو على عجل ودون إطالة ، إلى هذه الجماعة ، وإلى طبيعة المرحلة التي وجدت فيها هذه الدعوة المباركة ، وإلى بعض التجارب ، سائلاً المولى عز وجل أن يجزي خير الجزاء كل من أسدى إلي معروفاً ، أو قدم إلى مساعدة ، أو أسهم في تعريفي بهذه الدعوة، أو أسهم في تكويني ، أو قدم إلي نصيحة ، أو شكل في عيني نموذجاً لهذا الدين العظيم.

في فترة من أصعب الفترات في تاريخ الأمة قامت دعوة الإخوان المسلمين ، لتواجه واقعاً ثقيلاً في النفس والمجتمع ، فهناك الجهل في الاعتقاد والتصور والسلوك ، وهناك أمة مزقت شر ممزق ، وقد أرادها الله أمة واحدة ، وهنالك قوى أجنبية تسلطت عليها وسامتها الخسف ، وهناك اغتراب في الفكر والسلوك ، وإعجاب بالأجنبي المنتصر ، واستخفاف بكل ما يمت للأمة بصلة. في هذه الأجواء وضع الإمام حسن البنا بذرة هذه الدعوة. وما كان لأحد أن يتصور أن هذه البذرة ستنبت في ظل هذه الظروف وتستوي على ساقها ، وتنتقل فسائلها إلى أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي ، بل إلى الكرة الأرضية جميعها ، لتصبح أمل الأمة ورجاء المعذبين في الأرض ، والباحثين عن النجاة من الخطر الذي يحمله المستكبرون والمتجبرون ، إلا أنها إرادة الله العليم الحكيم ، ورحمته بالعالمين ، ووعده الذي لا يتخلف ، فحاشا لله أن يذر الشر يعربد في الأرض ويفسد الأحياء والحياة : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وتجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين...).

ولست هنا بصدد التأريخ لهذه الدعوة ، والتفصيل في خصائصها ، وآثارها في النفس والمجتمع : فذاك أمر يحتاج إلى جهود الباحثين والدارسين ، وهو واجب القائمين على أمر الدعوة والمهتمين بها ، وأرجو أن يوفق الله تعالى من يضطلع بهذه المهمة الجليلة فالدعوة ليست ملك مؤسسها -رحمه الله- ، ولا ملك الرعيل الأول من حملتها ، بل ليست ملك أبنائها وحملتها فحسب ، ولكنها ملك الأمة جميعاً ، بل ملك البشرية كلها ، ومن حق الجميع أن يطلعوا على هذه المسيرة الإسلامية ، بإيجابياتها وسلبياتها ، وأن يخضعوها للبحث والتقويم ، لصالح العمل الإسلامي والبشرية جمعاء. ولكنني هنا أعرض لخواطر شخصية ، بناء على رغبة بعض الأخوة ، أعبر من خلالها عن بعض ما تعلمت من هذه الدعوة المباركة على مدى ثلاثة عقود.

حمزة منصور
عمان / الأردن

الدرس الأول : تصور إسلامي سليم

إن طول الفترة بين واقع المسلمين اليوم والعهود الإسلامية الزاهرة ، حيث عاش الناس الإسلام الشامل الكامل ، أوجد خللاً » كبيراً وخطيراً في التصورات والأفهام لدى المسلمين. حتى قنع بعض المسلمين بالعواطف الطيبة ، ظانين أنها س ، واكتفى بعضهم ببعض العبادات ، ظانين أنها غاية المنى. ولا أتحدث هنا عن الذين ضاقوا ذرعاً بالإسلام ، وحملوه مسئولية ما هم فيه من تخلف وهوان. وإنما أتحدث عن السواد الأعظم من المسلمين ، الذين مازالوا على الفطرة ، وهم يتطلعون إلى مرضاة الله تعالى ونيل جنته ، وصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وظنوا كل ذلك يتحقق بالعواطف الطيبة وأداء العبادات ، فجاءت هذه الدعوة لتقول لنا : أن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة سليمة ، تعرفنا بالله وتحدد علاقتنا به ، وتبين لنا الغاية التي خلقنا من أجلها ، والمصير الذي نحن إليه صائرون ، كما تبين علاقتنا بمن حولنا ، وما حولنا ، وإلى جانب هذه العقيدة التي تشكل الإطار النظري ، فهو عبادة تترجم هذا التصور النظري إلى سلوك وانسجام ، ويضبط هذه العلاقة وفق أحكام الكتاب والسنة ، فلا يطغي طرف على طرف ، ولا يجوز فريق على فريق. وقد اعتبر الإمام المؤسس هذا التصور الأصل الأول من الأصول العشرين ، التي تشكل المدخل لفهم الإسلام العظيم ، كما اعتبر الفهم الركن الأول من أركان البيعة. ويقول الإمام حسن البنا -رحمه الله- في رسالة التعاليم ، بعد تحديد أركان البيعة والمطالبة بحفظها والشروع في توضيح أبعادها : الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً ، فهو دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وهو خلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة ، أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة ، أو جيش أو فكرة ، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة ، سواء بسواء. ويؤكد شهيد القرآن ، الأستاذ سيد قطب ، في مواقع عدة من المعالم والظلال هذا المعنى بقوله : أن هذا الدين شريعته كعقيدته ، بل شريعته من عقيدته ، بل شريعته هي عقيدته.

أن هذا التصور الشامل طبع حياة الإخوان المسلمين بطابع خاص ، فما تكاد تستمع إلى أحدهم ، بغض النظر عن تحصيله العلمي ، ومستواه الثقافي ، والمرحلة العمرية التي يعيشها ، حتى تدرك أن المتحدث من الإخوان المسلمين. هذه الرؤية الشاملة حمت الإخوان لمسلمين من التطرف والشطط والنمو غير السويس ، فهم يوازنون بين الماديات والمعنويات ، وبين الفرد والمجتمع ، وبين الدنيا والآخرة. فابتعدوا بذلك عن انعزالية الفلاسفة ، وبعض المتصوفة ، وعن مماحكات المماحكين في قضايا فقهية جزئية خلافية ، وعن مادية الماديين ، فهم ذاكرون لله تعالى بأذكار مخصوصة مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ساعون لأداء العبادات وفقاً للدليل ، أو اقتداء بفقيه ، بعيداً عن التعصب لمذهب ، أو التطاول على فقهاء المذاهب ، وهم دعاة إلى الله عز وجل وفق قواعد مرعبة ، في الدعوة إلى الله ، مشاركون في أنشطة الحياة ، ما دامت تحقق مصلحة شرعية ، ومبادرون إلى التصدي لأشكال الانحراف ، عبر وسائل مدروسة ومقرة ، وبما لا يؤدي إلى ما هو شر من هذه الانحرافات ، ومسارعون إلى الجهاد في سبيل الله ، حين يدعو داعية وتتوافر ظروفه ، فكانوا طليعة المقاومة للمستعمرين والمحتلين ، ولعل هذا الفهم هو الذي عرضهم لسهام أعداء الدين ، وأصحاب المصالح الضيقة.

ويقف الإمام المؤسس عند هذا المعنى طويلاً ، فيقول في رسالة المؤتمر الخامس ، تحت عنوان « فكرة الإخوان المسلمين تضم كل المعاني الإصلاحية » : « كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين ، إن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة ، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية ، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته ، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح ، الذين عرفوها وفهموا مراميها ، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك : أن الإخوان المسلمين دعوة سلفية ، وطريقة سنية ، وحقيقة صوفية ، وهيئة سياسية ، وجماعة رياضية ، ورابطة علمية ثقافية ، وشركة اقتصادية ، وفكرة اجتماعية. ويرسم صورة للأخ المسلم ، المتمثل لحقيقة دعوته ، تذكر بالصف الأول ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين رآهم الله تعالى حول نبيه عليه الصلاة والسلام ، فأعلن عنها رضاه. « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريباً » وفي موضع آخر « محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سُجَّداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود »... فهو يقول : « فقد يرى بعينه واعظاً مدرساً يقرع الأذان بزواجر الوعظ ، وبعد قليل تراه نفسه رياضياً أنيقاً يرمي بالكرة أو يدرب على العدو أو يمارس السباحة ، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص ».

هذا الفهم الواعي وهذا التصور الشامل ، وهذه الصياغة الجديدة للإنسان المسلم تبشر ببعث إسلامي جديد ، يحقق وعد الله تعالى « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً » وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثم تكون خلافة راشدة على هدي النبوة ». ومن هنا فقد تألب عليهم أصحاب الهوى والسلطان الشخصي بغض النظر عن مصلحة الأمة ، وأعداء الأمة ، ولعل من أوضح صور الكيد لهذه الجماعة ما كتبته فتاة صهيونية تدعى « روث كاريف » ونشرته لها جريدة « الصنداي ميرو » في مطلع عام 1948 ، ونقلته جريدة « المصري اليوم » لقرائها في حينه ، قالت فيه الكاتبة : « أن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة ، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعاً ، وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها » وتضيف « والآن وقد أصبح الإخوان المسلمين ينادون بالمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة ، في شئون الشرق الأوسط ، وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ، أن لا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة فقد حان للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال متسترين وراء هذا الإسلام الرومانتيكي الجذاب « الإخوان المسلمين » و « تابعت مقالها قائلة » : إن اليهود في فلسطين الآن هم أعتف خصوم الإخوان المسلمين ، ولذلك كان اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط. وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط. وهم يعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين ، وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية ، وطالبوا علناً بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة » وتختم مقالها بقولها : « وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي ، إذ واجهتها حركة فاشية نازية ، فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية ، تمتد من شمالي أفريقيا إلى الباكستان ، ومن تركيا إلى المحيط الهندي ».

ولا غرابة أن يشتد عداء الغرب لمؤسس هذه الجماعة ، وأن يفرح الغرب لاغتياله كما ذكر الأستاذ سيد قطب في كتابه أمريكا التي رأيت ، حيث استغرب فرحتهم في غير عيد وكم كانت دهشته ، حين قيل له « اليوم قتل حسن البنا ».

فهل يدرك الذين ما زالت على أعينهم غشاوة أية دعوة هذه؟ وهل يعي الذي جندوا طاقات الأمة لمحاربة الدعاة إلى الله ، أي جريمة يرتكبون؟


الدرس الثاني : جندية فكرة ودعوة لا جندية غرض ومنفعة

إن عضو الجماعة ليس موظفاً تحكمه ساعات محددة للعمل ، وواجبات معينة لا يتجاوزها. فالواجبات المحددة في اللوائح والتعليمات تشكل الحد الأدنى ، وفوق ذلك مجال رحب ، للمتنافسين في الخيرات. وعلى المرء أن يختار بين الحد الأدنى المطلوب يومياً وأسبوعيا وشهريا وفصليا وسنوياً ، وبين الاستكثار من الخير ، بقدر ما تؤهله له استعداداته ، آخذاً بعين الاعتبار قول الله عز وجل : (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى). أن الجندية الدعوية التي تعدها جماعة الإخوان المسلمين توجب على صاحبها أن يتحرك في الوسط الذي يعيش فيه ، بين أهله وزملائه ومعارفه. يقدم لهم النموذج ، ويعرفهم بدعوته ، ويدعوهم إليها. فقد علمتنا هذه الدعوة كيف يتودد أحدنا إلى زملائه ، يحسن استقابلهم ويسهم في حل مشكلاتهم ، ويزورهم ويدعوهم ويهدي إليهم ، حتى لو كانت الهدية جريدة أو مجلة أو كتاباً. « لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً حتى ولو أن يلقي أخاه بوجه حسن » كما علمتنا كيف يكون أحدنا قريباً من قلوب طلابه ، بحسن إتقانه لعمله ، وتفانيه في أدائه والعدل بين التلاميذ ، ليشكل كل ذلك الجو المناسب لدعوتهم. وإذا ما رأيت الداعية متجهما نزقا ، متهربا من واجباته ، متذمرا من عمله ، محابيا لفريق ، فاعلم إنه ليس من الإخوان المسلمين ، وأن تظاهر بذلك ، أو سجل في سجلات الإخوان المسلمين.

إن الأخ الذي يقتصر على مهام محددة ولا يترك أثراً إيجابياً فاعلاً في الأسرة والعمل والمجتمع ، ليس جندي الفكرة والدعوة ، الذي يعيش لها ، وإنما رجل وظيفة يؤديها أداء آلياً ، لا يحدث الأثر المطلوب.

أن الأخ المسلم الحق لا يجد سعادته إلا حين يبلغ دعوته ، وينافح عنها ويكسب لها أنصارا ومؤيدين ، وهنا أود أن أنبه إلى بعض الخلل الناجم عن الاكتفاء بالحد الأدنى من المهام الدعوية ، تاركاً الساحة لمن يعيثون فيها فساداً ، ومحملا غيره أعباء ينوء بحملها ، فلا يؤديها حق أدائها ، أو تحمله على اليأس. فالمهمة هنا مهمة مشتركة « هدهد يرتاد ، وسليمان يتفقد ويوزع الواجبات » ومن هنا فقد رأينا بعض الساحات تزدهر فيها الدعوة لوجود الجنود البسلاء في الدعوة إلى الله ، بخلاف ساحات أخرى ، أخذ العاملون فيها الأمر على التراخي ، كما رأينا بعض الساحات المزدهرة تقفر إذا غاب عنها المجلون فيها لسبب من الأسباب. إن القيادة الراشدة ولا أعني هنا القيادة المركزية فقط هي التي تكتشف استعدادات جنودها ، وتطور هذه الاستعدادات ، وتحدد لهم المهام ، وتوفر لهم إمكانات النجاح من تخطيط وإسناد ومتابعة وتقويم ، وأن الجندية العالية هي التي تأخذ الأمر بالعزيمة ، وتستحضر رقابة الله عليها ، وتنطلق من أنها مسئولية أمام الله ، مسئولية فردية ، بغض النظر أحسن الآخرون أمام أساءوا ، « فكل آتية يوم القيامة فردًا ». أن هذا الفهم وهذه القناعة ، يحملانه على أن يرتاد لدعوته الوسائل والأساليب والبيئات ، التي تعين على الانتشار الأفقي والنمو الرأسي ، ويقدم المشروع الإسلامي خطوات إلى الأمام. على قاعدة (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). وانطلاقاً من هذا الفهم لم أجد في الأسرة يوم انتظمت فيها ما يرفع عني المسئولية أمام الله عز وجل ، الذي أمرنا بالدعوة إليه. (ادع إلى سبيل ربك) ولا يؤهنلي لمرتبة من عناهم بقوله سبحانه : (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً) ففي بدايات تشرفي بالانضمام إلى الجماعة ، عمدت إلى تشكيل بعض الأسر ، جلها من الطلاب ، ساعدني في ذلك رباط الحب الذي جمع بيني وبينهم ، وتلك نعمة أحمد الله تبارك وتعالى عليها ، فهو المؤلف بين القلوب ، وما أبهج الحياة يوم يعيش المرء في وسط محب مألوف! وما أضيق العيش حين يشعر المرء أنه يعيش في بيئة معادية!

وكنت أحاول اكتشاف اتجاهات الشباب واستعدادتهم ، وأحاول تنمية هذه الاتجاهات والاستعدادات ، من خلال قراءات ونشاطات أراها محققة لهذا الهدف. وكنت استعرض زملائي وطلابي ومعارفي. وكنت أتطلع إلى أن يأخذ كل هؤلاء مواقعهم في هذه الدعوة المباركة. وكم ألمني وأحزنني أن بعض أصحاب الاستعدادات العالية لا يسارعون إلى الانضمام إلى الدعوة، وكنت استحضر في ذهني عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد ، كيف يبطئ في دخول معسكر الإيمان على رجاحة عقله. وحين قدر الله عز وجل لي أن انتقل من معان ، حيث تشرفت بالانتساب للدعوة، وحيث عرفت العمل الإسلامي المنظم إلى بيئة جديدة ، كان اهتمامي منصباً على تأسيس عمل إسلامي فيها. وكان علي أن أتعرف على واقع الدعوة في هذا الموقع الجديد ، وحين سألت المعنيين بالأمر كانت الإجابة مخيبة للظن ، فليس في هذه البيئة أخ واحد ، وإنما هنالك شخص كانت له علاقة سابقة بالجماعة ، ولكنها انقطعت. ورأيت أن أبدأ من عنده ، لمعرفة الأسباب التي أدت إلى قطع العلاقة ، فرأيت الرجل قد سلك خطاً آخر ، وإن كان يذكر الجماعة بخير ، ويتمنى لها الخير. ولكنه رأى في خطه الجديد ترجمة لشعار طالما رفعته الجماعة : « الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا » فأدركت أن الزاوية منفرجة ، وزاد في انفراجها أن ما يسميه صاحبنا جهادا في سبيل الله ، نأى أصحابه بعيداً عن روح الجهاد ، بعد أن عمل الهوى والمصالح والتدخلات العربية والدولية عملها فيه. وكان علي أن أتحرك وليس مثل المسجد منطلقاً للحركة والدعوة ، وإن كان التحرك ليس ميسورا في هذه البيئة ، فهي تنفر من العمل الحزبي ، وتخشى من عواقبه كما ذكر أحدهم ذات يوم ، حيث قال : نحن مسلمون ، ومع الإسلام ، ولكن الحزب عندنا يعني الشيطان. ولكن الإعراض والصد لا يثنيان الداعية عن المضي في طريقه ، فحسب المرء أن يخلص النية ، وإن يحسن العمل ، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولم تمض سنوات ، حتى وجدت ثلة كريمة من الإخوان انتظمت في سلك الدعوة ، لتلحق مدنا وقرى سبقتها بسنوات في التعرف على الدعوة.

ورغم حداثة العهد بالدعوة الإسلامية ، والافتقار إلى المؤهلات العلمية ، فقد حرصنا على النهوض بمسئولياتنا. فقد تم تشجيع الأخوة على التدريس في المساجد ، ثم الخطابة فيها ، وقد تعززت الثقة يومها بيننا وبين مديرية الأوقاف ، فكان المرحوممحمود علاوي كلما راجعه أهل قرية ، مطالبين بتعيين خطب لمسجدهم ، يهاتفني لتسمية خطيب ، وفي كثير من الحالات لم يكن الخطباء من حملة المؤهلات الشرعية ، لعدم توفرهم ، ولكنهم امتلكوا الإخلاص والرغبة في العمل ، والدافعية للإعداد الجيد. وربما تصدى لهذه المهمة بعض طلبة المرحلة الثانوية ، فقد أقبلت ذات يوم على المسجد ، الذي كنت أخطب فيه ، فسمعت متحدثاً يتحدث فظننته يلقي درساً ، وفوجئت لدى دخولي المسجد حين وجدت شاباً في الصف الثالث الثانوي من شباب الدعوة الإسلامية ، وقد اعتلى المنبر ، حين ظن المؤذن إن الوقت قد حان ، وأن الخطيب تأخر ، فصعد المنبر ، وحين أبصرني هم بالنزول ، فأشرت إليه أن أمض في خطبتك. وبعد انتهائه من الخطبة والصلاة ، حمدت الله عز وجل ، أن أجعل من طلبة المرحلة الثانوية من يمتلك مقومات اعتلاء المنبر. كما انعقدت صلات بيننا وبين القرى المجاورة ، من خلال رحلات قصيرة لنشر الدعوة ، وتعززت العلاقات مع الوجهاء ، من خلال التواصل معهم ، ومشاركة الناس في مناسباتهم الاجتماعية. كما أصبحت المدارس منابر دعوة ، من خلال الإذاعة الصباحية ، ومجلات الحائط ، وحصص النشاط.

الدرس الثالث : التزام واع يجسد وحدة الموقف

إن الرسالة العظيمة تحتاج إلى قدر عال من الالتزام للنهوض بها. فالمهمة جليلة ، والطريق طويلة ، والعقبات كثيرة ، وأيما تردد أو نكوص يجعل تحقيق الهدف بعيد المنال ، فضلاً عن أنه يهز ثقة الآخرين الذين يتطلعون إلى القدوة ، التي تعزز ثقتهم بالفكرة والمسيرة ، ليأخذوا مواقعهم فيها. ومن هنا فإن دعوة الإخوان المسلمين تقوم على الالتزام الكامل ، بالمنهاج والسياسات والقرارات والمواقف والمواعيد. فقد تعودنا كيف نحضر في الوقت المحدد ، ونغادر في الوقت المحدد ، وبالطريقة المقررة ، وكيف نقهر كل عذر للقيام بالواجب ، مهما غلت التضحيات وكيف نغضب القريب والمسئول من خلال التزامنا بالموقف الدعوي المخالف لهوى المسئول ومصلحة القريب ، وأن كان ليس من أهدافنا اغضاب الناس أو استفزازهم أو استعداؤهم ، وإنما الحرص على الالتزام بدعوتنا ، وتمثل فكرتنا ، والانطلاق بها لتحقيق غاياتها ، ومن شأن أصحاب الهوى والمصالح الشخصية أن ينفروا من الالتزام يرون أنه لا يحقق مصالحهم. فكم رأينا من أقوام تتغير مواقفهم ، ويقفزون من موقع إلى موقع بسبب الضغوط التي تمارس عليهم ، أو المصالح التي يلوح لهم بها. بينما يبقى أصحاب الدعوة مستمسكين بقرارهم الذي اتخذوه ، أو اتخذه أصحاب القرار فيهم ، ويحضرني في هذا المجال أمثلة عدة ، أقتطف منها ما يلي :

أ- ضمن برنامج الإخوان المسلمين في التأهيل والتدريب ، عقدت دورة تدريبية ، لرفع سوية الدعاة ، أطلق عليها مدرسة الدعاة. وقد كان برنامج المدرسة يقول على الالتزام التام ، من حيث الإعداد النظري ، والتطبيق العملي ، ولم يكن يتساهل إزاء التقاعس عن أداء الواجبات أو التهاون فيها. وكان من ضمن نشاطات المدرسة زيارات لبعض رموز الدعوة. وحدد يوم لزيارة الشهيد الدكتور عبد الله عزام رحمه الله ، وقدر الله تعالى أن يتوفى جدي لأبي في ذاك اليوم. وبعد أن فرغنا من تجهيزه ودفنه ، بدأ الصراع في نفسي بين أخذ مكاني بين أهلي وعشيرتي في استقبال المعزين ، وبين الوفاء بالوعد ، وحضور برنامج المدرسة. لقد كان بإمكاني أن أعتذر ، وكنت أقدر أن عذري مشروع ومقبول ، إلا أنني آثرت أن أجمع بين الحسنيين وأن أقوم بالواجبين بتوازن ، فبعد الدفن ، وبعد تلبية دعوة جيران كرام ، حرصوا على دعوتنا ، حيث جرت العادة يومها أن يدعي أهل المتوفي ثلاثة أيام ، ولكنها اختصرت بعد ذلك إلى يوم واحد ، وفي ذلك تيسير محمود على الناس ، توجهت إلى عمان ، ولم تكن لدي يومها سيارة ، وكان علي أن أقطع مسافات على قدمي ، واستخدام سيارتين في الذهاب ، ومثلهما في الإياب ، وأدركت أخواني في الوقت المحدد ، وشاركتهم الزيارة ، التي ما زلت أذكر المعاني الكبيرة التي قبسناها من أخينا أبي محمد ، ومحورها الحرص على وحدة الجماعة ، وتجنب أي إجراء مهما كانت دوافعه ، يمكن أن يحدث شرخاً فيها لا سمح الله. واجتهدت أن أعود مسرعاً ، حتى لا يفتقدني أهلي في مثل هذا الواجب.

ب- بعد بحث مستفيض شارك فيه مجلس الشورى والكتلة النيابية ، قرر الإخوان منح الثقة لحكومة السيد مضر بدران عام 1990 ، لاعتبارات أهمها إفساح المجال للمسيرة الجديدة « المسيرة الديمقراطية » أن تتجذر وتتطور ، وحتى لا يحسب على الإخوان أنهم أسهموا في وأد المولود الجديد ، رغم أن الرئيس المكلف ضن على الإخوان بوزارة التربية والتعليم لأسباب عدة ، لعل بعضها عائد إلى تجربة الأخ الدكتور إسحاق الفرحان ، يوم كان وزيراً للتربية والتعليم حيث ضاق الكثيرون ذرعاً بالانجازات التي حققها ، على طريق أسلمة المناهج ، وإصلاح العملية التربوية من منظور إسلامي. ومن هنا فقد استقر الأمر على منح الثقة للحكومة ، لقاء التزام الرئيس المكلف ببضعة عشر شرطاً أو مطلباً. اجتهد الإخوان بأن تكون مطالب عامة ممكنة التطبيق ، تشكل بدايات يمكن التأسيس عليها. ولم يكن منح الثقة لحكومة لا تتوافر فيها الحدود الدنيا ، التي تقر بها عيوننا ، سهلاً على نفوسنا ، فقد ظل الإخوان على الدوام ، يتطلعون إلى النموذج الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده ، إلا أن الالتزام بالقرار الشوري حتم علينا منح الثقة ، رغم صعوبة ذلك على نفوسنا. ولقد استمعت إلى الأخ المفضال الأستاذ يوسف العظم وهو يقول بمرارة : « بعد خمس وعشرين سنة من الحجب » « ثقة » « ولقد رأيت المرارة في كلمات الإخوان وهم يمنحون الثقة ، وكأبي بصورة الحديبية تعود من جديد ، يوم شرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشروط الصلح ، وراح يتردد بين النبي القائد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه مرددا « علام نعطي الدنية في ديننا؟ » وقد بلغ الغضب مبلغه من نفوس الصحابة عليهم رضوان الله ، حين وجدوا أنفسهم مضطرين للعودة دون عمرة ، دعاهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتد بهم الحنين إليها ، وغدوا على مقربة من تحقيقها ، وها هم يعودون الآن دون عمرة ، فبلغ بهم الغيظ مبلغه. فوقفوا واجمين أمام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالتحليق ، حتى أشفق عليهم ، وخاف من هلاكهم ، لتلكثهم في إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم حين أبصروه يحلق لم يعد أمامهم إلا إنفاذ الأمر ، والاقتداء بالنبي القائد ، رغم صعوبة القرار ومرارته في أفواههم ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً ، من فرط الغضب. ومما زاد من حراجة الموقف أنهم رأوا أبا جندل يرسف في الأغلال ، عائداً إلى المشركين ، وأبوه سهيل بن عمرو ، كبير مفاوضي مكة ، يوجه إليه الصفعات ، على مرأى ومسمع من إخوة العقيدة ، ولكنه الالتزام بشروط الصلح ، وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا دعوة بدون التزام ، ولا جندية حقة إلا بأعلى درجات الالتزام.

ج- لما كانت عضوية مجلس النواب تستلزم القسم على نص معين حدده الدستور والنظام الداخلي ، للإخوان فهم معين إزاءه ، رغم أن الشيخ محمد أبو زهرة لا يرى فيه بأساً ، فقد تدارسنا الأمر ، واتفقنا على إضافة عبارة ننفي عنا الحرج بها ، ورغم أن هذه العبارة ورمت لها أنوف ، وثار حولها جدل ، إلا أنه تم الالتزام بإضافة هذه العبارة. لقد كانت اجتهاداتنا ووجهات نظرنا تتباين وهو أمر فطري ومشروع ، ولكن حين يتخذ القرار لم يكن أمامنا إلى الالتزام. وباستثناء حالات نادرة جداً خلال ثماني سنوات كان الالتزام في أبهى صوره.

د- حين أحسن المسئول أن حكومة السيد طاهر المصري يصعب عليها نيل الثقة ، لأسباب عدة ، بعضها مبدئي ، وبعضها مصلحي ، فقد اتصل ببعض النواب ، الذين صدر عنهم ما يشعر أنهم سيحجبون الثقة ، وتم إقناعهم بمنح الحكومة الثقة ، بينما لم يتم الاتصال بأي منا لقناعتهم بالتزامنا بقرارنا ، فحمى التزامنا إخواننا من التناقض ، حين راح الكثيرون يتوارون من النسا ، إزاء التناقض الفاضح بين الخطاب والموقف.

هـ- حين بدأ مجلس النواب مناقشة إحالة بعض كبار المسئولين في الفترات السابقة إلى المحكمة ، بتهمة الفساد المالي والإداري ، مورست كثير من الضغوط على بعض النواب ، وتدخلت بعض الاعتبارات لحرف إرادتهم وتغيير موقفهم ، ولكن نوابنا تمسكوا بموقفهم ، والتزموا بقرارهم ، وعبروا عنه بأوضح عبارة.

والحديث عن هذه القضية يطول ، وقد يحتاج إلى وقفة أطول ، أن مد الله في العمر ، وهيأ الأسباب. إلا أن ثمت قضية يمكن أن تثار ، مفادها أن بعض الأشخاص لم يلتزموا ببعض القرارات. وجوابي على ذلك صحيح ، إن هنالك بعض التجاوزات وهي مرفوضة وخارجة على الأصل ، ولكنني أرى ، أن على صاحب القرار أن يجتهد أن يكون قراره صحيحاً ، وصادرا بطريقة صحيحة ، وأن يكون مقنعاً لمن سيطبق القرار ، لأن المسلم لا يقبل منطق « ما أريكم إلا ما أرى » ولا يستطيع أن يلغي عقله ، وهنا أذكر بموقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يوم جاء يجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شروط الحديبية ، وحين راح يناقش أبا بكر الصديق فيها ، ولم يوقفه عن الجدال إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا عبد الله ورسوله ولن أعصي أمره ولن يضيعني » وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه « الزم غرزه » كما أذكر بامرأة جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكى القرآن الكريم جدالها « قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها » وأذكر بمقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه « اللهم اكفني بلالا وصحبه » حين نجم الخلاف في قضية أرض السواد.

إن القرار الذي يتخذ بطريقة شورية صحيحة وفي الوقت المناسب ، والذي يأتي نتيجة طبيعية لحوار موسع مع كل المعنيين بتطبيق القرار ، يعين على الالتزام بالقرار إلا أن القرار ما لم يكن حراماً يستلزم الالتزام على كل حال. بينما تعمل النصيحة والنقد الموضوعي على إشاعة روح التسامح ، وتعميق مساحة الفهم المشترك ، الذي ينتج عنه وحدة التصور وتوحد المواقف.

الدرس الرابع: التعلق بالفكرة لا بالأشخاص

فكرة الإخوان المسلمين فكرة إسلامية ، تستند إلى الكتاب والسنة والفهم الحصيف لهما. والحكم على الأشخاص والأشياء والواقع يتم استناداً إلى هذين الأصلين الكبيرين ، انطلاقاً من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم « تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ». والأشخاص على جلال قدرهم ، وعظيم بلائهم ، في الدعوة إلى الله عز وجل ، تقاس مواقفهم بالاستناد إلى الفكرة ، فيكبر أحدهم بمقدار تمثله الفكرة وتمسكه بها. ويفقد من وزنه بمقدار ما ينأى عن الفكرة التي التقينا عليها ، أو يتناقض معها ، ومن هنا فإن التعلق لا يكون بالأشخاص وإنما بالفكرة والدعوة ، ولقد حمى هذا الفهم الدعوة من تقديس الأشخاص ، كما يحصل في الأنظمة الوضعية ، أو بعض الفرق الصوفية. وهذا القضية واضحة أشد الوضوح في كتاب الله عز وجل ، ففي ث عن الإسراء والمعراج ، يأتي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية ، حتى لا يختلط مقام العبودية بمقام الربوبية ، فيضل المسلمون كما ضل النصارى واليهود حين قالوا : المسيح بن الله وعزير بن الله وفي الحديث عن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الكلام حاسماً جازما « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين » فالرسل يموتون ويقتلون ، ولكن الله باق والدعوة مستمرة.

إن رسوخ هذا المعنى لدى الإخوان المسلمين ، حفظ لهم صفهم حين تعرضت الجماعة لبعض الهزات ، بخروج بعض الرموز بالاستقالة أو الفصل ، أو الخروج على الموقف. وهذا الصمود والتماسك أمام الضغوط النفسية والاجتماعية ، يحتاج إلى استعدادات عالية ، تعززها تربية مستمرة ، فقد يكون الشخص أو الأشخاص الخارجون على الصف ، تربطهم ببعض الدعاة قرابة أو صداقة أو علاقة ، وقد يكونون سبباً لتعريفهم بالدعوة وانتظامهم فيها ، وقد يكونون من أصحاب السابقة في الدعوة والبلاء في سبيلها ، وقد يكونون أصحاب قدرة عالية على التأثير والأخذ بمجامع القلوب ، ويتناسب التماسك والالتزام إزاء مثل هذه القضية طرديا مع الفهم الواعي للدعوة ، والإخلاص لها والتجرد لله عز وجل. وهذا يحتاج إلى مزيد من الصلة بالله تبارك وتعالى ، من خلال علاقة متصلة بكتاب الله ، فهما وتدبرا ومزيد من مجاهدة النفس بالعبادة ، فإن للإيمان الصادق ، والمجاهدة نوراً وحلاوة ، يقذفها الله في قلوب العباد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).

ومن هنا فإن رهانات المراهنين على تصدع الجماعة إزاء بعض الحالات الفردية ، من الخروج على الجماعة ، باءت بالفشل ، رغم الضجيج الإعلامي الذي رافق كل حالة من هذه الحالات ، وبقيت الجماعة متماسكة موحدة ، رغم مكر الليل والنهار ، على أن لا يفهم من هذا أن الدعوة تزهد بالأشخاص ، وتحط من مكانتهم ، وتقلل من فضلهم وسبقهم ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الناس ، حتى احتاج إلى قدر من المواساة ، يحمله الوحي الكريم ، حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات ، وقد كان حزنه شديداً وهو يرى من يتفلتون من الدين. حتى واساه الله تبارك وتعالى بقوله (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) ومن هنا فإنني أرى ضرورة التمسك بكل فرد في هذا التنظيم ، والحيلولة دون الخروج منه أو عليه. وعدم التهاون في هذه القضية. إن التنظيم يحتاج إلى ضبط ، ويحتاج إلى قدر من الالتزام ، وأن الخروج على القرار يستدعي المسألة ، ويستوجب العقوبة ، ولكن القرار الحصيف ، الذي استكمل شرائط الشورى الشرعية ، يقلل من حالات الخروج على القرار ، بينما يدفع القرار المتسرع ، المفتقر إلى الشورى الحقيقية ، إلى التعبير عن التمرد على القرار بصورة من الصور. أن على صاحب القرار أن يدرك ، أن العقوبة ليست هدفاً ، ولكنها وسيلة ، تسبقها وسائل كثيرة ، من تربية ونصح وحوار. فإذا لم تجد كل هذه الوسائل ، جاء دور العقوبة ، على أن تكون من جهة مؤهلة ، ووفقاً لقانون عادل يتميز عن القوانين الوضعية ، ويستلهم هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كما أن العقوبة ينبغي أن تكون متدرجة ، وأن لا تكون أكبر من المخالفة ، وإلا يظهر فيها أثر للانتصار للذات. وأن لا يظهر فيها الشعور بالتشفي والانتقام ، وأن لا تغلق الطريق على التائبين. أن العقوبة لا تنهي صلة الفرد بالجماعة ، ولا تحرمه حقوق الإخوة التي كفلتها الشريعة الغراء ، فلقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب ، حين لعن خالد بن الوليد ماعزا ، وقد أوقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الرجم ، كما رأينا أصحاب المصطفى عليه الصلاة والسلام يتسابقون إلى تهنئة كعب بن مالك وصاحبيه ، بعد نزول التوبة عليهم بعد مقاطعة استمرت خمسين يوماً.

الدرس الخامس : شجاعة لا تعرف التهور

علمتنا [[|الإخوان|دعوة]] الإخوان المسلمين كيف نعتز بإيماننا ، وندافع عن دعوتنا ، ونصدر عن فكرتنا ، ونقف في وجه الخطأ أو الانحراف ، مهما كانت الجهة التي صدر عنها ، إرضاء لله وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجيل الأول الذي تتلمذ على يديه الكريمتين ، فكان بحق خير القرون ، وتحقيقاً لمصالح أمتنا. وذلك يحتاج إلى قدر عال من الشجاعة ، فلا غرابة أن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم أشجع الناس ، بكل ما تعني كلمة الشجاعة من الصراحة والوضوح والثبات على الموقف ، والصبر على البلاء ، والتجلد للمصائب ، وأن من يردد « الرسول قدوتنا » لا بد أن يمتلك قدراً عالياً من الشجاعة ، التي تمثل صفة من أبرز صفات المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ولعل من المفيد أن أعرض بعض صور الشجاعة ، التي تعلمناها من هذه الدعوة المباركة.

- حين زار الأردن الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون ، قرر الإخوان المسلمون إصدار بيان بعنوان « عد إلى بلدك يا نكسون » انطلاقاً من أن الرؤساء الأمريكيين يتسابقون على تحقيق مصالح العدو الصهيوني ، على حساب أمتنا العربية والإسلامية ، ويقفون دوماً دون تحقيق أهداف أمتنا في النهوض والتقدم ، بغض النظر عن الرئيس الحاكم ، أو الحزب الحاكم الذي يملك الأغلبية في الكونجرس ، فتلك سياسة ثابتة لا تتغير. ووزع البيان على نطاق واسع ، واغتاظ المسئولون من البيان ، وتم اعتقال نفر من الإخوان ، وجيء بالأخ أبي ماجد إلى مجلس الملك ، وبحضور عدد من كبار المسئولين. وأحضر الإخوان الذين تم اعتقالهم ، ووجهت إليهم عدة أسئلة من كتب البيان؟ فأجابوا : الأخ أبو ماجد. ومن وزعه؟ قالوا : نحن. لماذا وزعتموه؟ قالوا : لأن الأخ أبا ماجد طلب منا ذلك. قالوا : وهل تنفذون ما يطلب منكم أبو ماجد؟ قالوا : لو طلب منا أن نلقي بأنفسنا في البحر لفعلنا. ولم يكن هؤلاء الصرحاء إلا نفرا من الإخوان ، فيهم الطالب والعامل والموظف ، ولم يمنعهم جلال الموقف من التعبير بشجاعة نادرة عن طاعتهم لأميرهم ، وتنفيذهم لما يطلب منهم. أن هذا الموقف نتاج تربية طويلة مستديمة ، رسخت في عقولهم أن الأجل محدود ، وهو بيد الله ، ولا تملك قوة أن تقدم فيه أو تؤخر « وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وأن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ».

- أن أكثر ما يذل الرقاب في هذه الحياة الحرص على الحياة ، والخوف على الرزق ، وهما أمران محسومان في التصور الإسلامي ، فإذا ما أيقن المرء أنهما بيد الله هان عليه كل صعب. ومن هنا فقد عزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الوهن ، الذي يصيب الأمة إلى حب الدنيا وكراهية الموت.

- حين زار عمان لي أسبن عضو الكونجرس الأمريكي ، ورئيس اللجنة العسكرية في الكونجرس ، رتب له برنامج للالتقاء مع كبار المسئولين في البلد. وقد أرسلت السفارة الأمريكية في عمان إلى مكتب نواب الحركة الإسلامية رسالة عبر الفاكس ، تبدي فيها رغبتها في لقاء لي أسبن مع الكتلة النيابية للحركة الإسلامية ، وتلقيت الرسالة بصفتي أميناً للسر ، وعرضتها على الأخ المرحوم أحمد الأزايدة ، رئيس الكتلة والناطق الرسمي باسمها ، فانفعل رحمه الله خلافاً لما هو معروف عنه ، وقال : « لن التقي هذا (.....) أن دماء إخواننا الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين تسفك على يد الأمريكان ، وأن خليج العقبة محاصر من قبل الأمريكان ، فلا التقي معه أبداً ، قال هذا الكلام في الوقت الذي يتسابق كبار المسئولين على مقابلته وأمثاله. لقد كان حريصاً يرحمه الله على إيصال رسالة للدولة الأولى في العالم ، إن هنالك من يتمسك بالمبادئ ، ويصدر عنها ، رغم اختلال الموازين ، فكتب -رحمه الله- رسالة غاية في الأدب ، وغاية في الوضوح ، وغاية في الشجاعة. جاء فيها : أن ديننا يفرض علينا أن نرد على التحية بأحسن منها ، وأن نرحب بضيوفنا ونكرمهم ، ولكننا لا نستطيع أن نصافح اليد التي تسفك دماء إخواننا في فلسطين والعراق ، وتحاصر شعبنا في الأردن ».

وحين توترت الأجواء بيننا وبين الحكومة ، في أعقاب معاهدة وادي عربة ، وتعرض بعض إخواننا النواب لاستدعاء من قبل المدعي العام ، وجه نائب الملك دعوة لقرابة خمسة عشر نائباً ، جلهم من الإخوان ، وحين وصلنا الديوان الملكي ، أطل علينا السيد محمد السقاف مستشار ولي العهد وقال : أنتم تعرفون لماذا جئتم. أنتم جئتم للسلام على سمو الأمير والاعتذار. فقلت على الفور : « لقد جئنا للسلام على سمو الأمير وللحوار ، ولم يصدر عنا ما يستوجب الاعتذار ، فإن كان هناك إصرار على الاعتذار ، فنحن جاهزون للمغادرة. وتكلم الأخ الدكتور إبراهيم زيد بنفس المعنى. وغادر المستشار الجلسة. ثم عاد بعد دقائق متجهم الوجه وقال « تفضلوا » ووجدنا أنفسنا في قاعة فيها وزير الداخلية ، ووزير العدل ، ووزير الأوقاف ، وأمام كل منهم ملف. وبدأ النقاش ، واحتدم بيننا حيث عرضنا بعض التجاوزات الرسمية على الحريات العامة ، بينما عرض الوزراء بعض ما يرونه تجاوزا من قبل أشخاص يرون أنهم محسوبون علينا. ثم دخل الأمير ، واستمر الحديث لكن على وتيرة أقل. وفي المساء نشر التلفزيون تقريراً حول هذا اللقاء ، ولما كان التقرير مخالفاً للحقيقة فقد أصدرنا بياناً رفضنا من خلاله عملية التحريف ، وأوضحنا الحقيقة كما نراها. ولا يعتبر هذا السلوك غريباً على المؤسسة الإعلامية وال علينا ، فقد كان التلفزيون يتعمد الإساءة إلى كلماتنا في مجلس النواب ، بحجب الكلمات ، أو اختيار مقاطع منها ، وفقاً لرغبة القائمين على المؤسسة ، وكثيراً ما طالبنا بإخراج التلفزيون من مجلس النواب.

أن هنالك الكثيرين ممن يملأون الدنيا صحبا وضجيجاً ، حتى إذا ضمهم مجلس مع أصحاب القرار ، أحجموا عن النطق بكلمة فيها انتقاد لسياسة ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر. ولكن الجماعة التي تعرف مقام النصيحة في دين الله ، ومنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يملك حملته إلا النهوض بهذه الأمانة ، وإلا فقدت مقومات وجودها ، « لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها » وليس بالضرورة أن تكون النصيحة قاسية ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعنيفا ، فربما أضاعت القسوة الهدف من النصيحة ، وربما أفسد التعنيف الغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من التزاوج العجيب ، بين الشجاعة والحكمة ، وفي لغتنا الشريفة من المرونة والسعة ، ما يشكل رصيدا للدعاة ، لينهضوا بواجبهم بشجاعة حكيمة ، تحقق مقاصد الشريعة ، وتعود بالخير على الناس.

- في لقاء مع ملك البلاد ، في الديوان الملكي ، ضم عدداً من النواب ، من رؤساء اللجان النيابية ورؤساء الكتل ، ولم يحضرها من كتلتنا إلا كاتب هذه السطور ، وعلى طعام الغداء ، جرى حديث تكلم فيه عدد من النواب ، واستأذنت بالحديث ، وكنت قد أعددت ورقة ، واستشرت الأخ الشيخ عبد الرحيم العكور بشأنها ، واتفقنا على قراءتها إذا كان ذلك ممكناً ، أو التحدث بما تضمنته ، إن تعذرت قراءتها ، أو تسليمها باليد ، إذا لم أتمكن من الخطوتين السابقتين. ولما كان متعذرا علي قراءتها على مائدة الطعام ، فقد تحدثت بمضمونها ، واستهلك حديثي بمآثر الشعب الأردني ، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وجدارته بكل خير. مستشهدا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « تفتحون الشام من بعدي من رفح إلى الفرات مرابطون إلى يوم القيامة رجالهم ونساؤهم وإماؤهم ». ثم تحدثت حول مفهومنا للوحدة الوطنية ، التي تقوم على الحقوق والواجبات ، وتحدثت عن الكرامة الإنسانية ، وضرورة التوازن بينها وبين الأمن الوطنين وأشرت إلى الممارسات التي تقوم بها الحكومة خلافاً للحق وللدستور وللتوجيهات الملكية. كما تحدثت عن التطوير والإصلاح الإداري ، وأكدت أن التطوير ما زال في مرحلة التنظير ، وأن التطوير الحقيقي ينطلق من قول الله عز وجل على لسان ابنة الرجل الصالح في مدين : « يا أبت أستئجره أن خير من استأجرت القوي الأمين ». وقد كنت أقرأ الإصغاء التام ، والاهتمام البالغ في قسمات وجه صاحب الجلالة ، يقابلهما امتعاض في نظرات صاحب الملك من رئيس الحكومة ، أن يتحدث عن الاتفاق مع الإخوة الفلسطينيين ، وكان وفد فلسطيني قد زار الأردن ، وأجرى مباحثات اقتصادية ، ولكن رئيس الحكومة قال : « أريد أن أرد على النائبحمزة منصور ، لأن من يسمعه يظن أننا نعمل خلافاً لتوجيهات جلالتكم» ولكن الملك أصر على الحديث عن المباحثات الاقتصادية ، معلقاً بجملة قصيرة : أن النائب لا يعجبه النموذج الأفغاني ، ولا يقبل بأي إخلال بالأمن. وقد أبلغني سماحة الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني بعد أيام ، حيث كنا نلتقي للمعايدة في مقر جهة العمل الإسلامي ، نقلاً عن أخيه محمد رسول الكيلاني ، وكان يومها مستشارا للملك « إن صاحبكم بلغ أقوى رسالة بأعلى قدر من الأدب ».

- حين صدر إعلان واشنطن بشأن المفاوضات الأردنية الإسرائيلية ، اتصل بي وزير الداخلية ، وكان يومها السيد سلامة حماد. وطلب مني مقابلته في مكتبة في تمام الساعة الخامسة مساء. وفي الوقت المحدد كنت في مبنى الوزارة ، بعد أن أبلغت الأخ الأمين العام بالطلب ، واستقبلني الوزير مرحباً ، وقدم بمقدمة ركز من خلالها على الدور المسئول لجماعة الإخوان المسلمين ، وحرصهم على أمن البلاد ، والعلاقة التاريخية مع النظام ، وأنهم لا يقارنون بالأحزاب الأخرى ، التي راح يستعرض بعض ممارساتها وعلاقاتها ، كما يراها ، وخلص من ذلك إلى طلب إلغاء الاعتصام الرمزي ، الذي كان الأمناء العامون لأحزاب المعارضة قد قرروه ، بحجة أن الظرف دقيق ، والمرحلة لا تحتمل مثل هذا الاعتصام. فأجبته : أن هذا القرار ليس قرار جبهة العمل الإسلامي ، ولكنه قرار ثمانية أحزاب ولا أستطيع إلغاءه ، لا أنا ولا الأخ الأمين العام.

وحين يئس من محاولة إقناعي انصرفت ، ولم يمض طويل وقت حتى تم استدعاء الأمناء العامين للأحزاب إلى رئاسة الوزراء ، وكنت أحد المشاركين إلى جانب الأخ الأمين العام. ولدى وصولنا الرئاسة تبين لنا أن الاجتماع غير عادي ، وأنه من مجلس الأمن القومي ، وأن المطلوب الضغط على أصحاب القرار بالاعتصام لإلغائه. وقيل ليلتها كلام كثير وخطير ، ولكن أصحاب القرار بالاعتصام ، وعلى رأسهم أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي تمسكوا بقرارهم. لأن هذه الفعالية يقرها الدستور ، وهي حق طبيعي للمواطنين ، وتمثل الحد الأدنى إزاء الحدث الجلل. وفي صبيحة اليوم التالي ، وفي الساعة المحددة ، كان قادة الأحزاب في مقدمة المعتصمين أمام المسجد الحسيني الكبير.

- على أثر مجزرة عيون قارة ، التي راح ضحيتها عدد من العمال الفلسطينيين ، على أيدي قوات الاحتلال الصهيونية ، وفقاً لخطتهم الرامية إلى تهجير الشعب الفلسطيني أو إبادته ، اتصل بي مدير شرطة العاصمة ، العميد غالب الزعبي ، وسألني عن مسيرة كان مقرراً القيام بها في الوحدات تضامنا مع الشعب الفلسطيني ، وتعبيرا عن الرفض للممارسات الصهيونية ، وسألني عن مشاركتي وأخي الدكتور أحمد نوفل في هذه المسيرة ، فأجبته بالإيجاب ، فطلب إلى إلغاء المسيرة فقلت له : أنا مشارك في هذه المسيرة ، ولست صاحب القرار في تسييرها ، وبالتالي فأنا لا أملك إلغاءها ، فأبدى مخاوفه من الآثار التي ستترتب على هذه المسيرة. فقلت له : أنا ضامن أن مسيرة الإخوان المسلمين مسيرة حضارية ، ليس من أهدافها التعرض لأمن الوطن أو تخريب المنشآت. وعقب صلاة الجمعة انطلقت المسيرة من مسجد المدارس ، وانضم إليها بعد ذلك أعداد كبيرة من أدوا الصلاة في مساجد أخرى ، وجابت شوارع الوحدات ، وألقيت الكلمات ، وعلت الهتافات المعبرة عن المناسبة بانضباطية عالية ، وحققت المسيرة الهدف المقرر لها ، واستجاب المشاركون لطلب قيادة المسيرة بالانصراف راشدين. وعندها توقفت قليلاً ، عند ثلة من رجال الأمن ، وحييتهم ، واستفسرت منهم فيما ، إذا رأوا أو سمعوا ما يكرهون ، فأجابوا بالنفي ، فحمدت الله تعالى على رشد شعبنا وأصالته.

لدى مشاركتي في وفد مجلس الأمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 95 برئاسة العين طاهر حكمت ، اشتمل برنامجنا على عدد من الأنشطة ، منها زيارة الكونجرس الأمريكي ، والخارجية الأمريكية ، ومراكز الدراسات ، وهنا أسجل لرئيس الوفد حرصه على إعطائي الفرصة في التحدث بعده مباشرة ، باعتباري ممثلا للمعارضة الأردنية ، وكان الحديث غالباً ينصب حول موقف الولايات المتحدة الأمريكية من القضايا العربية والإسلامية ، وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي ، وكان حديثاً واضحاً وصريحا ، يدين الانحياز الأمريكي للعدو الصهيوني ، ويطالب بموقف محايد ، استناداً إلى المبادئ التي يتغنى بها الأمريكان ، ووفقاً لمصالحهم ، وهي بالتأكيد مع مليار وربع المليار من العرب والمسلمين ، وليست مع بضعة عشر مليون يهودي. وحين سئلت عن وجهة نظري في حل القضية الفلسطينية أجبت : الأمر بسيط ، هنالك مهاجرون يهود ، ومهاجرون عرب ، فاليهودي يعود من حيث جاء ، والعربي يعود من حيث أتى ، فشامير يعود إلى بولندا ، وأنا أعود إلى مرج ابن عامر.

إن هذه الصراحة والوضوح في التعبير عن القناعة المستندة إلى مبادئ الأمة وثوابتها ، يعود الفضل فيها إلى التربية الدعوية التي تقول أبجدياتها : (وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك). على أن الشجاعة عند الإخوان المسلمين لا تعرف التهور ، فهي منضبطة بضوابط شرعية. فالصراحة لا تعني التطاول على الناس ، والتمسك بالموقف لا يعني التعنت والتعصب ، ولكنهم يقابلون الحجة بالحجة ، ويوازنون بين صلابة الموقف وأدب الخطاب ، وتلك لعمر الحق عين الحكمة. أذكر أن مجلسا جمعنا ذات يوم مع السيد ذوقان الهنداوي ، نائب رئيس الوزراء ، وقد أورد بعض الشواهد على تجاوزات بعض الخطباء -والحكومة حساسة في الغالب إزاء خطب الجمعة- فقال : أن خطبة الشيخ حمزة تأتينا كل أسبوع ، ورغم قوة الطرح إزاء القضايا التي يتناولها ، إلا أننا لا نجد ملاحظة واحدة تشكل خروجاً على القانون ، وإن كانت هذه الشهادة لم تحمني من سيف وزارة الأوقاف التي نفذ صبرها ، في الذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين ، فاصدر وزير الأوقاف قراره بتوقيفي عن الخطابة ، ولكن هذه التصرفات الرسمية لن تستفزنا ، ولن تخرجنا عن الحكة التي لا نعترف بشجاعة لا ترافقها الحكمة ، شعوراً ما أننا أم الولد كما يقولون.

الدرس السادس : جرأة في الحق

إن هذه الدعوة التي تستهدف إقامة منهج الله في الأرض ، تستلزم قدراً عالياً من الجرأة والإقدام ، لأن الطريق محفوفة بالمكاره ، ومن هنا فإن حمل الدعوة يحتاج إلى جرأة ، وتبليغها يحتاج إلى إقدام ، والقيام بشرائط عضويتها يحتاج إلى شجاعة ، وتنفيذ واجباتها يحتاج إلى مثل ذلك.

ومن هنا فإن الدعوة ببرامجها التربوية ، والنماذج العملية التي تقدمها ، تربي أفرادها على الجرأة في قول كلمة الحق ، فالخطبة الإخوانية متميزة في وضوحها وصراحتها ومعالجتها للقضايا الهامة ، والبيان الإخواني لا يجامل ولا يتجاهل الحقائق ، والخطاب الدعوي والسياسي يصدع بالحق. لذا فلا غرابة أن نجد قطاعات الحقائق ، والخطاب الدعوي والسياسي يصدع بالحق. لذا فلا غرابة أن نجد قطاعات عريضة تلهج ألسنتها بالثناء على جرأة الإخوان المسلمين وشجاعتهم ، وأود أن أورد بعض الشواهد على ذلك :

- حين كنت خطيباً لمسجد « أبو علندا الكبير » في منتصف السبعينيات ، وكنت قد تشرفت بهذه المهمة منذ عام 1970 ، وكنت أدرك أن الخطيب مراقب ، وأن خطبة الجمعة تتم دراستها من أطراف عدة ، وأن مسألة تترتب على كل ما يراه أصحاب القرار تجاوزا للخطوط الحمراء. ولكنني كنت على يقين أن اعتلاء المنبر أمانة ، لا يجوز أن يرتقي إليها إلا من أداها بحقها ، ومن تأديتها بحقها قول كلمة الحق ، وأن أغضبت بعض الجهات رسمية كانت أو شعبية. فالحق أحق أن يتبع ، والله سبحانه يقول وهو أصدق القائلين : « فلا تخشوا الناس واخشون » والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحقرن أحدكم نفسه » وحين سئل عليه الصلاة والسلام : كيف يحقر أحدنا نفسه؟ أجاب : « أن يقف موقفاً فيه لله مقال فلا يقول؟ ». لقد كنت حريصاً أن تكون الخطبة معنية بالمستجدات على الساحة المحلية والوطنية والإسلامية ، وأن أربط كل ذلك بهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام ، إدراكا مني أن تناولها مجردة يجعلها حديثاً صحفياً ، وعرض هدي محمد صلى الله عليه وسلم دون تنزيله على الواقع فصل للدين عن الحياة. وقد كان بعض الرقباء أحياناً ، يتعاملون بأساليب قديمة وسطحية ، وتخرج عن حدود الذوق العام. أذكر أن أحدهم كان يقف بأساليب قديمة وسطحية ، وتخرج عن حدود الذوق العام. أذكر أن أحدهم كان يقف بلباسه الرسمي بباب المسجد ، ويمسك بورقة وقلم ويدون ما يرى تدوينه مما يرى ويسمع. حتى إذا قضيت الصلاة رجاني أن أوصله إلى مكان عمله في طريقي ، فسألته ذات يوم : هل أنت مسلم؟ فأجاب « نعم ». فقلت له : أن الذي يراك واقفاً خارج المسجد ، أثناء الصلاة يظنك غير مسلم. فهلا أديت الصلاة واستمعت إلى الخطبة بنية العبادة. فقال : « إنها وظيفة » فقلت : « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » وبإمكانك إن كنت فاعلاً لا محالة -وأنا أرى أن التجسس على المسلم حرام- أن تحضر معك مسجلاً ، وأن تسجل ما تسمع دون أن تخسر الصلاة وتعرض نفسك لانتقاد الناس ».

كنت أرى مثل هذا الرقيب ، ولكنني أمضي في خطبتي كما أعددت لها ، دون اعتبار لمن يكتب أو يسجل ، إيماناً مني بأن مخافة الله هي التي تحدد ما أقول وليست رقابة الرقباء.

ومثل هذا الموقف يتكرر في كل ندوة أو محاضرة أو مهرجان ، ورائدنا في ذلك ما تعلمناه في الدروس الأولى في جماعة الإخوان المسلمين ، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ». ومن ذلك أيضاً تناول ما يجد على الساحة المحلية بروح النصح والإشفاق والتحذير ، وليس بروح الفضيحة والتشفي والتشهير. فلقد بلغني ذات يوم أن تنافسا بين أبناء العمومة في الانتخابات البلدية ، خرج عن حده المقبول فاستحضرت حالة مشابهة شهدتها سحاب ، وكان الثمن غالباً ، حيث خلفت دماء وجراحات واعتقالات وعداوات. فكان لا بد لي أن أحذر من مغبة ما يترتب على هذا التنافس ، وقد قدرت أن تناول الموضوع ليس سهلاً بسبب حساسيته. فجعلت موضوع خطبتي الإمارة والأمير ، ومسست الموضوع مسا خفيفاً ، أدركت أنه وصل قلوب العقلاء ، وبعد الصلاة وقف أحد المصلين وقال : « الليلة على بيت أبو راشد حلال المشاكل ». وكم سعدت في الجمعة التالية ، حين علمت أن الأمر تمت تسويته ، وتجنبت البلدة شراً نستعيذ بالله منه. والأمثلة على ذلك كثيرة منها أنني علمت ذات يوم أن التنافس دفع ببعض المواطنين إلى تصيد الأخطاء والمناسبات ، للإيقاع بمنافسيهم ، ولا سيما بعد أن رأيت نفرا منهم في أحد المراكز الأمنية ، فصعب علي ذلك ، وأنا حريص على أن تبقى هذه البلدة بمنأى عن الشحناء والبغضاء. فعزمت على جعل هذا الموضوع محور خطبتي ، وتخيرت له القاعدة المناسبة من معاني الأخوة ، متجلية في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلوك أصحابه عليهم رضوان الله. وتأسيسا على ذلك فقد حذرت من الظنون ، وتتبع العورات ، والإيقاع بالمسلمين وإيذائهم ، مستشهدا بفيض من النصوص القرآنية الكريمة ، والنبوية الشريفة ، دون أن أدخل في التفاصيل على قاعدة « ما بال أقوام ». وكم كانت سعادتي حين بشرني أبو هلال بعد ليال ، بأن القضية قد انتهت ، ووئدت الفتنة في مهدها. إن الشر من مستصغر الشرر ، وأن خير أسلوب للتعامل مع المشكلات الجرأة في المواجهة ، والحكمة في التعامل ، والصدق في النية ، فتحسم الشرور ولا تتفاقم فتصبح داء عضالا.

- حين تقدم الرئيس المكلف الشريف زيد بن شاكر ببيان حكومته ، طالباً الثقة على أساسه ، قال لي أحد كبار الضباط المتقاعدين : « لن يجرؤ أحد على حجب الثقة عن الرئيس ، أو الاعتراض على بيان حكومته. لان هذا الرئيس ليس كسائر الرؤساء ، الذين حجبتهم عنهم الثقة ، فهو قائد عسكري ، وابن عم الملك. فقلت له : أنك لا تعرف حقيقة الإخوان المسلمين ، أنهم يستندون في مواقفهم إلى القواعد الإسلامية. ويقتدون في ذلك بأصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، الذين كانوا يقولون : « لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها » وجاء موعد مناقشة البيان وأعد الإخوان ردهم عليه وتم إلقاؤه في الموعد المحدد ، وكان كما أراد الإخوان ، وكما يؤمل فيهم من يعرفهم. وأذكر أننا ضمنا لقاء مع رئيس الوزراء بعد أن استمع إلى كلمتنا فقال : « كنت أتوقع أن تحجبوا الثقة عن حكومتي ، ولكن لم يخطر لي ببال أن ردكم سيكون بهذه القوة » فكان جوابنا أن قوة الطرح أمانة ، نتحمل مسئوليتها عند الله ، أما الأدب فهو خلقنا في التعامل ، فهل رأيت منا خروجاً على الأدب؟ قال : « لا » قلنا : « الحمد لله».

- وحين نعوض الشيخ عبد المنعم أبو زنط لاعتداء آثم ، أثناء خروجه من مسجد أبي هريرة ، عقب صلاة الجمعة ، اتصل بي بعض الإخوة من منطقة حي نزال ، لإبلاغي بما حدث ، فسارعت إلى الاتصال برئيس الوزراء الدكتور عبد السلام المجالي ، ولكنني لم أتمكن من مهاتفته فاتصلت بوزير الداخلية السيد سلامة حماد ، وحين سمعت صوته قلت : « أوفعلتموها يا أبا ماهر؟ وهل وصل بكم الحد أن تضربوا الشيخ عبد المنعم أبو زنط؟ فقال : « الشيخ بخير وهو يهتف للإسلام ». فقلت : « سنبقى نهتف للإسلام ». وعلى الفور ، هاتف الأخ الأمين العام الدكتور إسحق الفرحان ، مخبرا إياه بما تم ، واقترحت عليه سلسلة من اللقاءات ، لقاء للمكتب التنفيذي فوراً ، ولقاء للجنة القانونية ، ولقاء للأمناء العامين لأحزاب المعارضة ، ولقاء لنواب كتلة جبهة العمل الإسلامي ئ، ثم لقاء لجميع النواب في تمام الساعة الثامنة مساء ، ولقد كان أبو أحمد كعادته يحترم اقتراحات إخوانه ، وينزل على الصائب منها ، ويتحمس لها وكأنها صادرة عنه ثم هاتفت الشيخ عبد العزيز جبر ، واتفقت معه على التوجه إلى مسجد أبي هريرة ، حيث كنت قد أبلغت أن المصلين محاصرون في المسجد ، وخلال دقائق معدودة توقفنا على مقربة من المسجد ، حيث وجدنا أعداداً كبير من رجال الأمن يحيطون بالمنطقة ، ومضينا في طريقنا بعد أن عرفناهم بأنفسنا إلى المسجد ، ولكن المسجد كان قد خلا تماماً من المصلين ، ولم يعد فيه أحد. وبعد سلسلة من الاجتماعات التي اتفقنا عليها ، وبعد أن أطمأننا على وضع إخينا في المستشفى ، حيث قام الإخوان عبد العزيز جبر والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني بزيارته ، كما قام رئيس مجلس النواب بزيارته كذلك ، اتفقنا على كيفية التحرك من خلال مجلس النواب. وقد عهد إلى الدكتور عبد الله العكايلة بإلقاء كلمة باسم الكتلة النيابية ، تدين الاعتداء ، وتحمل الحكومة مسئوليته ، وتطالب بتشكيل لجنة برئاسة رئيس مجلس النواب للتحقيق فيما جرى ، وتقديم تقريرها للمجلس. وجاءت كلمة الدكتور العكايلة متناسبة مع قداحة الحادث. المتمثل بالاعتداء على نائب يمثل الشعب ويحظى بثقته ، فضلاً عن أنه شيخ معمم ، وإن الاعتداء عليه تم في بيت الله عز وجل. ونظراً لقوة الطرح وسلامة التحرك ، فقد كان التجاوب في أعلى مستوياته. وتم تشكيل اللجنة المعنية بالتحقيق.

- حين فرغت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب من مناقشة معاهدة وادي عربة ، والتنسيب بالموافقة عليها ، بعد أن استبسل إخواننا في محاولة إقناع الزملاء برفضها. بعد أن كشفنا الكثير من عيوبها وأخطارها. قرر رئيس مجلس النواب دعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشتها في جلسة صباحية. وقد أعد كل واحد من أعضاء الكتلة كلمة ، توضح أخطار المعاهدة ، وتدعو إلى عدم الموافقة عليها ، بينما سجل إخواننا أعضاء اللجنة -وكنا يومها ثلاثة- مخالفة مدروسة بعناية لأغلبية أعضاء اللجنة. وفي طريقي إلى مكتب نواب جبهة العمل الإسلامي أبصرت انتشاراً أمنيا واسعاً ، ومظاهر عسكرية غير مسبوقة. في المنطقة المحيطة بمجلس الأمة. فهاتفت رئيس الوزراء ، فلم أعثر عليه ، ثم هاتفت نائب رئيس الوزراء قائلاً ماذا يعني الانتشار الأمني الكثيف؟ وهل تريدون مناقشة المعاهدة تحت الحراب؟ أرجو أن لا تذكرونا بعام 1970 ، أنني أطالب بإزالة المظاهر المسلحة لتتم المناقشة في ظروف عادية. وفي اجتماع عاجل لأعضاء الكتلة تم الاتفاق على المكث في قاعة الصور حتى تزول المظاهر العسكرية ، وتوجه إخواننا وبعض الزملاء الذين يقفون موقفنا من المعاهدة إلى قاعة الصور ، وإصرارنا على عدم دخول قاعة المجلس حتى تتم إزالة المظاهر المسلحة. وحين اكتمل النصاب لم يكن أمامنا إلا الدخول حتى لا نخسر فرصتنا في إلقاء كلماتنا ، وحتى لا يقال أن الموافقة على المعاهدة تمت بالإجماع. وبعد تلاوة تقرير لجنة الشئون الخارجية جاء دوري في إلقاء مخالفتي ، وكانت الحكومة قد حشدت أعداد كبيرة من العناصر الأمنية ، أو سمحت بدخولها على الأقل بملابس مدنية. وأخذوا أماكنهم في الشرفات ، وحين بدأت بإلقاء مخالفتي في إظهار أخطار المعاهدة ، كانت تتعالى الأصوات من الشرفات ، بغية التأثير علي ، أو التعبير عن رفضها لما أقول. فتوقفت عن تلاوة المخالفة ، ووجهت الحديث إلى رئيس المجلس ، مطالباً إياه بالاضطلاع بمسئولياته ، وتطبيق النظام الداخلي الذي يوجب عليه وقف التشويش ، وعدم السماح بعبارات الاستحسان والاستهجان. وحين كررت الطلب مهدداً بالتوقف عن الحديث وارتفعت أصوات إخواني بالاحتجاج على ممارسات الحضور ، الذين جيء بهم للتشويش ، وعلى عدم تعامل رئيس المجلس بالحزم إزاء هذه المخالفات. عندها استجاب رئيس المجلس وحاول وضع حد للتشويش. لقد كنا ننطلق في هذه المواقف من منطلقين ، أولهما إرضاء الله تعالى ، الذي أوجب علينا تقديم النصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتستقيم الأمور ، ولنحمي أنفسنا من سخط الله واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب. وثانيهما وفاء بالأمانة التي أناطها بنا شعبنا الطيب الذي قال : « نعم للإسلام هو الحل » فهي وكالة عن الشعب ، ينبغي القيام بها بأمانة ، وإلا عد السلوك نكوصا عن الواجب ، وتضييعا للأمانة ، وتفريطا بالحقوق.

الدرس السابع: أدب من غير ذلة

أن دعوة تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك حملتها إلا أن يكونوا على قدر عال من الأدب ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من رقة في الطبع ، وسماحة في التعامل ، وحلم مع الجاهل ، وإيصال للرسالة بسلاسة ويسر ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس مع الجاهلين ، وأوسع الخلق صدرا مع المسيئين ، وأعظم الناس عفواً حين يمكنه الله من المتطاولين عليه والمجترئين. والأمثلة على ذلك حافلة بها كتب السنن والسير. ولما كانت دعوة الإخوان المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم مقتدية ، ولخطاه مقتفية ، فقد أتيح لحملتها قدر عال من هذا الشرف. ولعل في مقدمتهم الإمام الشهيد حسن البنا ، الذي طالما علم إخوانه وأصحابه العبارة المأثورة : « كونوا مع الناس كالشجر ، يرمونه بالحجر ، فيرميهم بالثمر » وما أعظمها حكمة تفتح لصاحبها قلوب العالمين! ولعل هذه الميزة في مقدمة الميزات التي جمعت القلوب على حبه ، ولعل من خير ما علمت عنه في هذا المجال حادثة رواها لنا الشيخ محمد جبر ، فقد كنا نغشاهما ، ونجلس إليهما ، ونتبادل الأحاديث معهما ، فروى لنا هذه الواقعة فقال : كان في مصر ثلاثة إذا قالوا نعم قال شعب مصر نعم ، وإذا قالوا لا قال الشعب لا. أنهم حسن البنا ويوسف القرضاوي وحسن دوح. ولم يشأ أن يتركنا دون مثال يؤكد من خلاله الفكرة التي أوردها ، ويكشف عن السر الذي من أجله تربعوا على عرش القلوب فقال : « كان الإخوان المسلمون قد بنوا سرادقا ضخماً في إحدى المناسبات ، واجتمع فيه خلق كثير ، وكان المتحدث الشيخ حسن البنا رحمه الله ، فاستأجر بعض خصومهم السياسيين أحد رجال العصابات ليفشل هذا الحفل على الإخوان ، واسمه إبراهيم كروي. فدخل إبراهيم السرداق ، وكان الإمام البنا قد وقف للحديث ، فبادره الإمام الشهيد بالتحية على الطريقة المصرية « أي يا سي إبراهيم آنست وشرفت » فرد على التحية بقوله : « لا آنست ولا... » فقال الإمام : « أي يا سي إبراهيم عايز آية »؟ فأجابه إبراهيم : « ما فيش حفل » فقال الإمام « حاضر » ثم قال : « ما رأي سيادتك أتكلم خمس دقائق؟ فقال إبراهيم : « تكلم » فلما انتهت الدقائق الخمس قال .: « آي يا سي إبراهيم أتكلم ولا بلاش »؟ فقال : « تكلم » فتكلم خمس عشرة دقيقة وتوقف ، ووجه سؤالاً آخر : « آي يا سي إبراهيم أتكلم ولا أوقف »؟ فقال إبراهيم : « تكلم لي بقول لك وقف حاوقف إدماغه ». هذا درس بليغ لمن كان له قلب. لقد كان باستطاعة الشيخ أن يامر اثنين من إخوانه فيخرجاه من السرداق ، ويعلماه أن الإخوان ليس حائطهم واطيا ولكنه أراد أن يعلم الناس كيف تكسب القلوب وتستل الأحقاد والسخائم. فليت الذين ينفرون الناس من الدعوة بفظاظتهم وتجهمهم وتعاليهم عليهم والعجز عن استيعابهم يتعلمون من الإمام المعلم ، الذي جدد فينا هدي نبينا عليه الصلاة والسلام.

- اذكر أن نفرا من النواب دعوا ذات يوم إلى لقاء مع الأمير الحسن. وكنت أحدهم ، والأمير كما هو الملك ، يرغب بين الفينة والفينة في مثل هذا اللقاء ، يسمع من خلاله ويسمع ، ويوصل بعض الرسائل. فأدليت يومها بدلوي كسائر الحاضرين. وأنا أحرص في مثل هذه المناسبة أن أكون معبراً عن دعوتي ، لأدفع عنها ظلم الظالمين ، ممن لا يتقون الله فيحاولون أن يوغروا صدور المسئولين على الدعوة والدعاة. وهذا بعض ما ابتليت به دعوتنا وأمتنا. فتحدثت يومها عن وطنية الإخوان المسلمين ، التي أفرد هلا الإمام الشهيد مساحة كبيرة في الرسائل ، وعن مفهومنا للوحدة الوطنية والأمن الوطني ، وقد قدمت لذلك بعبارة : أن جلسة يديرها أمير عالم توفر فرصة كبيرة للمصارحة وإن كانت هذه العبارة أسيء فهمها واستغلالها ممن يستكثرون على المرء كلمة يفهم منها مدح المسئول واعتقد أن هذه إحدى السلبيات التي ابتلى بها بعضنا... وكنا يومها في بدايات معركة سياسية تتعلق بتوجه الحكومة لرفع الدعم عن الخبز والأعلاف ، وأذكر مما قال : « لقد استمعت بالأمس إلى الشيخ حمزة منصور وهو يتكلم فأحسست أن الوطن يتكلم » ، وذلك في معرض حديثه عن مسئولية الحركة الإسلامية ، ودورها في خدمة الهم الوطني. وأجد من الأمانة هنا أن أؤكد ، أن الرجل كثيراً ما كان يؤكد على أهمية استمرار التفاهم والانسجام ، بين الحركة الإسلامية والنظام خدمة للجميع ، وحماية للأردن مما ابتليت به بعض الأقطار العربية ، جراء الصدام بين الأنظمة والإسلاميين.

أن اختلافنا مع الحكومات ، ومعارضتنا لسياساتها ، وإنكارنا للمنكرات لا يجوز أن يخرجنا عن أدب الإسلام ، فهنالك فرق بين من يريد أن يصلح فساداً ، أو يقوم اعوجاجا ، أو يوصل رسالة ، وبين من يريد أن ينتصر لنفسه. وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام غنية بالأمثلة. فهو يكتفي في كثير من الأحيان بالتلميح والإشارة ، إذا كانا يغنيان عن الصراحة فلا يعنف ، ولا يحرج ، لأن النفوس إذا جرحت جمحت ، وصعب ردها إلى الجادة ، فكان كثيراً ما يقول : « ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ». وقد سار الإمام حسن البنا على هدي معلم الناس الخير ، فهو يوصي إخوانه بقوله : « لا تجرحوا الأشخاص ولا الهيئات » فرب كلمة لم يقدر صاحبها آثارها دفع وغيره ثمنها غالياً.

وفي ضوء هذا الفهم حرصت فيما أقول وأكتب على التزام هذا الهدي. فأذكر أننا التقينا ذات يوم في مكتب رئيس الوزراء ، وكثيراً ما كنا نتصارح ونتناصح. وكان بعض المسئولين يأخذ على بعضنا عبارات تند من خطيب ، تحمله عليها حرارة المناسبة ، أو صعوبة المرحلة. ولا نستطيع أن ندافع عن موقف خاطئ أو عبارة في غير موقعها ، ولكننا نطالب بتقويم الموقف كاملاً ، وعدم الاقتصار على نماذج قليلة أو عبارات محدودة ، فالموضوعية تقتضي استعراض كل ما يصدر عن الخطباء والكتاب والمتحدثين ، للوقوف على الإيجابيات والسلبيات. وأما أن يصبح تصيد خطأ هنا وزلة هناك هدفاً للتحريض على الدعوة الإسلامية. فذاك أمر تأباه الأمانة والموضوعية. واذكر يومها مقالة للأستاذ ذوقان الهنداوي ، نائب رئيس الوزراء : « أننا في كل أسبوع نستعرض خطبة الأستاذ حمزة منصور فنجدها أكثر ما تكون جرأة وصراحة ، ولكننا لا نجد فيها كلمة يمكن أن تعرضه للمسألة ».

ولقد كان أخونا المرحوم أحمد الأزايدة مجليا في هذا المجال ، كما هو في كثير من المجالات. فمن يستمع إلى كلمته في ندوة محاضرة أو مهرجان أو احتفال ، أو تحت القبة ، يجد قوة في الطرح ، وأدباً في التعبير ، نال به ثقة الكثيرين ومحبتهم ، وكثيراً ما عبروا عن مشاعرهم الطيبة إزاء هذا السلوك المتميز. ولعل أستاذنا عمر التلمساني بلغ الذروة في هذا الفن ، فكانت مقالته في مجلة الدعوة مناسبة عزيزة للالتقاء معه في كل شهر ، كان يعيش قضايا أمته ويتفاعل معها ، ويتقن فن إبرازها وحشد التأييد لها ، وكان حساساً إزاء السلوكات السياسية الخاطئة ، ويحسن تسديد السهام إليها ، ولكن القارئ يحس أن كل سهم منها قد تم تغليفه بمنديل من حرير. وهو في ذلك يصدر عن أدب الخطاب القرآني ، والهدي النبوي ، ولعل في التوجيه القرآني الكريم لموسى وهارون عليهما السلام خير دليل ت اذهبا إلى فرعون أنه طغى ، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى فإذا كان هذا هو أسلوب مخاطبة فرعون الذي طغى ، فكيف يكون ث مع من لم يبلغ درجته في الطغيان؟ وهذا الأدب يشيع في التوجيهات القرآنية ، حتى في توجيه خير الخلق وأوفرهم أدباً « ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر »... بل أن في الحوار الرقيق من مؤمن آل فرعون وهو يهتف بقومه ، في محاولة منه لهدايتهم وإخراجهم من دائرة نفوذ الطغاة أسوة حسنة « يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ».. « وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ». وقد آثرت التوسع في الاقتباس من كتاب لله عز وجل ، لأن مما دها بعض الناس في هذه الأيام ، أنه خيل غليهم أن التجهم واصطناع الجدية دليل التميز والالتزام ، وأن الرفق ولين الجانب سمة المفرطين ، وغاب عنهم أن ألين الناس جانباً ، وأرفق الناس بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لما كان جديرا بقول الله عز وجل (وأنك لعلى خلق عظيم). ولعل من أجمل ما قرأت في هذا المجال ما ورد في كتاب مذكرات الدعوة والداعية للإمام الشهيد حسن البنا ، فقد ذكر تحت عنوان نماذج من تصرفات الرعيل الأول هذه الواقعة : « استدعى المسيو سولت باشمهندس القنال الأخ حافظ ، ليصلح له بعض أدوات التجارة في منزله ، وسأله عما يطلب من أجر فقال : (130) قرشاً ، فقال المسيو سوليت بالعربي « أنت حرامي » فتماسك الأخ نفسه وقال له بكل هدوء : لماذا؟ فقال : لأنك تأخذ أكثر من حقك. فقال له لن أخذ منك شيئاً ، ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرؤوسيك ، فإن رأي أنني طلبت أكثر من القدر المناسب فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل فعلاً مهندساً وسأله ، فقدر أن العمل يستوجب (200) قرش ، فصرفه المسيو سولت وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل. فقال له : سأفعل ، ولكنك أهنتني فعليك أن تعتذر ، وأن تسحب كلمتك ، فاستشاط الرجل غضباً ، وغلبه الطابع الفرنسي الحاد ، وأخذته العزة بالإثم وقال : تريد أن أعتذر لك ، ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما اعتذرت له. فقال حافظ في هدوء أيضاً : وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولت ، فأنت ي بلد الملك فؤاد ، وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا الكلام ، وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام. فتركه وأخذ يتمشى في البهو الفسيح ، ويداه في جيب بنطلونه ، ووضع حافظ عدته وجلس على كرسي واتكأ على منضدة ، وسادت فترة سكون لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الحائر. وبعد قليل تقدم من حافظ وقال له : افرض أنني لم أعتذر لك فماذا تفعل؟ فقال الأمر هين ، سأكتب تقريراً إلى قنصلكم هنا ، وإلى سفارتكم أولاً ، ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس بباريس ، ثم إلى الجرائد الفرنسية المحلية والأجنبية ، ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس فأشكوك إليه ، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك ، استطعت أن أهينك في الشارع وعلى ملأ من الناس ، التي قيدتموها بسلاسل والامتيازات الأجنبية الظالمة ، ولكنني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريق. فقال الرجل : يظهر أنني أتكلم مع « أفوكاتوا لا نجار » ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس ؟ فكيف تتصور أن أعتذر لك؟ فقال حافظ : ألا تعلم أن قناة السويس في وطني لا في وطنك ، وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة وستنتهي ، ثم تعود الينا فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا ، فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ وانصرف الرجل إلى مشيئته الأولى ، وبعد فترة عاد مرة ثانية وعلى وجهه أمارات التأثر ، وطرق المنضدة بيده في عنف مرات وهو يقول : أعتذر يا حافظ سحبت كلمتي فقام الأخ حافظ بكل هدوء وقال : متشكر يا مسيو سولنت وزاول عمله حتى أتمه. وبعد الانتهاء أعطاء المسيو سولنت 150 قرشاً ، فأخذ منها 130 قرشاً ورد له العشرين. فقال له خذها بقشيشا ، فقال لا لا حتى لا آخذ أكثر من حقي فأكون « حرامي » فدهش الرجل وقال : إني مستغرب ، لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت « فاميلي محمد » فقال حافظ : يا مسيو سولنت كل المسلمين « فاملي محمد » ولكن الكثيرين منهم عاشروا « الخواجات » وقلدوهم ففسدت أخلاقهم. فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلاً : متشكر. متشكر. كثر خيرك. وفيها الإذن بالانصراف ».

إن المتأمل في هذا الحوار يحس أنه إمام محام كبير وليس إمام نجار ، ولكنها التربية الإسلامية ، وصدق القائل « أدبني ربي فأحسن تأديبي ».

الدرس الثامن: مبادرة تؤتي أكلها

الإسلام يقدر الإبداع ، ويثيب عليه « من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها... ». ومن هنا فتاريخ الإسلام حافل بالمبادرات. فهناك مبادرات معاذ بن جبل « اجتهد رأيي » ونعيم بن مسعود « خذل عنا » وأبو جندل ، وصاحب النقب ، وغيرها. فالمبادرة المدروسة الواعية قوة للدعوة ، وأود أن أشير هنا إلى بعض المبادرات الشخصية ، التي تعلمتها من مدرسة النبوة ، من خلال المنهج التربوي للجماعة ، فما كانت دروس السيرة التي احتفى بها سلفنا الصالح إلا للتأسي والاقتداء ، ويوم تصبح وقائع السيرة مادة للحفظ أو للتسلية أو للمناسبات ، فإنها تفقد قيمتها « فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضواً عليها بالنواجد ».

- حينما نقلت من معان إلى سحاب عام 70 ، بعد خدمة استمرت خمس سنوات ، كانت من أحلى سني العمر ، وأكثرها بركة في حياتي ، راجعت الهيئة الإدارية للإخوان المسلمين في عمان ، واضعاً نفسي تحت تصرفها ، وفاء بالبيعة التي تشرفت بها ، وسألت الأخوة المعنيين إن كان في سحاب أحد من الإخوان المسلمين ، فكان الجواب سلبياً ، وسألت إن كان هناك من له علاقة سابقة بالإخوان ، فذكر لي شخص كانت له علاقة ولكنها لم تعد قائمة. فسألت عنه ، وتوجهت إليه ، زائراً ومعرفا ومحفزا على العمل لمصلحة الإسلام والمسلمين ، فرحب بي وأكرم وفادتي ، وعبر عن اعتزازه بالإسلام وبالدعوة الإسلامية ، التي هو مدين إليها ، وأضاف قائلاً : وإن ما تعلمناه في دعوة الإخوان المسلمين وجدنا الفرصة لتطبيقه من خلال حركة فتح ، حيث الجهاد في سبيل الله لتحرير المقدسات والأوطان ، فأدركت أن الرجل نحا منحى آخر ، ولكن ذلك لم يفت في عضدي ، ولم يمنعني من العمل ، بل زاد من درجة الدافعية لدي ، فيممت وجهي شطر المسجد ، ومن خلال المدرسة ، ولم يمض طويل وقت حتى تشكلت النواة ، وحسنت الصلة ، وامتدت الجسور ، وكثر الجمع ، وفتحت شعبةللإخوان المسلمين. أن الانكفاء على الذات ، والانشغال بالنفس بدعوى قلة الأنصار ، وصعوبة المرحلة ، مقبرة للدعوة والدعاة ، وأن الإحساس العالي بالمسئولية ، والمبادرة إلى العمل ، والتشمير عن ساعد الجد ، يجعل المستحيل ممكناً ، والصعب ميسورا ، فكثير من الدعوات والانجازات كانت فكرة في ذهن شخص أو أشخاص ، فوجدت لديهم روح المبادرة العالية ، فأصبحت ملء السمع والبصر ، وإن كثيراً من الفرص قد لا تتكرر ، وأن من الحكمة اغتنام هذه الفرص ، ولعل هذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : « بادروا بالأعمال سبعاً فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا ، أو غني مطغيا ، أو مرضاً مفسدا ، أو هرما مفندا ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر » فالبدر البدرا قبل أن يأتي زمان يقول فيه المرء « ليت ».

- حين أعتدي على الدكتور حسن الترابي في كندا ، أثناء رحلة له إلى الولايات المتحدة وكندا ، أجرى خلالها عدداً من الحوارات واللقاءات أسهمت في تأجيج الحقد عليه ، فكان قرار الاغتيال ، استمعت إلى الخبر من إذاعة لندن ، أثناء توجهي إلى عملي في مكتب النواب ، وقد تأثرت كثيراً للنبأ ، لما يمثله الدكتور حسن الترابي ، ليس في السودان فقط ، ولكن في العالم الإسلامي أجمع ، وقد رأيت لزاماً علي أن أقوم بعمل ما ، وفق ما تسمح به إمكاناتي ، وفاء بحق الإخوة ، وكنت يومها مقرراً للكتلة النيابية للحركة الإسلامية في المجلس النيابي الحادي عشر ، فعزمت على الاتصال بالأخ إبراهيم خريسات رئيس الكتلة ، عارضا عليه إصدار تصريح باسم الكتلة حول هذا الاعتداء فوافقني على ذلك ، فكتبت تصريحاً من بضعة أسطر ، أكدت من خلاله أن الدكتور حسن الترابي ليس مجرد رمز سوداني ، ولكنه بالإضافة إلى ذلك رمز عربي إسلامي ، وأن الاعتداء عليه اعتداء على كل عربي ومسلم ، وإن السلطات الكندية تتحمل مسئولية الحافظ على سلامته. وتم إرسال التصريح عبر جهاز الفاكس ، إلى عدد من وكالات الأنباء والصحف ، وقد اعتدنا حين نرسل بياناتنا وتصريحاتنا إلى وسائل الإعلام توجيهها إلى قرابة ستين مؤسسة إعلامية. ولم يمض نصف ساعة ، حتى راحت وكالات الأنباء تتصل بنا ، ونستفسر منا عن الحادثة ، ثم راحت تزودنا بآخر الأخبار ، بشأن الوضع الصحي للدكتور الترابي ، ولم يكن يخطر ببالي أن هذا التصريح سيكون له مثل هذا الأثر ، فقد نقل إلينا السفير السوداني شكر رئيس الدولة على هذه المبادرة ، كما أبلغني الإخوة الذين زاروا الدكتور الترابي بعد عودته سالماً ، مهنئين بالسلامة ، أنهم أخبروا أن تحولاً في المعاملة ، قد بدأ منذ ذلك التاريخ ، تاريخ إصدار التصريح الصحفي.

- حين برزت بعض الممارسات السلبية في بعض المباريات الرياضية ، ولا سيما في مباريات الوحدات والفيصلي ، عقد نواب المعارضة اجتماعاً لتدارس هذه الممارسات السلبية ، وخلصوا إلى أن هذا المنهج يشكل خطراً على الوحدة الوطنية والأمن الوطني ، ولا يستفيد منه إلا أعداء الوطن والأمة ، وعهد إلى المجتمعون بكتابة مذكرة موجهة إلى الملك ، كما كلفت بتدبر أمر إيصالها ، وبعد إعداد المذكرة ، اتصلت بالديوان الملكي ، معلماً أحد المسئولين بأن مذكرة نريد إيصالها ، فسألني من سيسلمها فقلت : إذا كان اللقاء مع الملك فإن نواب المعارضة مجتمعين سيسلمونها ، وإذا كان مع رئيس الديوان ، فإن أحدنا سيقوم بتسليمها. وإذا كانت ستسلم لمسئول آخر ، فإننا سنرسلها مع أحد الموظفين. وتم الاتفاق على إرسالها مع أحد الموظفين ، وغادرت مكتب النواب إلى لقاء في المركز العام ، فأخبرني سكرتير مكتب النواب ، إن الملك يرغب في أن أكلمه ، وأعطاني هاتفه الخاص ، ولدي الاتصال وبعد تبادل التحية ، قال : « لقد قرأت المذكرة ، وأنا مع الروح التي تضمنتها وسيتم تصويب الأمر ، وسنلتقي قريباً إن شاء الله » ولم يمض يوم أو يومان حتى كان رئيس الوزراء السيد عبد الكريم الكباريتي يزور بعض الأندية في المخيمات ، ويجري مع إدارتها لقاءات ، ويقدم لها بعض الدعم المادي الضروري.

إن كثيراً من جوانب الخلل التي تشكل عوامل نخر في المجتمع ، ما كان لها أن تترسخ لولا سلبية الكثيرين وافتقارهم إلى عنصر المبادرة. فهل ندرك جميعاً مقالة المصطفى صلى الله عليه وسلم « أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ».

- على أثر انتخابات اتحاد الطلبة في جامعة اليرموك عام 96 وفوز الكتلة الإسلامية بأغلبية بسيطة ، وصل فاكس من الطلبة إلى مجلس النواب ، يطلب منا إثارة موضوع اعتقال طالبين من الطلبة الإسلاميين المنتخبين ، لحرمانهم من فرصة الفوز في الهيئة الإدارية. ولدى عودتي إلى المكتب وجدت رسالة تفيد أن تم اعتقال أربعة طلاب ، فتساوى عدد الناجحين من الكتلتين. وفي المساء رفعت سماعة الهاتف ، واتصلت بالسيد رئيس الوزراء ، وقلت له : هل تريدون أن تخربوا جامعة اليرموك؟ فقال : ماذا تقول؟ فقلت : لمصلحة من يتم اعتقال الطلبة؟ وهل أصبح الإسلاميون خارجين على القانون حتى يتعامل معهم بهذه الطريقة؟ وما الذي يضيركم إذا نجح الطلاب الإسلاميون المعروفون بالتزامهم ، وحرصهم على وطنهم؟ فقال : أمهلني عشر دقائق وهاتفني بعدها ، وأخبرني أن هؤلاء الطلبة لم يعتقلوا من قبل المخابرات ولكن من قبل الأمن العسكري. فقلت له : أنهم طلاب وليسوا عسكريين ، فقال : الآن سيتم الإفراج عنهم. إن هنالك إجراءات يمارسها بعض المسئولين لأسباب شخصية أو فئوية ، أو لأسباب وهمية ، تخلف آثاراً في النفس والمجتمع ، ما كان لها أن توجد أو تستمر .

- على أثر الأحداث المؤسفة بين فريقين من طلبة الجامعة الأردنية ، التي اتخذت بعداً عرقياً مؤسفاً ، يصب في خدمة المتربصين بهذا الوطن ، إلى جانب النزعات الطائفية والإقليمية والجهوية ، التي يغذيها بعض أصحاب الأهواء والمصالح ، اتفقت وبعض إخواني على القيام بدور مسئول يسهم في وأد الفتنة ، وإطفاء نارها فتوجه بعضهم إلى الجامعة الأردنية ، للحصول على مزيد من المعلومات ، وتقديم النصيحة الواجبة ، بينما توجه بعضنا إلى السلطنة وعمان ، ضمن وفد كبير من الأعيان والنواب والوجهاء ، وفي اجتماع حاشد في نادي الجيل الجديد ، ألقيت بعض الكلمات من قبل الجاهة والمستقبلين ، تهدف إلى تطويق الفتنة ، وإحلال الوئام ، ولم تكن لي كلمة مقررة ، ولكني رأيت الصوت الإسلامي غائباً على أهميته ، ولا سيما في مثل هذا الموقف ، فاستأذنت بإلقاء كلمة ، ارتجلتها ، اجتهدت من خلالها أن أعمل على وأد الفتنة فقلت : « نحن أسرة واحدة ، جمعنا الله على الإخوة فيه ، فإذا فاتكم أيها الأخوة من أبناء الشركس والشيشان رباط الدم بالعرب ، فحسبكم رباط العقيدة المقدم على كل الروابط « إنما المؤمنون إخوة » « سلمان منا آل البيت » ، إلا يرضيكم أن تكونوا من آل محمد حين تحيون المعاني التي عاش لها محمد صلى الله عليه وسلم؟ ثم من قال : إنكم لستم عربا ، أن تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب ليس تعريفاً عرقياً ، كما يفهمه بعض الناس ، فهو القائل : « إنما العربية اللسان » فحين يكون القرآن لغتكم ، والكعبة قبلتكم ، لا يتقدم في العروبة عليكم إلا من أبلى في ذلك أكثر من بلائكم. ووقعت الكلمات بردا وسلاماً على قلوبهم شيئاً وشبانا ، ووجدت أثرها في النفوس في ذلك اللقاء وبعده ، فكم من كلمة اطفأت ناراً عظيمة.

والحديث عن المبادرات يطول ، ونتائجها مباركة ، فلا يزهدن أحد بها ، ولا يضيعن فرصة ، يمكن أن يكون خلالها رائد خير.

الدرس التاسع : نظام قيمي جديد مؤذن بفجر إسلامي سعيد

لكل مجتمع قيمة ومقاييسه ، في الحكم على الأشخاص والأشياء والأحداث. ونظام القيم في المجتمع يستند إلى تربيته وثقافته ، ونظراً لفترة الجهل أو التجهيل التي مرت بها الأمة ، فقد شاعت لديها قيم غريبة. ارتد بعضها إلى قيم الجاهلية ، عبرت عن كثير منها الأمثال الشعبية « أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب » وهي صياغة جديدة للمبدأ الجاهلي « انصر أخاك ظالماً أو مظلوما ». ومنها « حط رأسك بين الروس وناد يا قطاع الروس » وهو ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا يكن أحدكم إمعة » ومنها « للي معه قرش يساوي قرش ، واللي معه ألف يساوي ألف » وهي قيمة مادية غريبة ، تستند إلى النظام الرأسمالي. فجاءت هذه الدعوة لتبعث القيم الإسلامية من جديد ، فإذا الرابطة رابطة العقيدة « إنما المؤمنون أخوة » وإذا القيمة العليا في التفاضل بين الناس هي قيمة الإيمان والتقوى والعمل الصالح « إن أكرمكم عند الله أتقاكم » وإذا التفاؤل والثقة بوعد الله عز وجل يحلان محل اليأس والسلبية.

وفي ظل هذا النظام القيمي الجديد أصبحت مؤهلات التقدم في الدعوة الإيمان والوعي والعمل ، وليس الجاه والحسب والنسب والثروة. وهذا ما عبر عنه الإمام الشهيد المؤسس ، بقوله : وهو يتحدث عن خصائص دعوة الإخوان المسلمين : « البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان » فأصبحت النماذج التي يتغنى بها شباب الإخوان في جلساتهم ، وخلواتهم وكتاباتهم ، الشهداء ورواد الدعوة الإسلامية ، وأصحاب المواقف المتميزة في مواجهة الطغيان. ولعل هذا النظام هيأ لهم القدرة على عدم الانبهار بالباطل وأهله ، بل شجعهم على الوقوف في مواجهته. وإذا كانت هنالك ممارسات تقوم على تقديم القيم الأجنبية على حساب القيم السماوية ، فلنلعم أنها ليست من طبيعة دعوة الإخوان ، ولا تمثل قاعدة وإنما استثناء ينبغي التصدي له ، والوقوف في وجهه ، فمقياس التفاضل التقوى ، ومؤهلات التقدم « القوي الأمين » وأود هنا أن أشير إلى ثلاث وقائع ، أولاها استشهاد الدكتور عبد الله عزام ، وثانيتها رحيل المهندس أحمد الأزايدة. وثالثتها بطولة محمد أبو سيف.

- الشيهد عبد الله عزام شأنه شأن الكثيرين من أبناء هذه الدعوة المباركة ، من حيث وضعه الوظيفي والاجتماعي ، ولكنه امتاز على الكثيرين ، والكثيرين جداً ، بإيمان متدفق ، وجهاد مبرور ، جعلاه نموذجاً يحتذى ، وأهزوجة على الشفاه ، نرددها في الأعراس والرحلات والخلوات ، إلى جانب البنا والقسام فما أخال بقعة فيها مؤمن يقر لله بالوحدانية ، إلا ويذكر عبد الله عزام بالخير ، ويدعو له بالخير. فقد نجد إنساناً محل احترام فئة ما ، في بقعة ما ، في فترة ما. أما أن نجد من يحظى بالأكبار والإجلال ، على امتداد الساحة ، ورغم مرور السنوات ، ومن مختلف القطاعات ، فذلك أمر بعيد المنال ، ولا تحظى به إلا فئة محدودة أحسبها واقعة ضمن قول الله عز وجل وهو يتحدث عن السابقين السابقين فيقول : « ثلة من الأولين وقليل من الآخرين » وأحسب أن أبا محمد من هذا القليل. وقد شاء الله عز وجل أن أشهد مناسبة العزاء باستشهاده فرأيت كيف تدافعت الجموع إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين ، وكيف ألهم الخطباء أروع الكلام ، وكيف تسابق الرسميون والشعبيون على نسبته إليهم. فكم من زعيم طويت صفحته بعد مماته ، وقد كانت وسائل الإعلام تملأ الدنيا ضجيجاً وهي تحاول أن تصنع له مجدا! وكم من ثري نافس قارون في الثراء غداً نسيا منسيا بعد أن زالت المصلحة! وبقي الشهداء لحناً عذبا يشنف الأذان على مر الزمان.